Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
إن الحديث عن وجود نوع من «الفراغ الحضاري» - أو بتعبير أدق: نوع من «الغزو الحضاري» - الذي يمارسه الغرب ضدنا لا بد أن يثير فينا التفكير في أسباب هذا الغزو، وفي العوامل التي تجعل حضارة تغزو حضارة أخرى؛ ففي اعتقادي أن الكلام عن الغزو - بوصفه أمرا واقعا - لن يكون مثمرا ما لم يسبقه تحليل للعوامل التي تؤدي إلى هذا الغزو، ومن هذا التحليل تتضح الحلول التي ينبغي اتباعها للتحرر من كل غزو حضاري.
وأود أن أتساءل في البداية: هل نحن حقا - في علاقتنا بالحضارة الغربية - خاضعون لغزو آت من الخارج؟ هل تعد كلمة الغزو أدق وصف لهذه العلاقة؟ يبدو لي أن لفظ «الغزو» لا ينطبق إلا على المرحلة التي كان فيها الاستعمار الأجنبي يفرض علينا فيها ثقافته فرضا، أما فيما عدا ذلك من المراحل، وكذلك في البلاد التي لم تمر بمرحلة الاستعمار المباشر، فإن الظاهرة لا يمكن أن توصف بأنها «غزو»، وإنما هي تأثر أو اقتباس؛ فالحضارة الغربية لم تفرض علينا أدبها وفنها، وإنما نحن الذين اقتبسناه وتأثرنا به، والفارق كبير بين إرغام الآخرين على قبول ثقافة ما، وبين تقبل الآخرين لهذه الثقافة بمحض اختيارهم.
ومع ذلك، فمن حقنا أن نظل نتساءل: ما الذي يجعل ثقافة معينة تؤثر في شعوب أخرى غير تلك التي ظهرت بينها؟ وهل المسألة أشبه بالحروب حيث يغزو شعب أرض شعب آخر، ثم يرحل عنها متى توافرت للشعب المهزوم من العزيمة ما يتيح له أن يرد الغاصب مدحورا؟ في اعتقادي أن الأمر في حالة الثقافة مختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فهو في رأيي أشبه ما يكون بقانون «الأواني المستطرقة»، حيث ينتقل السائل حتما من المنسوب المرتفع إلى المنسوب المنخفض ما دام هناك اتصال بين الاثنين، وعلى الرغم من أن هذا لا يعدو أن يكون تشبيها، فإنه في اعتقادي تشبيه مفيد إلى أقصى حد، يصلح لإلقاء ضوء وضاح على الظاهرة التي نحن بصددها.
ذلك لأن الانتقال في هذه الحالة «حتمي» ما دام هناك ارتفاع من جهة وانخفاض من جهة أخرى في المستوى؛ فالمسألة ليست متوقفة على رغبة الطرف المتلقي في أن يتخلص مما يأتيه من الخارج، بل إن هناك حالة واحدة يستطيع فيها أن يضمن عدم نفاذ العناصر الخارجية إليه، هي أن يرتفع بمستواه بحيث يغدو مكافئا للمستوى الآخر، وربما أمكنه أن يعطي هذا الآخر شيئا من عنده لو استطاع أن يعلو عليه.
ومن جهة أخرى فإن «قانون الأواني المستطرقة» لا ينطبق إلا في حالة وجود اتصال، وهذا يصدق على الحضارات بدورها؛ إذ إن الاتصال بينها هو الذي يجعل الحضارة الأضعف تمتص عناصر من الحضارة الأقوى، وكلما كانت سبل الاتصال أيسر؛ ازداد انطباق هذا القانون إحكاما، ولهذه الحقيقة أهمية كبرى في المقارنة بين موقفنا الحاضر من الثقافة الغربية، وبين موقف الحضارة الإسلامية من الثقافة اليونانية.
ولنتوقف قليلا عند هذه النقطة الأخيرة، التي يبدو أن لها أهمية خاصة في نظر الكثيرين ممن يريدون لنا أن نتحرر من الثقافة الغربية، فيذكروننا دائما بموقف المسلمين من الثقافة اليونانية الوافدة، وكيف أنهم تمكنوا من استيعابها داخل ثقافة إسلامية أو عربية أصيلة.
ولعل أول ما ينبغي أن نلاحظه في هذا الصدد هو أن موقف الفلاسفة لم يكن متحررا إلى الحد الذي يتصوره البعض، وأن الرأي الغالب هو أنهم نقلوا عن الثقافة اليونانية أكثر بكثير مما أضافوا إليها، وأقول إن هذا هو الرأي الغالب؛ لأنه ليس رأي المستشرقين أو الباحثين الأجانب بوجه عام فحسب، بل إنه أيضا رأي كثير من المفكرين الإسلاميين الذين لا يجدون الرد الحقيقي على مشكلة الثقافة الإسلامية لدى الفلاسفة. وبعبارة أخرى فليس من المؤكد على الإطلاق أن الفلاسفة الإسلاميين قد أخذوا موقفا خاصا بهم من التراث الغربي المعروض عليهم في تلك الأيام، وإنما الرأي المرجح أنهم أخذوا كثيرا ولم يعطوا إلا قليلا، ومن هنا رأى البعض أن الثقافة الإسلامية الأصيلة تتمثل في علم الكلام، ورأى البعض الآخر أنها تتمثل في مدرسة بعينها من مدارس علم الكلام هي الأشعرية، ورأى غير هؤلاء أن أهل السنة هم خير معبر عن هذه الثقافة. وهكذا نستطيع أن نميز مراتب أو درجات أربعا على الأقل، لا أقول إنها درجات في اليسارية أو اليمينية أو في التقدم والرجعية حسب الاصطلاح السياسي الحديث، وإنما أقول إنها درجات في الاقتراب من حرفية العقيدة: الفلاسفة، فعلماء الكلام من المعتزلة، فعلماء الكلام من الأشاعرة، فأهل السنة، ولكل فريق من هؤلاء أنصار، وغني عن البيان أن أنصار الفريق الأخير مثلا يحكمون على الفريق السابق - حتى لو كان يضم مفكرا كالغزالي - بأنه متحرر أكثر مما ينبغي، ويؤكدون أن موقفهم هو الاقتراب إلى تمثيل الروح الإسلامية على حقيقتها، وقل مثل هذا عن الباقين جميعا، كل حسب نظرته الخاصة إلى الأمور. ومجمل القول أن النظر إلى الفلاسفة على أنهم هم الذين استطاعوا أن يتخذوا من التراث الغربي (اليوناني) الوافد عليهم موقفا سليما، وعرفوا كيف يصبغوه بالصبغة الإسلامية، ليس أمرا مؤكدا كل التأكيد، وإنما هو رأي يقال به من وجهة نظر خاصة تنطوي ضمنا على طريقة خاصة في الحكم على الحضارة الإسلامية، وهي طريقة سنعرض لها في هذا المقال بعد قليل.
على أن أهم ما في الأمر أنه إذا لم يكن من الممكن التأكيد على نحو قاطع بأن الفلسفة الإسلامية هي التي استطاعت أن تكون مركبا يجمع بين الثقافة الأصيلة والثقافة الدخيلة، فإن كل محاولة للاقتداء بها في عصرنا الحالي تغدو أمرا لا يستطيع أحد أن يضمن ما يسفر عنه من نتائج، وإذا كان فلاسفة الإسلام قد عانوا صعوبات في تأكيد موقفهم الخاص إزاء الثقافة الوافدة من الخارج، فلا بد أن تزداد هذه الصعوبات بالنسبة إلينا - في عصرنا الحاضر - أضعافا مضاعفة.
ذلك لأن الاتصال بين الثقافات أصبح الآن أقوى إلى حد لا متناه مما كان عليه في عصر ازدهار الفلسفة الإسلامية، ولست بحاجة إلى أن أكرر ما يردد على مسامعنا كل يوم من أن التكنولوجيا الحديثة أزالت المسافات مكانيا وثقافيا، ومن أن العالم يتجه سريعا إلى أن يصبح وحدة واحدة؛ فهذه حقائق لا سبيل إلى الشك فيها، لو طبقنا في ضوئها القانون الذي تحدثنا عنه من قبل؛ لأصبح من المؤكد أن انتقال الثقافات من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى قد غدا في عصرنا الحاضر أمرا محتوما؛ لأن الاتصال بين الأواني المستطرقة قد أصبح أشد إحكاما، وصار حقيقة من حقائق العصر الضرورية.
ومن جهة أخرى فإن الحضارة الإسلامية حين واجهت الفكر اليوناني كانت تواجه ثقافة انتهى عهدها، وتحددت كل معالمها، وعرفت جميع حدودها وأبعادها، كان أمام المسلمين «كم» معين من التفكير الفلسفي، ظهر على شكل مجموعة من المدارس المتعاقبة، واكتمل هذا الكم ثم توقف نهائيا قبل أن يتلقاه المسلمون بما لا يقل عن خمسة قرون، وبالاختصار، وجد المسلمون أنفسهم إزاء «تراث» فكري يستطيعون أن يحددوا موقفهم منه بوضوح (وإن كان هذا الموقف ذاته قد تفاوت بين قبول يكاد يكون تاما وبين رفض قاطع كما أشرنا من قبل)، أما اليوم فإن الثقافة الغربية بعيدة كل البعد عن أن تكون «تراثا»، إنها شيء حي تام متحرك، وفي اليوم الذي يبدو لنا فيه أننا قد اتخذنا من هذه الثقافة موقفا محددا، نراها قد تحركت إلى مواقع جديدة، وفاجأتنا بتيارات لم تكن في حسباننا، بل إن الأهم والأخطر من ذلك أن سرعة تحركها أعظم بكثير من قدرتنا على ملاحقتها، وأن المسافة تزداد اتساعا، والمنسوب العالي في «الأواني المستطرقة» يزداد ارتفاعا، ومن ثم تشتد قوة التيار الذي يسير في اتجاه واحد، من المرتفع إلى المنخفض، هذا وضع جديد كل الجدة، لا يمكن مقارنته على أي نحو بموقف الإسلاميين من التراث اليوناني الذي كان قد بلغ مرحلة الجمود والاكتمال ، والذي ظل متوقفا حيث هو، ينتظر من الآخرين اللحاق به واتخاذ موقف واضح منه.
Page inconnue