أثر المدنية العربية القديمة في ثقافة مصر الحديثة
تمازج الحضارتين العربية والغربية
أثر الحضارة العربية في الحروب الصليبية وأثر الحضارة الغربية على عهد الاستعمار الحديث
أثر علوم العرب وفنونهم وما كشفوه واخترعوه
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
التنظير بين المدنيتين وأهلهما
الأثر العلمي في الثقافة المصرية الحديثة للدكتور علي مصطفى مشرفة
الرأي الحر
فولتير
روسو
رينان
الفيلسوف تين
أثر المدنية العربية القديمة في ثقافة مصر الحديثة
تمازج الحضارتين العربية والغربية
أثر الحضارة العربية في الحروب الصليبية وأثر الحضارة الغربية على عهد الاستعمار الحديث
أثر علوم العرب وفنونهم وما كشفوه واخترعوه
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
التنظير بين المدنيتين وأهلهما
الأثر العلمي في الثقافة المصرية الحديثة للدكتور علي مصطفى مشرفة
الرأي الحر
فولتير
روسو
رينان
الفيلسوف تين
آراء حرة
آراء حرة
تأليف
طه حسين ومحمد كرد علي وعلي مصطفى مشرفة
مقدمة
بقلم وندل كليلاند
بين اليوم الحاضر والأمس الدابر روابط وصلات وثيقة العرى موصولة النسب؛ لذلك ينبغي لنا في نهضتنا الحاضرة أن نتئد الخطى وأن ننعم النظر والاعتبار الفينة إثر الفينة في ذلك الإرث الرائع الجليل، فلا نتقدم خطوة حتى نأخذ لها أهبتها ونعد لها عدتها، نستضيء بأشعة الماضي لنهتدي في الحاضر إلى سواء السبيل.
من أجل هذا وضع هذا الكتاب، وهو يضم بين دفتيه سلسلة من المحاضرات التي نظمها قسم الخدمة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وتكرم بإلقائها نخبة ممتازة من أعلام النهضة الفكرية.
وهي تنقسم في مجموعها إلى قسمين: أولهما أثر الثقافة الغربية في العربية وأثر الثقافة العربية في الغربية، وقد ألقى الأستاذ محمد كرد علي منها ست محاضرات، وألقى الأستاذ علي مصطفى مشرفة محاضرة واحدة، أما القسم الثاني، فيشمل أثر الفكر الحر المستقل منوها بقادة الفكر في القرن الثامن عشر في فرنسا كفولتير وروسو ورينان وتين. وقد ألقى حضرة صاحب العزة الدكتور طه بك حسين خمس محاضرات فيها، وليس من شك في أن الثقافة العربية قد تأثرت إلى حد كبير بهذه الثقافة الغربية سواء أكان ذلك في القانون، أم في الفن، أم في التربية، أم في الاقتصاد.
هذا موضوع هذا الكتاب، وقد تركنا لحضرات المحاضرين، وهم من الأعلام البارزين، مطلق الحرية للتعبير عن آرائهم ومراجعة التجارب المطبعية أثناء طبع الكتاب، وإليهم وحدهم ترجع التبعة والمسئولية.
ويغتبط قسم الخدمة العامة بأن يقدم هذه البحوث القيمة في كتاب واحد يجمع بين أثر الحضارة والثقافة في الحركة الفكرية، وهو يسدي جزيل شكره وعاطر ثنائه لحضرات من ساهموا في إعداد هذا الكتاب.
حضرة الأستاذ محمد كرد علي، وقد بحث الموضوعات الستة التالية.
أثر المدنية العربية القديمة في ثقافة مصر الحديثة
يتقاضانا النظر في انبعاث الثقافة العربية في مصر قديما أن نقف بالجملة على روح الفاتح العربي، وعلى حالة البلاد التي افتتحها، وعلى سياسة الفتح التي أدت إلى سرعة انتشار تلك الثقافة، والواقع أن العرب لم يفتحوا قطرا من الأقطار على صورة سهلة كما فتحوا مصر؛ فلم يتكبدوا في استصفائها من المال والرجال إلا ما لا بد منه في حصر بعض المواقع الحربية، وتجلت في هذه الحملة، وكان التيسير مؤاتيا لها من كل وجه.
روية عمر بن الخطاب الخليفة المنقطع القرين بعدله وبعد نظره؛ وبديهة عمرو بن العاص القائد الذي يحارب بدهائه أكثر مما يحارب بجيشه، ومن الذين تولوا معاونته من رجال الصحابة في الفتح وبعد الفتح، زمرة كان الواحد منهم مقام الألف بصفاته السامية، ومنهم الزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعمار بن ياسر، وخالد بن الوليد، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وعبادة بن الصامت، وخارجة بن حذافة، ومسلمة بن مخلد الأنصاري، ومعاوية بن حديج، وقيس بن أبي العاص، وعبد الله بن سعد، وعقبة بن نافع، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، والمقداد بن الأسود، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وأبو الدرداء عويمر بن عامر، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة وأمثالهم، ومنهم من تولوا بعد فتح إفريقية وجزائر البحر الرومي وقضوا على أسطول الروم عقبى وقعة الصواري، ومن هؤلاء الصحابة من كان هبط مصر لغرض التجارة في الجاهلية، واتجر فيها القائد الأول عمرو بن العاص بالأدم والطيب فتعرف مداخلها ومخارجها، وكان يعرف أن «أهل مصر مجاهيد قد حمل عليهم فوق طاقتهم»، وهو الذي حسن للخليفة الثاني فتحها، وسهل عليه الأمر، وقال له: إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم وهي أكثر الأرض أموالا وأعجز عن القتال والحرب.
واتفق أن كان سئم قبط مصر، وهم كثرتها الغامرة، أحكام الروم البيزنطيين لما أرهقوهم به من المظالم والمغارم، ولما ساموهم من الخسف والعنف مدة اثني عشر قرنا، ثم حاولوا إدخالهم في مذهب الكنيسة الملكية، وأرادوهم على أن يصبئوا عن مذهب النصارى اليعاقبة، فأهلكوا منهم نفوسا، وخربوا بيوتا، وأتوا على بيع وأديار، والخلاف على أشد ما يكون في مسألة المشيئة الواحدة أو المشيئتين في السيد المسيح؛ يضطهد كل من لا يشايع أهل دين الدولة الحاكمة، والروم في دور انحطاطهم يرتكبون كل منكر، ويأتون كل شناعة، وعامة البلاد التي تخفق عليها أعلامهم في حالة تشبه مصر في تبرمها وتظلمها، وتناصرت الأخبار في مصر على أن العرب أصحاب الدولة الفتية التي فتحت الشام والعراق وبعض فارس هم على جانب من العدل والرحمة في أحكامهم، فاشرأبت الأعناق إليهم، وود الناس لو أنقذوهم مما هم فيه.
وكان الرسول بعث إلى المقوقس أكبر عامل للروم من القبط كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فتلطف في جوابه وأهدى إليه جارية قبطية اسمها مارية بنى بها صاحب الرسالة فولدت له ابنه إبراهيم وعدت من أمهات المؤمنين، ذكر عمرو بن العاص في إحدى خطبه قال: حدثنا عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله يقول: «إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لهم منكم صهرا وذمة»، وفي رواية: «فاستوصوا بالقبطيين خيرا لأن لهم رحما وذمة.» ولطالما أوصى الرسول بأهل الذمة، وقال: «من آذى ذميا فأنا حجيجه، ومن قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة»، وقال: «من قتل نفسا معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشمها.» وجعلت الشريعة دية المعاهد كدية المسلم ألف دينار، ولطالما قتل المسلم بالذمي، ولطالما خان الروم وغيرهم عهد العرب، فقال المسلمون: «وفاء بغدر خير من غدر بغدر.» وقد حاسن المسلمون النصارى خاصة منذ انبعثت دعوتهم في جزيرة العرب؛ لأن نصارى نجران اليمن كانوا أول من أدى الجزية ولم يجلهم عمر عن أرضهم، ويوصي بهم أهل العراق والشام؛ إلا لما أكلوا الربا وكان شرط عليهم الامتناع عنه، أما اليهود فحاسنهم الرسول أيضا ولكنهم آذوه مرارا فأجلاهم في حياته من الحجاز إلى الشام، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: «أهل مصر أكرم الأعاجم كلها، وأسمحهم يدا، وأفضلهم عنصرا، وأقربهم رحما بالعرب عامة وبقريش خاصة.»
ورأينا الروم يصفون العرب بأنهم «فرسان في النهار رهبان في الليل، يدوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دوي النحل، وهم آساد الناس لا يشبهون الأسود.» ولما عاد رسل المقوقس من عند عمرو بن العاص، قال لهم: كيف رأيتم هؤلاء؟ قالوا: «رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم.» وربما كان من أهم العوامل في فتح مصر كون العرب يمتازون بصفات لا مثيل لها في دولتي فارس والروم، ومنها صدق العزيمة وصحة الإيمان، وأنهم ما كانوا يفرقون بين الرفيع والوضيع والموافق والمخالف في تطبيق قانونهم، ويدينون بالطاعة لرؤسائهم ويصبرون ويصابرون ويبتعدون عن عيش البذخ والإسراف، ويعرفون الهدف الأسمى الذي يرمون إليه، ويستنبطون من أحوال الشعوب التي ينزلون عليها أكثر مما تعرف هذه الشعوب من أحوالهم.
وفي الحق، إن مصر كان لها موضع من نفوس العرب ويكفي أن يحببها إليهم ذكرها في الكتاب العزيز في أربعة وعشرين موضعا، منها ما هو بصريح اللفظ، ومنها ما دلت عليه القرائن والتفاسير، ولم يقع مثل هذا فيه لمصر من الأمصار، وما كانت مصر بالبلد الغريب كثيرا عن العرب عامة، فإن أجدادهم القدماء كانوا احتلوا أماكن منها وغزوها مددا متطاولة، وعثر المتأخرون في اللغة المصرية القديمة على ألوف من الألفاظ العربية، والغالب أن غزو العرب مصر كان أيام القحوط والجدوب التي طالما أصيبت بها بلاد العرب، فكانوا ينتجعون ما جاورهم من الأصقاع، فإذا تبرم بجوارهم أهلها غزوهم، ثم إن بلاد العرب تخرج أصنافا من الزراعة لا توجد في غيرها، وتجار العرب ينقلون تجارة أقطار الشرق إلى الشام ومصر وإفريقية، والعرب كسائر الساميين تجار أقحاح منذ عرف تاريخهم، والتاجر من شأنه التعرف إلى الناس والبلاد.
ويكتب أبو ميامين أسقف القبط بالإسكندرية إلى جماعته يعلمهم أنه لا يكون للروم دولة، وأن ملكهم قد انقطع، ويأمرهم بتلقي عمرو بن العاص، فيقال إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا، ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف، وكان عمرو لما نزل على بلبيس قتل بعض من كان بها وأسر جماعة وانهزم من بقي ووقعت في أسره ابنة المقوقس، فأرسلها إلى والدها مكرمة في جميع مالها، ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس، قال أهل مصر لعاملهم: ما نريد إلى قوم فلوا جيوش كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم، صالح القوم واعتقد منهم ولا تعرض لهم ولا تعرضنا لهم، وأرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو: إني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم معشر العرب؛ لفارس والروم، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت، وكانت السبايا قد أرسلها عمرو إلى الحجاز واليمن، فردها الخليفة إلى قراها وصيرهم وجميع القبط على ذمة. والسبب في سبيهم أن أهل مصر كانوا أعوانا لعمرو بن العاص على أهل الإسكندرية إلا أهل بلهيب وخيس وسلطيس وسخا وغيرهم، فإنهم أعانوا الروم على المسلمين، وسباهم عمرو وخيرهم عمر بين الإسلام ودين قومهم، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل دينه فدخل كثير منهم في الإسلام.
وإذا عطف الفاتح على القبط للأسباب التي ذكرنا، فذلك لأن جمهورهم حاسنه وما خاشنه؛ ولذلك شاهدناه يضاعف الجزية على الروم الواغلين على البلاد، ويأخذ من القبط الجزية دينارين على كل حالم إلا أن يكون فقيرا، وقد أقر النصارى واليهود على ما بأيديهم من أرض مصر يعمرونها ويؤدون خراجها، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل، رزقا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم، وألزم لكل رجل جبة صوف وبرفسا أو عمامة وسراويل وخفين في كل عام، أو بدل الجبة الصوف ثوبا قبطيا. وما كان الخراج يجبى منهم إلا في إبانه، مخافة «أن يخرق الوالي بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى لهم عنه.» ووقع بعد ذلك الدور بعض الحيف على من عاهدوا على حسن الطاعة وارتضوا بالجزية، ثم ما عتموا أن عمدوا إلى أساليب للتفلت من أدائها، كأن يدعي بعضهم أنه من رجال الدين يعتصم بالديرة والبيع، حتى اضطر عبد العزيز بن مروان أن يحصي الرهبان فأحصوا وأخذت الجزية عن كل راهب دينار، وهي أول جزية أخذت من الرهبان، ومنهم من كان يهجر بلده وينزل بلدا آخر، حتى اضطر الولاة بعد القرن الأول أن لا يجوزوا انتقال أحد من قريته وبلده إلا بجواز الحاكم، وانتقض بعضهم غير مرة مدفوعين بعوامل كثيرة، فما وسع الدولة إلا أن تردهم إلى الطاعة، والسبب في كل هذا - كما قال المؤرخون من غير المسلمين - أن المال كان عزيزا على قلوب أهل البلاد يستحلون لأجله ما ينكره دينهم عليهم، وهو القائل: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.»
وترك الفاتح القبط وشأنهم في كنائسهم وأديارهم، وأعاد إليهم ما كان أخذه الروم الملكيون منهم، وأطلق لهم الحرية في أن يبنوا منها ما طاب لهم، ولما هدم في القرن الثاني علي بن سليمان بعض الكنائس احتج موسى بن عيسى والي مصر من قبل الرشيد بأن هذه الكنائس مما بني في عهد الصحابة والتابعين، وأفتى الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة من أحبار الأمة بإرجاعها إلى سالف عهدها وقالا هي من عمارة البلاد، أما الأصنام والتماثيل فقد صدر أمر الخليفة في سنة 104ه بكسرها ومحوها في مصر؛ لأن دين التوحيد لا يحتمل شعار الوثنية، وقد جاء للقضاء عليها، وما يتناغى الروم بحبه لا يستلزم أن يشايعهم العرب عليه، وهو ليس من طبيعتهم ولا من أصل دينهم، والإسلام كما قال عمرو بن العاص يهدم ما كان قبله. قال هذا لما أبطل سنة المصريين في النيل، وكانوا يعتقدون أنه لا يجري إلا إذا ألقيت فيه كل سنة جارية بكر وزينت بأفضل ما يكون من الحلي والثياب، ولما استقر عمرو بن العاص على ولاية مصر كتب إليه عمر بن الخطاب أن صف لي مصر، فكتب إليه:
ورد كتاب أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - يسألني عن مصر. اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر قرية غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخم عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلي بعض إلا في صغار المراكب، وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصائل، فإذا تكامل في زيادته، نكص علي عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته، فعند ذلك تخرج أهل ملة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جدهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر - يا أمير المؤمنين - لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخالق لما يشاء الذي يصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها ، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل. ا.ه.
فلما ورد الكتاب على عمر قال: لله درك يا ابن العاص لقد وصفت لي خبرا كأني أشاهده. •••
الآن، وقد ألممنا إلمامة خفيفة بموضوع الفتح وصلات العرب بمصر ساغ لنا النظر في الثقافة التي حملها العرب الفاتحون إلى هذه الديار، وهي ثقافة دينية وأدبية معا، مازجتها بعد حين ثقافة علمية واجتماعية، كان أن خرج من مجموعها لون من ألوان الثقافة لا يشبه ما كان من نوعه في الأمم الأخرى، وانتهت بإعراب مصر وإسلامها، فقد كان من عمر بن الخطاب وهو في صدد الفتوح في الشرق والغرب أن لا يغفل عن إرسال البعوث الدينية إلى كل بلد أظلته الراية الإسلامية؛ يرسل الفقهاء والقراء والقصاص يفقهون المسلمين ويقرؤنهم ويقصون عليهم في كل ممسى ومصبح ما يرق قلوبهم، ويختارهم من أفقه الصحابة وأقرئهم وأبلغهم؛ ليتأدب العامة والخاصة بأدب الدين ويجمع المسلمون إلى فطرتهم الذكية معارف كسبية.
كان أول من قرأ القرآن بمصر ممن شهد فتحها أبو أمية المغافري، ومن فقهائها جبلة بن عمرو وعقبة بن الحارث الفهري وحيان بن أبي جبلة؛ ومن قضاتهم كعب بن يسار، كان قاضيا في الجاهلية، وهو أول من أسند إليه القضاء في مصر، وتولى بعد القضاء والقصص فيها سليم بن عتر التجيبي (39ه)، وهو أول من أسجل بمصر سجلا في المواريث، ومن حكماء الصحابة أبرهة بن شرحبيل، ومن فصحائهم أيمن بن خريم، وكان يسمى خليل الخلفاء لإعجابهم به وبحديثه لفصاحته وعلمه. أما الشعر فكثير من الصحابة ومن بعدهم كانوا يقرضونه بالفطرة، ويخطبون الخطب البليغة من دون ما تعمل ولا تكلف.
قلنا إن العرب كانوا ينتجعون مصر ويغزون أطرافها وربما أقاموا بها زمنا في بعض الأدوار، ولكن العرب في مصر، وقد فتحتها دولتهم قد تبدل مقامهم فيها، فسما لهم شوق إلى الرحيل إليها لينزلوها ويستعمروها وتكون لهم ولذراريهم موطنا، ولما لم يرض الفاتح أن يسلب الأرض من أهلها الأصليين، وأقرهم عليها يؤدون عنها الخراج، خص النازلين من القبائل العربية بأرض ارتحل عنها أصحابها فأحيوها، وجاءت قبائل العرب وبطونهم يحطون رحالهم في الريف يعتملون الأرض، ويتخذون من الزرع معاشا وكسبا، ومنهم من اختار سكنى المدن يخرجون إلى مصايف لهم، وقد تكون لهم تلك المصايف مساكن دائمة، وكان أكثر من نزل مصر من العرب من سكان بوادي الحجاز، تفرقوا في طول البلاد وعرضها، واتسعت معايشهم لخصيب تربة مصر ولما شملهم الفاتح من رعايته، وكان يحظر على الجند لأول الفتح أن يعتملوا الأرض لئلا تخرجهم الزراعة عن القيام بأعمالهم، فانصرف إلى الزراعة أهلها، وما أسرع ما بنى العرب منازلهم حتى إن من الصحابة من اختط له دارا في أرض مصر، واختط عمرو بن العاص دارا لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب عند المسجد بالفسطاط، فكتب إليه عمر: أنى لرجل بالحجاز يكون له دار بمصر؟! وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين، وكثرت هجرت العرب إلى مصر في عصور مختلفة، والمورد العذب كثير الزحام، وما فتئت الجزيرة في القرون التالية تمد مصر بالرجال، يكثرون سواد سكانها، حتى أصبح القبط إلى قلة في القرن الثالث، وكان عدد من وجبت عليهم الجزية في الفتح أربعة ملايين رجل وعد الروم ثلاثمائة ألف.
وانتشرت اللغة العربية بين السكان منذ البدء، فلم يمض زمن طويل بعد الفتح إلا ورأيت رجال الكهنوت القبطي يكتبون بالعربية ليفهموا قومهم، ظاهرة غريبة في الإسلام؛ ذلك لأن مصر لم يسبق لها أن غيرت دينها سوى مرة واحدة، غيرته بحد السيف، وما غيرت قط في التاريخ لغتها إلا في الإسلام، وفي الإسلام غيرت دينها ولسانها معا من دون إكراه وشدة، بل بالحكمة والموعظة الحسنة.
كان الفاتح يستوفي حقه برمته من أهل ذمته، ويشملهم برأفته وعنايته، ذكروا أنه رفع إلى عمرو بن العاص أن غرفة بن الحرث الكندي، وكان من الصحابة الذين سكنوا مصر، ضرب رجلا نصرانيا فوق أنفه، فقال عمرو للصحابي: إنا قد أعطيناهم العهد، كأنه يريد أن يؤاخذ الصحابي بما فعل ، فقال غرفة: معاذ الله أن نعطيهم العهد على أن يظهروا شتم النبي، وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدو بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتونا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم، وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم، فقال عمرو: صدقت.
انقاد جمهور القبط إلى الإسلام، واختلطت أنسابهم بأنساب المسلمين؛ لتزوجهم لما أسلموا من المسلمات، وبالمجاورة فقط يتعلم المغلوب لسان الغالب، فكيف إذا اختلط دمه بدمه، وتألفت مصلحته بمصلحته، وللرجل إذا أسلم ولو كان في سن عالية من إقامة الشعائر فقط أعظم دافع إلى تلقف العربية؛ يسمع خطب الخطباء في الجمع والمواسم وأيام الحفل، في موضوعات يهمه تفهمها، ثم يستمع إلى قصص القصاص في المساجد والمعسكرات، وكان يجتمع إلى قصاص العامة النفر من الناس يعظونهم ويذكرونهم. ويكون القصاص كالخطباء من أمثل العلماء على الأكثر، ويتولى خطبة الجامع الأعظم أمير البلاد، ومن يتولى الصلاة يرجح على من يتولى الأموال، فإذا جمع بينهما لواحد كان الأمير كل الأمير.
وكانت الجوامع والمساجد مجامع ومدارس لتعليم البنين والبنات، يختلف إليها النساء كما يختلف إليها الرجال، والجوامع منتديات القوم ومحال تقاضيهم، يخطب فيها في المهمات وتلقى فيها دروس خاصة وعامة، وتتخذ للعبادة في أوقات الصلوات، وقلما يخلو جامع من إقامة كتاب على مقربة منه لتعليم الأولاد، وجاء من النساء المحدثات والواعظات والأديبات والشاعرات، وعددهن بالطبع أقل من عدد الرجال في هذا الشأن، وكان لهن من تربية أولادهن ما يشغلهن في بيوتهن عن أمور يقوم بها الرجال، وتتعلم المرأة مهما كانت منزلتها سورا من القرآن وما يلزمها من أصول الدين، وتحفظ الأشعار والأخبار، وتحضر القصص والوعظ وتأتم بالرجال في المساجد، والغالب أنه كان الرسم منذ القديم أن لا تخلو دار أحد من أرباب اليسار من فقيه يختلف إليها يعلم الأبناء والبنين ويتفقه به الصغير والكبير، أو من قارئ يتلو حصصا من الكتاب العزيز في الليل أو النهار ، وكانت العادة أن من بركة كل بيت مهما علت مكانة أصحابه أن يتعلم بعض أبنائه العلم الديني على الأصول ويتخرج بالشيوخ ويأخذ عن القراء، وحفظ القرآن من الأمور التي شاعت في القطر شيوع العقائد الراسخة، ثم إن من واجب المسلم أن يعلم جيرانه ويفقههم ويفطنهم، ومن مصلحة القبطي والرومي أن يتعلما لغة العرب للتفاهم وللإتجار.
والغريب عن اللغة قد لا يحتاج إلا إلى أشهر قليلة حتى يتعلمها، واللسان كان منذ وجد الإنسان يعلم بالتلقين والتلقي، ويرسخ بالسماع والانطباع، أكثر من قراءة الصحف والكتب، وهذه ما كانت تصل في الصدر الأول إلى غير أيدي الخاصة من الناس لغلائها وعزتها، وفي حدود ثمان وثمانين من الهجرة فقط، اتخذ الكاغد؛ أي الورق من القطن، فرخص ثمن الطوامير والقراطيس، وكانت الصحف تكتب على لباب البردي وهو غال ثمين. ويطلقون اسم الصحفي على من لم يلق العلماء ويأخذ علمه عن الصحف، فالعلم الإسلامي وإن بدأ تدوينه في زمن الصحابة إلا أن المسلمين كانوا يخزنون علمهم في الصدور، أكثر مما يرقمونه في السطور، وربما لم تبلغ أمة من الأمم شأو العرب في الرواية والدراية.
ولعله كان من الخير للفاتحين ونشر تعاليمهم ولسانهم كونهم ما تصعبوا في إشراك أبناء الذمة في المصالح العامة، فاستعملوهم منذ أول الفتح في بعض شئون الدولة ولا سيما في جباية الأموال وصرفها، ومنذ القرن الأول كان جميع عمال الأرياف من القبط، وكان ناظر مالية الدولة الأموية على عهد معاوية نصرانيا وتولى ذلك بنوه للخليفة من بعده، ولما نقلت الدواوين إلى العربية على عهد عبد الملك بن مروان، ونقل ديوان مصر من الرومية والقبطية إلى العربية، كما نقل ديوان الشام والعراق من الرومية والفارسية، ضن الفاتحون بأرباب الكفاءات من العمال السابقين فما صرفوهم من التصرف والخدمة، وما كان يشترط للعمل غير معرفة لسان الدولة والأمانة للسلطان حتى يوليه ثقته ويخلطه بنفسه، وحدثنا التاريخ أن عمرو بن العاص كان أول من اتصل بالعلماء من القبط والروم وأنه كانت له صحبة مع يحيى غرماطيقوس - أي النحوي الفيلسوف - وأعجب كلاهما بصاحبه، وأن خالد بن يزيد الأموي عالم قريش وحكيمها لجأ إلى علماء من القبط لما أراد نقل بعض العلوم إلى العربية، فنقلوا له شيئا في الطب والكيمياء وغيرها، وكان يفضل عليهم وعلى العلماء الآخرين من الروم والسريان كثيرا، حتى نقلت له مبادئ الصناعات والعلوم والنجوم والحروب.
وتدين مصر لبني أمية خاصة بأوضاع من العدل والعمران كثيرة؛ ذلك لأنهم كانوا يرسلون لإمارتها أمثل رجالهم وتطول إمارتهم فيها ليتمكنوا من معرفة ما يصلحها، ومن كعمرو بن العاص بإدارته الحسنة وسياسته الرشيدة، ومن كعتبة بن أبي سفيان شقيق معاوية، وكان من أخطب خطباء العرب يطفئ في ولايته القصيرة الفتنة وينشر الإسلام، وكان بعض أهل مصر من العرب اشتركوا كأهل الكوفة والبصرة بمقتل عثمان بن عفان الخليفة الثالث، ومن كعبد الله بن سعد في حسن سيرته ومعرفته بسياسة الملك، وفيها طالت أيامه كما طالت إمارة مسلمة بن مخلد خمس عشرة سنة، وطالت أيام عبد العزيز بن مروان إحدى وعشرين سنة، وفي أيامه عمرت مصر عمرانا ليس مثله، وبنى في حلوان الدور والمساجد وغيرها أحسن عمارة وأحكمها وغرس كرمها ونخلها، وهو والد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الذي أشبه جده لأمه عمر بن الخطاب بعدله وإحسانه، وهو الذي كتب إلى عامله على مصر وقد شكا إليه نقص الجباية لإقبال الناس على الدخول في الإسلام: إن الله بعث محمدا هاديا ولم يبعثه جابيا، وهو الذي جعل الفتيا بمصر إلى ثلاثة رجال؛ رجلين من الموالي ورجل من العرب، فأنكر العرب فعله، فقال: ما ذنبي أن كانت الموالي تسمو بأنفسها صعدا وأنتم لا تسمون، وهو الذي قال لأسامة بن زيد، وقد بعثه سليمان بن عبد الملك على ديوان جند مصر وحثه على توفير الخراج: ويحك يا أسامة، إنك تأتي قوما قد ألح عليهم البلاء منذ دهر طويل، فإن قدرت أن تنعشهم فأنعشهم، كأنه كان يشعر، وهو من مواليد مصر وأبوه أميرها، أن في إدارة الدولة شيئا من الظلم تجب إزالته. ومثل هذه الشفقة والرحمة والعطف كانت تحبب الإسلام إلى القوم فيسلمون ويمتزجون برجال الدولة، أو يبقون على دينهم لا يفتنون عنه، ولا تؤخذ كنائسهم، ولا يهان قساوستهم.
أصبح سكان مصر في القرن الرابع أخلاطا من الناس مختلفي الأجناس من قبط وروم وعرب وبربر وأكراد وديلم وتتر وأرمن وحبشان وغير ذلك من الأصناف والأجناس، وجمهورهم القبط، واختلطت الأنساب واقتصروا من الانتساب على ذكر مساقط رءوسهم، وفي هذا القرن كان القبط يتحدثون بالقبطية على رواية المقدسي، ولهم - كما قال ابن حوقل - البيع الكثيرة وهم أهل يسار وفيهم قلة شر وكثرة خير، ويقول الظاهري في القرن التاسع: إن بالصعيد من الكنائس والديورة قريب ألف وغالب أهله نصارى؛ أي أقباط.
إذا عرفنا هذا، فليس ما يمنع من القول إن بوتقة مصر في الدول الإسلامية كانت تتمثل فيها العناصر الغريبة فتصبغها بصبغتها، تحيلها مصرية صرفة بعد جيل أو جيلين. وساعد على مزج الدخيل والأصيل فيها ورود النهي عن التفاخر بالجنسية والقومية، وعدم التفريق بين العربي والأعجمي إلا بالتقوى. ومن مصطلح العرب أن كل من أقام ببلدة ولو مدة وجيزة ثم مات فيها عد من أهلها ونسب إليها، ولما كان ابن وادي النيل لبدا بطبعه مولعا بمائه وهوائه، صعب عليه أن يهجره إلى أقطار أخرى ليكثر سواد شعب غير شعبه. والمصري منذ القديم لا يبغي عن مصر حولا، فهو مغتبط بنيله، عاشق تربته، راض بما قسم له، فكان مصر منذ عهد الفراعنة الأولين بلد استيراد أكثر مما هو بلد استصدار، ولولا فريضة الحج في الإسلام، ما خرج المصري إلى الحجاز أيضا يفارق ما في داره من النعيم المقيم.
وكانت مصر في الدول العربية بأرباب الرحلات من المحدثين والفقهاء والأدباء والعلماء أكثر اتصالا فكريا بالأقطار الأخرى من معظم الأمصار؛ لتوسطها بين البلدان العربية، وترسل إلى الأصقاع الأخرى ما لا يكلفها حمله كبير عناء من بضائع علمها وفنها وتفكيرها، وإذا هاجر أحد أبنائها فهجرته موقتة، والغريب قد تفتنه فيتخذها مسكنا دائما، وقد كثرت هجرة العلماء إليها من أقطار الأرض بعد القرن الثالث؛ لأن الفتن اندلع لسانها، ولا سيما في العراق والشام، والعلماء أحوج الناس إلى السلام، وكانت مصر ساكنة هادئة بفضل من استولوا عليها في ذاك الدور، ولما خرب المغول بغداد في القرن السابع رحل العلماء منها إلى مصر، على نحو ما جرى لما استولى الأتراك على الأستانة في القرن التاسع فرحل منها إلى إيطاليا بعض علماء اليونان، وكانوا من عوامل نهضتها، وفي رحلات المرتحلين من مصر وإليها ضرب من ضروب تبادل العلم والأفكار، وكانت الجوامع تؤوي هذه الطبقات من المشتغلين، قبل أن تنشأ المدارس في القرن السادس، وما خلت بيوت العلية من الناس في كل محلة ومنزلة من قبول النزلاء على الرحب والسعة، والكرم ما انقطع من مصر في دور من أدوارها؛ ذلك لأن المصري كالعربي يعد الشح مثلبة، وأي مثلبة. وفي قصة المرأة القبطية المشهورة مثال من هذا الكرم الفطري؛ ذلك أن الخليفة المأمون مر بقريتها طاء لنمل (طنامل) لما وافى مصر، فسألته أن يقبل قراها ولما اعتذر بكت بكاء كثيرا وقالت: لا تشمت بي الأعداء ولا تحرمني هذا الشرف الذي تولينيه وعقبي، فنزل عليها برجاله وجيشه، فأطعمتهم من فاخر الطعام ولذيذه. وبعثت إلى الخليفة في الصباح بعشر وصائف مع كل وصيفة طبق، في كل طبق كيس من ذهب فاستحسن ذلك وأمرها بإعادته، فقالت: والله لا أفعل، فتأمل المأمون الذهب، فإذا به ضرب عام واحد كله، فقال: هذا والله أعجب، وربما يعجز بيت مالنا عن مثل ذلك. فقالت: يا أمير المؤمنين لا تكسر قلوبنا ولا تحتقر بنا، فقال: إن في بعض ما صنعت لكفاية، ولا نحب التثقيل عليك، فردي مالك بارك الله فيك، فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين، هذا - وأشارت إلى الذهب - من هذا - وأشارت إلى الطين - ثم من عدلك يا أمير المؤمنين، وعندي من هذا شيء كثير، فأمر به فأخذ منها، وأقطعها عدة ضياع وأعفاها من بعض خراج أرضها.
رأينا العرب ينقلون من دار أعرابيتهم أساس الثقافة العربية على نحو ما جروا في كل قطر فتحوه؛ فيشخص إليها رجال القرآن والفقه والرواة من الحجاز واليمن وفيهم الجهني والفهري والتميمي والتنوخي والمخزومي والمزني والعبسي واللخمي والقرشي والخزاعي والقضاعي والأزدي والحضرمي، ثم صار يغشاها الجرجاني والنيسابوري والمروزي والشيرازي والدينوري والسمرقندي والخوارزمي والبستي والطبري والهمذاني والطوسي والجويني والتبريزي والشهرزوري والقزويني والغزنوي والهروي والخراساني والنسائي والبلخي والبيهقي والإصطخري والأهوازي والسيرافي والبغدادي والإربلي والكوفي والبصري والموصلي والحراني والواسطي والمصيصي والإسعردي والجزري والمارديني والطرسوسي والتفليسي والدمشقي والحلبي والحمصي والبعلبكي والحموي والطرابلسي والنابلسي والصفدي والمقدسي والعسقلاني والأنطاكي والصنعاني والخولاني، ثم الغرناطي والقرطبي والقيرواني والفاسي والتونسي والسوسي والصفاقسي والصقلي والميورقي والصنهاجي والتلمساني، فكان علماؤها والممتازون من رجالها من أصول عربية أو من المستعربة، وبعد حين صرت تسمع باسم الإسكندراني والدمياطي والرشيدي والتنيسي والمحلي والأسيوطي والبويطي والأسواني والطحاوي والطنطاوي والصدفي والبلقيني والبوصيري والإخميمي والسخاوي والقلقشندي والإسنوي والإسنائي والصعيدي والقوصي والبحيري والقليوبي والطوخي والبيجوري والديروطي والشرقاوي والجيزي والجيزاوي والجرجاوي والدشناوي والدمنهوري والفيومي والقفطي والأرمنتي والزنكلوني والمناوي والمنياوي والبلبيسي والأبياري والأدفوي والحوفي والشنطوفي والقنائي والبهنساوي أو البهنسي والأشموني والسمنودي، إلى غيرهم من الرجال الذين نسبوا إلى مساقط رءوسهم فأدركنا لأول وهلة أنهم من صميم المصريين.
عرفنا أن الثقافة التي انتشرت في مصر جمعت بين القرآن والسنة والشعر والأدب، ولما تعينت المذاهب انتشر فقه المالكي والشافعي، ثم فقه أبي حنيفة والفقه الحنبلي على قلة، ثم الفقه الإسماعيلي مذهب الفاطميين من آل البيت؛ انقرض هذا الفقه الشيعي أوائل عهد دولة بني أيوب. وانتشر التصوف أكثر من الفلسفة، وصرف الناس همهم إلى الدينيات، وعدوا من فروعها التصوف ونابذ الفقهاء الفلاسفة، ولكن الأمصار ما خلت في عصر من الأعصار من مفننين وحكماء لو وقع إلينا كل ما دون في هذا الشأن، لعرفنا طبقة كبيرة من هذه الأصناف، فعندنا طبقات المفسرين المحدثين والحفاظ والشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة والأدباء والشعراء والأطباء والحكماء والصوفية، وما سقطنا في تركة السلف على طبقات المصورين والنقاشين والمهندسين والموسيقاريين، بل عرفناهم بالشيء القليل الذي جاء عرضا في الكتب الباقية التي ما كسرت عليهم ، ولو كتبوا هم بأنفسهم عن أبناء فنهم لاطلعنا من مخلفاتهم على أسرار في هذه المدنية التي نمت عنها مصانعهم وتجلت بها هندستهم الجميلة وتراتيبهم التي ما خلت من إبداع، وتم بذلك تاريخ التهذيب العربي وما أنتج من بدائع وروائع. ولا يعقل أن لا يترجم المفننون لرجالهم، والغالب أن مدوناتهم فقدت في جملة ما فقد من ثروتنا العلمية والأدبية في الفتن والثورات والعوامل الأرضية والسماوية.
ولو وقع إلينا ما دونه أرباب الصنائع والفنون كما انتهى إلينا ما دونه علماء الشريعة والأدب والتاريخ، لعرفنا جمهورا نجهله من الناس، وكم من علم اندفن في صدر، ومن فن ما قدره الناس قدره، فزهد الناس فيه، وهذه المصانع التي أبقت الأيام على خطوطها ورسومها في الفسطاط والقطائع وما في جوارهما من القاهرة المعزية من المدارس والجوامع والرباطات والمستشفيات شاهدة على الدهر بما أبدعت تلك العقول والأنامل التي حملت شيئا كثيرا من العلم والعمل، وقد اشتركت الطوائف الدينية الثلاث على السواء في إخراجها للناس، وكان سواد الأطباء والمنجمين والمهندسين من غير المسلمين، وخاصة من اليهود بادئ بدء، فأصبح سوادهم الأعظم من المسلمين في الأدوار التي كثر فيها من انتحلوا الإسلام.
أخذ القوم في القرن السادس ينشئون المدارس، ينزلون فيها كل من يحب طلب العلم، ويغدقون على الدارسين والمدرسين ما يقوم بهم على حد الكفاية؛ بدعة حسنة ابتدعها عقل صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام، وكثرت المدارس بعد ذلك حتى لا تكاد تخلو منها الحواضر الصغيرة، وضاع كثير من أخبارها في جملة ما أتت عليه الأيام؛ فقد كان في قوص في القرن السابع ستة عشر مكانا للتدريس، وبأسوان ثلاثة، وبإسنا مدرستان، وبالأقصر مدرسة، وبأرمنت مدرسة، وبقنا مدرستان، لا جرم أنه كان في المدن الأخرى كالإسكندرية وبلبيس ودمنهور والمنوفية وغيرها مجالس ومدارس لطلب العلم الديني، وعلوم العربية تابعة له ومعينة على تفهمه.
وكان الحاكم بأمر الله الفاطمي أنشأ في سنة 395 دار العلم أو دار الحكمة في القاهرة، فجلس فيها القراء والفقهاء والمنجمون والنحاة وأصحاب اللغة والأخيار ، ورتب فيها قوما يدرسون الناس العلوم، وسبل عليهم خزانة كتب عظيمة فيها من كل فن خبر، وكان من جملة ما يعلم فيها الطب والرياضيات والمنطق، وبقيت نحو 175 سنة عامرة، وعاد الأفضل في آخر أيام العبيديين فأسس دار العلم سنة 571 واستخدم فيها مقرئين، ولم تزل عامرة إلى انقراض الدولة الفاطمية. وكان القائد جوهر الصقلي فاتح مصر باسم الفاطميين أنشأ الأزهر فأصبح منذ عهدهم إلى اليوم مصدر العلوم الشرعية ومباءة الآداب؛ أنشئوه لنشر التشيع، وظل على ذلك طول أيامهم، وكان غرامهم كثيرا في الدعوة لمذهبهم تقرأ على رئيسه، ويسمونه داعي الدعاة، كتبهم بدار العلم، وطبيعي أن يتبع تعليم المذهب تلقين العربية على أصولها؛ لأن البراعة في الشريعة تتوقف على البراعة في فنون العربية والمنطق والجدل والحكمة القديمة.
وغبر الناس في مصر يستفيدون من كل ما تأتيهم به الدولة الحاكمة، والواقع أن كل دولة حكمت مصر، ولو حقبة صغيرة من الدهر، أبقت أثرا من آثار غيرتها على العلوم والصنائع وعنيت بنشر الآداب؛ يتراءى ذلك من النظر إلى المصانع والآثار وما دون المدونون من تاريخ وأخبار، وكان غرامهم ظاهرا بإنشاء المساجد، وقد ضاقت مرة بيوت الأموال من مال الخمس في مصر، فصدر أمر الخليفة ببناء المساجد، واستغنى الناس أيام كافور الإخشيدي ولم يجد أرباب الأموال من يقبل منهم الزكاة، فأمرهم أن يبنوا بها المساجد ويتخذوا لها الأوقاف. وما كانوا يغفلون مع هذا عن بناء القناطر والجسور والعمائر النافعة لجلب السعة إلى المصريين، ولئلا يقل الارتفاع إذا أهمل أمرها. وبعد؛ فمن كان يظن أن دولة الأيوبيين التي خلقت وماتت في الحروب الصليبية وبها كانت الشام ومصر في أمر مريج تعنى أيضا بالعلوم والصناعات وأعمال العمران؟!
هذا والدولة في حالة تقلقل عظيم لدفع صائل أهل أوروبا عن هذا القطر والديار الشامية، وقد وصف ابن جبير في القرن السادس مفاخر الإسكندرية وعد منها المدارس والمحارس؛ أي الأبراج الموضوعة فيها لأهل الطلب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكنا يأوي إليه، ومدرسا يعلمه الفن الذي يريد تعلمه ، وإجراء يقوم به في جميع أحواله، قال: واتسع اعتناء السلطان؛ أي صلاح الدين بن أيوب، بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك، ونصب لهم مارستانا لعلاج من مرض منهم. وقال في كلامه على مصر والقاهرة: وما منها جامع من الجوامع، ولا مسجد من المساجد، ولا روضة من الروضات المبنية على القبور، ولا محرس من المحارس، ولا مدرسة من المدارس، إلا وفضل السلطان يعم جميع من يأوي إليها ويلزم السكنى فيها، تهون عليه في ذلك نفقات بيوت الأموال، وأنه أمر بعمارة محاضر ألزمها معلمين لكتاب الله - عز وجل - يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة وتجري عليهم الجراية الكافية لهم، وذكر غيره أن جامع مصر بين العشائين كان غاصا بحلق الفقهاء وأئمة القراء وأهل الأدب والحكمة، ولا ترى أجل من مجالس القراء به، وأن هذه المجالس كثيرة، وربما لا يكاد يخلو مسجد كبير من مجلس يسمع فيه الناس علما وحكمة وعظة، ويقول المقدسي في الفسطاط: إنه ليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه، وأنه معدن العلماء، وأن نغمة أهل مصر بالقرآن حسنة.
بل من كان يظن أن دولتي المماليك البرية والبحرية، وفي إدارتهما بعض العهدة، تعنيان بالآداب والمعارف على مثال الدول العربية السالفة، حتى كثرت في أيامهم المدارس والجوامع والترب كثرة عجيبة، وارتقى فن البناء وظهرت علائم الترف، وكثر المؤلفون والباحثون، وزادت علاقات مصر بدول الغرب وعلاقاتها بدول الشرق. نعم في أيامهم تنافس الأمراء في تشييد الزوايا، وكانت كل زاوية بمصر معينة لطائفة من الفقراء، وفي عهد بعض ملوكهم تنافس الأمراء والكبراء في بناء المساجد وزادوا وغلوا؛ لأن أمير الوقت كان يغلب عليه الصلاح وحبيب إلى قلبه أن يرى ذلك من رعيته ورجاله، والناس على دين ملوكهم. وما نراه في بعض الأحياء القديمة في القاهرة من قيام الجامع إلى جانب أخيه، هو أثر من آثار هذه العناية، ولو كان اجتمع جماعة على بناء الجامع الواحد بدل اختصاص كل فرد بعمله، لجاء العمران في مصر وغير مصر صورة عظيمة من صور التضامن الاجتماعي، ولكتب البقاء للمصانع الكبرى أكثر من غيرها.
وأكثر ما نفع مصر في علمها وجعل لمعظم مظاهر العقل فيها مظهرا خاصا، أنها تمتعت من العهد الأموي والعباسي بأجمل أيامهما، وكان لها أبدا شبه إدارة خاصة، ولطالما نزعت إلى الاستقلال الجزئي أو الكلي، وباستقلال ابن طولون بها عمرت عمرانا غريبا ما عهدته منذ قرون. ومن أهم ما حفظ لمصر شخصيتها، وأبقى عليها آثارها، قيام صحراء التيه في طريقها إلى بلاد الشرق، فتحامى كثير من الفاتحين اقتحامها من البر، وكان من الصعب اقتحامها من طريق البحر في عصور سفن الهواء، ومن سعادة مصر أن بيت المقدس بعيد عن حدودها، فما غزاها الصليبيون مائتي سنة لاستخلاصه كما وقع في الشام. ومن حسن الطالع أيضا أن أشرار الفاتحين، أمثال جنكيز وهولاكو وغازان وتيمورلنك، ما حدثتهم أنفسهم في التقدم لاحتلالها فنجت من تخريبهم على ما خربوا كل بلد نزلوه من بلاد الإسلام في القرن السابع والثامن والتاسع، ومنها ما دمروه عن آخره ولم يبقوا من أهله ديارا.
وأبت الأقدار إلا أن تساهم مصر بأخرة سائر الأقطار العربية في حظها من الفاتحين، فجاء سليم الأول العثماني المدعو بالجبار «ياوز» من طريق صحراء التيه يضرب على أيدي المماليك فيها، وكانت نفوس المصريين قد سئمت أحكامهم أواخر أيامهم ونمى إلى المصريين من أخبار الدولة العثمانية ما يغري بها، فعلقوا على انضمام مصر إلى الأتراك آمالا طوالا، بيد أن الاحتكاك بالترك العثمانيين أظهر أن طبيعة المغول واحدة؛ لأنهم والترك من جنس واحد وهؤلاء لا يفضلونهم إلا لأنهم دانوا بالإسلام، بيد أنهم إن تحاموا تخريب البلاد التي يحتلونها على الغالب لا يتحرجون من إدخال الوهن على مقوماتها؛ فقد عمل السلطان سليم في هذا القطر أعمالا نابية عن حد الإنصاف، ومن أهمها أنه أخذ إلى القسطنطينية الممتازين من رجالها، والنابغين من أرباب الصنائع فيها، فبطلت فيها خمسون صنعة، هذا إلى ما حمله معه من ذهبها وجواهرها وعادياتها وكتبها وأعلاقها. واتفق قبيل فتحه أن كان البرتقاليون وفقوا إلى الطواف حول إفريقية؛ ففتحوا طريق رأس الرجاء الصالح، وحولوا تجارة الشرق عن مصر، وكانت سوقها الكبرى دهرا طويلا، وبحر القلزم أهم منفذ لها، وكان من هذا الاختلاط والتمازج مع أهل الأقطار الأخرى فائدة لمصر، فلما ضعفت تجارتها افتقرت كمعظم هذا الشرق القريب، ومتى دب الفقر في أمة تفتر على الأغلب أعمال العقل في بنيها. وكان من عوامل التقهقر أيضا انتشار الأوبئة كل مدة لا تبقي من الناس ولا تذر، ولئن قلت زلازل مصر، فما أكثر ما كانت طواعينها الجارفة!
كانت الحكومات التي سبقت العثمانيين مهما كان لونها تفكر في خير مصر؛ لأنها تأكل منه وتستمتع به، فتعطف على رجال الأدب وحملة الشريعة وتنشط الصناعات والتجارة والزراعة، ومنذ فتح الفاتح مدينة القسطنطينية حاول أن ينشئ له مدنية إسلامية تضاهي على الأقل مدنية مصر في عهد المماليك، فأخفق لأن استعداد أمته للصناعات العلمية والعملية كان ضعيفا، وأمته حربية صرفة، وربما عد الأتراك أعمال اليد والفكر مما لا يتناسب مع عظمة الأمة الحاكمة؛ فتركوا العناصر الإسلامية وشأنها تنتج وهم يتمتعون، وما كان هم الدولة في مصر غير جمع المال من رعاياها وإغناء طبقة خاصة من رجالها على نحو ما كان من رجال رومية على عهد دولة الرومان؛ فتركت القطر غرض الرماة من الولاة، وكثيرا ما كانت تنصبهم أشهرا قليلة لئلا يخرجوا بطول الزمن عن طاعتها، ومن كان منزله منزل قلعة كيف يتسع له الوقت ليفكر في إصلاح مختل وإيجاد مفقود، هذا إن كان على استعداد لعمل الخير للناس، وظل بقايا المماليك على كثرة من قتل منهم في الفتح العثماني حكام مصر بالفعل، ولا تكاد تقع في أهل هذه الدولة الأعجمية على شيء اسمه ثقافة أو أدب أو عمران، واضمحل في عهدها كثير من مشخصات الأمم، وأصبحت المدارس اصطبلات ودورا وبطل التدريس فيها، واستصفيت الوقوف التي كان أهل الإحسان من الملوك والأمراء والأغنياء حبسوها عليها، وانحط الأزهر في أيامهم إلى التي ليس بعدها، ورفع منه معظم ما يفتح الذهن من الفنون؛ فجمدت وتعقدت طريقة التعليم فيه؛ فصارت قواعد العلوم ألغازا وأحاجي حملت الكتب منها أحمالا، وضاع الجوهر النافع في غمار الحواشي والشروح والتعاليق والاختلافات، وشيبت العلوم الدينية بما لم يكن فيها، فضلت الأفهام لزهد العلماء في كتب الأقدمين السهلة الواضحة، وتعلقهم بكتب المتأخرين وما فيها من خبط وخلط أحيانا تضيع في حل رموزها الأعمار جزافا. وسقط الشعر إلى الدرك الأسفل، وأمسى النثر أبرد من عضرس، وآض الطب والهندسة وسائر الفنون اسما بلا مسمى.
نعم، ضعفت الآداب حتى ما تكاد تعد مصر بعد القرن الثامن من الشعراء من يجدر بالناس أن يتناقلوا كلامهم، وفسدت الكتابة بالسجع السخيف، وفي الكتب نموذجات من كل عصر لا ترضيك منها السلطانيات ولا الإخوانيات؛ أي ما صدر عن الملوك والأمراء وما صدر عن الأفراد من الأدباء. وعلى تلك النسبة انحطت الخطابة وكان لها في عصور الارتقاء مواسم جنية الثمرات، تنفع في رفع مستوى العقول في الأخلاق والسياسة ومعظم المظاهر الاجتماعية، فأصبحت في هذا العهد عاملا من عوامل الزهد والتوكل وتسويد الدنيا في وجوه من يسمعونها، وتعليمهم الرضا بالدون من العيش، فأماتت الهمم، ونزعت الشمم، ولقنت الناس منازع لو سار عليها المسلمون في قرونهم الأولى لما أنشئوا مدنية جميلة، ولا أسسوا ملكا ضخما، بل كانوا بلا مراء أحط من زنوج أفريقيا.
وتخدرت الأعصاب فوهنت المدنية، وهل المدنية غير ابنة الأعصاب القوية؟ وذلك بما انتشر في أرجاء القطر من أهواء جديدة علمت الناس الكسل وأبعدتهم عن حياة العمل؛ فراجت الخرافات والترهات، واعتقد من اعتقد بالكرامات، وكثر الاستمداد من أهل القبور والنذر لها والاجتماع حولها، بما لم يعهد له مثيل في البضعة القرون الأولى للإسلام؛ كأن المتأخرين عرفوا من روح الدين ما لم يعرفه جماعات الصحابة والتابعين وتابعوهم! وبطل حكم العلوم المادية، وما عادت الآداب تنفع في إنارة الأفهام وتحسين حال المجتمع، وخلت ممن يستحسنها أو يستهجنها، وممن يقرها أو ينقدها، وكان الشعر في الدهر الغابر يقيم القبيلة ويقعدها، والخطبة الواحدة تعقد الصلح أو تشهر الحرب، وغدا الناس لا يتفاهمون في مصالحهم الجزئية مع عمالهم إلا بواسطة التراجمة، والقضاء تركي، والإدارة تركية، والروح تركي، ومئات الألوف من أهل مصر لا نقض لهم ولا إبرام في تراتيب بلادهم وموارد حياتهم.
يقول مؤرخو الترك إن السلطان سليما فاتح مصر وبلاد العرب كان ينوي أن يجلي غير المسلمين عن بلاده بحيث تصبح إسلامية صرفة، فمنعه من ذلك شيخ الإسلام زنبللي علي أفندي، وقال ليس لك أن تزحزحهم عن أرضهم ولا حق لك في غير الجزية منهم، وإنه كان من أماني هذا السلطان أن يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، ولكن الأجل لم يساعده على إنفاذ أمنيته لما شغل به مدة حكمه من الحروب والغارات، ومهما أحسن الظن بما كان من نيته، فالعبرة بإخراج أفكاره من حيز القول إلى ميدان العمل، ولو كان بدأ على الأقل بأن يكتب أوامره إلى البلاد العربية بلغتها، لقلنا إنه يمهد السبيل لما يرى فيه سلامة الدولة والأمة، وإلا فالتفكيرات كثيرة، والمناهج لا حد لها، وقد يبيت آحاد الناس أفكارا جيدة لا تعد في معرض العمل إلا من عالم الخيال، وبعض أفكار العامة أيضا إذا طبقت كانت شيئا مذكورا.
وما زالت حال القطر المصري إلى تقهقر خلال القرون الثلاثة التي حكمت الدولة العثمانية فيه مباشرة حتى قيض له رجل أعجمي صحت عزيمته على تأسيس مملكة عربية، عنينا محمد علي الكبير، فسار في ملكه بسيرة من ملكوا في الإسلام من أجناس الترك والشركس والكرد والبربر والفرس والديلم؛ أي إنه لم يتخذ غير العربية لغة، وترسم خطى من سبقوه إلى حكم مصر من غير العثمانيين، وعني عناية خاصة بنشر الثقافة الغربية ينقلها عن فرنسا وغيرها فأحيا رمما كادت تفنى، وأدخل روحا إلى جسم علق يبلى «والعلم مذ كان محتاج إلى العلم»؛ فالتهم المصريون العلوم المادية التي أتاهم بها المصلح الجديد، وما قاوم رجال الدين التيار الذي انساب إليهم فأغضوا عما لم يستحسنوه كثيرا في باطنهم، خلافا لما كان لمن انتظموا في مثل سلكهم في فروق عاصمة الخلافة؛ فإنهم قاوموا الطباعة، وأفتى بعضهم بتحريم طبع القرآن، وقاوموا العلوم المادية وحظروا تعلمها، وقاوموا اللباس الغربي والطربوش، كما كانوا من قبل حرموا القهوة والدخان، فقتل في هذه السبيل أولا وآخرا ألوف من الخلق، والعربي على ما يظهر أكثر الشعوب الإسلامية تسامحا وحرية، وإن كان العرب ما زالوا منذ عصر صاحب الرسالة دعاة الدين وأمناءه، وتسامحهم مع من يخالفهم موضع العجب.
دخل الإصلاح ديار مصر يتناول أكثر الفروع والمظاهر؛ فشغل المدنيون ببث ثقافتهم والحكومة من ورائهم تحميهم وتنصرهم، ولم ير الدينيون بعد قليل من التلكؤ إلا أن يسايروا الزمن ورضوا أن يدخلوا في أنظمتهم وتراتيبهم شيئا من الجديد المفيد، ونبذوا أو كادوا ما وضع من الكتب في عصور الانحطاط الفكري، وأنشئوا يطبقون مفاصل الإصلاح على طرائقهم ببطء وتأن، وفتحوا السبيل إلى أن يتذوق طلاب العلم الديني لماظة من العلوم التي دعوها بالعصرية، وكان الأولى أن تسمى القديمة، كالرياضيات والطبيعيات والفلك والتاريخ وتقويم البلدان؛ فخرج من الأزهر وسائر المعاهد الدينية في القطر علماء تعلموا في الجملة على غير الطريقة التي كانوا يمارسونها قبل ثلاثة أجيال، وكانت تضعف العقل، وتثلم الحواس.
وكان الفضل الأعظم في إيجاد هذه المجموعة الجديدة من الثقافة وإحياء الآداب العربية، لمدارس الحكومة على اختلاف درجاتها حتى يصل الطالب إلى الجامعة، وأخرجت دار العلوم تلاميذ كان منهم أقدر العلماء والأدباء، ويحمد أيضا قصد المدارس الخاصة التي تؤهل طلابها للحياة الحرة، لا جرم أن وزارة المعارف منذ تأسيسها لم تأل جهدا في تحقيق رغبتها في نشر العلم؛ ولذلك كانت تساير الزمن في نشوئها وارتقائها، ومنذ انتظم أمر البعوث إلى مدارس الغرب، ترسلها الحكومة أو الأفراد، دخلت ثقافة مصر في طور جديد، وأصبح فريق الدينيين وفريق الدنياويين، لا ينظر كل منهما إلى صاحبه النظر الأول، وربما أضمر الواحد للثاني حرمة وحدثته نفسه لو شاركه في كل ما وعى ودرس، وقام في مصر أرقى رجال العهد القديم الذين تخرجوا بالتعاليم الدينية، وأرقى طبقة من رجال العلم الحديث ثقفوا أحدث الأساليب الغربية، واستساغ كلاهما طريقته، وقام بقسطه من تربية أبناء مصر ، وتساندا وتعاونا إلى أقصى حد ممكن، وتوشك ألا تبقى ناحية من نواحي العلوم والفنون لم يعالجها المصريون ويبرزوا فيها بقدر ما سمحت قرائحهم وساعدهم انتباههم، وأصبح الإخصاء، وهو العلة الأولى في ارتقاء العلم في الغرب، مما يحرص على الأخذ به المتعلمون، وكان من يطلق عليه اسم العالم في القرون الغابرة نتفة يدعي معرفة كل شيء ولا يكاد يتقن مسألة من المسائل.
ومن نظر اليوم في المدارس على اختلاف درجاتها، وعارضها بما كان من نوعها منذ جيلين من الناس، وأمعن النظر فيما تخرج اليوم من الطلاب المجهزين بأجمل جهاز عقلي، وما كان يصدر عن المؤلفين والكتاب والشعراء من الآثار وما يخرجون للناس منها لعهدنا، وما كانت عليه الصحافة المصرية زمن الخديوي إسماعيل وعهد ابنه جلالة الملك فؤاد الأول، وكيف كادت صحافة مصر في هذه الأعوام القليلة تضاهي صحافة الأمم التي بدأت بالنهضة منذ أربعة قرون؛ من رأى هذا يسجل فخورا بأن قرنا واحدا، تخللته فترات وهجعات، كفى هذا القطر بأن يصطنع له ثقافة فيها كل الخير لحياة مصر في مادياتها ومعنوياتها.
الجوامع والبيع، والمدارس والمحاكم والأندية والصحافة، ودور التمثيل والغناء، غيرت لهجات القوم، حتى قربت اللغة العامية من الفصحى قربا غريبا، وليت أديسون اخترع الحاكي في القرن الماضي، فحفظت لنا في أسطواناته لهجة الناس منذ مائة سنة لنقارنها بلهجتهم اليوم، ونستمع كيف كانت أحاديثهم في المجالس والمدارس ومواعظهم في الجوامع والكنائس، وخطبهم في الأندية وقضاؤهم في المحاكم، وعسى أن لا ينقضي جيل أو بعض جيل حتى تصبح لغة التخاطب كلغة التكاتب، والكمال في ذلك مضمون كلما تسلسل الترقي في أبناء مصر واستوفوا نصيبهم من المعارف، ودأبوا على التحصيل والإتقان حبا بالعلم للعلم لا رغبة في نيل الشهادات والألقاب واعتلاء المناصب والمراتب فقط؛ وعندها يجلون عن أنفسهم ويقنعون من كانوا إلى أمس ينكرون، بعوامل جنسية أو دينية أو سياسية، فضل المصري في تقدمه أشواطا في طريق الحضارة العالمية.
وبعد؛ فلا علينا وقد أجملنا الأدوار التي تقلبت على ثقافة مصر أن نوجز في تعريف هذه النهضة الحديثة التي تمت في ظل الدولة العلوية الكريمة وفضل من اختارتهم من خيرة المصريين، وما جماع ما يقال فيها إلا أنها إصلاح ثقافة قديمة، واقتباس ثقافة حديثة ضمت إلى جملتها، فكانت سيرة الدولة المصرية في هذا الشأن سيرة الدولة العباسية في أول أمرها؛ ارتقت فيها العلوم النقلية والعلوم العقلية معا، ونظرت في عامة علوم الدين وما ينبغي لها، واقتبست علوما مادية كانت راسخة عند من تقدموها في الأخذ بمذاهب الحضارة؛ فصح أن تدعى الثقافة المصرية الآن ثقافة عربية غربية إسلامية تحس فيها روح العرب وروح الغرب وروح الإسلام وفيها أثر حكمة القدماء والمحدثين، ومن كل معنى طرب.
تمازج الحضارتين العربية والغربية
أثر العرب في الأندلس وصقلية وما إليهما
لما بدأ العرب بفتوحاتهم في الإسلام فقضوا على فارس، واقتطعوا من بيزنطية مملكة الروم الشرقية، الشام ومصر وسواحل إفريقية؛ كانت فارس والروم أقوى دول العالم وأكثرها حضارة، وكان العرب شبه متحضرين يتعلمون ممن غلبوهم ما يصلح الملك والسلطان. وما انقضى ثمانون سنة على خروج العرب من جزيرتهم حتى أضافوا ما عرفه المغلوبون إلى ما عرفوه هم من أساليب الحرب والإدارة، فرأيناهم وقد مكن لهم في الغرب يستولون على الأندلس ويتوسعون في فتوحهم جنوبي فرنسا.
وبينا كان بنو أمية في الشام يديرون ملكا عظيما، ويضعون أسس المدنية العربية بنقل العلوم المادية عن السريانية والقبطية والرومية، ويعنون كل العناية بتدوين العلوم الدينية والأدبية، وقد بدأت طلائع الحضارة في البلاد التي أظلها سلطانهم؛ كانت بلاد الغرب اللاتيني في أحط دركات المدنية، بل كانت إلى همجية مرمضة، تعد بداوة العرب في جزيرتهم قبيل الإسلام مدنية إذا قيست ببداوة الغرب، بلى، كان الناس يعيشون في بلاد اللاتين والأنجلو سكسونيين والجرمانيين والصقالبة في توحش مدلهم، وأوروبا غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، والمستنقعات في كل ناحية تحصد الأرواح، والوبالة والأوبئة تغادي تلك الشعوب القذرة وتراوحها، لا يعرفون البيوت الصحية، ولا الفرش الوثيرة، تنام الأسرة كلها في غرفة واحدة على فرش من تبن أو نبات مجفف ، وهي إلى الفطرة بعاداتها وأكلها وشربها ولباسها ومجالسها، وبيوت لندرا وباريز أكواخ صغيرة بنيت من أحجار مضفورة مصفوفة كيفما اتفق، وهناك قلاع وأبراج وكنائس لا هندسة لها.
وليس في الغرب شيء اسمه أمن وأمان، يقضى على كل إنسان أن يكون على استعداد في كل حين ليرد الأشقياء عن داره وحقله، وفي غدوه ورواحه، فلا ينام إلا وسلاحه إلى جنبه، ولا يستطيع المرء أن يسير فراسخ قليلة دون أن يستهدف للقتل أو السلب، وقد جعل بعض أرباب القوة من نهب عروض الناس في الطرق مهنة لهم يعيشون منها، يقتلون ويقتلون، وما من حكومة قوية تناقشهم الحساب على ما تجني أيديهم؛ لأن الأمراء كانوا مع رجال الدين أشبه برؤساء عصابات منهم بزعماء بلاد، ولم تكن أوروبا كلها قد دانت بالنصرانية، بل كان من ممالكها من لم يزل على مجوسيته ووثنيته، والنصرانية دخلت المدن أولا وتسربت إلى القرى والدساكر بعد أزمان.
وبينا كان شارلمان أعظم ملوك الغرب أميا أو يقرب من الأمية، كان المنصور والرشيد والمأمون تترجم لهم كتب الطبيعيات والرياضيات والفلك والطب والفلسفة والصناعات، وبينا كان أهل غاليا أميين كلهم ما دونوا كتابا ولا أخبارا ولا عرفوا أدبا ولا شعرا، كان العرب قد أنشئوا في كل قطر نزلوه كتلا علمية، ومجالس أدبية، وأصبح عامتهم يقرءون ويكتبون، وخاصتهم ينظمون وينثرون ويخطبون ويؤلفون ويبحثون في العلم والفلسفة على طريقة أشبه بطرق أهل المدنيات الحديثة، على حين كان نبلاء القرون الوسطى في الغرب لا يمتازون عن الفلاحين بتهذيبهم وعلمهم، وكلهم أميون جهلاء قساة الطباع، يستحلون كل منكر لا هم لهم غير الشراب والطعام والصيد والغارات.
وبينا كان الغرب لا يعرف حياة الرفاهية، ومن أهله كسكان شلشويق (شلزويك هولشتاين) في الدانيمرك من كانوا كالوحوش يسترون عوراتهم بقطع من الجلود، شأن كثير من الشعوب في شرقي أوروبا وشمالها ولا يحسنون لفق الجلود ولا خياطتها أيضا، كان العرب قد دخلوا في مباهج الحياة ورفاهة العيش يلبسون ونساؤهم أجمل الأكسية من الحرير والقطن والصوف والكتان ينسجونها في معاملهم ويحوكونها على أنوالهم وهي وافية بحاجات الحضري والقروي منهم على اختلاف الفصول.
كان أول احتكاك مدني وقع بين العربي والغربي في آسيا الصغرى؛ لأنها كانت ميدانا للغارات بين العرب والروم منذ اقتطع العرب الشام من أملاك البيزنطيين، وحاولوا أن يتقدموا إلى فتح القسطنطينية، وتكون الغزوات بين الفريقين سجالا؛ فيأخذ كل فريق من الفريق الآخر أسارى، قد يقضون في بلاد عدوهم أعواما، فيتعلم العربي الرومية ويتعلم الرومي العربية، ويزور في أيام المهادنات والسلام بعض أهل الطبقة العالية والوسطى البلاد المجاورة، ويرى كل ما عند الفريقين من أسباب التفوق، وما خلت بلاده مما عند جاره من عوامل النهوض وأساليب القوة في الأمم.
ولما انبلج فجر القرن الثاني زادت ساحة أخرى لتعارف العربي بالغربي وهي ساحة جنوب أوروبا الغربية؛ أضيفت إلى ساحة جنوب أوروبا الشرقية بفتح العرب الأندلس سنة 92ه عندما قضوا على مملكة الويزغوت أو الغوط كما كان يطلق عليهم العرب، وانحاز الإسبانيون إلى شمال جزيرة أيبريا يعتصمون في جبال جليقية ويستأثر العرب بمعظم بلاد إسبانيا والبرتقال، يستصفونها من البحر الرومي إلى بحر الظلمات ويقرون أهل البلاد على قضائهم وإدارتهم ويعدلون فيهم ويقلدونهم بعض الأعمال الصغرى ينتهون منها إلى كبرياتها بعد زمن قليل. ومن عادة العرب إذا فتحوا قطرا أن يبقوا لأهله أوضاعهم ومصطلحاتهم وتراتيبهم وأن يحكموه لأول الأمر حكما أشبه بالحماية ثم يحيلونه ملكا صرفا، وهذا من بديع سياستهم، وكانت الجزية التي ضربها العرب على غير المسلمين زهيدة بالقياس إلى ما كانوا يستمتعون به من الراحة والهناءة، وقضت شروط الصلح أن يجعل على كل رجل حر بالغ دينار واحد في السنة وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير ومقدار من الخل والعسل والزيت وعلى العبد نصف ذلك، وأن تحفظ على أهل البلاد دماؤهم؛ فلا يسبون ولا يفرق بينهم وبين أولادهم ونسائهم ولا يكرهون على دينهم ولا تحرق كنائسهم.
وما عتم الإسبانيون والبرتقاليون أن شاهدوا الفرق المحسوس بين ثقافة العرب الغالبين وثقافة المغلوبين، وادعى بعضهم أن حضارة الأندلس كانت لا بأس بها بدخول العرب وفاته أن القوم نسوا لغتهم بمجرد استيلاء الغريب على إسبانيا؛ فما انقضت ثلاثون سنة على الفتح حتى أصبح الناس ينسخون الكتب اللاتينية بحروف عربية، كما كان يفعل اليهود بمخطوطاتهم العربية، وما مضى نصف قرن حتى دعت الحال إلى ترجمة التوراة والقوانين الكنسية إلى اللغة العربية؛ ليتمكن رجال الدين أنفسهم من فهمها، وما أتت على الفتح خمسون سنة حتى أصبح الناس كلهم يتكلمون بالعربية والعقود والمواثيق تكتب بالعربية حتى بين الإسبان أنفسهم، واتخذ النصارى من اللغة العربية ترجمانا لعواطفهم وقلوبهم، وأخذوا يحبون تلاوة قصائد العرب وقصصهم ويدرسون كتب علماء الإسلام وفلاسفتهم، لا ليردوا عليها، بل ليحلوا بها منطقهم، يقرءون العربية بلذة ويقتنون كتبها بالأثمان الغالية، يؤلفون منها خزائن نفيسة، ويذكرون في كل مكان أن آداب العرب مما يعجب به، وإذا حدثتهم عن كتبهم الدينية أجابوك بازدراء: إن هذه الكتب غير حرية بالتفاتهم، وما كنت تجد في ألف رجل من يكتب رقعة مناسبة باللغة اللاتينية، وأنت إذا كلفت أحدهم أن يكتب بالعربية تجد جمهورا يعبرون عن أفكارهم بهذه اللغة على صورة بديعة، وقد ينظمون من الشعر العربي ما يفوق بما فيه من الصناعة شعر العرب أنفسهم.
لم يمض قرن على فتح الأندلس حتى أخصبت القرى وكثرت المزارع واتصل العمران وتزاحم الناس بالمناكب في المدن، وغدت قرطبة عاصمة البلاد كعواصم أوروبا اليوم، تنار ليلا بالمصابيح يستضيء الساري بسرجها ثلاثة فراسخ، وكان من رجال الحسبة وهي أشبه بالمجالس البلدية ودواوين الشرطة اليوم، أن بلطوا الشوارع وأخذوا كل يوم يرفعون القمامات والقاذورات ويزال ضرر المجاري والقني لئلا يتأذى بها السكان، ولا يبني من يحب البناء إلا على طريقة هندسية يعينها له ديوان الحسبة؛ ليترك فراغا يتمتع به الجيران وأبناء السبيل، لا يمنع عنهم الشمس والهواء ولا تتضايق المارة مهما كثر سوادهم، فقرطبة إذن أول مدينة في العالم كان لها مثل هذا النظام، وما لبثت أن غدت عاصمة علم وصناعة وفن وتجارة، وكعبة يحج إليها بعض النابهين من أهل الغرب ينظرون إلى تراتيب العرب وعدلهم وأحكامهم نظر الدهشة والاستغراب، ومثلها كانت طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس في الشمال والجنوب.
ونقل بنو أمية إلى الأندلس منذ كانت إحدى ولاياتهم، وبعد أن فتحها سليلهم عبد الرحمن الداخل الأموي فتحا ثانيا واستقل بملكها بعد تغلب العباسيين على دولة أهله في الشرق، أصولهم في الإدارة والأحكام والأوضاع وطرازهم في هندسة القلاع والجسور والدور والقصور والجوامع. وجعل العرب البيوت والمساكن في أرض الأندلس على الطراز الذي عرفوه في عاصمتهم القديمة دمشق؛ كأن تدخل البيت من دهليز طويل ينتهي بفناء واسع وسطه حوض ماء، وعلى جوانب صحن الدار غرف وأبهاء ومقاصير يأوي إليها أهل البيت في الصيف، وفي الشتاء ينزلون في الطبقة الثانية من الدار وفيها جميع المرافق، وفناء الدار غاص بالأزهار وبعض الأشجار المثمرة أو الملطفة للهواء، والدار طبقتان فقط، وتكون غرف الرجال ومثاوي الضيوف منعزلة عن غرف النساء، ولا يزال هذا الترتيب في البيوت محببا إلى الناس في الولايات المعروفة بالولايات الأندلسية إلى يوم الناس هذا يجددون أدرهم على هذا الطراز.
وأصبحت الأندلس على عهد عبد الرحمن الثالث الأموي عالم الملوك وحامي الآداب والعلوم والصنائع والتجارة، وعلى عهد أخلافه ولا سيما ابنه الحكيم الثاني، أحسن الممالك حضارة وعلما وحسن إدارة في القرون الوسطى، وما وسع المرابطين والموحدين، وإن كانوا من البربر، إلا أن يخدموا الحضارة العربية، بل إن الملوك من بني الأحمر لم يسعهم فيما بعد إلا أن ينسجوا في الأندلس على منوال الأمويين، كما لم يجد ملوك الطوائف والمتغلبون على الأطراف مندوحة من الجري على هذا المثال في خدمة العلوم والآداب، يغالون في اختيار خيرة العلماء والأدباء لتقليدهم الأعمال، ولقد وهت في الأندلس بعد بني أمية أمور كثيرة ولا سيما سياستها، ولم يضعف فيها العلم والصنائع والتجارة والزراعة، وكان ولاة الأمر إلى الخير في عامة أحوالهم؛ تقل الرشوة فيهم، ويبتعدون عن كل ما لا يعبث بأصل من أصول الدين في الجملة.
كان معظم ملوك الغرب على اتصال دائم بملوك الأندلس وأمرائها يوم كانوا لأول سلطانهم في عاصمة قرطبة، وكذلك لما ضغط عليهم ملوك قشتالة وقبعوا في عاصمتهم غرناطة، وما بقي من آثار العرب الكثيرة في جامع قرطبة وقصر الحمراء في غرناطة إلى اليوم دليل ناطق بما بلغته حضارتهم من مراقي الفلاح الباهر.
وأدخل العرب الذين جلوا إلى الأندلس وسكنوا المدن والأرياف سكنى دائمة، طرائق معيشتهم وأصول زراعتهم وصناعاتهم على النحو الذي ألفوه في المشرق؛ أدخلوا إليها كثيرا من أصناف الحبوب والبقول والأشجار وزرعوا الفلوات وأحيوا الموات وعمروا القرى والمدن، وأدخلوا إلى الأندلس معظم الصنائع وأخذوا يجرون المياه في بسائط الجزيرة بما أقاموه من الخزانات والنواعير، وبما عرفوه من أساليب الهندسة في تقسيم المياه، وأسداد بلنسية الباقية إلى اليوم شاهدة بتفننهم في أعمال الري والسقيا، وهي أثر من آثار نبوغهم في الهندسة. وغلب هذا العلم على أهل هذه الولاية حتى لنقرأ في تراجم الرجال أن فلانا إمام الجامع الأعظم كان مهندسا، وفلانا قاضي الجماعة أو قاضي القضاة كان مهندسا رياضيا.
وأمتع العرب أبناء البلاد من النصارى - وكانوا يسمونهم المستعربين كما يسمون المسلمين الخاضعين لإسبانيا المدجنين - بعامة حرياتهم يبنون ما شاءوا من بيع وكنائس ويعقدون مجامع أساقفتهم، وقد عقدوا سنة 782م مجمعا في إشبيلية وفي سنة 852م مجمعا في قرطبة، وكان رجال الدين من النصارى يدعون إلى دينهم في صميم بلاد الخليفة الأندلسي، وربما وقفوا على أبواب المساجد يتسقطون المسلمين ليبثوا دينهم بينهم، يتعرضون للقتل والإهانة حتى تكتب لهم الشهادة والسعادة بزعمهم، وإذا مر بهم المسلمون مروا كراما، وبلغ من سياسة العرب في الأندلس أنه إذا شجر خلاف بين مسلم ونصراني من الجند يعطى الحق غالبا للنصراني؛ فنشأت بذلك وحدة وطنية بين الغالب والمغلوب، وكان الغالب يومئذ في أقصى قمم عظمته وقوته.
ولقد علم العرب الشعوب النصرانية - كما قال العلامة جوستاف لبون - أثمن الصفات الإنسانية، وأعني بها التسامح، وما تناول التبدل الذي أدخلوه إلى الغرب الماديات والعقليات فقط، بل تعداها إلى تحسين الأخلاق، وكان العرب ينطوون على صفات فيها الكرم والإحسان، وفيها الشمم وعزة النفس، مما لم يكن له أثر عند غيرهم، وانتحل الإسلام كثير من الأندلسيين، وما كان لهم غير مصلحة ضئيلة في ذلك؛ لأن النصارى في الحكم العربي كانوا يعاملون كاليهود أيضا بقواعد المساواة، ولهم أن يتولوا جميع أعمال المملكة، وكانت تجري على سادات الإسبان أحكام الإسلام؛ فيختلطون بأشراف العرب، ومن ظل محتفظا منهم بدينه نسي عاداته، فصار يحجب نساءه كالمسلمين، ويقتدي بأزيائهم وألبستهم وعاداتهم في مآدبهم ورفاهيتهم ولذائذهم، ويزهد في اللغة اللاتينية ويجتهد في تعلم اللغة العربية. وتناسى الإسبان أصولهم واستعربوا بحضارتهم وأخلاقهم وأنشئوا يفصحون بالعربية، وصار الخلفاء يختارونهم عمالا لإدارتهم وأمناء لمشورتهم، يفضون إليهم بأسرارهم. وكان كثير من أذكياء الجلالقة والقشتاليين والليونيين والنافاريين، دع من كانوا في البلاد الواقعة في حكم المسلمين من أرض الأندلس، يتعلمون العربية ويقصدون الخليفة الأندلسي أو أحد رجاله يستخدمون في أرضه.
وتزوج العرب من البنات الإسبانيات والبرتقاليات، وشاع هذا الزواج بين العرب، وأمسى ملوك النصارى على عهد انقسام الأندلس بين ملوك الطوائف يتزوجون من بنات أمراء المسلمين؛ فقد تزوج ألفونس السادس بزايدة ابنة أمير إشبيلية، وعقد مثل هذا الزواج غير مرة وكان عدد المتزوجات من الإسبانيات والبرتقاليات من المسلمين وعدد المسلمات المتزوجات من الإسبانيين والبرتقاليين آخر أيام الأندلس كثيرا جدا، حتى جرى لذلك كلام في الشروط التي تمت بين الغالب والمغلوب.
ومن العرب من آثر زي الإسبانيين من الملابس والسلاح واللجم والسروج، وكلف بلسانهم، وكثير من أهل الطبقة العالية من المسلمين كانوا يعرفون لسان جيرانهم ويتشبهون بهم في الأكل والحديث وكثير من الأحوال والهيئات، وكان بعض ملوك بني الأحمر يتزيا بزي الإسبان وكذلك أجنادهم، وذكر العلامة ابن خلدون أن الأندلسيين لعهده أخذوا يتشبهون بأمم الجلالقة في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت، وعد ذلك من علامات الاستيلاء، ولقد قالوا إن عزيز بن خطاب، وكان من أكابر العلماء، لما ملك على مرسية، استمع خطبة الخطيب حاسر الرأس على مثال ملوك الإفرنج، وكذلك كان ابن هود يسير في بلاده حاسرا، وعلى هذا درج بنو الأحمر، وكان يسمح لعلماء المسلمين هناك أن يرخوا ذوائبهم على مثال رجال الفنون والأدب من الإسبان، وأخذ النساء والبنات المسلمات يقلدن الإسبانيات في العهد الأخير بملابسهن وبالسفور أو الحجاب الخفيف. وبلغ من تسامح أمراء المسلمين في الأندلس أن منذر بن يحيى صاحب سرقسطة وذواتها أجرى إصهار ريمند الجليقي وشانجة القسطلي من ملوك الإسبان على يديه، وكتب عقد النكاح بينهما بحضرة سرقسطة في حفل من أهل الملتين، وذكروا أن بعض ملوك الأندلس كانوا يعرضون في قصورهم التماثيل الجميلة وفيها صور الآدميين وغيرهم.
كانت الأندلس العربية البلد الوحيد في الغرب الذي كانت فيه حقوق اليهود مصونة من جور الجورة، فانهالوا عليها من كل فج وكثر فيها سوادهم، ومنهم من انصرف إلى خدمة الدولة أو تعلم العلوم كالطب ونحوه، ومنهم من انتفع بما ربطته حكومة الأندلس مع البلاد المجاورة من الصلات التجارية؛ فكانوا من أول التجار الذين تسافر متاجرهم مع متاجر العرب والبربر وغيرهم على الأساطيل التجارية مقلعة من مالقة والمرية ولشبونة وبرشلونة تحمل إلى الشرق وإلى شمالي إفريقية وجنوبي أوروبا غلات الأندلس، وتأتي إليها بغلات البلاد القاصية، وبعد انقضاء عقود من السنين كان الفضل لبعض علماء اليهود في الأندلس بنقل الحضارة من العربية إلى العبرانية واللاتينية، فحملوا علم ساداتهم بالأمس إلى من لم يلقوا منهم في معظم الأدوار إلا العنت والإرهاق، ورب كتاب ضاع أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية أو العبرانية على نحو ما كان من السبعين كتابا التي نقلها في مدينة طليطلة من العربية إلى اللاتينية جيراردو دي كريمونا في القرن الثاني عشر وهي في الهيئة والنجوم والهندسة والطب والطبيعة والكيمياء والفلسفة.
وعدن عرب الأندلس المناجم على اختلاف ضروبها، فكانوا يبعثون بما يستخرجونه من أرضهم ويصنعونه من السلاح في معاملهم، وبالحرير والجوخ والجلد والسكر والورق إلى إفريقية وسائر بلاد المشرق والمغرب، واشتهرت معامل الورق في شاطبة اشتهار قرطبة بجلودها وسلاحها وحليها، وإشبيلية بحريرها، ومالقة بزجاجها، والمرية بوشيها وديباجها وجوخها، وباجة بنسج كتانها، وسرقسطة بسلاحها، ورية بسجادها، وطليطلة ومرسية بأسلحتها، وكانت أوروبا الغربية تأخذ ورقها من الأندلس ، وأوروبا الشرقية تستبضعه من معامل دمشق وحلب وطبرية وطرابلس من الديار الشامية، وحمل العرب إلى الغرب من جملة الصنائع صناعة السجاد وصناعة السفن؛ فجعلوا في كل فرضة من مواني الأندلس على البحر الرومي وبحر الظلمات دور صناعة تخرج لهم السفن الوافية بالغرض في تلك العصور، فكان الانتفاع من البر والبحر على أتم حالاته، وكانوا يستخرجون من دابة تحتك بحجارة على شط البحر في شنترين وبرا في لون الخز لونه لون الذهب وهو عزيز قليل تنسج منه ثياب فيتلون في اليوم ألوانا، ويحجز عليها ملوك بني أمية فلا تنقل إلا سرا، وتزيد قيمة الثوب على ألف دينار لعزته وحسنه، وبلغ من غرام ملوك غرناطة بالعلم أن فرضوا جوائز للمخترعين لينشطوهم ويلقوا المنافسة بينهم، وربما ميزوهم بامتيازات خاصة، وجازوا بالمال الكثير من يستظهرون كتابا يعينونه لهم في الفن الفلاني. وكما كانت للأندلسيين مجامع علمية تجتمع في أوقات مخصوصة من السنة، كان علماؤهم يؤلفون رسائل يفهمها كل إنسان تكون له عونا على الانتفاع بالأعمال العامة؛ أي دساتير سهلة التناول يتدارسها الصناع والعملة فتفيدهم فيما هم بسبيله.
وانتقلت بعض صناعات العرب وأساليبهم إلى فرنسا، ولا سيما في الزراعة وحفر الترع والخلجان ونظام الري، وكانوا أنشئوا الطرق والجسور والفنادق للسياح والمستشفيات والجوامع والرباطات في كل محلة ومنزل، ورأى الفرنسيس كيف عمر العرب ناربون وبروفنسيا لما استولوا عليهما وكيف نظموا أساليب السقيا فيهما، وأدخلوا أساليب عمرانهم إلى قرقشونة ونيم وأتون وسانس وأفنيون ومرسيليا وأرل وبردو، ومنها ما جعلوه قاعدة لأعمالهم الحربية والبحرية، ووقفوا عند حدود سبتمانيا أقاموا لهم فيها مراكز دائمة وعقدوا عهودا مع أهل البلاد، وكان رجال الكهنوت في تلك الأصقاع يؤثرون حكم العرب على حكم الغزاة من الجرمانيين؛ لأن هؤلاء ما كانوا يتحرجون من الاستيلاء على أملاك الكنائس، وأخذت الصلات العديدة تنعقد بين المسلمين والنصارى، ولما ارتد العرب عن إقليم سبتمانيا سنة 759م احتفظوا هناك بأملاكهم وبيوتهم.
كان اختلاط العرب بالإسبانيين والبرتقاليين والكتلانيين والفرنسيس والبشكنش
Les Basques
اختلاط محارب بمحارب؛ يعرفونهم لأول الأمر بغاراتهم، يأخذ بعضهم من بعض أسرى، فلما طال الزمن رأت تلك الأمم المضعوفة أنه لا مناص لها من أن تتعلم في مدارس الأمة المرهوبة، وهكذا كان، فإن كثيرين من نبهاء الإفرنج رحلوا إلى الأندلس يأخذون عن علمائها العلم ويقتبسون من أنوارهم، ومنهم أو من مشهوريهم البابا سلفستر الثاني (جربرت)، وقد درس الرياضيات والفلك عند علماء العرب في إشبيلية وقرطبة، فكان أعظم علماء عصره في قومه، ولما صعد الكرسي الباباوي سنة 999م كان أول الباباوات الذين وجهوا وجهتهم إلى توحيد قوى الغرب لمقاومة المسلمين في استعمارهم في الشرق والغرب، ومثله كثيرون ممن أخذوا عن العرب وكتبت لهم مكانة بما تلقفوه عنهم بين قومهم.
وذكروا أن شانجه أمير ليون كان يستشير أطباء العرب، وأطباء العرب من الأندلسيين هم الذين نقلوا الطب إلى فرنسا في زمن أنشأ فيه الأندلسيون في كل ناحية من بلادهم المدارس وخزائن الكتب والجامعات العلمية في العواصم وغيرها، فكانت مواطن العلم في الغرب زمنا طويلا، ومنها اليوم سلمنكة عاصمة العلم في إسبانيا، وقلمرية عاصمة العلم في البرتقال، على نحو ما نشهد لعهدنا مدينة ليبسيك في ألمانيا وأكسفورد في انجلترا. وزالت الأمية في الأندلس بما أنشأ الملوك من المدارس، وكان في قرطبة عشرات من الكتاتيب للفقراء فقط، وأصبح الرجال والنساء على السواء يكتبون ويقرءون، بل ربما كان من أبناء الفلاحين من ينثرون وينظمون.
وأخذ الإسبان عن العرب في الأندلس وصقلية معنى الشعر وبعض أوزانه وموضوعاته، ولم يكن للشعر الغربي إلى عهد العرب شاعر إفرنجي يرفع الرأس، ما خلا أغاني هي أشبه بشعر العامة منها بشعر الخاصة، واحتذى الإسبانيون حذو العرب في القصائد التاريخية والمواليا، ونمت رياض الأدب الغنائي فتفشت عدوى الاشتغال بالأدب العربي بين أساقفة النصارى المستعربين، وراحوا يقرضون الشعر بلغة عربية عالية، وكثير من قصائد الشعراء الذين كانوا يجوبون في الولايات «تروبادور وتروفير»
1
هي قصائد عربية، واقتبس دانتي شاعر الطليان كثيرا من أفكار العرب في روايته «المهزلة الإلهية»، وخصوصا عن أبي العلاء المعري، وتأثر الأدب الروائي والشعر الإسباني بالأسلوب العربي، وأخذوا عن العرب أوزان التفاعيل الثماني، والأغاني الإسبانية القديمة منتحلة من دواوين شعراء العرب إلى غير ذلك، ثم إن إسبانيا تأثرت أيضا بالموسيقى العربية، وما زالت الموسيقى الإسبانية في إسبانيا وجميع البلاد التي استولت عليها في سالف الدهر، ولا سيما الأرجنتين والبرازيل، هي الموسيقى العربية، بل سرت هذه الموسيقى إلى البيع الإسبانية، وما كانت ألحانها إلا عربية في القرن الثالث عشر للميلاد. وكذلك يقال في الرقص، فإن الرقص الإسباني إلى اليوم هو بالرقص العربي أشبه، وبإيقاعه وتلاحينه أعلق، وهكذا يقال في كثير من أدوات الموسيقى الإسبانية؛ فإنها أو أكثرها مما اقتبسوه عن العرب، وهؤلاء جاءوا بها من الحجاز وهذه نقلتها عن فارس وعن الروم.
ويقول الإسبان اليوم إنك إذا أنصت للغناء في شوارع قرطبة وإشبيلية وغرناطة توقن أنه غناء عربي، وإذا طعمت في دار أندلسية تجد الطعام طعاما مغربيا، وإذا شهدت من يجلسون إلى خوان في مقهى تحصي لهم عادات أهلية خاصة، وإن جميع حياة الأندلس تذكر بالأمة العربية القديمة، وإن الحدائق والحقول تسقى من ترع وقني عربية، وإن الموسيقى عربية، وهناك صناعات صغيرة وتجار صغار وقوافل من الحمير والأتن تجتاز الأزقة على نحو ما هي في البلاد العربية، وإذا استمعت من بعد إلى تلفظ أهل تلك المدن الأندلسية يتكلمون بالإسبانية تحسبهم يتكلمون بالعربية لا بالإسبانية، أما هندستهم وشوارعهم وأحياؤهم وقني بيوتهم، فهي عربية صرفة على مثال ما هو من نوعها في دمشق وتونس.
ويقول لبون إن تأثير العرب في الغرب كان عظيما، وإليهم يرجع الفضل في حضارة أوروبا ولم يكن نفوذهم في الغرب أقل مما كان في الشرق ولكنه كان يختلف عنه. أثروا في بلاد المشرق بالدين واللغة والصنائع، أما في الغرب فلم يؤثروا في الدين، وكان تأثيرهم في الفنون واللغة ضعيفا، وعظم تأثيرهم بتعاليمهم في العلم والآداب والأخلاق، ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير الذي أثره العرب في الغرب إلا إذا مثل لعينيه حالة أوروبا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة، وإذا رجعنا إلى القرنين التاسع والعاشر من الميلاد يوم كانت المدنية الإسلامية في إسبانيا زاهرة باهرة؛ نرى المراكز العلمية الوحيدة في عامة بلاد الغرب عبارة عن مجموعة أبراج يسكنها سادة نصف متوحشين، يفاخرون بأنهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون. وكانت الطبقة العالية المستنيرة في النصرانية عبارة عن رهبان فقراء جهلة يقضون الوقت بالتكسب في أديارهم بنسخ كتب القدماء ليبتاعوا ورق البردي لاستنساخ كتب العبادة.
قال: وطال عهد الجهالة في أوروبا وعم تأثيره بحيث لم تعد تشعر بتوحشها ولم يبد فيها بعض ميل للعلم إلا في القرن الحادي عشر، وبعبارة أصح في القرن الثاني عشر. ولما شعرت بعض العقول المستنيرة قليلا بالحاجة إلى نضو كفن الجهل الثقيل الذي كان الناس ينوءون تحته طرقوا أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه؛ لأنهم وحدهم كانوا سادة العلم في ذلك العهد. ولم يدخل العلم أوروبا في الحروب الصليبية كما هو الرأي الشائع، بل دخل بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا، وفي سنة 1130م، أنشئت مدرسة للترجمة في طليطلة بعناية رئيس الأساقفة وأخذت تنقل إلى اللاتينية أشهر مؤلفات العرب، وعظم نجاح هذه الترجمات وعرف الغرب عالما جديدا، ولم تفتر الحركة في هذه السبيل خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر. ولم تنقل إلى اللاتينية كتب الرازي وأبي القاسم وابن سينا وابن رشد وغيرهم، بل نقلت إليها كتب اليونان أمثال جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو وأقليدس وأرخميدس وبطليموس، وهي الكتب التي كان المسلمون نقلوها إلى لسانهم.
أصبحت اللغة العربية منذ النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في العالم المتمدن، وحافظت على مرتبتها الأولى بين سائر اللغات إلى آخر القرن الحادي عشر، وكان يقضى على كل من يحب الاطلاع من أهل القرن الحادي عشر على آراء عصره أن يتعلم اللغة العربية؛ ولذلك قالوا إن كثيرين من زعماء النهضة كروجر باكون وغيره كانوا يعرفون لغتنا. وكان ملوك الأندلس يفاوضون جيرانهم باللغة العربية، وهؤلاء يجيبونهم بها على لسان تراجم لهم يجيدون العربية، ويقضى على أكثر سفراء الإفرنج عند ملوك الأندلس أن يلموا ولو إلماما خفيفا بلغة العرب.
وبعد أن أخذ الغرب العلم عن كتب العرب وقلدهم في مخابرهم ومعاملهم وجامعاتهم ومدارسهم، وقرئت كتبهم وعلومهم في جامعات الغرب مدة ستمائة سنة ودام ذلك إلى القرن الثامن عشر؛ لا نستغرب أن تدخل في جميع اللغات الغربية الألفاظ العلمية العربية ولا سيما في الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتقالية، وفي كل لغة من هذه اللغات اللاتينية بضعة ألوف من الألفاظ العربية، أخذوها مضطرين عن العرب؛ لأن هؤلاء احتلوا بلادهم أو أماكن منها، بل لأن العلم العربي كان وحده هو المتفوق في العالم، وكان العرب دعاته ورعاته خلال بضعة قرون.
نعم، لم يجد العلم ملجأ أمينا له غير العرب في تلك القرون، وهذه فرنسا لم تنهض من كبوتها بعد غارات البرابرة إلا بعد ثمانية قرون وذلك بفضل العرب، ومن علماء فرنسا من يعز عليهم الاعتراف بهذه الحقيقة، وبينا كانت المدنية الإسلامية زاهرة، كانت فرنسا في أحط دركات التأخر، ولم ينتشر الطب والصيدلة في ربوعها إلا بمساعي أطباء اليهود الذين اعتصموا بإسبانيا ثم بإقليم لانكدوك بعد القرن الحادي عشر، وفي لانكدوك أنشئوا عدة مدارس ومنها مدرسة مونبلية، واضطرت بعض الأمم الغربية أن تحمل بعض أبنائها على تعلم اللغة العربية، وأسست جنوة مدرستها لتعليم العربية سنة 1207م، ورأى ملوك قشتالة بعد وقعة العقاب التي كتب فيها النصر للإسبان على العرب، أن لا يقاطعوا الماضي القديم وأنهم في حاجة إلى أن يتعلموا من معلميهم القدماء من العرب، فحاول ألفونس العاشر أن يعمل لإسبانيا النصرانية ما عمله العرب لإعلاء شأن الإسلام، وذلك بالأخذ من أحسن ما في الحضارتين الإسلامية والنصرانية ومزجهما بالحضارة الإسبانية؛ فأسست سنة 1254م في إشبيلية مدرسة عامة لاتينية وعربية، واستدعى الملك إلى عاصمته العلماء من جميع الملل والنحل ليؤسس مدرسة طليطلة الثانية يجمع فيها بين الأوضاع العربية وغيرها. وقضى مجمع فينا الديني سنة 1311م أن تؤسس في باريز وأكسفورد وبولون وسلمنكة دروس عربية لتنصير المسلمين، ودروس عبرانية لتنصير اليهود، وعنيت إيطاليا منذ ذلك العهد عناية خاصة بالعربية ترى تعليمها من الضرورات لكل تجار المدن البحرية، وكان من ذلك أن احتكرت البندقية تجارة أوروبا مع الشرق، واستأثرت بتجارة آسيا الصغرى، وتمت للبندقية وبيزا وجنوة وطسقانة معرفة الشعوب الإسلامية أكثر من عامة أهل أوروبا، وكان من العادة الجارية في طبقة التجار من أبناء البندقية أن يتكلموا بالتركية والعربية، ويأخذوا أنفسهم ببعض العادات والأنسة بالمصطلحات الشرقية، وملك البيزيون والجنويون والبنادقة أملاكا مهمة في الشواطئ الشرقية من البحر المتوسط وفي غيرها، وامتزجوا بأهل البلاد، وتأخرت الممالك الأخرى في تلقف العربية إلى القرن السابع عشر والثامن عشر.
أصبح البحر الرومي بما فتحه العرب من شواطئه بحرا عربيا في أوائل القرن الثالث؛ وذلك لأن شواطئ إفريقية وإسبانيا وكثير من الجزر كجزائر منورقة وميورقة ويابسة المعروفة بجزائر الباليار أو الجزائر الشرقية وغيرها قد دخلت في حكمهم، ولما فتحوا في سنة 212ه جزيرة صقلية، وكانوا غزوها غير مرة منذ أخذوا يسافرون على سفنهم على عهد الخليفة الثالث، وأتبعوها بجزيرة سردانية وغيرها؛ تراجعت سفن الروم إلى المواني القريبة من بلادهم، وامتدت غزوات العرب إلى بلاد أنكبردة أو لمبارديا وقلوية؛ أي كالابرا، من جنوبي إيطاليا، واستولوا على أكثر أصقاعها الجنوبية نحو تسع وعشرين سنة، ومن البلاد التي احتلوها احتلالا موقتا أو غزوها وتخلوا عنها، ريو والبندقية وطارانت وسالرن وأمالفي ونابل ورومية وجنوة، والغالب أن العرب في الولايات التي نزلوها من جنوبي إيطاليا لم يؤثروا بصناعاتهم وعلمهم، ولم يخلفوا أثرا من آثارهم كالنقود والرنوك والمصانع والجوامع على ما حقق ذلك العلامة نالينو.
أما في جزيرة صقلية، فإن العرب طالت فيها أيامهم إلى سنة 484ه وأثروا فيها أنواع التأثير؛ فتركوا لأهلها أولا عاداتهم وقوانينهم وحريتهم الدينية المطلقة، واكتفوا منهم بجباية قليلة كان مقدارها أقل مما كان يستوفيه اليونان منهم وأعفوا منها النساء والأولاد والرهبان، وحافظوا على جميع الكنائس الموجودة ولم يسمحوا بإنشاء غيرها، على خلاف ما جروا عليه في الأندلس، وعمدوا إلى الزراعة والصنائع فأحيوها، وأدخلوا أصنافا من الزرع لم تعرفها الجزيرة، ومنها القطن وقصب السكر والزيتون والبردي والكتان والمران، وأقاموا المجاري التي لم تبرح ماثلة للعيان، وعلموا الناس عمل القني ذات الأنابيب المعقفة (السيفونات ) وكانت قبلهم غير معروفة.
وأنشأت العرب في صقلية مصانع لصنع الورق ومنها انتشرت الوراقة في إيطاليا، وعدنوا مناجم الجزيرة وعلموا أهلها صنع الحرير، والغالب أن صناعة صبغ الثياب انتشرت في أوروبا من صقلية، ومن مصانع الصقليين كانت تصدر الأكسية المحلاة بالجواهر، والطنافس المصورة والمنقوشة، والجلد المدبوغ والحلي البديع. وبالإجمال، حمل العرب إلى صقلية مظاهر غريبة من فنهم وقناطرهم العالية الجميلة ونقوشهم من المقرنصات وجمال قاشانيهم ذي الميناء والفسيفساء المعمولة من الرخام الملون، وصورهم الجميلة وبهيج صناعاتهم، وما كادت أعلامهم تعلو هذه الجزيرة العظيمة حتى نمت التجارة وكانت قبلهم ضئيلة، وأنشئوا يقلعون على سفنهم إلى الجهات الأربع وكانت لهم حكومة ذات مجد ورقي، وكثر المسلمون فيها خلال قرنين حتى أصبحوا نصف سكان الجزيرة.
وسار النورمان على سياسة رشيدة لما استولوا على صقلية وقضوا على سلطان العرب فيها؛ فأبقوا المسلمين على عاداتهم ودينهم ولسانهم، واستعملوا منهم كثيرين في قصورهم وحروبهم، فكان منهم القواد والعظماء والعلماء في خدمة الدولة الجديدة، وبقيت لغتهم رسمية في الجزيرة مدة حكم النورمانيين، وتعلم ملوكها العربية ومنهم من برزوا فيها، ونظموا فيها الأشعار وطربوا لأدبها. وهكذا تخلق النورمان بأخلاق رعاياهم وعاملوهم معاملة نادرة في باب التسامح السياسي وعدم التحزب الديني في القرون الوسطى، حتى اتهم الباباوات أمراء النورمان بأنهم دانوا بالإسلام وما زالوا بهم حتى قضوا عليهم بهذه التهمة وغيرها.
كان روجر أول ملك نورماني استخلص صقلية من العرب هو واضع أساس هذا التسامح مع المسلمين، وهو الذي استقدم إليه من بر العدوة - وبر العدوة ما سامت الأندلس وصقلية من شمالي إفريقية، ويعنون بالعدوة المغرب الأقصى والأوسط والأدنى - الشريف الإدريسي وبالغ في إكرامه، وطلب إليه أن يبقى في صقلية وأن يحقق له أخبار البلاد بالمعاينة لا بما ينقل من الكتب، وندب لذلك أناسا ألباء وجهزهم «روجر» إلى أقاليم الشرق والغرب والجنوب والشمال وسير معهم قوما مصورين ليصوروا ما شاهدوه عيانا، فكان إذا حضر أحدهم بشكل أثبته الشريف الإدريسي حتى تكامل له ما أراد وجعله مصنفا سماه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، وهو من أجل كتب الجغرافيا التي بقيت من تآليف العرب، وعمل الإدريسي لروجر كرة أرضية من الفضة كانت من أجمل ما ابتدعته قريحة عربية، رسم فيها العالم ببحره وبره وجباله وسهوله وأنهاره وبحيراته ومدنه وممالكه.
كان تأثير العرب في صقلية بعلمهم أكثر من تأثيرهم بمبانيهم ومصانعهم، وكان الروح فيها عباسيا ثم فاطميا؛ لأن بني الأغلب أمراء إفريقية، أي تونس، للعباسيين تولوا ذلك منها أولا، ثم جاء الفاطميون فخضعت لسلطانهم، أما في الأندلس فكان الروح أمويا بحتا لا سلطان فيها لغير العرب، يقول العلامة آماري المستشرق الصقلي إن صقلية مدينة للعرب وإيطاليا مدينة لصقلية بابتكار الشعر الوطني، بمعنى أنه منذ قلد البلاط الصقلي البلاط الملكي الإسلامي بدأت العناية بقرض الشعر تلك العناية التي كانت السبب في نهوض الشعر الإيطالي. وقال رينالدي لم يساعد العرب فقط على إنهاض الشعر الصقلي والإيطالي، بل إنهم أمدوا القصص الإيطالية بشكلها ومادتها، وفي بلرم التي اتخذها العرب عاصمة صقلية وعمرت عمرانا غريبا، أنشأت العرب أول مدرسة للطب وما عهد مثلها في جميع أوروبا؛ فقد أنشئت مدارس الطب في الغرب بعد مدرسة صقلية العربية بأعوام، ومنها انتشر هذا الفن في بلاد إيطاليا، وساعد أن الباباوات كانوا رحلوا إلى أفنيون من أرض فرنسا فخلا الجو للعلم العربي، ثم تفرغ العرب بعد ذهاب سلطانهم من الجزيرة إلى العلم والتجارة، فكانوا نحو قرنين آخرين بعد خروج صقلية من أيديهم رجال المال والأعمال فيها، بل كانوا سادتها بالفعل، ومن كان له العلم والمال لا ينقصه شيء من القوى.
أخرجت هذه الجزيرة في العهد العربي عظماء من الرجال في العلم والأدب، وكان عددهم بالقياس إلى من أخرجت الأندلس قليلا، وقل فيهم النوابغ في علوم العقل على نحو ما كان في الأندلس، ولكن عمل صقلية في التمدين لم ينقص كثيرا عن الأندلس؛ فإذا كانت هذه الجزيرة غذت غربي أوروبا بضعة قرون بمدنيتها، فإن صقلية كانت مدة رسالتها ثلاثة قرون ترسل أشعة المدنية العربية إلى أواسط أوروبا. ولعل ما دعا صقلية إلى أن تكون دون الأندلس في هذا المضمار كون العرب فيها قلائل وأكثر من نزلوها من البربر، بخلاف الأندلس التي كان فيها العرب كثرة غامرة هاجروا إليها وطابت لهم مستقرا ومقاما.
وقصارى القول أن العرب في الأندلس وصقلية بما كان لعنصرهم من المرونة لتقبل كل نافع بقبول حسن؛ كتب لهم الإبداع في صنائعهم ومصانعهم وشعرهم وأدبهم وعلمهم وعملهم، كأن هواء الغرب علمهم أن يغيروا ما حملوا معهم من مدنية الشرق بما يلائم تلك البيئة الجديدة، وحببوا من دون إكراه ما نقلوه إلى أهل البلاد فطبعوهم بطابعهم وصاغوهم الصياغة التي لا تنافي تعاليمهم ونظمهم؛ فقربوهم من مناحيهم ومنازعهم ووقفوهم على سر حضارتهم وتفوقهم، وسرى النور من كل أرض احتلوها إلى أرض بعيدة عنهم، ومن شعوب تمثلوا فيهم بعض الشيء إلى شعوب ما وسعها إلا أن تجاريهم فيما لا يخرجهم عن الاحتفاظ بمقوماتهم من جنس ولغة.
أثر الحضارة العربية في الحروب الصليبية وأثر الحضارة الغربية على عهد الاستعمار
الحديث
لما صحت عزيمة البابا على إخراج العرب من أرض البرتقال، دعا الفرنسيس والإنجليز والنورمانيين والألمانيين والبلجيكيين إلى معاونة البرتقاليين لنزع سلطة العرب عن بلاد البرتقال، ولما أراد البابا القضاء على دولة الموحدين في الأندلس (605ه) نادى بالحرب المقدسة فخفت جيوش النصرانية من إيطاليا وفرنسا وألمانيا، واتحدت قواتها بقوات إسبانيا. ولما أزمع أن يأخذ القبر المقدس من أيدي المسلمين في فلسطين دعا النورمانيين والإيطاليين والفرنسيس والألمانيين والنرويجيين والسويسريين والإنجليز وغيرهم من شعوب الغرب إلى حمل الصليب والذهاب إلى أورشليم.
وفي سنة 490ه/1096م اجتمع مئات الألوف من غزاة الصليبيين في القسطنطينية، وبعد أن خربوها، وكان صاحبها حليفهم، ساروا إلى آسيا الصغرى فضلوا طريقهم، وأخذوا يخربون ويقتلون إلى أن بلغوا الرها وأنطاكية والمعرة فالقدس، وقتلوا من أهل هذه المدينة المقدسة فقط سبعين ألفا، ومن أهل المعرة مائة ألف، وظهروا بمظهر من التوحش لا يغبطون عليه، وملك المسلمون اعتدالهم فما خرجوا عن حدود شريعتهم فيما أمرت به من الرفق بالناس في دار الحرب ودار السلم، أما الصليبيون فارتكبوا كل محرم في دينهم بأن قتلوا المعاهد والمخالف، وقضوا على اليهود قبل أن يغادروا بلاد الغرب طمعا بأموالهم.
وظلت الحرب سجالا عشرات من السنين حتى قام صلاح الدين وقضى على الصليبيين في القدس، ثم قام من أخلافه ثم من المماليك المصريين من استأصلوهم في أدوار مختلفة. وبلغت الحملات التي وجهها الصليبيون على الديار الشامية ثماني حملات، منها ما عد جنده بمئات الألوف، وهلك من الفريقين خلائق يصعب إحصاؤهم، ورجع الغربيون ولم يربحوا من غزواتهم غير ما نحن ذاكرون من الفوائد المادية والمعنوية، وأخذ العجب المهاجم والمدافع مما رأى من عدوه، وأثبت الأول انحطاطه، وسجل الثاني ترقيه، رأى الصليبيون من حسن أخلاق نور الدين وصلاح الدين وغيرهما من أمراء المسلمين ما أعجبوا به؛ رأوا صلاح الدين يوم استرجاعه القدس يكتفي بأن يضرب على كل رجل منهم عشرة دنانير، وعلى كل امرأة خمسة، وعلى كل طفل دينارين، وعجز بعضهم عن أدائها فأدى أخوه أبو بكر بن أيوب فدية عن ألفي صليبي، ثم أعفى صلاح الدين كثيرين من هذه الغرامة، وأغضى عن جواهر الصليبيين وناضهم من الذهب والفضة، وعامل نساء الإفرنج معاملة لطف وظرف، وسهل سبيل الخروج لملكتين عظيمتين من ملكاتهم بما معهما من جواهر وأموال وخدم، وسمح للبطريرك الأكبر أن يسير آمنا بأموال البيع وذخائر الجوامع التي كان غنمها الصليبيون في فتوحهم الأولى؛ فأثرت هذه المحاسنة من صلاح الدين في جمهور الصليبيين. وظل الملوك والباباوات على عنادهم وعدائهم حتى قال شاعره عبد المنعم الجلياني من قصيدة يصف حرمة الصليبيين له:
فخطوا بأرجاء الهياكل صورة
لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
كان المسلمون مع الصليبيين أيام المهادنات على غاية اللطف والمياسرة، يضيفونهم ويكرمونهم ويعاملونهم معاملة حسنة؛ فامتزج الصليبيون في الشام امتزاجا دائما متصلا بأهل البلاد نصاراهم ومسلميهم، واعتمدوا عليهم في أعمال الزراعة وبناء الكنائس والقلاع، وجندوا كثيرين منهم في جيوشهم، ومنهم بعض نصارى لبنان، وكان منهم الأدلاء والتراجمة، وعاش الصليبيون بالقرب من أشراف المسلمين يتبادلون وإياهم فروض المجاملات ويعقدون معهم عهود الصيد، وأسر المسلمون كثيرا من الإفرنج وظلوا في أسرهم أمدا طويلا، فكانوا يعاملونهم أحسن معاملة ويمنحونهم قسطا وافرا من الراحة، فنشأت علاقات ود بين الفريقين، وكان اتجار كل فريق في أرض جاره من عوامل التعارف بين المسلمين والنصارى من أهل الغرب. وتزوج الصليبيون من غير جنسهم من الشاميات والأرمينيات أو من العربيات اللائي تنصرن، ونشأت صداقات بين أفراد الفريقين، عقبى المعاهدات التي عقدت بين المسلمين والصليبيين لاستعانة فريق بآخر ليقاوم له منافسا أو منازعا من أبناء دينه.
هذا قول مونرو، وزاد أن التسامح المتبادل دخل في الأخلاق؛ فكان النصارى يؤثرون استشارة أطباء المسلمين لتفوقهم على أطبائهم في علاج الأمراض ولتجافيهم عن استعمال السكين والمبضع في الجراحة، وقد وصف سفير الإمبراطور فريدريك بربروسا في عهد صلاح الدين معتقدات الإسلام وصفا حسنا، وأطرى روح المسامحة عند المسلمين وألمع إلى الحرية التي أطلقوها لأتباع كل دين. وقال إن أكثر المسلمين يكتفون بزوج واحد، وإن صلاح الدين كان محبوبا في الغرب لرأفته وكرمه بعد استيلائه على أورشليم، وكان شديد التسامح مشهورا بتأدبه. وكتب ريكولدوس في مدح المسلمين قائلا: ومن لا يعجب بمحاسنتهم وبخشوعهم في صلاتهم، ورحمتهم الفقير، وبتقديسهم اسم الله والأنبياء والأماكن المقدسة، وبحسن عشرتهم ولطفهم مع الغريب وباتفاقهم وتحاببهم.
ويؤخذ مما قاله ميشو ودروي وسيديليو ولافيس ورامبو وسنيوبوس ولبون وبتي وغيرهم من المؤرخين والحكماء أن الحروب الصليبية عادت على الغرب بخيرات لا تستقصى، ولو لم يكن منها غير تحطيم قيود التعصب الكنسي وما رآه الصليبيون عيانا من تسامح المسلمين وتساهل مشاهير أمرائهم لكفى في فائدتها. فانتشرت التجارة بعد الحروب الصليبية أكثر من انتشارها أيام المملكة الرومانية، وأخذت أوروبا عن العرب عادات الفضيلة والمدنية، وكل ما يهون الحياة ويحليها للأنفس، بدأت الصلات بين الغربيين والشرقيين بحرب بين المؤمنين، وانتهت بمسائل تكونت بين المتجرين، وتحضر الغربيون بامتزاجهم بالشرقيين، وأثر هذا الاختلاط في أفكار النصارى الدينية؛ فتحمسوا أولا للطعن والنزال، ولما شاهدوا المسلمين عن أمم ، ورأوا رجالا أشداء كرماء منورين أمثال صلاح الدين الذي أخلى سبيل أسارى النصارى بدون فدية، وبعث بطبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين ليداويه من مرضه، عندئذ بدءوا باحترام المسلمين.
كانت الحروب الصليبية من حيث غايتها الأولى عقيمة، فإن الصليبيين على ما بذلوا من الأموال، وأهرقوا من الدماء، رجعوا من الشرق بعد قرنين كاملين، بخفي حنين. وأفادت هذه الحروب من طريق آخر، فكان الاختلاط بالشرق عشرات من السنين من العوامل القوية في سرعة انتشار المدنية في أوروبا، وكان الشرق بفضل العرب ينعم إذ ذاك بمدنية زاهرة على حين كان الغرب لم يزل غارقا في التوحش، وقد استدللنا من مجموع أعمال الصليبيين أنهم كانوا في كل مكان إلى الهمجية حقيقة، ينهبون الأموال ويقتلون الأنفس، لا فرق عندهم بين عدوهم وصديقهم؛ خربوا في القسطنطينية أثمن كنوز العاديات اليونانية واللاتينية، ولم يربح الشرق باختلاطه بهؤلاء البرابرة من الصليبيين، بل خسر ونتجت من ذلك كراهته للغربيين كراهية دامت قرونا.
قبل الحروب الصليبية، كان لا يعرف الشرق العربي من الغربيين غير أفراد أذكياء رحلوا في التجارة، أو جاءوا فلسطين للزيارة، أو نزلوا الأندلس وصقلية يعجبون بما لا يعرفونه من حضارة وغضارة، وفي هذه الحروب عرفوا الشرق الإسلامي وكان الواغلون عليه من مختلف الطبقات، فرأوا المسلمين في عقر دارهم، وحققوا أنهم ممتازون بصفات حربية وأدبية واجتماعية، رأوا أمة تحررت من قيود الدينيين إلا قليلا، وأيقنوا أنها من غير الطراز الذي عرفوه من أجيال الناس، على حين كانت أوروبا تحت سلطة الكنيسة الرومانية، يتصرف الباباوات فيها بالأشباح والأرواح، ويقيمون في كل مكان حكومة وسط حكومة، تجبي أموالا من الناس وتعفي أملاكهم من الخراج، كما يعفى خدمتها من المحاكمة مع الناس، بل كثيرا ما كان يحاكم الشعب نفسه في الكنيسة، ولطالما كان الأسقف في أبرشيته خصما للحاكم السياسي ورقيبا عتيدا عليه. فكان البابا منذ القرون الوسطى - كما قال العلامة جول سيمون - لا يعد نفسه إمام الأحبار فقط، بل خليفة الله في الأرض، ليس بينه وبين الرياسة الملكية العامة إلا خطوة قصيرة، استعد لاجتيازها بالقول، ولم يدخر وسعا في تطبيق القول على العمل، فرأس الملوك وألبسهم التيجان ، ولم يفتأ اللاهوتيون والوعاظ يوطئون له أكناف هذه السلطة المدنية العامة؛ كأنهم بذلك يخضعون الملوك قاطبة لله الواحد القهار.
قالوا إن شعوب الغرب في القرن الثاني عشر كانوا في حالة بداوة وغباوة، وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر، وتسربت أولا إلى رؤساء الكنيسة والملوك، أصبحوا لا يرون الاغتراب عن مواطنهم، ولا أن يفارقوا مساقط رءوسهم، وعمت الصناعات وحسنت الزراعة، وانتشر العلم، وغدا ذكرى كل مدينة وكل أسرة، وتقاليد كل شعب وقطر، والألقاب والامتيازات والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها، كل ذلك قد غير من أخلاق الإفرنج، وبدل من ميلهم إلى حياة التنقل والارتحال، وجعلها صلات تربطهم بالوطن، وكتب التوفيق للملاحة في القرن التالي باكتشاف أمريكا، واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح؛ فنشأ من هذه المكتشفات تبدل كثير في التجارة، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة، وأنشأت المضاربات التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أمريكا والهند الشرقية، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية تسد مطامعهم، وتشبع نهمة التائقين منهم إلى المجد والثروة والمطوحات، فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب.
لما قفل الغزاة من الصليبيين راجعين إلى بلادهم، وقد أضاعوا من صيت فرسانهم، وفقدوا من شممهم وعزة أنفسهم لما حلوا غير أرضهم، أخذوا يقصون على بني قومهم أخبارا تناقض ما كان ينشره دعاة الحرب من رؤساء الكنيسة، من أن المسلمين جماعة من الوثنيين غلبوا على الأرض المقدسة، وأجلوا عنها دين التوحيد، ونفوا منها كل فضيلة، وأنهم وحوش ضارية، وحيوانات مفترسة؛ أخذوا يقولون لقومهم إن أعداءهم كانوا أهل دين وتوحيد ومروءة، وذوي ود ووفاء وحرمة، وإن ما كانوا اتهموا به غير صحيح، وإن دعاة الحرب المقدسة تقولوا عليهم ومزجوا أقوالهم في المسلمين بكثير من الأفاويه لتوافق روح ذلك العصر، والخصم قد يستحل لنفسه أن يقول في خصمه ما قاله مالك في الخمر.
وأهم ما استفاده الغرب من حروب الصليبيين واختلاط أهله بأهل الإسلام أن القابضين على زمام الأمر في الغرب لم يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة التي مضت قبل سقوط القدس بأيدي المسلمين يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة، ويحمسون الناس ليسيروا بهم على العمياء، يقتلون ويقتلون على غير فائدة محسوسة، ومن أعظم ما عاد على الغرب بالفائدة من هذه الحروب، أنه لم تعقد خلالها دواوين التحقيق الديني، ولم يحرق أحد بالنار، ولم تقطع الأعناق في سبيل الأفكار الدينية والعلمية؛ فكأن الجلادين تعبوا من قطع الرءوس وبسط العقوبات على الناس مدة ثلاثة قرون، وكأن رجال الدين والسياسة هادنوا العدو الداخلي لينالوا من العدو الخارجي، وكان المتهم في غضون انعقاد ديوان التحقيق، إذا حكم عليه بالقتل لا يدافع عن نفسه، وإن كان متقلدا سيفا، وذلك عملا بآية الإنجيل الطاهر: «إذا ضربك أحد على خدك الأيمن، فحول له الأيسر»، فكان المتهمون بالإلحاد يساقون من قبل كما يساق قطعان من الغنم إلى المجزرة، ساكنين عزلا من أسلحتهم مستسلمين للأقدار، وكان الوالي إذا أراد أن يجادل أحدهم بالبرهان على سبيل الشفقة لا يفهم ما يقول لأنه غبي جاهل.
وأدى الضغط على الناس في الغرب باسم الدين إلى قيام لوثيروس بعد حين، وكان سبب ثورته - كما قال العلامة جول سيمون في كتابه حرية الضمير - أن البابا أراد إنجاز كنيسة القديس بطرس في رومية، فنضب المال لديه، وعقد النية على بيع الغفران، فوزع عمالات العالم النصراني على بعض حاشيته، فجبوا جزءا من المال المفروض، وباعوا مجموع الريع من جباة متعهدين، ووقعت سكسونيا وجزء من ألمانيا في نصيب أخت البابا، فعهد إلى رهبنة الدومينيكيين أن يبشروا بالغفران لتثمير هذه التجارة، فاغتاظ لوثيروس من هذا الحيف، وكان صاحب إحساس وشرف، وطفق يثير الناس على الدومينيكيين لتعلقهم بخدمة صراف في عمل غير شريف، وأخذ يبحث عن معنى هذه التجارة، وعن قيمة هذا الإنعام في العالم الثاني، يبيعه البابا في الدنيا مقابل أسناد وسفاتج تدفع للجباة ووكلائهم، وحاولت الكنيسة الرومانية أن تدعو إلى نصرتها جميع الأمراء فلم تفلح، وكان من ذلك الإصلاح الديني المعروف، وتلك المذابح الدينية في معظم البلاد، على صورة لم يسبق لها نظير في الغرب ولا في الشرق، قال: وكان الباباوات مزجوا السلطة الروحية بالسلطة السياسية، وإن لم يخضع لهم جماع الأمراء والقياصرة المجاورين ممن دانوا بدينهم، وانتهت بهم الحال أن ادعوا العصمة واستهووا رعاياهم، وتصدى كثير من المصلحين قبل قيام لوثيروس وخلعه طاعة البابا لإصلاح الحال، فأميتت عقولهم، كما قام كثيرون قبل جاليله وديكارت، وكم من قرائح ضاعت، ومن أعمال علمية بارت، ومن بلغاء خابوا وما أسمعوا أصواتهم، ومن دهاة عجزوا وتضاءلوا! فالغربيون إذن أفادتهم حروب الصليب تنفيس خناق العلماء، والأخذ بالمخنق من بعض المتعصبين من الدينيين.
أما المسلمون فاستفادوا من الغربيين طريقة أخذ الأخبار من مصادرها، وكان الصليبيون في بدء الحرب الصليبية لا تخفى عليهم خافية من حال أعدائهم، فأتقن المسلمون بعد ذلك صناعة الاستخبارات بواسطة أصحاب البرد والأخبار، على ما كان الرسم في بعض الدول العربية السالفة، وعرف المسلمون أن الإفرنج أمم كثيرة العدد، أصحاب شدة لا يستهان بهم، ولو كانوا عرفوهم من قبل حق المعرفة، لعقدوا معهم معاهدات ومنحوهم امتيازات؛ أزالوا بذلك أسباب الشكوى التي اختلقت لإشهار هذه الحرب الزبون، ولما خربت الشام وهلك مئات الألوف من المسلمين عربهم وتركهم وكردهم، ومثلهم أو أكثر من حملة الصليب.
وعلمت هذه الحرب المسلمين أن حياتهم بالتضامن والانكماش، وكانوا قبلها متفاشلين متخاذلين، يعبث بعض الملوك بكيانهم، ويصرفونهم على هواهم لأغراضهم ومصالحهم. فما ارتضى الناس في هذا الدور من أرباب صناعة الملك إلا أن يكونوا جد كفاة لتولي رقاب الناس، ولقنت الحرب أهل الإسلام معنى الجامعة الدينية، وما يتوقع من أثرها في جهاد العدو ودفع صائله، وكانت العصبية العربية قد أصيبت بالضعف فحلت العصبية الدينية محلها، وبهذه الحروب المنوعة الأشكال والأجيال ظهر نبوغ المسلمين في الحرب والإدارة وظهر فيهم رجال كانوا في أخلاقهم ومضائهم على مثال أهل الصدر الأول من العرب وإن كانوا من أصول أعجمية.
قلنا إن الصليبيين خالطوا المسلمين، ومنهم تعلموا حياة الرفاهية وزهدوا في التبدي، وعرفوا أن البادية لا تقوم لها قائمة أمام الحضارة، وكان بعض شعوبهم استفادوا بملابستهم العرب في صقلية والأندلس، أما اختلاط الإفرنج في الحروب الصليبية فاستفاد منه خاصة الغربيين وعامتهم، ومن جملة ما استفادوه عادات شرقية كثيرة؛ ومنها الاستحمام والألبسة المسترسلة الفضفاضة، ونظموا فرسانا على الطريقة الإسلامية، ومنهم من تعلموا اللغة العربية وأتقنوها واقتبسوا من عادات المسلمين ما استحسنوه. قال لبون: إن النضال الذي ناضله الصليبيون في حملاتهم الأولى كان نضال عالم لم يزل على توحشه مع مدنية من أرقى المدنيات التي حفظ التاريخ ذكرها، واشتد ولوع الصليبيين بالزراعة والتجارة، وعرفوا أن في بلاد الشرق صنائع أرقى من صناعاتهم وزراعة ناجحة، وتجارات رابحة، ورقة شعور وعاطفة شريفة وتسامحا غريبا، فربطوا مع الشرق صلات تجارية نافعة.
ورأى الصليبيون في الشرق عناية المسلمين بالكتب، فطرسوا على آثارهم في اقتنائها ووضعها في بيوت ورفوف، وقيل إن سان لوي ملك فرنسا هو أول غربي حدثته نفسه بجمع الكتب ووضعها في خزائن على مثال ما رأى في مصر وتونس، ومن الصليبيين من أخذوا كتبا من الشام ومصر على أنها غريبة من الغرائب، ولما لم يكونوا على شيء من العلم أحرقوا خزانة بني عمار في طرابلس على أنها مصاحف قرآن، ولما نادى منادي النهضة في إيطاليا صحت همة الباباوات في القرن السادس عشر على اقتناء كتب العرب؛ فندبوا لذلك جماعة من رهبان الموارنة، فحملوا إليهم من أديار لبنان وغيرها ما كان فيها من كتب العلم والدين، وأخذت حكومات جرمانيا وهولاندا وإنجلترا وفرنسا وروسيا تجمع منذ القرن السابع عشر كتبا تبتاعها من البلاد الإسلامية بواسطة وكلائها وسفرائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين، وأخذ الأفراد من أبناء الغرب يحلون بعض رموزها أولا، ثم رتبوها في خزائن في دور كتبهم العامة للاستفادة، وكانت إسبانيا والبرتقال من أزهد الأمم في هذه الكتب العربية، أما إسبانيا فقد بقيت خمسين سنة بعد جلاء العرب عنها تحرق الكتب العربية حيث وجدتها من شبه جزيرة إيبريا ، وقد أحرق الكردينال كسيمينس في يوم واحد في ساحات غرناطة ثمانين ألف مجلد من كتب العرب ، وكان في الأندلس سبعون خزانة عامة للكتب ماعدا خزائن الأفراد، ولم تقم في البرتقال للمشرقيات العربية سوق حتى الآن، وليس عندها من الكتب العربية ما يذكر، هذا مع ارتباط جزء من تاريخها بتاريخ العرب، ولما نقلت بعض الكتب العربية إلى بعض اللغات الأوروبية، استفاد الغربيون منها فوائد جلى، واستفاد المسلمون تصحيح الأحكام القاسية التي كان يحكمها رجال الكنيسة عليهم وعلى دينهم.
ومن الفوائد التي عادت على أوروبا بالخير من الحروب الصليبية تحرير أصحاب الأرضين من رق الزعماء والأمراء، وانتقال الثروة من أيدي هؤلاء إلى أرباب الطبقات الوسطى والدنيا، فباع من باع من الكبراء ملكه، وابتاع من عمل بأرضه ومتجره وصناعته، فاغتنى واقتنى الرباع والضياع، واضطر سادة القرون الوسطى أن ينفسوا من خناق عبيدهم في أرضهم، وأن يبطلوا قانونهم البشع الذي يخول السيد في مقاطعته أن يقضي مع امرأة خادمه وعبده الليلة الأولى من عرسها، ويسمون ذلك حق التفخيذ
Droit de cuissage
ثم اكتفى السادة أصحاب الإقطاعات بأن يضعوا سوقهم في فراش عروس مقطعيهم ورقيقهم
Droit de jambage
إشارة إلى ما كان لهم من حق التفخيذ وأعفوا منه، ثم استعيض عن ذلك بضريبة وضعت على الزواج، ومنها تقوية السلطة المدنية ووهن السلطة الباباوية وضعف تأثيرات التعصب الأعمى، واضطرت الكنيسة الرومانية نفسها إلى إصلاح حالها، وكان بعض الباباوات يأتون الفترة بعد الفترة بما يخدمون به المدنية والعلم كالبابا ليون العاشر في القرن الثالث عشر، وهو من أسرة ميديسيس المشهورة بأفضالها على العلم والأدب؛ فإنه وسع نطاق الآداب، وبث العلم حتى عد عصره العصر الذهبي، وشابه عصر أغسطس من أكثر الوجوه، ودخل أيضا تعديل كبير على نظام الإقطاعات، واغتنت إيطاليا من متاجرها؛ فكان ذلك من بعض العوامل في ظهور شعلة النهضة الغربية منها بعد حين. وكانت إيطاليا في القرون الوسطى أكثر مدنية من جيرانها، وكذلك كانت بلاد القاع في الشمال، وشعر الناس بلزوم السير على فكرة أوروبية، وكانوا من قبل ممزقين مشتتين، وشهدوا في الشرق أنه كان من عدم الوحدة في قيادة جيوشهم إخفاق أمرهم، وكانوا من قبل لا يتضامنون ولا يتراحمون. •••
مضت على البشر عشرة قرون، وتاريخ اليونان هو تاريخ العالم، والمفكرون والعقلاء والأدباء والعلماء من أبنائهم، ثم نامت العقول عقبى قيام العرب، وأتم هؤلاء ما بدأ به اليونان من علم وصناعة واستعمار، فخلفوهم في ذلك وبذوهم في بعض المظاهر، ولما ضعف حكم العرب في الأندلس وشمالي إفريقية، بل في مصر والشام والعراق وما إليها، وأخذ سلطان العثمانيين يقوى في الجنوب الشرقي من أوروبا؛ قام البرتقاليون النازلون على شواطئ بحر الظلمات يلوبون على المال والمجد، وصادف أن قام منهم جماعة من الملاحين الأذكياء، وفي مقدمتهم فاسكو دي جاما، فاصطنعوا لهم أساطيل لم تلبث أن تفوقت على ما كان من نوعها عند الأمم الغربية الأخرى، وكشفوا على عهد الأمير هنري بن الملك جوان الأول البرتقالي في النصف الأول من القرن الخامس عشر طريق الهند بالطواف حول إفريقية الغربية والشرقية.
وكان هذا الأمير البرتقالي عالما باحثا انقطع إليه بعض علماء اليهود وعلماء من المسلمين من أهل فارس ومراكش المغاربة، كانوا يعدون لذاك العهد من أرقى علماء العالم، وأخذوا ينقبون في كتب العرب وغيرهم في علم الجغرافيا، حتى عرفوا أن في الإمكان الدوران حول إفريقية، وألفت البرتقال حملاتها البحرية بمعاونة ملاحين من العرب، ومنهم ابن ماجد البصري، والقواد من النصارى أمثال فاسكو دي جاما والبوكرك وماجللان، فنجحت أسفارهم البحرية وكانوا من قبل استولوا على معظم شواطئ الغرب الأقصى، وما زالوا يفتحون في طريقهم إلى رأس الرجاء الصالح المواني البحرية، وفتحوا ممبسة وزنجبار وموسامبيق وملندة وغيرها حتى وصلوا إلى مليبار، واتصلوا بجزائر الأبازير في الهند، وصار بحر الهند والصين تحت سلطانهم، لا شيء غير تجارتهم تنقل على سفنهم، ولا يستطيع إنسان أن يتجر بدون أمنهم وجوازهم، وذلك في الأصناف التي لا يريدون هم أن يتجروا بها لقلة الانتفاع بأرباحها الضئيلة، وهذا كان مبدأ اختلاط الغربيين بالشرقيين، ولا سيما بالعرب في مطلع القرون الحديثة، والحاصلات التي اهتم لها البرتقاليون بادئ بدء لاستبضاعها من الشرق الفلفل والقرنفل والزنجبيل والقرفة والبسباس، وأكثر ما كان البرتقاليون يهمهم أن يضربوا في تلك الأصقاع على أيدي تجار العرب؛ لأنهم كانوا مستأثرين بالتجارة أكثر من غيرهم من العناصر، على ما روى ذلك الشيخ زين الدين في كتابه «تحفة المجاهدين في بعض أحوال البرتكاليين».
وأدرك البنادقة، وكانوا سادة التجارة في البحر المتوسط، عظم الخطر على تجارتهم، فحثوا السلطان الغوري من سلاطين المماليك في مصر والشام على حرب البرتقاليين في البحر الأحمر والمحيط الهندي؛ لينقذوا تجارتهم وتجارة مصر معا، وأرسل البنادقة الأخشاب تنقل من بلاد البنادقة في المراكب إلى الإسكندرية، ومنها على متون الجمال إلى السويس، ويتولى صنعها أناس من البنادقة حتى تستوي سفنا صالحة، وحارب المصريون جماعات البرتقاليين ومعهم أناس من البنادقة والجنويين والبيزيين من الطليان ممن كان استعمارهم في شواطئ البحر الرومي استعمار استثمار كالاستعمار الفينيقي والقرطاجني، أما استعمار البرتقاليين والإسبانيين ثم الهولانديين والبريطانيين والروسيين والفرنسيس والبلجيكيين فكان كالاستعمار الروماني واليوناني عبارة عن فتح واستيلاء واستيطان وامتلاك المتاجر والزراعات، ونشر لغة وعادات، وبث مذاهب وتعاليم.
كانت التجارة في كل دور من أدوار حضارة البشر تشغل بال الأمم وتعنى برواجها الحكومات، تسلك إليها كل سبيل؛ فقد كانت تجارة الشرق والغرب منحصرة بادئ بدء بآسيا الصغرى في الأصقاع الممتدة بين البحر المتوسط من الغرب، وسهول أرمينية من الشمال، وسفوح جبال إيران من الشرق، والخليج الفارسي وشبه جزيرة العرب من الجنوب، وكانت آشور مخزن محاصيل تلك البقاع لموقعها الجغرافي، وكانت المدينتان العظيمتان، نينوى على دجلة وبابل على الفرات، تتوليان كبر التجارات الصادرة والواردة.
ولما هب العرب للاستعمار أظهروا لينا وسماحة مع الأمم كلها، واستعمارهم أشبه بالاستعمار الروماني واليوناني، وما لبثوا أن منحوا ملاحين من الطليان امتيازا بالاتجار أحرارا في شواطئ بلاد المغرب؛ فكانت تباع في إفريقية منسوجات نابل، ثم تحولت تجارة الهند عن طريق بغداد، وأنشأت تسير توا إلى البحر الأحمر، وأصبحت مواني المغرب مراكز للملاحة بين مصر وإسبانيا، ولم يحدث من الحروب الصليبية غير اضطراب خفيف في العلائق التجارية، فأورثت التجارة الأوروبية نهضة جديدة أطلعت الغربيين في الشرق على طرق لم يكونوا يعرفونها، وعقد شارل السادس محالفة تجارية مع تيمورلنك التتري، وعقد شارل السابع محالفة تجارية مع سلطان مصر وملوك قرمان وتونس وبجاية وفاس ووهران.
وكانت مراكب بارة (باري) تسافر إلى مواني الشام قبل الحرب الصليبية، وقد عقد أمراء سالرن ونابل وجايت وأمالفي في سنة 875م معاهدة مع العرب، كما عقد صلاح الدين وجمهورية بيزا معاهدة سنة 569 / 1172 منح بها البيزانيين عدة امتيازات خاصة بالتقاضي، وحصل الفلورنتيون أهل فلورنسة من قايتباي سلطان مصر والشام على عدة امتيازات؛ وكانت هاتان المعاهدتان من أوائل ما منحه الأوروبيون من الامتيازات الأجنبية في الشرق، وعقدت عدة معاهدات مع الملك الأشرف والصليبيين (684ه) والريدراغون صاحب برشلونة 692، وفي كتاب الشروط والعقود السياسية بين ملوك بيسه (بيزا) وفلورنته (فلورنسة) وبين ملوك المسلمين في تونس والمغرب الأقصى؛ إن هذه المعاهدات بدأت من منتصف السادس من الهجرة وكان آخرها في سنة عشر وتسعمائة، وملك أزمة التجارة مع الطليان الكتالانيون والبروفانسيون والقبرسيون والرودسيون، وكثر قناصل الدول التجارية من أهل الغرب في مدن الشرق، وكثر الاتجار بالرقيق، وكان جميع أمم الأرض تتجر بهذه التجارة الممقوتة، يستخدمون من يسترقونهم آلات للعمل ويمنعون عنهم في دولة الرومان تعلم القراءة والكتابة، ولم يكن هذا الصنف المغموط الحق يعامل معاملة حسنة في الدول الأوروبية الحديثة. يقول هيد: وقد حدا حب الربح تجارا من النصارى أن يبيعوا أبناء دينهم بيع الرقيق من عرب إسبانيا وإفريقية والشام، فاتخذ شارلمان والبابا زكريا وأدريانوس الأول الأسباب لمنع هذه التجارة غير المحللة.
قام الإسبان ثم الهولانديون يستعمرون بعد البرتقاليين إلا أنهم لم يستعمروا بلاد العرب، بل وجهوا وجوههم إلى أمريكا الجنوبية وسواحل الهند وجزائر جاوة وصومطرا، ثم قام الفرنسيس والإنجليز بعد ذلك فوجهوا وجهتهم إلى الشرق، وكان أول من وصل من الغربيين إلى الشرق العربي جيش نابوليون يفتح مصر في سنة 1798؛ فاختلط الفرنسيس بالمصريين والمصريون بالفرنسيس، وكان هؤلاء لم يهبطوا مصر منذ أسر ملكهم سان لوي في الحملة الصليبية السابعة في وقعة دمياط والمنصورة، وقيد وحبس في دار كاتب الإنشاء فخر الدين بن لقمان ووكل به الطواشي صبيح المعظمي (648ه) ثم افتدى نفسه بثمانمائة ألف دينار وعاد إلى بلاده، فبلغ أمراء مصر أنه أخذ في الاستعداد ليعود فيملك دمياط، فكتب إليه الوزير جمال الدين بن مطروح أبياتا تنم عن روح العصر وهي قوله:
قل للفرنسيس إذا جئته
مقال صدق من قئول فصيح
آجرك الله على ما جرى
أفنيت عباد يسوع المسيح
أتيت مصرا تبتغي ملكها
تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهم
ضاق به عن ناظريك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم
بحسن تدبيرك بطن الضريح
خمسون ألفا لا ترى منهم
غير قتيل أو أسير جريح
وفقك الله لأمثالها
لعل عيسى منكم يستريح
إن كان باباكم بذا راضيا
فرب غش قد أتى من نصيح
فقل لهم إن أضمروا عودة
لأخذ ثأر أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باق والطواشي فصيح
من رجال العرب الذين كان لهم الأثر المحمود في الأخذ من الحضارة الغربية، الأمير فخر الدين المعني الثاني أمير لبنان الذي لم تنبغ الشام مثله منذ قتل مسلم بن قريش آخر ملوك العرب في الشام سنة 478ه، وكان بعيد النظر واسع الحيلة يطمح إلى إقامة ملك له؛ فامتد سلطانه أوائل القرن الحادي عشر من الهجرة إلى أنحاء فلسطين، وملك الساحل الشامي حتى أنطاكية، واستولى على عدة حصون وقلاع، وخافته الدولة العثمانية فأرسلت عليه حملتين كسر الأولى منهما، ثم أرسلت عليه الثانية فهرب إلى إيطاليا، وعهد بالإمارة إلى ابنه، وكان منه مدة إمارته أن هيأ السبيل للإفرنج بغشيان الديار الشامية، والاستزادة من متاجرهم مع أهل الساحل، وتكثير سوادهم في المدن والمواني، وأذن لهم بإنشاء قنصليات، وأنشأ خانا كبيرا لتجارهم في صيدا، وعمر مدينة بيروت وأقام حديقة حيوانات فيها، وفي أيامه دخلت جماعات المرسلين والمبشرين إلى لبنان حرة طليقة.
أقام الأمير المعني في إيطاليا أزيد من خمس سنين تعرف خلالها إلى ملوك طسقانة من آل ميديسيس في فلورنسه، وحالف كوسموس الثاني كبير دوجات طسقانه، وكان استقبله في ليفورنا باحتفال عظيم، وعقد مع فرديناند الأول كبير دوجات طسقانه أيضا محالفة في سنة 1017ه/1608م، وكان استظهر بأسطول فرديناند الطسقاني لاتقاء الأسطول العثماني في ساحل الشام. وقد قلد الأمير اللبناني أمراء آل ميديسيس في مدينتهم ونقل منها إلى بلاده ما أمكنه نقله، وصف مؤرخه الصفدي عمران إيطاليا وعادات الطليان وتراتيب حكوماتهم معجبا بها، وكان الأمير معجبا بها أيضا، وعرف الأمير بأنه كان متدينا غير متعصب، أخذ معه إمامه وبنى في البلدة التي أقام فيها جامعا يصلي فيه وبنى مئذنة، وماتت له ابنة هناك فأبقاها حتى عاد إلى لبنان ودفنها في ربوعه، وعرض عليه ملك إسبانيا أن يدين بالنصرانية ويتولى مملكة عظيمة أعظم من مملكته فاعتذر بلطف.
وهذا الأمير هو أول أمير عربي انتبه لتفوق الحضارة الغربية الحديثة على الحضارة العربية الأخيرة، وكانت هذه انحطت وإيطاليا أخذت تنهض لتلقف المعارف وإحياء الفنون الجميلة من تصوير ونقش وبناء وشعر وفلسفة، والممالك المجاورة لها تهب إلى العلى، وتخلع ثياب الخمول الماضي، ولو وفق الأمير فخر الدين المعني لغير التاريخ العربي؛ لما كان عليه من الاستعداد العظيم لإدارة الملك والذكاء النادر في الأخذ من الأمم الأخرى ما ينقص بلاده من أسباب المدنية، فقتلته الدولة العثمانية بأخرة في الأستانة 1635م وقبره لا يزال فيها، كما قتلت معظم أولاده إلا واحدا، وقتلت أخاه وأولاده إلا واحدا منهم.
وبدأ تمازج الحضارتين العربية والغربية تمازجا فعليا بكل ما في التمازج من معنى منذ استولت فرنسا على الجزائر، ثم باحتلال إنجلترا مصر، ثم باستيلاء فرنسا على تونس واستيلاء إيطاليا على ليبيا واقتسام مراكش بين فرنسا وإسبانيا، فإن هذا الاستعمار عرف الشعوب بعضها إلى بعض، وأصبح السلطان للمدنية الراقية على شمالي إفريقية ومصر، وكانت من قبل تشكو سوء إدارتها، فانتظمت أحوالها بالنظم الجديدة على طرائق الغربيين في بلادهم، وكانت المنافسة بين الدول المستعمرة الحديثة على التجارة بالرقيق وعلى الأبازير والجواهر أولا، ثم أصبحت المنافسة بينهم على اليابسة والبحر وعلى الجو وعلى ما في بطن الأرض من المعادن.
واشتدت الدول المستعمرة في تلقين مناحيها ولغتها وأصولها للأمم التي غلبتها على أمرها على اختلاف طرائق استعمارها، وتمازج الغربي بالشرقي في الأرض العربية، وصارت كل دولة غربية تصدر عن رأي نظارة مستعمراتها ونظارة خارجيتها في معاملة البلاد المستعمرة أو المحتلة، بطريقة من طرق التدخل، وانتشرت الفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنجليزية في الأقطار العربية، وحذقها أفراد من العرب حذق أهلها لها، وانتشرت أساليب تفكير الأمم وأنظمتهم المدنية والتجارية والزراعية، وبها عرف العرب العالم، وكانوا غفلوا عن التعرف إليه قرونا، وأدركوا أن من ذرائع نجاحهم في العلم والتجارة والسياسة إتقان إحدى اللغات الحية الكبرى، وكثر اختلاط أهل البلاد بجماعات من تجار المستعمرين من الغربيين ومعلميهم ومبشريهم ودعاتهم وأرباب الصحافة منهم، وكانوا قبل ذلك لا يعرف فريق عن فريق إلا ما لا بال له.
واقترب الناس بعضهم من بعض في البلاد التي اختلطت بالأجانب، وزالت تلك الجفوة القديمة بين العرب والإفرنج، وتقاربت العقليتان الشرقية والغربية، وسرت عادات الغالبين وأخلاقهم وتراتيبهم إلى المغلوبين وقلدوهم في كثير من أوضاعهم وأزيائهم، وزالت الفروق التي كانت ظاهرة كل الظهور منذ قرن بين المتحضر الحديث والمتحضر القديم، وتمثلت الطبقة الأولى ما يقربها من الطبقة التي على شاكلتها عند الأمم الغربية، وكان حظ التونسيين والمصريين والشاميين أجزل من حظ غيرهم في هذا الشأن، والسبب فيه أن بلادهم عامرة وقد تأصلت فيها الحضارة العربية وتسلسلت دهرا طويلا؛ ولأن في أرض الشام معهد النصرانية واليهودية ومنها نشأ المسيح وموسى وكثير من الأنبياء؛ ولأن آثار الفراعنة والرومان واليونان في مصر والشام تغري السائحين والعلماء بنزولها للزيارة والبحث، وسنعرض لذلك بتوسع أكثر في بعض المحاضرات المقبلة.
ورجاء كل عاقل أن ينتج من هذا التعارف بين الشرق والغرب تعاطف جميل يكون فيه حظ الأثرة والعدوان أقل من القليل، يحترم فيه الضعيف القوي ويرحم القوي الضعيف، فتكون حضارة كل أمة شرقية مشابهة من بعض الوجوه لحضارة الأمة التي تأخذ عنها من أمم الغرب، على أن يحتفظ المتأخر أمام المتقدم بعاداته وأخلاقه، فمبتدعات المدنية وقف على كل أمة تريدها، وليس في حسناتها ما يضر، بل الضرر كل الضرر ما يأتي من الوقوف والجمود، وما وقفت أمة إلا تراجعت ولا جمدت إلا هلكت، سنة الله في خلقه.
أثر علوم العرب وفنونهم وما كشفوه واخترعوه
يدين العرب لكثير من خلفائهم وأمرائهم بالأخذ من المدنية الفارسية والهندية واليونانية، وممن كان لهم الفضل الأول في ذلك عمر بن عبد العزيز والمنصور والرشيد والمأمون وخالد بن يزيد وأولاد موسى بن شاكر وضرباؤهم، وما عتم العرب بعد أن كانوا تلاميذ الأقدمين أن أصبحوا أساتيذ في كل الفنون التي وجهوا إليها قواهم العقلية، وزادوا فيها أو هذبوا ورتبوا في أصولها وذيولها، ومن أول ما فكروا فيه علوم الفلك وتقويم البلدان والرياضيات والطب، وجاءت الفلسفة بعد ذلك وما أفلحوا فيها كثيرا.
وفي التاريخ العام، ولا يسع المنصف أن ينكر أن قسط العرب من العلوم كان أعظم من قسط غيرهم؛ فلم يكونوا واسطة نقلت إلى الشعوب الجاهلة في إفريقية وآسيا وأوروبا اللاتينية معارف الشرق الأدنى والأقصى وصنائعه واختراعاته، بل أحسنوا استخدام المواد المبعثرة التي كانوا يلتقطونها من كل مكان، ومن مجموع هذه المواد المختلفة التي صبت وتمازجت تمازجا متجانسا، أبدعوا مدنية حية مطبوعة بطابع قرائحهم وعقولهم، وهي ذات وحدة خاصة وصفات فائقة. وقال العلامة درابر: «من موجب الأسف أن الأدب الأوروبي حاول أن ينسينا واجباتنا العلمية نحو المسلمين، فقد حان الوقت الذي ينبغي لنا أن نعرفهم، فإن قلة الإنصاف المبنية على الأحقاد الدينية، وعلى العنجهية القومية، لا تدوم أبد الدهر.»
يقول لبون: «إن تحمس المسلمين في دراسة الحضارة اليونانية واللاتينية مدهشة حقيقة، وقد ضاهت العرب شعوب كثيرة، وربما لم يقم من الشعوب من تقدمهم في هذه السبيل.» وقال توفنر: «إن أوروبا قضت قرونا حتى بلغت الغاية التي وصل إليها عرب إسبانيا في قرن واحد.» وذكر بريس دافن أنه بعد سقوط الدولة الرومانية لم يكن في الأرض شعب يستحق أن يعرف غير الشعب العربي؛ وذلك لكثرة فحول الرجال الذين نشئوا منه، ولما أحدثته فنون هذا الشعب وعلومه من التقدم العجيب في العالم قرونا عديدة، لا جرم أن العرب عرفوا صنائع السلم كما عرفوا صناعة الحرب وخاضوا عباب كل علم وفن بحسب ما ساعدهم محيطهم وبيئتهم.
قلنا إن من أول العلوم التي عانوها علم الأفلاك لعلاقتها بالصلوات؛ وذلك لأنه كان من المألوف عندهم وعند غيرهم في تلك العصور أخذ الطالع من الكواكب، ونشأ علم الفلك عند العرب من توسع الرياضيين في الحساب؛ لأنهم اخترعوا أساس حساب المثلثات، وحقق العرب طول محيط الأرض بما كان لهم من الأدوات، وأخذوا ارتفاع القطب ودور كرة الأرض المحيطة بالبر والبحر، وحققوا طول البحر المتوسط الذي قدره بطليموس ب «12» درجة، فأرجعوه إلى «54» أولا ثم إلى «42»؛ أي إلى الصحيح من مقداره تقريبا، فقالوا بكروية الأرض منذ أول سلطانهم، وجمع المأمون بعض حكماء عصره على صنعة الصورة التي نسبت إليه، ودعيت الصورة المأمونية، صوروا فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره وعامره وغامره ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي أحسن مما تقدمها من جغرافيا بطليموس وجغرافيا مارينوس، ووضع له علماء رسم الأرض - وكانوا سبعين رجلا من فلاسفة العراق - كتابا في الجغرافيا أعان عمال الدولة على معرفة البلاد والأمم التي أظلتها الراية العباسية، والفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب، وهو فلكي المأمون، وأقاموا المراصد الفلكية في بغداد والرقة ودمشق والقاهرة وسمرقند وقرطبة وفاس، ونظروا في المجسطي لبطليموس في الفلك.
ويقول العلامة غوتيه إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علم أوروبا هذا العلم لا بطليموس، ودام معلما لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع الإدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس في هذا الباب، ووصل علماء الجغرافيا منهم إلى بلاد لم تطأها من قبل غير أقدامهم وحوافر قوافلهم في آسيا وإفريقية. ولا تزال بقايا تلك الكتب، وأكثرها مما طبعه الغربيون وتنافسوا في الأخذ منه، شاهدة على تلك الهمة الشماء والعلم الغزير المنقح وأنهم كانوا في فن الجغرافيا مبتدعين لا متبعين، وأن كثيرين من علماء الجغرافيا فيهم طافوا العالم قبل أن يدونوا كتبهم فوضعوا ما وضعوا عن عيان ومشاهدة.
ولقد كشف العرب منابع النيل قبل أن يتصدى الإفرنج لها، وقام في أذهانهم أن في الأرض أقطارا لم تعرف حتى قال أحد عارفيهم قبل كولمبس بقرن ونصف: «لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا منكشفا من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفا من تلك الجهة لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا أو من أنواع وأجناس أخرى.»
وضرب العرب في مجاهل الأرض ومعالمها يتجرون ويبحثون على ما لم يسبق لغيرهم من الأمم، وكثيرا ما كان ينتهي بعض المولعين بالمطوحات من أرباب الرحلات من الإفرنج إلى أماكن منزوية عن العالم في إفريقية وآسيا، ثم لا يلبثون أن يروا العرب قد سبقوهم إليها منذ قرون ونشروا بين أهلها دينهم ولسانهم وأنشئوا فيها إمارات صغيرة ساروا فيها على آيينهم وأوضاعهم.
وكانوا كلما نزلوا أرضا أنشئوا فيها المساكن، بل أقاموا المدن وهندسوها، ومن المدن التي أنشئوها في الشرق والغرب ما أصبح في قليل من الزمن أشبه بالعواصم الكبرى، وكانوا إذا اضطروا إلى الغارة على مقاطعة وأكرهتهم الحرب على أن يخربوا بعض عمرانها لدواع حربية لا تمضي أعوام قليلة حتى يعيدوها جنات غناء بما فطروا عليه من بعد الهمة وسعة الفضل، ويتعمدون أن يكون ما يعمرون من الأبنية الخالدة لا الموقتة.
وسبقت العرب إلى اختراع طريقة الكتابة بالحروف البارزة الخاصة بالعميان، اخترعها زين الدين الآمدي (712ه/1312م) وكان قد فقد بصره في أول عمره، فكان كلما اشترى كتابا لخزانته لف ورقة على شكل حرف من الحروف ولصقها في الكتاب، وكانت هذه الحروف هي التي يستعين بها على معرفة ثمن الكتاب.
هذا قول بعض العلماء، والصحيح أن الحروف البارزة كانت معروفة عند العرب قبل هذا العصر بدليل قول أبي العلاء المعري:
كأن منجم الأقوام أعمى
لديه الصحف يقرؤها بلمس
وسبقت العرب الأوروبيين إلى الطيران، وقد حاوله عباس بن فرناس حكيم الأندلس، وهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فك الموسيقى، ووضع الآلة المعروفة بالمثقال ليعرف بها الأوقات، ومثل في بيته السماء بنجومها وغيومها وبروقها ورعودها تمثيلا يخيل للناظر أنه حقيقة.
ويأخذ الإنسان العجب إذا قرأ في اللزوميات للمعري قوله:
إن لم يكن في سماء فوقنا بشر
فليس في الأرض أو ما تحتها ملك
وقوله:
ولقد علم المنجم ما يو
جب للدين أن يكون صحيحا
من نجوم نارية ونجوم
ناسبت تربة وماء وريحا
فيتجلى له أن العرب في ذلك العصر ارتقوا بعقولهم إلى البحث عن وجود بشر في الأفلاك وإلى البحث عن عناصر الأفلاك وتربتها.
وكادوا يعرفون في الأندلس الجراثيم، وكانت وقايتهم من الأمراض تكاد تشبه وقاية أهل العصور الحديثة على ما ذكر ذلك ابن خاتمة في رسالته في الوباء، وسبقوا إلى معرفة مرض النوم وسموه النوام، وشرحوا أعراضه، وعرفوا الطباعة فألف أحد الأندلسيين كتابا في الخواص وصنعة الأمدة وآلة الطبع، وكان أحد وزراء الناصر الأندلسي من أهل المائة الرابعة «ينفرد بالولايات فتكتب السجلات في داره ثم يبعثها للطبع فتطبع وتخرج إليه، فتبعث في العمال وينفذون على يديه»؛ أي إن الأندلسيين عرفوا الطبع قبل مخترعه المشهور غوتنبرغ الألماني بأربعمائة سنة، ولكن بغير الحروف المنضدة، وعلموا الغرب صنع الكتاب وعمل إبرة السفينة، وآلة الظل والمرايا المحرقة بالدوائر والمرايا المحرقة بالمقطوع، وقطعوا شوطا كبيرا في الميكانيكيات، ولما بعث الرشيد العباسي إلى شارلمان الساعة الدقاقة الكبيرة، تعجب منها أهل ديوانه، ولم يستطيعوا أن يعرفوا صورة تركيب آلتها على ما حقق ذلك سيديليو، ومع ذلك لم يكن في عصر العباسيين أجل من مهنة الفلاحة.
أظهر العرب بمهارتهم مزايا فواكه الفرس وأزهار إقليم مازندران، واستقطروا معظم ما في بلادهم من الزهور والورود، وكان لهم من صناعة الطيوب والعطور تجارة رابحة، وقد أغنوا العلم ولا سيما علم النبات بمسائل جديدة كثيرة، ومعظم المستحضرات والأدوية المستعملة كالأشربة والدهون والمراهم والغول (الألكحول) واللعوق والسنامكي والراوند والخيارشنبر وجوز القيء، هم الذين كشفوها، واستلزمت أصول تداويهم أن يعمدوا إلى استعمال الفتائل وإلى الحجامة في أمراض الصرع واستعمال الماء البارد في الحمى الدائمة، واتخذ جراحوهم تفتيت حصاة المثانة وقدح العين، واستخرجوا منها الجريم العدسي الشفاف، ويظهر أنهم عرفوا البنج، وفي التاريخ العام وكل هذا المجد في الطب العربي، إن لم يبد لنا بأنهم كانوا فيه أرباب نظريات دقيقة، فهم على الأقل أرباب ملاحظة عاقلة، وأرباب تجارب حاذقة، وأطباء عمل على غاية من المهارة. وكان الرازي وابن جابر أول من وضع أساس الكيمياء الحديثة، وحاولا كشف الإكسير الذي يهب الحياة ويعيد الشباب، وكانا يذهبان إلى معرفة حجر الفلاسفة الذي يحول المعادن إلى ذهب. ولم تذهب هذه الأبحاث الوهمية سدى؛ لأنهم عرفوا بها التقطير والتصعيد والتجميد والحل وكشفوا الغول من المواد السكرية والنشوية الخاثرة.
قال غوتيه: وللعرب في باب الاختراعات شيء لا بأس به بالنسبة لعصورهم، وقد وجد في كتاب عربي قديم لم ينقل إلى اللغات الأوروبية أن العرب عرفوا طريقة عمل الجليد الصناعي، ولم تعرف أوروبا سر هذه الصناعة إلا في النصف الأول من القرن السادس عشر.
ومضى دهر طويل كان فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة وأحسن العمال، وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علما حقيقيا للعرب، أخذوا نظرياتهم من الكتب ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيديهم في زراعة الأرض، بينا كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملا مهينا، وجرى في حكم العادة على عهد استبحار العمران العربي أن يتعلم كل إنسان مهما علت منزلته صناعة من الصنائع المعروفة أو الصنائع النفيسة، يروح بها عن نفسه ساعات الفراغ ويعتاش منها إذا أعوزته الأيام.
ونهض العرب في فارس والأندلس وصقلية وإفريقية لاستثمار المعادن، يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخرج الأندلسيون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، وأخرج الصقليون جميع ما حوت جزيرتهم من معادن ومنها الفضة والذهب، واستثمر العرب المناجم التي صارت ملكا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، واستخرجوا الحديد في خراسان والرصاص في كرمان والقار والنفط وطينة الأواني الصينية ورخام طوربس والملح الأندراني والكبريت، واستخرج العرب ما في الشام من الحمر والحديد والنحاس والصفر والزاج والقلي والفوسفات والمغرة والنيكل والكبريت والطفال والبارود القصبي (السوديوم) وعنوا كل العناية باستثمار مقالع الأحجار والرخام والمرمر، وما كانت عنايتهم قليلة بالحمات والمياه المعدنية، وعلى هذا جروا في كل أرض فتحوها فخضعت زمنا لدولتهم الكبيرة.
قال درابر: ومن عادة العرب أن يراقبوا ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس، ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في علم الحيل (الميكانيكيات) والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الربع والإسطرلاب في علم الهيئة واستخدام الموازنة في الكيمياء مما خصوا به دون سواهم، وهيأ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية وعلم الهيئة كالتي اصطنعت في بغداد والأندلس وسمرقند، مما فتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات واختراع الجبر واستعمال الأرقام العددية في الحساب، وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا خرائط النجوم المنظورة في فلكهم أيضا مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة، وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورا بعثت نورا باهرا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إلى استعمال الساعة الرقاصة لذلك.
وهم الذين أنشئوا في العلوم العملية علم الكيمياء وكشفوا بعض أجزائها المهمة كحامض الكبريتيك وحامض النتريك (الفضة) والغول، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية؛ إذ كانوا أول من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنية، وهم قرروا في الميكانيكيات نواميس سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية، واصطنعوا في ثقل الموائع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في عوم الأجسام وغرقها في الماء، وأصلحوا في علم البصريات خطأ اليونان بكون الشعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيظهره، وقالوا إن الشعاع يمر من المرئي للعين، وفهموا مساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا طريق الشعاع المنحني في الهواء، وبرهنوا على أنا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب، قال: والذي يدهش كثيرا أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من مواليد وقتنا ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إليها؛ فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقا، إنهم وصلوا به إلى الأشياء الآلية وغير الآلية؛ فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية.
ويقول العلامة سنيوبوس: جرى أمراء العرب على قاعدة ري الأرضين بفتح الترع، فحفروا الآبار وجازوا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه بين الجيران، ونقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير تمتح الماء، والسواقي التي توزعها، وإن سهل بلنسيه الذي جاء كأنه حديقة واحدة هو من بقايا عمل العرب وعنايتهم بالسقيا، ونظم العرب ديوان المياه الذي كان يرجع إليه في مسائل الري، وكانت طريقتهم في ري العراق تشبه أعمال الري في مصر وأستراليا والولايات المتحدة في عهدنا هذا، واستعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملوا كثيرا من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوروبا فأحسنوا تربيتها حتى لتظنها متوطنة متبلدة، وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمش والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الأصفر والعنب والعطر والورد الأزرق والأصفر والياسمين بل القطن والقصب.
وظفر العرب في الشام وفارس بصناعات قديمة نقلت إلى جميع البلاد الإسلامية فتكملت ومنها نشأت صناعة أوروبا الحديثة. وذكر سنيوبوس أنواع هذه البضائع التي نقلوها من الشرق إلى الغرب ولا سيما إلى الأندلس وقال: عاشت الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال على عهد الرومان من أقصى المملكة إلى أقصاها بسلام وراحة، يتقايضون غلات أرضهم ومصنوعات معاملهم، ويرحلون إلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إلى الشعوب البربرية في أوروبا ينقلونها في البر والبحر. وذكروا أن العرب أحرزوا خصل السبق دون غيرهم في مضمار التجارة، ورقوا الصناعة البحرية، ووضعوا قوانين لحقوق الملاحة، واقتبسوا استعمال إبرة السفينة من الصينيين، وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر؛ أي ضبط، وشرحوا الكفالة، وأنشئوا المصارف للفقراء، ووضعوا السفاتج (الكمبيالات) المألوفة وردود التمسك (البروتستو)، وبعثوا الحركة في مصارف الغرب الحديثة. وكانوا حيث نزلوا يمهدون السبل، ويعمرون المرافئ والفرض، ويصلحون الفنادق والرباطات، ويرتبون سير القوافل. وكانت المدن الإسلامية أوساطا تجارية كبرى.
واستخرج علماء العرب من كتب الطب اليوناني الطب التجريبي، وهو طب العقاقير والحبوب، وأعظم ما غلب على العرب من العلوم علم الكيمياء برعوا به وطبقوه على الزراعة والصناعة، ولهم المنة على جميع الأمم بأرقامهم العربية، وباستنباطهم فن الجبر والمقابلة، وتهذيبهم الهندسة وأعمالهم الجميلة الفلكية في أبحاث سمت الشمس ومعادلة الليل والنهار والبقع الشمسية، وكشف كيماويوهم وأطباؤهم خواص الغول والنشادر وحامض الأزوت والمياه المعدنية، وأدخلوا في كثير من أدويتهم مواد من نبات بلادهم كالكافور والراوند والسنامكي. وهم أسرع الناس لتدوين أنسابهم وملاحمهم وأبطالهم ورواية أشعارهم والكتابة في فلسفة التاريخ وعلوم الاجتماع. وتوصل العرب إلى إثبات تناسب جيوب الأضلاع لجيوب الزوايا المقابلة لها في أي مثلث كروي، ووضعوا هذه القاعدة أساسا للطريقة التي سموها الشكل المعين في حل المثلثات الكروية. وعرفوا حامض الكبريت استخرجوه من الزاج بواسطة التقطير، وعرفوا ماء الفضة والقلي، وطرق إذابة الذهب وملح النشادر وحجر الكي والسليماني، وكانوا يطبقون ما كشفوه على الطب والصناعة والحرب، ويعرفون صنع الصواريخ؛ أخذوا سرها من الروم وعملوا البارود للمدافع وربما كان ذلك قبل الصينيين، ولكن كان قبل الأوروبيين على التحقيق، فكانت جيوشهم تستعملها منذ القرن الثالث عشر. وعني العرب بصنع القاشاني، وغيروا طرق صنعه وأشكاله. واشتهرت في القرون الوسطى الأواني الزجاجية والمصابيح العربية الملونة التي انتقلت من الشام إلى معامل البندقية ونسجت على منوالها، وكذلك تعلم البنادقة صنع المرايا وكانت تصنع في صور، ومن البندقية انتقلت إلى أوروبا، ونقل من الشام والعراق إلى الأندلس صنع السيوف الدمشقية والثياب على أنواعها ومنها «الدمسكو» نسبة إلى دمشق و«الموسلين» نسبة إلى الموصل وهو الشفوف، ثم عرفت هذه الأصناف في بلاد الغرب.
كان الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية تقرأ في أوروبا في كتب العرب، ومن كتبهم في العلم الطبيعي والرياضي والفلك والكيمياء ما فقد أصله العربي وبقيت ترجمته اللاتينية، وجميع المادة الطبية التي أخذها الغربيون من العرب بقيت إلى القرن السابع عشر هي المعول عليها وحدها. قال سنيوبوس: ويتعذر الحكم في تحديد الطرق التي دخل منها إلى أوروبا اختراع من اختراعات الشرق، وفيما إذا كان انتهى إلينا من طريق الصليبيين في فلسطين أو من طريق التجار الإيطاليين، أو جاءنا من عرب صقلية أو من المغاربة في إسبانيا، بيد أن الحساب يمكن تقديره بما نحن مدينون به للعرب، وإن كان هذا الحساب مما يطول شرحه. فقد أتتنا من العرب؛ أولا: الحنطة والهليون والقنب والكتان والتوت والزعفران والأرز والنخيل والليمون والبرتقال والبن والقطن وقصب السكر. ثانيا: معظم صناعاتنا في التزيين كالثياب الدمشقية القطنية والجلد المدبوغ وثياب الحرير المزركشة بالفضة والذهب والشاش الموصلي والشفوف والحبر والمخمل (القطيفة) والورق والسكر وأنواع الحلواء والأشربة. ثالثا: مبادئ كثير من علومنا كالجبر وحساب المثلثات والكيمياء والأرقام العربية التي اقتبسها العرب من الهنود فسهل بها الحساب مهما كان صعبا.
ولقد جمعت العرب وقربت جميع الاختراعات والمعارف المأثورة عن العالم القديم في الشرق (كيونان وفارس والهند والصين) وهم الذين نقلوها إلينا، ودخل كثير من الألفاظ في لغاتنا، وهي شاهدة بما نقلناه عنهم، وبواسطة العرب دخل العالم الغربي الذي كان بربريا في غمار المدنية، فإذا كان لأفكارنا وصناعاتنا ارتباط بالقديم، فإن جماع الاختراعات التي تجعل الحياة سهلة لطيفة قد جاءتنا من العرب. وقد أخذ الأوروبيون من العرب صنع الجوخ في جملة ما أخذوا من الصنائع، وكان أهل بيزا الإيطاليون ينزلون مدينة بجاية في الجزائر فتعلموا منها صنع الشمع ومنها نقلوه إلى بلادهم وإلى أوروبا.
وقال سنيوبوس أيضا: وكان عبد الرحمن الثالث الأموي على اتصال دائم بأمراء إسبانيا وفرنسا وألمانيا وممالك الصقالبة. وكان القصر الملوكي في طاوزة من بلاد فرنسا صورة من صور قصور الخلافة في قرطبة، يتبارى فيه الشعراء وتقوم فيه للآداب سوق. ولما انتقل أحد أمرائهم ليتولى عرش فرنسا (سنة 999)، أدخل ما أخذ عن العرب تبدلا حقيقيا في باريز من حيث الأخلاق واللغة. وكان ملوك فرنسا من أهل السلالة الثالثة يقلدون العرب في كل شيء، وتعلم الفرنسيس أشياء كثيرة في حملة سان لوي الصليبية التي بقيت عدة سنين في الشرق، وفي الحروب الصليبية تعلم الفرنسيس صنع الورق من دمشق بواسطة أسيرين منهم قضيا زمنا فيها فلما عادا إلى بلادهما نشرا فيها هذه الصناعة المفيدة. وكان لكثير من ملوك أوروبا حرس من العرب إلى عهد قريب ولا سيما إيطاليا وفرنسا. وذكر سيديليو أن بعض الإفرنج زعموا أن العرب لم يعملوا في تقدم الصنائع شيئا مع أنهم على ما قال العارفون برعوا في جميع الفنون الصناعية، واشتهروا عند سائر الأمم بأنهم دباغون سباكون جلاءون للأسلحة نساجون أصناف الثياب ماهرون في الأشغال التي تصنع بالمنقاش والمقراض، ويؤيد علو كعبهم في هذه الفنون سيوفهم الباترة ودروعهم الخفيفة الصلبة، وبسطهم ذات الوبر، ومنسوجاتهم من الصوف والحرير والكتان، وما كشمير هذه الأيام إلا نموذجات دالة على تلك الصناعة.
ولئن كانت خزائن الكتب والمخابر والآلات هي مواد التعليم والبحث اللازم، ولكنها على ما قال لبون ليست إلا أدوات، وقيمتها مناط بالطريقة التي تستعمل لها، فقد يتلقف المرء علم غيره وهو عاجز عن أن يفكر بنفسه ويوجد شيئا، وأن يكون تلميذا دون أن يوفق إلى أن يصبح أستاذا. أما العرب فبعد أن كانوا تلاميذ سذجا أساتذتهم تآليف اليونان، أدركوا للحال أن التجربة والملاحظة تساويان أكثر من أحسن الكتب. هذه الحقيقة اليوم معروفة لا يعد العمل بها بدعا، ولم تكن كذلك في الدهر السالف؛ فقد ظل علماء القرون الوسطى يشتغلون ألف سنة قبل أن يدركوها. ينسب الناس إلى باكون قاعدة التجربة والملاحظة وهما الأصل في أساس البحث العلمي الحديث، بيد أن الواجب أن يعترف اليوم أن هذه الطريقة كلها هي من مبتدعات العرب. وقال بهذا الرأي جميع العلماء الذين درسوا كتبهم ولا سيما هومبولد؛ قال: «إن العرب بلغوا في العلم العملي درجة لم يكن يعرفها أحد من القدماء.»
وقال سيديليو: وقد اشتهرت مدرسة بغداد في أول أمرها بفكرتها العلمية حقيقة، وكان لها التأثير الأكبر في أعمال العرب، فساروا من المعلوم إلى المجهول، واستنبطوا أسرار المحسوسات ليرجعوا الأسباب إلى مسبباتها، لا يقبلون إلا ما أثبتته التجربة. هذه من الأصول التي لقنها العلماء، ولقد كان العرب في القرن التاسع متمكنين من هذه الطريقة الخصيبة التي صارت بعد عند المحدثين أداة استعملوها للوصول إلى أجمل ما كشفوه. فكانت التجربة والملاحظة من أسلوب العرب، ودرس الكتب والاكتفاء بترديد رأي المعلم كانت طريقة أوروبا في القرون الوسطى، والفرق ظاهر بين الطريقتين، ولا تقدر طريقة العرب في العلم حق قدرها إلا بالبحث فيها.
ولقد اعتمد العرب على التجارب، وسبقوا العالم وظلوا على سبقهم زمنا طويلا وعرفوا مكانة هذه الطريقة، وليس لليونان في الكيمياء ولا مجرب واحد، ويعد المجربون بالمئات عند العرب، وقد أورثت عادة التجربة أعمالهم العلمية هذا الوضوح والإبداع الذي لا ينتظر أبدا أن يسقط عليهما عند من لم يدرس الظاهرات إلا في الكتب، ولم يفتهم الإبداع إلا في علم استحال عليهم فيه الرجوع إلى التجارب وهو علم الفلسفة، وقادتهم الأساليب التجريبية التي كتب لهم فضل السبق فيها إلى كشف أمور مهمة وفقوا إليها بالضرورة في ثلاثة أو أربعة قرون، لم يكتب مثله لليونان في زمن أطول من زمنهم بكثير، وهذه الذخيرة في العلم الماضي التي انتقلت إلى اليونان قبلهم، ولم يستخرجوا منها كبير أمر منذ أحقاب، نقلها العرب برمتها مبدلة إلى أخلافهم. ولم يقف عمل العرب عند تثمير العلم بما أوجدوه، بل نشروه بواسطة جامعاتهم وكتبهم، فالتأثير الذي أثروه من هذا النظر في أوروبا كان عظيما في الحقيقة، وكانوا خلال عدة قرون أساتيذ متفردين عرفتهم الأمم النصرانية، وإليهم يرجع الفضل في معرفتنا المدنيتين اليونانية واللاتينية، وفي العهد الحديث فقط تجرد تعليم جامعاتنا من الاعتماد على تراجم كتب العرب وكف الغرب عن الأخذ بواسطتهم.
وللعرب في باب الهندسة الإبداع الذي أقرهم عليه كل عارف، ولم ينازعهم فيه منازع، ولم يخترع العرب أبنية خاصة بهم، بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف، واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين، وجعل تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة، كأن أبنيتهم ومصانعهم هي برود من أكسية الشرق تفنن حائكها في رقشها ونقشها كما قال أحد العارفين من الإفرنج. وعقد لبون فصلا في تأثير العرب في الصنائع ولا سيما في الهندسة في الغرب؛ فقال: ربما ادعى بعضهم أن الهندسة الغوتية مأخوذة عن العرب وهذا وهم، فإننا إذا قابلنا بين كاتدرائية غوتية من القرن الثالث عشر والرابع عشر وبين مسجد من ذينك القرنين نجد اختلافا بينا بين الهندستين. ولما كانت الفنون تعبر عن حاجات عصر وعواطف أهله، اختلفت هندسة الغرب عن الهندسة العربية في الشرق. وقد أخذت أوروبا من العرب أشياء في الزينة ووجدت على بعض البيع في فرنسا صور حروف عربية منحوتة في الحجر، وأكاليل على بعض الحصون تشبه الطراز العربي، وكثير من كنائس فرنسا تأثرت بالهندسة العربية ولا سيما في المدن التي كان لها علائق كثيرة مع الشرق. وقد جلب الصليبيون من الشرق أصول هندسة بيت المؤذن في المنارات والمشربيات والمعرقات والمراصد في الأبراج والزغاليل والمحارس الناتئة والأفاريز ذات الدرابزين، واستخدمت فرنسا كثيرا من مهندسي الأجانب وكان فيهم العرب، حتى إن كنيسة نوتردام دي باري المشهورة في عاصمة فرنسا عمل فيها مهندسون من العرب.
أما تأثير العرب في هندسة إسبانيا فظاهرة ظهور الشمس والقمر، إلى أن قال: قد ينقرض شعب وتحرق كتبه وتهدم مصانعه، ولكن التأثير الذي أثره يقاوم أكثر مما يقاوم الصلب ، وليس للطاقة البشرية أن تأتي عليه، والقرون قد تفعل في القضاء عليه أكثر من ذلك.
وقال أيضا: إن من ألقى نظرة على المساجد والقصور، وعلى غيرها من الآثار العربية من منقولها وغير منقولها، يشهد أنها نسجت على غير مثال، وأن الإبداع فيها ظاهر محسوس. وإذا رجعنا إلى أوائل عهد المدنية العربية وهي في أوجها، نجد التقليد للصنائع الفارسية والرومية ظاهرا فيها، وكل شعب يقتبس عمن سبقه صنائعه، وهذا يصدق على كل الأمم، وكان الناس إلى عهد قريب يعتقدون أن الفنون اليونانية قامت على غير مثال. فالعرب واليونان والرومان والفينيقيون والإسرائيليون وغيرهم أو جميع الأمم قد انتفعت من الماضي، وكل شعب أخذ عن غيره وزاد من عنده ما وسعته الزيادة. ولذا لا ينبغي أن يبعد الناس في مزاعمهم أن العرب لم يكن لهم فن فيه إبداع؛ لأنهم اقتبسوا الأصول الأولى من أعمالهم عن الأمم التي تقدمتهم، ويعرف الإبداع الحقيقي في أمة من السرعة التي بها تحول المواد التي بين أيديها فتجعلها وفق حاجتها وتنشئ فنا جديدا. وما من شعب فاق العرب في هذا الباب؛ فإن فكر الإيجاد عندهم قد تجلى في مصانعهم الأولى مثل مسجد قرطبة، ولم يلبثوا أن ألقوا في روع المفننين الأجانب أنهم كانوا يعمدون إلى طرق جديدة فيها كل الحذق والمهارة. فقد كانت سواري المعابد القديمة التي بين أيدي العرب من القصر بحيث لا تتناسب مع عظمة الأبنية واتساعها؛ فقاموا هم ينشئون في أسفلها قواعد وغطوها بقناطر وضعت على غاية من الدقة. ولو كان الترك مكان العرب ما كان خطر لعقولهم الغليظة مثل هذا الفكر. وكان من أمر الشعوب التي خلفت العرب في البلاد التي خضعت لسلطانهم أن رأوا مصانع قديمة سبقت العرب فما استطاعوا أن يدبروها تدبيرا جديدا، فظل التقليد باديا في أصولها وفروعها. أما في المصانع العربية كقصور إسبانيا وجوامع القاهرة، فإن المواد الأصلية قد استحالت إلى ترتيبات بلغ من جدتها أن يتعذر القول من أين جاءت.
وقال: إن من ألقى نظرة على الأعمال الأدبية والفنية التي تمت على أيدي العرب يتجلى له أنهم حاولوا أبدا أن يزينوا الطبيعة، وطابعهم الذي يبدو في الفن العربي هو التخيل والبهاء والضياء والتزيد في الزينة والأناقة. فالعرب عنصر شعر، وأي شاعر لا ينطوي على متفنن، اغتنوا بحيث تم لهم تحقيق جميع هذه الأحلام، فأولدوا هذه القصور البديعة التي تبدو للعيان كأنها تضاريس من الرخام المرصع بالذهب والأحجار الثمينة. وما من شعب حاز مثل هذه العجائب، وما من شعب سيدانيهم في الأخذ بطرائقها، ومن العبث أن نتطلب مضاهاتها من الدور الذي دخلت فيه الإنسانية اليوم، فأصبحت لا تعرف من الصنائع إلا المبتذلة والمقصود منها النفع فقط وهي شاحبة باردة.
وقال ميجون: لا ننكر على العرب أن لهم الحظ الأوفر من هذه المدنية وهم واضعو أسسها، وقد أفرغوا هذه العناصر المختلفة في قالب متجانس فأوجدوا منها مدنية مطبوعة بطابع عظمتهم مشعرة بسلامة ذوقهم. ولم يمض قرن على فتوح العرب وبسط سلطانهم على الشرق وإفريقية الشمالية وإسبانيا حتى تبدل النظام الاجتماعي في البلاد المغلوبة، وحل محله دين وإدارة وعادات وأخلاق جديدة، وهكذا يقال في صناعاتهم وفنونهم وكثير من احتياجاتهم. وإن توحيد تلك البلاد من بحر الظلمات إلى المحيط الهندي، وإخضاعها لسلطان واحد ونظام شامل، والعناية بالجندية، وإقبال المسلمين على أداء فريضة الحج، كل ذلك سهل سبل التعارف بين المؤمنين وجعل كل واحد منهم يحمل إلى بلاده ما استحسنه في البلدان الأخرى. ولذلك رأينا التأثيرات الشرقية في أقدم بناء إسلامي في الغرب كالجامع الكبير في قرطبة وجامع سيدي عقبة في القيروان مغربية بطرز بنائها شرقية بزخارفها.
وذكر مركيه في كتابه الفن والتاريخ أن العرب ورثوا فيما ورثوا عن الأمم التي دخلت في سلطانهم الفنون والصنائع، وأخذوا يحذقونها ويبرعون فيها في مدارس المورثين؛ إذ لم يكن في استطاعتهم أن يرتجلوا فنا كما ارتجلوا لهم ملكا. ومع ذلك لم يمض زمن طويل حتى نبغ فيهم البناءون والحفارون والمصورون والنقاشون، دون أن يروا في شيء من ذلك مخالفة لنصوص كتابهم، أو معارضة لشريعة نبيهم. ولم يقفوا عند حد الحذق والبراعة، بل تعدوه إلى التفنن والإبداع، فنقحوا وصححوا وحذفوا وأضافوا، ثم اخترعوا وابتكروا، حتى طبعوا تلك الفنون بالطابع العربي، وصبغوها بالصبغة الإسلامية ، حرصا على شخصيتهم أن تفنى، وعلى نبوغهم وعبقريتهم أن يذهبا، فأصبح الروح العربي بارزا واضحا يندمج فيه غيره، ولا يندمج في شيء؛ ولهذا خلقت العرب لها فنا يوافق ذوقها ويسير مع طبعها، وسرعان ما انتشر في أرجاء تلك المملكة الواسعة انتشار الكهرباء. ا.ه، قالوا: وقد خضعت الفنون الإسلامية لنواميس الطبيعة الإقليمية فاصطبغت في كل قطر بصبغته الخاصة، وكانت في عامة أحوالها من أندلسي ومغربي وصقلي ومصري وشامي وعراقي وفارسي وهندي ومغولي؛ إسلامية أصلية كريمة نبيلة تنطق بما للإسلام من إباء ونجدة وشهامة ونخوة ... إلخ.
هذا يا سادتي ما لقفه العرب ولقفوه، بل هذا مجمل ما اخترعوه وكشفوه، استفادوا منه وأفادوا أهل المدنية الحديثة، عملوا فيه وحدهم بعقولهم وتجاريبهم، وتواضعوا على ما لم تشاركهم فيه أمة (انتهي ملخصا من كتابنا الإسلام والحضارة العربية). وبعد؛ فإذا كانت للعرب عناية فائقة بعلوم الطب والتشريح والأقرباذين وعلوم النبات والحيوان والبيطرة والبيزرة وأحكام النجوم والطلسمات والسيمياء والكيمياء والفلاحة والملاحة والهندسة وعقود الأبنية والمناظر والمرايا المحرقة ومراكز الأثقال وإنباط المياه والبنكامات والآلات الحربية والزيجات والتقاويم والمواقيت والأرصاد وتسطيح الكرة والآلات الظلية والحساب المفتوح وحساب التخت والميل والجبر والمقابلة وحساب الخطأين، إلى آخر العلوم التي أفردوها بالتأليف وتوفروا على خدمتها؛ فإن لهم في فروع أخرى من علوم الحضارة ما لا يخطر بالخاطر أنهم سبقوا ووضعوا فيه نتائج تجاربهم؛ فلهم في فن الطبخ والأطعمة والمزورات وتدبير المنزل والمدينة تآليف جميلة، وفي علم العرافة والقيافة والريانة والفراسة واستحضار الأرواح والقرانات وقلع الآثار إلى غير ذلك مما عالجوه من الموضوعات وجعلوه علوما قائمة برأسها، ما دلوا به على أن هواهم بعلوم الدنيا وازى هواهم بعلوم الآخرة. ولولا أن ضاعت كتبهم فلم ينته إلينا منها غير نحو عشرها، لوقفنا من علومهم وفنونهم على أكثر مما وقفنا. وكان الفضل في الانتفاع ببقايا فضلهم لوراثي مجدهم العلمي أهل المدنيات الحديثة.
أثر المدنية الغربية في البلاد العربية
طلع القرن
1
الماضي وليس في البلاد العربية من يفكر في شيء اسمه حضارة، وغاية ما فيها آثار بالية من مدنية قديمة، يظنها أهل البلاد كل شيء وما هي به. انقطع سند العلوم، وبطل إعمال الفكر، وهجعت القرائح، حتى لتظنها ميتة، وأصبح ما يقال له علم صبابة من فروع علم الدين واللسان، والناس في غفلة عن الغرب لا يعرفون ما أتاه في نهضته. ضعف في البلاد العربية كل مظهر من مظاهر القوة في الأمم، وأصبح العرب من الجهل بمقومات الحياة في حالة مبكية؛ وكأن نسبة الترقي عند أهل الغرب في تلك الأحقاب، كانت على مقدار التدلي في كل شأن في البلاد العربية.
وبحسبكم أنه لم يبق في القرنين السابقين على قرن النهضة العربية، وهو القرن الماضي، رجل يذكر في باب الهندسة والتصوير والنقش والشعر والإنشاء والخطابة والفلك والكيمياء والطب، ومعظم من يذكرهم المؤرخون ضعاف في فنهم. أصبح كل علم وفن وعمل إلى التدجيل والتفاهة، واستحكمت حلقات الجمود في العقول، وشغل الناس عن الجد بالهزل والفضول، ولا شأن للمؤلفين إلا أن ينسخوا ويمسخوا ويسلخوا ويعدون ذلك علما وفنا، وسقط اعتبار المتفننين والمتشاعرين إلى الدرك الأسفل من المهانة.
وبينا كانت البلاد متدهورة في أعماق هذا الانحطاط جاء نابوليون بونابرت في أواخر القرن الثامن عشر، يفتح مصر ويحمل في جملة ما يحمله من العدد والعدد، طائفة من علماء فرنسا ونوابغها في الرياضة والهندسة والطب والجغرافيا والفلك والأدب والكيمياء والاقتصاد السياسي والآثار والمعادن وطبقات الأرض والحيوان والنبات وفن المعمار وهندسة الري والقناطر والجسور والميكانيكا، وزمرة من رجال الفنون من المصورين والرسامين والموسيقاريين والنقاشين والمثالين وعددهم «146» عالما ومتفننا. وألف في مدينة القاهرة مجمعا للعلوم والفنون يرمي إلى تقدم العلوم والمعارف في مصر، ودراسة المسائل والأبحاث الطبيعية والصناعية والتاريخية. وأنشأ في المجمع مكتبة تحوي أنفس الكتب التي أحضرت من فرنسا، أو جمعت من خزائن الكتب في مصر، وأنشئوا به معملا للطبيعة والكيمياء وجهزوه بالآلات والأدوات الخاصة بدراسة العلوم الطبيعية والرياضية، وأخذوا يجوبون البلاد؛ فاكتشفوا الآثار وأزاحوا الستار عن عظمة مصر القديمة، ورسموا خرائط مفصلة للبلاد ونيلها وترعها وسواحلها، وبحثوا في طبائع الحيوانات والنباتات والمعادن، ودرسوا مياه النيل وطميه وطبقات الأرض، وجابوا الواحات والبحيرات، وأنشئوا في القاهرة مطبعة أخذت تطبع منشورات نابوليون العربية وجريدة الكورييه ديجيبت والديكاد، وبعض المطبوعات العربية والفرنسية. فأبقى هذا العمل العلمي الذي قام به رجال البعثة العلمية من بحث وفحص وتأليف وتصوير إلى اليوم أثرا علميا باهرا، تطأطئ أمامه الرءوس إكبارا وإجلالا.
كان احتكاك المصريين بالفرنسيس أول احتكاك علمي مع الإفرنج في الأرض العربية، وممن كانوا في طليعة المستفيدين مؤرخ مصر في تلك الحقبة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وعالم آخر اسمه الشيخ حسن العطار، وهو الذي تولى مشيخة الأزهر بعد حين، وألف في الفلك والطبيعيات والرياضيات؛ فإن هذين الشيخين وأمثالهما علما بعض علماء حملة نابوليون اللغة العربية وغيرها وتعلما منهم ما لم يكن لهما به عهد من العلوم المادية. واختلط رجال الإدارة والسياسة من أهل مصر برجال الحملة، ونشأ بين الفريقين تعارف. وهكذا عرفت المدنية الفرنسية في هذا الشرق القريب، وظلت وارفة الظلال في بلاد الفراعنة.
وتولى مصر محمد علي الكبير واليها منذ سنة 1805م، فأوحى إليه ذكاؤه النادر أن يقتبس النظم الإدارية الحديثة، وكان مولعا بتمدين مصر؛ فأحضر من مختلف بلاد أوروبا أساتذة وأطباء وصيادلة ومعلمين شيدوا في أماكن اختيرت أحسن اختيار تلك المدارس والمستشفيات في القطر المصري، و«شعر على أميته بأن الملك لا يشيد إلا على أمتن أساس من العلم، وأن العلم الذي تدعم به الممالك ليس هو الذي يسمونه علما في الشرق، إنما هو الذي قامت به المدنية الغربية وشيدت عليه صرح عليائها وقوتها، فأقرت لها الأمم بالغلبة ووقفت أمامها صاغرة ذليلة.»
بدأ والي مصر منذ سنة 1813م يرسل الطلبة المصريين إلى أوروبا، وصرف عليهم من سنة 1826م إلى 1847 «303360» جنيها. وغدا معظم الطلبة الذين تخرجوا بأساتذة الغرب من دعائم النهضة التي تم على يدها إنشاء مصر الحديثة. وأسس أول مدرسة للهندسة في سنة 1231ه/1816م، ثم أسس مدرسة الطب 1342ه/1827م، وكان الكولونيل سيف الإفرنسي الذي دان بعد بالإسلام وسمي سليمان باشا (1819) هو الذي نظم الجيش المصري، وبعد مدة أنشأ ماريت باشا متحف بولاق. ودام علم الفرنسيس يفيض على مصر مدة حكم محمد علي وأسرته، ولو أحصي ما كتبه علماؤهم في مصر من الأسفار، وما رسموا لها من الآثار والمصورات والخطط لبلغ خزانة كبرى، ولا تزال هذه التحفة العظيمة إلى اليوم مرجع الدارسين والباحثين.
قال الدكتور عثمان غالب باشا من علماء مصر الذين شاهدوا تلك الحركة العلمية في إبانها، ثم شاهدوها في انحطاطها وحضروها في تجددها: إن أكثر أساتذة المدارس التي أنشئت في مصر على عهد نهضتها الأولى كانوا من الفرنسيس المستعربين؛ يكتب الأستاذ درسه بالفرنسية والمترجم معه ينقله إلى العربية فيلقى على الطلبة بلغتهم، دام ذلك من سنة 1830 إلى سنة 1874. وقد كتب فيها الأستاذ بروجر الفرنسي رئيس مدرسة الطب والولادة والصيدلة والمستشفيات المصرية إلى خديوي مصر في عهده يقول له في تقريره السنوي: إن الوقت قد حان لأن تكون وظائف التدريس كلها بيد المصريين؛ إذ قد أصبح منهم الكفاة الآن، وإن مهمة فرنسا في تربية أبناء مصر في هذه الفروع العلمية قد انتهت أو كادت.
لولا عمل محمد علي في تمدينه مصر لأشرفت حتى اللغة العربية على التلف، على الرغم من وجود جامع الأزهر فيها منذ قرون؛ لأن الأزهر ما كان يعنى بغير المسائل الدينية، واللغة تنقرض إذا لم تكن لغة علم، وهذا ما حاول محمد علي أن يعمله فوفق إليه، وظهرت تباشير إصلاحه بعد عشر سنين من البداءة به. وكان من محمد علي وطريقته المبتكرة في التمدين الذي أقبسه نبهاء أولاد مصر كل ما قرب الأمة المصرية من المدنية الغربية، وكان وادي النيل بجميل صنعه المثال الحي الذي دل به العربي بصورة محسوسة على أن ليس في دينه ما يحول بينه وبين المدنية، وأنه حفيد أولئك الفاتحين العالمين إن نامت فيه زمنا جراثيم النهوض، تدب فيها الحياة عند أقل محرك لها. وفي مصر أنشئت أول مدرسة لتعليم البنات سنة 1873م على عهد إسماعيل الذي أخذ من مدنية الغرب بالكبير والصغير، وفاخر بأن بلاده أصبحت قطعة من أوروبا؛ أي بتمدنها. وكان الخديوي إسماعيل يشبه محمد علي كثيرا ويعنى بالتعليم عناية خاصة.
كان من احتلال نابوليون، ومعه ذلك الرعيل الجميل من علماء أمته في مصر، ثم من استيلاء محمد علي عليها وسعيه الحثيث في إدخال الحضارة الغربية، مبدأ كل نور في الشرق العربي، استفادت منه البلاد المجاورة بحكم الطبيعة، ولا سيما أبناء الشام؛ فإن منهم من درسوا في مدارس مصر وتمصروا فخدموا البلاد التي هذبتهم، ومنهم من نقلوا قليلا من النور إلى بلادهم، واستفاضت أخبار النهضة المصرية في البلاد المجاورة فأنشأت تأخذ عنها ما وسعها أخذه.
فمصر إذن هي التي تقتبس بفضل صاحبها محمد علي من نور العلم الصحيح، ومصر أدخلها الغربيون في دور ارتقاء لم يسبق له مثيل فما عصت على قبول مدنيتهم، ومصر هي التي جسرت في عهد الانحطاط على الجمع بين علوم الدين والدنيا. فتحت لكل منها طريقا أمينا لا يدخل الوهن منه على صاحبه، ومصر هي التي ظهرت فيها آثار المعارف قبل أمها الدولة العثمانية حتى لقد حسدتها هذه في تلك الأيام وودت لو يكون لها مثل ما لولايتها بالأمس شيء من مظاهر العلم والتمدين. هذا مع أن المصريين كانوا في نظرها فلاحين إفريقيين، وهي في قارة أوروبا ووارثة مملكة بيزنطية. مصر أثبتت استعداد الأمة للأخذ بأساليب الارتقاء من دون جلبة، وأنها كل ساعة مستعدة لقبول الخير لا تسأل عن مصدره ومصدره. •••
وكان للغرب في هذا الشرق منذ زمن بعيد رهبان ومبشرون، ولا سيما في الأرض المقدسة من فلسطين، وفي جبل لبنان من الساحل الشامي، يعلمون بعض أبناء طوائفهم مبادئ العلوم باللغة القومية مع إحدى اللغات الغربية، وفيهم الإيطالي والفرنسي والأمريكي واليوناني والروسي والإسباني والنمساوي والأسكتلندي وغيرهم. وزادت صلات الطوائف الباباوية في الشام مع رومية، ولا سيما في القرن السادس عشر يوم أسست للموارنة في عاصمة النصرانية مدرسة يتخرج فيها خدمة الدين في العلوم، وكثر توافد الإنجيليين منذ سنة 1838 للدعوة إلى البرتستانتية، وأسسوا مطبعة عربية كانت لهم في مالطة أولا يطبعون عليها الأناجيل بلغات مختلفة لنشرها في المشرق، ثم تبعهم اليسوعيون من الطوائف الكاثوليكية ينشئون مطبعة لهم، وجعل دعاة البرتستانتية والكثلكة من ثغر بيروت وما في ضواحيه مثل عبيه وعين طورا أس حركاتهم الدينية والعلمية في الشرق القريب، يتنافسون ويقيمون المدارس العالية والثانوية والإبتدائية للذكور والإناث. وبعد أن كانت بيروت أشبه بقرية سكانها بضعة آلاف فقط، أصبحت مدينة علم كبيرة يقصدها المتعلمون من القاصية، على نحو ما كانت اشتهرت أواخر عهد الرومان بمدرسة الفقه، تخرج قضاة للمملكة الرومانية. وزاد امتزاج العرب بالغربيين، وعرف العرب أن أهل أوروبا يفوقونهم في مقومات العمران، وأخذ الناس يدركون نقصهم، ويسعون جهدهم نحو الكمال؛ ليقلدوا في منازعهم من تقدموهم قرونا في مضمار الحضارة.
إنا لا نقول بدعا، ولا ندل على مجهول، إذا سجلنا أن أكثر ما في معظم بلاد العرب من أمارات النهوض هو من حسنات الغرب عليها. فقد كانت فرنسا أواخر القرن الثامن عشر مهد الإصلاح الاجتماعي، نشأت منها مساواة الناس عامة أمام القانون، واشتراكهم في الحقوق والواجبات المدنية والسياسية، وتمتع الإنسان بحرية العمل والصناعة وحرية الدين والفكر. أي إن فرنسا نشرت حقوق الإنسان والحقوق الأساسية في سياسة البلدان، فأخذت عنها معظم بلاد الغرب. وعن الفرنسيس أخذ العرب هذه الأصول، وإن لم يستطيعوا لمكان السياسة في بلادهم أن يطبقوها بحذافيرها. ومن الغرب تعلمنا معنى الوطن والوطنية، وحب الجنس والقومية. وهذا شيء جديد لم يعهد للعرب مثله، بعد أن ذاق الناس الأمرين من ظلم الملوك ومن داناهم ووالاهم قرونا طويلة، ولم يقدروا أن يغيروا أوضاعهم، بل ما وسعهم التفكير في مثل هذا التغيير، أو في شيء يماثله لقيام أمر الجماعة، واسترجاع الحقوق المضاعة.
كان الناس في ديارنا قبل أن نتقيل خطى الغرب في حضارته، يعيش الفرد منهم لنفسه، فأصبحوا يوقنون اليوم أن بقاءهم مناط تضامنهم وتكاتفهم، وأن الشعب يقوى على إملاء إرادته إذا كانت مادياته سليمة موفورة، وبقدر حظ الأمم من الماديات تصح لها معنوياتها. يقول العلامة غوتيه: «كثيرا ما كان الشرقيون ينضمون قبائل وشعوبا فيؤلفون ممالك، كانت المملكة الإسلامية من أحدثها عهدا. وما ألفوا قط أمة على أساس الإقليم، ولم يعهد لهم أن عرفوا رابطة التضامن؛ فالشرقي أو المسلم هو شخص لا يمكن ضبطه، يعيش منعزلا بنفسه متوحدا، ووجهه يعنو إلى الله الذي هو همه الوحيد، وكان من هذه الفردية الغضبى ضعفه أمام الأمم الغربية.»
تعلمنا من الغرب أصول الصحافة وأنشأنا ننشئ صحفا محررة تعنى بالأمور المالية والسياسية وأخبار الدول والممالك، واقتبسنا أسلوب المجلات الدورية ننقل أكثرها عن مجلات الغرب الفرنسية والإنجليزية وننسج على منوالها، ونجود فيها النقل من العلوم النظرية ونلخص آراء الغرب ومذاهبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، ونترجم من الكتب العلمية والأدبية ما لم نكد نعرف اسم فنه من قبل. وكانت مصر مجلية في هذا المضمار، نشرت منها مئات بمعاونة حكومتها، وعناية أبنائها الذين اغترفوا من الينابيع الصافية في العلم الحديث. وكل بلد سبق في هذه السبيل، وعلم أبناءه كمصر، كتب له التقدم على غيره من الأقطار. ولا عجب أن أصبحت مصر بعد هذا الجهاد تشبه بعمرانها إحدى الممالك الغربية الحديثة.
وأثرت الصحافة في عقول من أدمنوا تلاوتها، ودخلت الأفكار الجديدة أوساطا ما كان يظن أنها تهتم بها وتستفيد منها، وبدلت من طرق التفكير وأصول المعايش ونظام المجتمعات، وعلمت الناس ما لم يكونوا يعلمون؛ علمتهم أن وراء حياتهم المادية حياة معنوية لا تبقى لهم مادياتهم بدون الأخذ بحظ وافر منها، علمتهم بسائط في التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والزراعة وحال الأمم وسياسة السياسيين، ومجادلات المشرعين، واستعمار المستعمرين، وتدليس المدلسين، وعلمتهم أيضا أنهم كانوا شيئا مذكورا فيما مضى، ولا حياة للأحفاد بدون الأخذ من سيرة الأجداد، والاقتباس من المدنية الراهنة كل ما لا ينزع منهم مشخصاتهم ومقدساتهم، حتى غدا بعض من أطالوا تلاوة الصحف وتفهمها، أرقى عقلا من كثير ممن كانوا يسمونهم بالخاصة منذ مائة أو مائتين من السنين. علمتهم أن لا قيام لأمرهم إلا بالقومية العربية، وأن الدين وحده لا ينجيهم مما هم فيه، وأن التساهل بأمور الدنيا يذهب بالدين والدنيا معا، علمتهم أن داءهم الجهل المركب وأنه لا سبيل إلى نزع لباسه القذر إلا بالتطهر بالعلم، والأخذ بقسط من الأدب؛ فأقبلوا أي إقبال على المدارس والكتاتيب شاعرين بما هم عليه من النقص، والشعور بالعيب أول مراتب الكمال.
كان الناس قبل سبعين أو ثمانين سنة يساق أولادهم إلى الكتاتيب في الديار الشامية بقوة الجند والدرك. وكان التعليم على عهد محمد علي في الديار المصرية مكروها عند المصريين كرها شديدا، حتى إن الأمهات كن يفقأن عيون أولادهن حتى لا يدخلوا المدارس، بل اضطرت الحكومة المصرية في بعض أدوارها الأولى أن تتخطف تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى كما يتخطفون عساكر الجيش؛ فزاد إقبال المتعلمين على المدارس زيادة مستغربة، وكل قرية بل أهل كل قبيل من البوادي يتطالون إلى تعليم أبنائهم بكل حيلة، دع سكان المدن فإنهم من ذلك على حصة موفورة. ويا ويل فتى أو فتاة توصد في وجهه أبواب المدارس يوم افتتاحها من خريف كل سنة إما لقلة الأماكن أو لتعذر قبول الطالب لصغر سنه، أو لسبب آخر. ويا ويح تلميذ يخفق في فحوصه، ولا ينال ما تريد نفسه من الشهادة والإجازة. واستنتجنا من ذلك أن الإقبال على التعليم أصبح من الأمور المتعارفة، لا يختلف اثنان بفائدته في الحواضر والبوادي.
لما اخترعت أوروبا البخار حوالي سنة 1840 وسهل السفر على الناس في قطارات البر وسفن البحر، زاد اختلاط الفرنج بالعرب، وزاد هؤلاء ثقافة، يحملها إليهم طلاب العلم وأرباب الرحلات والتجار، وسياح الغربيين وحجاجهم القاصدون إلى بلادهم، يزورون آثارها المدنية والدينية، ومنها ما تقدسه أمم الغرب النصرانية؛ لأنها موطن المسيح ومظهر عجائبه، ومنها ما يدهش له الغربيون كآثار الفراعنة أم المدنيات القديمة المعروفة في مصر، أو مصانع تدمر وبعلبك وجرش والبتراء في الشام، وزاد هذا الاختلاط شدة لما صحت عزائم سكان جبال الشام على نزول أمريكا طلبا للرزق، وكان أهل أوروبا سبقوهم إلى نزولها منذ نحو ثلاثة قرون؛ أي استعمروا الأمريكتين منذ فتحها كريستوف كولمبس وفاسكو دي جاما. وكان منذ أكثر من نصف قرن من لا يعود إلى بلاده بمال، يرجع إلى أهله باقتباس شيء من أصول المدنية؛ لأنه رأى في ذهابه وإيابه بلادا أرقى بعمرانها من بلاده، واختلط بجماعات أعلى كعبا في المدنية من جماعته، ومعظم ما نراه من الدور والفنادق والمخازن بل البيع والمدارس الطائفية في الديار الشامية عمر بأموال المهاجرين من الشاميين، وجماع ما يبدو في مجتمعنا العربي منقول من المدنيتين اللاتينية والأنجلو سكسونية، والشاميون منذ عهد الفينيقيين تجار مشهود لهم، وقد ينسيهم حب الربح سائر مظاهر الحياة في الأمم؛ فيهون عليهم التخلي عن لغتهم وكثير من أخلاقهم إذا كان من وراء ذلك اغتناؤهم.
إذا عرفنا هذا، فلا نكون إلى الغلو إذا ادعينا أن الفرق اليوم بين مصر والشام وتونس مثلا، وفيها تمازجت الحضارة الحديثة ببقايا الحضارة القديمة، وتوفر أهلها على الأخذ عن الغرب علمه وصناعاته، وبين الحجاز ونجد واليمن، وهذه لم يتيسر لأهلها هذا الامتزاج، كالفرق بين مدنية العرب في القرن الثاني للإسلام والقرن الذي سبق أواخر عهد الجاهلية، فأهل الجزيرة ينقصهم إلى اليوم، ولا نكران للحق، كثير من مقومات المدنية، وهم مع هذا يرون أن ما هم فيه غاية الغايات؛ ذلك لكونهم انقطعوا عن العالم المدني طوعا أو كرها، وقل اختلاطهم بالغربي إلا في بعض سواحل البحر الأحمر والبحر المحيط الهندي وخليج فارس، وهذا على قلة محسوسة.
كان الوباء إذا انتشر في بلدة لا يبقي من سكانها ولا يذر، وفي الغالب أن يعقب الأوبئة قحط؛ لقلة العاملين في الحقول، فيهلك الناس بمئات الألوف، وما كانت هذه الأمراض الوافدة تنتشر في القرن مرة أو مرتين، بل تحصد الأرواح في كل عقدين أو ثلاثة، فقد انتشر وباء في الشام في القرن الخامس، وأعقبه قحط وإضاقة في العيش، مع ما هنالك من مظالم ومغارم لا يكاد يتصورها ابن هذا العصر، فأكل الناس الكلاب والسنانير والفيران ثم أكل بعضهم بعضا، ونزل سكان دمشق إلى ثلاثة آلاف إنسان وكانوا من قبل خمسمائة ألف، ومثل ذلك كان في مصر سنة 463ه؛ أفنى القحط العظيم الناس، وأكل الإنسان الإنسان وبلغ إردب القمح مائة دينار، وخرجت امرأة في القاهرة وبيدها مد جوهر فقالت: من يأخذ هذا بمد قمح، فلم يلتفت إليها أحد، فألقته في الطريق وقالت: ما نفعتني وقت الحاجة فلا أحملك، قالوا: والعجب أنه ما كان له من ملتقط، ووجه إلى مصر أحد ملوك الأندلس عام سبعة وأربعين وأربعمائة، وهو عام الجوع الأعظم بمصر، بمركب كبير مملوء طعاما فرجع إليه المركب مملوءا ياقوتا وجوهرا وذهبا وذخائر، هكذا كانت حال الناس قبل أن يكشف الغرب الجراثيم ويفيد بني الإنسان والعرب منهم بهذا المكتشف العظيم.
وكم كانت الأوبئة والطواعين والحميات والوبالة وجميع الأمراض الوافدة والأمراض العضالة كالكلب ونحوه تهلك عشرات الألوف من الخلائق، ولا يعرف دواء لها ولا من يفكر في تخفيف ويلاتها، ومنهم من يعزو ذلك إلى أسباب سماوية؛ يغضب الديان على الإنسان فيرسل عليه هذه المهلكات، أو يقوى سلطان الجن على الإنس فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، أو يحل بهم نكد الطالع فتساورهم النقم وتتخطاهم النعم، ولكم أفضل الغرب علينا بكشف طعم الجدري، وكان يهلك به كل سنة جزء عظيم من الأطفال، وكم من عيون دعجاء به قلعت، ومن خدود جميلة بتأثيره تشوهت!
عرف الغربيون حقيقة البول السكري والصرع والتشنج وغيرها من الأمراض فوصفوا لها الأدوية وأقاموا لها حواجز تحول دون آلامها وأخطارها فخفت وطأتها، وخففوا بما اخترعوا ويلات الأمراض الزهرية والكزاز (تيتانوس) والخناق والنقرس الحاد، ووفقوا إلى إتقان فن الجراحة إتقانا لم يكتب مثله للبشر؛ فأفادوا الإنسانية وقللوا من أوجاعها، ورقوا الطب على اختلاف ضروبه، وبلغوا بالأقرباذين ما ارتقت به الصيدلة أي رقي، ولو لم يكن لهم غير الكينا وصبغة اليود والراديوم لكفى في خدمتهم الإنسانية، وانتفعوا ونفعوا بالكيمياء حتى تحقق لهم من التفنن فيها ما هو غريبة الأيام والليالي. وإذا نقلت أوروبا إلى آسيا وأمريكا وجزء من إفريقية الحمى التيفوئيدية وبعض الأمراض الزهرية، فقد نقلت آسيا إلى أوروبا الكوليرا أو الهواء الأصفر، ومع هذا قاتلته بعلمها وبحثها حتى قتلته وأخاه الطاعون.
علمنا الغرب طب الحيوان والدواجن، ومكافحة الحشرات وكانت تعبث بالأشجار والنبات والزروع، واستفدنا منه أصنافا من البقول والأزهار والثمار لم يكن لنا بها عهد، وعرفنا طيورا ودجاجا وأسماكا جديدة، واستطعنا بالأخذ بوسائطهم القضاء على الجراد ولطالما أفقر أقطارا وأمصارا. وتعلمنا استعمال الأسمدة الكيماوية، والتفنن في تطعيم الغرسات والاستكثار من المعرشات، ومعالجة الآلات الحراثة والبذارة والحصادة والرجادة والدراسة والذراية، بل والخياطة والطرازة وكل ما يقلل من عمل الأيدي ويوفر على الخلائق راحتهم ويقتصر لهم طرق الانتفاع بما تنبت الأرض وتجود السماء.
تعلمنا من الغرب تمديد الخطوط الحديدية، وفتح الأنفاق وبناء الجسور والطرق والمرافئ والخزانات والمنائر وحفر الآبار الإرتوازية وإقامة الدور ذات الطبقات الكثيرة، وما عرفت في التاريخ في غير مدينة القاهرة والإسكندرية وبعض سواحل الشام، وعلمنا توليد الكهرباء ومد أسلاكها والهاتف واللاسلكي والسلك البحري ثم الراديو، وتعلمنا تنظيم المدن والبلديات وفتح الشوارع والساحات، ورصف الطرق وتذليل العقبات، وجر المياه النقية في أنابيب ومناهل، وتجفيف الأصقاع المستنقعة، وتخفيف ويلات أمراض العين وكان يعمى بها طوائف من الناس.
الألمان أنشئوا سكة حديد بغداد وسكة حديد الحجاز لتقريب المسافات بين الشمال والجنوب، والفرنسيس فتحوا ترعة السويس فربطوا الشرق بالغرب، والإنجليز أقاموا خزانات أسوان لتستفيد مصر من نيلها، وغدا ينظمون ري العراق ليستفيد من مياه الرافدين دجلة والفرات على ما كان على عهد ملوك بني العباس، إلى غير ذلك من أعمالهم في معظم الأقطار التي دخلوها في آسيا وإفريقية، وهم اليوم يستخرجون نفط الموصل، وقد مضت القرون وهو لا يعرف ولا يستثمر، وغدا يستفيدون من المعادن الغريبة المخبوءة في صدر البحر الميت.
اقتبسنا عن الغرب أصول الجندية، وتنظيم المراكب البخارية، وتدوين الدواوين وأسلوب الجباية والخراج وإدارة المصارف والجمارك، وأبدلنا أساليب التجارة بأساليبهم القريبة المأخذ، المضمونة النتيجة. ولم نعرف قبلهم المصارف ولا المصافق، ولا الشركات المساهمة والمضاربة والمغفلة، ولا كل ما يسهل على التاجر عمله، وعلى الصانع صناعته، ويوفر للناس أموالهم وكأن الأدوات والآلات هي خاصة من خاصات المدنية الحديثة؛ لتفرد الغرب بالفحم الحجري وضروب المعادن ومن أهمها الحديد؛ ولأن الإخصاء في العلوم جرى تطبيقه على الصناعات عندهم.
ومن الغربيين أخذنا أصول الدعوة ، والإعلان عن كل بضاعة، وطرق المفكرات والجزازات والإحصائيات، بله تأليف المؤتمرات والمؤامرات، ومنهم اقتبسنا استخدام المعاصر والمحالج والمغازل والمناسج والمطافئ والمضخات، ونسجنا على أساليبهم في إنشاء الجمعيات الخيرية والأحزاب السياسية، والشركات الصناعية، وإقامة حدائق لتربية الحيوانات، ومغارس لتربية النباتات والأزهار والأشجار، واستفدنا مسائل أخرى كثيرة نجهد لوضع أسماء تقابلها بالعربية، ولم نعرف قبل الغربيين إقامة المستشفيات والمصاح والملاجئ لليتامى والزمنى والصم والبكم والمسلولين والمعتوهين، على هذا الطراز من العناية والطهارة.
هم حرروا الرقيق فكان ذلك من موجبات فخرهم، وأزالوا بذلك وصمة عار عن الإنسانية، وأبطلوا النخاسة، وكانت أفظع تجارة، وأحط عمل شائن في استعباد البشر، هم علموا السود حتى ألحقوهم بالبيض، ودربوا الحيوان حتى قام بكثير من أعمال الإنسان، فاستفادوا من كل قوة ادخرتها الطبيعة وانتفعوا من كفاءة كل كفؤ، وفضل كل قريحة في هذا المجتمع العظيم.
بتعليم الغربيين أصبح للمرء قيمة، وللعالم العامل مقام، وبمدنيتهم الحديثة أصبح العلماء على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم يؤلفون أسرة واحدة، لا يبحثون على الأغلب إلا لجلاء الحقائق، بمعزل عن المصالح التافهة في المجتمع الإنساني، ولقد أثر علماء الغرب في أرواح الشرقيين وعقولهم من حيث يدرون ولا يدرون؛ وذلك بفضل ما يبثونه كل يوم من معارف جامعاتهم ومدارسهم وأنديتهم ومعاملهم ومخابرهم، وبفضل ما كشفوه واخترعوه وحققوه وصححوه من العلوم، وبثوه من الأفكار الجديدة، فقلبوا بأوضاعهم أوضاعنا، وبدلوا بتصوراتهم أشكال تصوراتنا، وبدلوا من أساليب الفكر في رجالنا الدارسين وغير الدارسين؛ فتغيرت مادة أحاديثنا ودوافع أهوائنا، ولطفت أذواقنا وبعض المستهجن من عاداتنا، ولم يكن لذلك كبير أثر قبل اختلاطنا بهم، وتسهيل المواصلات بيننا وبينهم. ومنذ رفعنا من أذهاننا أننا أرقى منهم في كل شيء أصبحنا، ولا يصعب على عزة نفوسنا، أن نقر بضعفنا فنعالجه، باتخاذهم أساتيذ لنا في معظم مطالب الحياة، وسنظل كذلك زمنا آخر حتى نستوي أمة ناهضة من كل وجه، على ما استوت اليابان الشرقية في القرن الماضي. •••
تحدثوا إلى شيخ طاعن في السن عرف هذه الدنيا منذ ستين سنة وعرفها اليوم، وقولوا له أن يحدثكم كيف كان أجدادنا يعالجون المسائل الصحية التي أدركها اليوم صغار أطفالنا، وكيف كانوا يطبخون طعامهم ويجلسون إلى موائدهم، ويفرشون بيوتهم ومخازنهم، ويلبسون ثيابهم ويرتبون هندامهم، وماذا كانت كسوة الأوانس والعقائل وأزياؤهن الغليظة؟ ليقولوا لكم كيف كانوا يسمرون ويتنادرون ويمرحون، وما هي ملاهيهم ومقاهيهم وحاناتهم وخاناتهم وفنادقهم ومراكبهم؟ وأي الحريات المدنية والدينية والسياسية كانوا بها ينعمون، وماذا كان لهم من الأمان على الأموال والأنفس والأعراض، وأي المعلومات كانت لهم عن العالم وأحواله، وعن الشعوب والأمم، وعن العامر والغامر، وعن الحقائق والخيالات؟ وكيف كانوا يقطعون أوقاتهم ويتمززون حياتهم، ويستلذون عيشهم؟ وكيف كان من يرأس من الناس يظلم كل من وقع بيده ويجد في الحكام معوانا له على ظلمه؟ بل كيف كان الخلق يتظالمون على الدوام وليس لهم رادع من قانون ولا عقوبة تكف عاديتهم وتعاديهم؟
ليقل لكم الشيوخ كيف كانت الأمية غالبة على الكبير والصغير؟ وكيف كان الأطفال يربون في أماكن مظلمة منتنة لا شمس فيها ولا هواء، يسمونها الكتاتيب والمدارس، ثم هم يضربون بالعصي على رءوسهم ووجوههم وظهورهم وأرجلهم بدون شفقة، وبذلك يتعلمون للخلاص من هذا العذاب الاحتيال والحلف الكاذب، ثم عودوا فألقوا بعد ذلك نظرة على مدارسنا لتروا كيف أصبح الولد بتنظيم التعليم بنظام الغربيين اليوم، يعرف من المواد ما لا يكاد يعرفه العالم أمس، تشهدون كيف اختصرت مراحل التعليم والتهذيب، حتى لنرى في شبابنا اليوم من هم مفخرة بمعارفهم ما رأى أجدادنا أمثالهم في بضعة عصور وأجيال، ولعمري متى كنا نسمع بمثل هذه المعلومات تجتمع لفتى في الخامسة عشرة من عمره، ومتى شاهدنا الأولاد يربون في رياض الأطفال هذه التربية العملية الصحية النافعة، ومتى كان ربات الحجال ينافسن في التعليم الرجال؟
هل عهدتم اللغة العربية تقرأ وتكتب بهذه السلاسة والرشاقة، إلا إذا كان في القرن الثالث والرابع، متى عهدكم بلغتكم يكون لها في التمثيل الذي اقتبسناه عن الغرب في الجملة، تلك الروعة في الإلقاء حتى لتظنن أنفسكم وأنتم في إحدى قاعات التمثيل أنكم رجعتم إلى عصر الرشيد والمأمون ، تأملوا عدد ما حيي من الفصح العربية التي ما كان يعرفها حتى الأدباء، وأصبحت بفضل المدارس والصحف السيارة أو دور التمثيل وبيوت الغناء وأسطوانات الحاكي وإذاعات الراديو في ألسن الناس وعلى أسلات أقلامهم ومكتوباتهم، كأنها من المتعارف. لنحكم ولننصف في أحكامنا؛ متى كنا نتخيل ظهور مثل هؤلاء الرجال الذين تسمعون بهم وتقرءون أعمالهم في كتبهم ورسائلهم ومصوراتهم ولوحاتهم وخطبهم، متى عهدتم هذا العدد الدثر من رجال القانون والإدارة والجندية والطب والهندسة والزراعة والكيمياء والطبيعة والفلك والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والشعر والكتابة والأدب والتصوير والموسيقى والنحت والنقش، ومنهم من لا يقل عن أرقى الطبقات أمثالهم في الغربيين، ولا يفرقون عن النابهين من الرجال عند الأمم الممدنة، إلا بفروق مرجعها إلى المحيط، وإذا شهدتم في بعضهم فتورا في هممهم فثقوا بأن فتورهم ينقلب نشاطا إذا رأوا من أمتهم تنشيطا.
للغرب على الشرق العربي فضل عظيم في إحياء مدنيته ولغته أيضا؛ أنشأ منذ القرن الرابع عشر للميلاد مدارس لتعليم العربية في بلاده، وكلما كان بعض أبنائه يتلقفونها، كانوا يفكرون في اقتناء كتب العرب، ويتنافسون في ذلك تنافسهم في الاحتفاظ بالآثار التي هي محصول القرائح العربية، ولما اخترعت الطباعة كانت المخطوطات العربية أول ما طبع في بلاد الغرب، وأول مطبعة أنشئت في مدينة فانو في جون البنادقة (بحر الأدرياتيك) سنة 1514 طبع فيها القرآن وكتب الطب والحكمة والطبيعة باللغة العربية، وفي مدينة البندقية طبع الإيطاليون تآليف يوحنا بن ماسويه في الطب والفلسفة، ومثلوا بالطبع قانون ابن سينا مع كتاب النجاة في رومية وذلك سنة 1593، ومنذ سنة 1615 بدأ الهولنديون في مدينة ليدن بطبع كتب العرب، وما زالوا إلى اليوم يطبعون من أمهاتها كل مفيد، وقد أنشأت فرنسا وإنجلترا وألمانيا والنمسا وإسبانيا وروسيا وأمريكا وغيرها من الممالك الغربية مطابع مهمة طبعت فيها عشرات من كتب العرب النفيسة، ودلوا قومهم وغير قومهم على فضل العرب، ونوهوا بحضارتهم ونبوغ أفرادهم؛ كانوا يأتون ذلك والعرب يغطون في سباتهم غطيطا غريبا، تحت ظل خلفاء العثمانيين ودولتهم المباركة، وبينا كانت العربية آخذة بالانقراض في مصر والشام والعراق، دع سائر الأقطار العربية الأخرى، كانت أوروبا لا تخلو جامعة من جامعاتها منذ القرن السادس عشر من دروس عربية ولا سيما جامعات ألمانيا وإنجلترا وهولاندا ثم فرنسا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا وبولونيا وسويسرا والسويد والنروج وفنلندا وروسيا والولايات المتحدة.
ولقد جمع الإفرنج في كل دولة صغيرة كانت أم كبيرة خزائن عامة أو خاصة من نفائس الكتب العربية المخطوطة ما هو العجب العجاب، عنوا بها أشد عناية ورتبوها ونشروا فهارسها ونشروا منها بالطبع جزءا من كتبنا الدينية والفلسفية والتاريخية والجغرافية والعلمية والأدبية واللغوية وغيرها مما لا يقل عن خمسمائة مجلد، ونحن لم نعرف بعد الطبع بالحرف، مجتزئين بطبع الحجر السقيم. وفي الأستانة ومصر من المخطوطات العربية وفي خزائن الكتب العمومية والخصوصية ما لا يقل بعدده عما عند أهل أوروبا منها، ولم نطبع منها غير أسفار قليلة ومنها التافه الذي قصدوا به التجارة لا خدمة العلم كما فعل علماء المشرقيات من الغربيين، وجاء القرن التاسع عشر وما مثل بالطبع منها غير بضعة كتب نافعة، فبفضل الغرب عرفنا الطبع وعرفنا فضل أجدادنا وتعرفنا إلى الطرق في إحياء كتبنا، ولكن طالت مدة تعليمنا أكثر من مائتي سنة، حتى خجلنا من أنفسنا، فجاريناهم بعض المجاراة، ولما نلحق بهم بعد في تدقيقهم وتحقيقهم.
فللغرب الفضل الأول بإحياء حضارتنا وتعريفنا بمزايا لها كنا عنها في غفلة؛ فهم لقنونا طرق الاستفادة مما أملته قرائح الأسلاف، وأبقته الأيام من تراثهم الثمين، على نحو ما كان لهم الفضل الأكبر في البحث عن دفائن بلادنا ونبش عادياتها ومصانعها القديمة، وبهم اهتدينا إلى معرفة آثار أرضنا وتاريخها وعظمتها السالفة ولغات بلادنا القديمة، فعلمونا كيف نحتفظ بآثارنا الثابتة والمنقولة، ودربونا على العناية بتركة أجدادنا واحترامها وتقديسها والولوع بها، وكنا فيها من الزاهدين.
نحن إذا قلنا إن الغربيين أحيوا لغتنا لا نكون إلى المبالغة في شيء؛ هم نشروا أمهات كتبنا، فانتبه علماء العرب وأخذوا يدرسون فيها، وكلما درسوا ودرسوا وأحكموا من اللغة فصيحها في أمهات كتب الأدب مما سبق الغرب إلى طبعه ارتقت ملكات الكاتبين والمؤلفين والمدرسين عندنا، وكلما انتظمت أصول التعليم في المدارس، زاد أسلوب العربية ارتقاء، وكلما ثقف أبناء العرب لغات العالم الحديث نسجوا في لغتهم على أساليبها في الأدب والشعر والتمثيل والخطابة، ولولا الغرب ما نبغ فينا شعراء وكتاب وخطباء في العصر الأخير لم يعهد لهم نظير في لغتنا منذ المائة الخامسة، وقد كاد كتاب مصر والشام والعراق وتونس وشعراؤها وخطباؤها يرجعون إلى العربية نضرتها القديمة، وبرزوا بها في أجمل حلة عربية، وما تم هذا بغير مدارس الغرب وفضل رجالهم ممن أخذنا عنهم واقتدينا بهم، وساقتنا الغيرة إلى الجري على طرائقهم في النظم والنثر والتأليف والوضع والبحث، وكلما مازجناهم في رحلاتنا إلى بلادهم ومازجونا في نزول بلادنا عرفوا منا، والبعد جفاء، ما كانوا يجهلونه، وعرفنا منهم ما كنا نجهله من غيرتهم على العلم والمدنية. •••
أخذ الغربيون عن العرب كل ما نفعهم يوم نهضتهم من ضروب المعارف البشرية، وها هم اليوم يعيدون إلينا عن سماحة نفس شيئا مما تعلموه من أجدادنا وزادوه بعلمهم وبارتقاء الزمن وتداول الأيام فلا يشقن ذلك علينا، فهذه سنة المدنيات التي درجت عليها أجناس البشر. تقلبت على المدنية أيد كثيرة منذ دون تاريخها، واليوم وصلت بفضل أهل الغرب إلى هذا المظهر الباهر، وغدوا سدنتها القائمين على بثها في المشرق والمغرب يعنون بوضع أسها في الكنغو والسودان والسنيغال وجاوه، كما وضعت في البلجيك وإنجلترا وفرنسا وهولاندا. وللغربيين السلطان الأكبر على النفوس وعلى السياسة والتجارة والعلم، وسنظل متوفرين على الأخذ عنهم، ولا غضاضة على المتأخر إذا أخذ عن المتقدم.
ولا يفوتنا النظر وقد بلغ بنا نفس الكلام إلى هذا الحد، أن نعرض لما حوته المدنية الغربية من المساوئ بعد أن ألممنا بما حملت من عظيم المحاسن؛ ولكل مدنية سيئات تندمج في مطاوي الحسنات، وصعب أن يكون الخير تاما والشر تاما، وكان علينا أن نقتصر على اقتباس النافع ونتحامى الضار، ونجعل السلطان للعقل لا لهوى النفس، والظاهر أن المدنية وحدة لا تتجزأ من أخذ بخيرها لا بد أن يستهدف لشرورها طوعا أو كرها، وما هذه السيئات بالذي أقره عقلاء الغرب دعاة الحضارة الحديثة، ونحن نعلم أنهم يشكون منها شكايتنا وزيادة.
هجمت علينا المدنية الغربية بأصناف من المسكرات والمخدرات كان أجدادنا لا يعرفونها، وعاشوا بدونها قرونا في هناء وراحة، وكان يقتصر من يعاقرون الراح سرا، وهم قلائل جدا، على ما تنتج البلاد من خمور، وضررها على الجملة أخف من مضار الغول الجديدة، وهكذا في عامة المخدرات كالمورفين والكوكايين والهيروين التي جاءت مع القرن الماضي فأضعفت العقول وقتلت الأنفس، وفتح التوسع في الحرية أبواب العهر والفجور والإسراف على النفس، فأنشأ الفحش يمارس تحت سمع القانون وبصره؛ فزادت بذلك الأمراض الزهرية، وتعطل التناسل في بعض الرجال والنساء، ثم انتشر القمار على اختلاف صوره، ومنه المضاربات وألعاب النصيب، وكان الناس في غابر الدهر يقنعون بالرزق المحلل، يأتيهم من أعمالهم الصناعية والزراعية والتجارية، لا يغامرون هذه المغامرات التي يردها العقل والشرائع.
وأدت الحرية الشخصية بالسلطة الأبوية في بعض البيوت إلى الفتور، فكان في الماضي الإفراط في هذا المعنى وصار اليوم التفريط، وضعفت سلطة الأب على ابنه وابنته بالنسبة، وضعفت معها الشفقة والرحمة والكرامة إلا قليلا، وأصبح كل أمر يقاس بمقياس الماديات، ولا يسأل الرجل من أين اكتسب ماله إذا اجتمع له مال؛ لأن المعنويات لا شأن لها في نظرهم وإنما الشأن للماديات، وقضت المدنية على من قبلوها أن يجدوا ويسرعوا إن أمكن بقوة البخار والكهرباء والأثير، وكان الناس منذ قرن على تؤدة وتأن وصبر لا نشاهده في أهل هذا الجيل، ولذا رأينا التشاؤم أكثر من التفاؤل في كل بلد، والقناعة والرضى أقل من الشراهة والطمع، وأمسى كل صعلوك يحاول أن يغتني بين عشية وضحاها بأي الطرق التي تفتح أمامه، وكثر حب الظهور بل الجنون فيه، وتبع ذلك البذخ والتفخل والإسراف، بحيث تعذر التوازن بين الدخل والخرج؛ فكان في ذلك خراب بيوت كانت عامرة لولا التقليد المصنع والعادات المستحدثة، وكثرت بذلك السويداء والماليخوليا والخبل وضعف الأعصاب وفقر الدم والسل، كانت الرفاهية في الأيام الماضية مقصورة على قصور الملوك والأمراء فشارك فيها اليوم أهل الطبقات الثانية والثالثة، والرفاهية تتوقف على كثرة بذل ووفرة دخل، وكان للمجتمع في الشرق عادات مستحسنة من جمال الألفة، وحسن العشرة، وصحة العهد والوفاء، وقوة الإيمان ومعرفة الجميل، فعرا هذه الصفات بعض الفتور خصوصا في البيئات التي اقتبست مدنية الغرب بعجرها وبجرها.
هذه جريدة بما لقفناه عن الغرب، ذكرنا فيها الحسنات وأتبعناها بالسيئات، وربما كان فيها بعض النقص، غفلنا عنه بخيانة الذاكرة، أوردنا منها ما أوردناه على سبيل الذكرى، لننصف غيرنا وننتصف منهم.
التنظير بين المدنيتين وأهلهما
عرضنا في المحاضرات الأربع السالفة لاختلاط الغربيين بالعرب في الأندلس وصقلية، وفي الحروب الصليبية وعهد الاستعمار الغربي، وذكرنا ما أنتجته عقول العرب من العلوم والفنون فأخذته أوروبا عنها، ثم تحدثنا إليكم فيما اقتبسه العرب بعد انحطاطهم من مدنية الغرب الحديثة، والآن ننهي هذه السلسلة ببيان الفرق بين الحضارتين والقائمين بهما، وهو موضوع منتشر الأطراف لا تتسع له عدة محاضرات، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فنقول: لكل مدنية قامت في الأرض روح تتجلى فيه؛ ذلك لأن المدنية ابنة عوامل كثيرة، فالعامل الذي له الشأن الأول في قيامها هو البارز فيها المتسلط عليها، فالمدنيتان اليونانية والرومانية أقرب إلى المدنيات المادية، ومدنية الرومان هي المادة بعينها، وفي المدنية اليونانية شيء من المعنويات من شعر وفلسفة وعلم، والمدنية الهندية روح كلها فنيت فيها المادة في الروح، وجاءت المدنية العربية تنهج طريقا وسطا؛ فأخذت بقدر كبير من المعنويات، ولم تغفل عن الماديات، فكانت في ذلك معتدلة، فما كثر الشقاء في أرضها، ولا أفرطت السعادة، ولعلنا لا نبعد عن الحق كثيرا إذا عرفنا المدنية الغربية الحديثة بأنها مدنية مادية والمعنويات تابعة لها، والمدنية العربية مدنية روحية والماديات تبع لها.
وإذا جئنا نحل المدنية الغربية اليوم، نجدها تحت سلطتين؛ سلطة الممولين خزنة الأموال، وسلطة أرباب القوة من رجال الجندية، وكل ما هناك من حسنات تلك الحضارة من علم وصناعة خادم لتينك السلطتين، وهكذا كانت الحال منذ انبعثت الشعلة الأولى من النهضة في إيطاليا، وتحررت العقول من قيودها، والألسن والقلوب من عقالها، والظاهر أن مدنية الغرب منذ تخلصت من سلطة الدينيين أزهرت وأثمرت، ومدنية العرب منذ ضعف جوهر الدين في نفوس القائمين بها، ووقعت في سلطة الزعماء على الدين تراجعت وتضاءلت؛ أي إن الباباوات لما كانوا المتحكمين بمعظم أهل الغرب كانت المدنية هناك على حالة ابتدائية يصعب أن تسير إلى الأمام، فلما قام الإصلاح الديني ونزلت الكنيسة عن تسلطها على كل شيء، ورأى الناس عاقبة التنازع على الدين بما أصيبوا به من النكبات ظهرت تباشير المدنية ناجية من تلك القيود الثقيلة.
أما في الشرق، فإن المدنية العربية قامت بروح الدين أولا، وكانت سلطة رجال الدين ضئيلة لا تتعدى دائرة معينة؛ لأن الرياسة الروحية مفقودة في الإسلام، خلافا للسلطة النصرانية في القرون الوسطى، فإنها كانت منظمة مرتبة، ولها السلطان كل السلطان على أرواح المؤمنين، تدبرهم في عامة شئون الحياة، وتسيطر على الدقيق والجليل من حركاتهم وسكناتهم. وكأن الكنيسة كانت حاكمة مطلقة والملوك عمالها، ينفذون أمرها ويأتمرون برأيها، فلما ارتخت تلك القوة، خلصت المدنية من المؤثرات التي طالما عاقتها، والأمر عند العرب على خلاف ذلك من بعض النواحي.
ويشهد الناظر في تاريخ الغرب أن الكنيسة بما كان لها من الحول والطول في كل أدوارها، وبما تمتعت به من السلطان على النفوس، تختط لها طريق سلامتها في الأرض والسماء؛ قد خدمت المدنية بعض الشيء على عهد نوابغ من رؤسائها، حتى إذا استمتع الملوك بحرياتهم تناولوا أعمال المدنية فخدموها زمنا؛ فالمدنية انبعثت من الكنيسة أولا، ثم وصلت إلى الملوك، وجاءت الشعوب بعد ذلك تأخذ بطرائقها، فتم للمدنية ما يتوقف عليه إنهاضها، أما في الأقطار التي خفق عليها علم العرب، وأمدوها بروحهم وتعاليمهم، فكانت المدنية يرعاها الرعاة والرعايا معا منذ خلقت، يعمل العلماء فلا ينازعهم عقلاء الملوك، ويحمونهم من اعتداء المتعصبين، ويرعونهم كل الرعاية، ويولونهم صنوف الكرامة، فما عرفت في الإسلام طبقات ولا امتيازات، ولا دعا إلى التسلط على نحو ما دعت الكنيسة قبل عهد الإصلاح، وكان السلطان الأول في الدول العربية للقائمين بالدولة من الملوك والأمراء فقط.
ومن أجمل ما كان في المدنية العربية تجلي روح التسامح فيها مع من كان يدين بغير دين الدولة القائمة، ورأينا المدنية الغربية لا تحتمل إلى عهد قريب طائفة تخالف رأيها؛ فقتلت من بنيها وغيرهم خلائق لا يأخذهم العد في معظم أدوارها، حتى أدخلتهم طوعا أو كرها في دين السواد الأعظم، وما رضي الغربيون حتى بعد عصر النهضة من بلد رفع عنه علم العرب إلا أن يتنصر أهله، على نحو ما فعلوا في الأندلس وصقلية وجزيرة أقريطش وغيرها، وما عهد للعرب مثل هذا الشطط. وإذا أحسنا الظن في تعليل عمل الغرب، نقول إن الغربيين في سيرتهم هذه دلونا على شدة غرامهم بالنظام والتوحيد، فهم لا يرتاحون للشذوذ في قوانين الجماعة، ولا يهنأ لهم بال إلا إذا عاهدهم معاهدوهم على المطلق من الطاعة.
ومن غريب أمر الغرب في تغاليه بالنظام أن الكنيسة قضت على الرهبان والراهبات أن ينذروا العفة لا يتزوجون؛ لينقطعوا إلى ما هم بسبيله من الدرس والعبادة والدعوة إلى دينهم، مع أن النصرانية لم تحرم في أصلها زواج الدينيين، ومضت القرون الثلاثة الأولى عليها ورجال الدين فيها يولدون، ولكن حب النظام دعا إلى أن حرموا مئات الألوف من البشر التناسل، وبالحظر على خدمة الدين تأليف أسرة خرجوا عن الطبيعة الإنسانية، وتغاضوا عما يجر ذلك من الكبائر والمنكرات أحيانا، على أن كلا من البرتستانتية والأرثوذكسية قضت على رعاتها بالزواج وما تخلخل نظامها.
أنكر بعض الشعوبيين من أعداء العرب فضل المدنية العربية على العالم في زمن العنجهيات القومية، أنكروا ذلك لما ضعف سلطان العرب في الأرض، وسخروا مما يقول به المنصفون منهم متى عد ما أورثته العرب للإنسانية، وزعموا أن المدنية الغربية هي المدنية، وما عداها فخطوط غير مرسومة على ما يجب، فهي كعلم جابر: «اقرأ تفرح جرب تحزن»، وإن كان ثمة ما يسمى مدنية فهي مدنية الفراعنة والأشوريين والبابليين واليونانيين والرومانيين؛ ذلك لأن المدنية العربية لم تنشأ فيها تماثيل ولا نصب، ولم تثبت لها كفاءة عظيمة في النقش والتصوير، وهم على شيء من الحق في دعواهم؛ ذلك لأن العرب لم يولعوا كثيرا بالمحسوسات، وليس في حضارتهم من هذه ما يعتد به كثيرا بالقياس مثلا إلى ما خلفه الرومان. وذهب الغرض ببعضهم إلى أن قالوا إن المدنية العربية لم تأت بغير الضرر مع أن الغرب لم يعرف الرومان واليونان أيضا إلا من طريق العرب؛ كلام من يعتز بالقوة القاهرة، ويحكم بالظواهر، ويعميه الهوى الجنسي والنزعات السياسية، فما دام القائل لم يحس المدنية العربية ولم ترها عينه، فهي إذن غير موجودة ولا وجدت! ومن يقول هذا من العبث أن نناقشه لنقنعه.
العرب لم يخلفوا آثارا عظيمة كأهرام الفراعنة، ولا قلاعا وطرقا وهياكل من النوع الذي خلفه الرومان؛ ذلك لأن شريعتهم حظرت السخرة، وما أباحت إشقاء إنسان لسعادة غيره، والرقيق الذي قام بيده معظم ما نراه من مصانع الأمم البائدة، كان يعامل في الإسلام معاملة الحر برحمة وشفقة، حتى كاد المولى يعد من أهل البيت الذي استرقه، ودولة العرب لم تطل أيامها كما طالت أيام الفراعنة والعمالقة وعاد وثمود ويونان، ولو عرف الناقدون هذا، وقدروا الأمور في موازين القسط، لما وسعهم إلا الإعجاب بما تم في زمن قليل من نهضة العرب، ومن لا يقيس الأمور بمقياس الماديات لا يتحرج من الاعتراف بأن العرب تجافوا كل التجافي عن إرهاق أحد، فكانت مدنيتهم شعبية ديمقراطية بعيدة ما أمكن عن منازع الزعامات الأرستقراطية، وكان من نتائج تعاليمها، ومنها إكراه الأغنياء على إخراج زكاة أموالهم للفقراء، إذا لم ينزلوا عن جزء منها برضاهم؛ أن لم يعهد في العرب اشتراكية ولا فوضوية ولا عدمية، ولا ممولون كممولي الغرب يعملون الحرب ويعقدون الصلح، ولا احتكارات كاحتكارات الغرب في الصنائع والتجارة، ولا هذا الشقاء الذي عم وطم، وأهلك الحرث والنسل، وقصاراه إفقار جماعات وإغناء أفراد.
ربما كان من جمع الثروة في أيدي أفراد بعض الفائدة للحضارة، والحضارة ابنة الثروة والغنى؛ لأن من أهلها من يبنون القصور والمصانع الجميلة، وقد يفضل بعضهم على الأعمال العامة، ولكن هل يوازي يا ترى قتل ألوف من النفوس لإحياء نفس واحدة؟! وهل من العدل الطبيعي أن أسمن وأتخم ويهزل مئات ويجوعوا، وأن أستوفي حظي من السعادة وأسباب الهناء، ويشقى لأجلي من وراء جداري كل الشقاء؟! تعاليم العرب بعيدة عن هذه الهنات، وإن شذ عنها بعض الأغمار من أصحاب السلطان في بعض العصور اعتدادا بما لهم من القوة والجبروت، فمجموع تاريخ الإسلام كان صورة أخرى، ومعظم المصانع العربية قام بأموال الدول، أو بأيدي زعمائها وأصحاب الخير من الناس، وفيها مسحة الفردية.
المدنية العربية ما فرقت منذ كانت بين الأجناس والعناصر، فكان كل من يدخل في الإسلام، أو يعاهد أهله ويخلص لهم من أهل الملل الأخرى موفور الكرامة في الدولة، ذلك هدي الدين وليس في وسع القائمين بالأمر أن يتعدوا حدوده، بل كانت مرونتهم في تطبيق النقل على العقل أبدا، ومن حاول أن يخرج عن هذا الحد هلك فيما كان يتوهم فيه النجاة، قام في ذهن جلال الدين محمد أكبر سلطان المغول في الهند وأعظم ملوك القرن الخامس عشر أن يوحد الأديان والأجناس، فجمع لذلك مؤتمرا انتهى بالسباب والشتائم بين المؤتمرين، وفاته أنه يحاول إخراج الناس عن طبائعهم، وعن نظم الحرية الشخصية، وأعظم ما يستميت المرء في حبه دينه ولسانه، ومن المتعذر أن يعقهما الإنسان إلا بدافع لا قبل له بدفعه، أو بوازع نفسي شاذ ولا قياس على الشذوذ.
حاول أكبر إدخال التجديد في الهند ونسي على نبوغ فيه أن الإسلام مع ما بلغ من سلطانه، لم يكره أحدا على انتحاله، وأجمع أرباب العقول أن من السخف فرض الأديان على الناس، ورأينا بعض دعاة المدنية الحديثة ينوعون الأساليب لإدخال الناس في معتقدهم بطريقة من طرق الدعوة، وقلما أفلحوا على كثرة ما بذلوا وجهدوا، وهذه إسبانيا حكمت الفيليبين ثلاثمائة سنة، وما تركت في قوس الجهد منزعا لتزحزح المسلمين عن عقيدتهم؛ أغلقت جوامعهم، وحظرت اجتماعاتهم، وشردت زعماءهم، ولما استولت الولايات المتحدة الأمريكية على تلك الجزائر سهلت للمسلمين من أهلها جميع طرق الارتقاء، وأتتهم بمن علمهم أصول دينهم، فارتقوا في ظلها في ثلاثين عاما رقيا ما عرفته أمة آرية بيضاء في مائة سنة، والغالب أن لطبيعة العنصر الإسباني والعنصر الأمريكي دخلا كبيرا في ذاك التحكم البارد، وهذه الحرية المطلقة.
ما قامت دولة العرب بروح القومية، ونغمة القوميات جديدة رددت صداها الأرجاء الغربية في القرن الماضي؛ فتألفت الأمم بحسب ما ارتأت من أنظمة وضعتها لها، وعلى ما كان في الدعوة إلى القوميات من المنافسة المحمودة بين البلاد كان منها أن أدت أيضا إلى أن يكره أهل كل لسان أهل اللسان الآخر، ودينهم واحد وكتابهم واحد؛ فالأمم الأنجلوسكسونية تبغض الشعوب اللاتينية، والشعوب الجرمانية تكره الصقالبة، واللاتينية تحقد على الجرمانية والسكسونية، وهكذا رأينا في عصرنا أثر هذه الكراهة باديا على ما لم يعرف البشر أفظع منه، وها قد انقضت الخمس عشرة سنة الأخيرة، وأمم الأرض تحاول أن تنجو من غوائل الحرب التي أوقدوا نارها، فلا يجدون إلى ذلك مخرجا. وثبت للأمم أن ما دهمها من الدواهي هو من نتائج الأوهام التي تتخيلها الدول الكبرى من الاستئثار بمغانم الأرض كلها، وأن المغريات التي كان بعض من لا يهمهم إلا الظفر، ولو بإهلاك ربع البشر، كانت قانونا جائرا لا توافق الطبيعة على تطبيق مفاصله. وعجيب بعد هذا حال من يعدون السعادة كل السعادة الفوز برضى مجالس النواب، والذهاب بأماديح الصحف وصفحات التاريخ، وعجيب في هذه المدنية الحديثة أن تتمحل الأعذار للقتلة وتقدس السفاكين، وإذا نصح لهم ناصح من أهلهم عدوه غرا جاهلا، وألبوا العوام عليه فمقتوه وشردوه، أو قتلوه؛ لأنه قال الحق ولم يزل قائله من الممقوتين.
وضع الرئيس ويلسون مواده المشهورة فزيفه بعض أرباب الأهواء من الغربيين، وقالوا إنه كلام أستاذ في جامعة؛ أي إن تعاليمه نظرية غير عملية، وبعد مدة ظهر أن الحق كان في جانبه، ولكن العمل بالحق في هذه المدنية من الأمور الصعبة، ويلسون الذي تشبع بقاعدة بلاده الذهبية: أمريكا للأمريكيين، لا يرى السعادة للمدنية والإنسانية إلا أن يطبق رمزه في كل مكان؛ يريد الهند للهنود ومصر للمصريين وتونس للتونسيين، هو يقول بالرحمة فوق العدل، وعسى أن لا يكون عقل أهل القرن العشرين في هذا المعنى أحط من عقل العرب في القرن السابع.
نحن لا نتابع رأي من يقول من الغربيين اليوم إن الغرب الآن في دور سقوطه ولم يبق أمل في نهوضه، وإن أهل الطبقة الوسطى قد اضمحلوا، وإن الغرب اغتر بأن نجاحه أبدى مضمون النتائج، وأخرج الناس من عمل الأرض وأنشأ طبقات من الفقراء كانت الآلة داعي شقائها، وإن المجتمع الحديث حاول أن يبتاع كل شيء؛ ابتاع الصحافة والأفكار والنساء والرفاهية، وما استطاع أن يشتري روح الأشياء؛ ولذلك يعود الغرب إلى الهمجية، ويدخل في دور يشبه القرون الوسطى بل أحط منه، وكان ذاك الدور يفضل هذا بسذاجته وجميل فطرته، نعم، نحن لا نشايع القائلين بذلك، ونعوذ هذه المدنية أن تصيبها بائقة تأتي على الشرق والغرب معا، وهذا القرن على ما فيه من الشرور والمآثم يعيش الناس فيه عيشا طيبا لم يكتب في الدهر السالف مثله حتى لكبار الزعماء والملوك، وابن الطبقة الوسطى اليوم أنعم حالا وأهنأ عيشا من عظماء أمس؛ يتمتع ويغتبط بما لم يعهد مثله في الدهر الغابر.
يقول كاتب العصر آناتول فرانس: إن الواجب أن لا نثلب هذه الحضارة، ومن يجسر أن يفعل ذلك؟ أما أنا فأحب النور حتى ما يحرق منه، أساء رنان الظن بعقبى الأجيال القادمة، وما ظلمهم كثيرا فيما أحسب؛ فقد كان يعتقد أن الجهل يفشو في العالم على صورة مطردة هائلة، وأن آخرة مدنيتنا ربما انتهت بالجهالة، ولعله كان يبالغ، وأنا أيضا أحمل نفسي على المبالغة، ولن نعدم برهانا لإثبات هذا القياس المقلق، ولعمري هل المدنية المادية غير سهولة كل شيء، والتمهيد لكل شيء، وقلة الجهد، وفقد الشخصيات؟ إن الآلات تعمل عملها لا تحفل ما فيها من ضرر، ونحن لسنا بمأمن من شر سحقها لنا، وسيتجلى لفلاسفة الأجيال المقبلة أن الحضارة في القرن التاسع عشر، وهي ميكانيكية وعلمية، قد أدخلت البلادة على عقول الناس، وأنزلت المستوى العقلي حتى ابتذل، وعلى قدر ما انتفعنا بالصحافة والكهرباء تخلينا عن الدرس؛ فنحن نهمل درس العلوم الأدبية، ونعنى كل العناية بصنع آلات أكثر من عنايتنا بتربية نفوس، والجراثيم الضارة تربى في أرضنا على غاية من السهولة، وفي الزمن الغابر كانت بذور الجراثيم تنمو في بعض النفوس الخاملة على خفاء، أما الآن فتنمو وتلوث جميع الرءوس التي ألفت الرذيلة، ففساد السياسيين، وفضائح المضاربين، ومفاخر السارقين، وجميل جرائم المجرمين، كل أولئك يطير ويسير ويفسد النفوس بإسراع الصاعقة، أريد أن أقول بسرعة البرق؛ أي على معدل ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية.
ثم ذكر فضائح الصحافة وسعيها أبدا لإسقاط كل صاحب مكانة لتضحك قراءها، وتعلمهم ثلم الأعراض، وكشف كل ستر، وقال إن القحة هي أول ما يتجلى في المجتمع الحديث، والثاني احتقار الثقافة الحقة التي استعيض عنها بطلاء أولي سطحي مستعار، وكان الناس قبل هذه المخترعات الكبرى يتفاوضون قليلا، ويوجزون فيقتصرون في تناجيهم على إيراد الأمور الجوهرية، وكان الناس طبقتين: علماء وجهلاء، أما الآن فقد قربت المساوف، وتعبد كل صعب، وسهل كل أمر، وأخذ كل واحد يتحف صاحبه بما عنده من التافهات والبلاهات، يتكلمان في كل شيء ولا يحفلان شيئا من الأشياء، وكيف نعجب بمدنيتنا وهي تفقد الروح ولا معبود فيها ولا هدف لها، وليس فيها حقيقة جوهرية واحدة تزيد على ما كان في الحضارات السالفة، نحن مقبلون في كتيبة من الجهل والغرور على مستقبل فيه قحة، وفيه بلبلة، وفيه سفاهة، ولعله لا يخلو من بلاهة وغباوة، كان فلاماريون يرى أن العالم ينتهي أمره ببرودة سطح الأرض، ومن رأي سولي برودوم أنه سيضمحل بالإفراط في الشهوات، وأنا أرى أن الترهات المنبعثة عن الجهالة والغرور تطفئ النور الأوروبي على نحو ما أطفأت الأنوار القديمة. ا.ه. •••
قارن علماء هذا العصر بين المدنية العربية وغيرها، ومن أقرب الآراء التي رأيناها إلى الاعتدال رأي العلامة جوستاف لوبون، قال إنه كانت للعرب صفات ومساوئ عظيمة جدا واستعداد عقلي عال؛ فهم أحط من الرومان بأوضاعهم السياسية والاجتماعية وأعلى منهم كعبا في اتساع معارفهم في العلم والصناعة، وقد أحرزوا في الجملة مقاما عاليا في التاريخ، ولم يظهر الرومان كفاءة في الصناعات والعلوم، وكان اليونان سادتهم في عامة الشئون العقلية، ومع هذا فقد استعبد الأولون الآخرين، والحكم على القيمة العقلية في أمة وعلى ارتقائها في سلم المدنية مقرون بما أخرجت من الرجال، فإذا جمعت إلى تفوقها العقلي عددا غير قليل من أبنائها النابغين، وكان سوادها الأعظم مؤلفا من أفراد هم وسط في ذكائهم وتعلمهم، واتصفوا بأخلاق عالية، كان في ذلك رفعتها، ولقد جاء رجال ممتازون من العرب، وما وفقوا إليه من الأعمال وكشفوه من الحقائق العلمية دليل على مكانتهم، ولكن العرب لم يرزقوا فيما أحسب رجالا من عيار نيوتن وليبنز اللذين قلبا العالم بما كشفاه، فالعرب إذن أحط من اليونان في كثير من المسائل، مساوون ولا شك للرومان بذكائهم، وإذا قست العرب بالشعوب الأوروبية الحديثة، أمكنك أن تقول إنهم من حيث العقل والأخلاق أسمى مكانة من كل الأمم التي عاشت قبل عصر النهضة، وقد فاقوا بأخلاقهم أجدادنا كثيرا.
قال: ذهبت ريح العرب قبل عصر النهضة في الغرب - أي قبل القرن الخامس عشر - ولا يتيسر لنا الحكم الآن عما يكون من أمرهم ذات يوم لو كتب لهم البقاء، ولا نعتقد أنه كان في وسعهم أن يتجاوزوا المستوى الذي بلغوه؛ فإن انحطاط أوضاعهم كان يحدث لهم مشاكل صعبة، ومن الحيف أن يقابل بين العصور الحديثة، والعصور التي اضمحل فيها سلطان العرب، وإذا كان لا مناص من هذا التنظير، فلنا أن نقول إن الرجال الممتازين عند العرب كانوا أحط من الرجال الذين يقابلونهم من أهل العصر الحاضر، ولكن الأفراد المتوسطين فيهم ساووا وربما فاقوا أهل الطبقة الوسطى في الشعوب المتمدنة اليوم، ولو رزق العرب بل الصينيون والهنود اليوم طبقة ممتازة من الرجال بالنظر لما عندهم من الطبقة المتوسطة الصالحة لضاهوا الأوروبيين وفاقوهم وخلفوهم في تمثل هذه المدنية الحديثة. ا.ه.
وقال العلامة دوزي: «إن العرب ترجموا كثيرا من كتب الأقدمين وعلقوا عليها شروحا، فاغتنت بأعمالهم بعض فروعها، واتسع نطاقها باستدراكاتهم البالغة غاية الدقة والوضوح، ولكنهم لم يخترعوا شيئا، ولا ندين لهم بأدنى فكر عال أو واسع، وهكذا فإن بيننا وبينهم اختلافات أصلية، وربما كانت أخلاقهم أسمى من أخلاقنا، ونفوسهم أكبر من نفوسنا، وهم أكثر ميلا إلى العظمة الإنسانية، لكنهم لا يحملون بذور النهضة والنجاح، ومع ما هم عليه من الولوع بالاستقلال الشخصي، يظهر أنهم، على ما انطووا عليه من الأفكار السامية، غير قادرين على الخضوع لقوانين المجتمعات.» ا.ه.
وقول لوبون: إن العرب لم يظهر فيهم مثل نيوتن وليبنز اللذين قلبا العالم في مادياته، لا يصح فيما نرى على إطلاقه؛ فقد ظهر فيهم علماء غيروا بأبحاثهم صورة المادة، وأحسنوا الانتفاع بها في مسائل كثيرة، ولكن أولئك العلماء لم يوفقوا أن يتموا أعمالهم كلها، وما كتب لهم أن يسير من بعدهم على آثارهم لما دب من الانحطاط في الدول العربية، أما من ذكرهم لوبون ممن قلبوا في العهد الحديث صورة العالم بما أبدعوا، فقد تجسدت فيهم حكمة القدماء، وورثوا علومهم كلها، واهتدوا بتجاربهم، وزادوا عليها أمورا هيأها الزمن لهم، فكان منهم ما كان، وقول دوزي إن الغرب لا يدين للعرب بأدنى فكر عال، مردود عليه؛ لأن العرب - كما قال كثير من الباحثين من الأمريكان والإنجليز والألمان والفرنسيس - هم الذين مدنوا أوروبا بأن نقلوا إليها أنوار الأقدمين، وما أضافوه من مخترعاتهم وأبحاثهم، ولا مجال للمماحكة فيما استنبطوه وخدموا به المجتمع الإنساني، أما قوله إن العرب كانوا غير قادرين على الخضوع لقوانين المجتمعات، فهذا صحيح في الجملة؛ ذلك لأن إفراط العرب في حب الحرية حملهم على التجافي عن الخضوع للزعماء، وإيغالهم في عزة النفس دعاهم إلى الخروج على الجماعة، فعادوا بعد حين إلى ما كانوا عليه في الجاهلية لا يأتمرون بأمر، ولا يذعنون إلا لسلطان شهواتهم، فكان ذلك علة العلل في ذهاب سلطانهم.
عرضت للعرب عوارض عرض مثلها للأمم التي أحطنا بتاريخها قبلهم وبعدهم؛ فقد امتزجوا بغيرهم من الشعوب امتزاجا كثيرا قوى فيهم نواحي وأضعف أخرى، فمن أنحاء الضعف أنهم خلطوا دمهم بدماء غريبة، فأدخلوا فيه ما لو تصونوا عنه لظلوا أرسخ قدما وأسلم دما؛ دخل فيهم الترك والفرس والروم وغيرهم، كما دخل في دم الترك العثمانيين بعد دم البجناكي والبولوني والبندقي والرومي والروسي والمجري؛ فولد لهم جنس جميل الملامح والسحنات، ولكنه أخرجهم عن عنصرهم، فكان من ذلك انحلال أمرهم.
ومهما قال القائلون إن الغرب لا يدين للعرب بفكر عال ولم يخرج منهم أمثال نيوتن وليبنز، فإن العرب هدوا أوروبا إلى العالم اللاتيني واليوناني، وعاشت الجامعات الأوروبية ستمائة سنة من مترجمات كتبهم، وجرت على أساليبهم في البحث، فقد قال لوبون أيضا: إن المدنية العربية من أدهش ما عرف التاريخ، وإن المرء كلما تعمق في دراستها تجلت له أمور جديدة، واتسعت الآفاق أمامه، وثبت له أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة العرب، وأنهم هم الذين أتوا أوروبا بما أتوها به من مدنية أنعشتها في الماديات والعقليات والأخلاق، ومتى درس المرء أعمال العرب العلمية وما كشفوه، ثبت له أنه ما من أمة أنتجت مثل ما أنتجوه في هذه المدة القصيرة التي كتب لملكهم قضاؤها، وقال: قد يكون من الأوروبيين مستعمرون ماهرون، ولكن منذ عهد رومية كان المسلمون من الشعوب الوحيدة التي حملت علم الحضارة حقيقة، وهم الذين فازوا وحدهم بنشر المواد الجوهرية من المدنية، وأعني بها الدين والأوضاع والصنائع، بين ظهري عناصر جديدة من غير عنصرهم. قال: وإذا نظر المرء في صنائعهم وفنونهم لا يسعه إلا الاعتراف بأنه كانت لهم ميزة خاصة لم تبلغها أمة، ولئن كان تأثير العرب في الغرب عظيما فإن تأثيرهم في الشرق أعظم، وما من عنصر أثر تأثيره قط. فإن الشعوب التي دانت لها الأرض كالأشوريين والفرس والمصريين واليونان والرومان قد عفت القرون آثارها، ولم يخلفوا سوى آثار ضئيلة بحيث لم يبق سوى ذكريات أديانهم وألسنتهم وفنونهم، وقد اضمحل أمر العرب أيضا ولكن أعظم عناصر مدنيتهم وهي الدين واللسان والصنائع لا يزال حيا، وقال : إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.
وقال العلامة فمبري: «كان الإسلام - وما برح - الدين الذي فاق سائر أديان العالم شورى وديمقراطية، وكان مصدر الحرية وينبوع العدل والمساواة، فإن كان العالم قد شهد حقا منذ أول عهد العمران البشري إلى اليوم حكومة شورية دستورية فهي - لعمري - حكومة الخلفاء الراشدين.» وقال نوبرجر: «فاقت المدنية العربية في أوج إمبراطورية الإسلام مدنية رومية القديمة في حيويتها وتنوعها، وكان لحضارة الأندلس مركز يشبه من عدة وجوه حضارة اليونان القديمة.»
وقال دوسن: «إن المدنية الأوروبية بل المدنية الغربية كلها مدينة للمسلمين بثمرات حكمة الأقدمين، وإن فتوحات العرب في إمبراطورية الإسلام من القرن السابع إلى الخامس عشر لتعد إحدى عجائب التاريخ، ومن المدهش أن يصبح العرب - وكانوا أول أمرهم على الفطرة - عنصرا فاتحا ويمسوا سادة نصف العالم في مائة سنة، ومن أشد العجب حماستهم العظيمة، وسرعتهم البالغة في تحصيل العلوم وتكوين الثقافة اللازمة لعظمتهم حتى بلغوا مستوى عاليا في مائة عام، بينا نرى الجرمانيين لما فتحوا الإمبراطورية الرومانية، قضوا ألف سنة قبل أن يقضوا على التوحش وينهضوا لإحياء العلوم.» وقال غوتيه: «إن محصول المدنية العربية في العلم على اختلاف أنواعه يفوق محصول المدنية اليونانية كثيرا؛ ذلك لأن العلم العربي كانت له أصول قديمة، أما في الفنون والآداب فإن دائرة اليونان أوسع من دائرة العرب بكثير.» ا.ه.
وما لنا وكل هذا؟ فحسنات المدنية العربية ثابتة لا ينكرها إلا ذو غرض متعصب، وإذا كان فيها بعض نقص فالوقت لم يسمح للعرب بتلافيه أو الأخذ به إلى مستوى أرقى منه، ووضع الأساس في كل بناء أصعب من نقشه وترتيبه، وهل يعقل أن تخلق المدنية كاملة من أول يوم، وهي تحتاج إلى أن تعمل في تشييدها عقول كثيرة وأجيال مختلفة، حتى تبلغ درجات الكمال؟! ومخترعات أوروبا ومكشوفاتها في القرنين الأخيرين تشهد بذلك، رأينا أمما كثيرة شاركت فيها حتى صعب في بعضها أن تتبين يد الواضع الأول، وشهدنا القرنين اللذين سبقا القرن التاسع عشر والقرن العشرين كأنهما كانا ممهدين لما سيقع بعد من العجائب في العلم والصنائع.
وإذا جئنا نستفتي لوبون أيضا في سر هذه المدنية العربية، أجابنا أن اعتياد العرب الحروب والغارات في الجاهلية كان منه قيام أمرهم في الإسلام؛ فبعد أن كان بأسهم بينهم وجهوا غاراتهم نحو الأجانب فكان في ذلك قوام أمرهم، ولما لم يبق أمامهم أعداء يقاتلونهم عادوا يتقاتلون فأدى ذلك إلى انحطاطهم، وأهم العوامل في امتداد حكمهم، اجتماع كلمة قبائلهم المختلفة تحت علم واحد، وهو علم الإسلام، فوجه هذا نفوسهم إلى هدف سام أورثهم حماسة، فكانوا أبدا على استعداد للمفاداة بأنفسهم في سبيله، وكان هذا الهدف دينيا صرفا، ودولة العرب قامت على هذا الأساس، وكانت الدولة الوحيدة الكبرى القائمة باسم الدين، ومنه انبعثت سياستها وحالتها الاجتماعية، وساعد العرب على فتوحهم كون العالم القديم كان يهوي إلى السقوط، فكان حريا بأمة متوحدة المقاصد والمنازع أن تفتح البلاد وتستبقيها، وما ضعف نشاطهم في هذه السبيل، بل تعلموا في مدرسة مغلوبيهم، ولما ساووهم في الجندية وفنون القتال كان نجاحهم مضمونا، ولقد كنت ترى كل جندي في الجيش العربي على استعداد لبذل روحه لإنجاح المقصد الذي يقاتل لأجله، على حين كان كل إخلاص وحماسة وعقيدة قد اضمحل من نفوس اليونان منذ زمن بعيد، وما كانت انتصارات العرب لتعمي أبصارهم لأول نشأتهم، وتحملهم على الإفراط المألوف عند الفاتحين في العادة، ولا اشتدوا في إرهاق المغلوبين، ولا فرضوا عليهم بالقوة دينهم الجديد الذي كانوا يودون بثه في أقطار العالم، ولو فعلوا ذلك لأهاجوا عليهم جميع الشعوب التي لم تخضع لهم، فاتقوا حق التقاة هذه التهلكة التي لم ينج منها الصليبيون عندما دخلوا الشام في القرون اللاحقة.
قال: «ولقد أدرك الخلفاء الأول بعبقريتهم السياسية النادرة في أتباع معتقد جديد أن الأوضاع والأديان لا تفرض على الناس بالقوة، بل رأيناهم حيث دخلوا في الشام ومصر وإسبانيا يعاملون الشعوب بمنتهى الرفق، تاركين لهم أنظمتهم وأوضاعهم ومعتقداتهم، غير ضاربين عليهم في مقابلة السلام الذي ضمنوه لهم إلا جزية ضئيلة ، وكانت على الأغلب أقل من الضرائب التي كان عليهم أداؤها من قبل؛ وما عرفت الشعوب فاتحا بلغ هذا القدر من المسامحة، ولا دينا حوى في مطاويه هذه الرقة واللطف، وكانت هذه السماحة وهذا اللطف اللذان تجاهلهما المؤرخون من بعض العوامل التي هيأت بسرعة انتشار فتوح العرب، وأعظم سبب دعا إلى قبول دينهم وأوضاعهم ولسانهم، ونحن ندرك كيف تأصلت هذه العوامل الثلاثة بين ظهراني الشعوب التي رحبت بمقدمهم، وأنها قاومت بعد جميع الغارات، ووقت العرب من آفات الاضمحلال، وما تم من هذا القبيل في مصر من أعظم ما يسترعي النظر؛ فقد حكم الفرس واليونان والرومان وادي النيل ولم يوفقوا إلى أن يقلبوا المدنية الفرعونية القديمة، وأن يستعيضوا عنها بحضارتهم، أما العرب فكان شأنهم في مصر غير هذا؛ أعربوها وأسلموها، وهناك عوامل أخرى غير سماحة العرب ولطف حكمهم ضمنت لهم النجاح في بث دينهم وما تفرع من أوضاعه، وكانت هذه الأوضاع على غاية السذاجة في أهل الطبقات المتوسطة من الشعوب المغلوبة، وإذا حدث أن هذه الأوضاع لم تلتئم مع تلك الجماعات كان العرب يعمدون إلى تعديلها بحسب الحال، وهكذا كانت الأوضاع الإسلامية في الهند وفارس وبلاد العرب وإفريقية البربرية ومصر تختلف كل الاختلاف وكتابها واحد وهو القرآن.» ا.ه.
وقد أرجع لوبون انحطاط العرب إلى اختلاف العناصر الخاضعة لهم واختلاط دمائهم؛ قال: «ولطالما كان هذا التمازج بين شعوب مختلفة في مملكة واحدة من عوامل الانحلال الفعالة، ويعلمنا التاريخ أن من المتعذر استبقاء عناصر مختلفة في يد واحدة إلا إذا روعي في ذلك شرطان أساسيان؛ أحدهما: أن تكون سلطة الفاتح قوية إلى الغاية بحيث يوقن كل إنسان أن كل مقاومة باطلة، والثاني أن لا يختلط الغالب بالمغلوب ولا يفنى فيه، وهذا الشرط الثاني لم يحققه العرب بتاتا وكذلك كان شأن الرومان، ومن المتعذر حياة شعوب مختلفة بقانون واحد إذا تباينوا في المصالح والأجناس، ولا يتأتى ضبطهم إلا بضغط شديد، وما قامت العرب بمثل هذا الضغط مع العناصر المختلفة التي خضعت لهم.» وقال في معنى اختلاط دم الفاتحين بغيرهم: «زعموا أن المستقبل للخلاسيين والهجناء وقد يكون ذلك، بيد أنني لا أرجو تحقيقه لشعوب تريد أن تحتفظ بمستواها في العالم.» •••
آن لنا بعد أن عرضنا في الجملة لتصوير المدنية العربية والتنظير بينها وبين غيرها من المدنيات، وللعوامل التي وهنت بها دولة العرب ودخلها الهرم أن نذكر طرفا من الفروق بين أهل المدنيتين، إننا مهما أعجبنا بمدنية العرب القديمة ومدنية الغرب الحديثة، فإعجابنا غير قليل بمن يعملون اليوم لمدنيتهم من الغربيين، والفوارق بين الشرق والغرب في هذا المعنى محسوسة، ومنها ما يعلل بالهواء والبيئة، ومنها ما يعلل بالطوارئ الاجتماعية القاهرة، ففي الغرب دءوب دام قرونا مطرد الأوائل بالأواخر، ونظام نافذ لا يرحم من لا يعمل، ولا يبقي على جاهل ولا ضعيف، فكأن قاعدة الانتخاب الطبيعي أخذت في الغرب حكمها، فأبقت على القوي، ونبذت أكثر الضعيف، وفي الشرق لانت الطبيعة وما قست، فعاش الضعيف والأضعف، والقوي والأقوى.
قالوا: إن المدنية ابنة البلاد الباردة، ولكن العرب جاءوا من جزيرة محرقة فأنشئوا أيضا هذه المدنية الفتانة على أيدي من نبغوا فيها من أهل الطبقة المختارة، وتآلفوا كلهم بروح الجماعة على نحو ما نرى في الغرب اليوم فناء الأفراد في المجموع؛ إذا هلك الفرد لا يكاد يشعر به؛ لأن من بعده يأتي فيتناول عمله فيتمه، والغرب - كما قال أحد النابهين - هو المتسلط على الطبيعة بالعمل، والشرق هو استثمار الإنسان للإنسان، ونظن الغرب أيضا يستثمر الإنسان للإنسان أما تسلطه على الطبيعة فهذا حق صراح.
امتاز الغربي بتسلسل الفكر والتبصر في مصادر الأمور ومواردها، والأخذ من تجارب غيره والانتفاع بكل ما يرى ويسمع، وقلما يخرج عما تعلمه واستعد له مهما كلفه الحال؛ لأنه يعرف أن النجاح في الاختصاص أو الإخصاء، وهذا من أعظم أسرار نبوغه في صنائعه وعلومه ، وعرف الغربي بمحافظته على القوانين يراعيها على كل حال، حتى صار ذلك طبيعة له وعادة، وخلافها منكر مستهجن، وجميع ما في الغرب من قوى الجماد والحيوان والإنسان مستثمرة منتفع بها، وقوى الشرق مبعثرة ضائعة ، الغربي يعنى بالأمر الصغير والخطير على السواء، يحاول الإتقان والكمال في كل معانيه، ويفادي بكل عزيز في سبيل قوميته ووطنيته، يراعي الوقت والزمان، ويسير في حياته على منهاج لا يعدوه، ويستحي أن يرمى بالقصور فيما هو آخذ نفسه به، الغربي محافظ مجدد في آن واحد، والشرقي محافظ يصعب عليه التجديد، أصلح الغربي بنفسه لنفسه معمله ومزرعته، وجود عمله وقام بواجبه، فاضطر حكوماته إلى أن تصلح نفسها، والشرقي يتوقع من حكومته أن تصلحه، وقد يحاول إفسادها إذا أرادت إصلاحا، والغرب لم تعمره حكوماته بل عمره أهله، وحملوها بطول الزمن على أن تحسن سيرها فتساند الراعي والراعية.
وقد وصف الحالة التي صار إليها الشرقي الأستاذ أحمد فتحي زغلول باشا بقوله: «ضعفنا حتى أصبحنا نرجو كل شيء من الحكومة، فهي التي نطالبها بحفظ حياتنا، وخصب أرضنا، وترويج تجارتنا، وتحسين صناعتنا، هي التي نطلب منها أن تربي الأبناء، وتطعم الفقراء، وترزق العجزة، وتنفي أسباب البطالة، وتحفظ الأخلاق، وتلم شعث العائلات، وتجمع أشتات القلوب، هي التي نطالبها بتعويض ما نقص من إرادتنا، وتقويم ما اعوج من سيرنا وسيرتنا، ورد هجمات المزاحمين عنا، والسهر على مصالح كل واحد منا؛ فإذا تأخرنا في عمل من تلك الأعمال بإهمالنا رميناها بسوء الإدارة، واتهمناها بحب الأثرة، وألقينا عليها تبعة خمولنا كلها، لا ريب أننا بهذا الزعم قد ضللنا السبيل؛ فإنما الحكومة وازع لا يكلف إلا ما اقتضته طبيعته، وشأن الحكومات في الأمم تأييد النظام، وحفظ الأمن، وإقامة العدل، وتسهيل سبل الزراعة، ومعاهدة بعضهم بعضا على ما يضمن حرية التجارة، ويشجع أهل الصنائع والحرف كما تقتضيه المصالح المشتركة، وعلى قدر ما تسمح به الممكنات، وبالجملة، فالحكومة وازع عام لا واجب عليه إلا الأمر العام مما يدخل تحته جميع الناس، ولا ينفرد بالاستفادة منه واحد بخصوصه، وعلى الأمة بعد ذلك أن تستفيد من هذا النظام، وتنتهز فرصة الأمن والطمأنينة لتسعى وراء منافعها، وتطلب الكمال في زراعتها وصناعتها وتجارتها، وفي نشر المعارف وإحياء العلوم، وفي أداء الواجب والمحافظة على الحقوق، وهذا هو الذي أهملناه حتى أضعناه.» ا.ه.
وحقا لو قام كل واحد في الشرق بواجبه، لما انتشرت الأمية فيه مثلا هذا الانتشار المريع، والأمية سبب كل بلية، ومن المستغرب أن نشهد شعوبا صغيرة في الغرب تحررت منذ عهد قريب من ربقة غيرها، ونجت أو كادت من الأمية على فقرها، ورأينا في الشرق شعوبا تكاد تكون مستقلة منذ زمن طويل، وهي من الغنى بما لا ينكر محله، وما استطاعت أن تخرج شعبها من الجهل، واكتفت أن صاغت عمالا أو راغبين في العمالة، وتخلت عن إعداد أبنائها لمذاهب المعاش الطبيعية، فبأي شيء نعلل هذا؟ وعلى من تلقى تبعة هذا الوباء؟ ولو صرف في تعليم هذه الشعوب واحد من مائة تبذل في التبذير، لفارقت دور الجهالة في أقل من نصف قرن.
وبينا نرى عامة أهل الغرب وخاصتهم، أغنياءهم وفقراءهم رجالهم ونساءهم، يعملون ويدأبون، ولا تكاد تجد من لا يعمل ولا يفكر فيما فيه فائدة عامة أو خاصة؛ نرى الشرقي إذا حاز مظهرا صغيرا، أو نال شهادة من مدرسة، أو شدا شيئا من أدب وعلم، أو اقتنى مالا وعروضا، اغتبط بما صار إليه، وعد نفسه قد بلغ أقصى الغايات؛ فيغلو في سرفه وترفه، ويصاب بالغرور والعجب، يستنكف عن أعمال اليد وعن الاحتراف ويعد الحرف دنيئة، وما الدني إلا من لا يتعلمها ويتقنها، ولا ساقط الهمة إلا من يذل لغيره حتى يعيش كلا عليه. على حين رأينا الغربي مهما أحرز من مظاهر الغنى والمجد، لا تقف همته عند حد، ولا تنتهي مطامعه إلى غاية، فهو لا يعرف ما يقال له قناعة ورضا، وكل عمل يجلب نفعا هو في نظره شريف محلل، كأن طبيعة البلاد الغربية، وهي تستلزم من ساكنيها غذاء أوفر ولباسا أدفأ وكنا جامعا شروط الراحة ليقاوم قسوة الطبيعة، تضطر الفرد إلى أن يعمل شاق الأعمال لينتج ويعيش، والشرقي لا تتقاضاه أرضه وسماؤه شيئا كثيرا من مثل هذه الأسباب في الحياة؛ يتبلغ بميسور العيش، ولا يتشدد في تطلب السعة، وحرارة إقليمه تغنيه عن أمور يراها الغربي ضرورية له كالخمور والأغذية الدسمة، تأملوا حال أسرة مؤلفة من والدين وأربعة أولاد؛ الوالد يعمل في حرفته، والوالدة تشتغل بتربية أولادها وترتيب منزلها، فإذا فرغت شغلت أوقات فراغها بتطريز أو خياطة أو نسج أو تصوير أو موسيقى أو غير ذلك، والولد بعد المدرسة الابتدائية يعمل في حقل أو حانوت أو معمل، وأخته كذلك تحترف وتجمع لنفسها مالا، ولا يستنكف أحدهم من الأعمال الزراعية والصناعية، ولو تعلم التعليم العالي، إذا لم يجد رزقه فيه، تأملوا هذا البيت المغل وكيف يدخله من الربح ما يعادل على الأقل ما يكسبه الأب وهو تامة أدواته في جهاد الحياة.
الإنسان في الغرب مهما علت منزلته، إذا بلغ سن الرشد أو قرب منها، لا يتكل إلا على نفسه رجلا كان أو امرأة، لا فرق في قانون العمل وروابط الحياة إلا ما لا بال له، والشرقي اتكالي لا يعمل إلا بقدر ما يرزق الكفاف، وبلغ من شفقته الكاذبة على أولاده، إذا كان ذا سعة، أن يترك لهم الحبل على الغارب، لا يهتم لهم عملوا أم لم يعملوا، فكيف بهذا تبقى ثروة ويحفظ مجد؟! ولو كان قانون المواريث عندنا مثل قانون الإنجليز لا يورث الكبراء والنبلاء جلاءهم؛ أي لقبهم وأملاكهم، إلا للكبير من الأولاد، ويروح سائر البنين والبنات يكدحون لمعاشهم، لرأينا كثيرا من الشرقيين يموتون جوعا لا يرضون أن يعملوا عملا صناعيا ولا زراعيا ولا غيره.
يقول العلامة قاسم بك أمين: إن أهل أوروبا يقسمون إلى ثلاث طبقات كسائر الأمم: عليا ووسطى ودنيا؛ فالدنيا أكبر حظها من التربية معرفة القراءة والكتابة، وأما الطبقة العليا فتصيب حظا عظيما من التربية الفعلية، ولكن يغلب عليها ما يغري به الغنى والبطالة، وتستولي عليها الشهوات، فهم يتفننون في اللذائذ تفنن أهل الجد في الاختراعات والصنائع، قال: وهذا الفساد فيهم مما تتحمله المدنية الغربية وتصبر عليه؛ لأنها لا تستطيع محوه، فإن هذه المدنية مؤسسة على الحرية الشخصية، فهي مضطرة لأن تقبل ما يتبع هذه الحرية من الضرر، وهي تعلم أن منافعها أكثر من مضارها، ووجود الفساد في الغرب إنما هو لاحق طبيعي من لواحق الحرية الشخصية، ونتيجة من نتائجها في الطور الأدبي الحالي الذي توجد فيه تلك البلاد الآن. قال: وهذا الفساد في الأمم الغربية لم يضعف فيهم الفضائل من بذل الأنفس والأموال في سبيل تعزيز الوطن أو الدفاع عنه؛ فأدنى رجل في الغرب كأعلى رجل فيه، إذا دعا داع إلى هجوم، أو قيام لداع أو إلى عمل نافع، يترك جميع لذائذه وينساها، وينهض لإجابة الداعي، ويخاطر بنفسه، ويبذل ماله، إلى أن يتم للأمة ما تريد، وأما الطبقة الوسطى فلا ريب أنها أرقى من التي تقابلها عندنا.
وبعد؛ فالأعلون والأوسطون والأدنون في الأمم الغربية هم كما وصفهم عالمنا الاجتماعي فأحسن في وصفهم، وقد قال شاعرنا الاجتماعي حافظ إبراهيم في وصف الاختلاف بين العالمين الشرقي والغربي:
شمسهم غادة عليها حجاب
فهي شرقية حوتها الخدور
شمسنا غادة أبت أن توارى
فهي غربية جلاها السفور
جوهم في تقلب واختلاف
أن الثبات فيهم كثير
جونا أثبت الجواء ولكن
ليس فينا على الثبات صبور
ولديهم من الفنون لباب
ولدينا من الفنون قشور
فإذا ما سألتني قلت فيهم
أمة حرة وفرد أسير
وعلينا بعد هذا أن نعلم أن ليس لشعب من طبيعته وجنسه ما يحول دون انحطاطه؛ فقد قال العلامة ألفريد فوليه: «قاعدة من قواعد التاريخ أن العوامل العلمية والاجتماعية أو العقلية والأخلاقية تتغلب على العوامل الجنسية والجغرافية والإقليمية بالنظر إلى ما بلغته الحضارة الحديثة من الارتقاء، وأن حركة العلوم وما أوجدته الصناعة لا تزال تبدل أسباب الحياة الاجتماعية وأساليب العمل، على نحو ما تبدل العلائق المتبادلة بين الطبقات المختلفة، وليس لشعب أن يتبجح بأنه راق وسيظل راقيا على وجه الدهر، وما من شعب يحكم عليه بالانحطاط الذي لا يشفى منه، وكل شعب يستفيد بما في التضامن العام من مكتشفات وتجارب، وليس المستقبل للأنجلوسكسونيين ولا للجرمانيين ولا للاتينيين، بل المستقبل للعالمين والصانعين ومن كانوا أحسن أخلاقا وخلاقا.»
حضرة الأستاذ الدكتور علي مصطفى مشرفة، وقد بحث الموضوع التالي.
الأثر العلمي في الثقافة المصرية الحديثة للدكتور علي مصطفى مشرفة
هذه المحاضرة هي حلقة في سلسلة من المحاضرات التي يقصد بها بحث الثقافة المصرية من نواحيها المختلفة للوقوف على المصادر المتعددة التي كان لها الأثر في تكوين هذه الثقافة، ومهمة الباحث في ذلك أشبه شيء بمهمة الكيميائي يحلل المادة المركبة إلى عناصرها ويستنبط الكيفية التي بها تفاعلت هذه العناصر فتكون من اجتماعها وتآلفها ذلك الجسم المركب، فالثقافة المصرية كانت في المحاضرات السالفة من هذه السلسلة، وستكون في هذه المحاضرة موضع بحثنا وتحليلنا، تارة نذيبها وأخرى نصهرها وثالثها نبخرها أو نقطرها؛ ولذا فسأطلب إلى حضراتكم إذا وجدتموني أعالج مادتنا بهذه الوسائل الفعالة أن تحملوا عملي هذا على الرغبة في الوصول إلى حقيقة جوهرها واكتناه سرها، لا على مجرد الشغف بالتحطيم والإتلاف الذي أنا بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وستكون مهمتي مقصورة على البحث عن عنصر واحد من العناصر الداخلة في تركيب الثقافة المصرية الحديثة، ألا وهو العنصر العلمي؛ ذلك لأن حضرات الذين نظموا عقد هذه المحاضرات قد استحضروا خبراء غيري يتحدثون إليكم عن العناصر الأخرى التي هم أدرى بها وأعلم بخواصها مني.
فلنعتبر إذن ثقافتنا المصرية، وأعني بها الثقافة المصرية في عهدنا الحالي، طبعا من الممكن أن ننسب إلى مصر ثقافات مختلفة في أزمة مختلفة؛ فنتكلم عن الثقافة المصرية القديمة، والثقافة الإغريقية في مصر، والثقافة العربية في مصر وهكذا، ولكنني أعتقد أن هذا يكون خطأ في التعبير؛ فكما أننا لا ننسب إلى الشخص الواحد شخصيات مختلفة في أدوار حياته المختلفة، بل نفترض أن له شخصية واحدة تتطور وتنمو وتتكيف من حين إلى آخر، كذلك يجب أن نعتبر ثقافتنا المصرية وحدة متواصلة الوجود منذ أقدم المدنيات المصرية إلى اليوم، وأن ننظر إلى الحضارات الإغريقية والعربية وما اقترحها لاستكشاف العلوم هي بحيث لا تترك إلا القليل لحدة الذهن وقوته تكاد تتساوى في استعمالها العقول على تفاوت مداركها، فكما أنه في رسم خط مستقيم أو دائرة كاملة الشكل يتفاوت الناس بحسب مهارة أيديهم ومقدرتهم على الرسم إذا هم رسموها معتمدين على اليد فقط، ولكنهم يتساوون أو يكادون إذا هم استعملوا المسطرة والبرجل، فكذلك الحال في أمر طريقتي، وخلاصة هذه الطريقة الباكونية - كما تسمى - أن الباحث لكي يصل إلى معرفة أسباب الظواهر الطبيعية، عليه أن يدرسها دراسة مباشرة في ظروف مختلفة، ثم يقارن بين هذه الظروف ليصل إلى ربط الأسباب بمسبباتها الحقيقية مراعيا في ذلك أنه كلما وجد السبب وجد المسبب، وكلما غاب السبب غاب المسبب، وكلما زاد مقدار السبب أو نقص زاد مقدار المسبب أو نقص تبعا لذلك.
ولا أنكر على حضراتكم أنني عندما لقنت هذه الأشياء عجبت أشد العجب من أن تعتبر طريقة باكون هذه بدعة في التفكير، كما أنني أصارحكم القول بأنني تشككت كثيرا في مدارك باكون عندما قرأت وصفه لها بأنها طريقة «تكاد تتساوى في استعمالها العقول على تفاوت مداركها»؛ إذ إنني لم أجد في طريقته إلا أمورا تكاد تكون بديهية، أعتقد أن الشخص العادي عندنا يفطن لها بغاية السهولة بل وأظنه يطبقها في حياته اليومية، واليوم، وأنا أعيد التفكير في هذا الموضوع أراني أجد في عمل باكون وما علق عليه من الأهمية دليلا على شيء واحد ألا وهو انحطاط التفكير العلمي في البلاد الأوروبية في عصر باكون، والظاهر أن الأمم المختلفة تأتي عليها أدوار في تاريخها تخزن فيها عقولها في خزانات من حديد وتسير منقادة بحكم التقاليد والآراء البالية حتى إذا أخرج واحد منهم عقله من خزانته، وأزال عنه شيئا من الصدأ المتراكم عليه ثم استعمله مرة أو مرتين، هلل القوم وكبروا وطبلوا وزمروا معجبين بلباقة هذا الفرد وشدة مهارته، وربما عدوه ساحرا أو مارقا خارجا عليهم لما يأتيه من الأمور المدهشة التي لا يجسر على الإتيان بمثلها سواه، ولا بد أن شيئا من هذا القبيل حدث في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
وهنا يجب علي أن أرد على اعتراض ربما بدا لبعض حضراتكم، فربما قيل إنه من الظلم أن أحكم وأنا ابن القرن العشرين وقد تشبعت بالتفكير الحديث وتأثرت بمؤثراته على أمثال السير فرنسيس بيكن الذي هو من واضعي أسس هذا التفكير، فكأنما الغصن ينظر إلى الجذع ويعجب من انحطاطه وقربه من الأرض ناسيا أنه لولا هذا الانحطاط لما كان ارتفاع الغصن، جوابي على هذا أن شجرة التفكير البشري يذهب أصلها إلى أعمق بكثير من أيام فرنسيس بيكون؛ فالتفكير البشري وعلى وجه الخصوص التفكير العلمي المبني على المشاهدة المباشرة كان موجودا قبل بيكن عند العرب وعند الإغريق وعند المصريين القدماء، وقد وصل في كل من هذه العصور إلى مستوى يفوق بكثير ما كان عليه في أيام بيكن، وكل ما يمكن أن يقال عن عصر بيكن هو أنه عصر نهضة، عصر استيقاظ تبعه تقدم مبني على نتائج أعمال العصور التي سبقته.
فالعقلية العلمية والطريقة العلمية إذن ليستا وليدتي الحضارة الأوروبية الحديثة ولكنهما كانتا موجودتين أينما ومتى وجد العلم، وعلى وجه الخصوص كانتا موجودتين في مصر في أيام الفراعنة وفي عصر الإغريق وأيام ازدهار الحضارة العربية، وأخيرا هما موجودتان بيننا اليوم، وقد سبق أن بينت لحضراتكم أن الثقافة المصرية الحالية هي أيضا ليست وليدة العصر الحالي، بل يرجع تاريخها إلى فجر التاريخ يوم كانت مصر مبعث ثقافات الأسرة البشرية.
وإذن فالثقافة المصرية والعلم صديقان قديمان نشآ في مهد واحد وترعرعا على ضفاف النيل معا وشربا من مائه، فليس بغريب أن نجد بينهما أواصر الألفة وروابط العشرة القديمة، أو بعبارة أخرى ليس بغريب إذن أن نجد الأثر العلمي واضحا في ثقافتنا المصرية الحديثة.
فلنحلل إذن ثقافتنا الحالية باحثين عن عنصر العلم فيها، لنحلل أدبنا وفنوننا ونظمنا الاجتماعية وتشريعنا وتعليمنا، فهل نجد للعلم والتفكير العلمي أثرا واضحا فيها؟ أراني مضطرا إلى الدخول في بعض التفاصيل التي لا مفر منها بحكم مهمتي كباحث ومحلل؛ ولذا فأستميحكم عفوا إذا أنا تعرضت لبعض الأمور التي ربما ظهر لأول وهلة أن لا شأن لي بها، ولكن علينا أن نتذكر أنني إنما أتعرض لها من ناحية واحدة فقط هي الناحية العلمية، ومادمتم تسلمون بأنني أعرف شيئا عن العلم، فلعلني أستطيع أن أتعرف عليه إذا أنا وجدته داخلا في تركيب الثقافة.
فعن الأدب الذي هو رمز من أظهر الرموز على ثقافات الأمم؛ هل في أدبنا الحديث ما يدل على أثر التفكير العلمي فيه؟ لا أقصد بذلك طبعا أن نجد أدباءنا يصوغون نظريات إقليدس أو قوانين نيوتن في قالب شعري أو روائي.
كما أنني لا أقصد أيضا أن نجد في أدبنا ميلا خاصا إلى إدخال المصطلحات العلمية والإشارة إلى المخترعات والآلات الحديثة، فالواقع أن هذه الظاهرة وإن كانت مشاهدة بيننا إلى حد ما إلا أن الباحث لا يستطيع أن يعلق على ظهورها أهمية، هي أثر من آثار العلم إن شئتم، ولكنه أثر ضئيل غير مرتبط بصلب موضوع الأدب، وهناك أثر آخر قليل الأهمية أيضا وإن كان أهم من الأثر السابق وهو استعمال الطريقة العلمية في تحليل الأدب ونقده، فإن النقد الأدبي - كما تعلمون حضراتكم - فن مرتبط بالأدب وليس هو الأدب ذاته، ومع ذلك فلا بأس من الإشارة إلى ما هو حادث في مصر الآن من التغير في أساليب النقد الأدبي بطريقة لا تدع مجالا للشك في أنها أثر من آثار التفكير العلمي.
وإنما الأثر العظيم، الأثر الذي يسترعي نظر الباحث في أدبنا الحديث هو استعمال الطريقة العلمية في الأدب ذاته، والطريقة العلمية - كما بينت لحضراتكم - تنحصر في الاعتماد على المشاهدة المباشرة والتفكير الصحيح، فهي تتميز ببعدها عن التقليد والمحاكاة لذاتهما، ولا شك في أن أدبنا الحديث قد أخذت تظهر فيه هذه المميزات بصفة واضحة؛ فالأديب اليوم بدلا من أن يقصر جل همه على محاكاة من سبقه من الشعراء والكتاب والنسج على منوالهم، كما كان الحال في الماضي القريب، قد صار يعتمد على خبرته المباشرة وتفكيره الخاص، ولعل بعض كتابنا وشعرائنا قد تغالوا في ذلك إلى حد محاولة قطع كل صلة بين الماضي والحاضر، وهي محاولة مآلها الفشل ولا محالة؛ إذ إن الأدب كالعلم هيكل يبنى لا سبيل إلى فصل أعلاه عن أسفله إلا بهدمه، أو كائن ينمو لا سبيل إلى محو أثر الماضي فيه إلا بقتله، وإنما الذي أقصده من استعمال الطريقة العلمية ذلك الاتصال المباشر بين الأديب وبين بيئته المادية والمعنوية بحيث يخرج أدبه غضا يانعا تستطيبه النفس ويستسيغه الذوق السليم، لا ذابلا يابسا قد أكل عليه الدهر وشرب، فهذا الاتصال المباشر هو أساس كل إلهام صادق في الأدب، به تظهر شخصية الأديب في أدبه وبالتالي تظهر شخصية الأمة في أدبها.
وما قلته عن الأدب يصح أن يقال عن سائر فنوننا الجميلة من تصوير ونحت وموسيقى؛ ففي جميع هذه النواحي نجد أثر العقلية العلمية ظاهرا لا يحتمل اللبس ولا الإبهام.
كذلك الحال في نظمنا الاجتماعية وتشريعنا، فإننا نرى في كل يوم دليلا جديدا على الرغبة الصادقة في حل مشكلاتنا الاجتماعية وسن قوانيننا بما يتفق ومنطق العلم، كلنا حديثو عهد بالوقت الذي كنا نبني فيه نظمنا وقوانيننا على تفكير غيرنا من الأمم أو على مجرد الآراء الموروثة بيننا دون فحص كاف لملاءمة نظم غيرنا لنا أو تمحيص للآراء الموروثة عندنا، أنا لا أزعم أننا اليوم قد وصلنا إلى الحالة التي ننشدها بأن أصبح عندنا القادة الاجتماعيون والشارعون الذين يستطيعون أن يدرسوا مشاكلنا دراسة علمية مباشرة ويبينوا لنا السبيل الذي نسلكه بوضوح، فكما ذكرت في أول محاضرتي، نحن لا نزال نتلمس طريقنا بين حكمة العقل ومنطق العاطفة، ولكن الذي يذكر من حضراتكم ما كان عليه الحال منذ عشرين سنة فقط يستطيع بسهولة أن يلحظ التقدم الهائل الذي حدث في هذه البرهة القصيرة بالنسبة إلى حياة الأمم.
أما عن التعليم الذي ربما كان أكبر عامل على نشر الثقافة وتوجيهها في البلاد فكلكم تعلمون أن العلوم التجريبية تدرس في المدارس المصرية بأنواعها، وإذن ففي هذه الحال عندنا أثر مباشر للعلوم ذاتها في عقلية الأمة، وتفكيرها ناشئ عن دراسة هذه العلوم بالذات، ولا شك في أن تعليم العلوم الحديثة بالأزهر الشريف كان وسيكون له أثره في الثقافة المصرية، بل وفي الثقافة العربية بأسرها، فالأزهر الذي هو أقدم جامعة في العالم والذي خدم العلم وربى الروح العلمية في الوقت الذي كانت فيه أوروبا بعيدة عن كل علم وثقافة، هذا المعهد قد أخذ يستعيد مجده الأول ويتمشى بخطوات واسعة نحو استكمال عظمته وجلاله، إلا أنه في الوقت الذي أنوه فيه بأهمية تعليم العلوم التجريبية بمعاهدنا العلمية، يجب علي كمعلم متصل بحركة التعليم في البلاد أن أشير إلى ضرورة الاعتناء بتربية الروح العلمية ذاتها في مدارسنا، فالعلوم يمكن أن تدرس بطريقة علمية كما أنها يمكن أن تلقن تلقينا بعيدا كل البعد عن الطريقة العلمية وروحها، وأساس الطريقة العلمية - كما بينت لحضراتكم - المشاهدة المباشرة والتفكير، أو بعبارة أخرى الاعتماد على النفس في الوصول إلى المعلومات، هذا الاعتماد على النفس هو أساس كل تقدم في العلوم كما أنه أساس كل تقدم في سائر مرافق الحياة، ولا أخفي على حضراتكم أن تعليم العلوم بطريقة غير علمية هو عيب ظاهر في نظامنا التعليمي اليوم ولو أنه عيب لا أشك في أنه سيزول تدريجيا بحكم طبيعة الأشياء؛ فالعلم وحده إلى حد ما كفيل بخلق العقلية العلمية في العقول السليمة.
وبعد؛ فلعل بعض حضراتكم الليلة كان ينتظر مني أن أشير إلى الاختراعات والمستحدثات من إنارة كهربائية وقاطرات وطائرات وما إلى ذلك وأثرها في ثقافتنا، ولعل هذا البعض قد أدهشه أو أحزنه أنني لم أشر إلى شيء من هذا، أما السبب في عدم إشارتي إليه فيرجع: «أولا» إلى أنني لا أعتقد أن هذه القاطرات والطائرات ... إلخ هي من العلم في شيء. «وثانيا» إلى أننا لو اعتبرناها أثرا من آثار العلم فلا أظن أن لها شأنا يذكر في ثقافة الشعوب، فهذه المظاهر الخلابة وإن كانت نتيجة لا مفر منها للتقدم العلمي، وعرضا من أعراض الثقافة البشرية، إلا أنها بعيدة عن جوهر العلم نائية عن كنه الثقافة؛ فالثقافة أيها السادة حقيقة معنوية مادتها الروح البشرية، كما أن العلم قوامه التفكير البشري، ولا يجوز الخلط بين هذه الأمور الأساسية وبين المظاهر السطحية التابعة لها والمتوقفة عليها.
لم يبق علي إلا أن أختتم محاضرتي برجاء وأمل؛ فرجائي إلى حضراتكم أن تتقبلوا الآراء التي قدمتها إلى حضراتكم الليلة بالروح التي أملتها علي وهي الروح العلمية، تلك الروح التي إنما ترمي إلى الوصول إلى معرفة الحقيقة وتصوير الواقع بدون تحيز إلى رأي من الآراء أو ضيق صدر عن قول من الأقوال، وأما الأمل فأن تنتشر هذه الروح بيننا، وأن تتشبع بها ثقافتنا حتى تكون رائدنا نتبين بها سبيلنا في عظمة الماضي، وقوة المستقبل بحصافة الشيوخ وهمة الشباب، بين حكمة العقل ووحي العاطفة.
علي مصطفى مشرفة
حضرة صاحب العزة الدكتور طه بك حسين، وقد بحث الموضوعات الخمسة التالية.
الرأي الحر
نشأته وأثره (المحاضرة الأولى من سلسلة المحاضرات التي ألقاها بقاعة يورت التذكارية الأستاذ الدكتور طه حسين.)
سيداتي، سادتي
كأنما كنا مع الحرية على موعد أيها السادة، فلم أكن أقدر ولم يكن الأستاذ كليلاند يقدر أيضا منذ أسابيع حين كان يتحدث إلي في أمر هذه المحاضرات عن الرأي الحر، لم نكن نقدر أن المحاضرة التي سأتحدث فيها عن الرأي كيف نشأ؟ وعن آثاره كيف كانت؟ لم نكن نقدر أن هذه المحاضرة ستلقى في الأيام التي يشعر الشعب المصري بأن حريته ترد إليه فيها.
ولولا أننا نعيش في القرن العشرين وأن الحضارة الإنسانية قد تقدمت خطوات واسعة منذ خمسة وعشرين قرنا، لولا هذا لظننت أن ذلك الروح وأن ذلك الشيطان الذي كان يلهم سقراط هو الذي ألهم الأستاذ كليلاند أن يطلب إلي أن أتكلم في موضوع حرية الرأي، وأن يكون هذا الحديث في 16 نوفمبر؛ أي بعد أن أعلن أن الحرية قد ردت إلى مصر بيوم واحد.
على أني أريد أن أتحدث إليكم عن الرأي وحريته، حديث الأستاذ لا حديث رجل آخر، ومن المحقق أن أحاديث الأساتذة في كثير من الأحيان قد تكون ثقيلة وقد تكون مملة، فأستميحكم المعذرة إن ثقل عليكم الحديث أو أخذكم الملل.
نستطيع أن نمضي في البحث التاريخي عن حرية الرأي، بل عن الرأي نفسه إلى أبعد زمن ممكن، فلن نتجاوز الألف الثاني قبل المسيح، إلى ذلك الوقت كان الإنسان يحيا حياة توشك أن تكون آلية يتأثر فيها بالغريزة، ويطيع فيها الغريزة، أكثر مما يتأثر بأي شيء آخر، وأكثر مما يطيع أي شيء آخر؛ فكانت حياته اليومية نتيجة لتلك الغرائز، وكانت حضارته التي انتهى إليها نتيجة لتلك الغرائز التي كانت تسيطر على حياته سيطرة تامة، ولست أدري أيستطيع الأدباء والذين يدرسون التاريخ منذ العصور القديمة جدا أن يظفروا بنص من هذه النصوص التي تصور لنا إنسانا يفكر ويعلن رأيه في حرية وصراحة ويجد من الجماعات التي يعيش فيها مقاومات؛ مقاومة له حين يفكر، ومقاومة له حين يعلن رأيه، ولكن الذي لا نكاد نشك فيه هو أن أقدم هذه النصوص التي نستطيع أن نلاحظ فيها أثر الحرية وأن نشعر بالحرية الشخصية، ومن ظهور التأثر بهذه الحرية الشخصية التي تدفع الفرد إلى أن يعلن آراء لا يوافقه غيره عليها؛ أقدم هذه النصوص لا نكاد نجدها إلا في الإلياذة والأودسة؛ فنحن في الإلياذة نرى جماعات يونانية متأثرة أشد التأثر بأحكام العادة والتقاليد، خاضعة أشد الخضوع لهذه الأحكام، ولا نرى في هذه الجماعات فردا مقتنعا بأنه موجود وجودا خاصا، وإنما هو مؤمن أشد الإيمان بأنه لا يوجد إلا للجماعة وبالجماعة، ولا يستطيع أن يفكر إلا كما تفكر الجماعة، فتفكيره من تفكيرها وشعوره من شعورها، وحسه من حسها، وإعرابه عن هذا الشعور وترجمته عن هذا الحس هو نفس الإعراب ونفس الترجمة اللذين تلجأ إليهما الجماعة حين تعبر عن حسها وشعورها.
ولكنا نجد في هذه الخصومة التي تصورها الإلياذة بين أجا ممنون وأخيل بعض أفراد قد أخذوا يتمردون على الجماعة وعلى السلطان القائم ولكنهم يتمردون تمردا خفيا مستورا لا يكادون يعلنونه، إنما يتحدث به بعضهم إلى بعض في أحاديثهم الخاصة؛ هو لغة النجوى.
نجد فردا من أفراد اليونان ينعي على أجا ممنون سلطانه وطغيانه، ولكنه لا يكاد يتحدث إلى من حوله بهذا النعي، أو بهذا السخط حتى ينهض من ينهض من سامعيه فيضربه بالعصا على رأسه، يريد أن يضطره إلى السكوت فيستخزي هذا الفرد الذي خرج على الجماعة وأنكر ما لها من قوة ومن قدرة ومن استئثار بالبأس والبطش، هذه الحياة التي تصورها لنا الأشعار القديمة في الإلياذة والأودسة وما أشبهها من الأغاني اليونانية التي كانت تنشد في القرن العاشر وفي القرن التاسع قبل الميلاد، تصور لنا جماعات أخص ما توصف به أنها متشابهة في الرأي والخلق والعادة، وأنها تعيش عيشة توشك أن تكون كالنمل أو النحل أو كعيشة غير هذه الحيوانات من الحيوانات الاجتماعية لولا أن الله قد منحها غرائز ومنحها استعدادا خاصا للرقي والكمال لم تستطع أن تصل إليها النمل أو النحل.
ولكن الحياة الإنسانية لم تقف عند هذا الحد، وقد أراد الله للإنسان أن لا يكون حيوانا اجتماعيا بالغريزة وحدها، وإنما أراد له أن يكون حيوانا اجتماعيا بالغريزة والعقل، والعقل الإنساني يرقى شيئا فشيئا، ورقيه نتيجة الحياة المادية وتعقدها وما ظهر فيها وما زال يظهر من الخصومات والتنافس على المنافع، والتهالك على إرضاء الحاجات الإنسانية التي لا تنقضي، وما دام الناس يشعرون بهذه الحاجات ويدفعون بغرائزهم إلى إرضاء هذه الحاجات، وما دامت هذه الحاجات مختلفة أشد الاختلاف متنوعة أشد التنوع؛ منها ما يمس الثروة والاقتصاد، ومنها ما يمس السياسة والعلم، وما دام هذا كله موجودا؛ فلا بد للإنسان من الحيلة، ومتى وجدت الحيلة، أخذ عقله في الوجود، ومتى وجد العقل الإنساني وشعر الفرد بأنه شيء فقد أخذت الخصومة وأخذت الحرب توجد بين الفرد والجماعة، ومتى ظهرت شخصية الفرد وابتدأ يشعر بأن له حقوقا وعليه واجبات، وبأن هذه الحقوق يجب أن يتقاضاها، وبأن هذه الواجبات يجب أن يقضيها، فإن استطاع أن يفر منها فعل، ما دام هذا كله موجودا؛ فليس من شك في أن مسألة حرية الرأي قد وجدت، وأن هذه المسألة التي قامت ستظل قائمة إلا أن يرد الإنسان إلى حياة الغريزة الأولى التي كان يحياها.
وفي القرن السابع أو القرن الثامن قبل الميلاد أخذت الخصومات بين الجماعات اليونانية تظهر على المنافع المادية، خاصة امتلاك الأرض، وعلى استثمارها والانتفاع بما تأتيه من ثمرات، ثم لم تلبث هذه الخصومة أن تجاوزت الجماعات إلى الأفراد أنفسهم، فأخذوا يتخاصمون، كل منهم يريد أن يملك أعظم حظ ممكن من الأرض أو الثروة، بعد أن كانوا لا يشعرون بشيء من ذلك.
ومنذ ذلك الوقت أنتجت لهم هذه الخصومات الاجتماعية محنا ومصائب دعت الأقوياء إلى أن يضطهدوا الضعفاء، ودعت الضعفاء إلى أن يلتمسوا لهم أماكن أخرى يستطيعون أن يظفروا فيها بشيء من الأمن والدعة.
ونشأ من ذلك أيضا أن اختصمت الأسر؛ فطغى كبير الأسرة على صغارها، واستبد صاحب السلطان الشرعي بالذين ينبغي أن يظلهم، واضطروا إلى أن يهاجموا ويخاصموا فلم تنفعهم مقاومة ولم يجد عليهم خصام، وفي أثناء هذه الاضطرابات التي نشأ عنها استعمار يوناني في إيطاليا وفرنسا وأفريقيا، وفي بلاد أخرى بعيدة عن بلاد اليونان، في أثناء هذا الوقت أخذ الأفراد يشعرون بأنفسهم، ويلتمسون لأنفسهم أسباب الراحة، وأسباب الحرية أيضا، ثم أخذ هذا العقل اليوناني يقوى ويشتد حظه من القوة شيئا فشيئا، حتى نشأ عن هذا التفكير البسيط تفكير أكثر منه تركيبا، تفكير نستطيع أن نقول إنه قد أخذ يتجاوز الحياة المادية القريبة العاجلة إلى شيء آخر، وأخذ الناس يفلسفون - إن صح هذا التعبير - فيما يلم بهم من الخطوب وما يصيبهم من المحن، ويحاولون أن يفهموا المشكلات ويفسروا هذه المصاعب التي طرأت لهم، ثم يحاولون أن يستنتجوا من هذا كله شيئا يشبه أن يكون حكمة.
وأول ما يصور هذه الأخلاق العامة الأخلاق التي تمثل الخير وتمثل الشر من حيث اتصالهما بحياة الفرد لا تجدونه في الإلياذة وفي الأودسة، ولكن في شعر آخر هو شعر الشاعر اليوناني المشهور «أزيود» الذي أخذ يتفلسف في حياة الإنسان ويحاول أن يصورها في شعره كما نفلسف نحن في بعض حياتنا اليومية العادية، بل ارتقى تصوير الناس إلى أبعد من هذا أيضا حتى حاول أزيود في قصيدته «الأيام والأعمال» التي حفظت إلى الآن، حاول أن يوجد شيئا يشبه العلم، فنظم بعض المعلومات التي كان الناس يستكشفونها كل يوم في حياتهم الخاصة من بعض المعلومات التي تمس الزراعة والفصول من صيف وشتاء وخريف وربيع، ثم ينتقل من هذا إلى بعض ملاحظات فلسفية عن العمل وفائدته وعدم الاعتماد على الوراثة ولا على الثروة التي تورث، ولكن الرجل الذي يستحق أن يسمى رجلا حقا هو الذي يعتمد على عمله.
هذا الشعور، وهذا الرقي العقلي، وهذا التفكير الذي نلاحظه لم يلبث أن انتهى إلى نتائجه الطبيعية، وهذه النتائج الطبيعية هي إيقاظ ميل الإنسان إلى النقد، وإلى الملاحظات المختلفة على النظم التي كان خاضعا لها، ومنذ أخذ الإنسان اليوناني يلاحظ وينقد ويضع النظام القائم موضع البحث والتفكير، نشأت الخصومات السياسية عند اليونان، وكان أول مظهر لهذه الخصومات أن أنكر سلطان الملوك، وأن أخذت جماعات من رؤساء الأسر والعشائر تتحدث بأن ليس بين هؤلاء الرؤساء وبين هذا الرجل الذي يسمى الملك، والذي يستأثر بالسلطة الدينية والقضائية والحربية فرق ما؛ هو من أسرة عظيمة، كما أنهم من أسر عظيمة أيضا، له مكانة في الجماعة كما لهم، وهو إنسان يتأثر، فهو إذن مثلهم وهم مثله، فما امتيازه؟ وما تقديسه؟ وما الذي يمنع أن يكون هؤلاء الرؤساء الذين يشبهون الملك؟ ما الذي يمنع هؤلاء الرؤساء من أن يكونوا شركاء الملك في سلطانه ويقاسموه الامتياز؟ ومن هنا أخذ التنافس العنيف يظهر بين الملوك وبين رؤساء الأسر، فنشأت الخصومة بين الأرستقراطية والملكية، وليس من شك أن الملوك قاوموا هذا ولكنهم غلبوا آخر الأمر، وكان انتصار الأرستقراطية على الملكية أول نصر للرأي؛ فقد استطاع الرأي أن يوجد في الحياة اليونانية فكرة جديدة وأن يغير نظاما وأن ينقل الإنسانية اليونانية من طور الخضوع لفرد واحد إلى طور آخر هو الخضوع لأفراد كثيرين، ثم نلاحظ أن العقل الإنساني إذا بدأ الحركة فلا سبيل إلى أن يسكن، ولست أدري أشر هذا أم خير؟
بدأ العقل الإنساني ينقد فلم يكن من سبيل إلى أن يقف عند حد، وما دام أفراد هم زعماء الأسر قد استطاعوا أن يغلبوا الملوك بل أن يخلعوهم وأن يستأثروا من دونهم بالسلطان وأن ينشئوا جمهوريات أرستقراطية، أمر الحكم فيها إلى قلة من غير شك، ولكنه على كل حال إلى جماعة لا إلى فرد؛ فما الذي يمنع من أن يفكروا؟ وما الذي يمنع هؤلاء الأفراد الذين ليسوا زعماء ولا رؤساء أن يسألوا أنفسهم - كما كان الرؤساء يسألون أنفسهم - ما الذي يفرق بيننا وبين الزعماء؟ وما بال الزعماء يؤثرون أنفسهم من دوننا بالأمر؟ وما الذي يمنع أن يكون السلطان شائعا؟ ومنذ نشأت هذه الفكرة وصل الرأي السياسي الإنساني الحر إلى الطور الثاني من أطواره وهو الطور الديمقراطي وأخذ الحكم الديمقراطي ينبث، وظهرت أثناء القرن السابع والسادس قبل الميلاد ثورة على نظام الأرستقراطية في أكثر المدن اليونانية إن لم يكن فيها كلها.
ولم يكد ينتهي القرن السادس قبل الميلاد حتى انتصرت الشعوب على الأرستقراطية وانتصرت أيضا الديمقراطية، وحتى صار أمر الحكم إلى الناس جميعا بعد أن كان إلى فرد واحد ثم إلى جماعة ضئيلة.
من أخص ما يمتاز به العقل الإنساني أنه إذا بدأ الحركة لا يقف - كما قلت - ولكنه لا يمضي في طريق مرسومة مستقيمة (غير قابلة للانحراف)، وإنما العقل الإنساني إذا تحرك مضى أمامه وينحرف إلى اليمين وإلى الشمال، فهو يمضي ثم ينحرف، لا يتحرك حركة مستقيمة، وإنما يتحرك حركة فيها غير قليل من التعريج، فالعقل الإنساني الذي ارتقى في السياسة والذي مكن للأقلية أن تقهر الملوك، ومكن الكثرة من أن تقهر الأقلية؛ هذا العقل لم يكتف بالنظر في شئون الإنسان، ولكنه أخذ ينظر إلى ما هو أرقى وأعم من الإنسان، أخذ ينظر إلى الطبيعة نفسها وهو الذي استطاع أن ينزل الأرستقراطيات عن سلطانها، فما الذي يمنعه من أن يدرس الطبيعة أيضا ومن أن يجعلها موضوعا للبحث أو النقد؟
ومنذ ذلك الوقت أخذ العقل يفكر في مسائل ليس بينها وبين الإنسان صلة مباشرة، هي مسائل عليا؛ أخذ يفكر في الطبيعة وأخذت الفلسفة الإنسانية توجد وجودا فعليا. ونستطيع أن نقول إن ظهور الفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد، هو العصر التاريخي الدقيق لظهور العقل بمعناه الصحيح، وهو العصر التاريخي الدقيق لظهور الرأي الحر، وهو العصر التاريخي الصحيح الذي أخذ يظهر فيه أفراد يقاومون الجماعة لا لمصلحة الجماعة بل لمصلحة الفكر للفكر من حيث هو.
منذ نشأت الفلسفة أخذ الناس يؤمنون بأن هناك شيئا اسمه الحقيقة، وأن هذه الحقيقة يجب أن تكون فوق الإنسان، وفوق الجماعة، وفوق كل شيء، وبأن الرجل الذي يمتاز بالعقل ويمتاز بالتفكير الصحيح يجب أن يضع الحقيقة فوق كل اعتبار وأن يجعلها هي وحدها قبلته إذا فكر أو نظر.
ومنذ ذلك الوقت أخذ يوجد بين الناس هؤلاء الأفراد الذين يوصفون بالجنون؛ لأنهم يخالفون جميع الأطوار التي تظهر فيها الجماعة في عصرهم؛ فهم خصوم الجماعة، وهداة الجماعة ومرشدوها إلى الخير، وهم الذين يشقون لها طريقها إلى الرقي، ولكنهم يسبقون عصورهم دائما، وربما كانوا يمتازون بأنهم وجدوا في الوقت الذي كانت مصالحهم الخاصة تقضي بألا يوجدوا، فمن المؤكد أيها السادة أن سقراط لو وجد الآن لما فكر فيه إنسان، ولما حفل به أحد ولا تعرض لخصومته أحد، فأين فلسفة سقراط وآراؤه مما وصلت إليه آراء الفلاسفة المعاصرين؟
من المؤكد أن سقراط لو وجد في القرن العشرين لمر كما يمر أي إنسان مثقف ثقافة عالية ممتازة، ولكن من المحقق أنه لو لم يوجد في العصر الذي وجد فيه، ولو لم يسبق الوقت الذي كانت مصلحته الفردية تقتضي أن يوجد فيه، لو لم يوجد في عصر ينكره أشد الإنكار، ويسخط عليه أشد السخط، لو لم يوجد سقراط لما وجدت الفلسفة التي توجد الآن، فلم يكن بد إذن من أن يوجد هذا العقل الذي يظهر شذوذه وتفوقه وخروجه عن المألوف، ومن أن يشذ، ومن أن يخرج على الجماعة ليستطيع أن يحدث ما أحدث من الآثار، ويوجد بعده أفلاطون ثم أرسطاطاليس وغيرهم من هؤلاء الذين نراهم الآن ونشهد آثارهم.
لم يكن إذن غريبا أن يشذ سقراط، ولم يكن غريبا أن يجد سقراط ما وجد من الخصومة، ولا ينبغي أن نظن أن أول خصومة وجدها سقراط هي هذه الخصومة التي انتهت به إلى الموت، هذه الخصومة التي اتهمته أمام المحكمة بأنه ينكر الآلهة ويضلل الشباب ويفسد أخلاقهم، كلا، فإن سقراط لم يكد يوجد، ولم يكد يظهر كفيلسوف، ويتحدث إلى الناس بآرائه، ويجادلهم فيما كان يجادلهم فيه، حتى وجد له خصوم مختلفون، وحتى ظهر رد الفعل، وحتى أنكره الناس إنكارا شديدا، وأنكره الرأي العام وضحك منه وآذاه، وربما كانت قصة السحاب التي بقيت لنا من قصص أرسطوفان قصة رائعة ناطقة بهذه المقاومة التي لقيها سقراط، هذه القصة تصور لنا كيف كان جمهور الشعب ينظر إلى سقراط فيسخر منه ويجده رجلا سخيفا يهذي ويعلم الشبيبة كيف تهذي، ويدفعهم إلى أشياء لم يدفعهم إليها أساتذتهم من قبل، ثم كيف كان الشعب يضحك من سقراط حينما كان أرسطوفان يمثل لهم هذه الأدوار الغريبة في قصر السحاب.
إذن كان سقراط خارجا على جماعته مقاوما لها وكان طبيعيا أن يجد من الجماعة ما وجد، ولم يكن هناك شيء غريب في أن يتقدم اثنان فيتهما سقراط بأنه عدو الشعب، ولا سيما إذا لاحظنا أن فلسفة سقراط لم تمض في طريقها المستقيمة التي كان يجب أن تسير فيها، وإنما انحرفت به إلى السياسة، وقد قلت إن العقل لا يسير في طريق مرسومة، بل ينحرف إلى اليمين وينحرف إلى الشمال، فقد كان سقراط عضوا من أعضاء الجماعة، يشعر بحقوق وواجبات وكان يشترك في أداء الواجبات العامة، وكان لحسن حظ الإنسانية وحسن حظه مقاوما لطغيان الطغاة، فلما ذهب عصر الطغاة وجاءت الديمقراطية منتصرة كان سقراط فيلسوفا، ومعنى هذا أنه لم يمض مع الشعب ولم تستقم به الطريق وإنما أخذ يسخر من بعض النظم ومن كثير من نظم الحياة الإنسانية، فخيل إلى الناس أنه عدو للديمقراطية.
ومن يدري لعل سقراط لم يكن بينه وبين نفسه صديقا للديمقراطية! كان إذن سقراط خصما للجماعة في تفكيرها وفي نظامها السياسي، ثم كان فيلسوفا طاغية إلى حد ما؛ فكلكم يعلم أنه عندما قدم إلى القضاة لم يدافع عن نفسه إلا كارها، إنما دافع عن نفسه ليسخر من الذين اتهموه والذين حاكموه أيضا، ثم عندما صدر الحكم على سقراط لم يظهر احتراما لهذا الحكم ولا رضي عنه، وكانت العادة إذا صدر الحكم على متهم بأنه مذنب أن يختار لنفسه العقوبة التي يرى أنها خليقة أن تفرض عليه، فلما سأله القضاة عن العقوبة، قال ساخرا: «إنني قد خدمت الوطن خدمة متصلة طيبة وأظن أن الوطن يجب عليه أن يطعمني على حساب الدولة إلى آخر أيامي»؛ أي إنه يرى أن تكرمه الدولة وأن تطعمه لا أن تعاقبه، أمام هذا الاستهزاء لم يكن بد من أن يقضى على سقراط بالموت، وليس معنى هذا أن الشعب اليوناني كان موفقا حين قاوم حرية سقراط، ولا موفقا حين قضى على سقراط بالموت، ولكن معنى هذا أن الشعب اليوناني كان معذورا؛ لأن حرية الرأي لم تكن قد عرفت؛ ولأن الشعب بطبيعته مضطر إلى أن يقاوم كل خطب يهدد حياته ويهدد نظامه، فكما أن للفيلسوف حقه في الفكر وفي أن يعلن رأيه، وله الحق في أن يتحدث إلى الناس حرا، فمن الطبيعي أن يقاوم هذا الرأي، ولم يكن العقل الإنساني قد ارتقى، ولم يكن الإنسان يفهم مقاومة الرأي بالرأي وحده، إنما كان الإنسان يفهم أن كل خارج على الشعب يجب أن يقضى عليه بالعقاب.
مهما يكن من شيء، فقد كان سقراط هو الضحية الأولى لحرية الرأي، ولكنها الضحية الخالدة الخصبة، وكان موت سقراط إعلانا لانتصار العقل وحرية الرأي السياسي؛ فلم يكد ينفذ في سقراط حكم الإعدام حتى انتشرت آراؤه ومذاهبه انتشارا رائعا، وحتى طغت مبادئه على كل الأرض، وانتصرت فلسفته على كل ما سبقها من أنواع الفلسفة وضروب الحكم، وحتى أصبح كل يوناني مثقف سقراطيا إلى حد ما من تلاميذ أفلاطون أو غيره من تلاميذ سقراط.
ثم مضت الفلسفة مقاومة للجماعات، ثم مضت الجماعات مقاومة للفلسفة أيضا، وكلكم يذكر أن أفلاطون لم يكن حسن العلاقات مع الشعب الأثيني، وأن أرسطاطاليس قد هرب من أثينا؛ لأنه خاف أن يحاكم كما حوكم سقراط، ومات وهو في هربه.
مضت الفلسفة تناضل عن حقها في الحرية وتلقى في ذلك محنا وخطوبا، تفكر وتعلن تفكيرها، إلى أن كان عصر ظهور المسيحية، في ذلك الوقت وصلت الحرب بين العقل والضمير وبين الجماعات إلى أقصى ما كان يجب أن تصل إليه من عنف، وكان مظهر هذه الحرب بين حرية الضمير والرأي، وبين الدولة والسلطان ما كان من الخصومة بين الإمبراطورية الرومانية والدين المسيحي، وكما لاحظ «إستيوارت مل» من أن رجلا من قياصرة الرومان كان فيما يظهر أرقى القدماء تفكيرا وأسماهم خلقا وأعلاهم تصورا للخلق الكريم، هذا الرجل هو ماركوس أورليوس الذي ترك في الأخلاق والحكم والفلسفة آراء خالدة، هذا الرجل قد اضطهد المسيحية وعذب الناس؛ لأنهم كانوا يقولون ربنا الله، وهذا أيضا طبيعي؛ لأن المسيحيين في ذلك الوقت لم يكونوا حراصا على أن يستمتعوا بحريتهم بينهم وبين ضمائرهم فحسب، ولكنهم كانوا خارجين على السلطان.
كانوا ينكرون سلطان قيصر ويأبون أن يعبدوا قيصر كما كان يعبده غيرهم، وكانت عبادة قيصر جزءا من الدين الرسمي والنظام السياسي، والغريب أن اضطهاد قياصرة الرومان للضمير المسيحي، وما سفكوا من دماء المسيحيين كان بالضبط كاضطهاد الأثينيين لسقراط؛ فهذه الدماء المسيحية التي سفكت في سبيل الاحتفاظ بالرأي وحرية الضمير قد روت الأرض وملأتها بناس يقدسون الشهداء ويسرعون إلى المسيحية.
والشر كل الشر أيها السادة يأتي من أن الإنسان يطغى، ويكاد يكون طغيانه جزءا من طبيعته، فهذه المسيحية التي جاهدت في سبيل حرية الضمير والتي لقيت ألوان العنف والظلم من قياصرة الروم، والتي سفكت دماء مئات الآلاف من أبنائها في سبيل الحرية، هذه المسيحية لم تكد تصبح دينا رسميا حتى تأثرت أو اعتنقت نفس المبادئ التي كانت تحارب بها، وفرضت على خصومها بعد أن ضعفوا ما كان يفرضه عليها خصومها حين كانوا أقوياء؛ فإن المسيحية الرسمية قد اضطهدت الوثنيين وقتلتهم وعذبتهم، ثم مضى الأمر على هذا النحو حتى أصبحت مصادرة الرأي ومحاربة حرية الضمير شيئا يوشك أن يكون رسميا في بلاد الروم في أواخر العصور القديمة وأوائل العصور الوسطى، وحتى وجد من آباء الكنيسة من كان يقول إن من أظهر خلافا للدين الرسمي يجب أن يقتل، ولست في حاجة إلى التحدث عن الفظائع التي اقترفتها الملوك والسلطات لمصادرة الرأي ومقاومة الضمير الحر أثناء القرون الوسطى؛ كلكم يذكر من ذلك الشيء الكثير، وكلكم يشفق على الإنسانية من آثار هذا كله، ثم كلكم يعلم أن نتيجة هذه المقاومة المتصلة كانت انتصارا للرأي، وكان ظهور المذهب الجديد، مذهب الإصلاح، نتيجة لمقاومة حرية الرأي، وكان انتصار مذهب البروتستانت في أوروبا هو انتصار مذهب حرية الرأي والضمير، على أن نفس مذهب البروتستانتية قد لقي مقاومات عنيفة، ولكن هذه المقاومات التي لقيها في بلد كفرنسا انتهت إلى هذه النتيجة الباهرة التي قد نتحدث عنها في محاضرة أخرى، وهي وجود طائفة من فلاسفة فرنسا يعلون حرية الرأي، ويتخذون التسامح مبدأ سياسيا، ويرون أن التسامح يجب أن يكون القاعدة العليا، والقاعدة الأولى والأخيرة لكل سياسة رسمية يكون عليها الحكم في بلد مثقف يحترم نفسه؛ فلولا هذه المقاومات الفظيعة لما وجد فولتير وروسو، ولما أعلنت حقوق الإنسان في أمريكا وفي فرنسا التي ما زلنا نعيش في ظلها إلى اليوم.
أظنكم تلاحظون أني عندما عرضت لكم تاريخ حرية الرأي قد سلكت طريقي في الغرب منذ بدأتها إلى أن انتهيت ولم أذكر الشرق، وهذا صحيح وسببه واضح، وهو أن الشرق القديم، الشرق الذي كان يسبق العصر اليوناني، هذا الشرق لا نستطيع أن نجد فيه ظلا لمسألة الرأي وحريته، لا نكاد نجد شيئا من هذا في تاريخ الشرق القديم، إنما وجدت الخصومات حول الرأي في الشرق عندما يتصل الشرق باليونان أيام الإسكندر.
أما الشرق الآخر، الشرق الذي يبتدئ من نحو القرن السادس للمسيح والذي نعيش الآن في ظله، الشرق الذي تأثر بالأمة العربية، الشرق الذي تأثر بالعرب والدين العربي، الشرق الذي تأثر بالإسلام، هذا الشرق الإسلامي أيها السادة ربما كان من أسعد أقطار الأرض من هذه الناحية، وأحق أقطار الأرض بالإجلال؛ ذلك أنه لم يعرف منذ وجود الإسلام مصادرة حقيقية، خليقة بهذا الاسم، تقوم على الحرب المنظمة لحرية الرأي، إنما قام الإسلام على حرية الرأي معليا لها حريصا عليها، وأظن أن كل مفكر حر منصف صادق في البحث والتاريخ لا يستطيع بحال من الأحوال أن يسجل على الإسلام، ولا على الذين أخلصوا له أنهم صادروا الرأي أو قاوموا حرية الرأي بنوع من الأنواع.
من المحقق أيها السادة أن نظاما كالنظام الإسلامي نجد في تاريخه الأول هذه الجملة الخالدة التي تصور الحرص على حرية الرأي، والفناء مع حرية الرأي، وإيثار حرية الرأي على الحياة، هذا النظام ظاهر في هذه الجملة الخالدة التي قالها النبي
صلى الله عليه وسلم
لعمه: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما فعلت.»
هذا النظام الذي نجد في تاريخه هذه الجملة الخالدة والذي نجد في كتابه المقدس:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ؛ لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون في وقت من الأوقات خصما لحرية الرأي، وكل من خاصم حرية الرأي فهو عدو للإسلام.
ومع ذلك أيها السادة، فإن برئ الإسلام من العداوة لحرية الرأي، وبرئ من كل خصومة لحرية الرأي، وإذا كان الإسلام هو الدين الذي يجعل حرية الرأي أصلا رسميا؛ فإن بين المسلمين من يجهرون بمحاربة حرية الرأي، ومن يتخذون الإسلام وسيلة لمحاربة الإسلام.
وإذا لم يكن بد من أن أؤدي إليكم بكل صراحة وشجاعة رسالة العقل ورسالة الإسلام معا، فإني أعلن إليكم صادقا بغير تردد: «أن كل من يخاصم حرية الرأي فهو عدو للإسلام.»
فولتير
سيداتي، ساداتي
انتهينا من حرية الرأي في المحاضرة الماضية إلى هذا العصر الحديث الذي كان فيه الصراع شديدا بين مذهب الإصلاح وبين الكاثوليكية، وقد قلت لكم في آخر المحاضرة إن هذا الصراع وهذه المقاومة التي لقيها مذهب الإصلاح أنتجا ظهور فلاسفة يدعون إلى حرية الرأي ويجاهدون في سبيلها ويلحون في جهادهم حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه من الثورة الفرنسية.
وأريد اليوم أن أحدثكم عن فيلسوف من هؤلاء الذين دعوا إلى حرية الرأي وجاهدوا في سبيلها، وانتهى بهم الجهاد إلى نصر مؤزر، وهذا الفيلسوف هو فولتير.
وأحب قبل أن أحدثكم عن فولتير أن ألاحظ بعض الملاحظات التي لا بد منها؛ فاسم فولتير من هذه الأسماء التي تثير الحب عند كثير من الناس، ولكنها في الوقت نفسه تثير البغض عند كثير منهم أيضا؛ ذلك أن هذا الرجل قد أحسن إلى كثيرين وأساء إلى كثيرين؛ أحسن إلى المضطهدين، ولكنه أساء إلى الذين كانوا يضطهدون الناس، أحسن إلى الضعفاء، ولكنه أساء إلى الأقوياء، أحسن إلى المظلومين، وأساء إلى الظالمين، ومن حيث إن الظالمين عادة لا يظلمون عفوا، وإنما يعتمدون على بعض الأصول والمبادئ يتخذونها سبيلا إلى الظلم، ويتخذون العدل أداة إلى الجور، والحق سبيلا إلى الباطل؛ فلم يسئ فولتير إلى الظالمين من حيث إنهم ظالمون فحسب، ولكنه أساء إلى الظالمين وإلى الأصول التي اعتمدوا عليها في ظلمهم وجورهم، وأظنكم قد فهمتم ما أريد أن أقول، فقد كره فولتير الاضطهاد الديني وقاومه مقاومة عنيفة، فلم يكتف بالإساءة إلى الظالمين والمضطهدين باسم الدين، ولكنه اندفع في ذلك إلى غير جد فأساء إلى الدين نفسه، وهو من هذه الناحية كان بغيضا إلى رجال الدين وما زال بغيضا إليهم، وسيظل بغيضا دائما إلى كل مؤمن بدينه حقا، فأحب أن تلاحظوا أنني عندما أتحدث عن فولتير أتحدث عنه حديث مؤرخ ليس غير، وسواء لدي أكان فولتير مصيبا أم مخطئا، أم كان مرضيا أم مغضبا، إنما الذي يعنيني من فولتير الآن هو ذلك الفيلسوف الذي جاهد في سبيل حرية الرأي وأثر جهاده في الحياة الفرنسية أولا ثم الأوروبية بعد ذلك، ثم الإنسانية بوجه عام.
ولد فولتير في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، بالضبط في سنة 1694 من أسرة من الطبقة الوسطى ، كان أبوه موثقا في باريس، ثم انتهى إلى عمل في ديوان المحاسبة، وفي هذا الوقت كانت الطبقة الوسطى في فرنسا قد أخذت تتقدم تقدما واسعا في الحياة الاجتماعية، كانت تظهر من التقدم في جميع فروع الحياة ما مكنها من أن تفرض نفسها على الجماعة الفرنسية فرضا، وكانت قد لقيت من معونة السلطان شيئا كثيرا، فاستطاعت أن تحرز مركزا ممتازا في التجارة والصناعة والأعمال الحرة بوجه عام، بل استطاعت أن ترقى إلى المناصب العامة بعد أن كانت هذه المناصب مقصورة على طبقة الأشراف، بل استطاعت أن ترقى إلى طبقة الأشراف نفسها بواسطة هذه القرارات والمراسيم التي كان يصدرها الملوك فيرفعون بها الرجل من الطبقة الوسطى إلى طبقة النبلاء.
ولد إذن فولتير من أسرة من هذه الطبقات الوسطى نشيطة عظيمة الحظ من النشاط، وكان أبوه بحكم صناعته متصلا بالطبقات الراقية وبأكبر النبلاء في باريس، كان موثقا لجماعة عظيمة من الكبراء الباريسيين، فكان يلقاهم ويتحدث إليهم، وكانوا يزورونه ويزورهم، وكان الشعراء الذين امتازوا في القرن السابع عشر في فرنسا من نفس طبقة فولتير، كورني وبوللو وراسين وموليير وغيرهم، كانوا كلهم من هذه الطبقة.
نشأ فولتير إذن في بيئة لا بأس بها، ليست معدمة ولا فقيرة، بل لها حظ من اليسار والغنى، ثم ليست منحطة من الناحية الاجتماعية، بل راقية محترمة، ثم هي مقربة من النبلاء ومن يتصلون بالقصر والذين يتقربون إليه، ثم هي بحكم هذا كله على اتصال بالصالونات الأدبية التي يروى فيها شعر راسين وموليير وكورني وغيرهم من الأسماء التي تملأ الأندية في باريس في ذلك الوقت.
ولم يكد فولتير يبلغ العاشرة من عمره حتى أرسل إلى مدرسة من مدارس اليسوعيين، فتعلم فيها.
وكانت مدارس اليسوعيين في ذلك الوقت هي أرقى المدارس في فرنسا، تعلم فيها ديكارت قبل فولتير بزمن طويل، ولم يكد ينتهي فولتير إلى الثامنة عشرة من عمره حتى كان قد أتم تعليمه وأخذ يظهر شخصيته الأدبية واضحة جلية، بل لم يكد يتجاوز العشرين حتى أخرج القصة التمثيلية الأولى من قصصه المسرحية وهي قصة «أوديب».
ولكن فولتير تأثر جدا بالحياة الأدبية، وكان تأثره بها أشد مما كان يريد أبوه؛ فكان يميل إلى الشعر، وكان يميل إلى الدعابة واللهو وحياة الأدباء الفارغة من كل ما يفيد المال ويمكن صاحبه من الكسب المادي؛ فغضب أبوه وأنكر عليه هذا أشد الإنكار وأراد أن يصرفه عن الأدب، وجاهد في ذلك ما استطاع ولكنه لم يوفق، وأراد أن يصرفه إلى صناعة تعود عليه بالفائدة المادية، فاجتهد في أن يلحق ابنه برجل من عظماء فرنسا، وهو سفير فرنسا في هولندا، لعله يتمرن على بعض حياة الجد، وسافر الفتى مع السفير، ولكنه لم يكد يصل إلى لاهاي حتى عرف سيدة فرنسية لها ابنة جميلة خلابة، فاتصل بالسيدة، واتصل بالفتاة، وكان بينه وبين الفتاة خطوب، واشتكت السيدة إلى السفير، واضطر السفير إلى أن يرد هذا الفتى إلى باريس، وهنا حاول الرجل أن يصرف ابنه مرة أخرى عن الأدب، وجد في ذلك، ولكنه لم يوفق حتى انتهى به الأمر إلى أن توصل إلى أن يظفر بأمر بالقبض على هذا الفتى وإرساله إلى السجن، فقبض عليه وأرسل إلى السجن وقضى فيه حينا ثم خرج، وكان أبوه يظن أن هذا التأديب سيصرفه عن الأدب، ولكن ذلك زاده إلحاحا فيه وتمسكا به.
وما زال الفتى يجد في صناعته هذه، وفي حياته الأدبية حتى نجح في التمثيل ثم أخذ يظهر آثارا أدبية تنشر فتلقى نجاحا وأخرى تنشر فتثير غضبا وسخطا، وأبوه ضيق بذلك كاره له حتى انتهى به الأمر إلى أن أصدر أثرا أعجب الملك والملكة، وصدر القرار بأن يخصص له مرتب من القصر، وهنا أحس والد فولتير أن الأدب صناعة لا بأس بها.
على أن فولتير كان أديبا بأدق معاني الكلمة، وأدق معاني الكلمة هنا أنه كان مضطربا لا نظام له في الحياة، يندفع في اللهو إلى أقصى حدوده، وكان صاحب عبث ولهو ما وسعه العبث واللهو، وكان أدبه يقربه إلى الطبقات العليا في فرنسا، ولم يكد يبلغ الخامسة والعشرين حتى كان معروفا في أرقى الطبقات في باريس وخالط الأشراف والنبلاء.
ولكنه كان حاد اللسان حاد الطبع، انتهى به هذا إلى أن أغضب بعض الناس وأحنق عليه بعض النبلاء، فأغرى به هؤلاء النبلاء رجلا من المقربين إلى القصر، وهذا الرجل اسمه الشفاليه دي روهان
Chevalier du Rohan
الذي قرر أن يكلف بعض خدمه أن ينتظر فولتير حين يخرج من الملعب وأن يصب عليه بعض العصي، فانتظره الخدم حتى خرج ذات ليلة من الملعب ثم تلقوه بعصيهم وأخذ النبلاء يرون هذا ويضحكون لذلك، فحنق فولتير من ذلك الوقت على النبلاء وأخذ يشعر شعورا حادا جدا بالفروق بين النبلاء الممتازين وبين الطبقات الأخرى؛ الوسطى أو الدنيا التي لا حظ لها من الامتياز.
حاول فولتير أن ينتقم لنفسه وأن يبارز هذا الرجل، ولكنه لم يوفق إلى شيء من هذا، ولكن الذي وفق إليه إنما هو صدور أمر الحكومة بالقبض عليه وإلقائه في السجن فأرسل إلى الباستيل، وأمضى فيه نحو سنة، وفي هذه المدة بدأ كتابا من كتبه التي أتاحت له شهرة عظيمة وطال عليه السجن، وأخذ الذين يحبونه يعملون على إخراجه، ولكن الحكومة أذنت بإخراجه من السجن على أن لا يبقى في فرنسا، فقبل وأعطى على نفسه عهدا بذلك فخرج من السجن وعبر المانش إلى إنجلترا؛ حيث أقام ثلاث سنوات من سنة 1726م إلى أواسط سنة 1729م.
هذه المدة التي أقامها في إنجلترا كانت عظيمة الأثر في حياته، وكانت عظيمة الأثر جدا في حياة الأدب الفرنسي، بل في الحياة الفرنسية العامة من جميع الوجوه، كان فولتير شديد الذكاء قوي الطبع حاد المزاج سريع التأثر بكل ما يرى ويسمع ويحس، شديد التأثر بالذين عاصروه، والمجددين منهم خاصة، كان ميالا إلى المحافظة في الأدب، متأثرا بالأدب اليوناني واللاتيني وبأدب القرن السابع عشر، ولكنه في الفلسفة كان مجددا جدا؛ كان منحرفا عن الفلسفة الرسمية في فرنسا أشد الانحراف، متأثرا بالحركة الجديدة وهي حركة الميل إلى العلوم التجريبية، فلما عبر البحر إلى بلاد الإنجليز صادف أحسن بيئة لهذا الميل؛ فلم تكن هناك في أوروبا أرض أثر فيها العلم التجريبي كإنجلترا.
ويكفي أن تذكروا أن فولتير عبر البحر إلى إنجلترا في عصر كانت تسود فيه فلسفة «نيوتون» واستكشافاته العلمية، لم يكد فولتير يصل إلى إنجلترا حتى انغمس في الحياة الأدبية الإنجليزية انغماسا مدهشا، وخلا إلى نفسه في قرية من القرى الإنجليزية، ولم يكد يتم سنة وبعض سنة حتى أتقن اللغة الإنجليزية إتقانا مكنه من أن ينشر فيها كتابين، وإذا الكتابان يظفران بنجاح عظيم.
على أن فولتير حين سافر من فرنسا إلى إنجلترا لم يسافر دون أن يصطحب معه كتبا تقدمه إلى بعض كبراء الإنجليز وبينها كتاب إلى سفير فرنسا في لندرة، وهذا السفير قدمه إلى عظماء الإنجليز ونبلائهم، عندما وصل فولتير إلى إنجلترا واتصل بهؤلاء لم يكن إلا الفرنسي الذي يتأثر بالحياة الفرنسية وحياة الطبقة الوسطى في فرنسا التي لا تلائم الحياة الإنجليزية الدقيقة سيما حياة النبلاء والممتازين، ويقال إنه عندما زار الشاعر الإنجليزي المعروف «بوب» دعاه إلى الغذاء، وكان فولتير ضعيفا ممعودا، فأخذت زوج الشاعر تحثه على الأكل، وأخذ فولتير يقص عليها الأسباب التي من أجلها يشعر بالألم، فكان في هذه القصص بسيطا يسيرا فرنسيا بأدق معاني الكلمة، ناسيا أو متجاهلا تقاليد الإنجليز حتى إن اللادي حين سمعت هذا كله ضاقت به واشمأزت وتركت المائدة وانصرفت.
اتصل في إنجلترا بفلاسفة الإنجليز الذين كانوا يعاصرونه، وقرأ آثار الفلاسفة الذين سبقوه، واتصل بالشعراء ورجال المال والسياسة، وتأثر بالحياة الإنجليزية في جميع أطوارها وفروعها أشد التأثر، وفي هذه المدة التي أقامها في بلاد الإنجليز أتم كتابه الذي كان قد بدأه في السجن، ونشره ففاز في هذا الكتاب بنجاح عظيم، وهو قصيدة قصصية عن حياة هنري الرابع والحروب المدنية الفرنسية، وفي سنة 1729 سعى حتى أذن له بالعودة إلى فرنسا؛ لأنه لم يستطع أن يعيش في إنجلترا عيشة هادئة، إنما اشتغل بأشياء كرهها منه الإنجليز؛ اشتغل بالسياسة، وبالسياسة الدولية اشتغل بشيء يوشك أن يكون تجسسا، وسعى بين رجال القصر وبين بعض الأفراد من النبلاء فكرهه أولئك وهؤلاء ، وأصبحت الإقامة في إنجلترا عليه أمرا متعذرا، فاستأذن حتى أذن له بالعودة إلى بلاده، ولكنه لم يعد صفر اليدين إنما عاد مملوء القلب والعقل بما أخذ وحفظ في بلاد الإنجليز، ومملوء اليد أيضا بما كسب من مال. ولم يكد يستقر في فرنسا حتى أصدر كتابا سماه الرسائل الإنجليزية أو الرسائل الفلسفية، والغرض الأساسي من هذه الرسائل هو المقارنة بين الحياة الإنجليزية والحياة الفرنسية، هذا الكتاب وضعه بالطبع باللغة الفرنسية ولكنه نشر ترجمته بالإنجليزية في بلاد الإنجليز أولا ثم عاد ونشره في فرنسا، ولم يكد يظهر ما في هذا الكتاب من وصف الحياة الإنجليزية والثناء عليها، وذكر الحرية الإنجليزية العليا - الحرية الشخصية، حرية الصحافة، حرية الفكر السياسي - ومن ذكر العلاقة بين الشعب والملك وبين الشعب والوزراء، وبين الشعب والبرلمان، لم يكد يفصل هذه الأشياء ويبين الفرق بينها في إنجلترا، وبين الحياة الفرنسية الخاضعة للاستبداد الذي لا حد له؛ حتى أحدث ثورة عنيفة جدا في بلاده اشترك فيها رجال السياسة والدين والجيش والقضاء والوزراء، وأصدر البرلمان حكمه بتحريق الكتاب، واضطر فولتير إلى أن يهرب إلى الحدود الفرنسية إلى اللورين، وهناك نزل ضيفا على قصر من قصور النبلاء وعاش أعواما في هذا القصر، كان لها أيضا أثر ليس أقل من الأثر الذي تركته الأعوام التي قضاها في إنجلترا في حياته.
كانت صاحبة القصر سيدة اختلفت فيها آراء الناس؛ قالوا إنها شديدة القبح وكانت تزعم أنها جميلة، وبعض الناس يقولون إنها كانت على شيء من الجمال ولكنها كانت ساحرة خلابة على كل حال، هذه السيدة هي مدام دي شاتيليه، أحبها فولتير وأحبته وكان حبهما غريبا حقا، كان فيه ما يكون في الحب عادة، ولكن كان فيه شيء آخر هو هذا الحب العلمي العالي؛ فقد كانت مدام دي شاتيليه مثقفة ثقافة علمية راقية، كانت شغوفة جدا بالعلوم التجريبية وبعلم الطبيعة بنوع خاص، فحببت هذه العلوم إلى فولتير، أو دفعته إليها دفعا، فإذا القصر يستحيل إلى مدرسة أو معمل طبيعة، وإذا العاشقان يشتركان في التجارب العلمية المختلفة وكانت على ذلك توجهه في العلم والأدب، وتسيطر على ما يكتبه من الآثار العلمية، وتطلب إليه أن يخفف من هذا أو ذاك، وتأذن له بنشر هذا أو ذاك، ثم هي تسعى في الوقت نفسه في أن تظفر بالعفو عنه في القصر، وما تزال تجد حتى توفق، وإذا فولتير يعود إلى باريس بل إلى فرساي وإذا هو مرضي عنه يختلف إلى القصر، ويختلط بمن فيه من الأشراف والنبلاء ويشترك معهم في الحياة، ثم يسافر فولتير إلى ألمانيا فيتصل بفردريك ملك بروسيا ثم يعود ويعيش في فرساي عيشة سعيدة جدا، وقد ظفر برضى الملك وصاحبة الملك مدام دي بمبادور، وهو في هذه الحياة بين مدام دي بمبادور وصديقته مدام دي شاتيليه.
ولكنه أديب حاد الطبع، طويل اللسان مندفع إلى الحرية، مندفع إليها في غير تحفظ حتى يضيق به النبلاء في هذه المرة كما ضاقوا به قبلا، ثم في ذات ليلة كانت صديقته مدام دي شاتيليه تلعب الورق وتخسر وتسرف في الخسارة، فقال لها فولتير بالإنجليزية: لعلك تلعبين مع جماعة من الذين يسرفون في الغش، وفهمت جملة فولتير وتألب عليه النبلاء وتعرض لخطر عظيم، واضطر إلى أن يهرب من القصر مع صديقته مدام دي شاتيليه وأن يعيش مشردا.
وفي نحو سنة 1750 دعاه فردريك إلى أن يتصل به، فذهب إليه فأقام عنده أعواما، وكان الحب قويا جدا بينه وبين الملك الألماني، وكان هذا الملك شديد الحب للأدب الفرنسي، وكان لا يتحدث ولا يكتب إلا باللغة الفرنسية، حتى قال فولتير إن اللغة الألمانية في ألمانيا هي لغة الشارع والخيل، أما لغة القصر ولغة المثقفين فهي اللغة الفرنسية.
كان إذن فولتير سعيدا مع صديقه ملك بروسيا، ولكنه لم يتحرج من أن يتصل بالسياسة هناك أيضا، وأن يحاول العمل لفرنسا، وفي أن يحدث أو ينشئ بعض العلاقات الودية بين فريدريك وفرنسا، ولكن فولتير كان أديبا، وكان حاد الطبع، حاد اللسان أيضا، فما هي إلا أن أخذت الغيرة تظهر بينه وبين الملك، وأخذ الناس يتحدثون بأن فولتير يمن على الملك؛ لأنه يعينه على أن يظهر ما أظهر من آثار، وأخذ الملك يظهر شيئا من الضيق بفولتير كما ضاق فولتير به، ثم ينتهي الأمر بخطوب تغضب الملك على فولتير، فيضطر فولتير إلى أن يترك برلين وأن يعود إلى فرنسا، فأنتم ترون أن الرجل كان مضطربا مشردا، ينشأ مضطهدا في فرنسا، ثم يضطر إلى بلاد الإنجليز، ثم يعود إلى فرنسا، ثم يضطر إلى اللورين، ثم يعود إلى باريس، ثم إلى ألمانيا، ثم إلى باريس مرة أخرى بعد أن غضب عليه فردريك، وبعد أن تعرض للخطر هناك.
ولكن فولتير لم يكن أديبا فحسب ولكنه كان ماهرا في اكتساب المال، وماهرا جدا في إرضاء الملوك والعبث بحبهم للتملق، وفي اكتساب المال منهم إلى أقصى حد ممكن، ثم كان مضاربا ماهرا في المضاربة، فلما عاد من ألمانيا كان قد كون لنفسه ثروة ضخمة حقا لم يظفر بها أديب قط؛ فكان يستطيع أن يجد لنفسه مكانا يعيش فيه بعيدا عن الكيد والدس عيشة حرة مترفة مملوءة بالنعيم، وقد فعل، فذهب إلى سويسرا واشترى لنفسه دارا في جنيف، وأخرى في لوزان، دارا للشتاء وأخرى للصيف، ولكنه لم يكد يستقر في جنيف حتى أغضب منه أهل المدينة، أغضبهم بسبب بسيط؛ فقد كان فولتير كاتبا ماهرا وشاعرا عظيما في التمثيل خاصة، وكان يحب التمثيل بينما كان أهل جنيف متأثرين بمذهبهم، مذهب «كلفن» حريصين على حياة توشك أن تكون شديدة الخشونة فكانوا يكرهون التمثيل والكوميديا بنوع خاص.
فلما سمعوا بتمثيله الكوميديا في منزله تحرجوا وغضبوا، وما كادوا يعلمون أن فولتير سيأتي بالممثلين حتى اجتمع مجلسهم وطلبوا إليه ألا يفعل، وأحس فولتير أنه سيلقى مقاومة، فاتخذ لنفسه قاعدة وسطا واشترى في فرنسا - ولكن قريبا جدا من جنيف - أرضا اتخذ لنفسه فيها قصرا، وهي في فرنيه، على بعد نصف ساعة من جنيف؛ فكان له إذن قصره في جنيف، واستأجر أرضا مجاورة في فرنيه واتخذ لنفسه أيضا فيها مقاما، ورأى أنه على هذه القاعدة يستطيع أن يكون في فرنسا وسويسرا في وقت واحد، فهو يلجأ إلى فرنسا حين يكرهه أهل جنيف، ويعود إلى جنيف حين يضيق به أهل فرنسا، دون أن يكلفه ذلك إلا مسيرة نصف ساعة، وكتب إلى بعض أصدقائه يقول: «لقد أصبحت الآن رجلا يقوم على أربع؛ لي رجلان في سويسرا، ورجلان في فرنسا.»
أخذت حياته بعد ذلك تعرف الهدوء، ولكنه الهدوء الخصب المنتج الذي نستطيع أن ننظر في الأدب القديم والحديث فلا نظفر بهدوء يشبهه خصبا وإنتاجا؛ فقد قضى في هذه الحياة الخصبة الهادئة المنتجة أكثر من عشرين سنة، كان فولتير ضعيف الصحة معتلا دائما، ولكنه عمر حتى نيف على الثمانين، ومع أنه كان متمرضا دائما فإنه كان منتجا دائما؛ منتجا في جميع فروع الإنتاج الأدبي والعقلي التي عرفها هذا العصر، كان منتجا في النثر والشعر، في التاريخ والفلسفة، منتجا في كل ما كان يتعرض له الأدباء والعلماء والفلاسفة في ذلك الوقت. ويكفي أن تعلموا أن آثار فولتير عندما جمعت وطبعت بلغت سبعين مجلدا ضخما.
أما الذي أريد أن أصوره لكم بعد هذا التلخيص الضئيل فهو جهاد فولتير في سبيل حرية الرأي، ظهر هذا الجهاد منذ أخذ فولتير يفكر ويكتب في فرنسا قبل أن يسافر إلى إنجلترا، فلما عاد من إنجلترا كان قد اشتد تأثره بالحرية الإنجليزية، واقتنع أشد الاقتناع بأن المثل الأعلى في الحرية هو هذه الحرية الإنجليزية التي تبيح للناس أن يفكروا ويكتبوا وأن ينشروا ويعلنوا ما يفكرون وما يكتبون، وكان اجتهاد فولتير وتحريق كتابه واندفاعه إلى الجد في سبيل الدفاع عن حرية الرأي؛ فكانت كل كتبه التي كتبها في التاريخ أو الفلسفة أو الأدب تنتهي دائما إلى غاية واحدة هي كسب هذه الحرية؛ حرية التفكير وحرية الإعلان.
ولكن هذه الحرية التي جاهد فولتير في اكتسابها طوال حياته ظهر جهاده فيها خصبا منتجا عندما استقرت به الدار في سويسرا وفي فرنسا.
في ذلك الوقت كان فولتير شيئا عجبا؛ كان فولتير رجلا كالرجال ولكنه كان دائرة معارف، وكان في الوقت نفسه صحفيا لا يصدر جريدة بل كان يصدر كتبا ورسائل ومقطوعات ويذيع هذا كله بطرق مختلفة من طرق الإذاعة.
اتخذ قصره معملا للأدب والفلسفة والتاريخ والنقد على اختلاف أنواع النقد.
يعنينا من كل هذا الآن نقده للحياة الفرنسية، لم يكن فولتير، كغيره من الفلاسفة المعاصرين، صاحب مذهب معين واضح منظم في السياسة أو الفلسفة السياسية، إنما كان عمليا، يلاحظ الحياة الفرنسية العملية وما فيها من العيوب السياسية والاجتماعية، ولا يكاد يلاحظ عيبا في الحياة السياسية إلا قيده، ثم فكر فيه تفكيرا يسيرا، ثم كتب فيه كتابا أو رسالة، ثم تطبع خلسة في السر دون أن يشعر أحد بها ثم تمتلئ بها حقائب المسافرين الذين كان فولتير يكثر الاتصال بهم، وإذا هؤلاء ينتشرون في فرنسا ويذهبون إلى باريس وغير باريس، وإذا كتب فولتير تملأ الأرض الفرنسية ولا يكاد يمضي شهر، بل لا يكاد يمضي أسبوع حتى ينتشر في فرنسا رسالة أو كتاب صغير يمس ناحية من النواحي الاجتماعية أو السياسية في فرنسا؛ حتى أصبح فولتير في العشرين سنة الأخيرة من حياته مسيطرا على الرأي العام الفرنسي بل الأوروبي كله، حتى أصبح الرأي العام الفرنسي أداة يصرفها كما يحب وكما يشتهي، وقد ظهر أثر هذا ظهورا واضحا جليا في بعض الحوادث؛ فقد اتهم في تولوز رجل من البروتستانت بقتل ابنه، وحوكم الرجل وحكم عليه بالموت وأنفذ فيه الحكم، ووصل إلى فولتير أن هذه القضية قد وقع فيها خطأ قضائي وأن الرجل بريء فاهتم بالأمر وأخذ يدرس القضية وتبين أن الرجل كان بريئا، وأنه لم يقتل فأخذ يدافع عن الرجل وأسرته، وأخذ ينشر الرسائل ويسعى لدى رجال القضاء والقصر ورجال الدولة، وينشر في دفاعه نثرا وشعرا حتى ألب الرأي العام الفرنسي تأليبا عنيفا، حتى صدرت أوامر القصر بإعادة النظر في القضية، ثم تنظر القضية من جديد ثم يظهر أن الرجل بريء ثم يلغى الحكم وتبرأ أسرة هذا الرجل ويرد إليها اعتبارها.
هذه الحركة في قضية كالاس جعلت للفيلسوف مكانة أخرى في فرنسا غير مكانة الفيلسوف والأديب والشاعر، نظر الشعب إلى فولتير على أنه حامي الشعب وقائده إلى الحرية ومنقذ الشعب، وأنه حامي المضطهدين، ومن هذا الوقت تغلغل تأثير فولتير في قلب الشعب، واتصل الشعب بقلب فولتير.
وأخذ فولتير كلما سمع عن نقيصة يبحث فيها ويهاجمها ويكشف أستارها ويندد ويسعى عند الحكومة والمحاكم والقصر في إزالتها، وكان ينتصر في أكثر الأحيان حتى أصبح زعيما بأدق معاني الكلمة وأوسعها، وهذا كله لم يصرفه عن الإنتاج الأدبي الراقي الذي هو إنتاج المترفين في الفن، كما أنه لم يصرفه عن العمل في الاتصال السياسي بملوك أوروبا، فكان على اتصال بفردريك وكاترين وكبراء الإنجليز.
وعلى هذا النحو أصبح فولتير ملكا في ضيعته هذه، ملكا بأوسع معاني الكلمة - مستمتعا بما كان يستمتع به الملوك من السلطان العملي والقانوني أيضا - له قصره وله حاشيته وموظفوه وهو في الوقت نفسه زعيم لشعب عظيم هو الشعب الفرنسي، وهو قائد الرأي العام الجديد في أوروبا، هو داعية الحرية والمدافع عنها في جميع الأقطار الأوروبية، لا عند عامة الشعب بل عند الأشراف والنبلاء كذلك.
وفي أواخر حياته في سنة 1778 كان فولتير قد وصل إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه رجل من الشهرة وبعد الصيت والحب في جميع الطبقات الفرنسية حتى كانت الملكة تتمنى لو استطاعت أن تراه وأن تقبله، وكان أهل باريس يشعرون بشوق إلى لقاء فولتير وكانوا يلحون عليه إلحاحا شديدا أن ينزل إلى باريس، واضطر إلى أن يستجيب للباريسيين فسافر إلى باريس في فبراير سنة 1778، ولا أستطيع أن أصور لكم ما تذكر الكتب عن احتفال الباريسيين بهذا الرجل، وعن هذا المجد العظيم الذي لم يظفر به أديب ولا فيلسوف من قبل، كان فولتير أديبا، ومعنى هذا أنه كان يحب المجد ويكلف بالشهرة ويحرص على السلطان، وكانت هذه الأشهر القصيرة التي قضاها في باريس أسعد أيامه؛ فكان منتصرا دائما وسكت خصومه جميعا فلم يسمع إلا صوت الحمد والإعجاب، وكان في الخامسة والثمانين من عمره وكان ضعيفا، ولكنه اندفع في أسباب المجد الذي لقيه في باريس، فكان كثير الحركة والانتقال يذهب إلى الملعب ليشاهد التمثيل، ويذهب إلى المجمع اللغوي ليعرض على المجمع مشروع معجم جديد للغة الفرنسية، ويذهب إلى القصر ويذهب هنا ويذهب هناك، وهو مع ذلك قليل الأكل كثير الشرب للقهوة؛ فقد كان يشرب خمسة وعشرين قدحا في اليوم الواحد.
وفي أوائل مايو أدركه المرض واستيأس الأطباء وأخذ فولتير يحس ألما شديدا؛ ألما جسمانيا وألما نفسيا، وكان يعتقد أنه لو استطاع أن يعود إلى ملكه في فرنيه لاستطاع أن يعنى بنفسه عناية تعصمه من الموت إلى حين، وكان يتوسل إلى طبيبه أن يخرجه من هذه الورطة، ولكنه أشرف على الموت، وعرف أنه مشرف على الموت، وهنا أخذ رجال الدين يسعون حوله ويتحركون ويسرفون في الحركة يريدونه على أن يموت مسيحيا كاثوليكيا، ولكنه فيما يظهر لم يكن مستعدا لأن يستجيب لرجال الدين إلى كل ما كانوا يريدونه منه؛ إذ كانوا يريدون منه أن يعلن إيمانه بالكاثوليكية وأن يرفض كل ما كتب، فكتب لهم شيئا غامضا مبهما، فألحوا عليه، ولكنه طلب إليهم أن يتركوه، وأن يدعوه يموت هادئا، ثم كتب الإعلان أو الرأي الذي مات عليه، وهو يلخص في هذه الكلمات: «أموت عابدا لله، محبا للأصدقاء غير كاره للأعداء، عدوا للاضطهاد.»
وفي اليوم العاشر من مايو سنة 1778 توفي فولتير ورفض رجال الدين أن يدفن في باريس في مقابر المسيحية، وكان فولتير قد قبل المفاوضات مع رجال الدين اتقاء لهذا الرفض، كان يريد أن يدفن كما يدفن الناس، ولكنه لم ينته إلى هذه النتيجة التي كان يسعى إليها فأبى القسس أن يدفنوه، ولكن بعض أصدقائه أخفوا جثته إخفاء وخرجوا بها من باريس خلسة وذهبوا بها إلى «شامباني»، وهناك تلقاه رئيس ديني ودفنه كما يدفن النصارى، وما كاد هذا القسيس يفعل ذلك حتى عزل من عمله، على أن بضع عشرة سنة لم تكد تنقضي على موت فولتير ورفض رجال الدين دفنه حتى تغيرت الحال وأعلنت الثورة الفرنسية، ثم قررت فرنسا ممثلة في نوابها أن ينقل جثمان فولتير من شامباني إلى البانثيون حيث يستقر عظماء الفرنسيين.
ليس من شك أن فولتير أساء إلى رجال الدين وإلى الدين المسيحي، بل إلى الأديان كلها، فهو كان عدوا للديانات، وكان يعلل ذلك أولا بأن الديانات مخالفة للإنسانية؛ لأنها سببت الاضطهاد وسفك الدماء ، وثانيا بأن الديانات مخالفة للعقل؛ لأن فيها أسرارا لا يستطيع العقل أن يفهمها، وثالثا بأن الديانات عنده ديمقراطية وهي من خصائص الطبقات المنحطة لا تتصل بالطبقات العليا، ففولتير لم يكن ديمقراطيا بحال من الأحوال، هذه الأسباب الثلاثة هي التي بغضت إليه الديانات، ولكنه اندفع في بغض الديانات إلى سخف كثير لا حد له؛ فقد هاجم التوراة والكتب المقدسة كلها.
من أجل هذا كان فولتير بغيضا بل ما زال بغيضا - كما قلت لكم - إلى رجال الدين بل إلى كل مؤمن، وتظهر آثار هذا البغض حتى في هذه الأيام؛ فالذين يؤمنون ويحبون دينهم يبغضون فولتير بغضا شديدا حتى في نقدهم له؛ فالنقاد من المسيحيين يتنكرون له حتى يفسد هذا البغض كل شيء في نقدهم، ويكفي أن تقرءوا ما كتبه «إميل فاجيه» عن فولتير وما كتبه «بول سوديه» فسترون التناقض الشديد بينهما؛ أحدهما مسيحي مؤمن شديد الإيمان فهو مبغض لفولتير، وبغضه يدفعه إلى أن يتعصب على فولتير فيفسد عليه إنصافه، فإذا قرأتم رأيا لفاجيه فسترون أن فولتير عنده رجل لا حظ له من فلسفة ولا شيء إلا أنه كان رجلا أحسن كتابة الرسائل حتى نبغ فيها، ومع ذلك فرسائله ليست شيئا بالقياس إلى رسائل غيره، فإذا تركتم هذا الرجل وقرأتم «بول سوديه» الذي لم يكن مؤمنا وإنما كان حر الرأي - كما يقولون في فرنسا - فستجدونه يغلو في حب فولتير وإكباره حتى يرفعه إلى الألوهية الأدبية، وكذلك يختلف الناس في فولتير؛ يحبه قوم كثيرون فيسرفون في حبه، ويبغضه قوم كثيرون فيسرفون في بغضه.
ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن فولتير كان لسان حرية الرأي والمجاهد في سبيلها، وأصدق ترجمان لأماني الشعب الفرنسي بل الشعوب الأوروبية في القرن الثامن عشر، وهو من أهم بل من أكبر الذين وضعوا أسس الثورة الفرنسية، وحسبه ذلك فخرا.
روسو
سيداتي، ساداتي
الرجل الذي أريد أن أحدثكم عنه الليلة رجل غير عادي؛ لذلك أرجو أن تستمعوا للحديث عنه بعناية خاصة؛ فهو ليس كغيره من عظماء الرجال يمتاز بنبوغه وتفوقه وبراعته فحسب، وإنما يمتاز بشيء آخر، يمتاز بأنه كان مريضا، وكان يائسا، وكان سيئ الحظ، وكان مجنونا أيضا، فالذين يريدون أن يدرسوا جان جاك روسو، والذين يريدون أن يتحدثوا عنه في حاجة إلى أن يتهيئوا لهذا الدرس وهذا الحديث بشيء من العطف والرحمة وبكثير جدا من الإشفاق؛ فقد كان ذلك الرجل العظيم حقا أشد الناس إثارة للعطف والإشفاق، وإن كان في حياته قد أثار البغض والمقت أكثر مما أثار أي شيء آخر.
جان جاك روسو فرنسي الأصل، سويسري المنشأ، أسرته فرنسية هاجرت من فرنسا في القرن السادس عشر إلى سويسرا، ولم تلبث أن كسبت بمدينة جنيف الحقوق الوطنية فأصبحت سويسرية.
ولد جان جاك روسو في أوائل القرن الثامن عشر في 28 يونيو سنة 1712، وكان أبوه رجلا غريبا، مسرفا في العبث والمجون، يصنع الساعات، ويعلم الرقص ويسرف في اللهو، وعندما ولد جان جاك قضي على حياة أمه فماتت أثناء ولادته، ثم سافر أبوه هاربا من جنيف وترك ابنه من غير عائل فنشأ نشأة مهملة شديدة الإهمال، ليس له من يعنى به إلا أقاربه والمتصلون بأسرته، وكان أظهر شيء في حياة روسو الأولى هذا الإهمال، ومن هذا الإهمال نشأت الصفات الأولى لروسو؛ فقد أخذ يقرأ كل ما يستطيع أن يقرأ سواء في ذلك الجيد والرديء، ولم تكن هناك مراقبة ما على حياته تضطره إلى أن يستقر في بيته أو في بيت من أوى إليه، فقد كان يخرج إذا أتيح له الخروج، ويطوف في الشوارع، ويطوف خارج المدينة، ودفع بعد أن تقدمت به السن إلى مكاتب بعض الموثقين فلم يصنع شيئا، وقال رئيسه أو معلمه إنه لن يكون إلا حمارا، وفي سن السادسة عشرة من عمره كان أظهر ما يمتاز به من الصفات حب الهيام في الشوارع والطرق، وخرج ذات يوم خارج المدينة يتروض فطال غيابه، فلما أن عاد وجد أبواب المدينة مغلقة، فقرر ألا يدخل المدينة أبدا؛ فسار في طريقه حتى فارق سويسرا ودخل الحدود الفرنسية.
ومن ذلك الوقت بدأت حياة جان جاك التي تمتاز بالهيام والاضطراب في غير نظام؛ لقي قسيسا عني به ثم قدمه إلى امرأة كانت تقيم في أنسي، وكانت هذه المرأة كاثوليكية غريبة الأطوار، سيئة السيرة، كثيرة الكيد، وكانت تشتغل بالجاسوسية، وكانت جميلة مؤثرة الجمال تتصيد الشبان لتؤثر فيهم ولتخرجهم من البروتستانتية إلى المذهب الكاثوليكي. عنيت هذه المرأة بالشاب وأرسلته إلى تورينو في إيطاليا، وهناك دفع إلى جماعة من الرهبان، أخذوا يؤثرون فيه حتى أخرجوه من دينه وحملوه على اعتناق الكاثوليكية، ولكن جان جاك مع ذلك كان كارها لحياة الرهبان، ولكنه طاوعهم واعتنق الدين الجديد، ولما تم اعتناقه للدين الجديد أخرج من الدير، ودفع إليه مقدار ضئيل جدا من المال، فأقام في بعض الغرف التي استأجرها وأخذ يلهو حتى استنفد ما كان معه من المال الضئيل، ثم احتاج إلى أن يكسب فقدم نفسه إلى بعض القصور على أن يكون خادما، وأقام في هذا القصر وقتا ما، ولكن لم يطل فيه المقام؛ لأنه سرق ولم يكتف بالسرقة بل اتهم خادمة بأنها هي التي سرقت، فأخرج وأخرجت معه الخادمة، وهام على وجهه مرة أخرى وعاد إلى صاحبته مدام دي فرانس وأقام عندها، وجدت هذه لكي تجد له عملا، ولكنه كان كلا على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير، ومن العسير جدا أن نتبع جان جاك في حياته هذه المضطربة؛ فقد كان كثير التنقل والارتحال، كثير الاضطراب في حياته وفي سيرته وفي كل شيء، ولكن منزل مدام دي فرانس كان هو المأوى الذي يأوي إليه من حين إلى حين.
والذي أستطيع أن أوجزه لكم هو أن حياته مع مدام دي فرانس كانت شديدة الأثر جدا في سيرته كلها؛ فقد عطفت عليه المرأة في أول الأمر عطف السيد الذي يحمي ذلك الفتى الضعيف، ثم لم يكد هذا الفتى يبلغ العشرين حتى استحالت الصلة بينه وبين هذه المرأة إلى شيء هو العشق، والغريب أنه كان يدعوها أمه وكانت تدعوه ابنها الصغير، وليس هذا كل ما انتهت إليه حياته مع مدام دي فرانس فما هي إلا أوقات قصار حتى يظهر لجان جاك أنه لا يستأثر وحده بحب أمه هذه، وأن له شريكا في هذا الحب وأن هذا الشريك بستاني، وهو مضطرب في هذا الحب الغريب تثور نفسه على هذه الشركة ولكن الحاجة تدفعه إلى قبولها، وينتهي به الأمر إلى أن يخضع، ثم تخلصه الأقدار من شريكه هذا؛ لأنه يموت مسموما، ويخلو له قلب أمه، ويخلص له حبها ولكنه سيئ الحظ فما أسرع ما ترسل إليه الأقدار شريكا آخر! وما أسرع ما يرى نفسه مضطرا إلى أن يقهر عواطفه الطبيعية، وإلى أن يخضع مرة ثانية لمثل الشركة الآثمة التي خضع لها في المرة الأولى!
على أن مدام دي فرانس كانت تضيق به بعض الشيء، فترسله إلى مونبليه ليعالج نفسه من بعض العلة، فيذهب إليها ويعود إلى صاحبته قابلا للشركة دائما، ولكنه في الوقت نفسه ثقيل على الحبيبين وإن كان مقبولا في بعض الخلوات، ثم ينتهي الأمر إلى أن تستأجر أمه وعشيقته له بيتا في مدينة بعيدة بعض الشيء فتخلص لصاحبها، ويخلص جان جاك للقراءة والدرس، ولكن لقراءة لا نظام لها ولدرس لا اعتدال فيه؛ وإنما هي القراءة المطلقة، القراءة في الليل والنهار، القراءة في غير اختيار وفي غير ترتيب، والدرس في غير اختيار أو ترتيب أيضا، ثم في هذه المدة التي أقامها عاكفا على القراءة والدرس كانت تزوره أمه مدام دي فرانس من حين إلى حين.
وما هي إلا أوقات قصار حتى يضيق بهذه الحياة ويحاول أن يلتمس له حياة أخرى فيسافر إلى ليون ويتصل ببيت كبير هناك على أن يكون مربيا في هذا البيت، ولكنه في حياته الجديدة ليس خيرا منه في غيرها؛ فهو مرب ولكنه يسرق النبيذ ويحب صاحبة البيت ويسيء العناية بمن يجب عليه أن يربيهم ؛ ولا يطول مقامه في هذا البيت فيخرج منه ويعود إلى صاحبته، ثم تضطره الظروف إلى أن يرحل إلى باريس، وفي باريس تستحيل حياته إلى حياة جديدة هي التي ستخرجه من حياته الأولى من طور إلى طور وستغيره تغيرا تاما؛ فيه خير لا حد له؛ لأنه اتصل بالأدباء والعلماء والأرستقراطية، وفيه شر لا حد له؛ لأنه لقي عاملة أحبها واتخذها صديقة ثم رفيقة وتدعى تيريز ليفاسير.
ومن هذين الأمرين تألفت الحياة الجديدة لجان جاك، أما اتصاله بالعلماء والأرستقراطية فقد جعل منه رجلا عظيما، وأما اتصاله بهذه الفتاة العاملة فقد جعل منه رجلا شقيا، والغريب أنه استطاع أول الأمر أن يلائم بين هذين النوعين المتناقضين من الحياة؛ فكان بين الأدباء والأرستقراطية كأحسن ما يكون أرستقراطية، وكان مع العلماء كأحسن ما يكون الرجل العالم، كان أرستقراطيا مع الأرستقراطية وكان عالما مع العلماء، ولكنه نشأ نشأة وضيعة - إن صح هذا التعبير - ومع أنه تعلم تعلما شديد الاضطراب فكان إلى الجهل أقرب منه إلى العلم، ثم كان في الوقت نفسه محبا أشد الحب لصاحبته تيريز مع بعد ما بين تيريز العاملة الحقيرة الجاهلة التي هي أقرب إلى الغفلة وإلى الإمعان في الغفلة منها إلى أي شيء آخر؛ كان يلائم بين حياته مع هذه الفتاة العاملة الجاهلة وبين حياته مع الأرستقراطية ومجامع العلماء.
فإذا بلغنا بجان جاك سنة 1749 رأيناه معروفا في باريس كما يجب أن يكون الرجل معروفا في البيئات الراقية؛ يختلف إلى القصور كما تعود الأدباء والعلماء الممتازون، بل ارتفع أمره حتى أصبح عضوا في جماعة دائرة المعارف مع بعض كبار العلماء الفرنسيين الذين كانوا يهيئون دائرة المعارف في ذلك الوقت؛ فهو إذن قد أصبح أديبا ممتازا، ولسنا ندري كيف استطاع أن يصل إلى هذا المركز؛ لأن حياته لم تكن تؤهله لشيء من هذا، ومع ذلك فقد كان محبوبا وكانت النساء الأديبات والأرستقراطيات في باريس يحببنه ويتهالكن عليه تهالكا شديدا، وكان هو سعيدا بهذا مشغوفا به، ولكنه لم يلبث أن أحس مرارته وضاق بالحياة أشد الضيق؛ فقد عرف سيدة أرستقراطية هي مدام دي بنيه، أحبها فأحبته، واتخذت له بيتا قريبا من قصرها وأنزلته في هذا البيت، وكان بهذا البيت سعيدا مغتبطا، وكان يرى أنه ارتفع إلى الدرجة التي كان يتمناها، ولكنه لم يلبث أن أحس أن ارتفاعه هذا لم ينته به إلا إلى الرق؛ لأنه أحس أنه خاضع لسلطان هذه السيدة التي تؤثره وتنعم عليه، فهو مكلف أن يستجيب لهذه السيدة كلما دعته، وهي تدعوه دائما.
وذات يوم عزمت هذه السيدة أن تسافر إلى سويسرا فطلبت إلى جان جاك أن يرافقها في هذا السفر، فكره هذه المرافقة وضاق بها وتردد ثم امتنع، وفهم من ذلك الوقت أنه لا يستطيع أن يعيش في هذه الأرستقراطية إلا إذا نزل عن كرامته وحريته؛ لأنه ليس أرستقراطي المولد، وفهم أن الذين يريدون أن يعيشوا كالأرستقراطيين يجب أن يقبلوا الخضوع والذلة والرق.
ومنذ ذلك الوقت أخذ جان جاك روسو يشعر شعورا قويا جدا بالفرق بين هذه الطبقات، بين هذه الأرستقراطية الممتازة وبين هذه الطبقات الوسطى التي تظفر بالغنى والثروة ولكنها لا تستمتع بالحقوق كلها، ثم بين هذه الطبقات الدنيا طبقات الفقراء وطبقات الشعب التي لا تستمتع بحق ولا ثروة وإنما هي مضطرة إلى أن تعيش عيشة الذل والخضوع.
ومنذ ذلك الوقت أخذ جان جاك يشعر أنه ثائر متمرد على النظام الاجتماعي، وفي هذا الوقت أعلن المجمع العلمي في ديجون موضوعا للمسابقة هو: «هل هناك فائدة من ازدهار العلوم والفنون؟» هذا هو الموضوع الذي عرضه المجمع العلمي على الكتاب والأدباء، وأسرع روسو إلى هذا الموضوع فدرسه وفكر فيه وأجاب عنه وكان صريحا، ولكن إجابته كانت قنبلة ألقيت في باريس بل في فرنسا.
وكان هذا الجواب: لا، لا نفع ولا خير للإنسان من ازدهار العلوم والفنون، بل العلوم شر والفنون شر والفلسفة شر، وخير للإنسان أن يجهل العلوم والفنون وأن يعود إلى حياته الطبيعية الأولى.
وبعد أعوام بينما كانت الحياة الأدبية الفرنسية مضطربة أشد الاضطراب بهذا الرأي، وبينما كان العلماء والأدباء يجادلون في هذا الرأي، وروسو يقاوم أولئك وهؤلاء؛ أعلن المجمع موضوعا عرضه للمسابقة بين العلماء والأدباء وهو «مصدر التفاوت بين الناس»، فأقبل روسو على هذا الموضوع ودرسه وأجاب عليه، وقال إن مصدر التفاوت بين الناس هو الحضارة وأن الحضارة شر كلها، والخير أن يرفض الإنسان الحضارة ويعود إلى حياته الطبيعية الأولى، فكان جوابه الثاني كجوابه الأول مصدرا لثورة علمية واضطراب عظيم.
وبهذين الكتابين ظهر الخلاف عنيفا جدا بين جان جاك وبين العلماء والأدباء الذين كان يشتغل معهم في إعداد دائرة المعارف؛ فهؤلاء أنصار رقي العلم ورقي الفن ورقي الأدب وأنصار النظام والاجتماع بوجه عام، وهذا الذي أخذ ينكر فائدة العلم وقيمة الفن وينكر النظام ويريد أن يعود بالإنسان إلى حياته الأولى، هذا الرجل لا يستطيع أن يتعاون مع أصحاب دائرة المعارف.
ثم تدعو الحياة جان جاك إلى أن يعود إلى وطنه جنيف، وهناك يعود إلى دينه الأول فيرفض الكاثوليكية، وهناك يظفر روسو بإعجاب مواطنيه وبشيء من السعادة لا بأس به فهو قبلة جنيف وهو عظيم المدينة، ولكنه لا يكاد يعود إلى باريس ويستأنف حياته فيها حتى يدنو مسرعا إلى ما لم يكن بد من أن يدنو منه إلى هذه الغاية، وهي سخط الناس جميعا عليه؛ يضع كتابه في التربية، كتاب «أميل»، ولا يكاد يعلن هذا الكتاب وينشره حتى يحدث ثورة أشد من التي أحدثها بكتابيه السابقين، وإذا البرلمان في باريس يقضي على هذا الكتاب بالتحريق وبالقبض على صاحبه، وإذا النذير يصل إليه، وإذا هو مضطر إلى الهرب.
ولكنه طبع كتابا آخر ليس أقل من «أميل» خطرا، هو «العقد الاجتماعي» وإذا الكتاب يحدث ثورة، لا في باريس وحدها، بل في كل البلاد الأوروبية، وكان المعقول أن يجد جان جاك ملجأ في وطنه جنيف، ولكن كتابه قد قضي عليه في جنيف بالتحريق، وقد حرمت جنيف على روسو، فهو لا يستطيع أن يلجأ إليها بعد أن أغلقت عليه وحرمت عليه، ثم يريد أن يلجأ إلى مدينة أخرى من مدن سويسرا، فإذا هذه المدينة قد حرمت عليه أيضا، وإذا مدن سويسرا كلها قد حرمت عليه، وإذا هو مضطر إلى أن يلجأ إلى ناحية سويسرية لم تكن حرة في ذلك الوقت ولكنها كانت خاضعة لسلطان بروسيا، وهناك تستقر به الحياة أعواما ولكنه لا يكاد يظفر بالحياة المستريحة الآمنة حتى يقوم الجدال حول آرائه، وحتى يشتد هذا الجدال حتى يؤلب الشعب عليه وحتى يلقي خصومه - وفي مقدمتهم فولتير - في روع الشعب أن روسو عدو الشعب، وأنه يزعم أنه ليس للنساء نفس، وأنه عدو للدين وأنه لا بد من أن يطرد من حظيرة البروتستنتية، وإذا الشعب ساخط عليه كما سخط عليه كل إنسان، ولكن الشعب يتحداه ويتبعه في الشوارع ويقذفه بالحجارة ويقذف بيته أيضا، وإذا هو مضطر إلى أن يهرب ويلتمس له ملجأ في مكان آخر، يهرب من نيوشاتل إلى مدينة أخرى تتبع حكومة برن، ولكن حكومة برن أصدرت أمرها بوجوب مهاجرة روسو من كل أرض تخضع لسلطانها؛ فيبكي، وهو مستعد للإذعان ولكنه يطلب إلى الحكومة أن تأذن له بالإقامة في سجن من سجونها، فهو لا يريد أن يكتب ولا أن يشتغل بعلم أو بشيء، وإنما يريد أن ينتظر الموت مستريحا، وهو يعطي على نفسه عهدا أن يقيم في السجن على نفقته الخاصة، ولكن الحكومة تأبى عليه هذا أيضا، فهو مضطر إلى أن يترك أرض سويسرا كلها، وهو متردد لا يدري إلى أين يذهب، يدعى إلى فينا ويستطيع أن يذهب إلى برلين حيث فردريك، ويستطيع أن يذهب إلى إيطاليا.
وبينما هو في هذا التردد يخطر له أن هذه المدن كلها بعيدة، وأنه يستطيع أن يجد مكانا في فرنسا بعيدا عن باريس فيذهب إلى مدينة ستراسبورج، وإذا عرض يعرض عليه؛ أن يذهب إلى إنجلترا؛ لأن الفيلسوف هيوم مستعد لأن يحميه ولأن يسهل عليه الإقامة الهادئة في بلاد الإنجليز، ولم يكن روسو يحب الإنجليز، ولا يحب بلادهم، كما أنه لم يكن يعرف لغتهم، ولكن العرض كان قيما، وكان يقدم إليه في شيء من العناية واللطف والإلحاح، فلم يسعه إلا أن يقبل، وكان الفيلسوف الإنجليزي ظريفا وكريما، فقد تعهد لروسو بأن ييسر له كل أمر؛ بأن ييسر له الانتقال من ستراسبورج إلى باريس، ومن باريس إلى بلاد الإنجليز، وأن ييسر له الحياة في إنجلترا كما يحب ويهوى ؛ فرافقه من ستراسبورج إلى باريس، ثم رافقه إلى بلاد الإنجليز وقدمه الرجل إلى الأرستقراطية الإنجليزية، وجد في العناية بضيفه، وكانت شهرة جان جاك قد سبقته إلى إنجلترا فترجمت بعض كتبه، وكتبت الفصول عما لاقاه من اضطهاد، وكان الرأي العام الإنجليزي مستعدا أحسن الاستعداد للعطف عليه، وكان كل شيء ينبئ أنه سيكون سعيدا. ولكنه عندما وصل إلى إنجلترا في سنة 1766 لم يلبث أن أصبح أشقى الناس؛ لأنه كان فيلسوفا وكان مجنونا.
ونلاحظ أولا أن حياة روسو كانت شديدة المناقضة جدا لما ألف الإنجليز؛ فقد كان روسو يلبس لباسا شرقيا أرمنيا؛ ثوبا واسعا فضفاضا ويشد خصره بحزام ويضع على رأسه قلنسوة شرقية، ثم كان أشد الناس ازدراء للعادات والتقاليد وما ألف الناس من أوضاع، وعلى كل حال عني به الإنجليز عناية شديدة جدا عندما وصل إلى لندرة، وعني به الفيلسوف هيوم واجتهد في أن يحقق له كل ما كان يريد، ولكن كل ما كان يريده جان جاك هما شيئان متناقضان؛ كان يريد أن يكثر الحديث عنه، وأن لا يراه أحد ولا يقابل أحدا، ولا يزور أحدا، ويقال إن بعض كبار الممثلين عني بجان جاك وقرر أن يمثل من أجله في بعض الملاعب بعض الروايات، وهيئت لذلك حفلة خاصة ودعي روسو إليها، وأظهر الملك والملكة رغبة في حضور هذه الحفلة، لا رغبة في التمثيل بل لرؤية جان جاك، وأسرعت الأرستقراطية كلها في الحضور، وفي آخر لحظة قرر روسو أنه لن يذهب إلى الملعب، لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يترك كلبه وحده في الغرفة، فلما بين له صديقه أنه لا يليق حقا أن يأتي أمرا كهذا، وأن يكلف الملك والملكة وكبار الأرستقراطية وهذا الممثل العظيم الحضور ثم يخلفهم موعدهم لا لشيء إلا لأنه يشفق على كلبه من الوحدة ؛ قرر أن يذهب ويغلق غرفته ويأخذ المفتاح حتى لا يفلت الكلب، وخرج مع صديقه، وبينما هو على الدرج إذا به يسمع نباح كلبه فتسقط الدموع من عينيه فيأبى أن يذهب إلى التمثيل، وبعد جهد استطاع صديقه أن يقنعه آخر الأمر بالذهاب، فذهب بلباسه الشرقي ودخل في «اللوج» الذي هيئ له، في نفس الوقت الذي دخل فيه الملك والملكة، وكانت عناية الملك والملكة بمنظر روسو أشد جدا من عنايتهما بالتمثيل، والواقع أن منظر روسو كان غريبا حقا؛ فقد كان روسو لا يفهم حرفا من الإنجليزية ولكنه كان يضحك ويبكي، وكان يضطرب ويقوم ويقعد حتى خشيت جارته أن يسقط فشدته من ثوبه، ثم بعد أن ينتهي التمثيل ذهب إلى الممثل وقال له لقد ضحكت عندما سمعت الكوميديا، وبكيت عندما سمعت التراجيديا، ولكني مع ذلك لم أفهم حرفا مما كنت تقول.
كان روسو - كما قلت لكم - شديد الحرص على العزلة ولست أقص عليكم تفصيل حياته في إنجلترا ولكني أوجز هذا إيجازا؛ فقد انتهى الأمر بجان جاك إلى أن ظفر بقصر في مكان خلوي، وكان صاحب القصر رجلا ظريفا فقبل أن يضيف روسو، وكان يجب أن يضيف روسو على أن لا يكون ضيفا بل على أنه مستأجر وكان يجب أن يقدم إليه كل ما يحتاج إليه، وما أكثر ما كان يحتاج إليه! وأن يأخذ منه أيسر أجر ممكن، وقد كان كل ما أراد روسو فقبلت منه أجرة اسمية - إن صح هذا التعبير - وأقام مع صديقته تيريز، واحتملت الأرستقراطية الإنجليزية عناء شديدا في أن تقبل هذا الرجل وصديقته التي لم تكن زوجه ولم تكن مثقفة ولا مهذبة، وإنما هي عاملة غبية غافلة، يقبلون أن يجلسوا إلى موائدهم وفي غرف الاستقبال مع هذه المرأة البلهاء، وكل هذا لم يرض روسو، فكان يرى أنه لم يظفر بما كان ينبغي أن يظفر به من العناية في بلاد الإنجليز.
وفي أثناء هذه الحياة التي كانت تملؤها الشكوى من روسو وتملؤها العناية من الإنجليز، نشأت خصومة بين روسو وصديقه هيوم ، وهذه الخصومة مصدرها أن روسو اتهم صديقه بأنه يخونه ويعين عليه أعداءه ويؤلب عليه خصومه في باريس، وكانت هذه التهمة في نفس الوقت الذي كان فيه صديقه الفيلسوف الإنجليزي يسعى للحصول على مرتب منظم لروسو.
مهما يكن من شيء، فقد فسدت الصلة بين الصديقين وأعلن هذا وألفت فيه الكتب ونشرت الفصول، وانتشرت هذه الكتب في باريس وفي لندرة، وأصبحت من المسائل التي شغلت الرأي العام بين سنة 1766 وسنة 1767. وانتهى الأمر إلى أن استيقن جان جاك أن حياته في إنجلترا أصبحت في خطر، وهم بالرجوع إلى فرنسا، ولكنه خائف على حياته فكتب إلى رئيس الوزارة أن يعين له حرسا يحميه حتى يصل إلى دوفر، فيجيبه رئيس الوزراء أن أي سائق عربة في إنجلترا يمكن أن يعتبر كأحسن حرس يحميه، ولا يكتفي روسو بهذا، بل يكتب إلى أمين الملك بأن يعين بعض الفرسان لحمايته، فيجيبه هذا بمثل ما أجاب به رئيس الوزراء، وينتهي الأمر بروسو إلى أن يفلت من إنجلترا إفلات الهارب الذي لا يشك أن الأوروبيين - الفرنسيين والإنجليز - قد ائتمروا به وقرروا أن يقتلوه، كان الخوف قد أخذ من نفسه كل مأخذ، فما كاد يصل إلى دوفر حتى كتب إلى أمين الملك أن يعين له نوع الموت الذي يريد أن يقضي عليه به، وتزيد الظروف في نفس روسو، فهو إذا ما وصل إلى دوفر يلاحظ أن الريح ليست مواتية فلا يشك في أن الطبيعة قد ائتمرت مع الفرنسيين والإنجليز، ثم ينتهي أمره بالرجوع إلى فرنسا.
ويقضي حياته مشردا مرة هنا ومرة هناك يستقر بعض الشيء، ولكنه لا يزال مضطربا مترددا حتى ينتهي أمره إلى الوفاة سنة 1878 بعد فولتير بمدة قصيرة.
ليس من شك في أن حياة جان جاك روسو كانت حياة رجل مضطرب الأعصاب مجنون إلى أبعد حد، ولكن ما رأيكم في أن هذا الرجل المضطرب المجنون هو أعظم الناس أثرا في الحياة الفرنسية أولا، وفي الحياة الأوروبية ثانيا، وفي الحياة الإنسانية بوجه عام من جميع وجوهها المختلفة؟! هو أعظم الناس أثرا في الحياة السياسية كلها؛ فهو أبو الثورة الفرنسية بكتابه «العقد الاجتماعي» وهو الذي استطاع أن يعلن رأيا كان معروفا قبله، وكان شائعا من غير شك - ولكنه كان مقصورا على الفلاسفة ورجال السياسة، فاستطاع روسو أن يلقيه في نفس الطبقات الدنيا ولم تكن تستطيع أن تفهم هذه الأشياء ولا أن تفكر فيها - وهو: «أن الشعب مصدر السلطات.» واستطاع روسو أن يقنع الشعب الفرنسي والطبقات الدنيا في فرنسا أن السلطة ليست إلى الملوك ولا إلى الأرستقراطية، وإنما هي ملك للشعب من حيث هو وحدة لا من حيث هو أفراد متعددة، وبأن الملك حين يستعمل سلطته وأن الوزارة حين تستعمل سلطتها، وبأن المجالس النيابية وهيئات الحكم والمحاكم إنما تستعمل هذه السلطة نيابة عن الشعب لأنها مأجورة له، وليس لعملها أي قيمة بغير السلطة التي يخولها الشعب للملوك أو لرؤساء الجمهوريات أو المجالس أو النواب والقضاة.
هذه الفكرة استطاع جان جاك أن يغلغلها - إن صح هذا التعبير - في نفس الطبقات الدنيا في فرنسا؛ في نفس العمال، وفي نفس الصناع، وفي نفس الزراع، وفي نفس الشعب الفرنسي كله، وأكثر الإعلان لحقوق الإنسان الذي قامت عليه الثورة الفرنسية إنما هو نتيجة مباشرة بل مستمدة بالحرف من كتب روسو، فالثورة الفرنسية السياسية أثر مباشر لجان جاك.
لم يقف تأثير روسو السياسي عند إنشاء الثورة، فأنتم تعرفون أثر الثورة الفرنسية في نشر الديمقراطية في أوروبا، بل في بلاد الشرق بعد الحرب الكبرى، فحياتنا نحن الديمقراطية، ومذهبنا نحن في فهم الحكم وفيما نريد من المثل السياسي الأعلى، تتأثر بهذه الفكرة التي كان جان جاك أول من أشاعها وأذاعها في كتاب «العقد الاجتماعي».
ثم لجان جاك أثره في الناحية الأدبية، وهو ليس أقل خطرا من أثره في السياسة؛ فهو في كتابه أو قصته «هولويز الجديدة» منشئ مذهب الرومانتزم، وهو المؤثر الأول في الكتاب والشعراء الذين ملكوا العقل والحياة الأدبية في أوروبا، وهو المؤثر الأول في جوت وشاتوبريان وهوجو وغيرهم من الأدباء الذين ظهروا في أواخر القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم له تأثير غريب متناقض - إن صح هذا التعبير - روسو هو الذي هدم السلطان الديني؛ هدم سلطان الكنيسة في فرنسا وأنكر سلطان القسس، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن كفولتير عدوا للدين من حيث هو دين، وعدوا للكنيسة من حيث هي كنيسة، كان عدوا لطغيان رجال الدين وعدوا لطغيان الكنيسة، وهو ينتهز هذه الفكرة التي ظهرت أول أمرها فدمرت سلطة الكنيسة، والتي كانت نفسها معيدة لسلطان الدين والكنيسة بعد الثورة الفرنسية، فإذا كان روسو هو الذي أوجد «روبسبير» وأوجد خصوم رجال الكنيسة، فهو الذي أوجد «شاتوبريان»، وهو الذي أوجد المدافعين عن الدين في أوائل القرن التاسع عشر والذين مهدوا للصلح بين فرنسا الثائرة وبين الكنيسة.
ليس يعرف التاريخ الأدبي ولا السياسي ولا الديني رجلا كان أشد أثرا في حياة الشعب الفرنسي وفي حياة الشعوب الأوروبية من هذا الرجل الذي نشأ مضطربا، نشأة الشاب الذي لم يبرأ من السرقة ولا من الفجور ولا من جميع أنواع الفساد الذي انتهى إلى هذا الجنون الذي رأيتم بعض صوره.
لم يعرف التاريخ رجلا أحدث من الآثار كهذا الرجل، ألستم توافقونني على أن درس حياة هذا الرجل في شيء من التفصيل وبشيء من المهل والتأني، خليق أن يثير في أنفسنا شيئا غير قليل من الرحمة والإشفاق على هذا الرجل الذي أحسن إلى الإنسانية أشد إحسان، ولقي من الإنسانية أشد إساءة؛ لأنه كان في حياته نفسها مستحقا لما لقي من إساءة.
أما أنا فلا أحب جان جاك، لكني أرحمه وأشفق عليه إشفاقا عميقا، ولست أؤمن بآراء جان جاك كلها ولكني أعجب بها.
ومن حسن حظه أنه ربما كان الفيلسوف الوحيد من فلاسفة القرن الثامن عشر الذي ظفر بعناية كاتب من كتابنا المصريين، فكلكم فيما أظن قد قرأ الكتاب الذي وضعه الدكتور هيكل بك والذي أؤكد لكم أنه من أرقى وأحسن ما كتب عن هذا الفيلسوف العظيم.
رينان
سيداتي، سادتي
سأحدثكم اليوم عن رجل مخالف كل المخالفة للرجلين اللذين حدثتكم عنهما في المحاضرتين الماضيتين؛ فالفرق عظيم جدا بين «أرنست رينان» وبين «فولتير» و«روسو» وهذا الفرق طبيعي، فقد يكون الوقت الذي انقضى بين ظهور هذا الرجل في الحياة الأدبية الأوروبية وظهور صاحبيه قصيرا، ولكن الأحداث التي حدثت في ذلك الوقت عظيمة جدا، أحداث كان يكفي أو كان يجب لحدوثها عصور طوال، وحسبكم أن بين «فولتير» و«روسو» من ناحية، وبين «رينان» من ناحية أخرى الثورة الفرنسية كلها، وإمبراطورية نابليون كلها، وعصر الرجوع إلى الملكية إلى حد ما.
فإذا تمثلتم الأحداث الجسام التي حدثت في آخر القرن الثامن عشر وفي أول القرن التاسع عشر، والتي غيرت وجه الأرض في أوروبا على أقل تقدير، سواء من الناحية السياسية أم من الناحية العقلية أو الأدبية؛ إذا تمثلتم هذا لم تدهشوا حين ترون الفرق العظيم بين «رينان» وبين صاحبيه، ومع هذا فالفرق ليس نهائيا - إن صح هذا التعبير - فبين هذا الرجل وبين فلاسفة القرن الثامن عشر تشابه أرجو أن أستطيع تصويره لكم في آخر هذه المحاضرة. «رينان» ولد سنة 1823 في مدينة من مدن بريتانيا الفرنسية، من أسرة متواضعة، وكان أبوه ضابطا من ضباط البحرية التجارية من هذا الإقليم الذي ولد فيه «بريتانيا»، وكانت أمه من جنوب فرنسا، والفرق بين هذين الإقليمين عظيم؛ فأهل بريتانيا قوم أخص ما يوصفون به إيثارهم الصمت، ثم قوة الحياة الداخلية في نفوسهم؛ فهم يحيون حياة داخلية قوية جدا، ثم هم قليلو الميل إلى الكلام، وهم كذلك من أشد الفرنسيين ميلا إلى المثل الأعلى، بل هم يدفعون إليه دفعا شديدا، ثم هم من أشد الفرنسيين استمساكا بالرأي وتشددا فيه، وحرصا على المحافظة وحب القديم وبغضا للتجديد والانتقال من حال إلى حال، ثم هم محتفظون بشخصيتهم الإقليمية الفرنسية، وهم قليلو الاندماج في الوحدة الفرنسية العامة، ولعلكم تذكرون أنهم في الأعوام الأخيرة الماضية حاولوا أن يستردوا شيئا من استقلالهم الخاص، ودعا بعضهم إلى الوحدة الإقليمية.
على عكس هذا بالضبط أهل الإقليم الذي جاءت منه أم رينان؛ فأهل الجنوب من أشد الفرنسيين ميلا إلى الكلام واندفاعا فيه، وإظهارا لما يشعرون ولما يفكرون، وهم يتعلقون بالمثل الأعلى، ولكنهم ليسوا حراصا عليه، لا يسرفون في المحافظة ولا يسرفون في بغض القديم، وإذا صح هذا التعبير نستطيع أن نقول إن أهل بريتانيا مبطئون في الحركة بطئا شديدا بمقدار ما نجد أهل الجنوب يسرعون إسراعا شديدا، وأهل بريتانيا مبغضون للكلام على حين يندفع أهل الجنوب فيه اندفاعا، فالإقليمان أو فأهل الإقليمين متناقضون أشد التناقض، وسترون أن حياة رينان تمثل هذا التناقض إلى حد بعيد.
كان أبو رينان ضابطا من ضباط البحر، ولكنه في آخر حياته اشتغل ببعض الأعمال المالية، ولم يكن صاحب عناية بالمال، ولا بارعا في تدبير الشئون المالية، فلم يوفق، وتورط في أعمال انتهت به إلى الإفلاس، وانتهى إلى موت غريب جهلت أسبابه واختلف الناس فيه اختلافا شديدا؛ فمنهم من زعم أنه موت فجائي، ومنهم من زعم أنه انتحار، ومنهم من شك وتردد بين هذا وذاك.
ومهما يكن من شيء، فقد كان رينان صبيا حين مات أبوه، وقد كان فقيرا وليس له من يعينه على الحياة إلا أمه وأخته هنريت التي سيطول عنها الحديث في هذه المحاضرة، وأخ له يدعى آلان رينان.
قضى رينان حياته الأولى في مدينة تريجييه التي ولد فيها، بين أمه وأخته، وكانت أخته أسن منه ولدت سنة 1811، بينما ولد رينان سنة 1823، وهي التي ربته وعنيت به عناية متصلة، وكان وهو صبي طاغية قاسيا يكلف أخته من المشقة ومن الجهد شيئا كثيرا؛ كان يتحكم فيها تحكما لا حد له، وكانت هي تحبه وتعطف عليه عطفا لا حد له أيضا، وكانت مستسلمة لهذا الطغيان تجد فيه لذة وراحة، ويقال إنها أرادت ذات يوم وكانت فتاة متقدمة في السن - تتجاوز الخمس عشرة سنة - أرادت أن تخرج لتلقى بعض صاحباتها، فكره رينان أن تتركه وحيدا فألح عليها أن تبقى معه، وما زال يلح حتى رقت له وبقيت، ويقال إنها أنذرته ذات مرة أنه إذا لم يؤثر الهدوء أن تموت، فلما لم يهدأ ولم يعتدل ماتت، ومعنى هذا أنها لزمت سكونا طويلا وصمتا عميقا، وأخذ أخوها يكلمها فلا تجيب ويداعبها فلا ترد عليه، حتى استيقن أنها ماتت، فأسرع إليها فعضها عضة عنيفة دعتها إلى أن تصرخ، فلما صرخت وأخذت تظهر الألم، أخذ هو يؤنبها ويقول لها: «أتتعهدين بأنك لن تموتي بعد.» وكذلك نشأ رينان سعيدا بائسا في وقت واحد؛ سعيدا بهذا الحنان الذي كان يجده عند أمه وعند أخته هنريت، وكان بائسا بهذا الفقر الذي كانت الأسرة تعانيه وتحتمل أثقاله بشيء من الشرف والكرامة والصبر.
وأرسل الصبي إلى مدرسة من المدارس الدينية فتعلم فيها تعليما دينيا خالصا، ولم يكد يتجاوز الثانية عشرة من عمره حتى تبين له ولأسرته أنه سيتجه بتعليمه إلى أن يكون قسيسا، وكان الفقر قد ألح على أسرته، وكانت أم رينان عاجزة عن أن تعمل وأن تكسب الحياة لنفسها ولابنها الصغير وفتاتها، وهنا تظهر الحياة الجديدة لهنريت، وهنا تظهر لنا هذه الفتاة خليقة بالإعجاب، وبالإعجاب الذي لا حد له؛ فقد أحست الفتاة ما تجد أمها وما يجد أخوها من البؤس والضيق، وأحست أن أباها قد ترك ديونا يجب أن تؤدى، وأحست عجز هذه المرأة وهذا الطفل عن الكسب فنهضت هي بهذا العبء، وأخذت تعمل لتمكن أمها وأخاها من العيش، عملت في المدينة أولا في بعض مدارس البنات معلمة، ثم رأت أن هذا العمل لا يلائمها؛ لأنه لا يغل عليها المال الكثير، فسافرت إلى باريس وتركت أمها وأخاها في المدينة واشتغلت معلمة في المدارس، وكانت تكلف نفسها أثقالا لم تكن قد هيئت لاحتمالها؛ كانت جادة ما وسعها الجد في أن تعلم وأن تتعلم، وأن ترسل ما تستطيع إرساله من المال لأمها لتعيش وتربي أخاها الصغير، وما زالت كذلك حتى تقدم الفتى في السن وبلغ الثامنة عشرة، فأرسلت في طلبه إلى باريس، ودفعته إلى مدرسة من مدارس اللاهوت كان يشرف عليها أسقف من الأساقفة الفرنسيين هو مونسنيير دي بونلو، وكان قسا أرستقراطيا في العصر الذي ظهرت فيه الملكية الفرنسية بعد رجوعها إثر سقوط الإمبراطورية، وأخذت فيه الحياة الأرستقراطية الفرنسية تعود أو تحاول أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الثورة، فكان هذا العصر عصر نشاط للأرستقراطية، وعصر استئناف لحياة النظام القديم.
وكان الأسقف أو المدبر لهذه المدرسة رجلا من الأرستقراطية يعنى عناية شديدة بالنظم الأرستقراطية والتقاليد الأرستقراطية، ويعلم الدين كما كان الدين يعلم في القرن الثامن عشر، تعليما ربما قصد به إلى الشرف وإلى المظاهر، وإلى إرضاء هذه الطبقات الراقية أكثر مما قصد به إلى الدين من حيث هو دين، وأحس رينان هذا فضاق به وكرهه كرها شديدا، ولم ينته به الأمر إلى كره هذا النوع من التعليم فحسب، بل أخذ ينتهي به إلى شيء من الشك في الدين نفسه، ثم انتقل من هذه المدرسة إلى مدرسة دينية كبرى يتخرج فيها القسس وهي مدرسة «سان سيلبيس»، وفي هذه المدرسة دفع رينان إلى دراسة في شيء كثير جدا من العناية والإتقان؛ لأنها كانت مدرسة لا تعنى بالدراسة الدينية العادية، ولا بتخصيص تلاميذها في اللاهوت وحده، وإنما تعنى بدراسة دينية عالية متقنة، ويكفي أن تعلموا أنه في هذه المدرسة أخذ يدرس اللغة العبرية، كما أنه أخذ يدرس الفلسفة؛ الفلسفة العصرية الجديدة وبنوع خاص فلسفة الألمان المعاصرين.
ومن هاتين الدراستين؛ دراسة العبرية من ناحية ودراسة الفلسفة الألمانية من جهة أخرى، تكونت نفس الشاب تكوينا مناقضا إلى حد بعيد لنفس الطفل أو الشاب الذي أقبل إلى باريس منذ أعوام، أما دراسة العبرية فقد مكنته من أن يقرأ التوراة في لغتها الأولى، ومن أن يقرأ آثارا إسرائيلية قديمة كتبت في لغتها الأولى، على حين كان غيره من القسس ومن الذين يتهيئون لخدمة الدين يقرءون التوراة ويقرءون الآثار الإسرائيلية باللغة اللاتينية، أخذ يقرأ هذا باللغة العبرية الأصلية، ودراسة اللغة العبرية ودراسة النصوص الدينية بلغتها الأولى خليقة أن تثير كثيرا من الشكوك، ولو لم يكن فيها إلا أنها تدعو إلى المقارنة بين الأصل والترجمة وبين ما يفهم من الأصل وما يفهم من الترجمة، لكان ذلك كافيا لتنبيه عقل الشاب إلى ناحية من نواحي الدين ، هي الناحية التاريخية الصحيحة.
أما الفلسفة الألمانية فقد أثارت في نفس هذا الشاب شكوكا لا تتصل بالنصوص ولا بالتاريخ، ولكنها تتصل بطبيعة الدين وبطبيعة الإيمان وبطبيعة الحياة، وكان للفلاسفة الألمانيين تأثير في نفس هذا الشاب «ولا سيما فيشت وهيجل».
وبين تأثير الفلاسفة الألمان من ناحية، واللغات السامية من ناحية أخرى، اشتد الشك في نفس الفتى، وإذا هو يشعر في وقت من الأوقات بأن هناك تناقضا شديدا جدا بين ما ورثه عن آبائه وما تعلمه في مدرسته الأولى، وبين ما تعلمه في مدرسته الثانية من تعاليم الدين، وما أخذ عقله ينتهي إليه من النتائج والآراء، نظر فإذا الدين المسيحي يعتمد أو يرجع عند التحليل إلى أصول ثلاثة أو عناصر ثلاثة: العنصر الأول يتصل بالأخلاق، فالدين المسيحي فيه عناية بالأخلاق، وفيه عناية شديدة بصلاح النفوس المريضة وعلاج ما قد يعرض لها من الآثام والخطايا، والعنصر الثاني هو العنصر اللاهوتي - إن صح هذا التعبير - وهو الذي يتصل بالعقيدة والأسرار وطبيعة العقيدة المسيحية، والعنصر الأخير هو العنصر التاريخي الذي يتصل بنشأة المسيح وحياته وما عرض له من الخطوب وما انتهى إليه أمره، ثم ما نشأ عن ذلك من سيرة الرسل وانتشار الدين ...
فأما العنصر الأول، فلم يعرض له الشك في نفس رينان، فمن يقرأ الأناجيل والتعاليم المسيحية لا يشك في أن هذا الدين يعنى عناية واضحة جدا بتهذيب النفس وإصلاح الخلق، وشفاء الإنسان من الأمراض الفردية والاجتماعية؛ فهو من هذه الناحية لم يتردد في حب هذا العنصر من عناصر الدين وفي استبقائه والحرص عليه، ولكن العنصر الآخر الذي يتصل بطبيعة الإيمان والعقيدة المسيحية، والأسرار التي تقوم عليها المسيحية بالتوحيد أو باللاهوت المسيحي، هذا العنصر تعرض لخطر عظيم جاءه من الفلسفة الألمانية التي أخذت تشككه في هذه الأسرار، وأخذت تشككه فيما توارد من تفسير الصلة بين الإله والعالم!
فرينان عندما قرأ فلسفة الألمان آمن بما كانت تعتمد عليه فلسفة هيجل؛ وهو وحدة الوجود أو هو هذه العقيدة أو الفكرة التي توحي إلى صاحبها بأن الإله وحدة تظهر في كل شيء وفي كل صورة من الصور وفي كل كائن من الكائنات التي يتألف منها العالم المحسوس، فكرة أن الإله لا يمكن بحال من الأحوال أن يؤثر في العالم بإرادة فردية شخصية تمس الأفراد وتمس الأشخاص وتمس الجزئيات؛ وإنما الإله بحكم هذه الفلسفة وبحكم ما انتهى إليه العقل في هذه الفلسفة، قوة عظيمة لا تؤثر إلا من طريق القوانين ولا تؤثر في الأشياء الفردية ولا تعنى بالجزئيات. وإذن، فما توارثه المتدينون من أن الإرادة الإلهية تؤثر في هذه الجزئية أو تلك وتعين هذا الفرد وتعاكس هذا الفرد، وتأتي بهذه المعجزة وتحدث هذه الحادثة؛ كل هذا انهار في نفس رينان. وتردد الشاب أولا ثم شك ثم جحد العقيدة المسيحية، ولم يقف أمره عند هذا الحد ولكنه نظر إلى العنصر الثالث التاريخي؛ نظر إلى التاريخ وما يتصل بنشأة المسيح وما عرض له ولأصحابه من الخطوب، ودرس هذا من الوجهة التاريخية الخالصة، وعلى المناهج التاريخية الجديدة؛ فأدركه الشك وعجز عن أن يوفق بين ما ينتهي إليه البحث التاريخي الجديد وبين ما توارثه من العقائد.
وهذا الشك في طبيعة الدين وفي تاريخه لم يقنع رينان بأنه قد خرج من دينه، ولكنه اقتنع بشيء آخر هو أنه لن يكون قسيسا؛ فأعرض عن غايته الأولى وعدل عما كان قد اعتزم، وترك الفكرة التي كانت تدفعه لأن يكون رجلا من رجال الدين، وانصرف إلى أن يكون رجلا من الرجال العاديين، وفكر في أن يلتمس حياته من غير هذا الطريق، وفي أثناء هذا كانت الحياة المادية بالقياس إليه وبالقياس إلى أمه في الأقاليم شديدة شاقة، وكان ما تكسبه أخته هنريت ضئيلا لا يكفي لتمكينه هو من الدرس في باريس، ولتمكين أمه من الحياة ومن أداء الديون، فالتمست هذه الفتاة طريقا لتكسب مالا أكثر مما كانت تكسبه، ووفقت إلى أسرة بولونية كانت تلتمس مربية فرنسية، فالتحقت بها وسافرت من باريس إلى بولونيا، وأقامت غريبة في هذه الأسرة عشر سنين تربي تلاميذها وترسل ما تكسبه إلى أمها وأخيها، وأخوها يشتغل في باريس ليهيئ نفسه لحياة جديدة، ومن أشد الأشياء تأثيرا في النفس هذه الكتب المتبادلة بين الفتاة الغريبة في بولونيا وبين هذا الشاب الذي كان يدرس في باريس ويتم دراسته فيها، ويتهيأ للحياة الجديدة مستعينا على ذلك بما كانت ترسله إليه أخته من المال.
على أننا عندما نقرأ هذه الكتب نلاحظ ظاهرتين؛ فأما كتب الفتاة فيملؤها الحب الذي لا حد له، والحنان الذي يدفع إلى البكاء أحيانا، وأما كتب الفتى ففيها شيء من الأثرة وفيها شيء من الغلظة أيضا، وفيها شيء من حب النفس الذي لا يتردد في تضحية كل شيء في سبيل رغباته الخاصة، ويظهر أن هذه خاصة من خصائص النبوغ؛ فقد يقال إن أصحاب النبوغ أثرون بطبعهم يضحون بالناس وبكل شيء في سبيل النبوغ.
مهما يكن من شيء، فقد اضطر رينان إلى أن يغير حياته تغييرا تاما؛ فبعد أن كان يريد أن يدرس دراسة دينية اضطر إلى أن يدرس دراسة مدنية، وأخذ يهيئ نفسه للظفر بالشهادة الدراسية الثانوية، فاشتغل في ذلك ولم يحتج إلى عناء شديد فظفر بالبكالوريا في أقل من أربعة شهور؛ لأن دراسته في المدارس الدينية كانت قد هيأته تهيئة حسنة، ثم تفرغ لليسانس ولم يكد يقضي عاما حتى ظفر بالليسانس أيضا سنة 1848، ومنذ هذا العام كان الفتى قد أتم دراسته العليا وأخذ يتأهب للدخول في الحياة العملية، ولكن حياته العملية أيضا كانت حياة موجهة إلى الدرس، وفي هذا الوقت صادفته الثورة الفرنسية وقيام الجمهورية الثانية سنة 1848، ولكنه لم يحفل كثيرا بهذه الثورة، لا لأنه كان يحب النظام الملكي الذي كان قائما في ذلك الوقت، بل لأنه كان يعنى بالعلم أكثر من عنايته بالحركات السياسية التي كان يزهد فيها زهدا شديدا، وعلى كل حال فقد كان رينان مبغضا للنظام الملكي، وكتبه إلى أخته تصور لنا هذا البغض، وتصور لنا بنوع خاص كيف كان يرى الملك لويس فيليب وقصره؛ كيف كان يزدري هذا الملك الشيخ الذي أصابه الكسل والفتور وأخذ يعتمد على رجال الحاشية الذين لا يخلصون له ولا للدولة وإنما يخلصون لأنفسهم، وكيف ترك الأمور السياسية تجري كما تستطيع فأصبح عبئا على فرنسا يكلفها من المال ما يكلفها دون أن يفيدها بعض ما يعدل هذا المال الذي تنفقه عليه ، ولكن رينان على كل حال لم يهتم بالثورة، وانقطع إلى الدرس العلمي أثناء اضطراب باريس، في ذلك الوقت لقي رينان صديقا له هو «برتلو» الكيميائي المشهور، فتأثر به تأثرا شديدا أضيف إلى تأثره بالفلسفة الألمانية والدراسات الإسرائيلية، وتأثر بالعلوم التجريبية الحديثة، ومنذ ذلك الوقت استيقن رينان أنه لم يصبح مسيحيا وبأن هذا الدين قد أصبح غير ملائم لطبيعته، فألحد وإن لم يجهر بإلحاده.
وإلحاد رينان غريب هو إلحاد حقيقي؛ لأنه لم يكن مسيحيا، ولكنه إلحاد يحتاج إلى شيء من التفكير، فرينان ظل متدينا غير أنه لم يتدين كما كان الناس يتدينون وظل يعبد إلها ولكن إلهه كان غريبا؛ إلهه هو العلم، وكل ما كان يضمره رينان من الإكبار والإجلال والثقة للدين نقله إلى العلم الحديث، وكما أنه كان يظن في شبابه أن حياة الإنسان لا قيمة لها إذا لم يشرف عليها الدين ولم ينظمها الدين ولم يسيطر عليها من جميع نواحيها؛ فقد انتقل فجأة إلى اعتقاد غريب مدهش حقا هو الاعتقاد بالعلم، وجعل النتائج العلمية هي الإله الذي ينبغي أن يعبد وأن يعترف به. وإذن فقد صور لنفسه ديانة جديدة إنسانية، ديانة مدنية - إن صح هذا التعبير - قوامها حب العلم وعبادة العلم والثقة بالعلم والاعتماد على العلم، وكما أن أمور الدين منظمة بهذه السلطة الدينية سلطة الكنيسة فهو أيضا قد تصور كنيسة علمية، وهو أيضا قد تصور للدين الجديد قسسا وكهانا هم العلماء، فالمدارس كنائس، والعلماء الذين يدرسون في هذه المدارس قسس، والعلم هو الإله الذي يعبد ويخدم في المدارس، كما أن هناك إلها يعبد ويخدم في الكنائس، ويجب أن تنتقل أمور الإنسانية من الدين إلى العلم، ويجب أن تكون أمور الحكم إلى العلماء لا إلى رجال الدين كما كانت من قبل، ولا إلى رجال السياسة كما هي الآن، وإذن فلا بد من أن تتطور الإنسانية بحيث تصبح الحكومة فيها مؤلفة من العلماء، علماء يتقنون العلم بشئون الإنسان على اختلافها، يتقنون العلم بالطبيعة وما يعرض لها من الخطوب وما يدبر فيها من قوانين، ويلائمون بين حياة الإنسان وبين الطبيعة، ويمكنون الإنسان من أن يكون سعيدا في الأرض حقا، وإذن فكل حكومة لا تعتمد على العلم لا قيمة لها، وكل حكومة لا يكون العلم قوامها فهي مكونة على إلحاد في العلم كما أن هناك إلحادا في الدين.
ومن هذه الناحية، استطاع رينان أن ينصرف عن السياسة اليومية التي كانت تحدث في باريس وفي غير باريس، وأن لا يحفل كثيرا بالثورة ولا بالجمهورية الثانية ولا بالإمبراطورية التي أعلنت بعد الجمهورية الثانية؛ لأنه كان يرى أن هذا كله تخبط سيزول وينقضي ولا بد من أن يأتي اليوم الذي ينتصر فيه العلم ويئول الأمر إلى العلماء.
وفي نحو سنة 1850 كان رينان قد ظهر في الحياة العلمية الفرنسية، واشترك في مسابقة عرضها المجمع العلمي الفرنسي ومجمع الآداب خاصة عن اللغات السامية؛ فوضع كتابا ضخما في تاريخ اللغات السامية وفي النحو المقارن لهذه اللغات، وعرض الكتاب فظفر بالجائزة وأخذ اسمه يعرف، واشترك في مسابقة أخرى عرضها المجمع موضوعها دراسة اليونانية في القرون الوسطى فظفر بالجائزة في هذا الموضوع أيضا، وهو في أثناء هذا كان يستعد للدكتوراه، ويبحث عن موضوع لرسالته، وكان يختلف إلى أساتذة اللغات السامية في الكوليج دي فرانس وأساتذة اللغة العبرية فيها، فكان يحضر دروس دي ساسي وبرسيفال وكاترمير وغيرهم من أساتذة اللغات السامية، وانتهى به البحث إلى اختيار موضوع لرسالة الدكتوراه هو «ابن رشد وآثاره»، وكتب في هذا الموضوع رسالة تقدم بها إلى السوربون وظفر بالدكتوراه، وكتاب رينان عن ابن رشد أحسن دراسة وضعت للآن عن هذا الفيلسوف العربي العظيم.
من ذلك الوقت أرسل رينان إلى أخته يلح عليها في أن تعود إلى باريس وما زال يلح حتى عادت وعاشت معه، وأخذت أخته تمكنه من أن يحيا حياة علمية خالصة؛ فنظمت حياته المادية وأراحته من التفكير فيها، ثم شاركته في حياته وأخذت تساعده في حياته العلمية مساعدة الشريك فيما كان يعالج من العلم، وتهيئ له الأبحاث وتحقق له المسائل، وتكتب له بعض المخطوطات وتنسخ له بعض ما يكتب من البحث، وتقرأ آثاره وتلاحظ عليها، وتنقد ما يكتب وما ينشر، بل كانت تضطره إلى أن يذيع هذا وإلى أن يغفل ذاك؛ فكانت له كالزميل القوي يمد إلى زميله يد المعونة، ولكن أزمة عنيفة عرضت لهذين الأخوين الشريكين اللذين كانت تجمع بينهما رابطة من أقدس الروابط؛ رابطة الأخوة من جهة، ورابطة الأخوة في العلم من جهة أخرى؛ فقد أخذت هنريت تلح على أخيها في أن يتزوج، وأظهر رينان استعداده للزواج، وبحثت هنريت لأخيها عن زوج، ووجدت الزوج وتمت الخطبة، ثم تبين أنها كانت تكره زواجه، ولا تعينه عليه إلا امتحانا له، لترى أيقبل الاقتراح؟ فلما رأت أنه قبل وأنه قد تزوج أدركها يأس شديد وجزع لا حد له، ونشأت بينها وبينه خصومة مؤلمة حقا؛ فقد كانت هنريت تحبه حبا يتجاوز الحب الذي بين الشقيقين، وتأثرت بغيرة غريبة، وكانت حياتها كلها بكاء ولوما وخصاما، ومع ذلك فقد أظهر أخوها لها في بعض الوقت أنه مستعد للعدول عن الزواج، فلما فكرت في ذلك أثناء الليل وعرفت أنه إذا عدل عن الزواج فقد ضحى لها بحبه وبراحته وبلذته، وإذن فهي لا تحبه حقا، فطبيعة الحب الصحيح أن يضحي المحب وأن لا يقبل تضحية؛ ولذلك أصبحت فأسرعت إلى بيت الخطيبة وألحت عليها وعلى أبيها في أن لا يسمعا لما سيقوله رينان، ولم ينته اليوم حتى كانت قد عدلت عن سخطها على أخيها وأصبحت من أشد الناس تشجيعا له على الزواج، ولكن هذا الزواج لم يكد يتم حتى استحالت حياة رينان وأخته إلى جحيم؛ فقد عادت الغيرة، والغيرة الفظيعة المنكرة إلى قلب هذه الأخت العاشقة - إن صح هذا التعبير - وجعلت هنريت تقضي حياة كلها بكاء ولوعة وأسى ومقت وخصام، وجعل رينان وزوجه يتلطفان ويتظرفان وهي تقاوم وتلين وتسخط وتغضب حتى أذن الله فرزق رينان بطفل فتسلت الأخت بالطفل عن أبيه.
وفي سنة 1860 ندب رينان لبعثة علمية إلى بلاد الشام للبحث عن الآثار فاصطحب أخته معه، وجاء إلى بلاد الشام فزار فلسطين، ثم زار بلاد الشام ولبنان، وقام هناك ببعض الحفريات واستخرج بعض الآثار الفينيقية.
وفي هذه الرحلة مرضت أخته بالحمى وماتت ودفنت في الشام، وعاد رينان وحيدا، وبعد هذه العودة بقليل عرض عليه منصب أستاذ للغة العبرية في الكوليج دي فرانس، وكان يتمنى هذا المنصب منذ شبابه، وفي شهر فبراير سنة 1863 افتتح رينان درسه الأول في الكوليج دي فرانس، وكان قد اتخذ لنفسه موقفا هو إلى مخاصمة الإمبراطورية أقرب منه إلى تأييدها؛ فقد كان من الأحرار ومع ذلك فقد عين في هذا المنصب وبدأ يلقي دروسه في الكوليج، وازدحم الناس ازدحاما شديدا على قاعة الدرس، وكانوا مختلفين في رينان اختلافا شديدا؛ كان هناك الكاثوليكيون الذين يبغضون رينان ويخاصمونه، وكان هناك الأحرار والمجددون المخاصمون للإمبراطورية وكانوا يؤيدون رينان، وازدحمت الكوليج دي فرانس ازدحاما دعا الشرطة إلى التدخل، وأخذ رينان يلقي دروسه، وليته لم يلق هذا الدرس، فلم يكد يتقدم في الدرس حتى ذكر المسيح بأنه رجل لا نظير له؛ هذه الجملة أثارت تصفيق الأحرار، وأثارت غضب الكاثوليكيين، فرينان يذكر المسيح بأنه رجل، ولم يكد يعود إلى داره حتى كان الأحرار قد سبقوه متظاهرين هاتفين مصفقين، وكان المحافظون ساخطين، وإذا قرار يصدر من وزير المعارف بوقف الدرس، وإذا أزمة جامعية يحدثها هذا الدرس.
لم تكن هذه الأزمة يسيرة ولا هينة؛ فقد انقسم الفرنسيون فيها إلى قسمين: فأما الأحرار المعارضون أنصار حرية الشعب وأنصار المذاهب الجديدة، وأنصار فلسفة القرن الثامن عشر، فكلهم كانوا عونا له، وأما المحافظون ورجال القصر بنوع خاص والإمبراطورة وحاشية الإمبراطورة فقد كانوا خصوما لرينان، وكان وزير المعارف مع هؤلاء، والغريب أن رينان نظر فرأى معه خلاصة الشعب الفرنسي أنصار التجديد وعدة المستقبل، فاستيقن أن النصر له من غير شك فلم يحفل بقرار وزير المعارف، واعتقد أن الرأي العام الذي يتأثر بالرأي الحر سيثأر له، وسيكره الوزير والإمبراطور على أن يعيدا الإذن له في متابعة هذه الدروس، والغريب أنه لم يكتف بهذا بل أصدر كتابه بعد ذلك بقليل «حياة المسيح » فأضاف شرا إلى شر، وثورة إلى ثورة؛ فهذا الكتاب أغضب رجال الدين والمحافظين والفلاسفة الذين لم يكونوا من أنصار الحرية ولا من أنصار التأثر بالمذهب الجديد، ثم لم يكتف بهذا، بل أخذ يتحدى الوزير وأخذ يكتب إليه طالبا أن يستأنف الدرس، ثم عرض الوزير عليه منصبا فأبى، وظل الوزير محتفظا بموقفه من سنة 1862، 1863 إلى أوائل سنة 1864 ورينان مؤمن بالرأي العام، معتمد عليه، واثق بأنه منتصر من غير شك، ولكنه نظر فإذا قرار يصدر بنقل رينان من الكوليج دي فرانس إلى قسم المخطوطات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد الذي لم يؤخذ فيه رأي رينان، ولكن قرار الوزير اشتمل على شيء من الإهانة لرينان؛ فقد كان رينان يتقاضى مرتبه أثناء هذه المدة، فوجد الوزير طريقة إلى أن ينقله ليستطيع أن يعمل ويستحق المرتب الذي كان يأخذه على غير عمل، وكان القرار بطريقة لا تلائم كرامة الأستاذ، وهنا ثار رينان ورد على الوزير ردا عنيفا وقذفه بهذه الجملة وهي: «اذهب إلى الشيطان مع أموالك.» ومنذ ذلك الوقت أصبح رينان خصما صريحا للإمبراطورية والوزارة، وظل رينان بعيدا عن الكوليج دي فرانس، حريصا مع ذلك على أن يعود إليها، يطالب بأن يؤذن له في أن يلقي دروسه بعيدا عن الكوليج دي فرانس في بيته، ولكنه لا يظفر بما يريد، في هذا الوقت مضى في دراسته العلمية وأخذ يصدر كتبه المشهورة في تاريخ المسيحية.
ثم في سنة 1868 تقدم للانتخابات ولكنه تقدم معتدلا؛ لا مناصرا للجمهورية كما كان المتطرفون، ولا مناصرا للإمبراطورية كما كان المحافظون ولكنه حر معتدل، ففشل في الانتخابات وانتصر عليه الجمهوري المتطرف.
ثم كانت الحرب، وكانت الهزيمة، وكانت الثورة وسقوط الإمبراطورية، وقيام الجمهورية المتطرفة، ولعلكم فهمتم أن رينان لم يكن من أنصار الديمقراطية بل كان خصما لها ، وكان مؤمنا بالعلم، وما دام مؤمنا بالعلم وبأن الحكم يجب أن يكون إلى العلماء فهو ليس من الديمقراطية في شيء؛ لأن الديمقراطية تجعل الحكم إلى الشعب كله، وهو لذلك من أشد خصوم الجمهورية، كان ملكيا في شكل الحكم، كان أرستقراطيا علميا، ومع ذلك فالجمهورية لم تكد تعلن في فرنسا حتى ردت إليه منصبه، وأذنت له في استئناف دروسه، ثم لم تمض أعوام حتى أصبح في ظل الجمهورية التي يكرهها والديمقراطية التي يقاومها لم يصبح أستاذا، ولكنه أصبح مديرا للكوليج دي فرانس، تحميه الديمقراطية التي يكرهها وترفعه إلى أرقى منصب من مناصب التعظيم والتشريف والإجلال والإكبار.
قضى رينان ما بقي من حياته أستاذا في الكوليج دي فرانس، يلقي دروسه في اللغات السامية، ويتحدث ويحاضر في أنواع الفلسفة والعلم، ويؤلف الكتب المختلفة في مادته التي تخصص فيها وفي مواد أخرى كالسياسة والأدب، وأصبح بين سنة 1875، 1893 أكبر رجل أو أكبر ممثل للحياة العقلية الراقية في باريس وفي البلاد الفرنسية جميعا، وكان تأثيره عظيما في حياة الفرنسيين، ولكن الغريب من أمره أنه انتهى إلى هذه الصورة التي أريد أن أختم بها هذه المحاضرة، انتهى إلى هذه الصورة العقلية الشاذة؛ فقد أصبح رجلا يقبل جميع المذاهب الفلسفية على اختلافها، لا ينكر شيئا إنكارا صريحا، ولا يؤمن بشيء إيمانا صريحا، أصبح صورة من صور الشك، كان يلقي درسه ويؤيد مذهبه بالحجج والبراهين، ثم يقول في آخر هذه الحجج والبراهين: «ومع ذلك فلست مقتنعا بما أقول.» كان يتحدث في مجالسه بالمتناقضات؛ يقول: «من الخير أن يكون الإنسان رجلا فاضلا، فالفضيلة سخف في حقيقة الأمر، ولكنها لذة يجد فيها بعض الناس راحة، ومن يدري فقد يتبين أن الأمم والجماعات أصحاب رذيلة، من الخير أن يكون الإنسان متدينا، ومن يدري لعل الديانات أن تكون صحيحة، ومن الخير أن يكون الإنسان ملحدا، ومن يدري لعل الإلحاد أن يكون صحيحا.» وكذلك لم تكن تعرض لرينان في عصره الأخير فكرة إلا قبلها ورفضها في وقت واحد؛ حتى أحدث في العقل الفرنسي في ذلك الوقت اضطرابا شديدا، وحتى دفع الشباب إلى شيء من الشك الخطر الذي لم يقف عند المسائل الدينية، بل تجاوزها إلى مسائل سياسية وطنية.
لم يكد ينتهي القرن التاسع عشر حتى شعرت فرنسا والشباب الفرنسي الجديد بأنه لا بد من مقاومة، ولا بد من رد فعل لهذه الفلسفة والشك الخطر، وظهرت المدارس الفرنسية الحديثة مقاومة لهذا الاضطراب الذي انتهى إليه رينان، والذي انتهى إليه العقل الفرنسي.
وأخص ما يمتاز به رينان في حياته كلها وفي هذا العصر الأخير بنوع خاص أنه كان من أشد الناس انتصارا لحرية الرأي، ولم يكن له بد من هذا؛ لأنه كان ضحيته، ولكنه اندفع في الانتصار لحرية الرأي حتى لم يفرق بين حرية الرأي وبين الشك، وحتى جعل الحياة العقلية لونا من ألوان العبث، إن صح هذا التعبير، نستطيع أن نستبقي من رينان هذا الجهد الصادق في سبيل العلم والبحث الحر ومقاومة الضغط وهذه الثورة على المسرفين في المحافظة، وهذا البحث التاريخي الصحيح الذي مكنه من أن يكتب تاريخ اليهود والمسيحيين، وهذه الكتب العلمية الفلسفية الرائعة التي نجد فيها لذة؛ ولكنا لا نستطيع أن نستبقي هذا الإسراف في الشك وهذا اللهو بالنظريات، وهذا العبث بالحقائق، وهذا الاندفاع إلى القبول والرفض والاستعداد لقبول كل نظرية وتلقي كل رأي وفي الاطمئنان والاضطراب، وفي هذا خطر لا بد للذين يقرءون رينان من أن يتقوه.
والآن أظنكم قد تصورتم في شيء من الإيضاح حياة هذا الرجل، فلم يبق من هذه المحاضرات إلا المحاضرة المقبلة التي أحدثكم فيها عن زميله وصديقه وشريكه في الرأي والفلسفة أثناء القرن التاسع عشر وهو «تين».
الفيلسوف تين
سيداتي، سادتي
أما الفيلسوف الذي أريد أن أحدثكم عنه الليلة، فالحديث عنه يحتاج إلى عناية خاصة؛ لأن حياته العادية يسيرة جدا، ليس فيها ما تعودتم أن تسمعوه من الاضطراب ومن اختلاف الظروف، ومن هذه الطوارئ الكثيرة التي تمس حياة عظماء الرجال.
ومن العسير جدا أن أتحدث إليكم ساعة كاملة عن الحياة العادية لهذا الفيلسوف «تين» كما تحدثت إليكم عن «فولتير» أو «جان جاك» أو «رينان»، فأنا إذن سأحدثكم حديثا علميا ولكن أخشى أن يكون جافا بعض الشيء؛ لأني سأتحدث إليكم عن مذهبه أو مذاهبه في العلم والفلسفة والتاريخ والأدب، إذن فالحديث غير رائق ولا مريح وقد يدعو إلى تفكير وإلى تأمل، وأظن أن التفكير العميق، والتأمل بعد الإفطار وفي رمضان ليسا من الأشياء التي يستريح إليها الناس كثيرا، فقد أرادت الظروف أن يكون الحديث عن «تين» في هذا الوقت.
ولد تين في أواسط القرن التاسع عشر بالضبط سنة 1828م، بعد رينان بنحو خمسة أعوام، ونشأ في شمال فرنسا، في أسرة من الطبقة الوسطى أيضا كغيره من الفلاسفة الذين تحدثت إليكم عنهم، كان أبوه موثقا كما كان أبو فولتير موثقا أيضا، وكان من أسرة بروتستانتية، وقد بدأ حياته كغيره من شبان الطبقة الوسطى في مدرسة من المدارس العادية في موطنه، ثم انتقل إلى باريس فأتم دراسته الثانوية هناك، ولم يكد يبلغ العشرين من عمره حتى كان قد أتم هذه الدراسة، ثم تقدم في التحصيل واستطاع أن يدخل مدرسة المعلمين العليا، ومدرسة المعلمين في ذلك الوقت أرقى مدرسة في فرنسا للدراسة العلمية والأدبية والفلسفية أيضا، وهي المدرسة التي أخرجت لفرنسا في القرن الماضي - وما تزال تخرج لها حتى الآن - أدباءها وفلاسفتها وشعراءها وكتابها ووزراءها أيضا، في هذه المدرسة اتصل تين بجماعة من كبار الأساتذة الفرنسيين، وجماعة من الطلاب الذين كان لهم أعظم الأثر في حياة فرنسا في النصف الثاني من القرن الماضي.
أتم تين دراسته في نحو سنة 1851 وتقدم للامتحان الذي يتقدم إليه عادة طلاب هذه المدرسة، امتحان الأجريجاسيون وهو امتحان الأستاذية للثانوي، ولكنه لم ينجح، ثم ترك المدرسة واشتغل بالتعليم في بعض الكليات في الأقاليم، وبعد ذلك بنحو سنة أو أكثر بقليل كان في فرنسا الانقلاب الذي أحدثه نابليون الثالث، وكان أول أثر لهذا الانقلاب في الحياة العقلية الفرنسية أن ساء الظن بين الجامعة والحكومة، وأساءت الحكومة رأيها في الجامعة إلى أقصى حد، وفرضت سلطانها عليها، وتتبعت أساتذتها بالمراقبة فيما يقولون وفيما يفعلون، واجتهدت في أن تبعد عن التدريس من يظهر في دروسه أو في سيرته أنه محب للحرية أو مؤيد لها أو داع إليها أو عاطف على النظام القديم نظام الجمهورية، أو مناصر للثورة الفرنسية، وكان تين من هؤلاء فأبعد عن نفير ونقل إلى مكان آخر، فأخذ يعلم فأحس نفس الضغط الذي أحسه في كليته الأولى، واضطر إلى أن يطلب إلى وزارة المعارف أن تمنحه إجازة طويلة، فأسرعت إلى ما كان يريد فتخلصت منه، وتخلص هو منها أيضا، ومنذ ذلك الوقت انقطع تين لشيئين: الدراسة العلمية الخالصة من ناحية، والأسفار والتجول من ناحية أخرى، وانقطع للبحث والتأليف، وفي سنة 1852 تقدم إلى السوربون برسالة للدكتوراه في الحس فرفضت هذه الرسالة؛ لأنها كانت متأثرة بالآراء الجديدة إلى حد ما.
ثم تقدم برسالة أخرى للدكتوراه فقبلت وظفر بهذه الدرجة الجامعية العليا، وكانت هذه الرسالة قد كتبت عن الشاعر الفرنسي العظيم «لافونتين»، أخذ تين يجوب في أنحاء أوروبا؛ في فرنسا، وإنجلترا، وإيطاليا، وألمانيا، وهولندا، وهو في أثناء هذا كله مشتغل بالبحث والتأليف، يظهر كتابا إثر كتاب، حتى عين بعد أكثر من عشر سنين مدرسا في مدرسة الفنون الجميلة، وأخذ يلقي فيها محاضرات في الفن وفلسفته وتاريخه كما أخذ يكتب في الصحف، ثم كانت الحرب بين فرنسا وألمانيا، وكانت الهزيمة الفرنسية، ثم الثورة أو الحرب المدنية في فرنسا، وكان لهذه الحركات تأثير عميق جدا واضطرته إلى أن يدرس الحياة الفرنسية درسا دقيقا عميقا، فأخذ يطبع كتابه عن أصول فرنسا الحديثة، وكان غرضه أن يدرس الحياة الفرنسية في هذا العصر؛ كيف نشأت؟ وما هي المؤثرات التي دعت هذه الحياة أن تتطور من الثورة الفرنسية أولا، ثم قيام الإمبراطورية، ثم ما حدث بعد ذلك من تطورات إلى أن كانت الحرب والهزيمة؟
ثم مضى تين في حياته هذه لا يكاد ينصرف بحال من الأحوال عن الدرس والبحث وتأليف الكتب والكتابة في الصحف إلى أن مات في أواخر القرن الماضي بعد وفاة رينان بعام واحد سنة 1893.
هذه خلاصة حياة هذا الرجل، وأنتم ترون أنها بسيطة، ليس فيها شيء غريب وليس فيها هذا الاضطراب، ولا هذه التطورات العنيفة التي رأيتموها في فولتير وجان جاك ورينان، ومع ذلك فليس يعرف القرن التاسع عشر رجلا أثر في حياة الشعب الفرنسي، وفي حياته العقلية خاصة كما أثر الفيلسوف تين، كان صديقا لرينان، وكان منازعا لرينان - إن صح هذا التعبير - ينازعه العقل الفرنسي، وعقل الشباب الفرنسي بنوع خاص، تين ورينان هما الأستاذان اللذان خضع الشباب الفرنسي لهما خضوعا تاما نحو ثلاثين عاما من سنة 1860 إلى 1890، أو 1892 أو 1893، على أن بين هذين الصديقين اختلافا عظيما جدا؛ فقد رأيتم عن رينان أنه كان متجها أول أمره إلى حياة رجال الدين يهيئ نفسه لأن يكون قسيسا، وأنه انصرف إلى العلم عن الكنيسة وعن حياة القسس، ثم مضى في حب العلم والفلسفة الدينية، ثم عني بالتاريخ الديني - بتاريخ المسيحية خاصة - إلى أن أنفق حياته، أما تين فلم يفكر مطلقا أن يكون رجلا من رجال الدين، إنما كان تفكيره متجها إلى الحياة العلمية الخالصة، على أنه قد صادف مثل ما صادفه رينان في حياته العلمية الأولى؛ صادف الفلسفة الألمانية في حياته فتأثر بها أشد التأثر، صادف فلسفة هيجل كما صادفها رينان وتأثر بها كما تأثر بها رينان، ولكن يظهر أن تين عني بالعلم التجريبي عناية تفصيلية دقيقة، عناية مباشرة لا كعناية رينان، فقد عرف رينان قيمة العلم التجريبي بواسطة صديقه برتلو، أما تين فإنه عرف قيمة العلم التجريبي وخطره من تجاربه الخاصة، وكان رينان مؤمنا بالعلم يكبره كما كان يكبر الدين حين كان يدرس الدين، ويعتمد عليه في تنظيم حياته الاجتماعية دون أن يعرف تفصيل هذا العلم أو يشارك فيه، وأن يكون له حظ خاص دقيق.
كان تين يشتغل بالعلم بطريقة مباشرة، طريقة تفصيلية دقيقة جدا، كان إذا تحدث عن العلم تحدث عنه وهو عالم به مشارك فيه، وكان يؤمن بالعلم إيمان اجتهاد خالص، على حين كان غيره يؤمن بالعلم إيمانا لا يخلو من التقليد، ومن هنا ظهر الفرق العظيم بين الرجلين في تصور العلم؛ فتين لم يتخذ من العلم دينا، ولم يفهم العلم على أنه مسيطر على الحياة الإنسانية، ولا أنه مصلح لهذه الحياة، ولا صالح لأن يكون دينا للإنسانية كلها، ولا على أن العلماء يستطيعون أن يكونوا كنيسة كما يكون رجال الدين كنيسة؛ نظر إلى العلم على أنه أداة إلى الفهم ليس غير، نظر إلى العلم على أنه وسيلة إلى المعرفة لا أكثر ولا أقل في الوقت الذي كان رينان ينظر إليه على أنه غاية.
بين مزاج هذين الرجلين؛ مزاج رينان الذي لم يستطع إلا أن يكون قسيسا، فقد كان قسيسا دينيا في أول الأمر، ثم أصبح قسيسا علميا بعد ذلك، ثم انتهى إلى أن أصبح قسيسا من قسس الشك في آخر حياته، ومزاج تين الذي لم يكن إلا عالما وعالما بالمعنى الدقيق دائما؛ بين هذين المزاجين اختلاف عظيم هو مظهر الفرق بين الآثار التي تركها رينان والآثار التي تركها تين؛ فالآثار التي تركها رينان - كما رأيتم - أكثرها يمس الدين، فإذا بعد رينان عن تاريخ الدين المسيحي أو الإسرائيلي فإنه يبعد عن هذه الأشياء ليعود إليها مرة أخرى، وكان إذا درس اللغات السامية درسها من حيث هي وسيلة إلى درس تاريخ المسيحيين أو الإسرائيليين، وإذا درس العلم أو نظر فيه، فإنه ينظر إليه على النحو الذي قدمته إليكم، على أنه علم يوشك أن يكون دينا في المستقبل، أما تين فإنه لا يدرس العلم إلا من حيث إنه أداة المعرفة والفهم، وهو إذا كتب فهو يكتب في أشياء لا تتجاوز العلم، وإنما هي العلم نفسه حتى عندما كان يدرس الأدب أو التاريخ.
وأول كتاب أذاعه تين عن لافونتين، وهو الرسالة التي نال بها درجة الدكتوراه، كان في ظاهره كتابا أدبيا، ولكنه في حقيقته بحث فلسفي من أعمق الأبحاث الفلسفية؛ فهو في هذا الكتاب لا يدرس الأدب كما تعود الناس أن يدرسوه، على نحو فيه بحث عن مظاهر الجمال والحسن، وغيرها من هذه المظاهر التي تخلب النفوس وتثير العواطف، إنما يدرس أدب لافونتين على أنه ظاهرة من ظواهر الحياة في عصر لافونتين، كما تدرس الظواهر الكيميائية بالضبط، وهو في مقدمة هذا الكتاب يرى أن الإنسان حيوان ينتج الأدب والفلسفة، كما أن دودة القز تنتج القز، وكما أن الأرض تنتج ما تنتج من نبات، وإذن فيجب أن يدرس هذا الحيوان الذي ينتج الأدب، كما تدرس دودة القز التي تنتج القز، والأرض التي تنتج النبات، وهو من هذه الناحية، يوشك أن يكون ماديا، وهو مسرف في التأثر بالفلسفة وبالعلم إسرافا يوشك أن يكون ماديا، وهو مسرف في التأثر بالفلسفة وبالعلم إسرافا يوشك أن يخرج الأدب عن طوره الذي ألفه الناس؛ فهو عندما يدرس شعر شاعر من الشعراء أو نثر كاتب من الكتاب ليس يعنيه ما سيجده في هذا الشعر من جمال، أو ما سيثيره هذا النثر من العاطفة، إنما الذي يعنيه نفس الشاعر الذي أنتج الشعر والكاتب الذي أنتج النثر، وهو عندما يعنى بنفس الشاعر أو الكاتب، فهو يعنى بالشاعر أو الكاتب من حيث هما فردان من أمة أو جماعة، وهو لا يدرس لافونتين ليذوق شعر لافونتين، إنما يدرس لافونتين وشعره ليفهم البيئة التي عاش فيها، والأمة الفرنسية في العصر الذي نشأ فيه لافونتين.
لأجل أن نفهم المذهب الأدبي لتين لا بد من أن نلم إلمامة قصيرة جدا برأيه في الفلسفة عامة والفلسفة الإنسانية خاصة، لافونتين عند تين ظاهرة يجب أن تدرس كما تدرس غيرها من الظواهر العلمية؛ فلا بد إذن لهذا الدرس من قاعدة ومنهج وهي القاعدة الطبيعية لهذا الفيلسوف، كان تين متأثرا بالفلسفة الألمانية، والفلسفة الفرنسية الوضعية، فلسفة أوجست كونت، وهو منكر قبل كل شيء لحرية الفرد، ولا أريد الحرية السياسية، ولا الحرية الشخصية، إنما أريد الحرية الفلسفية، وهو ينكر الاختيار، ويعتقد أن العالم متأثر بطائفة من القوانين تدبره وتسيره دون أن تعرض هذه القوانين للخطأ أو الاضطراب، فهو إذن من أنصار الجبر، من الذين يعتقدون أن الإرادة الفردية لا تؤثر في حياة العالم بشكل من الأشكال، وقد سمعتم ما قلته لكم من أن تين يرى أن الإنسان ينتج الأدب والفلسفة كما أن دودة القز تنتج القز، وكما أن الأرض تنتج النبات.
فهو يعتقد أن الطريقة لفهم الأشياء والحياة إنما هي الانتقال من المركب إلى البسيط ومن العام إلى الخاص، وإذن فهو في طريقته فيلسوف قبل كل شيء، يريد أن يفهم شيئا من الأشياء فهو لا يعتمد في فهم هذا الشيء إلا على الحس يرى أو يسمع أو يلمس، والنظر والسمع واللمس ينقل إلى عقله صورا، وعقله يعمل في هذه الصور فيجردها ويستخرج هذه الأشياء المحسوسة؛ وهو إذن من أنصار مذهب الحس، والمتأثرين بالفلسفة الإنجليزية الحديثة ومذهب لوك خاصة، وهو معرض عما بعد الطبيعة لا يرى للإنسان وسيلة إلى العلم إلا بالحس، هو لا يؤمن بما بعد الطبيعة، ولكنه لا يجحده وإنما يقول لا أراه فلا أعرفه؛ من الممكن أن يكون ما بعد الطبيعة موجودا ولكن لا سبيل إلى الحس به، وهذا رأيه في الإله؛ فهو يقول: من الممكن أن يكون الإله موجودا وأن يكون لهذا الكون خالق، ولكني لا أراه فلا سبيل إلى أن أعرفه، فأنا لا أعرف الله معرفة علمية، ولكني لا أجحده جحودا علميا؛ فالإله شيء قد يكون موجودا وقد لا يكون موجودا.
فإذا انتقل إلى دراسة الإنسان فرأيه في الإنسان رديء؛ هو يعتقد أننا إذا درسنا نفس الإنسان وجدناها تنحل إلى شيئين اثنين: الإنسان قبل كل شيء حيوان متوحش، وهو بطبيعته كغيره من الحيوانات الضارية المفترسة تهذبه الحضارة شيئا فشيئا، وما زالت به تهذبه وترققه حتى أخفت غرائزه هذه المنكرة، فالإنسان بحياته أو بصورته الطبيعية شرير والحضارة أخفت غريزة الشر فيه وجعلته مثقفا إلى حد ما، فإذا عرض لهذه الحضارة ما يزيلها أو يقف تأثيرها، ظهر الإنسان على شكله الأول مفترسا ضاريا، وعاد إلى حياة الطبيعة حياة الإثم والإجرام، والإنسان بعد هذا مجنون وعقله ليس إلا تكلفا الأصل فيه أنه لا يستطيع أن يفكر ولا أن يستنبط شيئا، ولا أن يستخرج حقيقة علمية من الأشياء المحسوسة، إنما هذا شيء اكتسبه من الحضارة، وهو مع هذا لم يكتسب منه إلا شيئا قليلا، فالإنسان إذا فكر فإنما يفكر في أقل أوقاته، أما في أكثر أوقاته فإنه يرسل نفسه إرسالا، يتخيل أكثر مما يعقل، وهو إذا تخيل يمضي نحو الجنون أكثر مما يمضي نحو العقل، وهو إذن يحتقر الإنسان، وما دام هو مؤمنا بالجبر منكرا للإرادة مؤمنا بأن الإنسان شرير بطبعه، وأن عقل الإنسان شيء مكتسب؛ فهو غير متفائل بالحياة، وهو ساخط منكر للناس منكر لحياتهم على اختلافها، وهو في حياته اليومية العملية متأثر بمذهبه الفلسفي؛ فهو مبغض للجماعات مؤثر للعزلة ما وجد إليها سبيلا، لا يتصل بالأندية ولا يختلف إليها إلا كارها، فإذا لم يكن له بد من أن يلقى الناس فهو يلقى جماعات قليلة يختارهم ويصطفيهم من الذين يستطيع أن يتحدث إليهم في العلم والأدب والفلسفة.
بعد أن تتصوروا فلسفة «تين» على هذا النحو الذي لخصته لكم تلخيصا ضئيلا جدا يكاد يفسد هذه الفلسفة، تستطيعون أن تلاحظوا أن إنتاجه الأدبي قد يكون عميقا حقا، مؤثرا في العقل وفي الناحية المفكرة، ولكنه لن يكون من هذا الأدب الرائع الذي يسحر ويفتن القلب ويستأثر بالعقل والشعور، فتين لا يريد أن يتحدث لا إلى القلب ولا إلى الشعور ولا إلى العاطفة وإنما يريد أن يتحدث إلى العقل.
والغريب أنه مع هذا التضييق الذي فرضه على نفسه قد استطاع أن ينتج آثارا أدبية خالدة، ولا شك أن آثاره ستكون أخلد من آثار صديقه وزميله رينان.
أهم نظرية أدبية لتين اعتمد عليها في جميع دراساته الأدبية هي النظرية المشهورة، نظرية تأثر الأديب بما يحيط به من هذه العناصر الثلاثة التي يرى تين أن دراستها هي الدراسة الطبيعية لكل أديب، وهي جنسية الأديب وإقليمه أو بيئته والعصر الذي يعيش فيه، فليس من سبيل أن نفهم شاعرا أو فيلسوفا أو إنسانا منتجا إلا إذا عرفت هذه العناصر الثلاثة. يجب أن تعرف الجنس أو الأمة أو الجيل الذي نشأ فيه هذا الشاعر أو ذلك الفيلسوف على أنه شخص في هذا الجنس أو الأمة أو الجيل، ثم ما لهذا الجنس من التأثير في هذا الشاعر أو الفيلسوف، ثم يجب أن تعرف الإقليم والظروف الطبيعية والاجتماعية التي تحيط به، ثم يجب أن تعرف العصر الذي يعيش فيه، وما يؤثر فيه من المؤثرات المباشرة المعاصرة أو القديمة التي جاءته من التاريخ، ومن كل هذه المؤثرات التي يتأثر بها أي عصر، وتتأثر بها الإنسانية بوجه عام، وإذن فالذين كانوا يدرسون الأديب من حيث هو فرد لم يكونوا يوفقون في دراستهم، والذين يدرسون الأديب من حيث هو منتج لم يكونوا يوفقون في دراستهم، إنما كانوا يقتطعون الأديب اقتطاعا من أمته أو من عصره، وما دام تين مؤمنا بأن الحياة الإنسانية كغيرها خاضعة لقوانين العلم، فليس من سبيل إلى دراسة الفرد من حيث هو فرد، ولا سبيل إلى أن يدرس على أنه فرد، والفرد جزء من أمة، والأمة جزء من جنس، والأمة متأثرة بالإقليم، متأثرة بالزمان، متأثرة بكل ما يتصل بها من مظاهر الكون والحياة، وعلى هذا النحو كانت دراسة تين الأدبية للشعراء ليست دراسة للأفراد بل هي دراسة أمم، ودراسة جيل من الأجيال، وهو من هذه الناحية كان خصبا حقا، ويكفي أن تأخذوا أي كتاب من كتب تين وتقرءوه فستجدونه ممتعا غنيا بالخواطر والآراء والنظرات البعيدة، خذوا كتابه عن لافونتين فستجدون فيه دراسة ممتعة متقنة كل الإتقان للحياة الفرنسية في عصر هذا الشاعر، خذوا درسه لأي أديب من الأدباء الآخرين فستجدون درسه درسا لعصر الأديب ولبيئته، وستجدونه قد طبق هذه النظرية أحسن تطبيق ممكن، عندما أراد أن يدرس تاريخ الأدب الإنجليزي - وهو قد درس تاريخ الأدب الإنجليزي ليبين صحة هذه النظرية التي أجملتها لكم إجمالا - أراد أن يختار حياة أدبية كاملة وأن يخضع هذه الحياة الأدبية للدرس العلمي الخالص الذي لا يتأثر لا بالأهواء ولا بالعواطف ولا بهذه المؤثرات التي قد تفسد على الإنسان تفكيره.
وهذه العناصر التي تكون الحياة الأدبية توجد عند أمم ثلاث: اليونانية القديمة، والأمة الفرنسية، والأمة الإنجليزية، فلم يرد تين أن يدرس اليونانية لأنها بعيدة جدا، وهو لا يستطيع أن يدرسها إلا درس المؤرخ، وهو في حاجة إلى أن يدرسها دراسة مباشرة، ولم يرد أن يدرس تاريخ الأدب الفرنسي لأنه فرنسي وقد يتأثر بعواطفه وميوله؛ فآثر الأدب الإنجليزي؛ لأنه أدب عصري ولأنه أدب كامل - كما يقول - لا يخضع في درسه لميوله ولا لشيء من هذه الأشياء، فوضع في هذا الأدب كتابه وأخضع هذا الدرس لهذه النظرية: نظرية التأثر بالجنس والبيئة والعصر، ظهر كتابه في تاريخ الأدب الإنجليزي في مجلدات أربعة، فإذا هو إلى الآن أحسن كتاب وضع في تاريخ الآداب الإنجليزية، وهو من الكتب التي يعتمد عليها الإنجليز أنفسهم.
خذوا من هذا الكتاب أي فصل من الفصول، خذوا بحثه عن شكسبير أو غيره من الأدباء الإنجليز المعاصرين وغير المعاصرين، فستجدون درسه درسا للحياة الإنجليزية في الوقت الذي عاش فيه الكاتب أو الشاعر الذي يدرسه، من هذه الناحية كانت الدراسات الأدبية لتين غنية حقا، ولكنها من ناحية أخرى خاطئة جدا؛ ذلك أن تين يقيم نظريته هذه قبل كل شيء على فكرة ليست صحيحة على كل حال، هي فكرة شائعة عصرية نشأت مع القرن الماضي ولا يزال الناس يؤمنون بها إلى الآن، وأظنها تدرس في المدارس والجامعات وفي جامعتنا نحن.
وهي فكرة أن الآداب هي صورة للجماعات، وأن الآثار الأدبية صورة دقيقة أو مقاربة لحياة الجماعات التي تنشأ فيها، وما دام كل أثر أدبي مرآة لحياة الجماعات التي نشأ فيها فلا سبيل إلى أن يدرس هذا الأثر الأدبي إلا من حيث هو مصور للجماعة، وإذن لافونتين لا ينبغي أن يدرس من حيث هو لافونتين، إنما من حيث هو مرآة للعصر الذي نشأ فيه، وأي شاعر من الشعراء لا ينبغي أن يدرس من حيث هو، بل من حيث هو يصور العصر الذي عاش فيه، هذه هي الفكرة التي فتن الناس بها في القرن الماضي، فكرة قد يكون بها شيء من الحق ولكنها بعيدة كل البعد عن أن تكون الحق كله، فأي أدب يمكن أن نعتبره مرآة للحياة الاجتماعية أو البيئة التي نشأ فيها: أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات الوسطى؟ أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات الدنيا؟ أهو الأدب الذي ينشأ في الطبقات العليا؟
وأنا عندما أذكر الطبقات لا أريد الطبقات الاجتماعية، إنما أريد الطبقات العقلية؛ فأنتم تعلمون أن هناك أرستقراطية فنية، فهناك أشخاص ممتازون بطبيعتهم في الشعر والفكر عن معاصريهم في الحس والشعور والتفكير، خذوا فيلسوفا من الممتازين في أي عصر من العصور فما الذي تجدونه أو يفاجئكم؟ هو قبل كل شيء أن هذا الفيلسوف أو الشاعر أو الأديب مخالف لمعاصريه لا يعيش كما يعيشون، هو يفكر لا كما يفكر معاصروه، إنما يفكر كما سيفكر الناس بعد جيل أو جيلين أو أجيال، خذوا أبا العلاء المعري مثلا أتظنون أنه قد فهم في العصر الذي كان فيه؟ كلا، إنما كان ممقوتا لا يفهمه إلا أصدقاؤه الأخصاء، أما عامة الأدباء والفلاسفة الذين كانوا في عصره فقد كانوا يمقتونه ويكرهونه، وكان رجال الدين يشكون في إيمانه ومنهم من اتهمه بالكفر من غير تردد، ولعلكم تذكرون أنه تعرض للموت، خذوا فولتير أو جان جاك، أول ما يمتاز به فولتير أو جان جاك أنه كان مخالفا للذين كانوا يعاصرونه؛ فبينما كان فولتير يدعو إلى حرية الرأي كانت الجماعات التي تعيش مع فولتير معادية لحرية الرأي، وكان الذين يؤمنون بمذهبه في عصره قلة، ونحن الآن نؤمن بنظريات فولتير في حرية الرأي، لماذا؟ لأنه قد وجد قبلنا ووجد قبل أوانه بأكثر من قرن، وكذلك جان جاك، وكذلك أبو العلاء، فنحن الآن نفهم فلسفة أبي العلاء خيرا مما فهمها أهل عصره، خذوا من شئتم من الفلاسفة أو الأدباء الذين يستحقون هذا الاسم فستجدون أنهم يخالفون العصر الذي كانوا يعيشون فيه في الشعور والتفكير والفهم والإحساس، إنما يصورون العصر الذي سيأتي بعد عصرهم، ففولتير لا يصور بالدقة القرن الثامن عشر ولكنه يهيئ للقرن التاسع عشر، وهو لا يصور بالدقة العصر الذي عاش فيه ولكنه ينشئ ويكون الثورة الفرنسية، إذن ليس صحيحا أنك إذا درست أديبا من الأدباء أنك تلمس فيه مرآة للعصر الذي يعيش فيه، وإذن فليس صحيحا أنك إذا درست أديبا من الأدباء مضطر لأن تدرس ما يحيط بالأديب من المؤثرات؛ لأن هذا الأديب متأثر ببيئته ولكنه مؤثر فيما يحيط به أكثر من تأثره بهذه الأشياء.
إذن فنظرية الجنس والبيئة والعصر تقوم على أساس خاطئ، ومن هذه الناحية كان تين بهذه النظرية منتهيا إلى نتيجتين متناقضتين أشد التناقض؛ دراسة تاريخية خصبة ولكنها من الناحية الأدبية غير قيمة، يتخذ الأديب وسيلة لدراسة عصره فيوفق أحسن توفيق، ولكنه من ناحية أخرى يمحو شخصية الأديب محوا؛ فهو يدرس فرنسا دون لافونتين، ويدرس إنجلترا دون أن يدرس شكسبير، ويدرس أي أمة دون أن يدرس الأديب الذي أراد أن يدرسه، ومن هنا كانت الكتب التي وضعها تين في الأدب أشبه شيء بمقدمات للدراسات التي عني بها؛ لأنه يكتب كتابا في تاريخ العصر والبيئة والجنس حتى إذا فرغ ظن أنه قد درس الأديب، ولكنه لم يصل بعد إلى هذا الأديب.
أظنكم قد تصورتم الآن على نحو ما مذهب تين في فهم الحياة والأدب، وما كان يحيط به من الأشياء، وأنا معتذر من أني قد أطلت، ولكني محتاج إلى دقائق حتى لا تكون الصورة التي تذهبون بها عن تين مشوهة ناقصة، لا بد أن أقول لكم إن تين بعد هذا كله كان من خصوم الديمقراطية ومن أعداء الثورة الفرنسية؛ لأنه كان يرى الإنسان شريرا بطبعه، والثورة ظرف من هذه الظروف تظهر الإنسان كما فطر شريرا مفسدا، ومن هذه الناحية كان مبغضا لسلطان الجماهير، وهو مع هذا كله من أشد الناس تأثيرا في الانتصار لحرية الرأي، وكتاباته كلها إنما تدور حول حرية الرأي.
هذا الرجل الذي كان ينكر الاختيار وينكر حرية الإنسان ويؤمن بالجبر ويمقت الديمقراطية وينكر سلطان الجمهور ويؤثر الأرستقراطية، والأرستقراطية الإنجليزية خاصة، هذا الرجل الذي كل شيء في ظاهره يدل على أنه من خصوم الحرية، هو ممن مكنوا لحرية الرأي، عندما عرض لكل هذه النظريات ووضعها موضع البحث والمناقشة أثار فيها كل هذه الخصومات، واستباح لنفسه أن يناقش في أشياء لم يكن الناس قد تعودوا إنكارها، ودعا غيره إلى رأيه فأثار الخصومة والجدال، ماذا عمل ؟ إنما فرض حرية الرأي على نفسه وخصومه وأنصاره فرضا، وهو بهذا دفع الفرنسيين والشباب إلى أن يفكروا في كل شيء ويتعمقوا كل شيء، وأباح لهم أن يعرضوا كل شيء للإنكار والشك والرفض إذا دعا الأمر إلى الرفض، فإذا عرفتم أن الشباب الفرنسي في مدة ثلاثين سنة كان ينظر إلى الرجل على أنه أستاذه يشرب كلامه - إن صح هذا التعبير - ويتأثر بآرائه في كل ما يعمل وما يقول، وإذا عرفتم أن كثرة الكتاب الفرنسيين الذين أخذوا ينشئون منذ سنة 1870 قد تأثروا بتين ومذهبه ونظرياته، وهم الذين يكونون الرأي العام - وأريد بالرأي العام الأدبي والعقلي - في فرنسا وأوروبا بعد ذلك؛ إذا عرفتم ذلك، عرفتم أن حرية الرأي إذا كانت قد أنشأها فولتير وأصحابه في القرن الثامن عشر، فقد أتم انتصارها وسيادتها رينان وتين في القرن التاسع عشر.
وأظنني قد استطعت في هذه المحاضرات أن أعطيكم فكرة، لا شك أنها غير واضحة ولكنها مقاربة عن تطور حرية الرأي منذ نشأ العقل الإنساني في العصور اليونانية الأولى إلى أن بلغ هذا العصر الحديث.
أما مصير حرية الرأي منذ الآن، فإني أستأذنكم في أن أقول إني لست شديد التفاؤل في شأنه؛ لأن ما نراه من تطور الحياة السياسية في العالم المعاصر لنا الآن يدل على أن حرية الرأي توشك أن تتعرض لخطر عظيم، وأظنكم تشهدون - كما أشهد - وتلاحظون هذه الأخطار التي تتعرض لها حرية الرأي، لا أقول في مصر، فهي تستمتع بشيء غير قليل منها إذا قيست إلى بعض البلاد الأخرى، وأظنكم لم تنسوا أن بعض الدول الأوروبية المتحضرة التي عملت عملا لا بأس به لتكوين حرية الرأي أخذت تقاوم الآن هذه الحرية، ولم يتحرج وزير من وزرائها من أن يذم العقل وإنتاج العقل، ويصادره ويدعو إلى أن تحرق الكتب تحريقا.
هذه الظاهرة لا توجد في بلد واحد بل توجد في بلاد مختلفة، بل هي توجد بالفعل في بعض البلاد التي انتشر فيها مذهب فولتير وأصحابه.
وقد أخذ يوجد بالفعل ظواهر خطيرة في بلد كفرنسا وإنجلترا، في قوم لا يدعون إلى قبر حرية الرأي، ولكنهم يدعون إلى ما يعرض هذه الحرية للخطر؛ يدعون إلى مخاصمة الديمقراطية ويعلنون فشلها، ويريدون أن يقيموا نظاما يعتمد على السلطان القوي أكثر مما يعتمد على إرادة الشعوب، وقد رأينا النظم التي تعتمد على السلطان القوي وتهدر إرادة الشعوب في غير فرنسا وإنجلترا، وعرفنا أن نتائجها الأولى إيذاء العقل وتضييع حرية الرأي.
وإذا كان لي أن أتمنى شيئا لمصر، فهو أن تكون أقل البلاد تأثرا بهذه الظواهر الجديدة التي من شأنها مصادرة حرية الفرد وحرية الشعوب؛ فليس يعنيني من أمر السلطان أن يكون قويا أو ضعيفا، وإنما الذي يعنيني أن يكفل لي السلطان أن أكون حرا فيما أقول، حرا فيما أعمل، حرا فيما أفكر أيضا.
Page inconnue