أما المسلمون فاستفادوا من الغربيين طريقة أخذ الأخبار من مصادرها، وكان الصليبيون في بدء الحرب الصليبية لا تخفى عليهم خافية من حال أعدائهم، فأتقن المسلمون بعد ذلك صناعة الاستخبارات بواسطة أصحاب البرد والأخبار، على ما كان الرسم في بعض الدول العربية السالفة، وعرف المسلمون أن الإفرنج أمم كثيرة العدد، أصحاب شدة لا يستهان بهم، ولو كانوا عرفوهم من قبل حق المعرفة، لعقدوا معهم معاهدات ومنحوهم امتيازات؛ أزالوا بذلك أسباب الشكوى التي اختلقت لإشهار هذه الحرب الزبون، ولما خربت الشام وهلك مئات الألوف من المسلمين عربهم وتركهم وكردهم، ومثلهم أو أكثر من حملة الصليب.
وعلمت هذه الحرب المسلمين أن حياتهم بالتضامن والانكماش، وكانوا قبلها متفاشلين متخاذلين، يعبث بعض الملوك بكيانهم، ويصرفونهم على هواهم لأغراضهم ومصالحهم. فما ارتضى الناس في هذا الدور من أرباب صناعة الملك إلا أن يكونوا جد كفاة لتولي رقاب الناس، ولقنت الحرب أهل الإسلام معنى الجامعة الدينية، وما يتوقع من أثرها في جهاد العدو ودفع صائله، وكانت العصبية العربية قد أصيبت بالضعف فحلت العصبية الدينية محلها، وبهذه الحروب المنوعة الأشكال والأجيال ظهر نبوغ المسلمين في الحرب والإدارة وظهر فيهم رجال كانوا في أخلاقهم ومضائهم على مثال أهل الصدر الأول من العرب وإن كانوا من أصول أعجمية.
قلنا إن الصليبيين خالطوا المسلمين، ومنهم تعلموا حياة الرفاهية وزهدوا في التبدي، وعرفوا أن البادية لا تقوم لها قائمة أمام الحضارة، وكان بعض شعوبهم استفادوا بملابستهم العرب في صقلية والأندلس، أما اختلاط الإفرنج في الحروب الصليبية فاستفاد منه خاصة الغربيين وعامتهم، ومن جملة ما استفادوه عادات شرقية كثيرة؛ ومنها الاستحمام والألبسة المسترسلة الفضفاضة، ونظموا فرسانا على الطريقة الإسلامية، ومنهم من تعلموا اللغة العربية وأتقنوها واقتبسوا من عادات المسلمين ما استحسنوه. قال لبون: إن النضال الذي ناضله الصليبيون في حملاتهم الأولى كان نضال عالم لم يزل على توحشه مع مدنية من أرقى المدنيات التي حفظ التاريخ ذكرها، واشتد ولوع الصليبيين بالزراعة والتجارة، وعرفوا أن في بلاد الشرق صنائع أرقى من صناعاتهم وزراعة ناجحة، وتجارات رابحة، ورقة شعور وعاطفة شريفة وتسامحا غريبا، فربطوا مع الشرق صلات تجارية نافعة.
ورأى الصليبيون في الشرق عناية المسلمين بالكتب، فطرسوا على آثارهم في اقتنائها ووضعها في بيوت ورفوف، وقيل إن سان لوي ملك فرنسا هو أول غربي حدثته نفسه بجمع الكتب ووضعها في خزائن على مثال ما رأى في مصر وتونس، ومن الصليبيين من أخذوا كتبا من الشام ومصر على أنها غريبة من الغرائب، ولما لم يكونوا على شيء من العلم أحرقوا خزانة بني عمار في طرابلس على أنها مصاحف قرآن، ولما نادى منادي النهضة في إيطاليا صحت همة الباباوات في القرن السادس عشر على اقتناء كتب العرب؛ فندبوا لذلك جماعة من رهبان الموارنة، فحملوا إليهم من أديار لبنان وغيرها ما كان فيها من كتب العلم والدين، وأخذت حكومات جرمانيا وهولاندا وإنجلترا وفرنسا وروسيا تجمع منذ القرن السابع عشر كتبا تبتاعها من البلاد الإسلامية بواسطة وكلائها وسفرائها وقناصلها والأساقفة والمبشرين من رجال الدين، وأخذ الأفراد من أبناء الغرب يحلون بعض رموزها أولا، ثم رتبوها في خزائن في دور كتبهم العامة للاستفادة، وكانت إسبانيا والبرتقال من أزهد الأمم في هذه الكتب العربية، أما إسبانيا فقد بقيت خمسين سنة بعد جلاء العرب عنها تحرق الكتب العربية حيث وجدتها من شبه جزيرة إيبريا ، وقد أحرق الكردينال كسيمينس في يوم واحد في ساحات غرناطة ثمانين ألف مجلد من كتب العرب ، وكان في الأندلس سبعون خزانة عامة للكتب ماعدا خزائن الأفراد، ولم تقم في البرتقال للمشرقيات العربية سوق حتى الآن، وليس عندها من الكتب العربية ما يذكر، هذا مع ارتباط جزء من تاريخها بتاريخ العرب، ولما نقلت بعض الكتب العربية إلى بعض اللغات الأوروبية، استفاد الغربيون منها فوائد جلى، واستفاد المسلمون تصحيح الأحكام القاسية التي كان يحكمها رجال الكنيسة عليهم وعلى دينهم.
ومن الفوائد التي عادت على أوروبا بالخير من الحروب الصليبية تحرير أصحاب الأرضين من رق الزعماء والأمراء، وانتقال الثروة من أيدي هؤلاء إلى أرباب الطبقات الوسطى والدنيا، فباع من باع من الكبراء ملكه، وابتاع من عمل بأرضه ومتجره وصناعته، فاغتنى واقتنى الرباع والضياع، واضطر سادة القرون الوسطى أن ينفسوا من خناق عبيدهم في أرضهم، وأن يبطلوا قانونهم البشع الذي يخول السيد في مقاطعته أن يقضي مع امرأة خادمه وعبده الليلة الأولى من عرسها، ويسمون ذلك حق التفخيذ
Droit de cuissage
ثم اكتفى السادة أصحاب الإقطاعات بأن يضعوا سوقهم في فراش عروس مقطعيهم ورقيقهم
Droit de jambage
إشارة إلى ما كان لهم من حق التفخيذ وأعفوا منه، ثم استعيض عن ذلك بضريبة وضعت على الزواج، ومنها تقوية السلطة المدنية ووهن السلطة الباباوية وضعف تأثيرات التعصب الأعمى، واضطرت الكنيسة الرومانية نفسها إلى إصلاح حالها، وكان بعض الباباوات يأتون الفترة بعد الفترة بما يخدمون به المدنية والعلم كالبابا ليون العاشر في القرن الثالث عشر، وهو من أسرة ميديسيس المشهورة بأفضالها على العلم والأدب؛ فإنه وسع نطاق الآداب، وبث العلم حتى عد عصره العصر الذهبي، وشابه عصر أغسطس من أكثر الوجوه، ودخل أيضا تعديل كبير على نظام الإقطاعات، واغتنت إيطاليا من متاجرها؛ فكان ذلك من بعض العوامل في ظهور شعلة النهضة الغربية منها بعد حين. وكانت إيطاليا في القرون الوسطى أكثر مدنية من جيرانها، وكذلك كانت بلاد القاع في الشمال، وشعر الناس بلزوم السير على فكرة أوروبية، وكانوا من قبل ممزقين مشتتين، وشهدوا في الشرق أنه كان من عدم الوحدة في قيادة جيوشهم إخفاق أمرهم، وكانوا من قبل لا يتضامنون ولا يتراحمون. •••
مضت على البشر عشرة قرون، وتاريخ اليونان هو تاريخ العالم، والمفكرون والعقلاء والأدباء والعلماء من أبنائهم، ثم نامت العقول عقبى قيام العرب، وأتم هؤلاء ما بدأ به اليونان من علم وصناعة واستعمار، فخلفوهم في ذلك وبذوهم في بعض المظاهر، ولما ضعف حكم العرب في الأندلس وشمالي إفريقية، بل في مصر والشام والعراق وما إليها، وأخذ سلطان العثمانيين يقوى في الجنوب الشرقي من أوروبا؛ قام البرتقاليون النازلون على شواطئ بحر الظلمات يلوبون على المال والمجد، وصادف أن قام منهم جماعة من الملاحين الأذكياء، وفي مقدمتهم فاسكو دي جاما، فاصطنعوا لهم أساطيل لم تلبث أن تفوقت على ما كان من نوعها عند الأمم الغربية الأخرى، وكشفوا على عهد الأمير هنري بن الملك جوان الأول البرتقالي في النصف الأول من القرن الخامس عشر طريق الهند بالطواف حول إفريقية الغربية والشرقية.
Page inconnue