قلت له: «إنها رائعة.» وقصدت من ذلك أنها نالت قدرا من التعليم، وأنها لبقة وحسنة الخلق. وأردفت: «لقد سافرت إلى كل مكان، وهي شخصية لطيفة إلى حد كبير. وبحكم عملها كممرضة قابلت جميع أنواع الشخصيات.» ثم حكيت له عن أرملة المليونير وعن المجوهرات التي كانت تحملها في حقيبتها القماشية. وكلما تحدثت عنها أكثر، أدرك ريتشارد شكوكي وحاجتي إلى الاطمئنان، وزادت مراوغته وإثارته لقلقي. كان يعلم أنه يتمتع بميزة يتفوق بها علي، وكنا قد وصلنا إلى مرحلة في زواجنا لا يمكن فيها التخلي عن أية ميزة بسهولة.
كنت أتمنى أن تسير الزيارة على ما يرام. أردت هذا من أجل نفسي، ولكن لم تكن بواعثي لتشرفني. كنت أريد أن تظهر قريبتي أيريس كأحد أفراد عائلتي الذين لا أخجل منهم، وأردت أن يرفعني ريتشارد وأمواله وبيتنا في نظر قريبتي أيريس إلى الأبد، لينتشلني من تصنيف القريبة الفقيرة. أردت أن يتحقق كل هذا بمهارة ولياقة وضبط نفس، وأن تكون النتيجة اعترافا مرضيا بقيمتي، من الجانبين كليهما.
اعتدت التفكير بأنني لو استطعت أن أقدم لريتشارد واحدا من أقربائي، ثريا وحسن الخلق ومهما، فسيتغير موقفه تجاهي. قاض أو جراح كان ليصلح في هذا الدور. لم أكن متأكدة على الإطلاق مما إذا كانت أيريس ستصلح بديلا. وكنت قلقة من طريقة تفوه ريتشارد بكلمة «داجليش»، وذلك الأثر المتخلف عن العيش في وادي أوتاوا - إذ كان ريتشارد يمقت اللكنات الريفية، بعد معاناته مع لكنتي - وشيء آخر في صوت أيريس لم أستطع استبيانه. هل كانت شديدة التلهف لمقابلتي؟ هل تفترض أن لها حقا عائليا لم أعد أومن أنه مبرر؟
لا يهم. بدأت أذيب الثلج عن فخذ حمل لطبخه، وصنعت فطيرة بمرينج الليمون. وكانت فطيرة مرينج الليمون هي ما تعدها أمي عندما تأتي قريباتنا لزيارتنا. كانت تلمع شوكات الحلويات، وتكوي فوط المائدة. فقد كنا نملك شوكات للحلويات (أردت إخبار ريتشارد بهذا)؛ أجل، وكانت لدينا فوط للمائدة، رغم أن مرحاضنا كان في القبو، ولم تكن لدينا مياه جارية حتى انتهت الحرب. اعتدت حمل الماء الساخن إلى غرفة النوم الأمامية في الصباح كي تغتسل قريباتنا. وكنت أصبه في إبريق يشبه الأباريق التي تعرض اليوم في معارض التحف، أو التي ترص اليوم على مناضد القاعات الكبيرة، وهي ممتلئة بنباتات الزينة.
ولكن ألم يكن يهمني أي من هذا حقا، أي من هذا الهراء عن شوكات الحلويات؟ هل كنت - أو هل أنا الآن - ذلك النوع من الأشخاص الذي يتصور أن امتلاكه هذه الأشياء يعني أن موقفه تجاه الحياة متحضر؟ كلا، على العكس، أو ليس تماما، نعم ولا. نعم ولا. كان ريتشارد يستخدم كلمة الخلفية: «خلفيتك» في نبرة منخفضة تحذيرية. أم كان هذا ما سمعته أنا، ولم يقصده هو؟ عندما يقول داجليش، حتى وهو يناولني دون أن يتفوه بكلمة واحدة خطابا من موطني، أشعر بالخزي، كما لو أن شيئا دنسا يحيط بي، عفن، شيء قذر ومقبض ومحتوم. الفقر - بالنسبة إلى عائلة ريتشارد - كان أشبه برائحة النفس الكريهة أو التقرحات المفتوحة؛ كان بلوى يجب على المبتلين بها تحمل جزء من اللائمة عليها. ولكن لم يكن من حسن الخلق أن أعلق على هذا. ولو قلت يوما أمامهم أي شيء عن طفولتي أو عائلتي، فإنهم ينسحبون بعض الشيء كما لو أنهم قد شاهدوا فحشا. ولكن من المحتمل أنني أصبح حادة وخجولة، مثل الشخصية متدنية التنشئة لدى فيرجينيا وولف والتي تؤكد أنها لم تذهب يوما إلى السيرك. ربما كان هذا ما يحرجهم. لقد كانوا لبقين في التعامل معي، أما ريتشارد فلم يستطع أن يكون بمثل هذه اللباقة، بما أنه وضع نفسه في موقف محفوف بالمخاطر، بزواجه مني. أراد أن يبتر هذا الماضي من حياتي والذي بدا له متاعا رثا. كما كان يقظا لأية إشارات تدل على عدم اكتمال عملية البتر، التي بالطبع لم تكتمل.
لم تزرنا قريبات أمي مجددا، أقصد بعضهن مع بعض؛ فقد ماتت وينيفريد فجأة ذات شتاء، بعد هذه الزيارة الخالدة بثلاث أو أربع سنوات على الأكثر. كاتبت أيريس أمي لتخبرها بأن الشمل قد تفرق الآن، وأنها تشك أن وينيفريد كانت مريضة بالسكر، ولكن وينيفريد لم ترد اكتشاف هذا بسبب حبها للطعام. وأمي نفسها لم تكن بصحة جيدة، فزارها من تبقى من قريباتنا، ولكن كل منهن بشكل مستقل، وبالطبع ليس كثيرا بسبب بعد المسافة. وفي كل خطاب من خطاباتهن تقريبا، كن يشرن إلى الوقت الممتع الذي قضينه جميعا خلال ذلك الصيف. ومع دنو أجل أمي قالت: «يا إلهي، أتعرفن فيم أفكر؟ في مسدس الماء. هل تذكرن ذلك الحفل؟ وينيفريد وهي تمسك مسدس الماء! كل منا كانت تؤدي دورا في الحفل. ما الذي فعلته أنا؟» «وقفت على رأسك.» «أجل، لقد فعلت.» •••
كانت قريبتنا أيريس - عندما زارتني - قد اكتسبت مزيدا من الوزن، وتوردت وجنتاها بسبب بودرة الوجه. كانت تلهث وهي تتقدم بصعوبة عبر الشارع. لم أرغب في أن أطلب من ريتشارد الذهاب لإحضارها من الفندق. لا أقول إنني كنت خائفة من طلب هذا، ولكنني ببساطة لم أرغب في أن تبدأ الأمور بشكل غير صحيح، بأن أجبره على عمل لم يعرض القيام به. وقلت لنفسي: إنها ستستقل سيارة أجرة. ولكنها أتت إلينا بالحافلة.
كذبت عليها قائلة: «كان ريتشارد مشغولا. لكن هذه غلطتي؛ فلم أتعلم القيادة.»
قالت أيريس بثبات جأش: «لا عليكما. لقد انقطع نفسي، ولكني سأكون بخير بعد دقيقة. الشحوم على جسمي هي ما تفعل بي هذا. وهذا ما أستحقه.»
ما إن قالت «انقطع نفسي» و«الشحوم على جسمي» حتى عرفت كيف سيدور اللقاء مع ريتشارد. بل عرفت من قبل أن تقول شيئا. فقد علمت بمجرد رؤيتي لها على باب بيتي، بشعرها الذي أتذكر أنه كان بنيا مائلا للرمادي، وقد أصبح الآن ذهبيا وملفوفا في كتلة واحدة يعلوها الرذاذ الرغوي، وفستانها الغالي الأزرق كلون الطاوس والمزركش عند إحدى الكتفين بحلية ذهبية. الآن وأنا أفكر في الأمر، أرى أنها بدت مذهلة. ليتني قابلتها في مكان آخر. ليتني قدرتها قدر ما تستحق. ليت كل شيء تم بشكل مختلف.
Page inconnue