Opinions critiques sur les problèmes de pensée et de culture
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Genres
وكانت الترجمات اللاتينية للترجمات العربية هي العامل الرئيسي الذي أدى إلى تعريف أوروبا بفلسفة اليونانيين في أواخر العصور الوسطى، وبفضل هذه الترجمات، وكذلك بفضل العلم العربي الأصيل الذي شق له طريقين رئيسيين إلى أوروبا: طريق الحروب الصليبية وطريق الأندلس؛ أتيح للأوروبيين أخيرا أن يعملوا على إحياء العلم والفكر في عصر النهضة بعد طول ركودهما في العصر الوسيط، والحق أن المرء حين يمعن الفكر في هذه الظاهرة التي أصبحت مألوفة يمر بها الكثيرون دون أن يجدوا فيها ما يستلفت النظر، يرى فيها ظاهرة فريدة بحق في تاريخ الاتصال الحضاري، فأين نجد مثالا آخر لحضارة تتعرف على نفسها وتهتدي إلى ذاتها وتحيي ماضيها عن طريق حضارة أخرى؟ من الواضح أن الصلة بين الحضارة العربية والحضارة في الغرب في آخر العصور الوسطى كانت صلة فريدة حقا؛ إذ إن الغرب لم يستطع أن ينهض من جديد بقواه الذاتية، وإنما احتاج إلى دماء جديدة تبعث فيه الحيوية وتمكنه من استرداد نشاطه الذي فقده في ظلام العصور الوسطى الطويل، فاستمدها من أقرب الحضارات إليه، وكان في ذلك نوع نادر من الأخوة الحضارية؛ حيث تقوم حضارة باختزان ثروة حضارة أخرى خلال فترة ضعف هذه الأخيرة واعتلالها، ثم تردها لها في الوقت المناسب - بعد أن تضيف إليها المزيد من عندها - لكي تعود هذه إلى استثمارها والانتفاع بها من جديد، فإذا أدركنا أن هذه الظاهرة التي نسميها بالأخوة الحضارية هي أهم العوامل التي ساعدت على قيام عصر النهضة الأوروبية، وإذا علمنا أن هذا العصر هو الذي بدأ حركة التقدم العلمي الهائل الذي تميز به الغرب طوال القرون الثلاثة الأخيرة من تاريخه؛ لاتضح لنا مرة أخرى أن بين الغرب وبين الشرق الأوسط - ولا سيما العربي منه - روابط يستحيل معها الكلام عن أي تنافر بين حضارتيهما. (4)
وتلت مرحلة العطاء هذه مرحلة أخذ، هي الممتدة من عصر النهضة الأوروبية إلى عصرنا الحاضر، في هذه المرحلة أثبت الغرب تفوقه بما لا يدع مجالا للشك، وذلك في الميدان العلمي والفني والاجتماعي في آن واحد، وأتيح للغرب - بعد أن أحسن الإفادة مما تلقاه من العرب - أن يبني علما شامخا استطاع بتطبيقاته العلمية أن يغير وجه حياة الإنسان في العالم بأسره، وما زالت قدراته هذه في اتساع مستمر، وتلك هي الصفة الرئيسية للمرحلة الحالية من تاريخ العالم؛ فالعلم اليوم - كما يدرس في الشرق والغرب - هو علم غربي إلى حد بعيد، والنظريات الاجتماعية التي تهز أركان العالم وتقوض نظمه الموروثة وتمتد آثارها إلى أبعد أطراف الأرض هي في الأصل نظريات غربية مرتبطة بفلسفات غربية، وكل اتجاه فني جديد في الغرب - في الأدب أو الموسيقى أو الرسم أو النحت - يغزو العالم كله ويلهب خيال المثقفين فيه ويثير مناقشات ومجادلات مستمرة، لا في بلاده الأصيلة وحدها، بل في بلاد ذات جذور حضارية مختلفة عنها كل الاختلاف.
هذا النمط المتكرر من الاتصال الحضاري بين الشرق الأوسط وبين الغرب - بما فيه من أخذ وعطاء متعاقبين - يثبت لنا أن للعلاقة بين هذين الإقليمين طابعا خاصا فريدا يندر أن نجد له نظيرا في حالات الاتصال الحضاري الأخرى؛ ذلك لأن هناك أدلة لا شك فيها على أن ما وصل إليه الغرب في مرحلته الراهنة من تقدم، إنما كان نتيجة لتضافر حضارات الشرق الأوسط معه في العصور القديمة والوسطى وأوائل العصور الحديثة؛ ففي مراحل متعددة كان الشرق يقدم إلى الغرب المادة الخام لحضارته، فيصوغها هذا في أشكال محددة منظمة: قدم إليه معلومات عملية تطبيقية مستمدة من خبرته الحرفية والزراعية القديمة، فصاغها الغرب في اليونان على شكل نظريات هندسية ورياضية أيام فيثاغورس وإقليدس، وقدم إليه مبادئ روحية في العقيدة المسيحية جعلها الغرب لاهوتا منظما في العصور الوسطى، وحورها تبعا لمقتضيات حياته الخاصة في حركات الإصلاح الديني في عصر النهضة، وقدم إليه ترجمات للفلسفة اليونانية وشروحا لها، ومناهج تجريبية للبحث العلمي الذي ازدهر في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فاتخذ الغرب من هذا كله أساسا لنهضة علمية وفكرية ضخمة تتسع آفاقها حتى اليوم على نحو متزايد.
وعلى ذلك، فإذا كان الغرب في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم متفوقا على غيره من الحضارات تفوقا لا شك فيه، وإذا كان المثقفون المنتمون إلى حضارات متعددة يجدون حرجا في الأخذ عن حضارة غريبة تماما عنهم كالحضارة الغربية، فينبغي أن يخف هذا الحرج إلى حد بعيد عند المثقفين المنتمين إلى الحضارة العربية، وحضارة الشرق الأوسط بوجه عام؛ إذ إنهم حين يأخذون اليوم عن العرب فهم إنما يهتدون من جديد إلى كثير من العناصر التي سبق لبلادهم أن قدمتها للغرب وإن تكن مصوغة في شكل جديد، وإذا كان الأمر كذلك، فمن واجبنا أن نتخلى تماما عن ذلك الموقف الذي نعتقد فيه بوجود ثنائية حضارية قاطعة، لا يكون لنا فيها مفر من الاختيار بين أحد أمرين لا ثالث لهما، إما التمسك بتراثنا القومي، وإما مسايرة الحضارة الغربية؛ ذلك لأن تراثنا متداخل مع تاريخهم، وماضينا قد أثر في حاضرهم، والدور الذي قمنا به لكي تبلغ حضارة الغرب مستواها الحالي حقيقة لا يمكن إنكارها، ولو جاز لنا أن نضع عقولنا أمام هذا الاختيار المزدوج ونرغمها على أن تنحاز إلى أحد الطرفين دون الآخر؛ لجاز للغربي بدوره أن يدعو إلى التخلي عن كل ما يتصل بالمسيحية من قريب أو بعيد؛ لأنها ذات أصل شرقي، ولجاز له أن ينظر إلى حركة إحياء العلوم في عصر النهضة على أنها غزو حضاري أجنبي؛ لأن القوة الدافعة لها كانت علوم العرب وفلسفاتهم! •••
إن التضاد الحقيقي - والازدواج الحضاري بمعناه الصحيح - إنما يكون بين الغرب وبين بلاد الشرق الأقصى، ولو اتخذنا اليابان مثالا لبلدان هذا الإقليم؛ لوجدناها ظلت منعزلة عن كل المؤثرات الغربية انعزالا شبه تام حتى القرن التاسع عشر، ولم يكن يقوم بينها وبين الغرب أي اتصال حضاري يذكر قبل ذلك العهد، وفجأة ومنذ فترة لا تزيد عن المائة عام إلا قليلا، تحولت اليابان إلى بلد يقتبس الأساليب الغربية في كثير من مظاهر حياته، حتى أصبح اليوم غارقا في خضم الحضارة الغربية، تظهر فيه تياراتها الأدبية والفنية الجديدة بعد ظهورها في بلادها الأصلية بقليل، ويحاكي الشباب فيه أبناء الغرب في هواياتهم ومظهرهم وأساليب معيشتهم.
فإذا أدركنا أن التيار المحافظ على التراث القومي في هذا البلد الآسيوي ما زال محتفظا بقوته، وأن التقاليد الحضارية ما زالت لها مكانتها المتأصلة في نفس هذا الشعب؛ لأمكننا أن ندرك مدى حدة الازدواج الحضاري في هذه الحالة، ومدى الأزمة التي يعانيها المثقفون نتيجة لهذا الازدواج.
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن الأوروبي عندما يبحث عن نمط من الحياة مخالف تماما للنمط الذي يعيش عليه، لا يلتمسه في الشرق الأوسط، بل في الشرق الأقصى؛ فهناك يجد ما ينشده من حضارة مختلفة كل الاختلاف عن حضارته الغربية، هناك يجد شعوبا عاشت آلاف السنين بعقائد مختلفة وتقاليد خاصة بها، ويجد تراثا ظل قرونا طويلة مقفلا على نفسه في وجه المؤثرات الخارجية ولا سيما الأوروبية، أي إنه بالاختصار يجد نمط الحياة الذي يقف مع النمط الغربي على طرفي نقيض، أما بالنسبة إلى الشرق الأوسط فإن الاختلاف مهما بلغ مداه لا يكون كبيرا إلى هذا الحد، وحتى التراث الروحي الديني لشعوب هذه المنطقة من العالم يشترك في نقاط كثيرة مع نظيره في الغرب؛ فليست بلاد الشرق الأوسط هي تلك التي يحس فيها الأوروبي بالتضاد الحضاري الحقيقي، لا من حيث مظاهر حياتها الحديثة، ولا من حيث تراثها الحضاري الماضي.
ففي رأيي إذن أن مشكلة التضاد بين التراث القومي والحضارة الغربية الحديثة، لا ينبغي أن تحتل في تفكيرنا المعاصر كل هذه الأهمية؛ لأن هذا التضاد غير قائم أصلا بالصورة التي يقوم بها بين حضارات كثيرة أخرى، وليس معنى ذلك - بطبيعة الحال - أننا نستطيع أن نهتدي مباشرة - في الحضارة الغربية - إلى عناصر شرقية يسهل التعرف عليها؛ إذ إن هذه العناصر قد مرت بشتى أنواع التغيير والتحوير، وإنما الحقيقة التي أود التنبيه إليها هي أن الشرق الأوسط والغرب كان بينهما من الروابط على مر العصور ما يجعل من المستحيل وضع حد فاصل بين النصيب الذي أسهم به كل منهما في تقدم الحضارة البشرية.
والحق أن من الظواهر التي تسترعي الانتباه في بلادنا - وتعد دليلا عمليا على هذا الرأي - أن بعض المفكرين الذين هم من أشد الناس تحمسا للحضارة الغربية، هم في الوقت ذاته من أقدر الناس على تعمق روح أمتهم، ومن أحرص الناس على تراثهم القومي، ويكفينا في هذا الصدد أن نشير إلى شخصيتي طه حسين وحسين فوزي في مصر؛ فقد حورب طه حسين في وقت من الأوقات بحجة أنه يدعو إلى ثقافة مستوردة من الغرب، ويتحمس لها إلى حد التعصب، ومع ذلك فإن كتابا قلائل في البلاد العربية هم الذين بلغوا مستواه في فهم طبيعة الحضارة العربية والقدرة على تحليلها بطريقة عميقة واعية، كذلك فإن حسين فوزي يقف اليوم على رأس الفريق الذي يدافع عن الثقافة الغربية في بلادنا، ولا يخفي في أي مجال إعجابه بكل ما هو أصيل وعميق في حضارة الغرب، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس تعمقا في فهم الشخصية المصرية والتعبير عن طبيعتها الباطنة في مختلف العصور التاريخية بوعي كامل، فكيف اجتمعت لهذين المفكرين صفتا الإعجاب المفرط بالغرب، والإخلاص الكامل للثقافة القومية؟ في رأيي أن هذا لم يكن ليحدث لولا أن هناك جذورا مشتركة بين الحضارتين، ولولا أن الشرق الأوسط والغرب كانا على مر العصور متنافرين - رغم اختلاف ظروفهما المحلية - في الإسهام بدورهما في بناء الحضارة الإنسانية، وخلال ذلك الشوط الطويل الذي قطعه الإنسان، منذ أن ظهرت لديه أولى بوادر الوعي الحضاري في مصر القديمة وبابل وآشور، حتى انطلقت صواريخه بين الكواكب في الحضارة الغربية المعاصرة، كان الاتصال الحضاري بين الشرق الأوسط والغرب من أهم العوامل التي ساعدت على بلوغ الإنسان في كافة أرجاء العالم ما بلغه اليوم من تقدم مادي ومعنوي.
دفاع عن الثقافة العالمية1
Page inconnue