وقد أرجع لوبون انحطاط العرب إلى اختلاف العناصر الخاضعة لهم واختلاط دمائهم؛ قال: «ولطالما كان هذا التمازج بين شعوب مختلفة في مملكة واحدة من عوامل الانحلال الفعالة، ويعلمنا التاريخ أن من المتعذر استبقاء عناصر مختلفة في يد واحدة إلا إذا روعي في ذلك شرطان أساسيان؛ أحدهما: أن تكون سلطة الفاتح قوية إلى الغاية بحيث يوقن كل إنسان أن كل مقاومة باطلة، والثاني أن لا يختلط الغالب بالمغلوب ولا يفنى فيه، وهذا الشرط الثاني لم يحققه العرب بتاتا وكذلك كان شأن الرومان، ومن المتعذر حياة شعوب مختلفة بقانون واحد إذا تباينوا في المصالح والأجناس، ولا يتأتى ضبطهم إلا بضغط شديد، وما قامت العرب بمثل هذا الضغط مع العناصر المختلفة التي خضعت لهم.» وقال في معنى اختلاط دم الفاتحين بغيرهم: «زعموا أن المستقبل للخلاسيين والهجناء وقد يكون ذلك، بيد أنني لا أرجو تحقيقه لشعوب تريد أن تحتفظ بمستواها في العالم.» •••
آن لنا بعد أن عرضنا في الجملة لتصوير المدنية العربية والتنظير بينها وبين غيرها من المدنيات، وللعوامل التي وهنت بها دولة العرب ودخلها الهرم أن نذكر طرفا من الفروق بين أهل المدنيتين، إننا مهما أعجبنا بمدنية العرب القديمة ومدنية الغرب الحديثة، فإعجابنا غير قليل بمن يعملون اليوم لمدنيتهم من الغربيين، والفوارق بين الشرق والغرب في هذا المعنى محسوسة، ومنها ما يعلل بالهواء والبيئة، ومنها ما يعلل بالطوارئ الاجتماعية القاهرة، ففي الغرب دءوب دام قرونا مطرد الأوائل بالأواخر، ونظام نافذ لا يرحم من لا يعمل، ولا يبقي على جاهل ولا ضعيف، فكأن قاعدة الانتخاب الطبيعي أخذت في الغرب حكمها، فأبقت على القوي، ونبذت أكثر الضعيف، وفي الشرق لانت الطبيعة وما قست، فعاش الضعيف والأضعف، والقوي والأقوى.
قالوا: إن المدنية ابنة البلاد الباردة، ولكن العرب جاءوا من جزيرة محرقة فأنشئوا أيضا هذه المدنية الفتانة على أيدي من نبغوا فيها من أهل الطبقة المختارة، وتآلفوا كلهم بروح الجماعة على نحو ما نرى في الغرب اليوم فناء الأفراد في المجموع؛ إذا هلك الفرد لا يكاد يشعر به؛ لأن من بعده يأتي فيتناول عمله فيتمه، والغرب - كما قال أحد النابهين - هو المتسلط على الطبيعة بالعمل، والشرق هو استثمار الإنسان للإنسان، ونظن الغرب أيضا يستثمر الإنسان للإنسان أما تسلطه على الطبيعة فهذا حق صراح.
امتاز الغربي بتسلسل الفكر والتبصر في مصادر الأمور ومواردها، والأخذ من تجارب غيره والانتفاع بكل ما يرى ويسمع، وقلما يخرج عما تعلمه واستعد له مهما كلفه الحال؛ لأنه يعرف أن النجاح في الاختصاص أو الإخصاء، وهذا من أعظم أسرار نبوغه في صنائعه وعلومه ، وعرف الغربي بمحافظته على القوانين يراعيها على كل حال، حتى صار ذلك طبيعة له وعادة، وخلافها منكر مستهجن، وجميع ما في الغرب من قوى الجماد والحيوان والإنسان مستثمرة منتفع بها، وقوى الشرق مبعثرة ضائعة ، الغربي يعنى بالأمر الصغير والخطير على السواء، يحاول الإتقان والكمال في كل معانيه، ويفادي بكل عزيز في سبيل قوميته ووطنيته، يراعي الوقت والزمان، ويسير في حياته على منهاج لا يعدوه، ويستحي أن يرمى بالقصور فيما هو آخذ نفسه به، الغربي محافظ مجدد في آن واحد، والشرقي محافظ يصعب عليه التجديد، أصلح الغربي بنفسه لنفسه معمله ومزرعته، وجود عمله وقام بواجبه، فاضطر حكوماته إلى أن تصلح نفسها، والشرقي يتوقع من حكومته أن تصلحه، وقد يحاول إفسادها إذا أرادت إصلاحا، والغرب لم تعمره حكوماته بل عمره أهله، وحملوها بطول الزمن على أن تحسن سيرها فتساند الراعي والراعية.
وقد وصف الحالة التي صار إليها الشرقي الأستاذ أحمد فتحي زغلول باشا بقوله: «ضعفنا حتى أصبحنا نرجو كل شيء من الحكومة، فهي التي نطالبها بحفظ حياتنا، وخصب أرضنا، وترويج تجارتنا، وتحسين صناعتنا، هي التي نطلب منها أن تربي الأبناء، وتطعم الفقراء، وترزق العجزة، وتنفي أسباب البطالة، وتحفظ الأخلاق، وتلم شعث العائلات، وتجمع أشتات القلوب، هي التي نطالبها بتعويض ما نقص من إرادتنا، وتقويم ما اعوج من سيرنا وسيرتنا، ورد هجمات المزاحمين عنا، والسهر على مصالح كل واحد منا؛ فإذا تأخرنا في عمل من تلك الأعمال بإهمالنا رميناها بسوء الإدارة، واتهمناها بحب الأثرة، وألقينا عليها تبعة خمولنا كلها، لا ريب أننا بهذا الزعم قد ضللنا السبيل؛ فإنما الحكومة وازع لا يكلف إلا ما اقتضته طبيعته، وشأن الحكومات في الأمم تأييد النظام، وحفظ الأمن، وإقامة العدل، وتسهيل سبل الزراعة، ومعاهدة بعضهم بعضا على ما يضمن حرية التجارة، ويشجع أهل الصنائع والحرف كما تقتضيه المصالح المشتركة، وعلى قدر ما تسمح به الممكنات، وبالجملة، فالحكومة وازع عام لا واجب عليه إلا الأمر العام مما يدخل تحته جميع الناس، ولا ينفرد بالاستفادة منه واحد بخصوصه، وعلى الأمة بعد ذلك أن تستفيد من هذا النظام، وتنتهز فرصة الأمن والطمأنينة لتسعى وراء منافعها، وتطلب الكمال في زراعتها وصناعتها وتجارتها، وفي نشر المعارف وإحياء العلوم، وفي أداء الواجب والمحافظة على الحقوق، وهذا هو الذي أهملناه حتى أضعناه.» ا.ه.
وحقا لو قام كل واحد في الشرق بواجبه، لما انتشرت الأمية فيه مثلا هذا الانتشار المريع، والأمية سبب كل بلية، ومن المستغرب أن نشهد شعوبا صغيرة في الغرب تحررت منذ عهد قريب من ربقة غيرها، ونجت أو كادت من الأمية على فقرها، ورأينا في الشرق شعوبا تكاد تكون مستقلة منذ زمن طويل، وهي من الغنى بما لا ينكر محله، وما استطاعت أن تخرج شعبها من الجهل، واكتفت أن صاغت عمالا أو راغبين في العمالة، وتخلت عن إعداد أبنائها لمذاهب المعاش الطبيعية، فبأي شيء نعلل هذا؟ وعلى من تلقى تبعة هذا الوباء؟ ولو صرف في تعليم هذه الشعوب واحد من مائة تبذل في التبذير، لفارقت دور الجهالة في أقل من نصف قرن.
وبينا نرى عامة أهل الغرب وخاصتهم، أغنياءهم وفقراءهم رجالهم ونساءهم، يعملون ويدأبون، ولا تكاد تجد من لا يعمل ولا يفكر فيما فيه فائدة عامة أو خاصة؛ نرى الشرقي إذا حاز مظهرا صغيرا، أو نال شهادة من مدرسة، أو شدا شيئا من أدب وعلم، أو اقتنى مالا وعروضا، اغتبط بما صار إليه، وعد نفسه قد بلغ أقصى الغايات؛ فيغلو في سرفه وترفه، ويصاب بالغرور والعجب، يستنكف عن أعمال اليد وعن الاحتراف ويعد الحرف دنيئة، وما الدني إلا من لا يتعلمها ويتقنها، ولا ساقط الهمة إلا من يذل لغيره حتى يعيش كلا عليه. على حين رأينا الغربي مهما أحرز من مظاهر الغنى والمجد، لا تقف همته عند حد، ولا تنتهي مطامعه إلى غاية، فهو لا يعرف ما يقال له قناعة ورضا، وكل عمل يجلب نفعا هو في نظره شريف محلل، كأن طبيعة البلاد الغربية، وهي تستلزم من ساكنيها غذاء أوفر ولباسا أدفأ وكنا جامعا شروط الراحة ليقاوم قسوة الطبيعة، تضطر الفرد إلى أن يعمل شاق الأعمال لينتج ويعيش، والشرقي لا تتقاضاه أرضه وسماؤه شيئا كثيرا من مثل هذه الأسباب في الحياة؛ يتبلغ بميسور العيش، ولا يتشدد في تطلب السعة، وحرارة إقليمه تغنيه عن أمور يراها الغربي ضرورية له كالخمور والأغذية الدسمة، تأملوا حال أسرة مؤلفة من والدين وأربعة أولاد؛ الوالد يعمل في حرفته، والوالدة تشتغل بتربية أولادها وترتيب منزلها، فإذا فرغت شغلت أوقات فراغها بتطريز أو خياطة أو نسج أو تصوير أو موسيقى أو غير ذلك، والولد بعد المدرسة الابتدائية يعمل في حقل أو حانوت أو معمل، وأخته كذلك تحترف وتجمع لنفسها مالا، ولا يستنكف أحدهم من الأعمال الزراعية والصناعية، ولو تعلم التعليم العالي، إذا لم يجد رزقه فيه، تأملوا هذا البيت المغل وكيف يدخله من الربح ما يعادل على الأقل ما يكسبه الأب وهو تامة أدواته في جهاد الحياة.
الإنسان في الغرب مهما علت منزلته، إذا بلغ سن الرشد أو قرب منها، لا يتكل إلا على نفسه رجلا كان أو امرأة، لا فرق في قانون العمل وروابط الحياة إلا ما لا بال له، والشرقي اتكالي لا يعمل إلا بقدر ما يرزق الكفاف، وبلغ من شفقته الكاذبة على أولاده، إذا كان ذا سعة، أن يترك لهم الحبل على الغارب، لا يهتم لهم عملوا أم لم يعملوا، فكيف بهذا تبقى ثروة ويحفظ مجد؟! ولو كان قانون المواريث عندنا مثل قانون الإنجليز لا يورث الكبراء والنبلاء جلاءهم؛ أي لقبهم وأملاكهم، إلا للكبير من الأولاد، ويروح سائر البنين والبنات يكدحون لمعاشهم، لرأينا كثيرا من الشرقيين يموتون جوعا لا يرضون أن يعملوا عملا صناعيا ولا زراعيا ولا غيره.
يقول العلامة قاسم بك أمين: إن أهل أوروبا يقسمون إلى ثلاث طبقات كسائر الأمم: عليا ووسطى ودنيا؛ فالدنيا أكبر حظها من التربية معرفة القراءة والكتابة، وأما الطبقة العليا فتصيب حظا عظيما من التربية الفعلية، ولكن يغلب عليها ما يغري به الغنى والبطالة، وتستولي عليها الشهوات، فهم يتفننون في اللذائذ تفنن أهل الجد في الاختراعات والصنائع، قال: وهذا الفساد فيهم مما تتحمله المدنية الغربية وتصبر عليه؛ لأنها لا تستطيع محوه، فإن هذه المدنية مؤسسة على الحرية الشخصية، فهي مضطرة لأن تقبل ما يتبع هذه الحرية من الضرر، وهي تعلم أن منافعها أكثر من مضارها، ووجود الفساد في الغرب إنما هو لاحق طبيعي من لواحق الحرية الشخصية، ونتيجة من نتائجها في الطور الأدبي الحالي الذي توجد فيه تلك البلاد الآن. قال: وهذا الفساد في الأمم الغربية لم يضعف فيهم الفضائل من بذل الأنفس والأموال في سبيل تعزيز الوطن أو الدفاع عنه؛ فأدنى رجل في الغرب كأعلى رجل فيه، إذا دعا داع إلى هجوم، أو قيام لداع أو إلى عمل نافع، يترك جميع لذائذه وينساها، وينهض لإجابة الداعي، ويخاطر بنفسه، ويبذل ماله، إلى أن يتم للأمة ما تريد، وأما الطبقة الوسطى فلا ريب أنها أرقى من التي تقابلها عندنا.
وبعد؛ فالأعلون والأوسطون والأدنون في الأمم الغربية هم كما وصفهم عالمنا الاجتماعي فأحسن في وصفهم، وقد قال شاعرنا الاجتماعي حافظ إبراهيم في وصف الاختلاف بين العالمين الشرقي والغربي:
Page inconnue