فرينان عندما قرأ فلسفة الألمان آمن بما كانت تعتمد عليه فلسفة هيجل؛ وهو وحدة الوجود أو هو هذه العقيدة أو الفكرة التي توحي إلى صاحبها بأن الإله وحدة تظهر في كل شيء وفي كل صورة من الصور وفي كل كائن من الكائنات التي يتألف منها العالم المحسوس، فكرة أن الإله لا يمكن بحال من الأحوال أن يؤثر في العالم بإرادة فردية شخصية تمس الأفراد وتمس الأشخاص وتمس الجزئيات؛ وإنما الإله بحكم هذه الفلسفة وبحكم ما انتهى إليه العقل في هذه الفلسفة، قوة عظيمة لا تؤثر إلا من طريق القوانين ولا تؤثر في الأشياء الفردية ولا تعنى بالجزئيات. وإذن، فما توارثه المتدينون من أن الإرادة الإلهية تؤثر في هذه الجزئية أو تلك وتعين هذا الفرد وتعاكس هذا الفرد، وتأتي بهذه المعجزة وتحدث هذه الحادثة؛ كل هذا انهار في نفس رينان. وتردد الشاب أولا ثم شك ثم جحد العقيدة المسيحية، ولم يقف أمره عند هذا الحد ولكنه نظر إلى العنصر الثالث التاريخي؛ نظر إلى التاريخ وما يتصل بنشأة المسيح وما عرض له ولأصحابه من الخطوب، ودرس هذا من الوجهة التاريخية الخالصة، وعلى المناهج التاريخية الجديدة؛ فأدركه الشك وعجز عن أن يوفق بين ما ينتهي إليه البحث التاريخي الجديد وبين ما توارثه من العقائد.
وهذا الشك في طبيعة الدين وفي تاريخه لم يقنع رينان بأنه قد خرج من دينه، ولكنه اقتنع بشيء آخر هو أنه لن يكون قسيسا؛ فأعرض عن غايته الأولى وعدل عما كان قد اعتزم، وترك الفكرة التي كانت تدفعه لأن يكون رجلا من رجال الدين، وانصرف إلى أن يكون رجلا من الرجال العاديين، وفكر في أن يلتمس حياته من غير هذا الطريق، وفي أثناء هذا كانت الحياة المادية بالقياس إليه وبالقياس إلى أمه في الأقاليم شديدة شاقة، وكان ما تكسبه أخته هنريت ضئيلا لا يكفي لتمكينه هو من الدرس في باريس، ولتمكين أمه من الحياة ومن أداء الديون، فالتمست هذه الفتاة طريقا لتكسب مالا أكثر مما كانت تكسبه، ووفقت إلى أسرة بولونية كانت تلتمس مربية فرنسية، فالتحقت بها وسافرت من باريس إلى بولونيا، وأقامت غريبة في هذه الأسرة عشر سنين تربي تلاميذها وترسل ما تكسبه إلى أمها وأخيها، وأخوها يشتغل في باريس ليهيئ نفسه لحياة جديدة، ومن أشد الأشياء تأثيرا في النفس هذه الكتب المتبادلة بين الفتاة الغريبة في بولونيا وبين هذا الشاب الذي كان يدرس في باريس ويتم دراسته فيها، ويتهيأ للحياة الجديدة مستعينا على ذلك بما كانت ترسله إليه أخته من المال.
على أننا عندما نقرأ هذه الكتب نلاحظ ظاهرتين؛ فأما كتب الفتاة فيملؤها الحب الذي لا حد له، والحنان الذي يدفع إلى البكاء أحيانا، وأما كتب الفتى ففيها شيء من الأثرة وفيها شيء من الغلظة أيضا، وفيها شيء من حب النفس الذي لا يتردد في تضحية كل شيء في سبيل رغباته الخاصة، ويظهر أن هذه خاصة من خصائص النبوغ؛ فقد يقال إن أصحاب النبوغ أثرون بطبعهم يضحون بالناس وبكل شيء في سبيل النبوغ.
مهما يكن من شيء، فقد اضطر رينان إلى أن يغير حياته تغييرا تاما؛ فبعد أن كان يريد أن يدرس دراسة دينية اضطر إلى أن يدرس دراسة مدنية، وأخذ يهيئ نفسه للظفر بالشهادة الدراسية الثانوية، فاشتغل في ذلك ولم يحتج إلى عناء شديد فظفر بالبكالوريا في أقل من أربعة شهور؛ لأن دراسته في المدارس الدينية كانت قد هيأته تهيئة حسنة، ثم تفرغ لليسانس ولم يكد يقضي عاما حتى ظفر بالليسانس أيضا سنة 1848، ومنذ هذا العام كان الفتى قد أتم دراسته العليا وأخذ يتأهب للدخول في الحياة العملية، ولكن حياته العملية أيضا كانت حياة موجهة إلى الدرس، وفي هذا الوقت صادفته الثورة الفرنسية وقيام الجمهورية الثانية سنة 1848، ولكنه لم يحفل كثيرا بهذه الثورة، لا لأنه كان يحب النظام الملكي الذي كان قائما في ذلك الوقت، بل لأنه كان يعنى بالعلم أكثر من عنايته بالحركات السياسية التي كان يزهد فيها زهدا شديدا، وعلى كل حال فقد كان رينان مبغضا للنظام الملكي، وكتبه إلى أخته تصور لنا هذا البغض، وتصور لنا بنوع خاص كيف كان يرى الملك لويس فيليب وقصره؛ كيف كان يزدري هذا الملك الشيخ الذي أصابه الكسل والفتور وأخذ يعتمد على رجال الحاشية الذين لا يخلصون له ولا للدولة وإنما يخلصون لأنفسهم، وكيف ترك الأمور السياسية تجري كما تستطيع فأصبح عبئا على فرنسا يكلفها من المال ما يكلفها دون أن يفيدها بعض ما يعدل هذا المال الذي تنفقه عليه ، ولكن رينان على كل حال لم يهتم بالثورة، وانقطع إلى الدرس العلمي أثناء اضطراب باريس، في ذلك الوقت لقي رينان صديقا له هو «برتلو» الكيميائي المشهور، فتأثر به تأثرا شديدا أضيف إلى تأثره بالفلسفة الألمانية والدراسات الإسرائيلية، وتأثر بالعلوم التجريبية الحديثة، ومنذ ذلك الوقت استيقن رينان أنه لم يصبح مسيحيا وبأن هذا الدين قد أصبح غير ملائم لطبيعته، فألحد وإن لم يجهر بإلحاده.
وإلحاد رينان غريب هو إلحاد حقيقي؛ لأنه لم يكن مسيحيا، ولكنه إلحاد يحتاج إلى شيء من التفكير، فرينان ظل متدينا غير أنه لم يتدين كما كان الناس يتدينون وظل يعبد إلها ولكن إلهه كان غريبا؛ إلهه هو العلم، وكل ما كان يضمره رينان من الإكبار والإجلال والثقة للدين نقله إلى العلم الحديث، وكما أنه كان يظن في شبابه أن حياة الإنسان لا قيمة لها إذا لم يشرف عليها الدين ولم ينظمها الدين ولم يسيطر عليها من جميع نواحيها؛ فقد انتقل فجأة إلى اعتقاد غريب مدهش حقا هو الاعتقاد بالعلم، وجعل النتائج العلمية هي الإله الذي ينبغي أن يعبد وأن يعترف به. وإذن فقد صور لنفسه ديانة جديدة إنسانية، ديانة مدنية - إن صح هذا التعبير - قوامها حب العلم وعبادة العلم والثقة بالعلم والاعتماد على العلم، وكما أن أمور الدين منظمة بهذه السلطة الدينية سلطة الكنيسة فهو أيضا قد تصور كنيسة علمية، وهو أيضا قد تصور للدين الجديد قسسا وكهانا هم العلماء، فالمدارس كنائس، والعلماء الذين يدرسون في هذه المدارس قسس، والعلم هو الإله الذي يعبد ويخدم في المدارس، كما أن هناك إلها يعبد ويخدم في الكنائس، ويجب أن تنتقل أمور الإنسانية من الدين إلى العلم، ويجب أن تكون أمور الحكم إلى العلماء لا إلى رجال الدين كما كانت من قبل، ولا إلى رجال السياسة كما هي الآن، وإذن فلا بد من أن تتطور الإنسانية بحيث تصبح الحكومة فيها مؤلفة من العلماء، علماء يتقنون العلم بشئون الإنسان على اختلافها، يتقنون العلم بالطبيعة وما يعرض لها من الخطوب وما يدبر فيها من قوانين، ويلائمون بين حياة الإنسان وبين الطبيعة، ويمكنون الإنسان من أن يكون سعيدا في الأرض حقا، وإذن فكل حكومة لا تعتمد على العلم لا قيمة لها، وكل حكومة لا يكون العلم قوامها فهي مكونة على إلحاد في العلم كما أن هناك إلحادا في الدين.
ومن هذه الناحية، استطاع رينان أن ينصرف عن السياسة اليومية التي كانت تحدث في باريس وفي غير باريس، وأن لا يحفل كثيرا بالثورة ولا بالجمهورية الثانية ولا بالإمبراطورية التي أعلنت بعد الجمهورية الثانية؛ لأنه كان يرى أن هذا كله تخبط سيزول وينقضي ولا بد من أن يأتي اليوم الذي ينتصر فيه العلم ويئول الأمر إلى العلماء.
وفي نحو سنة 1850 كان رينان قد ظهر في الحياة العلمية الفرنسية، واشترك في مسابقة عرضها المجمع العلمي الفرنسي ومجمع الآداب خاصة عن اللغات السامية؛ فوضع كتابا ضخما في تاريخ اللغات السامية وفي النحو المقارن لهذه اللغات، وعرض الكتاب فظفر بالجائزة وأخذ اسمه يعرف، واشترك في مسابقة أخرى عرضها المجمع موضوعها دراسة اليونانية في القرون الوسطى فظفر بالجائزة في هذا الموضوع أيضا، وهو في أثناء هذا كان يستعد للدكتوراه، ويبحث عن موضوع لرسالته، وكان يختلف إلى أساتذة اللغات السامية في الكوليج دي فرانس وأساتذة اللغة العبرية فيها، فكان يحضر دروس دي ساسي وبرسيفال وكاترمير وغيرهم من أساتذة اللغات السامية، وانتهى به البحث إلى اختيار موضوع لرسالة الدكتوراه هو «ابن رشد وآثاره»، وكتب في هذا الموضوع رسالة تقدم بها إلى السوربون وظفر بالدكتوراه، وكتاب رينان عن ابن رشد أحسن دراسة وضعت للآن عن هذا الفيلسوف العربي العظيم.
من ذلك الوقت أرسل رينان إلى أخته يلح عليها في أن تعود إلى باريس وما زال يلح حتى عادت وعاشت معه، وأخذت أخته تمكنه من أن يحيا حياة علمية خالصة؛ فنظمت حياته المادية وأراحته من التفكير فيها، ثم شاركته في حياته وأخذت تساعده في حياته العلمية مساعدة الشريك فيما كان يعالج من العلم، وتهيئ له الأبحاث وتحقق له المسائل، وتكتب له بعض المخطوطات وتنسخ له بعض ما يكتب من البحث، وتقرأ آثاره وتلاحظ عليها، وتنقد ما يكتب وما ينشر، بل كانت تضطره إلى أن يذيع هذا وإلى أن يغفل ذاك؛ فكانت له كالزميل القوي يمد إلى زميله يد المعونة، ولكن أزمة عنيفة عرضت لهذين الأخوين الشريكين اللذين كانت تجمع بينهما رابطة من أقدس الروابط؛ رابطة الأخوة من جهة، ورابطة الأخوة في العلم من جهة أخرى؛ فقد أخذت هنريت تلح على أخيها في أن يتزوج، وأظهر رينان استعداده للزواج، وبحثت هنريت لأخيها عن زوج، ووجدت الزوج وتمت الخطبة، ثم تبين أنها كانت تكره زواجه، ولا تعينه عليه إلا امتحانا له، لترى أيقبل الاقتراح؟ فلما رأت أنه قبل وأنه قد تزوج أدركها يأس شديد وجزع لا حد له، ونشأت بينها وبينه خصومة مؤلمة حقا؛ فقد كانت هنريت تحبه حبا يتجاوز الحب الذي بين الشقيقين، وتأثرت بغيرة غريبة، وكانت حياتها كلها بكاء ولوما وخصاما، ومع ذلك فقد أظهر أخوها لها في بعض الوقت أنه مستعد للعدول عن الزواج، فلما فكرت في ذلك أثناء الليل وعرفت أنه إذا عدل عن الزواج فقد ضحى لها بحبه وبراحته وبلذته، وإذن فهي لا تحبه حقا، فطبيعة الحب الصحيح أن يضحي المحب وأن لا يقبل تضحية؛ ولذلك أصبحت فأسرعت إلى بيت الخطيبة وألحت عليها وعلى أبيها في أن لا يسمعا لما سيقوله رينان، ولم ينته اليوم حتى كانت قد عدلت عن سخطها على أخيها وأصبحت من أشد الناس تشجيعا له على الزواج، ولكن هذا الزواج لم يكد يتم حتى استحالت حياة رينان وأخته إلى جحيم؛ فقد عادت الغيرة، والغيرة الفظيعة المنكرة إلى قلب هذه الأخت العاشقة - إن صح هذا التعبير - وجعلت هنريت تقضي حياة كلها بكاء ولوعة وأسى ومقت وخصام، وجعل رينان وزوجه يتلطفان ويتظرفان وهي تقاوم وتلين وتسخط وتغضب حتى أذن الله فرزق رينان بطفل فتسلت الأخت بالطفل عن أبيه.
وفي سنة 1860 ندب رينان لبعثة علمية إلى بلاد الشام للبحث عن الآثار فاصطحب أخته معه، وجاء إلى بلاد الشام فزار فلسطين، ثم زار بلاد الشام ولبنان، وقام هناك ببعض الحفريات واستخرج بعض الآثار الفينيقية.
وفي هذه الرحلة مرضت أخته بالحمى وماتت ودفنت في الشام، وعاد رينان وحيدا، وبعد هذه العودة بقليل عرض عليه منصب أستاذ للغة العبرية في الكوليج دي فرانس، وكان يتمنى هذا المنصب منذ شبابه، وفي شهر فبراير سنة 1863 افتتح رينان درسه الأول في الكوليج دي فرانس، وكان قد اتخذ لنفسه موقفا هو إلى مخاصمة الإمبراطورية أقرب منه إلى تأييدها؛ فقد كان من الأحرار ومع ذلك فقد عين في هذا المنصب وبدأ يلقي دروسه في الكوليج، وازدحم الناس ازدحاما شديدا على قاعة الدرس، وكانوا مختلفين في رينان اختلافا شديدا؛ كان هناك الكاثوليكيون الذين يبغضون رينان ويخاصمونه، وكان هناك الأحرار والمجددون المخاصمون للإمبراطورية وكانوا يؤيدون رينان، وازدحمت الكوليج دي فرانس ازدحاما دعا الشرطة إلى التدخل، وأخذ رينان يلقي دروسه، وليته لم يلق هذا الدرس، فلم يكد يتقدم في الدرس حتى ذكر المسيح بأنه رجل لا نظير له؛ هذه الجملة أثارت تصفيق الأحرار، وأثارت غضب الكاثوليكيين، فرينان يذكر المسيح بأنه رجل، ولم يكد يعود إلى داره حتى كان الأحرار قد سبقوه متظاهرين هاتفين مصفقين، وكان المحافظون ساخطين، وإذا قرار يصدر من وزير المعارف بوقف الدرس، وإذا أزمة جامعية يحدثها هذا الدرس.
Page inconnue