وملأ نثار المبادئ سبيله، فلم يعد يرى شيئا ... إنه هو كل شيء، وما يفعله هو الصواب ...
وجلس الأستاذ رضوان ذات يوم بين أصدقائه في غرفة المحامين، وتفقد واحدا منهم فلم يجده، وقال سعيد وهو يحاول أن يثيره: «عقبال» عندك يا عم؛ لقد أصبح قاضيا. لقد قبل رغم أنفه، وتحت ضغط أبيه!
وانفجر رضوان قائلا في غضب: وهل كنت تنتظر غير ذلك؟ فيم كان زواجه إذن؟! - لا أفهم ما تعنيه، ما دخل زواجه في تعيينه؟! - ألم يتزوج من ابنة «ع. باشا»؛ لكي يتقاضى هذا الثمن؟ هل هذا تصرف شاب شريف؟!
وانبرى سعيد معترضا: اتق الله يا رجل؛ إن صهره رجل نزيه، وهو أغنى من صهره. لقد كان يربح من المحاماة أضعاف مرتب القاضي ... أنسيت أنه كان ثالث الليسانس، وكان يرفض دائما أن يعين؟!
وأجاب رضوان وهو يهز كتفيه: يا عم صلي على النبي!
وكانت هذه جملته دائما. كانت لا تعني الإيمان، وإنما تعني الإنكار، كانت إيذانا بأن عقله المكبل لا يقبل تعليلا غير الذي يؤمن به ... بل إنه لم يكن يؤمن بهذا التعليل، وإنما كان يفرضه فرضا. لقد كان يعرف عن زميله ما يعرفه سعيد؛ يعرف أنه غني ونبيل، ومحام ناجح لم يتزوج ابنة «ع. باشا» إلا لأنه يحبها منذ أمد طويل ...
ومع ذلك، فقد استنكر فعلته في الصباح، وألقى محاضرة على سعيد في الاعتماد على النفس، وقيمة الحرية التي ينعم بها المحامي، ومجد المحاماة، وحرصه عليها ... ألقى هذا الدرس في الصباح، وذهب عصر ذلك اليوم مع شقيقته يخطب ابنة سيد كبير، عرف عنه أنه يرصد لابنته هدية عرس ثمينة، هي منصب ممتاز لزوجها. ذهب يخطبها، ومضى في إجراءات الزواج، إلى أن قرب موعد القران، فإذا بدولاب الحظ يتوقف فجأة! لقد فقد صهره جاهه، ودالت دولته، وأصبح لا يملك أمر نفسه ... ويكتشف الأستاذ رضوان في الوقت نفسه أنه لا يميل لخطيبته؛ ويفشل الزواج ...
إنها لم تكن مغامرته الوحيدة؛ لقد سار رضوان في هذا السبيل شوطا طويلا ... وسمع أصدقاؤه ذات يوم أنه يسعى للزواج من ابنة عظيم آخر؛ فداعبه سعيد، وهو داخل إلى قاعة المحامين قائلا: مبروك يا مولانا، شد حيلك قبل الوزارة ما تسقط!
وابتلع سخرية صديقه في مرارة، وجهد أن يدير الحديث في طريق آخر، ونهض بعض لحظات، وسار إلى حيث يبتعد عن أصدقائه، وأخذ يقطع الوقت حتى يحين موعد القضية - التي جاء من أجلها - في التجوال في ردهات المحكمة.
أكانت صدفة أم نبوءة صادقة؟! لقد سقطت الوزارة فعلا قبل أن يدخل بالزوجة الجميلة والوظيفة الساحرة، ولم يرفض هو في هذه المرة ولم يتنصل، كانت خطيبته هي التي رفضت؛ لقد كشفت نفسه، فعاف قلبها عواطفه المدهونة، وألقت له بخاتم الخطبة غير آسفة ولا نادمة.
Page inconnue