وقال الأستاذ رضوان لأصدقائه وهو يبرر فسخ خطبته: لقد أنقذني الله قبيل الكارثة! إنها بلدي، بلدي جدا، لست أعلم كيف يربي هؤلاء الناس بناتهم؟!
وأشفق عليه أصدقاؤه، فلم يسخروا من قوله رغم أنهم كانوا يعلمون ما حدث، ويدركون أنها هي التي لفظته، وأن يد الله جرت بغير ما يريد.
وأقبل العام العاشر منذ ذلك اليوم الذي غادر فيه داره فرحا، وخرج الأستاذ رضوان يخبط في الأرض قافزا كعادته. كانت نفسه في ذلك اليوم تنوء بالأحزان؛ لقد أفلتت منه فرص الحياة مرة بعد أخرى، ولم يحس إلا اليوم أنه وحده في الحياة، أصدقاؤه الخمسة في غرفة المحامين صار لهم شأن آخر؛ إن أحدهم تسعى إليه الوزارة في خطى ثابتة، فقد أضحى علما في حزب سياسي خطير، وإن الثاني لا تكاد صحيفة تخلو من اسمه، ومن جولاته الموفقة في البرلمان وفي ساحة القضاء، أما الثالث فقد شق سبيله في الاقتصاد، وهو على حداثة سنه يدير شركة ناجحة، والرابع - سعيد - يلمع اسمه ويكبر رغم احتفاظه بطابعه الوديع الهادئ ... وهو؟!
أما هو ...
إنه ما زال كما بدأ. إنه كذلك في نظر نفسه على الأقل. إن ما يحز في قلبه ليس حاله وحده، إنه يربح مالا كما يربحون، لكن ذلك المجد الذي يضفي ثيابه على أصدقائه، ويبخل عليه هو بقطعة من ثوب، إن ذلك المجد أعمى البصر والبصيرة، إنه لا يعرف ماذا يفعل، إنه يخبط خبط عشواء ... تماما كما يفعل هو الآن، وكما يفعل منذ عشر سنوات، منذ أجمع أمره على أن يقفز في الحياة كما يقفز على الأرض. لقد قفز طويلا خلال هذه الأعوام، قفز حتى تعبت أقدامه وحتى لهث، ومع ذلك فما ارتفع. ارتفع أصدقاؤه، وظل هو حيث كان!
وأخذ يفكر طويلا، هل هو في مكانه حقا لم يتقدم؟! إن ذلك محض افتراء، إنه أحسن حالا، إنه الآن يملك رصيدا في البنك؛ رصيدا متواضعا، ويملك أمر نفسه، ويربح ما يزيد على حاجته ... لقد ارتفع فعلا، لكن أصدقاءه هؤلاء الذين خلفوه، فخيل إليه أنه لا يتحرك ... إن ما يحز في نفسه أنهم سبقوه، سبقوه بغير موجب، إنه ليس أقل منهم كفاءة ولا مواهب، ثم هو يمتاز عنهم، أليس قد تخلى عن مثله العليا منذ أمد بعيد؟ ألم ينطلق من إسار المبادئ؟ ومع ذلك فما نفعته هذه الحرية!
ووقفت به أفكاره وقدماه عند باب مكتبه، وتقدم إليه كاتب المكتب يقول: صاحب هذه البطاقة يريد لقاءك، وتهلل جبينه ونسي أحزانه، إنه زميل قديم، لم يكن صديقه يوما ما، لكنه زميل دراسة ... إنه يكره زملاء الدراسة الذين سبقوه في الحياة، لكنه مع ذلك تهلل وانبسطت أساريره، وأقبل على صديقه يحييه في حرارة، وقال الصديق وهو يرد التحية: أليست غريبة هذه الصدفة؟! لقد كنت في نفس الشارع عند الأستاذ شوكت بك، زميلي في مجلس النواب، فقرأت اسمك على اليافطة فلم أضيع الفرصة؛ لأني لم أرك منذ غادرنا الكلية، وجلسا يتحدثان، ومال الحديث إلى كل شيء، إلى الحزب الذي ينتمي إليه الزميل ... إنه حزب يحفل بالشبان، وهذا الزميل نفسه أحد أقطابه، ولم يضيع الأستاذ رضوان الفرصة، لقد انهال على الحزب مدحا، وأغرق الزميل بألفاظ المدح والإعجاب.
وقال الزميل مستطلعا: ما دمت تعجب هكذا بحزبنا، فلماذا لا تساهم في نشاطه؟ إننا نرحب بأمثالك!
وأخفى تهالكه في لهجة تحفظ قائلا: إنني لا أحب المظاهر، لكنني مع ذلك أرحب بانضمامي إلى حزب أومن به وبمبادئه!
ولم يكن هناك في الحياة شيء يؤمن به رضوان، ولم يكن يعتقد في شيء اسمه مبادئ، لكنه مع ذلك مضى إلى هذا الحزب، وساهم في نشاطه واحدا من مئات ... وأحس بنفس الشعور الذي أحس به منذ سنوات، حين ولج قاعة المحكمة؛ شعور الهدم والبناء؛ هدم الناس وبناء نفسه ... لم يكن يتخيل أنه يستطيع أن يبني نفسه بغير الأنقاض المتخلفة من هدم عشرات!
Page inconnue