من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
مقدمة
آل تشادلي وآل فليمينج (1)
آل تشادلي وآل فليمينج (2)
كنافة البحر
موسم الحبش
الحادثة
حافلة باردون
برو
عشاء عيد العمال
السيدة كروس والسيدة كيد
قصص الحظ العاثر
الزائرون
أقمار المشتري
من أفضل ما قيل عن الكتاب
شكر وتقدير
مقدمة
آل تشادلي وآل فليمينج (1)
آل تشادلي وآل فليمينج (2)
كنافة البحر
موسم الحبش
الحادثة
حافلة باردون
برو
عشاء عيد العمال
السيدة كروس والسيدة كيد
قصص الحظ العاثر
الزائرون
أقمار المشتري
أقمار المشتري
أقمار المشتري
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مروة عبد السلام
مراجعة
إيمان عبد الغني نجم
من أفضل ما قيل عن الكتاب
القصة القصيرة ليست بحاجة إلى الطول، ولكن جعلها أقصر هو ما يستغرق وقتا طويلا.
هنري ديفيد ثورو
ما من بديل عن قراءة هذه القصص والاستمتاع بمهارات واحدة من أعظم مؤلفي القصص القصيرة في عصرنا.
ويليام فرينش، صحيفة «ذا جلوب آند ميل»
في قصصها المحببة إلى النفس، يبرز لحن يفيض حياة ويسلب الألباب.
مجلة «تايم ماجازين»
إلى بوب ويفر
شكر وتقدير
نشرت بعض قصص هذه المجموعة من قبل في عدد من المصادر كما يلي: «آل تشادلي وآل فليمينج: (1) الرابطة»: مجلة «شاتيلين»، نوفمبر 1979. «آل تشادلي وآل فليمينج: (2) حجر في الحقل»: مجلة «ساترداي نايت»، أبريل 1979. «كنافة البحر»: مجلة «ذا نيويوركر»، 21 يوليو 1980. «موسم الحبش»: مجلة «ذا نيويوركر»، 29 ديسمبر 1980. «الحادثة»: مجلة «تورنتو لايف»، نوفمبر 1977. «برو»: مجلة «ذا نيويوركر»، 30 مارس 1981. «عشاء عيد العمال»: مجلة «ذا نيويوركر»، 28 سبتمبر 1981. «السيدة كروس والسيدة كيد»: مجلة «تاماراك ريفيو»، شتاء 1982. «الزائرون»: مجلة «ذي أتلانتك مانثلي»، أبريل 1982. «أقمار المشتري»: مجلة «ذا نيويوركر»، 22 مايو 1978.
مقدمة
أجد صعوبة بالغة في التحدث عن أي عمل أؤلفه، أو النظر إليه - ناهيك عن قراءته - بعد نشره، وهو أسير الكتاب الذي طبع فيه. لماذا؟ جزء من هذا مجرد هاجس يراودني: ألم يكن من الممكن أن أكتبه بأسلوب أفضل، أو أن أهتدي إلى طريقة تخدمني بها الكلمات بصورة أصلح؟ ليس مجديا التفكير في هذا؛ فها هي ملقاة على سطح صفحات جامدة. ولكن ليس هذا كل شيء؛ فالقصة نوع من الامتداد لشخصيتي، شيء كان جزءا مني، ثم انفصل عني، وابتتر الآن، وأصبح مكشوفا ووحيدا. ليس الخجل أو الندم هو ما أشعر به بالضبط؛ فسأكون منافقة لو زعمت أنني أشعر بهذا، بما أن الانكشاف - أو نشر الكتاب - كان بالتأكيد ما يهمني طيلة الوقت، وإنما هو شعور بالانزعاج، أو عدم الرغبة في النظر فيه أو المراجعة. أحاول أن أجيد التحدث عن قصصي؛ لإحساسي أن هذا شيء بدائي وطفولي. وسأحاول الآن.
بعض من هذه القصص أقرب إلى حياتي الخاصة من بعضها الآخر، ولكن ليس من بينها ما اقترب من حياتي بالشكل الذي يتخيله الناس؛ فالقصة التي تحمل عنوان المجموعة القصصية لها علاقة بموت والدي، وهي ترتبط بزيارة قمت بها - خلال الصيف الذي أعقب وفاته - إلى قبة مكلافلن السماوية. ولكن لو انتويت أن أكتب - ولو حتى لأرضي نفسي - وصفا لموت والدي أو الرحلة التي قمت بها مع أصغر بناتي وأخيها غير الشقيق إلى القبة السماوية، فستكون النتيجة مختلفة تماما، ليس فقط من حيث التفاصيل الواقعية أو الأحداث، وإنما من حيث الإحساس. عندما تشرع في تأليف قصة، تجتمع عدة أشياء من أركان بعيدة في عقلك لتسيطر عليه. لربما ظننت أن بعض الأمور ستكون جزءا من القصة ولكنك تغفلها، في حين أنك تضخم أمورا أخرى. وهكذا فأنت تنسج خيوط القصة بمزيج من الأمل والرهبة والاندهاش المتكرر. ولو كانت القصة من نوع معين - بضمير المتكلم، فتبدو ساذجة ومباشرة - يتصور الناس أن كل ما فعلته هو أنك سجلت كل ما حدث في يوم معين.
وإنه لأمر جيد أن يعتقدوا هذا؛ لأنه يعني أن القصة أقنعتهم.
ألفت جميع القصص الواردة - بكل صدق - بالطريقة نفسها. بعضها مبني على تجربة شخصية - مثل «أقمار المشتري» أو «حجر في الحقل» - في حين بني بعضها الآخر على المشاهدات - مثل «الزائرون» أو «السيدة كروس والسيدة كيد». يضيع هذا الاختلاف خلال عملية التأليف، أو هذا ما يجب أن يحدث؛ فقد ابتعدت تماما بالقصص المأخوذة من تجربة شخصية عن الواقع. أما القصص المعتمدة على مشاهداتي، فتفقد حدودها القصصية؛ نتيجة سيطرة أشكال وأصوات مألوفة عليها.
أو هذا ما آمله على أية حال.
لأوصل فكرتي بوضوح، فإن تأليف قصة «موسم الحبش» قد يلقي بعض الضوء على هذه العملية؛ فقد حاولت بشكل متقطع على مدار سنوات تأليف قصة تدور حول فندق كنت أعمل فيه نادلة، وأنا في التاسعة عشرة من العمر. كان هذا فندقا صيفيا من الدرجة الثانية في مسكوكا. كنت أريد أن أكتب شيئا عن المساعد الأول للطباخ، وهو رجل غامض ومثير للإعجاب، والمساعد الثاني للطباخ مقطب الجبين الذي قد يكون أو لا يكون عشيقه، وشيف الحلويات الذي كان بذيئا بطبعه، وكذلك عن امرأة مبتذلة، والتي وصلت لتطارد المساعد الأول للطباخ، وعن تأثير هذا كله على هذه الفتاة الشابة، العادية، الخرقاء، الفضولية، الخجولة. ولكني لم أبلغ مدى بعيدا في تأليف هذه القصة. ثم عثرت ذات يوم - وسط أوراق أبي - على صورة فوتوغرافية للعمال الموسميين الذين كانوا يعملون في حظيرة ديوك الحبش التي كان يديرها. أعتقد أن الصورة التقطت عشية عيد الميلاد. وثمة مسحة مقترنة بالعصور الوسطى تتسم بها؛ الأثواب الفضفاضة، والعمامات، والمآزر، والوجوه المنهكة، التي تبدو ودودة ومريبة في آن واحد، ساخرة ومطيعة، ماكرة ومستكينة. جعلتني الصورة أفكر في أنواع معينة من العمل الشاق، في جوانب الرضى وروح الألفة والمجهود القاسي. لاحظت أن الشخصيات التي وظفتها في قصة الفندق قد التحمت بهذه القصة؛ فكان المساعد الأول للطباخ هو كبير العمال، بينما اتحد المساعد الثاني للطباخ وشيف الحلويات في هيئة براين، الشاب، العامل المؤقت، غير الكفء. أما المرأة المبتذلة، شديدة التصميم على ملاحقة الطباخ/كبير العمال فجسدتها جلاديس. وقد عرفت عن مارجوري وليلي من القصص التي سمعتها من أقاربي، ولدى مصفف الشعر. وكان مهما للغاية بالنسبة إلي أن أفهم العملية الفعلية لاستخراج أحشاء ديوك الحبش، وقد أسعفني حظي بحصولي على وصف دقيق لها من شقيق زوجي، الذي أهديت له قصة «موسم الحبش». ولكن الآن بعد أن كشفت خيوط تلك القصة، هل زاد فهمنا لما تدور حوله؟ هل هي عن الجنس؟ أم العمل؟ أم ديوك الحبش؟ أم وسائل الراحة والتسلية لامرأة في منتصف العمر؟ أم اكتشافات الفتاة الشابة؟ عندما أفكر في القصة، أفكر في اللحظة التي تخرج فيها مارجوري وليلي والفتاة من حظيرة الحبش، بينما يتساقط الثلج، فيعقدن أذرعهن ويصدحن بالغناء. أعتقد أنه من الأفضل أن تضم كل قصة بين جنباتها لحظة مشرقة غريبة كهذه، وبطريقة أو بأخرى هذا ما تدور حوله القصة.
كانت قصة «الحادثة» أول قصة أؤلفها في هذه المجموعة، وذلك في شتاء عام 1977. كنت أعمل في المقام الأول وقتذاك على كتابة قصص من أجل مجموعة قصصية أخرى. أما «حافلة باردون»، فكانت القصة الأخيرة في هذه المجموعة، وقد كتبتها في خريف عام 1981. وجميعها ألفته في أثناء إقامتي بكلينتون، أونتاريو. خلال تلك السنوات سافرت إلى أستراليا، والصين، ورينو، وسولت ليك سيتي، والعديد من الأماكن، ولكني لم أجد أن السفر قد ترك أثرا كبيرا في ككاتبة. قصة «حافلة باردون» - على سبيل المثال - تدور بعض أحداثها في أستراليا، ولكنها تدور بشكل أخص في بضعة بيوت غريبة وقذرة وصاخبة في شارع كوين بتورونتو، حيث أعيش غالبا خلال شهور الصيف.
سأحاول جاهدة - الآن - أن أتذكر ما تدور حوله هذه القصص. وهذا شيء غريب. فأنا أؤلفها بحماس وتفان وجهد كتوم، ثم بعد ذلك أفارقها وأتركها، لكي تقوى وتستقر في مكانها المحتوم. هذا يشعرني بالحرية. ما أفعله بعد ذلك أنني أشرع في حشد طاقاتي، والاستعداد للقيام بنفس العمل مرة أخرى.
أليس مونرو
كلينتون، أونتاريو، 1985
آل تشادلي وآل فليمينج (1)
الرابطة
قريبتي أيريس من فيلادلفيا، وتعمل ممرضة، وقريبتي إيزابيل من دي موين، وتملك متجرا لبيع الزهور، وقريبتي فلورا من وينيبيج، وهي معلمة، وقريبتي وينيفريد من إدمنتون، وهي محاسبة؛ كن يوصفن جميعا بالعوانس. فقد كان لقب آنسات أرق من أن يصفهن أبدا؛ إذ كانت أثداؤهن ضخمة ومرعبة - ككتلة مصفحة واحدة - وبطونهن ومؤخراتهن ممتلئة ومشدودة بالمشد كأية امرأة متزوجة. في تلك الأيام، بدا أنه من المحبذ للنساء أن تمتلئ أجسامهن وتنضج حتى تصل إلى مقاس مناسب يبلغ العشرين، هذا إذا أردن أن يحظين بأي شيء في الحياة على الإطلاق. ثم - بحسب الطبقة الاجتماعية والطموحات الشخصية - إما أن تتهدل أجسادهن وترتخي، وتهتز مثل الكاسترد داخل فساتينهن شاحبة اللون ومآزرهن المبللة، أو تتخذ أشكالا ليس لانحناءاتها المشدودة ولا تضاريسها الباعثة على الفخر أية علاقة بالجنس، وإنما تكون مرتبطة أشد الارتباط بالحقوق والنفوذ.
كانت أمي وقريباتها من ذلك النوع الثاني من النساء؛ فكن يرتدين مشدا يرفع أجنابهن بعشرات الكلابات والعراوي، وجوارب تهسهس وتصر عندما يعقدن أقدامهن، وفساتين حريرية لأوقات بعد الظهر (مع العلم أن أمي حصلت على فستانها من إحدى قريباتها)، ويضعن بودرة للوجه (ريتشيل)، وبودرة للوجنتين، وعطرا، ومشابك شعر صدفية أصلية أو مقلدة لتزيين شعورهن. لا يمكن تخيلهن دون هذا المظهر، ما لم تلفهن بالكامل أرواب ستان مبطنة. وبالنسبة إلى أمي، كان من الصعب الإبقاء على هذا المظهر؛ إذ كان يتطلب براعة وتفانيا ومجهودا رهيبا. ومن كان يقدره؟ هي كانت تقدره.
جئن جميعهن ذات مرة لقضاء الصيف معنا. وقد قدمن إلى بيتنا لأن أمي كانت الوحيدة المتزوجة بينهن، ومنزلها كبير بما يكفي ليسع الجميع، ولأنها كانت فقيرة بما لا يتيح لها زيارتهن. كنا نعيش في داجليش بمقاطعة هورون في ويسترن أونتاريو، وقد سجل تعداد سكانها البالغ 2000 نسمة على لافتة عند حدود المدينة. صاحت قريبتنا أيريس، وهي تلهث جاهدة للخروج من مقعد السائق: «الآن أصبح التعداد 2004 نسمات.» كانت سيارتها أولدز موبيل موديل 1939، وقد قادتها إلى وينيبيج لتقل فلورا، ووينيفريد التي جاءتها من إدمنتون بالقطار. ثم توجه ثلاثتهن بالسيارة إلى تورونتو ليجلبن إيزابيل.
قالت إيزابيل: «ونحن الأربعة نخلق مشاكل أكثر من الألفي شخص مجتمعين. أين حدث هذا - أكان في أورانجفيل؟ - حيث ضحكنا من صميم قلوبنا لدرجة أن أيريس اضطرت إلى إيقاف السيارة؟ كانت تخشى أن تسقط بالسيارة داخل القناة!»
أصدرت السلالم صوت صرير تحت أقدامهن. «استنشقن هذا الهواء! أوه، لا يمكن لشيء أن ينافس هواء الريف النقي. أهذه هي الطلمبة التي تحصلون من خلالها على ماء الشرب؟ ألن يكون هذا ممتعا الآن؟ كوب من مياه الآبار!»
طلبت مني أمي أن أحضر كوبا، ولكنهن أصررن على الشرب من الكوب الصفيح.
بدأن يحكين عن أيريس وكيف أنها دخلت أحد الحقول لتلبي نداء الطبيعة، ثم رفعت رأسها لتجد نفسها محاطة بحلقة من الأبقار الفضولية.
قالت أيريس: «هذا هراء! لقد كانت عجولا مخصية.»
فقالت وينيفريد وهي تجلس على كرسي من الخيزران، وقد كانت أسمنهن: «لمعلوماتك كانوا ثيرانا.»
فردت أيريس: «ثيران! كنت سأعرف لو كانوا كذلك! أرجو أن يتحمل أثاثهم ثقل وزنك يا وينيفريد. لعلمك لقد كنت أجر مؤخرة سيارتي المسكينة جرا. ثيران! يا لها من صدمة! والعجيب أنني استطعت ارتداء سروالي!»
ثم حكين عن المدينة التي بدت وحشية في نورثرن أونتاريو، حيث رفضت أيريس التوقف بالسيارة ولو لشراء مياه غازية. فقد ألقت نظرة واحدة على الحطابين وصرخت: «سنتعرض جميعا للاغتصاب!»
سألت شقيقتي الصغرى: «ما معنى اغتصاب؟!»
فردت أيريس: «امم ... معناه سرقة محفظتك.»
محفظة: كلمة أمريكية لا تنتمي إلى مجتمعنا. ولم نكن أنا وشقيقتي نعلم معناها هي أيضا، ولكننا لم نستطع أن نطرح سؤالين على التوالي. كما أنني كنت أعلم أن هذا ليس معنى الاغتصاب على أية حال؛ فهو يعني شيئا قذرا.
قالت أمي بنبرة مرحة وتحذيرية في نفس الوقت؛ إذ كان الحديث داخل بيتنا يتسم بالتهذيب: «حقيبة. سرقة حقيبتك.»
الآن حانت لحظة فتح الهدايا. علب من القهوة، وبودنج بالجوز والبلح، ومحار، وزيتون، وسجائر جاهزة من أجل أبي. كن جميعا يدخن أيضا، باستثناء فلورا، المعلمة القادمة من وينيبيج. ورغم أن هذه كانت آنذاك علامة على التحضر، فإنها في داجليش علامة على احتمالية انحلال الأخلاق. وقد جعلنها رفاهية تتسم بالاحترام.
كما كانت الجوارب والأوشحة من بين الهدايا أيضا، وبلوزة من نسيج الفوال هدية لأمي، ومئزرتان بيضاوان متيبستان من نسيج الأورجندي هدية لي ولشقيقتي (وكانتا أحدث صيحة، ربما، في دي موين أو فيلادلفيا، ولكنها كانت سقطة في داجليش؛ حيث لم ينفك الناس يسألوننا عن السبب وراء عدم خلعنا لمئزرتينا). وأخيرا ، علبة شيكولاتة تزن خمسة أرطال. وبعد أن أكلنا الشيكولاتة بوقت طويل، وبعد رحيل قريباتنا، احتفظنا بعلبة الشيكولاتة في درج البياضات في بوفيه غرفة الطعام، في انتظار استخدامها لغرض احتفالي لم يحل علينا قط. كانت لم تزل ممتلئة بأكواب الشيكولاتة الورقية الفارغة السوداء والمحززة. خلال الشتاء أذهب أحيانا إلى غرفة الطعام الباردة وأشم الأكواب، مستنشقة رائحتها الدالة على جودة الصنع والرفاهية، وأقرأ ثانية الأوصاف الموجودة في الصورة المطبوعة على الوجه الداخلي لسطح العلبة: البندق، والنوجا القشدية، والحلوى التركية، والطوفي الذهبي، والقشدة بالنعناع. •••
نامت قريباتنا في غرفة النوم بالطابق السفلي، وعلى الأريكة السريرية المفرودة في غرفة المعيشة. ولو ارتفعت حرارة الجو خلال الليل لم يجدن حرجا في جر الفراش إلى الشرفة، أو حتى إلى الفناء. وكن يجرين القرعة لاختيار من ستنام في الأرجوحة الشبكية، ولكن لم يكن من حق وينيفريد الاشتراك في هذه القرعة. وبعد منتصف الليل كان يمكن سماعهن يقهقهن، ويسكتن بعضهن بعضا، ويصرخن: «ماذا كان ذلك؟» ولأننا كنا بعيدين عن أضواء شوارع داجليش، فقد أعجبهن الظلام، وعدد النجوم الهائل على صفحة السماء.
وذات مرة قررن الغناء:
جدف، جدف، جدف بقاربك.
ادخل به النهر برفق.
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
فما الحياة إلا حلم.
كن يرين داجليش حلما يتخطى الواقع. وقد قدن سيارتهن إلى أعلى المدينة، وحكين عن غرابة أصحاب المتاجر، وكن يكررن أشياء سمعنها مصادفة في الشارع. وفي صباح كل يوم، كانت القهوة التي جلبنها معهن تملأ البيت برائحتها الأمريكية غير المألوفة، ثم يجلسن باسترخاء ويسألن عمن لديها فكرة عن كيفية قضاء يومهن. تمحورت إحدى الأفكار حول قيادة السيارة داخل الريف وجمع التوت. فتعرضن للخدش وارتفاع درجة الحرارة، وفي مرحلة ما علقت وينيفريد تماما - بلا حراك - بسبب الأغصان الشائكة، وجأرت طلبا لمن ينجدها. ومع هذا فقد قلن إنهن استمتعن بوقتهن كثيرا. وتمحورت فكرة أخرى حول استعارة صنارات أبي والذهاب إلى النهر. ثم عدن إلى البيت بصيدة من سمك القاروص، وهو نوع من الأسماك عادة ما نعيده إلى النهر. كما نظمن رحلات ، فكن يلبسن ثيابا عتيقة، وقبعات قديمة من القش، وبدلات العمل الخاصة بأبي، ويلتقطن الصور بعضهن لبعض. هذا غير أنهن صنعن كعكات متعددة الطبقات، وسلاطات مقولبة رائعة تتخذ شكل المعابد، وملونة مثل الحلي.
وذات مساء أقمن حفلا موسيقيا. وقامت أيريس بدور مغنية أوبرا. وأخذت المفرش الذي كان يغطي المنضدة بغرفة الطعام لتكسو نفسها به، وأرسلتني لأجمع لها ريش الدجاج لتضعه في شعرها. غنت «نداء الحب الهندي» و«النساء متقلبات». ثم أدت وينيفريد دور لص بنوك، حاملة معها مسدس ماء اشترته من أحد المتاجر. وكان على كل فرد أن يفعل شيئا؛ فأنشدنا أنا وشقيقتي «زهرة تكساس الصفراء» والتسابيح. أما أمي، فلدهشتنا الكبرى، ارتدت سروال أبي ووقفت على رأسها.
وسواء كانت قريباتنا متفرجات أو مؤديات، فقد كن معا، خلال كل لحظة يقظة. وأحيانا خلال نومهن؛ إذ كانت فلورا تتحدث في أثناء نومها. وبما أنها أيضا كانت أكثرهن تهذيبا وحرصا، كانت الأخريات يبقين مستيقظات ليطرحن عليها أسئلة، ليجبرنها على قول شيء يحرجها. وقد أخبرنها أنها كثيرة اللعن، وقلن: إنها نهضت فجأة وطلبت قائلة: «لماذا لا يوجد إصبع طباشير بحق الجحيم؟»
لقد كانت أقلهن معزة لدي؛ لأنها كانت تحاول شحذ عقلينا - أنا وشقيقتي - بطرحها أسئلة حسابية ذهنية علينا: «لو استغرقت سبع دقائق لأتخطى سبعة أحياء سكنية، وكانت خمسة أحياء بنفس المسافة، ولكن كان الحيان الآخران ضعف المسافة ...»
قالت أيريس، التي كانت أكثرهن وقاحة: «أوه، أنت لا تعرفين شيئا عن هذا يا فلورا!»
لو لم يجدن أية أفكار جديدة، أو كان الجو حارا بما لا يتيح القيام بأي شيء، كن يجلسن في الشرفة يحتسين عصير الليمون، أو عصير الفواكه المسكر، أو جعة الزنجبيل، أو الشاي المثلج، مع التوت الأسود وقطع الثلج المتكسرة من الكتلة الضخمة الموجودة بثلاجتنا. أحيانا كانت أمي تزين الأكواب بتغطيس حوافها في بياض البيض المخفوق، ثم في السكر. وكانت قريباتنا يقلن: إنهن منهكات، وإنهن لا يجدن عمل شيء. ولكن كان لشكاواهن صوت مسموع، كما لو أن حرارة الصيف نفسها قد وجدت لتضيف المزيد من التعاسة إلى حياتهن. •••
كفانا تعاسة.
في العالم الأرحب، وقعت أمور لهن: حوادث، وعروض زواج، ومواجهات مع مخابيل وأعداء. كان يمكن لأيريس أن تصبح ثرية؛ فقد وصلت أرملة مليونير إلى المستشفى في يوم من الأيام، وهي امرأة عجوز اعتراها الجنون وترتدي شعرا مستعارا أشبه بكومة القش، وقد جاءت على كرسي متحرك، متعلقة بحقيبة سفر قماشية. ما الذي سيكون بداخل الحقيبة سوى مجوهرات، مجوهرات حقيقية، زمرد وألماس ولؤلؤ كبير كبيض الدجاج. وما من أحد سوى أيريس استطاع التعامل معها؛ فأيريس هي من أقنعتها بإلقاء الشعر المستعار في القمامة (إذ كان مليئا بالبراغيث)، وإيداع مجوهراتها في خزانة البنك. فتعلقت هذه المرأة العجوز بأيريس كثيرا لدرجة أنها أرادت أن تعيد كتابة وصيتها، وأن تترك لأيريس المجوهرات والأسهم والأموال والمباني السكنية. لكن أيريس رفضت ذلك، من منطلق الأخلاق المهنية. «أنا موضع ثقة. يجب أن تكون الممرضة موضع ثقة.»
ثم حكت عن الممثل الذي عرض عليها الزواج وهو يحتضر نتيجة انغماسه الشديد في الملذات. لقد سمحت له بأن يتجرع زجاجة مطهر للفم لأنها لم تر أن فارقا سيحدث. كان ممثلا مسرحيا؛ وبالتالي لم نكن سنعرف اسمه حتى لو أخبرتنا، وهو ما لم تفعله.
كما أنها رأت شخصيات أخرى مهمة، من مشاهير وعلية القوم في فيلادلفيا، وهم في أسوأ حالاتهم.
قالت وينيفريد: إنها اطلعت على بعض الأمور أيضا. فالحقيقة الفعلية، الحقيقة المفزعة الفعلية حول بعض هؤلاء الأثرياء وعلية القوم تنكشف عندما تلقي نظرة على مالياتهم. •••
كنا نعيش عند نهاية طريق يمتد غربا من داجليش فوق أرض قذرة تعلوها مساكن خشبية صغيرة وأسراب من الدجاج والأطفال. كانت الأرض مرتفعة إلى مستوى مقبول حيث كنا نعيش، ثم تنحدر في الحقول والمروج الواسعة، مزينة بشجر الدردار، نزولا إلى منعطف النهر. وكان منزلنا متواضعا أيضا؛ مجرد بيت قديم مبني من الطوب بحجم مناسب، ولكنه كان في مواجهة الرياح، ومبنيا بطريقة غير مريحة، وزخارفه بحاجة إلى الطلاء. كانت أمي تنوي إصلاحه وتغييره بشكل جذري بمجرد حصولنا على بعض المال.
لم تفكر أمي كثيرا في مدينة داجليش؛ فعادة ما تعود بذاكرتها إلى الوراء، إلى مدينة فورك ميلز، في وادي أوتاوا، حيث ارتادت وقريباتها المدرسة الثانوية، وهي أيضا المدينة التي حط فيها جدهم قادما من إنجلترا. كما كانت تحن إلى إنجلترا، التي بالطبع لم ترها قط. كانت تشيد بفورك ميلز بسبب بيوتها الحجرية، ومبانيها العامة البديعة غير المبهرجة (المختلفة تماما - حسب قولها - عن مقاطعة هورون؛ حيث سادت فكرة تشييد بشاعات حجرية وإلصاق الأبراج بها)، وشوارعها الممهدة، ورقي الخدمات في متاجرها، والجودة العالية التي تتميز بها المعروضات، والطبقة الراقية التي ينتمي إليها السكان. من يعتبر نفسه راقيا في داجليش، فسيكون مثار سخرية العائلات الكبرى في فورك ميلز. ولكن مع هذا، كانت تلك العائلات الكبرى في فورك ميلز هي نفسها التي ستتعامل بتواضع لو احتكت بعائلات معينة في إنجلترا، والتي ترتبط بها أمي.
الرابطة. هذا كل ما يهم. كانت قريباتنا في حد ذاتهن عرضا يستحق المشاهدة، ولكنهن كن يمثلن رابطة تصل بيننا وبين العالم الواقعي والخصب والخطير. كن يعرفن كيفية التعامل معه، وجعله يلاحظ وجودهن. كن يستطعن السيطرة على فصل مدرسي، أو على جناح الولادة في مستشفى، أو على الجمهور بشكل عام. كن يعلمن كيفية التعامل مع سائقي سيارات الأجرة ومحصلي التذاكر في القطارات.
أما الرابطة الأخرى التي وفرنها - ووفرتها أمي أيضا - فكانت الرابطة مع إنجلترا والتاريخ. فمن المعروف أن الكنديين من أصل اسكتلندي - الذين نسميهم في مقاطعة هورون اسكتلنديين - وأحفاد الأيرلنديين سيخبرونك بتحرر تام أن أجدادهم قد جاءوا خلال مجاعة البطاطس بثيابهم المهلهلة، أو أنهم كانوا يعملون في رعي الغنم أو الزراعة، أو كانوا فقراء بلا أراض يتملكونها. ولكن أي شخص جاء أجداده من إنجلترا سيروي لك قصة عن أنه كان منبوذا في عائلته أو أنه كان الابن الأصغر الذي حرم من إرثه، أو عن النكسات المالية، أو المواريث المفقودة، أو الهروب للزواج من أشخاص غير مناسبين. وقد يكون هناك قدر من الحقيقة في هذه الروايات؛ فالأوضاع في اسكتلندا وأيرلندا كانت تدفع دفعا نحو الهجرة الجماعية، في حين قد يكون الإنجليز قد قرروا هجرة وطنهم لأسباب شخصية أقل درامية.
كان هذا هو الوضع في حالة آل تشادلي؛ عائلة أمي. لم تكن كل من إيزابيل وأيريس منتميتين بالاسم إلى آل تشادلي، ولكن كانت أمهما كذلك. كما كانت أمي منتمية إلى آل تشادلي، رغم أنها تنتمي الآن إلى آل فليمينج. أما فلورا ووينيفريد فلم تزالا منتميتين إلى آل تشادلي. وجميعهن انحدرن من جد ترك إنجلترا في شبابه لأسباب لم يتفقن عليها إلى حد ما؛ فقد كانت أمي تعتقد أنه كان طالبا في جامعة أكسفورد، ولكنه خسر كل الأموال التي أرسلتها عائلته له، فخجل من العودة لوطنه. لقد خسر أمواله في لعب القمار. كلا - حسب زعم إيزابيل - كانت هذه مجرد شائعة، وما حدث فعلا هو أنه ورط إحدى الخادمات في خطب ما واضطر إلى الزواج منها والذهاب بها إلى كندا. كانت عزب العائلة قريبة من كانتربري، حسب قول أمي. (حيث حجاج كانتربري، وأجراس كانتربري.) ولكن لم تكن الأخريان واثقتين من هذا؛ فقد قالت فلورا: إنهم كانوا يعيشون في غرب إنجلترا، وقيل: إن اسم تشادلي مرتبط بتشولموندلي؛ حيث كان هناك من يسمى باللورد تشولموندلي، وربما يكون آل تشادلي فرعا منتميا إلى هذه العائلة. ولكنها قالت إن هناك أيضا احتمالية بأن يكون الاسم فرنسيا، وكان أصله
Champ de laiche ، والذي يعني حقل البردي. في هذه الحالة، قد تكون العائلة قد قدمت على الأرجح إلى إنجلترا مع دخول ويليام الفاتح.
قالت إيزابيل: إنها ليست مثقفة، وإن الشخصية الوحيدة التي تعرفها في التاريخ الإنجليزي هي ماري ملكة اسكتلندا. وقد أرادت أن يخبرها أحد ما إن كان ويليام الفاتح قد جاء قبل ماري ملكة اسكتلندا، أم بعدها.
فقال أبي بلطف: «حقول البردي، لم يكن هذا ليجعلهم أثرياء.»
فردت أيريس: «حسنا، أنا لم أكن لأفرق بين البردي والشوفان. ولكنهم كانوا أثرياء بما يكفي في إنجلترا، وحسبما قاله جدي، فقد كانوا من الطبقة الأرستقراطية هناك.»
قالت فلورا: «هذا في السابق، كما أن ماري ملكة اسكتلندا لم تكن حتى إنجليزية.»
ردت إيزابيل: «خمنت هذا من الاسم، لقد أضحكتني.»
كانت كل منهن تعتقد - بغض النظر عن التفاصيل - أن العائلة قد تعرضت لانتكاسة كبرى، ونكبة غامضة، وأن في إنجلترا - بعيدا عن متناولهم - توجد أراض وبيوت وراحة وشرف. كيف يفكرن بغير ذلك وهن يتذكرن جدهن؟
لقد عمل موظفا بهيئة البريد - في فورك ميلز - وأنجبت له زوجته - سواء أكانت خادمة مغررا بها أم لا - ثمانية أطفال، ثم ماتت. وبمجرد خروج الأطفال الأكبر سنا إلى العمل والمساهمة في الإنفاق على البيت - إذ لم تكن هناك فائدة من تعليمهم - ترك الأب العمل. وكان شجاره مع مدير مكتب البريد هو السبب المباشر، ولكنه في الحقيقة لم يكن ينوي العمل لفترة أطول، وكان قد اتخذ قرارا بالبقاء في البيت ليعوله أبناؤه. وكان يتسم بروح الرجل النبيل، وكان كثير الاطلاع، وبليغ الخطاب وشديد الاعتداد بنفسه. ولم يتردد أبناؤه في إعالته، فانغمسوا في وظائفهم المتدنية، ولكنهم دفعوا أبناءهم - بعد أن اكتفوا بطفل أو اثنين لكل واحد، وكان معظمهم من البنات - للالتحاق بكليات إدارة الأعمال والمعلمين والتمريض. وكثيرا ما تحدثت أمي وقريباتها - اللاتي كن هؤلاء الأبناء - عن جدهن الذي اتصف بالعناد والأنانية، ونادرا ما تحدثن عن آبائهن المطحونين المحترمين. كن ينتقدن تكبره، وفي نفس الوقت يشدن بوسامته حتى بعد أن تقدمت به السن. كانت إهاناته للناس جاهزة ومطابقة للموقف، وانتقاداته لاذعة. وذات مرة - في تورونتو البعيدة، وفي الطابق الأرضي بإيتون في واقع الأمر - خاطبته زوجة صانع السروج القادمة من فورك ميلز، وهي امرأة بلهاء غير مؤذية، صائحة: «حسنا، أليس من الرائع أن أقابل صديقا قادما من وطني البعيد؟»
فقال الجد تشادلي: «سيدتي، أنت لست صديقتي.»
قلن: إنه كان يحب وضع الحدود. «سيدتي، أنت لست صديقتي!» يا له من عجوز متكبر! كان يختال في المكان رافعا أنفه في السماء كذكر الإوز المنتصر. وهناك سيدة أخرى من طبقة اجتماعية أدنى - حسب وصفه - كانت من اللطف لتجلب له بعض الحساء عندما أصابته نزلة برد. ورغم جلوسه في مطبخ ابنته - ليس حتى بيته هو - وهو ينقع قدميه في الماء - أثناء مرضه بل احتضاره في حقيقة الأمر - لم يزل بالوقاحة ليدير ظهره لها، ويترك لابنته مهمة شكرها. كان يحتقرها، فقد كانت شنيعة في استخدام القواعد النحوية، وكانت بلا أسنان. «ولكنه أيضا كان بلا أسنان! في هذا الوقت كان قد فقد جميع أسنانه!» «يا له من مغفل عجوز مدع!» «وعالة على أبنائه.» «مجرد كتلة من الغرور والتكبر. هذا كل ما كان عليه.»
ولكنهن في أثناء سرد هذه القصص - وهن يتضاحكن - كن ممتلئات هن أنفسهن بالغرور والتبجح. لقد كن فخورات لانتمائهن إلى مثل هذا الجد. كن يؤمن أن رفض مخاطبة الأشخاص المتدنين شيء مشين وحقير، وأن إظهار التميز على الغير شيء سخيف، خصوصا عندما يفقد المرء أسنانه، ولكنهن ما زلن معجبات به نوعا ما. هذا حقيقي. كن معجبات بإهاناته التي صبها على رئيسه - مدير مكتب البريد الكادح - وبسلوكه المتفاخر الذي صبه على جيرانه، مواطني كندا الديمقراطيين. (يا له من شيء مشين ألا يتعرف علي، هكذا قالت جارته المسكينة العجوز عديمة الأسنان.) ربما يكن حتى معجبات بقراره بترك أبنائه للعمل. كن يصفنه بالرجل النبيل. وكان حديثهن متناقضا، ولكن انتماءهن إلى هذا الجد ظل أمرا يسرهن.
لم أستطع فهم هذا، سواء في ذلك الوقت أو بعده. كانت الدماء الاسكتلندية هي التي تجري في عروقي؛ دماء أبي. فأبي لم يكن ليعترف أبدا بوجود أشخاص أقل شأنا أو أعلى شأنا. كان مؤمنا كثيرا بالمساواة، مشددا على ألا «نشتكي» - حسب قوله - لأي شخص، وألا نخضع لأحد، وألا نتعالى على أحد أيضا، وأن نتصرف كما لو لم يكن هناك فروق بين الناس. لقد سلكت نفس الطريق. كانت هناك أوقات - لاحقة - تساءلت فيها ما إذا كان التعقل المسبب للعجز هو الذي شكل لديه هذا الرأي، بقدر مساهمة أي مشاعر مرهفة أخرى؛ وتساءلت عما إذا كنت أنا وأبي لا نحمل في قلوبنا أفكارا سليمة ومنيعة عن التفوق والأفضلية، الأمر الذي لا يمكن لأمي وقريباتها بغطرستهن البريئة مضاهاتها أبدا. •••
لم يكن استلام خطاب من عائلة تشادلي في إنجلترا - بعد ذلك بسنوات - بهذا القدر من الأهمية بالنسبة إلي. كان الخطاب من امرأة عجوز تبحث في شجرة العائلة. اتضح في النهاية أنه كانت للعائلة فعلا أصول في إنجلترا، وأنهم لم ينبذوا فروعهم التي تعيش في الخارج، بل كانوا يحاولون الوصول إليها. كان جدي الأكبر معروفا لديهم. كان اسمه في شجرة العائلة: جوزيف إلينجتون تشادلي. وقد ذكر سجل الزواج أنه كان يعمل صبيا لدى جزار. كان متزوجا من هيلينا روز أرمور - وهي خادمة - في عام 1859. إذن فقد تزوج فعلا خادمة. ولكن ربما لم يكن أمر ديونه من لعب القمار في أكسفورد حقيقيا. فهل كان النبلاء الذين لم يحققوا النجاح في أكسفورد يذهبون للعمل لدى جزار؟
خطر لي أنه لو كان استمر في مهنة الجزارة، لتمكن أبناؤه من دخول المدرسة. وربما كان يمكن أن يصبح رجلا ثريا في فورك ميلز. لم تذكر كاتبة الخطاب ارتباطه بتشولموندلي، أو حقول البردي، أو ويليام الفاتح. لقد كنا ننتمي إلى عائلة محترمة، من الخدم والحرفيين، الفلاحين أو التجار الموسميين. في وقت من الأوقات ربما كنت سأصاب بالصدمة عند اكتشافي هذا الأمر، وربما لم أكن سأصدقه. ولكن في وقت آخر - لاحق - خلال انهماكي بالتخلص من جميع المفاهيم الخاطئة، وجميع الأوهام، كنت سأشعر بالنصر. وبمجرد انكشاف الأمر، لم أعد أكترث، بأي شكل من الأشكال. كنت قد نسيت تقريبا كانتربري وأكسفورد وتشولموندلي، وتلك الصورة الأولى التي كونتها عن إنجلترا من أمي، تلك الأرض السحيقة التي يسودها الوئام والشهامة، والفرسان الممتطين خيولهم، والأخلاق الحميدة (رغم أن عائلة جدي عانت بالتأكيد تحت وطأة الحياة الخشنة)، وسيمون دي مونتفورت، ولورنا دون، وكلاب الصيد، والقلاع، ونيو فوريست، تلك المعالم النقية الريفية البهيجة والمتحضرة المرغوبة إلى الأبد.
كما كانت عيني قد تفتحت على أمور أخرى بفضل زيارة قريبتنا أيريس.
حدث هذا خلال إقامتي في فانكوفر. كنت متزوجة من ريتشارد آنذاك ولدي طفلان صغيران. وذات مساء يوم سبت رد ريتشارد على الهاتف وجاء ليناديني. «احذري، يبدو أنه أحد من داجليش.»
لطالما تفوه ريتشارد باسم موطني كما لو كان لقمة غير مستساغة في فمه يريد أن يلفظها فورا.
ذهبت إلى الهاتف وتنفست الصعداء عندما وجدت أنه لم يكن أحد من داجليش على الإطلاق. لقد كانت قريبتنا أيريس. فلم يزل شيء من لكنة وادي أوتاوا عالقا بكلامها، شيء ريفي - لم تكن هي نفسها لتشك في هذا ولم تكن لتسر به - وشيء مبهج ومرح جعل ريتشارد يفكر في أصوات داجليش. قالت: إنها في فانكوفر، وإنها تقاعدت الآن وانطلقت في رحلة، وكانت تتلهف لرؤيتي. فطلبت منها المجيء لتناول الغداء معنا في اليوم التالي. «لحظة، تقصدين بالغداء وجبة المساء، أليس كذلك؟» «بلى.» «أردت فقط أن أستوضح الأمر، لأننا حين كنا نزوركم - أتذكرين؟ - كان أهلك يتناولون الغداء في الظهيرة. كنتم تسمون وجبة الظهيرة غداء. لم أكن أحسب أنكم ما زلتم تفعلون هذا، ولكني أردت أن أتأكد.»
أخبرت ريتشارد بأن إحدى قريباتي من طرف أمي ستأتي على الغداء، وأخبرته أنها تعمل - أو كانت تعمل - ممرضة، وأنها تعيش في فيلادلفيا.
قلت له: «إنها رائعة.» وقصدت من ذلك أنها نالت قدرا من التعليم، وأنها لبقة وحسنة الخلق. وأردفت: «لقد سافرت إلى كل مكان، وهي شخصية لطيفة إلى حد كبير. وبحكم عملها كممرضة قابلت جميع أنواع الشخصيات.» ثم حكيت له عن أرملة المليونير وعن المجوهرات التي كانت تحملها في حقيبتها القماشية. وكلما تحدثت عنها أكثر، أدرك ريتشارد شكوكي وحاجتي إلى الاطمئنان، وزادت مراوغته وإثارته لقلقي. كان يعلم أنه يتمتع بميزة يتفوق بها علي، وكنا قد وصلنا إلى مرحلة في زواجنا لا يمكن فيها التخلي عن أية ميزة بسهولة.
كنت أتمنى أن تسير الزيارة على ما يرام. أردت هذا من أجل نفسي، ولكن لم تكن بواعثي لتشرفني. كنت أريد أن تظهر قريبتي أيريس كأحد أفراد عائلتي الذين لا أخجل منهم، وأردت أن يرفعني ريتشارد وأمواله وبيتنا في نظر قريبتي أيريس إلى الأبد، لينتشلني من تصنيف القريبة الفقيرة. أردت أن يتحقق كل هذا بمهارة ولياقة وضبط نفس، وأن تكون النتيجة اعترافا مرضيا بقيمتي، من الجانبين كليهما.
اعتدت التفكير بأنني لو استطعت أن أقدم لريتشارد واحدا من أقربائي، ثريا وحسن الخلق ومهما، فسيتغير موقفه تجاهي. قاض أو جراح كان ليصلح في هذا الدور. لم أكن متأكدة على الإطلاق مما إذا كانت أيريس ستصلح بديلا. وكنت قلقة من طريقة تفوه ريتشارد بكلمة «داجليش»، وذلك الأثر المتخلف عن العيش في وادي أوتاوا - إذ كان ريتشارد يمقت اللكنات الريفية، بعد معاناته مع لكنتي - وشيء آخر في صوت أيريس لم أستطع استبيانه. هل كانت شديدة التلهف لمقابلتي؟ هل تفترض أن لها حقا عائليا لم أعد أومن أنه مبرر؟
لا يهم. بدأت أذيب الثلج عن فخذ حمل لطبخه، وصنعت فطيرة بمرينج الليمون. وكانت فطيرة مرينج الليمون هي ما تعدها أمي عندما تأتي قريباتنا لزيارتنا. كانت تلمع شوكات الحلويات، وتكوي فوط المائدة. فقد كنا نملك شوكات للحلويات (أردت إخبار ريتشارد بهذا)؛ أجل، وكانت لدينا فوط للمائدة، رغم أن مرحاضنا كان في القبو، ولم تكن لدينا مياه جارية حتى انتهت الحرب. اعتدت حمل الماء الساخن إلى غرفة النوم الأمامية في الصباح كي تغتسل قريباتنا. وكنت أصبه في إبريق يشبه الأباريق التي تعرض اليوم في معارض التحف، أو التي ترص اليوم على مناضد القاعات الكبيرة، وهي ممتلئة بنباتات الزينة.
ولكن ألم يكن يهمني أي من هذا حقا، أي من هذا الهراء عن شوكات الحلويات؟ هل كنت - أو هل أنا الآن - ذلك النوع من الأشخاص الذي يتصور أن امتلاكه هذه الأشياء يعني أن موقفه تجاه الحياة متحضر؟ كلا، على العكس، أو ليس تماما، نعم ولا. نعم ولا. كان ريتشارد يستخدم كلمة الخلفية: «خلفيتك» في نبرة منخفضة تحذيرية. أم كان هذا ما سمعته أنا، ولم يقصده هو؟ عندما يقول داجليش، حتى وهو يناولني دون أن يتفوه بكلمة واحدة خطابا من موطني، أشعر بالخزي، كما لو أن شيئا دنسا يحيط بي، عفن، شيء قذر ومقبض ومحتوم. الفقر - بالنسبة إلى عائلة ريتشارد - كان أشبه برائحة النفس الكريهة أو التقرحات المفتوحة؛ كان بلوى يجب على المبتلين بها تحمل جزء من اللائمة عليها. ولكن لم يكن من حسن الخلق أن أعلق على هذا. ولو قلت يوما أمامهم أي شيء عن طفولتي أو عائلتي، فإنهم ينسحبون بعض الشيء كما لو أنهم قد شاهدوا فحشا. ولكن من المحتمل أنني أصبح حادة وخجولة، مثل الشخصية متدنية التنشئة لدى فيرجينيا وولف والتي تؤكد أنها لم تذهب يوما إلى السيرك. ربما كان هذا ما يحرجهم. لقد كانوا لبقين في التعامل معي، أما ريتشارد فلم يستطع أن يكون بمثل هذه اللباقة، بما أنه وضع نفسه في موقف محفوف بالمخاطر، بزواجه مني. أراد أن يبتر هذا الماضي من حياتي والذي بدا له متاعا رثا. كما كان يقظا لأية إشارات تدل على عدم اكتمال عملية البتر، التي بالطبع لم تكتمل.
لم تزرنا قريبات أمي مجددا، أقصد بعضهن مع بعض؛ فقد ماتت وينيفريد فجأة ذات شتاء، بعد هذه الزيارة الخالدة بثلاث أو أربع سنوات على الأكثر. كاتبت أيريس أمي لتخبرها بأن الشمل قد تفرق الآن، وأنها تشك أن وينيفريد كانت مريضة بالسكر، ولكن وينيفريد لم ترد اكتشاف هذا بسبب حبها للطعام. وأمي نفسها لم تكن بصحة جيدة، فزارها من تبقى من قريباتنا، ولكن كل منهن بشكل مستقل، وبالطبع ليس كثيرا بسبب بعد المسافة. وفي كل خطاب من خطاباتهن تقريبا، كن يشرن إلى الوقت الممتع الذي قضينه جميعا خلال ذلك الصيف. ومع دنو أجل أمي قالت: «يا إلهي، أتعرفن فيم أفكر؟ في مسدس الماء. هل تذكرن ذلك الحفل؟ وينيفريد وهي تمسك مسدس الماء! كل منا كانت تؤدي دورا في الحفل. ما الذي فعلته أنا؟» «وقفت على رأسك.» «أجل، لقد فعلت.» •••
كانت قريبتنا أيريس - عندما زارتني - قد اكتسبت مزيدا من الوزن، وتوردت وجنتاها بسبب بودرة الوجه. كانت تلهث وهي تتقدم بصعوبة عبر الشارع. لم أرغب في أن أطلب من ريتشارد الذهاب لإحضارها من الفندق. لا أقول إنني كنت خائفة من طلب هذا، ولكنني ببساطة لم أرغب في أن تبدأ الأمور بشكل غير صحيح، بأن أجبره على عمل لم يعرض القيام به. وقلت لنفسي: إنها ستستقل سيارة أجرة. ولكنها أتت إلينا بالحافلة.
كذبت عليها قائلة: «كان ريتشارد مشغولا. لكن هذه غلطتي؛ فلم أتعلم القيادة.»
قالت أيريس بثبات جأش: «لا عليكما. لقد انقطع نفسي، ولكني سأكون بخير بعد دقيقة. الشحوم على جسمي هي ما تفعل بي هذا. وهذا ما أستحقه.»
ما إن قالت «انقطع نفسي» و«الشحوم على جسمي» حتى عرفت كيف سيدور اللقاء مع ريتشارد. بل عرفت من قبل أن تقول شيئا. فقد علمت بمجرد رؤيتي لها على باب بيتي، بشعرها الذي أتذكر أنه كان بنيا مائلا للرمادي، وقد أصبح الآن ذهبيا وملفوفا في كتلة واحدة يعلوها الرذاذ الرغوي، وفستانها الغالي الأزرق كلون الطاوس والمزركش عند إحدى الكتفين بحلية ذهبية. الآن وأنا أفكر في الأمر، أرى أنها بدت مذهلة. ليتني قابلتها في مكان آخر. ليتني قدرتها قدر ما تستحق. ليت كل شيء تم بشكل مختلف.
قالت ببشاشة: «حسنا، انظري إلى نفسك الآن، لقد حققت النجاح بالفعل!» نظرت إلي، وإلى الحديقة الحجرية وأشجار الزينة والنوافذ الواسعة. كان بيتنا يقع في كابيلانو هايتس على أحد جوانب جبل جراوس. فأضافت: «اسمحي لي أن أقول إنه مكان فخم يا عزيزتي.»
استقبلتها وعرفت ريتشارد بها، فقالت له: «إذن أنت زوجها. حسنا، لن أسألك عن أحوال عملك؛ لأنني أستطيع أن أرى أنها ممتازة.»
كان ريتشارد محاميا، وكان الرجال في عائلته يعملون إما محامين أو سماسرة بورصة. ولم يشيروا قط إلى ما يمارسونه في عملهم بأنه نوع من التجارة، بل لم يشيروا إلى ما يفعلونه في عملهم قط. فالحديث عما تفعله في عملك يعتبر تصرفا سوقيا، كما أن الحديث عن أحوالك المادية كان سوقيا بشكل غير مقبول بالمرة. ولو لم أكن حتى الآن سريعة التأثر بنقد ريتشارد فلربما كنت سأستمتع برؤيتها وهي تقابله بهذا الود مباشرة.
قدمت المشروبات فورا، على أمل أن أفصل نفسي عما يحدث قليلا. كنت قد أخرجت زجاجة من الخمر الإسباني، معتقدة أن هذا ما يعرضه المرء على السيدات العجائز اللائي لسن معتادات على الشراب . ولكن أيريس ضحكت وقالت: «أوه، أريد مشروب جين وماء تونيك مثلكما.»
ثم قالت: «أتذكرين تلك المرة التي زرناكم فيها جميعا في داجليش؟ كان الجو حارا للغاية! وكانت أمك لم تزل تتمتع بأخلاق فتيات البلدات الصغيرة، ولم تكن تسمح بدخول المشروبات الكحولية إلى بيتها؛ رغم أنني لطالما اعتقدت أن أباك قد يوافق على شرب الكحوليات، لو أقنعه أحد بتجربتها. ولم تكن فلورا تشرب الكحول اعتقادا منها أنه أمر لا يصح، ولكن وينيفريد كانت مدمنة له. هل تعلمين أنها كانت تحتفظ بزجاجة شراب في حقيبتها؟ كنا نتسلل إلى غرفة نومها ونأخذ رشفة، ثم نتغرغر بماء الكولونيا. كانت تسمي بيتكم بالصحراء الكبرى. وها نحن نعبر الصحراء الكبرى. ليس معنى هذا أنكم لم تقدموا لنا ما يكفي من عصير الليمون والشاي المثلج لإغراق سفينة حربية، أو إغراق أربع سفن حربية، أليس كذلك؟»
ربما تكون قد لاحظت شيئا عندما فتحت لها الباب - بعض المفاجأة أو الفشل في الترحاب. ربما كانت متهيبة، رغم أنها كانت في الوقت نفسه سعيدة كثيرا بالبيت والأثاث، الذي كان أنيقا وكئيبا، ولم يكن كله من اختيار ريتشارد. أيا كان السبب، كانت نبرة صوتها - وهي تتحدث عن داجليش وأبوي - فيها شيء من التعالي. لا أعتقد أنها أرادت أن تذكرني بموطني ومكانتي. أعتقد أنها أرادت أن تثبت نفسها، وأن تبين لي أن هذا مكانها، أكثر من هناك. «أوه، يا لها من متعة أن أجلس هنا وأنظر إلى إطلالتكم الرائعة! هل هذه جزيرة فانكوفر؟»
رد ريتشارد على نحو غير مشجع: «بوينت جراي.» «حسنا، كان يجب أن أعلم. لقد اتجهنا إلى هناك بالحافلة أمس، ورأينا الجامعة؛ فأنا بصحبة فوج سياحي يا عزيزتي، هل أخبرتك؟ تسع عوانس وسبع نساء أرامل وثلاثة رجال أرامل. لا يوجد بيننا زوجان. ولكن كما أقول، لا يمكن للمرء التنبؤ بشيء أبدا، والرحلة لم تنته بعد.»
ابتسمت، بينما قال ريتشارد إن عليه أن ينقل رشاش الماء. «سنتجه إلى جزيرة فانكوفر غدا، ثم سنبحر بالسفينة متوجهين إلى ألاسكا. سألني الجميع في موطني عن سبب ذهابي إلى ألاسكا، وقد قلت لهم: لأنني لم أزرها قط من قبل، أليس هذا بسبب كاف؟ لا يوجد شخص غير متزوج في الفوج، أوتعرفين لماذا؟ لأنهم لا يعيشون حتى يبلغوا هذه السن! هذه حقيقة طبية. أخبري زوجك؛ أخبريه أنه قام بالعمل الصائب. ولكني لا أنوي التحدث عن عملي. كل مرة أذهب فيها في رحلة ويكتشفون أنني ممرضة يظهرون لي عمودهم الفقري ولوزهم وأيما شيء آخر. يريدونني أن أتفحصهم وأجري لهم تشخيصا مجانيا. وأنا أقول لهم: إنني اكتفيت، وإنني متقاعدة الآن، وأريد الاستمتاع بحياتي. هذا أفضل كثيرا من الشاي المثلج، أليس كذلك؟ ولكن المسكينة اعتادت إنهاك نفسها كثيرا. اعتادت تجميل الأكواب ببياض البيض، أتتذكرين؟»
حاولت إقناعها بالحديث عن مرض أمي، وعن طرق علاج جديدة، وعن تجاربها في المستشفى، ليس فقط لأن هذا كان مشوقا بالنسبة إلي، ولكن لأني ارتأيت أن هذا قد يهدئها ويجعلها تبدو أكثر ثقافة. كنت أعلم أن ريتشارد لم يخرج، وأنه كان متواريا في المطبخ.
ولكنها طلبت عدم الحديث عن عملها. «بياض البيض المخفوق، ثم السكر. أوه يا عزيزتي، كان علينا الشرب باستخدام الماصة، ولكنه كان أمرا ممتعا، والمرحاض الموجود في القبو، وكل ذلك؛ لقد استمتعنا بوقتنا حقا.»
كان أحمر شفاه أيريس، وشعرها الممشط اللامع، وفستانها الملون، ودبوسها المزخرف الضخم، ونبرة صوتها وحديثها؛ كل ذلك كان جزءا من سياسة ليست بالسيئة: كانت تحب التنقل، والضوضاء، والتغيير، والبهرجة، والمرح الصاخب، والشجاعة. أمر ممتع. كانت ترى أن الآخرين يجب أن يحبوا هذه الأشياء أيضا، وحكت لي عن جهودها خلال رحلتها. «أنا من يبدأ المرح. البعض يشعر بالحزن خلال الرحلة، أو يصابون بعسر الهضم، فيتحدثون عن الإمساك. ودائما أحاول إبعاد أذهانهم عن ذلك. يمكنني أن ألقي بدعابة، أو أن أصدح بالغناء. كل صباح أستطيع فعليا أن أسمعهم يقولون: يا ترى، ما الأمر المجنون الذي ستفعله سليلة تشادلي اليوم؟»
قالت إنه ما من شيء ينغص عليها حياتها. وحكت لي عن رحلات أخرى. عن أيرلندا. خافت الأخريات من النزول لتقبيل حجر بلارني ، ولكنها قالت: «لقد قطعت كل هذه المسافة لأقبل هذا الشيء اللعين!» وهذا ما فعلته، بينما أمسك رجل أيرلندي ملحد بكاحليها.
شربنا وأكلنا، ثم جاء الأطفال فأثنت عليهم، وجاء ريتشارد وذهب، ولم ينغص شيء عليها أمسيتها. كانت محقة في هذا؛ لم يوقفها شيء عن سرد حكاياتها عن نفسها، وكان كم الوقت الذي قضته بلا كلام محدودا. حكت لي مجددا عن الحقيبة القماشية وعن أرملة المليونير. وأخبرتني عن الممثل الفاجر. كم حديث انطلقت فيه بهذا الشكل - تضحك وتلح وتنتقل من حكاية إلى أخرى وتعود بذاكرتها إلى الوراء. تساءلت بيني وبين نفسي ما إذا كانت ستصف هذه الأمسية بالممتعة. بالتأكيد ستصفها؛ البيت والسجاجيد والأطباق وكل ما يوحي بالمال الوفير. قد لا يهمها أن ريتشارد قد تعامل معها بازدراء. ربما سيكون من الأفضل في رأيها أن يزدريها قريب ثري عن أن يرحب بها قريب فقير. ولكن هل كانت دائما على هذه الحال: دائما متهورة وطماعة وخائفة، لطيفة وربما حتى مثيرة للإعجاب، ولكنها تظل مع هذا شخصا تتمنى ألا تضطرك الظروف إلى الجلوس بجواره لمدة طويلة في حافلة أو حفل؟ لم أكن صادقة حين قلت: إنني تمنيت أن أقابلها في مكان آخر، وإنني تمنيت أن أقدرها حق قدرها، حين أشرت إلى أن أحكام ريتشارد هي العائق الوحيد. ربما كان بوسعي أن أقدرها أكثر، ولكني لم أستطع أن أبقى معها وقتا أطول.
كان من الضروري لي أن أتساءل عما إذا كان هذا هو كل ما وصل إليه الأمر، عن الابتهاج الذي أتذكره، الابتهاج والكرم، والانغماس في الشئون الدنيوية. سيكون من الأفضل أن أفكر في أن الزمن قد أفسد شيئا كان جميلا وأفقده قيمته، أو أن الصعاب قد غيرت كلتينا، دون أن يكون هذا التغيير للأفضل. قد تكون الأماكن والأشخاص القاسية هي ما جعلتنا قاسيتين في الأفعال والآراء؛ فقد كنت أحب في الماضي النظر إلى إعلانات المجلات التي تعرض نساء يرتدين الفساتين الشيفون، ومن فوقها الكابات فوق أكتافهن والرداءات الملفوفة حول خصورهن دون تثبيت، وهن يتكئن بمرافقهن على حاجز السفينة، أو يشربن الشاي بجوار نبتة موضوعة في أصيص. وكنت معتادة على فهم حياة الأناقة ورقة الشعور بفضلهن. فكن نافذتي على العالم، بينما كانت قريباتنا نافذة أخرى. في حقيقة الأمر كانت فساتين قريباتنا المكسوة بالأزهار تذكرني بهن، رغم أنهن كن أكثر امتلاء، وغير جميلات. حسنا، الآن وأنا أفكر في الأمر، ما الذي كانت هؤلاء السيدات في المجلات يتحدثن عنه، ويظهر في بالونات الحوار فوق رءوسهن؟ كن يناقشن مزيلات رائحة العرق، أو يشدن بحسن حظهن لأنهن ما عدن يصبن بالحكة لأنهن أصبحن يستخدمن فوط كوتيكس الصحية.
استعادت أيريس السيطرة على نفسها - أخيرا - وسألتني عن موعد آخر حافلة. كان ريتشارد قد اختفى مجددا، ولكني قلت لها إنني سأعيدها إلى فندقها في سيارة أجرة. إلا أنها رفضت وقالت إنها ستستمتع حقا برحلة الحافلة؛ لأنها دائما ما تنخرط في حوار مع أحد الركاب. جلبت جدول الحافلات ثم أوصلتها إلى المحطة. قالت إنها تأمل ألا تكون قد أرهقتني وريتشارد بحديثها، وسألتني عما إذا كان ريتشارد يتسم بالخجل. قالت لي إن بيتي جميل، وأسرتي لطيفة؛ مما جعلها تشعر بالسعادة لنجاحي في حياتي. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تضمني إلى صدرها لتودعني.
قال ريتشارد وهو يدخل إلى غرفة المعيشة بينما كنت أجمع فناجين القهوة: «يا لها من عجوز مثيرة للشفقة!» تبعني إلى المطبخ، مسترجعا أمورا قالتها - أمورا ادعتها - معظمها للتباهي. أشار إلى أخطائها النحوية، وإلى ما كان سيعتبر تنويعا مهذبا. تظاهر بالشك. ربما شعر بهذا حقا، وربما يكون قد ظن أنه سيكون من الأنسب أن يبدأ الهجوم فورا، قبل أن أوبخه على مغادرته الغرفة، وتصرفه بوقاحة، وعدم عرض توصيلها إلى الفندق.
كان لم يزل يتحدث في اللحظة التي ألقيت فيها طبق البيركس تجاه رأسه. كانت به قطعة من فطيرة مرينج الليمون. لم يصبه الطبق، واصطدم بالثلاجة، ولكن الفطيرة طارت وطالت جانب وجهه تماما مثل الأفلام القديمة أو برنامج «أحب لوسي». ظهرت على وجهه نفس أمارات الذهول التي تظهر في الأفلام، بالإضافة إلى البراءة المفاجئة، من جانبه . توقف عن الكلام، فاغرا فاه. أنا أيضا انتابني الذهول؛ لأن ما يعتبره الناس دائما مضحكا في مثل هذه المواقف يصبح حكما صادما للغاية في الحياة الواقعية.
جدف، جدف، جدف بقاربك.
ادخل به النهر برفق.
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
فما الحياة إلا حلم.
أرقد في الفراش إلى جوار شقيقتي الصغرى، وأستمع إلى غنائهن في الحديقة. تغيرت الحياة، بهذه الأصوات، بهذه الكيانات، بأرواحهن المعنوية المرتفعة، واعتدادهن الشديد بأنفسهن وبعضهن ببعض. والداي - بل جميعنا - في إجازة. مزيج الأصوات والكلمات معقد ومتنوع للغاية لدرجة بدا معها هذا الارتباك - وهذا التنافس المرح - أنه سيستمر إلى الأبد، ثم فجأة ولدهشتي - لأنني أصبت بالدهشة، رغم معرفتي بنمط الأدوار - يخفت صوت الأغنية، وبإمكاني سماع صوتين يناضلان:
بمرح، ومرح، ومرح، ومرح.
فما الحياة إلا حلم.
ثم صوت وحيد، إحداهن فقط تواصل الغناء - ببسالة - حتى النهاية. صوت واحد به مسحة غير متوقعة من الاستعطاف، من التحذير، وهو يترك الكلمات الأربع منفصلة تتطاير في الهواء. «ما الحياة ...» انتظروا «إلا ...» مهلا «حلم».
آل تشادلي وآل فليمينج (2)
حجر في الحقل
لم تكن أمي تقضي جل وقتها في تزيين حواف الأكواب وإيهام نفسها بأنها تنحدر من أصول أرستقراطية؛ فقد كانت سيدة أعمال في واقع الأمر؛ تاجرة وبائعة. كان منزلنا مكتظا بأشياء لم تدفع ثمنها بالمال، وإنما أخذتها في نوع معقد من المقايضة، وقد لا نستطيع الاحتفاظ بها. ولبعض الوقت استطعنا أن نعزف على البيانو، وأن نستعين بالموسوعة البريطانية، وأن نأكل طعامنا فوق مائدة من خشب البلوط. ولكن في أحد الأيام كنت أعود إلى البيت من المدرسة لأجد أن كلا من هذه الأشياء قد ذهب لشخص آخر؛ فمرآة حائطية يمكن أن تذهب بسهولة، أو حامل للأباريق الزجاجية، أو مقعد مزدوج كان قد حل سابقا محل أريكة كانت قد حلت محل أريكة سريرية من قبل. باختصار: كنا نعيش في مخزن.
كانت أمي تعمل لصالح - أو مع - رجل يدعى بوبي كالندر، وكان يتاجر في التحف، ولم يكن لديه متجر: هو أيضا كان يملك بيتا مزدحما بالأثاث، وما كان في بيتنا هو مجرد الفائض لديه. كان يملك خزانات أطباق تواجه ظهورها ظهور بعض وحواشي فراش زنبركية مسندة إلى الحائط. كان يشتري الأشياء - أثاثا وأطباقا وملاءات سرير ومقابض أبواب وأذرع للطلمبات ومماخض لبن ومكاوي غير كهربائية وأي شيء - من أشخاص يعيشون في المزارع أو في قرى صغيرة بالريف، ثم يبيع ما اشتراه إلى معارض التحف في تورونتو. لم تكن ذروة موسم التحف قد بدأت بعد، فقد كان ذلك الوقت الذي يغطي فيه الناس الأشغال الخشبية القديمة بالطلاء الأبيض أو عجينة الباستيل بأقصى سرعة يستطيعونها، متخلصين من الأسرة ذات الأعمدة الخشبية، ليحل محلها أثاث غرفة النوم من خشب القيقب الأصفر، ويغطون الألحفة المرقعة بملاءات من قماش الشنيل. لم يكن شراء الأشياء صعبا؛ فقد كان ثمنها بخسا، ولكن كان بيعها تجارة بطيئة، وهو ما يفسر سبب تحولها إلى جزء من حياتنا طيلة موسم كامل. وبالمثل، كان بوبي وأمي على المسار الصحيح. ولو كانا استمرا، ربما كانا سيصبحان أثرياء ويحصلان على تصريح بالعمل. ولكن بطبيعة الحال، كان بوبي يتجنب الخسارة والمغامرة بينما عجزت أمي عن جمع الكثير من المال؛ فاعتقد الجميع أنهما مخبولان.
لم يستمرا في هذا العمل؛ فأمي أصابها المرض، بينما دخل بوبي السجن بتهمة التحرش في أحد القطارات.
كانت هناك بيوت في المزرعة لم يكن بوبي محل ترحاب فيها. وكان الأطفال يسخرون منه بينما تغلق الزوجات الأبواب في وجهه لدى رؤيته مارا عبر أفنيتهن في ثيابه السوداء المتشحمة، وهو يدير عينيه بطريقة شهوانية أو سخيفة جنونية، مناديا بصوت ناعم ويناشد: «هل من أحد هنا؟» وفوق هذا كان ألثغ ومتلعثما. وكان أبي يقلده بشكل جيد. وكانت هناك بيوت تغلق الأبواب في وجه بوبي، وبيوت أخرى - عادة لأناس ذوي سمعة سيئة - يقابل فيها بالترحاب والتحيات وواجب الضيافة، كما لو كان طائرا غريبا غير مؤذ سقط من السماء ووجد من يقدر أهميته لغرابته الشديدة. وحيثما لا يجد ترحابا لا يعود، وبدلا من ذلك كان يرسل أمي. لا بد وأنه قد كون في رأسه خريطة للمناطق الريفية المحيطة بكل بيت فيها، ومثلما تحتوي كل خريطة على نقاط لتبين مواضع الموارد المعدنية أو الأماكن ذات الأهمية التاريخية، كانت خريطة بوبي تحدد موضع كل ما هو معروف ومحتمل من كراسي هزازة أو بوفيهات من خشب الصنوبر أو أكواب لبن أو أكواب مصممة لحماية الشوارب من الاتساخ بالشراب. كنت أسمعه يقول لأمي وهما مجتمعان في غرفة الطعام وينظران إلى شيء وكأنه علامة تجارية على إناء مخللات قديم: «لماذا لا تذهبين وتلقين نظرة عليه؟» لم يكن يتلعثم وهو يتحدث إليها، وهو يتحدث في أمور العمل. ورغم أن صوته كان ناعما فإنه لم يعكس انكسارا، بل كان يوحي بأنه يعوض خسارته، وربما يحقق انتقامه. ولو جاءت معي صديقة من المدرسة إلى البيت، كانت تسألني متعجبة: «هل هذا بوبي كالندر؟» كانت تندهش وهي تسمعه يتحدث كشخص عادي، وتندهش لرؤيته داخل بيت أحد. كنت أمقت كثيرا ارتباطه بنا لدرجة أنني كنت أود أن أرد بالنفي.
لم يسبب بوبي - حقا - الكثير من المشاكل بميوله الجنسية. وربما يكون الناس قد تصوروا أنه ليست لديه أي منها. فعندما قالوا: إنه غريب الأطوار. لم يقصدوا أكثر من هذا: غريب، ومتقلب، ومزعج؛ فتلعثمه وعيناه العاجزتان عن التركيز ومؤخرته السمينة ومنزله المكتظ بالأشياء التي تخلصت الناس منها؛ كل ذلك اجتمع تحت هذه الصفة. لا أعلم ما إذا كانت شجاعة بالغة منه أن يحاول كسب قوت يومه في مكان مثل داجليش حيث كان كل ما يحصل عليه هو الإهانات العشوائية والشفقة غير المستحقة، أو ما إذا كان مجرد شخص يفتقر كثيرا إلى الواقعية. بالتأكيد لم يكن من الواقعية أن تبدر منه إيحاءات لاثنين من لاعبي البيسبول في قطار ستراتفورد.
لم أعرف أبدا كيف تعاملت أمي مع سوء حظه الأخير، أو ما الذي كانت تعلمه عنه. بعد سنوات قرأت في الجريدة أن معلما في الكلية التي كنت أرتادها قد تم القبض عليه نتيجة شجار في إحدى الحانات من أجل رفيق. سألتني أمي ما إذا كانوا يقصدون أنه كان يدافع عن صديق، ولو كان الأمر كذلك فلماذا لم يقولوا هذا؟ لماذا قالوا: «رفيق»؟
ثم قالت: «مسكين يا بوبي، هناك دائما من يحاولون النيل منه. لقد كان ذكيا للغاية بطريقته الخاصة. البعض لا يمكنهم العيش في مكان كهذا؛ هذا غير مسموح، لا.» •••
كان مسموحا لأمي استخدام سيارة بوبي، من أجل رحلات العمل، وأحيانا في عطلة نهاية الأسبوع، عندما يذهب إلى تورونتو. وإذا لم يكن ينوي تحميل الكثير من الأشياء، فإنه كان يسافر - لسوء الحظ، كما قلت - بالقطار. كانت سيارتنا معطلة بما لا يسمح بتصليحها مطلقا، لدرجة أننا لم نكن نستطيع الخروج بها من المدينة. فقط كنا نذهب بها إلى داجليش ونعود، وليس أكثر من هذا. كان والداي مثل الكثير من الأشخاص الآخرين الذين شهدوا الأزمة الاقتصادية الكبرى (الكساد الكبير) وهم أصحاب أملاك، مثل سيارة أو فرن، والتي سرعان ما توقفت عن العمل بصورة تدريجية ولم يعد بالإمكان تصليحها أو استبدالها. فعندما نتمكن من السفر بها على الطرق، كنا نذهب إلى جودريتش مرة أو مرتين خلال الصيف، حيث البحيرة. وفي بعض الأحيان كنا نزور عماتي اللاتي كن يعشن خارج المدينة.
لطالما قالت أمي إن أبي ينتمي إلى عائلة غريبة. وقد كانت غريبة لأنها ضمت سبع بنات وولدا واحدا. كانت غريبة لأن ست بنات من هؤلاء الأبناء الثمانية ما زلن يعشن معا، في نفس البيت الذي ولدوا فيه؛ إذ كانت إحدى شقيقات أبي قد ماتت في سن مبكرة بسبب حمى التيفود، بينما رحل أبي من البيت. كانت هؤلاء الشقيقات الست أنفسهن شديدات الغرابة، على الأقل في نظر الكثيرين، في الوقت الذي عشن فيه. كن بقايا زمن بائد، حقا. هذا ما قالته أمي. كن ينتمين إلى جيل آخر.
لا أذكر أنهن جئن لزيارتنا يوما. لم يرغبن في المجيء إلى مدينة بكبر حجم داجليش، أو في المخاطرة بالابتعاد عن موطنهن. كانت المسافة بيننا وبينهن أربعة عشر أو خمسة عشر ميلا بالسيارة، وهن لم يمتلكن واحدة. كن يركبن عربة يجرها حصان، أو مزلجة يقودها حصان في الشتاء، رغم توقف الجميع عن استخدامها منذ سنوات طويلة. وبالتأكيد كانت هناك مواقف تضطرهن للتوجه إلى المدينة، لأني رأيت إحداهن ذات مرة في العربة التي يجرها الحصان بأحد شوارع المدينة. كان للعربة سقف عال بديع، وكأنه قلنسوة سوداء، وأيا كانت العمة التي رأيتها فقد كانت تجلس بانحراف على الكرسي، ونادرا ما كانت تنظر إلى أعلى بقدر ما يلزمها لتوجيه الحصان. ويبدو أن نظرات الناس الفاحصة كانت تسبب لها الكثير من الألم، ولكنها كانت عنيدة. فجلست في مكانها على المقعد، منكمشة وعنيدة، وكان منظرها غريبا بطريقتها الخاصة، مثلما كان بوبي كالندر غريبا بطريقته الخاصة. لم أستطع حقا تخيل أنها عمتي؛ فالرابطة بيننا بدت مستحيلة. ومع هذا كان بإمكاني تذكر وقت سابق ذهبت فيه إلى المزرعة - ربما أكثر من مرة؛ إذ كنت صغيرة جدا بما لا يتيح لي التذكر - ولم أشعر بهذه الاستحالة ولم أفهم سبب غرابة هؤلاء القريبات. كانت تلك المرة حينما كان جدي مريضا وملازما الفراش، يحتضر حسب اعتقادي، وفوقه مروحة ورقية ضخمة بنية اللون تعمل بواسطة نظام من الأحبال كان مسموحا لي بشدها. كانت إحدى عماتي توضح لي طريقة تشغيلها في اللحظة التي نادتني فيها أمي في الطابق السفلي؛ فنظرت أنا وعمتي إحدانا إلى الأخرى تماما كما ينظر طفلان أحدهما إلى الآخر حين يناديهما أحد الكبار. لا بد وأنني قد شعرت بشيء غريب في هذا الأمر، أو بغياب شيء كان متوقعا، بل وحتى ضروريا، في طريقة الاتزان، أو الحدود بيننا، وإلا ما كنت تذكرت الموقف.
كانت هناك واقعة أخرى لي مع إحدى عماتي، وأعتقد أنها كانت نفس العمة، ولكن ربما كانت عمة أخرى، كانت جالسة معي على السلالم الخلفية لبيت المزرعة، بينما توجد على درجة السلم بجوارنا سلة سعتها ستة كوارتات وتحتوي على مشابك الغسيل. كانت تصنع لي عرائس ومانيكانات من المشابك مستديرة الرأس، وكانت تستخدم قلم شمع أسود وآخر أحمر لترسم أفواهها وعيونها، ثم أخرجت بعض الغزل من جيب مئزرها لتلفه حولها وتصنع الشعر والملابس. وكانت تتحدث معي ؛ أنا متأكدة أنها كانت تتحدث. «هذه سيدة. لقد ذهبت إلى الكنيسة مرتدية شعرها المستعار، هل ترينها؟ كانت فخورة بنفسها. ماذا سيحدث لو هبت الريح؟ ستطير شعرها المستعار. أترين؟ انفخي أنت مقلدة الريح.» «هذا جندي. هل ترين أنه يملك ساقا واحدة؟ لقد فقد ساقه الأخرى بسبب قذيفة مدفع في معركة ووترلو. هل تعرفين معنى قذيفة مدفع؟ تلك التي تخرج من المدفع الضخم عندما تكون هناك معركة: بووووم!» •••
والآن سنخرج متجهين إلى المزرعة - في سيارة بوبي - لزيارة عماتي. رفض أبي أن يقود سيارة شخص آخر - قاصدا بذلك أنه لن يقود سيارة بوبي، ولن يجلس مكانه - ولذلك قادت أمي بدلا منه؛ مما جعل الرحلة كلها مشكوكا فيها بسبب سوء توزيع الأدوار. كان ذلك في يوم حار من أيام الآحاد في نهاية الصيف.
لم تكن أمي متأكدة من الطريق، بينما انتظر أبي حتى اللحظة الأخيرة ليطمئنها. كنا نعلم أنه يغيظها، ومع هذا لم يمر الأمر دون تحفظات أو توبيخ: «هل ننعطف هنا؟ أم المنعطف التالي؟ سأعرف حين أرى الجسر.»
كان الطريق معقدا. في داجليش كانت معظم الطرق مستقيمة، ولكن هنا كانت الطرق تنحرف حول التلال أو تتوارى في المستنقعات، وبعضها يضيق وينقسم إلى طريقين يفصلهما صف من نبات لسان الحمل والهندباء البرية. وفي بعض الأماكن كانت أشجار العليق تلقي فروعها المعترشة على الطريق؛ ذكرتني هذه الأشجار المرتفعة الكثيفة المليئة بالأشواك، ذات الأوراق لامعة الخضرة التي بدت أقرب إلى السواد، بأمواج البحر الذي انشق من أجل موسى.
ثم ظهر الجسر، وبدا كعربتي قطار متحدتين تم تجريدهما من هيكلهما الخارجي، وكان في اتساع حارة واحدة. كما كانت هناك لافتة تقول: إن الطريق غير آمن لعربات النقل. «لن ننجو.» هكذا قال أبي ونحن نتخبط في أرض الجسر. «ها هو ميتلاند العتيق.»
سألت شقيقتي: «أين؟ من؟ أين هو؟»
قالت أمي: «نهر ميتلاند.»
نظرنا إلى الأسفل، حيث الدرابزين المنهار على جانبي الجسر، ورأينا المياه الصافية بنية اللون تتدفق فوق أحجار ضخمة ومظلمة، بين ضفتين نمت عليهما أشجار الأرز، ثم تنكسر في صورة تموجات مبهجة بعد ذلك. كان جسدي يشتاق إليها.
سألت: «هل يذهبن للسباحة؟» كنت أقصد عماتي. فكرت في أنهن لو كن يذهبن للسباحة، فربما يأخذنني معهن.
قالت أمي: «السباحة؟ لا أستطيع تخيلهن. هل يفعلن هذا؟» وجهت السؤال لأبي. «ولا أنا أيضا أستطيع تخيلهن يسبحن.»
كان الطريق يصعد بنا لأعلى التل، بعيدا عن شجيرات الأرز الكئيبة على ضفاف النهر. بدأت أقول أسماء عماتي: «سوزان. كلارا. ليزي. ماجي. جينيت هي من ماتت.»
قال أبي: «وآني، لا تنسي آني.» «آني. ليزي. قلت اسمها قبلا. من فاتني اسمها؟»
ردت أمي وهي تنقل سرعة السيارة بدفعة صغيرة غاضبة: «دوروثي.» وصلنا إلى قمة التل، تاركين وراءنا المنطقة الغائرة التي تضم الشجيرات داكنة اللون. وعلى القمة هنا كانت توجد تلال عشبية مغطاة بحشيشة اللبن المزهرة ذات اللون الأرجواني، وأزهار البازلاء البرية المتفتحة، وأزهار السوزان ذات العيون السوداء. نادرا ما وجدت الأشجار هنا، ولكن ثمة الكثير من شجيرات البلسان التي تنمو بطول الطريق. بدت كما لو أنها رشت بالثلج. وكان هناك تل مكشوف يعلو غيره من التلال.
قال أبي: «قمة هيبرون. هذه أعلى نقطة فوق الأرض في مقاطعة هورون. أو هكذا كانوا يخبرونني دائما.»
قالت أمي: «الآن أعرف أين أنا. سنراه بعد لحظات، أليس كذلك؟»
ثم ظهر بيت خشبي ضخم لا تدنو منه الأشجار، وتقع خلفه الحظيرة والتلال البنية المزهرة. كان مخزن العربات التي تجرها الخيول هو الحظيرة الأصلية، وكانت مبنية من الخشب. لم يكن طلاء البيت أبيض اللون كما كنت أظن على نحو قاطع، بل كان أصفر، ومعظمه قد تساقط.
وأمام البيت - وسط مساحة ضيقة ظليلة نظرا لانحسار الظل في هذا الوقت من اليوم - جلس عدة أشخاص على كراسي مستقيمة الظهر. وعلى حائط المنزل خلفها علقت سطول اللبن المصقولة وأجزاء من فرازة القشدة.
لم يتوقعن مجيئنا؛ إذ لم يكن لديهن هاتف؛ وبالتالي لم نتمكن من إخبارهن بقدومنا. كن يجلسن فقط هناك في الظل، يتطلعن إلى الطريق الذي نادرا ما تمر عليه سيارة طيلة فترة ما بعد الظهيرة.
نهضت إحداهن وهرولت نحو جانب البيت.
فقال أبي: «هذه سوزان. إنها تخشى الناس.»
قالت أمي: «ستعود عندما تدرك من نحن؛ فهي لا تميز السيارة الغريبة.» «ربما. لا أعتمد على هذا.»
وقفت الأخريات، وعلى نحو رسمي للغاية جهزن أنفسهن، وأيديهن مشبكة أمام مآزرهن. وعندما خرجنا من السيارة وتعرفن علينا، خطت واحدة أو اثنتان منهن بضع خطوات تجاهنا، ثم توقفتا، وانتظرتا اقترابنا منهن.
قال أبي: «هلموا.» ثم قادنا إلى كل واحدة منهن بالدور، قائلا فقط أسماءهن للتعارف، بلا أحضان، ولا مصافحات، ولا قبلات: «ليزي. دوروثي. كلارا.»
لم يكن الأمر مجديا؛ فلن أستطيع مطلقا التمييز بينهن. لقد بدون جميعا متشابهات. لا بد وأن الفارق في العمر بينهن كان اثني عشر أو خمسة عشر عاما، ولكن بالنسبة إلي بدون جميعا في الخمسين من العمر تقريبا، أكبر من والدي، ولكنهن لسن طاعنات فعلا في السن. كن جميعا نحيلات وممشوقات القوام، وربما كن في وقت من الأوقات طويلات القامة إلى حد ما، ولكنهن الآن محدبات الظهر، بسبب العمل الشاق والإذعان. كان شعر بعضهن مقصوصا فبدت التسريحة طفولية بسيطة، وبعضهن ضفرنه ولففنه فوق رءوسهن. لم يكن شعر إحداهن أسود بالكامل أو رماديا بالكامل. كانت وجوههن شاحبة، وحواجبهن سميكة وكثيفة الشعر، وعيونهن غائرة ولامعة، رمادية زرقاء أو رمادية خضراء أو رمادية فحسب. وكن يشبهن أبي كثيرا وإن كان ظهره غير محدب مثلهن، كما كان وجهه متهللا، بعكسهن، فبدا رجلا وسيما.
كن يشبهنني كثيرا. لم أدرك ذلك وقتها ولم أكن لأرغب في ذلك. ولكن ماذا لو افترضت أنني توقفت عن الاهتمام بشعري، الآن، وأنني توقفت عن وضع مساحيق الزينة وتشذيب حاجبي، وارتديت فستانا دميما مطبوعا عليه إحدى الصور ومئزرا، ووقفت مطأطئة الرأس أحتضن مرفقي؟ أجل. وبالتالي عندما ألقت أمي وقريباتها نظرة علي، ووجهنني بقلق نحو الضوء، يسألن: «هل تنتمي إلى آل تشادلي؟ ما رأيكن؟» لقد كن يتطلعن إلى وجه ينتمي إلى آل فليمينج، ولأكون صادقة، كان وجها أجمل من وجوههن. (ليس الأمر أنهن كن يدعين الجمال، ولكن كان مجرد انتمائهن إلى آل تشادلي كافيا.)
كانت يدا إحدى عماتي حمراوين كلون أرنب مسلوخ. ولاحقا في المطبخ جلست تلك العمة على كرسي يستند إلى صندوق الحطب، شبه متوارية خلف الموقد، ورأيت كيف ظلت تفرك هاتين اليدين وتلويهما في مئزرتها. أذكر أنني رأيت هاتين اليدين قبلا، في واحدة من الزيارات القديمة، منذ أمد بعيد، وقد أخبرتني أمي أن السبب هو أن هذه العمة - هل كانت دائما نفس العمة؟ - كانت تنظف الأرضيات والمناضد والكراسي بغسول القلى لتبقى بيضاء. وهذا ما فعله الغسول بيديها. وبعد هذه الزيارة أيضا، في طريقنا إلى البيت قالت أمي بنبرة اتهام عام، مليئة بالأسى والاشمئزاز: «هل رأيتم هاتين اليدين؟ لا بد وأن العمة حصلت على استثناء كنسي حتى تنظف في أيام الآحاد.»
كانت الأرضية من خشب الصنوبر، وكانت بيضاء، ولامعة، ولكنها كانت في نفس الوقت ناعمة مثل المخمل. وكذلك الكراسي والمناضد. جلسنا جميعا في أرجاء المطبخ، الذي كان أشبه ببيت صغير متصل بالبيت الرئيسي، حيث البابان الأمامي والخلفي مواجهان أحدهما للآخر، والنوافذ موجودة في ثلاثة اتجاهات. كان الموقد الأسود البارد يلمع أيضا بدهان التلميع، وكانت حوافه مثل المرايا. كان مطبخهن أكثر نظافة وخلوا من الأثاث مقارنة بأي مطبخ رأيته من قبل. لم يكن هناك أثر للعبث، ما من إشارة على أن النساء اللاتي يعشن هنا سعين قط إلى الترفيه. فلا يوجد راديو، ولا صحف ولا مجلات، وبالتأكيد ولا كتب أيضا. لا بد وأنه كان هناك إنجيل في البيت، وبالتأكيد هناك نتيجة للتقويم، ولكننا لم نرهما. كان من الصعب الآن حتى أن نصدق بوجود عرائس تم تشكيلها من مشابك الغسيل وأقلام الألوان والغزل. أردت أن أسأل أيهن صنعت لي العرائس، وهل كان هناك فعلا سيدة بشعر مستعار وجندي بساق واحدة؟ ولكن رغم أن الخجل لم يكن في العادة إحدى صفاتي، فقد انتابني شلل غريب في هذه الغرفة، كما لو أنني قد أدركت للمرة الأولى أن أي سؤال سأطرحه قد يكون وقحا، وأن أي رأي سأعرضه قد يكون خطيرا .
العمل هو ما كان يملأ حياتهن، وليس الحوار. العمل هو ما كان يضفي على يومهن معنى. أعلم هذا الآن؛ فحلب الأبقار من ضروعها الخشنة، وجر المكواة للأمام والخلف على لوح الكي الذي تصدر منه رائحة الشياط، وإلقاء ماء المسح المحتوي على مواد التبييض على الأرضية المصنوعة من خشب الصنوبر؛ كل هذا كفيل بتحويلهن إلى بكم، وربما كن راضيات بهذا. لا يتم العمل هنا كما كان يتم في بيتنا، حيث كانت الفكرة السائدة هي سرعة إنجاز العمل. بل العمل هنا يمكن - بل لا بد - أن يستمر إلى الأبد.
ما الذي يمكن أن يقال في هذا السياق؟ عماتي - كمن ينخرطون في دردشة مع أسرة ملكية - لا يبادرن بأي تعليقات من تلقاء أنفسهن على الإطلاق، ولكنهن يكتفين بالإجابة عن الأسئلة. كما لم يعرضن تقديم واجب الضيافة. وكان من الواضح أنهن يبذلن مجهودا كبيرا ليمنعن أنفسهن من الفرار والاختباء، مثل عمتي سوزان، التي لم تعاود الظهور طيلة الوقت الذي قضيناه هناك. ما يمكن الإحساس به في تلك الغرفة هو ألم التواصل الإنساني. كنت مبهورة به. الألم المذهل، والاحتياج المهين.
كان أبي يعلم كيف يبدأ الحديث، فبدأ بالطقس: عن الحاجة إلى المطر، والأمطار التي هطلت في يوليو وأفسدت التبن، والربيع الرطب في العام الماضي، والفيضانات التي كانت تحدث في الماضي السحيق، واحتمالات أو عدم احتمال أن يكون الخريف ممطرا. أعاد إليهم هذا الحديث الهدوء. ثم سأل عن الأبقار، وحصان العربة الذي كان اسمه نيلي، وحصاني العمل: برينس وكوين، والحديقة، هل أصابت الآفات الطماطم؟ «كلا، لم تصبها.» «كم كوارتا جمعتن؟» «سبعة وعشرين.» «هل صنعتن أي صلصة حارة؟ هل أعددتن بعض العصير؟» «أجل، عصير وصلصة حارة.» «إذن لن تتضورن جوعا خلال الشتاء القادم. ستزددن سمنة المرة القادمة.»
صدرت قهقهات من اثنتين منهما وتشجع أبي وواصل إغاظتهن. سألهن ما إذا كن يرقصن كثيرا هذه الأيام. وهز رأسه وهو يتظاهر بأنه يتذكر ما كان معروفا عنهن بملاحقتهن للحفلات الراقصة في أرجاء البلد، والتدخين والمرح. قال: إنهن كن يسئن التصرف ، وإنهن رفضن الزواج لأنهن كن يفضلن المغازلة، وإنه لم يكن يستطيع أن يرفع رأسه لأنهن كن مصدر خزي له.
تدخلت أمي عندئذ. لا بد وأنها كانت تريد إنقاذهن، متصورة أنه من القسوة إغاظتهن بهذه الطريقة، والإسهاب في الحديث عما لم يمتلكنه أو يفعلنه يوما.
قالت: «هذه قطعة أثاث بديعة؛ أقصد هذا البوفيه، لطالما أعجبني!»
أكمل أبي بأنهن لم يراعين الأعراف، هكذا كن، في ذروة شبابهن.
ذهبت أمي لتلقي نظرة على خزانة المطبخ المصنوعة من خشب البلوط، والتي كانت ثقيلة للغاية وعالية. لم تكن مقابض جميع الأبواب والأدراج مستديرة تماما، بل كانت غير منتظمة الشكل إلى حد ما، إما بسبب سوء التصنيع أو بسبب كثرة استخدامها.
قالت أمي: «يمكنكن إحضار تاجر تحف إلى هنا وسيعرض عليكن مائة دولار مقابل شراء هذه الخزانة. ولو حدث هذا، لا تقبلن. وكذلك المناضد والكراسي. لا تسمحن لأي أحد أن يقنعكن ببيعها قبل أن تعرفن قيمتها الحقيقية. أعلم ما أقوله لكن.» ودون أن تطلب الإذن تفحصت الخزانة، وتحسست المقابض، وألقت نظرة على الظهر. ثم قالت وهي تقرع خشب الصنوبر بترو: «لا أستطيع أنا أن أخبركن بقيمتها، ولكن لو قررتن بيعها فسأجلب أفضل شخص يمكنني إيجاده ليقوم بتثمينها. وهذا ليس كل شيء؛ لديكن أثاث يساوي ثروة في هذا البيت، ولكنكن تحتفظن به. فلديكن الأثاث القديم الذي تم تصنيعه هنا، ولم يعد هناك مثيل له. فالناس تخلصت منه، في بداية القرن، واشتروا أثاثا من الطراز الفيكتوري بعد أن ازدهرت أحوالهم. الأثاث الذي لم يتم التخلص منه يساوي ثروة، وستظل قيمته في صعود. صدقنني.»
كانت صادقة، ولكنهن لم يصدقنها. ما عدن يستطعن فهمها أفضل مما لو كانت تهذي. ربما لم تكن كلمة تحف معروفة بالنسبة إليهن. كانت تتحدث عن خزانة مطبخهن، ولكن من منظور لم يفهمنه: لو جاء تاجر إلى بيتهن وعرض عليهن مالا؟ ما من أحد يأتي إلى بيتهن. وربما كان بيع الخزانة أمرا يصعب عليهن تخيله مثلما هو صعب عليهن تخيل بيع حائط المطبخ؛ فقد كن ينظرن تحت أقدامهن فحسب.
قال أبي ليلطف الأجواء: «إذن أعتقد أن ذلك كان من حسن حظ أولئك الذين لم تزدهر أحوالهم.» ولكنهن لم يجبن عليه هو أيضا. كن يعرفن معنى كلمة مزدهر، ولكنهن لم يستخدمنها قط، ولم يحركن ألسنتهن بها من قبل، ولم تفكر عقولهن بفكرة ازدهارهن. كن يلاحظن أن بعض الناس - حتى جيرانهن - ينفقون المال في شراء الجرارات وماكينات الحصد وماكينات الحلب، وكذلك السيارات والمنازل، وأعتقد أن هذا بدا لهن شيئا مفزعا غير مرغوب فيه على الإطلاق؛ نوع من تضييع الأملاك وعدم القدرة على السيطرة على الذات. كن يشفقن على الناس الذين يفعلون هذا، بشكل من الأشكال، بنفس الطريقة التي قد يشفقن بها على الفتيات اللاتي كن يهرولن فعلا إلى الحفلات الراقصة، ويدخن ويغازلن ويتزوجن. ربما يشفقن على أمي أيضا. كانت أمي تنظر إلى حياتهن وتفكر في أنهن يجب أن يبتهجن ويتفتحن. لنفترض أنهن بعن بعض الأثاث ووصلن المياه الجارية إلى البيت، واشترين غسالة، ووضعن مشمعا على الأرضية، وابتعن سيارة وتعلمن قيادتها. ولم لا؟ كانت أمي تسألهن وهي تنظر إلى الحياة في ضوء التغيير والاحتمالات. تخيلت أمي أنهن قد يتقن لبعض الأشياء، ليس فقط أشياء مادية، ولكن لظروف وقدرات، لم يزعجن حتى أنفسهن بالندم على افتقارهن لها، ولم يفكرن في رفضها، بما أنهن مقيدات بما يملكنه وبما كن عليه، ولا يمكنهن تخيل أنفسهن في وضع مختلف. •••
عندما أودع أبي في المستشفى في آخر مرة، أصبح خفيف الظل كثيرا ومهذارا تحت تأثير الحبوب التي كانوا يقدمونها له، وقد تحدث إلي بشأن حياته وعائلته. أخبرني كيف ترك بيته. في الواقع لقد تركه مرتين؛ المرة الأولى وقعت خلال الصيف الذي بلغ فيه الرابعة عشرة من العمر. كان أبوه قد أرسله لشق بعض جذوع الأشجار. فكسر يد الفأس، وشتمه أبوه، وجرى وراءه بمذراة. وكان معروفا عن أبيه مزاجه الحاد واجتهاده في العمل. صرخت الشقيقات، بينما ركض أبي - وهو صبي في الرابعة عشرة من العمر - عبر الزقاق بأقصى سرعة لديه. «هل كن يستطعن الصراخ؟» «ماذا ؟ أجل، آنذاك. نعم كن يستطعن ذلك.»
كانت نية أبي هي أن يجري فقط بعيدا بطول الطريق، ويتسكع قليلا، ثم يعود عندما تخبره شقيقاته بأن الطريق آمن. ولكنه لم يتوقف عن الركض حتى قطع نصف المسافة إلى جودريتش، ثم فكر أن يقطع المسافة المتبقية. عمل على قارب في البحيرة، وقضى بقية الموسم يعمل عليه، ثم خلال الشهر الذي سبق الكريسماس، بعد انقضاء موسم الملاحة، عمل في طاحونة دقيق. كان يستطيع العمل هناك، ولكنه كان قاصرا، وخشي أصحاب الطاحونة من المفتش؛ ولذلك سرحوه. كان يريد العودة إلى موطنه على أية حال لقضاء الكريسماس. كان مشتاقا إلى وطنه. فاشترى هدايا لأبيه وشقيقاته. كانت هدية أبيه ساعة. غير أن هذه الساعة وثمن التذكرة بددا كل مليم كان معه.
وبعد الكريسماس ببضعة أيام كان في الحظيرة يضع القش، وجاء أبوه باحثا عنه. «هل معك أي أموال؟»
فرد أبي بالنفي. «حسنا، هل تعتقد إذن أنني وشقيقاتك قضينا الصيف والخريف بطولهما نتأمل مؤخرات الأبقار، لتعود أنت إلى البيت ونعولك في الشتاء؟»
كانت هذه هي المرة الثانية التي يفارق فيها أبي البيت.
ارتج جسده على سرير المستشفى من الضحك، وهو يخبرني بذلك. «نتأمل مؤخرات الأبقار!»
ثم قال لي: إن الشيء الغريب أن أباه نفسه قد هرب من بيته في طفولته، بعد شجار مع أبيه نفسه. فقد عنفه أبوه وضربه لاستخدامه العربة اليدوية. «كان الأمر يتم بهذه الطريقة: كانوا دائما يحصلون على العلف لتقديمه إلى الخيول، دلوا دلوا. ولكن في الشتاء تكون الخيول داخل الإسطبل. ولهذا فكر أبي في حمل العلف إليها في العربة اليدوية. بالطبع كان هذا أسرع. ولكنه تعرض للضرب بسبب تكاسله. هكذا كان الوضع لديهم؛ أي تغيير من أي نوع كان مرفوضا، والكفاءة كانت كسلا بالنسبة إليهم؛ هذا هو تفكير الفلاحين.»
قلت له: «ربما يتفق معهم تولستوي في هذا، وغاندي كذلك.» «تبا لتولستوي وغاندي! فكلاهما لم يعمل وهو صغير.» «ربما لا.» «ولكن العجيب أن هؤلاء القوم تمتعوا يوما بالشجاعة الكافية ليأتوا إلى هنا. لقد تركوا كل شيء، وأداروا ظهورهم لكل شيء عرفوه وجاءوا إلى هنا. كانت مواجهة شمال الأطلسي شيئا مخيفا في حد ذاتها، ثم مواجهة هذا البلد الذي كان بريا. وكذلك الأعمال التي مارسوها، والتجارب التي مروا بها. وعندما وصل جدك الأكبر إلى أراضي هورون كان معه أخوه، وزوجته وأمها، وولداه الصغيران. وبعد وصولهم مباشرة سقطت شجرة على أخيه فأودت بحياته. وفي الصيف التالي أصيبت زوجته وأمها والولدان الصغيران بالكوليرا، وماتت الجدة والطفلان؛ فعاش وزوجته وحيدين، ومضيا ينظفان مزرعتهما ويؤسسان عائلة جديدة. أعتقد أنهما قد استنفدا كل ما لديهما من شجاعة. وأنهكتهما طريقة تنشئتهما ودينهما، والتزامهما الشديد بالتصرف وفقا لما هو مقبول، وكذلك كبرياؤهما. كانت الكبرياء هي ما بقي لهما بعد أن استهلكا ما لديهما من روح المبادرة.»
قلت له: «لكن ليس أنت؛ أنت هربت.» «لم أهرب بعيدا.» •••
بعد أن كبرت عماتي في السن قمن بتأجير المزرعة، ولكنهن واصلن حياتهن بها. إحداهن أصيبت عيناها بالمياه البيضاء، وأخرى أصيبت بالتهاب المفاصل، ولكنهن استمررن على حالهن واعتنين بعضهن ببعض، ومتن هناك، كلهن باستثناء آخرهن، عمتي ليزي، التي اضطرت إلى الذهاب لدار المسنين الحكومية التابعة للمقاطعة. لقد عشن سنوات طويلة، ورغم كل شيء، كن عائلة ذات قدرة كبيرة على الاحتمال، مقارنة بآل تشادلي، الذين لم يصل أحدهم إلى سن السبعين. (ماتت قريبتنا أيريس بعد ستة أشهر من زيارتها ألاسكا.) اعتدت أن أرسل إليهن بطاقة معايدة في عيد الميلاد، وكنت أكتب عليها: «إلى جميع عماتي، مع حبي، وعيد سعيد.» كنت أفعل هذا لأني لم أستطع تذكر أيهن ماتت وأيهن لم تزل على قيد الحياة. كنت قد رأيت شاهد قبرهن عندما دفنت أمي. كان نصبا تذكاريا متواضعا ومحفورا عليه جميع أسمائهن وتواريخ ميلادهن، بالإضافة إلى تاريخ وفاة اثنتين منهن (جينيت - طبعا - وربما سوزان)، أما مكان باقي التواريخ ففارغ. ربما يكون الآن قد امتلأ بالتواريخ.
كن يرسلن إلي بطاقة معايدة أيضا، عليها إكليل أو شمعة، ومعلومات عنهن في بضع جمل: «الشتاء لطيف حتى الآن، والجليد لم يتساقط كثيرا. كلنا بخير باستثناء أن عين كلارا لم تتحسن. أجمل تمنياتنا.»
فكرت فيهن وهن مضطرات إلى الخروج لشراء بطاقة المعايدة، ثم الذهاب إلى مكتب البريد وشراء الطوابع. كان تصرفهن ينم عن الوفاء، أقصد أن يكتبن ويرسلن تلك الجمل إلى مكان لا يمكنهن تخيله مثل فانكوفر، إلى شخص من دمهن يعيش حياة غريبة تماما بالنسبة إليهن، شخص سيقرأ البطاقة وكله إحساس بالذهول والذنب غير المبرر. لقد شعرت فعلا بالذنب والذهول وأنا أفكر أنهن ما زلن يعشن هناك، وما زلن متعلقات بي. ولكن أي رسالة من موطني - في تلك الأيام - كانت تشعرني بأنني خائنة.
في المستشفى، سألت أبي ما إذا كان لأي من شقيقاته حبيب. «لا يمكن أن تسميه حبيبا. لا. كانت هناك دعابة حول السيد بلاك. كان يقال إنه بنى كوخه هناك لأنه معجب بسوزان، ولكني لا أعتقد هذا. كان رجلا بساق واحدة بنى كوخه في جانب من الحقل في الناحية الأخرى من الطريق، ومات هناك. كل ذلك قبل أن أولد؛ فقد كانت سوزان هي أكبرنا - كما تعلمين - وكانت في العشرين أو الحادية والعشرين عندما ولدت.» «إذن أنت لا تعتقد أنها مرت بقصة حب؟» «لا أعتقد هذا. كانت مجرد دعابة. كان الرجل نمساويا أو شيئا من هذا القبيل. وكان بلاك هو الاسم الذي أطلق عليه، أو ربما ما أطلقه هو على نفسه. ما كنا لنسمح لها بالاقتراب منه. وقد دفن هناك تحت جلمود كبير. ثم هدم أبي الكوخ واستخدم الأخشاب ليبني عشة الفراخ.»
أتذكر هذا. أتذكر هذا الجلمود. أتذكر جلوسي على الأرض وأنا أراقب أبي وهو يصلح أعمدة السور. سألته ما إذا كانت هذه ذكرى حقيقية. «أجل، ربما. لقد كنت معتادا على الخروج وإصلاح الأسوار عندما مرض والدي ولازم الفراش. لم تكوني كبيرة جدا وقتها.» «كنت جالسة أراقبك، وقد قلت لي: هل تعلمين ما هذا الحجر الكبير؟ إنه شاهد قبر. لا أذكر أنني سألتك لمن هذا الشاهد؛ ربما اعتقدت أنك تمزح.» «لم أكن أمزح. كان بالفعل شاهد القبر. كان السيد بلاك مدفونا تحتها. هذا يذكرني بشيء آخر. ألم أخبرك بكيفية موت الجدة والولدين الصغيرين؟ كانت الجثث الثلاث موجودة في البيت في نفس الوقت، ولم يكن لديهم ما يصنعون به الأكفان باستثناء ستائر الدانتيلا التي جاءوا بها من موطنهم القديم. أعتقد أنه كان يجب التصرف سريعا عندما تكون الوفاة بسبب الكوليرا، خصوصا في الصيف؛ وبالتالي كان هذا ما دفنوهم فيه.» «ستائر الدانتيلا!»
بدا أبي خجلا، كما لو أنه قد أعطاني هدية، وقال بفجاجة: «حسنا، أعتقد أن هذا النوع من التفاصيل هو ما قد يكون مشوقا بالنسبة إليك.» •••
في وقت ما بعد موت والدي، كنت أقرأ صحيفة قديمة على قارئ ميكروفيلم في مكتبة تورونتو، وكان الأمر مرتبطا بنص وثائقي أعمل عليه من أجل التليفزيون. استرعى اسم داجليش بصري، ثم اسم فليمينج، الذي عشت من دونه فترة طويلة:
وفاة شخص وحيد قرب داجليش
أذيع أن السيد بلاك - وهو رجل في الخامسة والأربعين من العمر - واسمه الأول غير معروف، قد مات في مزرعة السيد توماس فليمينج، حيث كان يعيش على مدار السنوات الثلاث الماضية في كوخ سمح له السيد فليمينج ببنائه في جانب من الحقل. كان يزرع البطاطس، ويعيش بشكل أساسي عليها وعلى الأسماك والطرائد الصغيرة. ويعتقد أنه جاء من بلد أوروبي ما، ولكن أطلق عليه اسم بلاك، ولم يكشف عن تاريخه. وفي مرحلة ما من حياته، فقد إحدى ساقيه؛ مما دفع البعض إلى تصور أنه ربما كان جنديا. وكان هناك من يسمعه وهو يتحدث إلى نفسه بلغة أجنبية.
منذ ثلاثة أسابيع تقريبا، تقصى السيد فليمينج عن أحوال الرجل بعد أن توقف الدخان عن الانبعاث من كوخه، فوجده طريح الفراش. كان يعاني من سرطان في اللسان. أراد السيد فليمينج نقله إلى منزله الخاص ليعتني به ولكن السيد بلاك رفض، رغم أنه وافق في النهاية على نقله إلى حظيرة السيد فليمينج، حيث ظل هناك، في طقس معتدل، تعتني به بنات السيد فليمينج الصغيرات اللاتي يسكن في المنزل. وهناك مات، ودفن بناء على طلبه بجوار كوخه، حاملا لغز حياته معه.
بدأت أفكر في رغبتي في رؤية الحجر، ورؤية ما إذا كان لم يزل هناك. لم يعد أحد من أقاربي يعيش في هذا البلد بعد الآن. قدت سيارتي في يوم أحد من شهر يونيو، واستطعت أن أتجنب داجليش تماما بعد أن تغير الطريق السريع. توقعت أن أواجه بعض الصعوبة في إيجاد المزرعة، ولكني بلغتها قبل أن أصدق أن هذا ممكن. لم تعد مكانا نائيا. فقد استقامت الطرق الخلفية، وشيد جسر خرساني جديد ومتين من حارتين. واقتطع نصف قمة هيبرون من أجل إنشاء طريق مغطى بالحصى، بينما زرعت الحقول العشبية البرية بالذرة.
كان مخزن العربات التي تجرها الخيول - المبني بالخشب - قد اختفى من المشهد الجديد، واكتسى البيت من الخارج بألواح من الألومنيوم ذات لون أخضر فاتح. وكانت هناك عدة نوافذ واسعة جديدة. كما تحول الرصيف الإسمنتي الذي كان يوجد في الواجهة، حيث اعتادت عماتي الجلوس على كراسيهن مستقيمة الظهر لمشاهدة الطريق، إلى فناء مرصوف يضم أحواضا لنباتات القويضة وإبرة الراعي، ومنضدة معدنية فوقها مظلة، بالإضافة إلى الأثاث المعتاد القابل للطي ذي الشرائط البلاستيكية اللامعة المستخدمة في تنجيد الكراسي والأرائك.
كل هذا جعلني أرتاب في الأمر، ولكني طرقت الباب على أية حال. أجابتني امرأة شابة حامل، ودعتني للدخول إلى المطبخ، الذي كان عبارة عن غرفة مبهجة، يفترشه مشمع الأرضية الذي بدا كالطوب الأحمر والبني، ويحوي دواليب مبنية في الجدار بدا خشبها أشبه كثيرا بخشب القيقب. كان هناك طفلان يشاهدان فيلما تليفزيونيا بدت ألوانه متلاشية بسبب سطوع ضوء النهار، وزوج شاب يبدو جادا ويعمل على آلة حاسبة، وكان من الواضح أنه غير منزعج بالضوضاء التي يصدرها التليفزيون مثلما لم ينزعج طفلاه بضوء الشمس. خطت المرأة الشابة فوق كلب ضخم لتغلق صنبور الحوض.
لم ينفد صبرهما وهما يسمعان قصتي، على عكس ما حسبت. في الحقيقة كانا مهتمين بالأمر ومتعاونين، وكانا يعلمان بعض الشيء عن الحجر الذي أبحث عنه. قال الزوج إن قطعة الأرض الموجودة على الجانب الآخر من الطريق لم تبع لأبيه، الذي اشترى هذه المزرعة من عماتي؛ إذ كانت قد بيعت من قبل. كان يعتقد أن الحجر موجود هناك، وقال إن والده أخبره بأن ثمة رجلا مدفونا هناك، تحت صخرة كبيرة، حتى إنهما قد ذهبا للتمشية ذات مرة ليلقيا نظرة عليها، ولكنه لم يتذكر أمرها لسنوات. وقال إنه سيذهب ليبحث عنها الآن.
اعتقدت أننا سنتوجه إليها مشيا، ولكننا عبرنا الطريق بسيارته. ترجلنا منها وخطونا بحذر داخل حقل الذرة. بلغت الذرة ركبتي تقريبا؛ ما يعني أن الحجر واضح بالضرورة على مرأى العين. سألت إن كان الرجل الذي يملك هذا الحقل سيمانع وجودنا، فرد مالك المزرعة بالنفي، فالرجل لم يقترب من الحقل قط، ويؤجر شخصا آخر ليعمل فيه بدلا منه. «إنه رجل يملك ألف فدان ذرة في مقاطعة هورون وحدها.»
قلت له: إن أصحاب المزارع أصبحوا أشبه برجال الأعمال اليوم، أليس كذلك؟ بدا الرجل سعيدا بقولي هذا، وبدأ يشرح لي السبب. ثمة مخاطر يجب تقبلها، والنفقات تبلغ عنان السماء. سألته ما إذا كان يملك واحدا من تلك الجرارات ذات الكابينات المكيفة فرد بالإيجاب. وتابع: لو أحسن المرء إدارة أموره، فستكون المكاسب - وأقصد المكاسب المادية - ضخمة، ولكن هناك محن ومصائب لا يعرف معظم الناس عنها شيئا. في الربيع القادم، لو سارت الأمور على ما يرام، فسيذهب هو وزوجته لقضاء أول عطلة لهما. سيتجهان إلى إسبانيا. لكن الطفلين يريدانهما أن يتغاضيا عن إجازتهما ويبنيا حوض سباحة، ولكنه كان يريد السفر. إنه يملك مزرعتين الآن، وكان يفكر في شراء مزرعة ثالثة. وفي اللحظة التي طرقت فيها بابه كان يحسب حسبته. من ناحية لم يكن يستطيع شراءها، ومن ناحية أخرى لم يكن يستطيع ألا يمتلكها.
في أثناء حوارنا هذا كنا نسير ذهابا وإيابا عبر صفوف الذرة باحثين عن الحجر. بحثنا في أرجاء الحقل ولم يكن موجودا. قال: إن جانب الحقل بالطبع آنذاك ليس بالضرورة هو نفس جانب الحقل اليوم. لكن الحقيقة أنه ربما خلال زراعة الحقل بالذرة كان الحجر يقف في الطريق، فقرروا جره إلى مكان آخر. قال: إن بوسعنا الذهاب إلى كومة الأحجار الموجودة بالقرب من الطريق لنرى ما إذا كنا سنتعرف عليه.
فقلت له: إننا يجب ألا نزعج أنفسنا بهذا؛ فأنا لست متأكدة من أنني سأتعرف عليه وسط أكوام من الحجارة.
فرد: «ولا أنا.» وكان صوته يحمل نبرة إحباط. سألت نفسي ما الذي كان يتوقع رؤيته، أو الإحساس به.
تساءلت عما أتوقع أنا نفسي أن أراه أو أحس به.
لو كنت أصغر سنا، لتصورت قصة ما: كنت سأصر أن السيد بلاك وقع في غرام إحدى عماتي، وأن إحدى عماتي - ليست بالضرورة من يحبها - تحبه. كنت سأتمنى أن يأتمنهن - أو يأتمن إحداهن - على أسراره، وعلى سبب قضاء حياته في كوخ بمقاطعة هورون، بعيدا عن موطنه. ولاحقا، كان يمكن أن أصدق أنه أراد ذلك، ولكنه لم يسر لهن بهذا ولا بحبه. كنت سأعقد رابطة منطقية ومرعبة بين صمته وطريقة موته. الآن ما عدت أصدق أن أسرار الناس واضحة ويمكن تناقلها، ولا أن مشاعرهم متفتحة ويسهل اكتشافها؛ لا أصدق هذا. الآن أستطيع فقط أن أقول إن عماتي كن يفركن الأرضية بغسول القلى، ويجمعن الشوفان، ويحلبن الأبقار بأيديهن. ولا بد أنهن قد أخذن لحافا إلى الحظيرة ليموت عليه الرجل، ولا بد أنهن قد تركن الماء يقطر من الكوب الصفيح على فمه المعذب. هذه كانت حياتهن. قريبات أمي كن يتصرفن بشكل مختلف؛ كن يتأنقن، ويلتقطن الصور بعضهن لبعض، وينطلقن في رحلات. وكيفما كانت طريقة تصرفهن، فقد متن جميعا. أحمل شيئا منهن داخلي في كل مكان أذهب إليه. لكن الجلمود قد اختفى، وقمة هيبرون اقتطعت من أجل الحصى، والحياة التي دفنت هنا هي حياة يجب أن تفكر مليا قبل أن تندم عليها.
كنافة البحر
في نهاية الصيف، أبحرت ليديا بالقارب إلى جزيرة على مقربة من الساحل الجنوبي لنيو برانزويك، حيث كانت تنوي قضاء الليلة؛ فقد تبقت لها بضعة أيام قبل رحيلها إلى أونتاريو. وكانت تعمل محررة لدى أحد الناشرين بتورنتو، كما كانت أيضا شاعرة، ولكنها لم تكن تذكر ذلك ما لم يكن الناس يعرفونه بالفعل . وطيلة الثمانية عشر شهرا الماضية كانت تعيش مع رجل في كينجستون، ولكن انتهى الأمر الآن؛ حسبما ترى.
كانت ليديا قد لاحظت شيئا انتابها، في هذه الرحلة إلى ماريتايمز، وهو أن الناس لم تعد مهتمة بالتعرف عليها. لم يكن السبب أنها قد أحدثت كثيرا من الجلبة، سابقا، ولكن كان هناك شيء تستطيع أن تعول عليه. كانت في الخامسة والأربعين من العمر، ومطلقة منذ تسع سنوات. وكان ولداها قد استقلا بحياتهما، رغم بعض فترات التراجع والارتباك. لم يزد وزنها أو يقل، ولم يسؤ مظهرها بأية صورة تنذر بالخطر، ولكنها مع هذا انسلخت عن المرأة التي كانت عليها وتحولت إلى امرأة أخرى، وقد لاحظت هذا في رحلتها. لم تفاجأ لأنها كانت في حالة جديدة وغريبة آنذاك. لقد بذلت مجهودات كبيرة، وحاولت محاولات متتالية، وظلت المحاولة تتبع الأخرى إلى أن نجحت في مساعيها. أحيانا كانت توشك على الفشل. وفي أحيان أخرى، كان مجرد ترويها وسيطرتها الظاهرية على ما كانت تفعله، وطريقة حياتها؛ كل ذلك كان يرفع معنوياتها.
وجدت ليديا فندقا سياحيا يطل على رصيف الميناء الذي تنتشر عليه أفخاخ سرطان البحر، بالإضافة إلى المتاجر والبيوت القليلة المبعثرة التي تشكل القرية. وأخذتها امرأة في مثل عمرها تقريبا، كانت تطهو الغداء، إلى غرفة رخيصة وعتيقة الطراز في الطابق العلوي. لم تلحظ ليديا وجود أي نزلاء غيرها، رغم أن الغرفة المجاورة لها كانت مفتوحة وبدا لها أن أحدا يقيم فيها، ربما طفل. أيا كان النزيل، فقد ترك العديد من الكتب المصورة على الأرضية بجوار السرير.
ذهبت للتمشية في الزقاق شديد الانحدار الواقع خلف الفندق، وشغلت نفسها بذكر أسماء الشجيرات والأعشاب. كان نباتا عصا الذهب والزهرة النجمية البرية قد ازدهرا، وبدا نبات خشب البقس الياباني شائعا هنا، رغم ندرته في أونتاريو. وكانت الحشائش فارعة الطول وخشنة، بينما اتسمت الأشجار بالقصر. كان ساحل الأطلسي، الذي لم تره قط من قبل، كما تخيلته تماما: الحشائش المثنية، والمنازل الخاوية، وضوء البحر. فبدأت تتساءل عما سيكون عليه شكل الحياة هنا، سواء ظلت المنازل متدنية الأسعار أو بدأ الناس من الخارج في شرائها كلها. شغلت نفسها في أغلب الوقت خلال هذه الرحلة بحسابات من هذا النوع، وأيضا بأفكار حول كيفية كسب قوت يومها بطريقة جديدة، تختلف عن أي شيء مارسته من قبل. لم تفكر في كسب قوت يومها من كتابة الشعر، ليس فقط لأن دخلها عندئذ سيكون متدنيا جدا، ولكن لأنها فكرت - مثلما فكرت مرات لا تحصى في حياتها - أنها قد لن تكتب قصائد بعد الآن. فكرت في أنها لا تجيد الطهي بدرجة كافية تمكنها من ممارسته مقابل المال، ولكنها تستطيع التنظيف. كان هناك فندق سياحي آخر على الأقل بخلاف ذلك الذي كانت تمكث فيه، كما أنها رأت لافتة تعلن عن استراحة على الطريق العام. كم عدد ساعات التنظيف التي يمكن أن تحصل عليها لو نظفت الأماكن الثلاثة، وما ثمن ساعة التنظيف الواحدة؟
كان هناك أربع طاولات صغيرة في غرفة الطعام، ورجل واحد جالس هناك، يتجرع عصير الطماطم، لم يلتفت إليها. وخرج رجل من المطبخ، ربما يكون زوج المرأة التي قابلتها سابقا. كانت لحيته شقراء رمادية، ونظرته حزينة. سأل ليديا عن اسمها واصطحبها إلى الطاولة التي يجلس عليها الرجل. نهض الرجل، على نحو رسمي، وتعرف بليديا. كان اسم الرجل السيد ستانلي، وخمنت ليديا أن يكون في الستين من عمره. ودعاها هذا الرجل بأدب للجلوس.
دخل ثلاثة رجال بثياب العمل وجلسوا حول طاولة أخرى. لم تصدر عنهم ضوضاء بشكل لافت أو مزعج، ولكنهم فقط دخلوا ونظموا أنفسهم حول الطاولة، محدثين اضطرابا مسليا؛ بمعنى أنه كان ممتعا لهم، وبدوا كأنهم يتوقعون من الآخرين أن يشاركوهم نفس الإحساس. انحنى السيد ستانلي تجاههم انحناءة احترام. كانت بالفعل انحناءة صغيرة، وليست مجرد إيماءة برأسه. ألقى عليهم تحية المساء، ثم سألوه عن المتاح للعشاء، فقال إنه يعتقد أنه الأسقلوب، وفطيرة القرع للتحلية.
قال لليديا: «يعمل هؤلاء الرجال في شركة تليفونات نيو برانزويك. فهم يوصلون كبلات التليفون إلى إحدى الجزر الصغرى، وسيبقون هنا طوال هذا الأسبوع.»
كان أكبر سنا مما خمنت في البداية. لم يظهر هذا في نبرة صوته التي كانت واضحة وأمريكية اللكنة، ولا في حركة يديه، وإنما ظهر في أسنانه البنية المتباعدة الصغيرة، وفي عينيه اللتين اتسمتا بطبقة لبنية رقيقة تعلو قزحيتيه ذواتي اللون البني الفاتح.
جاء الزوج بطعامهم، ثم تحدث إلى العمال. كان نادلا كفؤا، ولكنه كان يتعامل برسمية وبطريقة غير ودية، أشبه بشخص يسير في أثناء نومه، بل في واقع الأمر، كأنه لا يمارس هذا العمل في حياته الواقعية. قدمت الخضراوات في أطباق ضخمة، فبدءوا يخدمون أنفسهم. كانت ليديا سعيدة برؤية كل هذا الكم من الطعام: بروكلي، ولفت مهروس، وبطاطس، وذرة. أخذ الأمريكي قدرا صغيرا من كل صنف وبدأ يأكل بتأن، موحيا بأن الترتيب الذي يرفع به الشوكة المليئة بالطعام إلى فمه لم يكن عشوائيا، وأنه كان يقصد أن يتناول اللفت بعد البطاطس، وأن يقطع الأسقلوب المقلي جيدا - والذي لم يكن كبيرا - إلى نصفين متساويين. رفع رأسه بضع مرات كما لو كان يفكر في قول شيء، ولكنه لم ينطق به. سيطر الهدوء على العمال أيضا الآن، وهم منشغلون بتناول الطعام.
تحدث السيد ستانلي أخيرا وقال: «هل تعرفين الكاتبة ويلا كاثر؟» «أجل.» اندهشت ليديا، لأنها لم تر أي شخص يقرأ كتابا طيلة الأسبوعين الماضيين، ولم تلحظ حتى أي رف للكتب ذات الغلاف الورقي. «هل تعرفين إذن أنها كانت تمضي كل صيف هنا؟» «هنا؟» «على هذه الجزيرة. كان منزلها الصيفي هنا. لا يبعد أكثر من ميل عن المكان الذي نجلس فيه الآن. ظلت تأتي إلى هنا على مدار ثمانية عشر عاما، وألفت العديد من كتبها هنا أيضا. كانت تكتب في غرفة تطل على البحر، ولكن الأشجار نمت الآن وحجبت هذه الإطلالة. كانت بصحبة صديقتها المقربة، إديث لويس. هل قرأت «سيدة ضائعة»؟»
فأجابت ليديا بأنها قرأته. «إنه المفضل لدي من بين جميع كتبها. لقد ألفته هنا. أو على الأقل، كتبت جزءا كبيرا منه هنا.»
كانت ليديا تدرك أن العمال ينصتون لهما، رغم أنهم لم يرفعوا أعينهم عن الطعام. شعرت أنهم حتى دون أن ينظروا إلى السيد ستانلي أو بعضهم إلى بعض ربما يجمعهم الشعور بالازدراء الذي يمكنهم التغاضي عنه. فكرت في أنها لا تهتم ما إن كانت أو لم تكن محط هذا الازدراء، ولكن ربما لهذا السبب لم تجد الكثير لتقوله عن ويلا كاثر، أو تخبر السيد ستانلي أنها تعمل لصالح أحد الناشرين، ناهيك عن كونها هي أصلا كاتبة. أو ربما يكون الأمر فقط في أن السيد ستانلي لم يعطها فرصة كافية لذلك.
قال لها: «لقد كنت معجبا بها لأكثر من ستين عاما.» ثم توقف عن الكلام، ممسكا سكينه وشوكته فوق طبقه. «لقد قرأت لها مرارا، وفي كل مرة يزداد إعجابي بها. ليس بيدي حيلة. ثمة أشخاص هنا يتذكرونها. والليلة سأقابل امرأة، امرأة كانت تعرف ويلا وتحدثت معها. إنها في الثامنة والثمانين من عمرها، ولكنهم يقولون إن ذاكرتها لم تزل سليمة. لقد بدأ الناس هنا يعرفون اهتماماتي؛ ومن ثم عندما يتذكرون شخصا يعرفها يبلغونني ويرتبون لقائي به.»
ثم أردف في نبرة جادة: «سيسعدني هذا كثيرا.»
وطوال الوقت الذي كان يتحدث فيه، كانت ليديا تحاول التفكير فيما يذكرها به أسلوبه في الحديث. لم يذكرها بشخص معين، رغم أنها ربما تكون قد قابلت معلما أو اثنين في الكلية يتحدثون بهذا الأسلوب. جعلها هذا تفكر في وقت لم تكن فيه قلة قليلة من الناس - فقط القليل منهم - يشغلون بالهم أبدا بأن يتحدثوا بديمقراطية أو بتملق؛ فقد كانوا يتحدثون بجمل رسمية ومدروسة ومتفاخرة بعض الشيء، رغم أنهم كانوا يعيشون في بلد قد لا يجلب عليهم التزامهم فيه بالرسميات والتحذلق سوى السخرية. كلا، لم تكن هذه الحقيقة كاملة. لقد جلب عليهم السخرية والإعجاب المسبب للضيق. ما فكرت ليديا فيه بسببه، فعلا، هو الثقافة العتيقة للمدن الإقليمية في الماضي (شيء لم تعرفه قط بالطبع، ولكنها استشعرته من الكتب)، ونبل المشاعر، واللياقة في التعامل، وكراسي الحفلات المخملية الصلبة، والمكتبات الهادئة. كان إعجابه بالكاتبة المختارة جزءا من هذا. كان متقادما بنفس تقادم حديثه. فكرت في أنه لا يمكن أن يكون معلما؛ فهذا العشق ليس من سمة المعلمين، حتى في مثل سنه. «هل تدرس الأدب؟» «لا، أوه، لا. لم أحظ بهذا الامتياز. كلا، حتى إنني لم أدرس الأدب. لقد بدأت العمل منذ أن كان عمري ستة عشر عاما. وقتها لم تكن هناك خيارات كثيرة؛ فعملت في الصحف.»
تبادر إلى ذهنها صحيفة متحفظة وتقليدية إلى حد السخف تصدر في نيو إنجلاند بأسلوب نثري رجعي.
سألته: «أيها؟» ثم أدركت أن فضولها لا بد وأنه بدا فظا بالنسبة إلى أي شخص متحفظ. «ليست صحيفة معروفة. مجرد صحيفة يومية لبلدة صناعية. بالإضافة إلى عملي في صحف أخرى عندما كنت في مقتبل العمر؛ هذه كانت حياتي.» «والآن، هل تريد تأليف كتاب عن ويلا كاثر؟» لم يبد هذا السؤال في غير محله بالنسبة إليها؛ لأنها كانت تتحدث دائما إلى أشخاص ممن يريدون تأليف كتب عن موضوع ما.
فقال بجدية: «كلا، حالة عيني لا تسمح لي بقراءة أو كتابة أي شيء بخلاف ما هو ضروري.»
لهذا السبب كان متأنيا في تناوله للطعام.
واصل قائلا: «كلا، لا أعني أنني لم أفكر في وقت من الأوقات في ذلك، أقصد تأليف كتاب عن ويلا. كنت سأكتب شيئا عن حياتها على هذه الجزيرة وحسب. لقد كتبت سيرة حياتها بالفعل، ولكنها لم تتناول كثيرا تلك المرحلة من حياتها. الآن تخليت عن هذه الفكرة، وأتقصى في الأمر لمتعتي الشخصية. اعتدت أن آخذ كرسيا خفيفا إلى هناك لكي أجلس تحت النافذة التي كانت تكتب فيها وتتطلع إلى البحر. لا يذهب أحد إلى هناك مطلقا.» «ألم يتم الحفاظ على المكان؟ ألم يتحول إلى نوع من النصب التذكارية؟» «كلا، في الواقع لم يتم الحفاظ عليه على الإطلاق؛ فالناس هنا، رغم تأثرهم الشديد بويلا، وإدراك بعضهم لعبقريتها - أعني عبقرية شخصيتها؛ لأنهم ما كانوا ليدركوا عبقرية عملها - فإن البعض الآخر منهم اعتبرها غير ودودة ولم يحبها. شعروا بالإهانة لأنها لم تكن اجتماعية، رغم اضطرارها إلى ذلك، لكي تمارس الكتابة.»
قالت ليديا: «يمكن أن يصبح مشروعا. ربما يمكنهم جمع المال من الحكومة. الحكومة الكندية والأمريكية أيضا. يمكنهم ترميم البيت.» «حسنا، لا يعود القرار إلي في هذا.» ثم ابتسم وهز رأسه قائلا: «لا أعتقد هذا. كلا.»
لم يكن يريد أن يأتي أي عشاق آخرين ليزعجوه وهو جالس على كرسيه. لا بد وأنها كانت تعلم ذلك. ما قيمة رحلته المقدسة الخاصة هذه لو شاركه فيها آخرون، ورفعت اللافتات الإعلانية، وطبعت المنشورات الدعائية؛ لو أعيدت تسمية هذا الفندق، الذي يسمى الآن «إطلالة البحر»، ليصبح «ظلال على الصخرة»؟ كان سيفضل هدم البيت ودفنه تحت الحشائش المتنامية على أن يرى هذا يحدث. •••
بعد محاولة ليديا الأخيرة الاتصال بدانكن - الرجل الذي كانت تعيش معه في كينجستون - تمشت بطول الشارع في تورنتو، وهي تعلم أن عليها الذهاب إلى البنك، وشراء بعض الطعام، وركوب قطار الأنفاق. كان عليها أن تتذكر الاتجاهات، وترتيب القيام بالأشياء: أن تفتح دفتر شيكاتها، وتتقدم إلى الأمام عندما يحين دورها في الطابور، وأن تختار نوعا معينا من الخبز بدلا من نوع آخر، وأن تلقي قطعة معدنية في الفتحة المخصصة للعملات. بدت لها هذه الأشياء أصعب ما قامت به في حياتها. كانت تواجه صعوبة بالغة في قراءة أسماء محطات قطار الأنفاق والنزول في المحطة الصحيحة، لكي تستطيع الذهاب إلى الشقة التي تقطن فيها. كانت تعجز عن وصف هذه الصعوبة. كانت تعرف جيدا المحطة الصحيحة، وتعرف المحطة التي قبلها، وتعرف أين هي، ولكنها لم تستطع أن تربط بين نفسها وبين الأشياء الموجودة خارج ذاتها؛ وبالتالي فالنهوض ومغادرة العربة وصعود السلالم والسير في الشارع، كل ذلك بدا أنه ينطوي على مجهود غريب. فكرت بعد ذلك أنها قد تعطلت، كما يقال عن الآلات. وحتى في ذلك الوقت الذي كانت ترسم فيه صورة معينة عن نفسها، تخيلت نفسها شيئا مثل كرتونة البيض؛ مجوفة من الخلف.
عندما وصلت إلى الشقة جلست على كرسي في الردهة. جلست قرابة ساعة أو أكثر قليلا، ثم دخلت الحمام، وخلعت ملابسها، وارتدت قميص نومها، وخلدت إلى الفراش. وفي الفراش، أحست بالانتصار والراحة ، بأنها عالجت الصعوبات كافة ودفعت بنفسها إلى المكان الذي من المفترض أن تكون فيه وليس عليها أن تتذكر أي شيء آخر.
لم تشعر على الإطلاق بالرغبة في الانتحار. لم تكن لتستطيع التحكم في الأدوات أو الوسائل المساعدة، ولم تكن لتعرف أيها تستخدم. تعجبت لتفكيرها في أنها قد اختارت رغيف الخبز والجبن، اللذين كانا ملقيين على الأرض في الردهة. كيف تخيلت أنها ستمضغهما وتبلعهما؟ •••
بعد الغداء جلست ليديا في الشرفة مع المرأة التي طهت الوجبة. وكان زوج المرأة قد تولى عملية التنظيف.
قالت المرأة: «حسنا، إن لدينا طبعا غسالة أطباق. ولدينا ثلاجتان ووحدة تبريد ضخمة. على المرء أن يقوم بالاستثمار. وإذا كان طاقم العمل يقيم معه، فعليه إطعامه. هذا المكان يمتص المال وكأنه قطعة إسفنج. سنحفر حمام سباحة في العام القادم؛ إذ نحتاج إلى مزيد من عوامل الجذب. يجب على المرء أن يتقدم ليحافظ على مكانه. يتصور الناس أنها حياة لطيفة وسهلة. يا إلهي!»
كان وجهها حاد القسمات ومليئا بالتجاعيد، وشعرها ناعما وطويلا. وكانت ترتدي الجينز وبلوزة مطرزة وسترة رجالية. «منذ عشر سنوات كنت أعيش في كوميون بالولايات المتحدة. والآن أنا هنا. أعمل أحيانا ثماني عشرة ساعة في اليوم. وما زال علي الليلة أن أعلب غداء الطاقم؛ أطهو وأخبز، أطهو وأخبز. وجون يقوم بالباقي.» «هل لديكم من يقوم بالتنظيف؟» «لا يمكننا تحمل تكلفة تعيين شخص آخر. جون يتولى هذا. وهو يغسل الغسيل - وكل شيء. لقد اضطررنا إلى شراء مكواة من أجل الملاءات، وكان علينا أن نجلب فرنا جديدا؛ فحصلنا على قرض من البنك. أعتقد أن هذا مضحك؛ لأني كنت متزوجة من مدير بنك، ولكني تركته.» «أنا أيضا أعيش بمفردي الآن.» «أحقا؟ لا يمكنك أن تعيشي وحدك بقية عمرك. لقد قابلت جون، وقد كان على متن نفس السفينة.» «كنت أعيش مع رجل في كينجستون، في أونتاريو.» «صحيح؟ أنا وجون نعيش في سعادة تامة. كان قسا في فترة من حياته، ولكنه كان قد احترف النجارة حين قابلته. كلانا عاش على هامش المجتمع نوعا ما. هل تحدثت مع السيد ستانلي؟» «أجل.» «هل سمعت يوما عن ويلا كاثر؟» «أجل.» «هذا سيفرحه. أنا نادرا ما أقرأ، والأمر لا يعني شيئا بالنسبة إلي. أنا شخصية تميل إلى المرئيات. ولكني أعتقد أنه شخصية رائعة، السيد ستانلي العجوز، إنه مثقف بالفعل.» «هل اعتاد المجيء إلى هنا منذ فترة طويلة؟» «كلا، هذا عامه الثالث. يقول إنه لطالما أراد المجيء إلى هنا، ولكنه لم يستطع. كان عليه الانتظار لحين موت أحد أقربائه لأنه كان يعتني به. ليس زوجته. ربما يكون أخاه. لقد اضطر إلى الانتظار على أية حال. كم يبلغ من العمر في ظنك؟» «سبعين؟ خمسة وسبعين؟» «لقد بلغ الرجل واحدا وثمانين عاما. أليس هذا رائعا؟ يعجبني حقا الأشخاص من أمثاله. فعلا، يعجبني الأشخاص الذين يواصلون حياتهم.» •••
قالت ليديا: «الرجل الذي أعيش معه - أقصد، الرجل الذي كنت أعيش معه في كينجستون - كان يضع ذات مرة بعض صناديق الأوراق في حقيبة سيارته، وكان هذا في الريف، في بيت ريفي قديم، عندما شعر بشيء يلكزه فنظر إلى الأسفل. كان ذلك في أول الليل تقريبا، في يوم حالك الظلام. فظن أنه كلب كبير ودود، كلب أسود يلكزه، فلم يعره أي انتباه. حثه فقط قائلا: اذهب، الآن، ارحل، أحسنت. ثم بعدما نظم الصناديق التفت فوجد أنه دب. كان دبا أسود.»
حكت هذه القصة في وقت لاحق من نفس تلك الأمسية، في المطبخ.
سأل لورانس، الذي كان قائد طاقم العمل في مهمة كبلات التليفون: «ماذا فعل حينها؟» كان لورانس وليديا ويوجين وفينسنت يلعبون الكوتشينة.
ضحكت ليديا: «قال «عذرا!» هذا ما ادعى أنه قاله.» «كل ما كان لديه في الصناديق مجرد أوراق؟! لا طعام؟!» «إنه كاتب. يكتب كتبا تاريخية. وهذه الأوراق كانت مادة يحتاجها في عمله. أحيانا يضطر إلى الخروج وجمع المادة التي يحتاجها من أشخاص يتسمون بالغرابة الشديدة. لم يخرج هذا الدب من البرية، بل كان مروضا في الواقع، وقد تم فك أسره من السلسلة التي تربطه، من أجل الدعابة؛ فقد كان هناك شقيقان عجوزان، جمع منهما هذه الأوراق، وقد أطلقا سراح الدب ليرعباه.»
سأل لورانس: «أهذا ما يمارسه؟ يجمع الأشياء القديمة ويكتب عنها؟ أعتقد أن هذا مشوق.»
شعرت بالندم فورا لسردها هذه القصة. لقد عرضتها لأن الرجال كانوا يتحدثون عن الدببة. ولكن لم يكن سردها مفيدا ما لم يحكها دانكن بنفسه؛ فهو يستطيع أن يبين نفسه رجلا مهيبا ولطيفا ومتحضرا، وهو يقدم اعتذاراته الكيسة للدب. بإمكانه أن يجعلك ترى الرجلين العجوزين الشقيقين مستترين خلف ستائرهما الرثة. «عليكم أن تقابلوا دانكن.» هذا ما قالته غالبا. ألم تقل هذه القصة لتوضح فقط أنها كانت تعرف دانكن، أنها كانت تعيش مؤخرا مع رجل، رجل مشوق، رجل مسل ومغامر؟ أرادت أن تؤكد لهم أنها لم تكن دائما وحيدة ومنطلقة في أسفارها بلا هدف. كان عليها أن تبين ارتباطها بأحد. وقد كانت غلطة؛ فليس من المرجح أن يعتبروا المرء مغامرا لجمعه الأوراق القديمة من البخلاء وغريبي الأطوار لكي يؤلف كتبا عن أحداث وقعت منذ مائة عام. ما كان يجب حتى أن تقول إن دانكن كان رجلا تعيش معه. كل ما قد يعنيه هذا، بالنسبة إليهم، أنها امرأة عاشرت رجلا دون زواج.
لم يبلغ لورانس قائد الطاقم سن الأربعين بعد، ولكنه كان ناجحا. كان سعيدا وهو يحكي عن نفسه. كان مقاول عمالة مستقلا، ويملك منزلين في سانت ستيفن، ويملك أيضا سيارتين وشاحنة وقاربا. أما زوجته فكانت معلمة. ورغم خصره السمين، ككرش سائق شاحنة، فقد بدا نشيطا ومفعما بالحيوية. ويمكن ملاحظة ذكائه المتجلي بصورة كافية، في معظم المواقف، محققا أغراضه الخاصة؛ بثقة كافية وقسوة كافية. وقد تبدو عليه البهرجة وهو متأنق، وثمة أماكن وأشخاص معينة يمكنها أن تثير لديه الاكتئاب والقلق وتجعله عدائيا.
قال لورانس إنه ليس كل ما كتب صحيحا - كل الأمور التي كتبوها عن الماريتايمز. وقال إن ثمة الكثير من فرص العمل لمن لا يهاب العمل، رجالا كانوا أم نساء. وقال إنه لم يكن ضد حرية المرأة، لكن الحقيقة كانت - وستظل دائما - أن هناك أعمالا يجيدها الرجال أكثر من النساء ، وأعمالا تجيدها النساء أكثر من الرجال، ولو هدأ الطرفان وأدركا ذلك فسيكون كلاهما أكثر سعادة.
قال إن أبناءه وقحون، وإن حياتهم مريحة؛ فهم يحصلون على كل شيء - هكذا هي الحال هذه الأيام، وما بيد المرء حيلة. الأطفال الآخرون يحصلون أيضا على كل شيء: ثياب ودراجات وتعليم وأسطوانات. أما هو، فلم يحصل على أي شيء بسهولة؛ كان يخرج ويعمل ويقود الشاحنات. فذهب إلى أونتاريو، حتى بلغ ساسكاتشوان. ولم يبلغ سوى الصف العاشر في المدرسة، ولكنه لم يسمح لذلك بأن يعيقه. ومع هذا، كان يتمنى أحيانا لو نال قسطا أكبر من التعليم.
قال يوجين وفينسنت، اللذان يعملان لدى لورانس، إنهما لم يتخطيا قط الصف الثامن، في الوقت الذي كان هذا أقصى ما يمكن للطفل بلوغه في المدارس الريفية. كان يوجين في الخامسة والعشرين، بينما كان فينسنت في الثانية والخمسين. وكان يوجين كنديا من أصول فرنسية ينتمي إلى شمال نيو برانزويك، وبدا أصغر من سنه. كان وجهه ورديا، ونظرته حالمة ومراوغة، يتمتع بجمال ذكوري رغم أنه كان لين الجانب ودمثا وحييا. نادرا ما يوجد رجال أو صبية يتسمون بهذا المظهر اليوم. أحيانا ترى هذا المظهر في صورة قديمة، لعريس أو لاعب سلة، بشعره الكثيف الممشط والمبلل بالماء، ووجهه الطفولي المتورد في جسد رجل يافع. لم يكن يوجين حاد الذكاء، أو ربما لا يميل إلى التنافس. خسر أمواله في اللعبة التي كانوا يلعبونها؛ كانت لعبة بأوراق الكوتشينة يسمونها «سكات». تذكرت ليديا أنها لعبت هذه اللعبة في طفولتها، وكانت تسميها «واحد وثلاثون». كانوا يلعبون مقابل ربع دولار لكل دور.
لم يعترض يوجين على إغاظة فينسنت ولورانس له بسبب خسارته في اللعبة، ولأنه ضل طريقه في سانت جون، وبسبب النساء اللائي كان يحبهن، ولكونه كنديا فرنسيا. وبلغت مضايقات لورانس له حد التنمر. حرص لورانس على أن يرسم على وجهه تعبيرا وديا، ومع ذلك بدا كما لو أن شيئا قاسيا وثقيلا موجود بداخله - قدر كبير من الاعتداد بالنفس كان يثقل حركته بدلا من أن يدفعه إلى الأمام . لم يكن فينسنت يحمل هذا العبء الإضافي، ورغم أنه أيضا كان قاسيا في مضايقاته - إذ كان يضايق لورانس مثلما يضايق يوجين - فلم يكن هناك إحساس بالقسوة أو الخطر. وبإمكان المرء أن يلحظ أن نبرته الطبيعية هي نبرة دردشة عادية وسخرية عفوية. كان حادا وماكرا، ولكنه لم يكن لحوحا. وكان دائما قادرا على ذكر أكثر الأشياء بعثا على التشاؤم دون أن يبدو تعيسا.
كان فينسنت يملك مزرعة، كانت ملكا لعائلته من قبله، وقد نشأ فيها، بالقرب من سانت ستيفن. قال إن المرء ليس بوسعه اليوم جني ما يكفي من المال للإنفاق على نفسه من الزراعة وحسب. في العام الماضي، زرع محصول البطاطس، وكان هناك صقيع في شهر يونيو، وسقطت الثلوج في سبتمبر. كان موسما قصيرا جدا بلا شك. وقال إن المرء لا يستطيع أن يتنبأ بحدوث أشياء كهذه. والسوق كلها تحت السيطرة الآن، حيث يديرها التجار الكبار والمصالح الكبرى. وكل امرئ يفعل ما بوسعه، بدلا من الاعتماد على الزراعة. كما تعمل زوجة فينسنت أيضا. فقد تلقت دورة تدريبية وتعلمت تصفيف الشعر. لم يكن أبناؤه مجتهدين في العمل مثل والديهما. كل ما يحبون عمله هو التجوال بالسيارات محدثين ضجة. وهم متزوجون، وأول شيء تريده زوجاتهم هو فرن جديد؛ يردن فرنا يطهو فعليا الغداء ويضعه على المائدة.
لم تكن هذه هي عادة الأمور. فأول مرة امتلك فيها فينسنت حذاء برقبة خاصا به - حذاء جديدا لم يلبسه أحد قبله - كانت عندما التحق بالجيش. وكان سعيدا لدرجة أنه سار إلى الخلف وسط الأوحال ليرى الآثار التي يتركها حديثة وكاملة. وفي وقت لاحق، بعد الحرب، اتجه إلى سانت جون ليبحث عن عمل. كان منشغلا في البيت بأعمال المزرعة لمدة، حتى بليت ثياب الجيش - فلم يكن متبقيا لديه سوى بنطال واحد لائق. وفي إحدى الحانات بسانت جون، قال رجل له: «هل تريد امتلاك بنطال مقبول ورخيص؟» فأجاب فينسنت بنعم، فقال له الرجل: «اتبعني.» وهكذا تبعه فينسنت. وأين انتهى بهما المطاف؟ لدى الحانوتي! فالحقيقة أن عائلة الشخص المتوفى عادة ما تجلب معها حلة لإلباسه إياها، وهو لا يحتاج سوى أن يرتدي ما يستره حتى الخصر، هذا كل ما يظهر في التابوت. ومن ثم باع الحانوتي البنطال؛ هذا حقيقي. أعطى الجيش فينسنت أول حذاء جديد برقبة، بينما تبرعت الجثة بأفضل بنطال ارتداه يوما، حتى ذلك الوقت.
كان فينسنت دون أسنان، وكان هذا يظهر بوضوح من الوهلة الأولى، ولكن لم يجعله هذا يبدو دميما، وإنما عمق مظهره المتكتم والساخر. كان وجهه طويلا وذقنه غائرا، ولم تكن نظرته مثيرة للاهتمام ولكنها أيضا ليست بالساذجة. كان رجلا هزيلا، غير أنه لم يفقد قدرته العضلية، وكان شعره أسود مائلا للرمادي. بوسعك أن ترى جميع سنوات الكفاح بادية عليه، وبعض السنوات اللاحقة أيضا، وعلى الجسد كذلك، حتى استحال إلى عجوز لا يقوى على شيء، متضائل الوزن، غير شكاء، متشبث ببضع نكات.
بينما كانوا يلعبون سكات، كان الحديث صاخبا وتتم مقاطعته طوال الوقت بعبارات التعجب، أو تهديدات هزلية متعلقة باللعبة، أو الضحك. بعد ذلك أصبح أكثر جدية وخصوصية. كانوا يشربون بيرة محلية مسماة موس، ولكن عندما انتهت اللعبة اتجه لورانس إلى شاحنته وعاد ببعض زجاجات بيرة أونتاريو، التي يعتقد أنها أفضل. كانوا يصفونها ب «المشروبات المستوردة». كان الزوجان اللذان يملكان الفندق قد ذهبا مبكرا ليخلدا للنوم، إلا أن العمال وليديا كانوا جالسين في المطبخ، كما لو كان ملكا لأحدهم، يحتسون البيرة ويأكلون كنافة البحر، التي نزل بها فينسنت من غرفته. كانت كنافة البحر نوعا من الأعشاب البحرية، ذات لون بني مائل للخضرة، وكانت مالحة ولها مذاق السمك. قال فينسنت إنها آخر ما يأكله في المساء وأول ما يأكله في الصباح - فلا شيء يضاهيها. والآن بعد أن عرف التجار أنها مفيدة جدا، بدءوا يبيعونها في المتاجر مغلفة في عبوات صغيرة للغاية بسعر باهظ.
كان اليوم التالي هو الجمعة، حيث سيغادر الرجال الجزيرة باتجاه البر الرئيسي. تحدثوا حول محاولة اللحاق بمركب الساعة الثانية والنصف، بدلا من المركب الذي يركبونه عادة في الخامسة والنصف؛ لأن الأرصاد توقعت سوء حالة الجو؛ إذ من المتوقع أن يضرب أحد الأعاصير الاستوائية في نهايته خليج فوندي قبل حلول الليل.
قالت ليديا: «لكن المعديات لن تبحر لو ساءت الأحوال الجوية جدا، أليس كذلك؟ لن تبحر لو كان ثمة خطر؟» فكرت في أنها لن تمانع في البقاء في الجزيرة، ولن تمانع في عدم اضطرارها للسفر مجددا في الصباح.
قال فينسنت: «حسنا، ثمة الكثير من الأشخاص في انتظار مغادرة الجزيرة مساء الجمعة.»
قال لورانس متهكما: «في انتظار العودة إلى زوجاتهم. دائما هناك فرق عمل تعمل هنا، ودائما ما يكونون رجالا مغتربين عن وطنهم.» ثم بدأ الحديث عن الجنس بطريقة متأنية ولحوحة في نفس الوقت. فتحدث عما سماه فساد الجزيرة الأخلاقي. قال إن السلطات كانت ستقوم ذات مرة بفرض حجر صحي على الجزيرة كلها؛ بسبب أفراد طاقم مصابين بأمراض تناسلية جاءوا للعمل هنا وأقاموا بفندق «أوشن ويف»، فكانت هناك حفلات تقام طوال الليل كل ليلة، وخمور وفتيات شابات يعرضن أنفسهن للبيع. كن فتيات في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة - أوه، وحتى في الثالثة عشرة. ثم قال إنه على هذه الجزيرة كان يمكن أن تصبح المرأة في سن الخامسة والعشرين جدة بالفعل. كان المكان شهيرا، وكانت هؤلاء الفتيات على استعداد لعمل أي شيء بمقابل، أحيانا مقابل زجاجة بيرة.
قال لورانس: «وأحيانا بلا مقابل.» وكان مستمتعا بالحكاية.
سمعوا الباب الأمامي يفتح.
قال لورانس لليديا: «صديقك القديم.»
أصابها الذهول للحظة، وهي تفكر في دانكن.
ثم قال فينسنت: «الرجل العجوز الذي كنت تجلسين معه على الطاولة.»
لم يدخل السيد ستانلي إلى المطبخ، بل عبر غرفة المعيشة وصعد الدرج.
قال لورانس بصوت خفيض وهو يرفع رأسه وكأنه يناديه عبر السقف: «يا أنت! هل ذهبت إلى فندق أوشن ويف؟» ثم أردف: «الرجل العجوز لم يكن ليعلم ما يفعل بذهابه إلى الفندق. وما كان ليعلم منذ خمسين عاما أفضل مما يعلم الآن. أنا لا أسمح لأحد من فريقي بالاقتراب من هذا المكان. أليس كذلك يا يوجين؟»
تورد وجه يوجين، وتجلت ملامح الكآبة على وجهه، كما لو أن معلما في المدرسة يضايقه.
قال فينسنت: «يوجين، انظر، ليس مضطرا إلى السماح لهم بالذهاب.»
قال لورانس بإلحاح، كما لو أن شخصا يجادله: «أليس ما أقوله صحيحا؟»
نظر إلى فينسنت، فقال فينسنت: «بلى، بلى.» ولم يبد مستمتعا بالموضوع بقدر لورانس.
قال لورانس لليديا: «قد تعتقدين أن كل شيء بريء جدا هنا. بريء! يا إلهي!»
صعدت ليديا إلى الطابق العلوي لتجلب ربع دولار كانت مدينة به للورانس خلال آخر دور من اللعبة. وعندما خرجت من غرفتها إلى الرواق المظلم، كان يوجين واقفا هناك، يتطلع خارج النافذة.
قال: «أرجو ألا تشتد العاصفة.»
وقفت ليديا إلى جواره، وتطلعت إلى الخارج. وكان القمر مرئيا، ولكن يحيطه الضباب.
سألته: «ألم تنشأ بالقرب من البحر؟» «نعم، لم أفعل.» «ولكن إذا لحقت بمركب الثانية والنصف، فستكون الأمور على ما يرام، أليس كذلك؟» «آمل هذا.» كان طفوليا إلى حد بعيد ولم يخجل من خوفه. «الأمر الذي لا أحبه هو فكرة الموت غرقا.»
قالت له بنبرة أمومية مؤكدة: «لن تغرق.» ثم نزلت إلى الطابق السفلي ودفعت ربع الدولار.
سأل لورانس: «أين يوجين؟ أهو بالطابق العلوي؟» «إنه يتطلع من النافذة، يشعر بالقلق من العاصفة.»
ضحك لورانس: «أخبريه أن يخلد للنوم وينسى الأمر. إنه يقيم في الغرفة المجاورة لك. ظننت فقط أنك يجب أن تعرفي هذا في حالة صياحه في أثناء نومه.» •••
كانت ليديا قد قابلت دانكن لأول مرة في مكتبة، حيث كان يعمل صديقها وورين. كانت في انتظار وورين ليخرج معها للغداء. وكان قد ذهب ليجلب معطفه. فسأل رجل شيرلي - الموظفة الأخرى في المكتبة - ما إن كانت تستطيع أن تجد له نسخة من «الخطابات الفارسية». كان هذا هو دانكن. سارت شيرلي أمامه باتجاه مكان الكتاب، وفي وسط المكتبة الهادئة استطاعت ليديا أن تسمعه يقول إنه لا بد وأن العثور على رف كتاب «الخطابات الفارسية» أمر صعب؛ فهل يجب تصنيفه تحت فئة الأدب القصصي أم المقال السياسي؟ شعرت ليديا أنه يبوح بشيء بقوله هذا. كان يبوح باحتياج افترضت شيوعه لدى العملاء في المكتبات؛ الاحتياج إلى تمييز نفسه، والظهور بمظهر المثقف. فيما بعد كانت تتذكر هذه اللحظة وتحاول تخيله مجددا عاجزا للغاية، متملقا إلى حد ما، مبديا قدرا من الاحتياج. عاد وورين مرتديا معطفه، فحيا دانكن، ولدى خروجه وليديا من المكتبة، قال وورين بصوت هامس: «الحطاب القصديري.» كان وورين وشيرلي يسليان وقتهما بإطلاق ألقاب على العملاء، وقد سمعت ليديا بالفعل عن «اللسان الفصيح» و«الحمص» و«الدوقة الاستعمارية». أما دانكن فكان الحطاب القصديري. خمنت ليديا أنهما أطلقا عليه هذا اللقب بسبب المعطف الرمادي الأملس الذي كان يرتديه، وشعره الرمادي الساطع الذي كان من الواضح أنه كان أشقر في يوم من الأيام. لم يكن نحيفا ولا بارز العظام ولم يبد مرتعش المفاصل. كان رشيقا وممتلئا وجليلا ولطيفا، فاتح البشرة، مهندما وأنيقا ومتألقا.
لم تخبره قط عن هذا الاسم. لم تخبره قط أنها رأته في المكتبة، حيث قابلته بعد هذا الموقف بأسبوع تقريبا في حفلة لأحد الناشرين. لم يتذكر أنه رآها قط من قبل، وقد خمنت أنه لم يرها بسبب انشغاله بالحديث مع شيرلي.
تثق ليديا في حكمها على الأشياء، في العادة. وتثق في رأيها في صديقها وورين، أو صديقته شيرلي، وفي المعارف الذين تتعرف عليهم بالصدفة، مثل الزوجين اللذين يديران الفندق، والسيد ستانلي، والرجال الذين كانت تلعب معهم الكوتشينة؛ فهي تعتقد أنها تعلم السر وراء تصرف الناس بالطريقة التي يتصرفون بها، وتعتمد على نظرياتها غير المثبتة وشكوكها غير المبررة أكثر مما تعترف. ولكنها تصبح حمقاء وضعيفة عند التفكير في الصدام بينها وبين دانكن. إن لديها الكثير لتقوله في هذا الشأن لو أتيحت لها الفرصة؛ لأن الشرح من شيمها، ولكنها لا تثق فيما تقوله حتى لو لنفسها؛ فذلك لا يساعدها. قد يكون من الأفضل لها تغطية رأسها والجلوس لتنتحب على الأرض.
تسأل ليديا نفسها عما مده بهذه القوة. إنها تعلم من. ولكنها تسأل عن السبب والتوقيت: متى حدث التحول، متى تم التنازل عن كل الكبرياء وحسن الفهم؟ •••
ظلت تقرأ لمدة نصف ساعة بعد خلودها للفراش، ثم خرجت إلى الردهة متجهة إلى الحمام. كان ذلك بعد منتصف الليل، وكان الظلام يسود بقية البيت. وكانت قد تركت باب غرفتها مواربا، وعند عودتها إلى غرفتها لم تشغل مصابيح الردهة. كما كان باب غرفة يوجين مواربا بالمثل، وعند المرور من أمام غرفته سمعت صوتا خفيضا مهموما. كان أقرب إلى الأنين، وأقرب إلى الهمس. تذكرت قول لورانس بأن يوجين يصيح خلال نومه، لكن هذا الصوت لم يصدر من شخص نائم. كانت تعرف أنه مستيقظ. وكان هو يراقبها من فراشه في غرفته المظلمة وكان يدعوها للدخول. كانت الدعوة غزلية ومباشرة وتنم عن شعور بالضعف، مثلما كان اعترافه بالخوف عندما وقف أمام النافذة. تابعت السير إلى غرفتها وأغلقت الباب وأوصدته بالمزلاج. حتى وهي تفعل ذلك، كانت تعلم أنها ليست مضطرة إلى عمله؛ فهو لن يحاول الدخول أبدا؛ فهو لا يتسم بروح مستأسدة.
ثم استلقت على الفراش وهي مستيقظة. لقد تغيرت الأحوال بالنسبة إليها، ورفضت بعض المغامرات. كان بوسعها الذهاب إلى يوجين، وفي وقت سابق من الأمسية كان بوسعها إعطاء إشارة إلى لورانس. في الماضي ربما كان بوسعها عمل ذلك. ربما، وربما لا، بحسب ما كانت تشعر به حينها. ولكن الآن بدا الأمر مستحيلا؛ لقد شعرت وكأنها محجوبة بغطاء، وملتفة في طبقات وطبقات من المعرفة المملة، شعرت أنها مصونة ومحصنة. لم يكن هذا أمرا سيئا تماما؛ فقد يجعل عقلك مستنيرا. فالتأمل يمكن أن يكون أكثر لطفا، ويمكن أن يستغرق وقته عندما لا تقوده الرغبة.
فكرت ليديا فيما كان سيصبح عليه حال أولئك الرجال كعشاق. كان لورانس سيصبح خيارها المنطقي؛ فكان الأقرب إلى سنها، وكانت تصرفاته متوقعة، وربما كان معتادا على اللقاءات الكتومة. كان أسلوبه فظا، ولكن ما كان هذا ليثنيها عنه بالضرورة. سيكون مرحا، وودودا، ومتعقلا، وربما محتفيا بنفسه بعض الشيء، ومتوددا لها بصورة عملية، وسيستطيع وهو في غمرة تودده إليها أن ينجرف إلى توجيه تحذير في صورة دعابة، أو إهانة ودية، أو تذكير بكيف تستقيم الأشياء.
أما يوجين ، فلم يكن ليشعر بالحاجة إلى عمل ذلك، رغم أن ذاكرته ستكون أضعف حتى من لورانس (أضعف كثيرا؛ لأن لورانس - رغم أنه لا يفوت الفرص - سيفكر لاحقا في عاقبة ما سيئة، يجب أن يعد لها خطا دفاعيا قاطعا). ولن يكون يوجين أقل خبرة من لورانس. فلا بد من أن الفتيات والنساء طيلة السنوات الماضية قد استجبن لنوع الاستعطاف الذي سمعته ليديا، أو ذلك الاعتراف الساذج. وجال بخاطرها أيضا أن يوجين سيكون سخيا، وسيكون عاشقا ممتنا وغير أناني، وأنه سيظهر لنسائه قدرا كبيرا من العطف والحنان لدرجة أنه حين يفارقهن لن يثرن المشاكل أبدا. فلن يحاولن الإيقاع به، ولن ينتحبن عليه؛ فالنساء يفعلن ذلك مع رجال امتنعوا عن العطاء، وتناقضوا مع أنفسهم، ووعدوا فأخلفوا، وسخروا. هؤلاء هم الرجال الذين تحمل منهم النساء، ويراسلنهم بخطابات بائسة، ويلححن بحبهن السامي لهم، وينتقمن منهم. كان يوجين سيفلت حرا، سيكون بريئا، أعجوبة الحب السعيدة، إلى أن يقرر أن الوقت قد حان للزواج. وعندها سيتزوج فتاة عادية تملك روح الأمومة، وربما تكون أكبر منه سنا، وربما أكثر دهاء. ولسوف يكون مخلصا لها، وطيب المعاشرة، وستستطيع هي إدارة شئون الحياة، وسيؤسسان معا عائلة كاثوليكية كبيرة.
ماذا عن فينسنت؟ لم تستطع ليديا أن تتخيله بنفس السهولة التي تخيلت بها الآخرين، بصخبهم وحركاتهم وأكتافهم العارية وبشرتهم الدافئة الممتعة، وقوتهم، ومجهوداتهم، ولحظات ضعفهم. كانت تخجل من التفكير في أي من هذه الأمور تجاهه. ومع هذا كان الوحيد الذي استطاعت التفكير فيه الآن باهتمام حقيقي. فكرت في لطفه وتحفظه وحس دعابته، وعجزه عن تحسين قدره. أعجبها لنفس الأسباب التي جعلته مختلفا عن لورانس، بل وكانت متأكدة أنه سيظل طوال عمره يعمل لحساب لورانس - أو لشخص مثل لورانس - وليس العكس. أعجبها أيضا للأسباب التي جعلته مختلفا عن يوجين: سخريته، وصبره، واستقلاليته. كان ذلك النوع من الرجال الذي صادفته في طفولتها وهي تعيش في مزرعة لا تختلف كثيرا عن مزرعته، ذلك النوع من الرجال الذي لا بد وأنه كان أحد أفراد عائلتها لمئات السنين . عرفت حياته. ومعه تستطيع التنبؤ بأبواب تفتح على ما كانت تعرفه ونسيته؛ غرف تفتح ومناظر طبيعية تتجلى؛ «هناك». أمسيات ممطرة، وريف به الجداول الصغيرة والمقابر، وبرقوق فرجينيا وعصافير الحسون عند أركان السور. كان عليها أن تتساءل إن كان هذا ما قد حدث، بعد سنوات الشهوة والطمع: هل ينجرف المرء إلى خيالاته الرقيقة؟ أم كانت هذه مجرد الحقيقة عما كانت تحتاجه وتريده؟ هل كان الأفضل لها أن تحب وتتزوج رجلا مثل فينسنت، منذ أعوام مضت؟ هل كان الأفضل لها أن تركز على ذلك الجانب منها الذي كان سيقنع بهذا الترتيب، وينسى الباقي؟
بمعنى: هل كان من الأفضل لها أن تبقى في المكان الذي خلق فيه الحب لأجلها، بدلا من الذهاب إلى المكان الذي عليها أن تصنعه فيه، ثم تعيد تصنيعه، دون أن تعرف أبدا ما إن كانت هذه الجهود كافية؟ •••
تحدث دانكن عن عشيقاته السابقات: روث البارعة، وجودي الجريئة، وديان المفعمة بالحيوية، ودولوريس الأنيقة، وماكسين التي تليق بدور الزوجة، ولورين الشقراء الجميلة ممتلئة الصدر، وماريان متعددة اللغات، وكارولين العصابية، وروزالي التي كانت شرسة وشبيهة بالغجر، ولويز الموهوبة السوداوية، وجين الهادئة المعروفة في الأوساط الاجتماعية الراقية. والآن، ما الوصف الذي ينطبق على ليديا؟ ليديا الشاعرة. ليديا العابسة، الفوضوية، غير المرضية. الشاعرة غير المرضية.
ذات يوم من أيام الأحد، بينما كانا يقودان سيارتهما في منطقة التلال المحيطة ببيتربورو، تحدث دانكن عن وقع جمال لورين عليه؛ ربما ذكره بها الريف المبهج. لكنه قال إن الأمر يكاد يكون مزحة. وقد كان شيئا سخيفا؛ إذ توقف من أجل التزود بالوقود في مدينة صغيرة، وعبرت ليديا الشارع لتدخل متجرا يقدم بضاعة بأسعار مخفضة ويفتح أيام الأحد. اشترت مساحيق الزينة في عبوات جاهزة، وداخل الحمام القذر البارد في محطة الوقود حاولت تغيير هيئتها، فقذفت بسائل أصفر برتقالي على وجهها، ودهنت معجونا أخضر فوق جفنيها.
قال لها بعد عودتها إلى السيارة: «ماذا فعلت بوجهك؟» «إنها مساحيق زينة. لقد وضعت بعضا منها لكي أبدو أكثر ابتهاجا.» «بإمكانك أن تري الخط الذي انتهيت عنده من وضع المساحيق على رقبتك.»
في مثل تلك الأوقات كانت تشعر بالاختناق. كان إحساسا بالإحباط، هكذا أخبرت الطبيب لاحقا. إنها الفجوة بين ما أرادته وما بوسعها الحصول عليه. كانت تؤمن أن مشاعر الحب لدى دانكن - حبه لها - مختبئة في مكان ما بداخله، وأنها عن طريق محاولاتها الهائلة لإرضائه، أو نوبات حزن تمحو بها جميع هذه المجهودات، أو حيل اللامبالاة، ستستطيع نبشها واستخراجها أو استدراجها.
ما الذي أوحى لها بهذه الفكرة؟ إنه هو. على الأقل أشار إلى أنه يستطيع أن يحبها، وأنهما يمكن أن يكونا سعيدين لو استطاعت أن تحترم خصوصيته وألا تطالبه بشيء، وأن تحاول تغيير تلك الجوانب في شخصيتها وسلوكياتها التي لم يكن يحبها. لقد حدد هذه الجوانب بدقة. بعضها كان شخصيا جدا بطبيعته، وقد صرخت من الخجل وغطت أذنيها وتوسلت إليه أن يتراجع عما قال أو يتوقف عن الكلام.
قال لها: «ما من طريقة لمناقشتك.» وقال إنه يكره الشخصيات الهستيرية، والاستعراض العاطفي، أكثر من أي شيء آخر، ولكنها اعتقدت أنها قد لاحظت شيئا من الرضى، أو الشعور المثير بالراحة العميقة، سرى في بدنه عندما انهارت في نهاية المطاف تحت وطأة اعتراضاته التفصيلية والهادئة.
قالت للطبيب بلهفة: «هل هذا ممكن؟ هل من الممكن أن يريد الاقتراب من امرأة وفي نفس الوقت يكون خائفا من هذا القرب لدرجة أنه يحاول تحطيمها؟ هل الأمر بهذه البساطة؟»
سألها الطبيب: «ماذا عنك أنت؟ ماذا تريدين؟» «لكي يحبني؟» «لا لكي تحبيه؟»
فكرت في شقة دانكن. لم تكن تحتوي على ستائر، وكان المبنى الذي تقع فيه الشقة أعلى من المباني المحيطة. ولم تكن هناك محاولة لتنظيم الأثاث لإعداد المكان، وما كان هناك شيء مرتبط بشيء آخر. ولكن كان هناك اهتمام بمتطلبات خاصة متنوعة؛ فثمة منحوتة معينة توجد في ركن خلف بعض خزانات حفظ الملفات لأن دانكن كان يحب افتراش الأرض والنظر إليها في الظل. وكانت الكتب مكدسة بجوار السرير الذي كان موضوعا بالعرض في الغرفة لكي يصله النسيم من النافذة. وكل الفوضى كانت في الحقيقة تنظيما، تم التفكير فيها بعناية ولا يمكن التدخل فيها. كانت هناك سجادة صغيرة جميلة في نهاية الردهة، حيث اعتاد الجلوس والاستماع إلى الموسيقى. وكان هناك كرسي واحد ضخم ودميم بمسندين، تحفة هندسية، بجميع ملحقاته لإسناد الرأس والأطراف. سألته ليديا عن ضيوفه: كيف يستضيفهم؟ أجاب أنه لا يأتيه ضيوف. كانت الشقة له وحده. لقد كان ضيفا معروفا، وحاد الذكاء، وفاتنا، ولكنه لا يستضيف أحدا، وهذا بدا منطقيا بالنسبة إليه، بما أن الحياة الاجتماعية كانت مطلب الآخرين واختراعهم.
أحضرت ليديا زهورا، ولم تجد وعاء تضعها فيه باستثناء برطمان موضوع على الأرض بجوار السرير. وأحضرت هدايا من رحلاتها إلى تورنتو: أسطوانات وكتبا وجبنا. حفظت دروب الشقة واكتشفت أماكن يمكنها الجلوس فيها. منعت أصدقاءها القدامى، أو أي أصدقاء لها عموما، من الاتصال بها أو المجيء لزيارتها؛ لأنه كان هناك الكثير مما لن تستطيع تفسيره. غير أنهما كانا يقابلان أصدقاء دانكن أحيانا، وكانت تشعر بالتوتر في وجودهم، معتقدة أنهم سيضيفونها إلى قائمة ما، متأملين أمرها. لم تكن تحب أن تراه يمنحهم الكثير من متجر هداياه - من نوادر ومحاكاة ساخرة وذكاء مداهن - الذي كان يستخدمه أيضا لإسعادها. لم يكن يتحمل بلادة العقل. وشعرت أنه يحتقر من لم يكن ذكيا. فعليك أن تكون سريع البديهة لتصبح في مستواه في المحادثة، وعليك أن تكون نشيطا. رأت ليديا نفسها كراقصة تقف على أطراف أصابعها، جسدها كله يرتعش برقة، خوفا من تخييب أمله في المرة القادمة.
سألت الطبيب: «هل تقصد أنك تعتقد أنني لا أحبه؟» «كيف تعرفين أنك تحبينه؟» «لأني أعاني كثيرا عندما يضيق ذرعا بي. ساعتها أريد أن تنشق الأرض وتبلعني. هذا حقيقي؛ أريد أن أختبئ. وعندما أخرج إلى الشوارع يبدو لي كل وجه أنظر إليه وكأنه يحتقرني بسبب فشلي.» «فشلك في أن تجعليه يحبك.»
الآن على ليديا أن تتهم نفسها؛ فانشغالها الكامل بنفسها لا يقل عن انشغال دانكن بنفسه، ولكنه مستتر بصورة أكثر مكرا. إنها في منافسة معه، تتعلق بمن يستطيع أن يحب أفضل من الآخر. إنها في منافسة مع جميع النساء الأخريات، حتى عندما ترى أنه من السخافة أن تفعل ذلك. لا يمكنها أن تطيق سماع كلمة ثناء عليهن أو أن تعرف أنهن في ذاكرته لم يطوهن النسيان. وشأنها شأن كثير من النساء في جيلها؛ فإن فكرتها عن الحب هدامة، ولكنها ليست جادة بشكل ما، ولا تشي بالاحترام. إنها طماعة. كما أنها تتحدث بذكاء وسخرية لتخفي بهذه الطريقة توقعاتها التي يتعذر الدفاع عنها. فكانت التضحيات التي قدمتها لدانكن - في ترتيبات المعيشة، وفي مسألة الأصدقاء، علاوة على إيقاع العلاقة الحميمية بينهما ونبرة الحديث - انتهاكات لم ترتكب على نحو جاد، ولكن بطريقة صارخة. هذا هو ما لم يكن ينم عن الاحترام، هذا هو ما لم يكن لائقا. لقد قدمت له هذه القوة كهدية، ثم أخذت تشتكي لنفسها، ثم له في النهاية على أنه أخذها. لقد عزمت على أن تهزمه.
هذا هو ما تقوله للطبيب. ولكن هل هذه هي الحقيقة؟ «أسوأ شيء هو ألا أعرف الصدق في أي من هذا. إنني أقضي كل ساعات يقظتي في محاولة فهمه وفهمي ولا أتوصل إلى شيء. أتمنى بل وأبتهل. أقذف العملات في آبار الأمنيات. أعتقد أن ثمة شيئا به يقاومني تماما. ثمة شيء به يريد أن يتخلص مني وبالتالي سيجد أسبابا. ولكنه يقول إن هذا هراء، وإنني لو توقفت عن المبالغة في ردة فعلي فإننا سنسعد. يجب أن أفكر أنه ربما يكون على صواب. ربما أكون أنا السبب.» «متى تكونين سعيدة؟» «عندما يكون راضيا عني. عندما يمازحني ويستمتع بوقته معي. لا، لا. ليست السعادة هي ما أشعر به. بل ما أشعر به هو الراحة، وكأني تغلبت على تحد، إنه إحساس بالانتصار أكثر منه إحساسا بالسعادة. ولكنه قادر دوما على إفساد فرحتي.» «إذن لماذا تبقين مع شخص يستطيع دائما أن يفسد فرحتك؟» «ألا يوجد دائما من يفسد فرحتنا؟ عندما كنت متزوجة، كنت أنا من أفسد فرحتنا. هل تعتقد أن طرح هذه الأسئلة ضروري؟ ماذا لو افترضنا أنه الكبرياء وحسب؟ أنني لا أريد أن أعيش وحدي، وأريد أن يعتقد الجميع أنني أعيش مع هذا الرجل الجذاب. ماذا لو افترضنا أنه الإذلال، وأنني أريد أن أشعر بهذه المهانة؟ ما الذي سأستفيده بمعرفتي شيئا كهذا؟» «لا أعلم. ما رأيك؟» «أعتقد أنه لا بأس بهذه المحادثات عندما تكون مهتما ومنزعجا بعض الشيء، ولكن ليس عندما تكون يائسا.» «هل أنت يائسة؟»
شعرت فجأة بالإجهاد بحيث لم تستطع الكلام. كانت الغرفة التي تتحدث فيها مع الطبيب تحتوي على سجادة ذات لون أزرق غامق وأثاث مغطى بفرش مخطط من اللونين الأزرق والأخضر. وكانت هناك صورة لقوارب وصيادين معلقة على الحائط. فشعرت ليديا بمؤامرة تحاك ضدها؛ بطمأنينة زائفة، وراحة مؤقتة، وخداعات جادة. «كلا.»
بدا لها أنها ودانكن في تلك الأيام كانا وحشين متعددي الرءوس. تصدر من فم أحد الرءوس الإهانات والاتهامات، حارة وباردة، ومن فم رأس آخر تصدر اعتذارات زائفة وحجج متملقة، ومن فم رأس ثالث تصدر ثرثرة مراوغة ومنطقية، صادقة وزائفة كتلك التي تخوضها مع الطبيب. لم يكن من فم ليفتح ويصدر منه شيء مفيد، ولم يكن من فم يملك الحكمة ليغلق. وفي الوقت نفسه كانت تؤمن - رغم أنها لم تعرف أنها تؤمن بذلك - أن رءوس الوحشين هذه بحديثها الهدام والسخيف والقاسي يمكن أن تنسحب مجددا، وأن تتراجع وتعود إلى سباتها. لا بأس بما قالته الرءوس، لا بأس. فيما بعد سيصبح بوسعها هي ودانكن - بكل الأمل والثقة والذكريات الممحوة - أن يعيدا تقديم أحدهما إلى الآخر، وأن يستردا السعادة بحالتها الأولى الصافية التي بدآ بها، قبل أن يشرعا في استغلال أحدهما الآخر من أجل أهداف أخرى.
عندما قضت يوما في تورنتو حاولت استرجاع دانكن هاتفيا، واكتشفت أنه قد أسرع بالتصرف؛ فقد غير رقم هاتفه ولم يدرجه في دليل الهاتف، وراسلها عبر مديرها بأنه سيحزم أمتعته ويرسل إليها أشياءها. •••
تناولت ليديا الفطور مع السيد ستانلي. وكان طاقم التليفونات قد تناول طعامه ورحل للعمل قبل ضوء النهار.
سألت السيد ستانلي عن زيارته للمرأة التي كانت تعرف ويلا كاثر.
قال وهو يمسح جانب فمه بعد أن قضم جزءا من بيضة مسلوقة: «أوه، كانت امرأة تدير في الماضي مطعما صغيرا بالقرب من رصيف الميناء. قالت إنها كانت طاهية ماهرة. لا بد من أنها كانت كذلك؛ لأن ويلا وإديث اعتادتا إحضار غدائهما منها. وكانت ترسله إليهما مع أخيها بسيارته. ولكن أحيانا لم يكن الغداء يرضي ويلا - ربما لم يكن كما تريده، أو كانت تعتقد أنه غير مطهو كما ينبغي - وكانت تعيد إرساله إليها، وتطلب إرسال غداء آخر.» ابتسم وقال بنبرة واثقة: «يمكن أن تكون ويلا متكبرة. أوه، أجل. لم تكن مثالية. جميع الأشخاص ذوي القدرات العظيمة ميالون لأن يتعاملوا بنفاد صبر مع الأمور اليومية.»
هذا هراء، يبدو أنها كانت شديدة التعجرف. هكذا أرادت ليديا أن تقول.
أحيانا يكون الاستيقاظ سهلا، وفي أحيان أخرى يكون شديد الصعوبة. وهذا الصباح استيقظت ليديا ولديها اقتناع مسيطر عليها بوجود خطأ ما - شيء يمكن تجنبه ويتعذر إصلاحه.
تابع السيد ستانلي: «ولكن أحيانا كانت تأتي هي وإديث إلى المقهى إذا شعرتا بأنهما في حاجة إلى بعض الرفقة، كانتا تذهبان إلى تناول الغداء هناك. وفي إحدى هذه المناسبات تحدثت ويلا طويلا مع المرأة التي زارتها. تحدثتا لأكثر من ساعة. كانت المرأة تفكر في الزواج، وكان عليها أن تقرر ما إن كانت ستتزوج أم لا؛ زواجا - حسبما فهمته - أشبه بعرض عمل، أو رفقة. ما كان هناك من سبيل للرومانسية؛ فهي والرجل لم يكونا صغيرين وساذجين. تحدثت ويلا معها لأكثر من ساعة. وبالطبع لم تنصحها مباشرة بعمل هذا أو ذاك، بل تحدثت معها بشكل عام بتعقل ولطف تام وما زالت المرأة تذكر هذا بوضوح. كنت سعيدا لسماعي هذا ولكني لم أتفاجأ.»
قالت ليديا: «ما الذي كانت ويلا تعرفه عن الزواج على أية حال؟»
رفع السيد ستانلي عينيه عن طبقه وتطلع إليها في دهشة حزينة.
قالت ليديا: «ويلا كاثر كانت تعيش مع امرأة.»
عندما أجاب السيد ستانلي بدا مرتبكا، ووبخها دون حدة. «لقد كانتا مخلصتين إحداهما للأخرى.» «لم تعش مع رجل قط.» «كانت على علم بشئون الزواج بطبيعة كونها فنانة، وليس بالضرورة بالخبرة بها.»
أصرت ليديا: «لكن ماذا لو لم تكن تعرف شيئا عنها؟ ماذا لو لم يكن هذا هو الحال؟»
عاد لتناول بيضته كأنه لم يسمعها. ثم قال أخيرا: «اعتبرت المرأة حديث ويلا معها مفيدا جدا بالنسبة إليها.»
أصدرت ليديا صوتا ينم عن موافقته الرأي ولكن بتشكك؛ فقد كانت تعلم أنها تصرفت بوقاحة، بل بقسوة. كانت تعلم أن عليها الاعتذار. اتجهت إلى البوفيه وصبت لنفسها فنجان قهوة آخر.
خرجت سيدة البيت من المطبخ متوجهة إليها. «هل ما زالت ساخنة؟ أظن أنني سأصب لنفسي فنجانا أيضا. هل سترحلين اليوم حقا؟ أحيانا أفكر أنني أريد القفز في قارب ما والرحيل أيضا. المكان بديع هنا وأنا أحبه ولكنك تعرفين ما يحدث.»
احتستا قهوتيهما وهما واقفتان بجوار البوفيه. لم ترد ليديا العودة إلى الطاولة، ولكنها كانت تعلم أنها ستضطر إلى ذلك. بدا السيد ستانلي منكسرا ووحيدا، بكتفيه المكتنزتين، ورأسه الأصلع الناعم، وسترته الرياضية البنية ذات المربعات والتي كانت كبيرة عليه قليلا. لقد اجتهد ليكون أنيقا ومهندما، ولا بد أن ذلك كان أمرا متعبا بالنسبة إليه بسبب ضعف إبصاره. ومن بين جميع الناس لم يكن يستحق معاملة وقحة.
قالت المرأة: «أوه، لقد نسيت.»
دخلت إلى المطبخ وعادت بحقيبة ورقية ضخمة بنية اللون. «لقد ترك لك فينسنت هذه. قال إنها أعجبتك. أحقا؟»
فتحت ليديا الحقيبة ورأت أوراقا عشبية طويلة وغامقة وممزقة من كنافة البحر، بمظهرها الزيتي حتى وهي جافة.
قالت: «حسنا ...»
ضحكت المرأة: «أعلم. لا بد وأن تكوني مولودة هنا لتقدري مذاقها.»
قالت ليديا: «كلا، لقد أعجبتني فعلا. اعتدت عليها.» «لقد حققت نجاحا باهرا.»
أخذت ليديا الحقيبة وعادت إلى الطاولة وأطلعت السيد ستانلي عليها. وحاولت إلقاء مزحة لتسترضيه. «ترى هل تناولت ويلا كاثر كنافة البحر من قبل؟»
فكر السيد ستانلي بإمعان وقال: «كنافة البحر؟» مد يده داخل الحقيبة وأخرج بعض الأعشاب ونظر إليها. كانت ليديا تعلم أنه كان يرى ما رأته ويلا كاثر على الأرجح. «بالتأكيد كانت تعرفها. بكل تأكيد.»
ولكن هل كانت محظوظة أم لا؟ وهل كانت الأمور على ما يرام مع هذه المرأة؟ كيف عاشت حياتها؟ هذا ما أرادت ليديا أن تسأله. هل كان السيد ستانلي سيفهم ما تقصده؟ ولو سألت كيف عاشت ويلا كاثر، ألم يكن سيجيب بأنها ما كان عليها أن تجد سبيلا للعيش، مثل بقية الناس، لأنها كانت ويلا كاثر؟
يا له من عالم وهمي بديع ذلك الذي صنعه لنفسه! يمكنه أن يحمله معه أينما ذهب، وما كان بوسع أحد أن يتدخل. قد يأتي يوم ستعتبر ليديا نفسها فيه محظوظة لقيامها بالمثل. لكن إلى أن يحدث ذلك، ستظل أمورها متقلبة. «متقلبة» هكذا اعتادوا أن يقولوا في طفولتها، متحدثين عن صحة الأفراد الذين لن يتعافوا. «إنها حقا متقلبة.»
ومع هذا، تسلل الدفء إليها بفضل هذه الهدية التي وهبها إياها شخص من بعد.
موسم الحبش
مهداة إلى جو رادفورد
عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري، حصلت على وظيفة بحظيرة ديوك الحبش خلال موسم عيد الميلاد. كنت لا أزال صغيرة للغاية على العمل في متجر أو كنادلة بدوام جزئي، وكنت أيضا شديدة العصبية.
كنت مسئولة عن استخراج أحشاء ديوك الحبش، ولم أكن بمفردي؛ إذ كان من بين العمال الآخرين ليلي ومارجوري وجلاديس اللاتي كن يعملن أيضا على استخراج الأحشاء، وأيرين وهنري المسئولان عن نتف ريش الدجاج، وهيرب آبوت كبير العمال الذي يشرف على العملية كلها ويتدخل في العمل كلما ظهرت الحاجة إليه. وكان مورجان إيليوت هو مالك الحظيرة وزعيمها، وكان مسئولا مع ابنه مورجي عن عملية الذبح.
كنت أعرف مورجي منذ أيام المدرسة، وكنت أراه ساذجا ومحط ازدراء، ولم أكن أرتاح لفكرة النظر إليه في هيئة جديدة وربما أعلى مقاما، باعتباره ابن مالك الحظيرة. لكن أباه كان يعامله بقسوة شديدة؛ فكان يصرخ فيه ويسبه، لدرجة أنه لم يكن أفضل حالا من أدنى عامل بالحظيرة. أما الشخص الآخر الذي يمت بصلة قرابة لمورجان، فكانت جلاديس شقيقته. كان هناك بعض الامتيازات المتعلقة بوضعها فيما يبدو؛ إذ كانت بطيئة في العمل ومسموحا لها بالعودة إلى البيت لنيل قسط من الراحة في حالة شعورها بالتعب. لم تكن جلاديس تعامل ليلي ومارجوري معاملة ودودة، رغم أنها كانت تعاملني معاملة طيبة بعض الشيء. كانت وقتئذ قد عادت لتعيش مع مورجان وعائلته بعد عملها سنوات عديدة بأحد البنوك في تورونتو، بيد أن عملها في الحظيرة لم يكن من نوع العمل الذي اعتادت عليه. وذكرت ليلي ومارجوري - وهما تتحدثان عنها في غيابها - أنها قد أصيبت بانهيار عصبي، وأن مورجان أجبرها على العمل في حظيرة الحبش مقابل تعهده برعايتها. قالتا أيضا - دون أن تكترثا بالتناقض في كلامهما - إنها قد قبلت العمل لأنها كانت تسعى وراء أحد الرجال، وهو هيرب آبوت.
كل ما كنت أستطيع رؤيته عندما أغمض عيني - خلال الليالي القليلة الأولى من عملي في الحظيرة - هو ديوك الحبش. كنت أراها معلقة من أرجلها، منتوفة الريش، متيبسة شاحبة باردة، برءوسها ورقابها المرتخية وعيونها ومناخرها التي يملؤها الدم الأسود المتجلط. وبدا التخلص من بقايا الريش - السوداء والملطخة بالدماء أيضا - وكأنه أهم المراحل على الإطلاق؛ لم أكن أنظر إليها باشمئزاز، بل يراودني شعور بأنه عمل لا نهاية له ولا بد من إتمامه.
علمني هيرب آبوت مهام وظيفتي في الحظيرة؛ عليك أن تضعي الديك على المنضدة وتقطعي رأسه بالساطور، ثم تأخذي الجلد الرخو المحيط بالرقبة وتنزعيه باتجاه الخلف لتظهر الحوصلة الموجودة في الشق بين المريء والقصبة الهوائية.
قال هيرب مشجعا: «تحسسي الحصوات.» وجعلني أضم أصابعي حول الحوصلة، ثم علمني كيف أحرك يدي إلى الأسفل خلفها لأنتزعها، وكذلك المريء والقصبة الهوائية. كان يستخدم مقصا لقطع الفقرات.
قال بنبرة تبعث على تهدئتي: «اضغطي، اضغطي. الآن أدخلي يدك.»
فعلت ما قال، وكان الجزء الداخلي المعتم باردا للغاية. «احذري من شظايا العظام.»
كنت أعمل بحذر لا أرى شيئا، وكان علي تفكيك الأنسجة الضامة. «هيا.» قلب هيرب الطائر ولوى كل ساق. «والآن حان وقت الاحتفال.» أخذ سكينا ثقيلا ونزل به مباشرة على الوصلات المفصلية لركبة الديك وقطع رجله. «ألق نظرة على تلك الديدان .»
تدلت من الرجل خيوط شديدة البياض تتلوى كأنها ديدان. «ليس هذا سوى انكماش الأوتار. والآن ستبدأ الإثارة!»
شق الطائر عند نهاية مؤخرته، وخرجت رائحة عفنة. «هل أنت متعلمة؟»
لم أعلم بم أرد. «ما هذه الرائحة؟» «كبريتيد الهيدروجين.»
قال هيرب متنهدا: «متعلمة. حسنا. استخدمي أصابعك وافصلي الأحشاء. على مهل. على مهل. ضمي أصابعك معا، وحافظي على راحة اليد للداخل. تشعرين بالضلوع على ظهر يدك. تشعرين بالأحشاء في راحة يدك. هل تشعرين بها؟ استمري. قطعي ما تستطيعين من الأوتار. استمري. هل تشعرين بكتلة صلبة؟ إنها القانصة. هل تشعرين بكتلة رخوة؟ إنه القلب. حسنا؟ حسنا. ضمي أصابعك حول القانصة. على مهل. ابدئي الشد. حسنا. أخرجيها.»
لم يكن الأمر سهلا على الإطلاق، بل لم أكن متأكدة أن ما أمسكه هو القانصة. كانت يدي ممتلئة بكتلة رخوة باردة.
قال لي: «اسحبي.» واستخرجت كتلة لامعة تشبه الكبد. «ها قد حصلت عليها. إنهما الرئتان. ها هو القلب. وها هي القانصة. وها هي المرارة. الآن، لا تفتحي هذه المرارة أبدا داخل الديك وإلا أفسدت مذاقه كله.» استخرج ببراعة من الديك ما فاتني استخراجه، بما في ذلك الخصيتان، اللتان كانتا أشبه بعنقودين من العنب الأبيض.
قال هيرب: «قرط بديع.»
كان هيرب آبوت طويل القامة ممتلئ الجسد قويا. وكان شعره داكنا خفيفا، ومشدودا للوراء بداية من بروز شعره وسط جبهته على شكل رقم 7، وبدت عيناه مسحوبتين بعض الشيء، فكان أشبه بصيني شاحب الوجه أو أشبه بإحدى صور الشيطان، لكنه كان أملس الوجه لطيفا. وأيا كانت وظيفته في حظيرة الحبش - سواء استخراج الأحشاء كما يفعل الآن، أو تعبئة عربة النقل، أو تعليق الذبائح - فقد كان يؤديها بكفاءة وسرعة وخفة. قالت مارجوري: «ستلاحظين في هيرب أنه دائما يمشي وكأن قاربا يتحرك أسفله.» وكانت محقة. كان هيرب يعمل طاهيا على قوارب البحيرة خلال الموسم، ثم يعمل لدى مورجان حتى بعد عيد الميلاد. وخلال باقي الوقت كان يساعد في صالة البلياردو، فيعد الهمبورجر، وينظف المكان، ويحول دون وقوع النزاعات قبل أن تبدأ، وكان يعيش في هذا المكان، حيث يملك غرفة فوق صالة البلياردو تطل على الشارع الرئيسي.
في جميع العمليات التي تتم في حظيرة الحبش، بدا هيرب الوحيد الذي يلقي بالا للكفاءة وشرف المهنة دائما. وكان هو الذي يسيطر على مجريات جميع الأمور. عندما تراه في الفناء يتحدث مع مورجان - الذي كان قصير القامة سمينا متورد الوجه متنمرا على نحو يصعب توقعه - تتيقن أن هيرب هو السيد ومورجان المساعد المأجور، لكن لم يكن الوضع كذلك.
لو لم يعلمني هيرب بنفسه، أظن أنني لم أكن لأتعلم استخراج أحشاء الحبش على الإطلاق. لم أكن أتقن استخدام يدي بصفة عامة، وشعرت بالخزي مرات كثيرة بسبب ذلك، حتى إن أقل أمارات نفاد الصبر من جانب الشخص الذي يعلمني كانت يمكن أن تسبب لي شللا ارتجافيا؛ ولذا لم أكن أطيق أن يراقبني أحد سوى هيرب. وبصفة خاصة، لم أكن أطيق أن تراقبني ليلي ومارجوري، الشقيقتان اللتان بلغتا منتصف العمر، واللتان كانتا سريعتين للغاية وتتنافسان في استخراج الأحشاء بدقة. كانتا تغنيان أثناء العمل، وتتفوهان بعبارات بذيئة حميمية إلى ذبائح الحبش. «لا تجرحني أيها الشاذ!» «ألم تكن مستودعا للغائط فيما مضى؟!»
لم أكن قد سمعت قط امرأة تتحدث هكذا.
لم تكن جلاديس سريعة في استخراج الأحشاء، لكنها كانت دقيقة حتما، وإلا لتغيرت طريقة هيرب في الحديث معها. لم تغن قط، وبالتأكيد لم تكن تتفوه بكلام بذيء. فكرت في أنها متقدمة في العمر، لكن ليس كليلي ومارجوري. لا بد وأنها تخطت الثلاثين. بدت مستاءة من كل ما يحدث، وكانت تحتفظ بالكثير من أحكامها المريرة لنفسها. لم أحاول قط التحدث إليها، لكنها تحدثت معي ذات يوم في المرحاض الصغير البارد خارج الحظيرة. كانت تكثر من مساحيق الزينة على وجهها، وكان لون مساحيق الزينة مختلفا جدا عن لون بشرتها، حتى بدت وكأنها قذفت طلاء برتقاليا فوق جدار مليء بالنتوءات مدهون بطلاء أبيض.
سألتني ما إذا كان شعري مجعدا بطبيعته.
قلت نعم. «ألا تستخدمين مثبتا؟» «لا.» «أنت محظوظة؛ فأنا أضطر إلى تصفيف شعري كل ليلة ؛ فالمواد الكيميائية في جسمي لا تتيح لي استخدام مثبت للشعر.»
ثمة طرق مختلفة تتحدث بها النساء عن مظهرهن. البعض يقلن إنهن يعتنين بأنفسهن من أجل الرجال. وأخريات - مثل جلاديس - يعتبرن ذلك جزءا من مهام البيت التي يفتخرن بصعوبة أدائها. كانت جلاديس أنيقة. أستطيع تخيلها في البنك في ثوب أزرق ذي ياقة بيضاء قابلة للخلع لغسلها ليلا. أتخيلها أيضا غاضبة ولكن فيما يتفق مع الآداب العامة.
في يوم آخر، تحدثت معي عن دورتها الشهرية التي كانت غزيرة ومؤلمة، وسألتني عن دورتي. تبدت على وجهها تعبيرات عدم الارتياح، والحرج، والاضطراب. أنقذتني أيرين التي تصادف وجودها في دورة المياة حينها، وصاحت: «افعلي مثلي، وستتخلصين من كل مشاكلك فترة من الوقت.» كانت أيرين تكبرني ببضعة أعوام، لكنها تزوجت مؤخرا - وفي سن متأخرة - وكانت في الأشهر الأخيرة من حملها.
تجاهلتها جلاديس، وتركت الماء البارد ينساب على يديها. كانت أيادينا جميعا حمراء ملتهبة من العمل. قالت جلاديس: «لا أستطيع استخدام هذا الصابون. لو استخدمته، فسيصيبني بالطفح الجلدي. ولو أحضرت الصابون الخاص بي هنا، فلن أتحمل تكلفة استخدام الآخرين له؛ لأنني أدفع ثمنا باهظا في شرائه؛ إنه صابون خاص مضاد للحساسية.»
أعتقد أن الفكرة التي طرحتها ليلي ومارجوري - بخصوص سعي جلاديس وراء هيرب آبوت - نبعت من اعتقادهما بأنه لا بد من مضايقة العزباوات وإحراجهن كلما أمكن ذلك، وأيضا من اهتمامهما بهيرب، الذي دفعهما إلى الشعور بأنه لا بد وأن يكون مطاردا من قبل إحدى النساء. كانتا تسألان عنه، ومن بين أسئلتهما: كيف يمكن لرجل أن يكون زاهدا هكذا؟ لا زوجة، ولا عائلة، ولا بيت. كانت تفاصيل حياته اليومية وأدق تفضيلاته محط اهتمامهما. أين ترعرع؟ إلى أي مرحلة وصل في تعليمه؟ أين حبيبته؟ هل سيشرب القهوة أم الشاي لو خير بينهما؟
عندما كانتا تتحدثان عن سعي جلاديس خلفه، لا بد وأنهما كانتا تريدان حقا التحدث عن الجنس - ما يريده وما لديه ليعطيه. لا بد وأنهما شعرتا بفضول شهواني تجاهه، مثلما حدث معي. لقد أثار لدينا هذا الإحساس بسبب تحفظه، وعدم المزاح كغيره من الرجال، وفي نفس الوقت بسبب عدم إفراطه في الاحتشام أو التأدب. بعض الرجال - أثناء استخراج الخصيتين من ديك الحبش أمامي - إما أن يتصرفوا كما لو كان وجود الخصيتين مزحة سخيفة بعض الشيء يمارسونها علي، أو شيئا يوفر سببا للسخرية من فتاة مثلي؛ بينما هناك نوع آخر من الرجال ربما يشعر بالحرج وبضرورة رفع الحرج عني؛ ولذا فإن رجلا لا ينتمي لهذا النوع أو ذاك كان مثيرا للفضول في نظري، وربما في نظر النساء الأكبر مني سنا. لكن الأمر الذي كان محل ترحيب كبير لدي كان في الوقت نفسه مزعجا لزميلتي. لقد أرادتا أن تحفزاه؛ بل وأن تحفزه جلاديس إن استطاعت.
لم تكن هناك أية فكرة وقتئذ - على الأقل في لوجان بأونتاريو في نهاية الأربعينيات - بوجود الجنسية المثلية إلا في أضيق الحدود. كانت النساء يعتقدن في ندرتها واقتصارها على نطاقات معينة. كان هناك شواذ نعرفهم في المدينة، شخص أنيق أجعد الشعر هادئ الصوت يعمل في تركيب أوراق الحائط ويسمي نفسه مصمم ديكور داخلي؛ والابن الوحيد المدلل والسمين لأرملة القس، الذي وصل به الأمر إلى حد الاشتراك في مسابقات الخبز، فضلا عن حياكته مفرش مائدة باستخدام الكروشيه؛ وعازف الأرغن بالكنيسة المصاب بالوسواس المرضي الذي يعمل مدرس موسيقى، والذي كان يجعل أفراد الجوقة الموسيقية وتلاميذه يتبعونه في نوبات غضب يغلب عليها الصراخ. ما إن يشتهر أحد باللقب حتى ينال قدرا كبيرا من التساهل من جانب الآخرين، وتصبح موهبته سواء في التصميم أو الكروشيه أو الموسيقى محط تقدير، خصوصا من جانب النساء اللائي يقلن: «المسكين. إنه لا يؤذي أحدا.» على ما يبدو كان الناس يعتقدون - أو هكذا كانت النساء - أن الولع بالخبز أو الموسيقى هو العامل المحدد لأن يكون المرء شاذا، وأن هذا النشاط هو ما يجعله كذلك، وليس أي منعطفات أخرى قد يسلكها أو يتمنى أن يسلكها. كانت الرغبة في عزف الكمان تؤخذ دليلا على الانحراف عن السلوك الرجولي لا كرغبة في اجتناب النساء. والحقيقة أن الفكرة السائدة كانت أن أي رجل يتمتع بالرجولة يجتنب النساء، لكن اكتشف أمر معظمهم وإلى الأبد.
لا أريد أن أخوض في مسألة ما إذا كان هيرب شاذا أم لا؛ لأن تحديد ذلك أمر لا يهمني. أعتقد أنه ربما كان كذلك، لكن قد لا يكون. (لن أغير اعتقادي هذا حتى بالنظر إلى ما حدث لاحقا.) هيرب ليس باللغز الذي يحل اعتباطيا. •••
كان العامل الآخر - الذي يعمل مع أيرين في نتف الريش - أحد جيراننا ويدعى هنري ستريتس. لم يكن هناك ما يميزه باستثناء أنه في السادسة والثمانين من العمر ولا يزال شعلة نشاط في عمله - حسب وصفه لنفسه. كان يضع الويسكي في الوعاء الحافظ للبرودة، ويحتسي منه من وقت إلى آخر على مدار اليوم. هنري هو من قال لي في مطبخنا: «يمكنك الحصول على وظيفة في حظيرة الحبش؛ فهم يريدون شخصا آخر يقوم على استخراج الأحشاء.» قال أبي فورا: «دعك منها يا هنري، فأصابعها كلها قصيرة.» وقال هنري إنه كان يمزح؛ إذ كان يراه عملا مقززا. لكنني كنت قد قررت بالفعل خوض التجربة؛ إذ كنت في أمس الحاجة للنجاح في عمل كهذا. كدت أشعر في ذلك الحين بنفس شعور شخص يافع يخجل من أنه لم يتعلم القراءة؛ هكذا كان شعوري حيال عجزي عن إتقان الأعمال اليدوية. وكان العمل - بالنسبة إلى جميع من أعرفهم - يعني أداء المهام التي لم أكن أجيدها، وكان العمل هو ما يفتخر به الناس ويقيم بعضهم بعضا عليه. (من المنطقي أن تكون الأعمال التي أجيدها - مثل واجبات المدرسة - محل ظنون، أو ينظر إليها بازدراء تام.) لذا كان مفاجأة وانتصارا لي فيما بعد ألا أفصل من العمل، وأن أستطيع تنظيف الديوك نظافة لا بأس بها. لا أعلم ما إذا كنت أدرك تماما مدى مسئولية هيرب آبوت عن هذا، لكنه كان يقول أحيانا: «أحسنت.» أو يربت على خصري ويقول: «أنت تبلين بلاء حسنا في هذا العمل.» وعندما أشعر بلمسته الرقيقة والسريعة فوق سترتي الثقيلة وثوبي الملطخ بالدماء، كانت وجنتاي تتوردان وأود أن أميل نحوه وهو يقف ورائي. أردت أن أريح رأسي على كتفه الممتلئة العريضة. وعندما أخلد للفراش في المساء، وأرقد على جانبي، كنت أحرك وجنتي على الوسادة وأتخيلها كتف هيرب.
كنت مهتمة بطريقة حديثه مع جلاديس، والطريقة التي ينظر بها إليها. لم يكن اهتمامي بدافع الغيرة. أعتقد أنني أردت أن يحدث شيء بينهما. كنت أرتعد في ترقب فضولي، مثلما كانت ليلي ومارجوري تفعلان. كلنا أردنا رؤية بصيص الشبق في عينيه، وسماعها في صوته، ليس من منطلق ظننا أن هذا سيجعله يبدو كغيره من الرجال، لكن لأننا كنا نعرف أن الأمر معه سيكون مختلفا تماما؛ فقد كان أكثر عطفا وصبرا من معظم النساء، وفي الوقت نفسه جادا وانعزاليا - في بعض النواحي - كأي رجل. أردنا أن نرى كيف يكون تحريك مشاعره.
لم تبد جلاديس أي أمارة على أنها تريد ذلك هي الأخرى، حتى وإن كانت هذه هي حالها. من المستحيل أن أقول عن النساء مثلها إن كن متبلدات الإحساس فاترات العاطفة كما يبدو عليهن، لا يردن شيئا سوى مناسبة تثير غضبهن وتشعرهن بالامتهان، أو كن يكتوين بنيران الكآبة والولع الذي لا طائل منه.
تحدثت مارجوري وليلي عن الزواج. لم يكن لديهما الكثير لتقولاه بهذا الشأن، رغم إحساسهما بأنه حالة لا يجب السماح لأي أحد بالابتعاد عنها. قالت مارجوري إنه بعد زواجها بفترة قصيرة ذهبت إلى كوخ تخزين الحطب بنية تناول مركب «أخضر باريس» السام.
قالت: «كنت سأفعلها، لكن جاء البائع بسيارة الخضراوات والفاكهة، وكان علي الخروج لأبتاع منه. حدث هذا عندما كنا نعيش في المزرعة.»
كان زوجها يعاملها بقسوة في تلك الأيام، لكنه تعرض لحادث فيما بعد - حيث انقلب به الجرار وأصيب إصابة بالغة أعجزته طيلة حياته. انتقلا إلى المدينة، وأصبحت مارجوري عائل البيت. «في إحدى الليالي مؤخرا، قطب جبينه وقال إنه لا يريد تناول العشاء. رفعت رسغ يده وأحكمت قبضتي عليها. كان مذعورا من أنني سألوي ذراعه. كان يعرف أني قد أفعل ذلك. لهذا قلت: «ما رأيك؟» فرد: «سآكله».»
تحدثتا أيضا عن أبيهما . كان رجلا تقليديا. كانت لديه مشنقة في كوخ الحطب (ليس الكوخ الذي يحتوي على مركب «أخضر باريس»، بل كوخ آخر في مزرعة أخرى فيما مضى)، وعندما كانتا تثيران غضبه، كان يوقفهما صفا ويهدد بشنقهما. كانت ليلي - أصغرهما - ترتعد خوفا إلى أن تقع أرضا. ذلك الأب خطط لتزويج مارجوري لأحد أصدقائه المقربين وهي في السادسة عشرة فقط من عمرها، وهو نفس الزوج الذي دفعها إلى محاولة الانتحار بتناول السم. فعل أبوها ذلك لأنه أراد أن يطمئن إلى أنها لن تتورط في المتاعب.
قالت ليلي: «كان سريع الغضب.»
أحسست بالذعر، وسألت: «لماذا لم تهربي؟»
فردت مارجوري: «كان كلمته سيف.»
قالتا إن الآية قد انقلبت هذه الأيام والأبناء هم المسيطرون على مجرى الأمور. يجب أن تكون كلمة الأب سيفا. لقد ربتا أبناءهما تربية صارمة، ولم يسلك أحدهم سلوكا مشينا إلى الآن؛ فعندما يبلل ابن مارجوري الفراش، كانت تهدده بقطع خصيتيه بسكين الجزار، وهو ما كان كفيلا بعلاجه.
قالتا إن تسعين بالمائة من الفتيات الصغيرات هذه الأيام يحتسين الكحول، ويقلن كلاما بذيئا، ويرضين بالمهانة. لو كانتا قد أنجبتا بنات وضبطتاهن يفعلن شيئا مماثلا، لضربتاهن ضربا مبرحا. قالتا إن أيرين اعتادت الذهاب إلى مباريات الهوكي مرتدية سروال تزلج مقطوعا دون ارتداء ملابس تحتية، ليناسبها في التزلج فيما بعد. يا للهول!
أردت أن ألفت نظريهما إلى بعض التناقضات؛ فمارجوري وليلي نفساهما تحتسيان الكحول وتتلفظان ببذيء الكلام، ثم ما الرائع في الإرادة الحديدية لأب يورطك في حياة ملؤها الشقاء؟ (ما لم أره هو أن مارجوري وليلي لم تكونا تعيستين بالمرة - لا يمكنهما ذلك؛ بسبب إحساسهما بالأهمية، وبسبب كبريائهما وأناقتهما.) كان يمكن أن أشتاط غضبا وقتئذ من غياب المنطق في حديث معظم البالغين؛ في طريقة تشبثهم برأيهم مهما كان الدليل الذي يقدم لهم. كيف يمكن أن تكون المرأتان على هذا القدر من الموهبة، وهذا المستوى العالي من الدقة والبراعة - حيث عرفت أنهما كان بإمكانهما إتقان عشرات الأعمال الأخرى بقدر إجادتهما استخراج الأحشاء؛ ومن بينها صنع الألحفة، ورفء الملابس ، والطلاء، وتعليق أوراق الحائط، والعجن، وغرس الشتلات - ويكون تفكيرهما عشوائيا وأخرق ومثيرا للغضب هكذا؟!
قالت ليلي إنها لا تترك زوجها يقترب منها مطلقا لو كان مخمورا. وقالت مارجوري إنه منذ المرة التي كادت تموت فيها بسبب النزيف لم تسمح لزوجها بالاقتراب منها قط. وسرعان ما قالت ليلي إن زوجها لا يقدم على ذلك إلا عندما يكون مخمورا. استشففت أنها مسألة كبرياء ألا تسمح المرأة لزوجها بالاقتراب منها، لكني لم أتيقن من أن «الاقتراب» يعني «ممارسة العلاقة الحميمية». بدت لي فكرة السعي وراء مارجوري وليلي من أجل سبب كهذا فكرة منفرة؛ فأسنانهما كريهة المنظر، وبطناهما مترهلان، ووجهاهما باهتان مليئان بالبقع. قررت أن آخذ «الاقتراب» بمعناه الحرفي. •••
يتسم الأسبوعان اللذان يسبقان عيد الميلاد بسرعة الإيقاع في حظيرة الحبش. بدأت أذهب إلى الحظيرة مدة ساعة قبل المدرسة، وكذلك بعد المدرسة، وخلال عطلات نهاية الأسبوع. في الصباح، عندما كنت أسير متجهة إلى العمل، كنت أجد أضواء الشارع لا تزال مضاءة والنجوم ساطعة في السماء. كانت حظيرة الحبش تقع على حدود أحد الحقول، وخلفها صف من أشجار الصنوبر الضخمة، ودائما - مهما كان الجو باردا وخاليا من الرياح - كانت هذه الأشجار سامقة تمد فروعها ويسمع حفيفها. وبينما أنا في طريقي إلى الحظيرة لأقضي ساعة في استخراج أحشاء الديوك، كان مستبعدا أن يساورني الأمل في الغد أو ينتابني الشعور بغموض الكون التام الذي لا سبيل إلى فهمه، لكني أحسست بهما. وكان لهيرب علاقة بهذا، وكذلك موجة الطقس البارد - تلك السلسلة من الصباحات الصافية القاسية. الحقيقة أنه لم يكن من الصعب استحضار تلك المشاعر وقتذاك. كنت أستطيع الشعور بها، لكني لم أكن أعرف كيف يمكن ربطها بأي شيء في عالم الواقع.
ذات صباح في حظيرة الحبش، جاءنا عامل جديد للعمل في استخراج الأحشاء. كان فتى في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من العمر، وكان غريبا عن المكان واسمه براين. بدا على صلة قرابة - أو ربما علاقة صداقة - مع هيرب آبوت؛ إذ كان يقيم معه. كان يعمل على متن قارب في البحيرة الصيف الماضي، لكنه قال إنه مل هذا العمل وتركه.
قال: «تلك القوارب اللعينة! لقد سئمتها.»
كانت اللغة المستخدمة في حظيرة الحبش فظة متحررة، لكننا لم نكن قد سمعنا بالصفة التي استخدمها براين قط. ولم يبد استخدام براين لها من باب الإهمال بل التباهي ومزج السباب بالإثارة. ربما كان مظهره العام هو ما جعلها تبدو هكذا. كان يتمتع بمظهر جذاب: شعر ناعم، وعينان زرقاوان فاتحتان، وبشرة متوردة، وجسد متناسق القوام - ذلك النوع من الوسامة الذي لا يختلف عليه اثنان. لكن استحوذ عليه انطباع لا سبيل إلى ترويضه جعله لا يستطيع منع نفسه من تحول جميع مميزاته لتكون محط سخرية؛ إذ بدا فمه وكأنه مبلل، وكاد يكون مفتوحا معظم الوقت، وكانت عيناه شبه مغلقتين، وتعبيرات وجهه تحمل نظرة شبق مشجعة، وحركاته متثاقلة ومبالغ فيها ومغرية. ربما لو وقف على مسرح أمام ميكروفون وجيتار، وأعطي الفرصة لينخر ويصرخ ويتلوى ويثور، لبدا كمقدمي الحفلات. لكن في ظل غياب المسرح، لم يكن براين مقنعا. بعد فترة بدا كما لو كان مصابا بحالة مستعصية من الفواق جعلت شبقه الملح رتيبا وعديم المعنى.
لو خفف شبقه قليلا، ربما استمتعت مارجوري وليلي به. كان بوسعهما أن يستمرا في لهوهما بإخباره أن يغلق فمه القذر وأن يبعد يديه، لكن ما حدث أنهما قالتا إنهما قد سئمتا منه، وكانتا جادتين. ذات مرة سحبت مارجوري السكين الذي تستخدمه في استخراج الأحشاء، وقالت: «ابق بعيدا ... عني وعن شقيقتي وعن تلك الفتاة.»
لم تطلب منه أن يبقى بعيدا عن جلاديس؛ لأن جلاديس لم تكن موجودة في ذلك الوقت، وربما لم تكن مارجوري تشعر بالرغبة في حمايتها على أية حال. كان براين يخص جلاديس بأكبر قدر من المضايقة. كانت تلقي سكينها، وتدخل إلى دورة المياه، وتبقى هناك عشر دقائق ثم تخرج بوجه خال من المشاعر. لم تعد تقول إنها سئمت وتعود إلى منزلها، مثلما اعتادت أن تفعل. وقالت مارجوري إن مورجان قد استشاط غضبا من جلاديس لكونها عالة، وأنها لم تعد تتحمل تبعات ذلك.
أخبرتني جلاديس: «لا أستطيع تحمل ما يحدث. لا أطيق حديث الناس عن هذا الأمر وذلك النوع من الإيحاءات. هذا يثير اشمئزازي.»
صدقتها. بدت شاحبة للغاية. لكن لماذا لم تشك لمورجان؟ ربما لم تكن العلاقات بينهما على ما يرام، وربما لم تستطع حمل نفسها على تكرار أو وصف مثل هذه الأمور. لماذا لم تشك إحدانا لهيرب على الأقل إن لم يكن لمورجان؟ لم أفكر في ذلك قط. بدا براين عبئا يمكن تحمله، مثل البرودة القارصة داخل الحظيرة ورائحة الدم والفضلات. وعندما هددت مارجوري وليلي بالشكوى، كان تهديدهما متعلقا بكسل براين.
لم يكن براين ماهرا في عمله. قال إن يديه كبيرتان على استخراج الأحشاء، فأوكل له هيرب مهام الكنس والتنظيف، وتعبئة قلوب الديوك وأكبادها، والمساعدة في تحميل الشاحنة. معنى ذلك أنه لم يكن مضطرا إلى البقاء في مكان بعينه أو أداء عمل معين في وقت محدد؛ ومن ثم فإنه لم يكن يفعل شيئا معظم الوقت. كان يبدأ بالكنس، ثم ينتقل إلى مسح المناضد، ثم يدخن سيجارة، ويتسكع حول المنضدة يضايقنا إلى أن يناديه هيرب ليساعده في تحميل الشاحنة. كان هيرب مشغولا جدا في مثل هذه الفترة يقضي الكثير من الوقت في توصيل الطلبات؛ ومن ثم كان واردا ألا يعلم شيئا عن تراخي براين في العمل.
قالت مارجوري: «لا أعلم لماذا لا يطردك هيرب. أظن أنه لا يريدك أن تصبح عالة عليه، بلا مكان يأويك.»
قال براين: «أعرف مكانا يأويني.»
قالت مارجوري: «أغلق فمك القذر. أشفق على هيرب لأنه يتحمل عبئك.» •••
في آخر أيام الدراسة قبل عيد الميلاد، خرجنا مبكرا في الظهيرة. عدت للمنزل وبدلت ثيابي، واتجهت للعمل نحو الساعة الثالثة. لم أجد أحدا يعمل. كان الجميع داخل سقيفة استخراج الأحشاء، حيث كان مورجان إيليوت يلوح بساطور فوق المنضدة ويصيح. لم أستطع تمييز سبب صياحه، وظننت أن أحدا قد ارتكب خطأ فادحا في عمله. ربما كنت أنا المخطئة. بعدها رأيت براين على الجانب الآخر من المنضدة، يبدو شديد التجهم والدنو ، وكان يقف بعيدا. لم تكن نظرة الشبق قد فارقت وجهه تماما، لكنها خفت حدتها وامتزجت بانفعال مشوب بالعجز وبشيء من الخوف. ظننت أن اللحظة قد حانت؛ سيطرد براين بسبب وضاعته وتكاسله. ما زلت أفكر أن هذا ما سيحدث حتى وأنا أميز كلمات مورجان: «منحرف» و«دنس» و«مخبول». كانت مارجوري وليلي، وحتى أيرين صفيقة الوجه، يقفن وقد ارتسمت على وجوههن نظرة بؤس، كالتي ترتسم على وجوه الأطفال عندما يتعرض أحدهم لتوبيخ قاس في المدرسة. وحده هنري العجوز هو من بدا قادرا على إبداء ابتسامة عريضة حذرة على وجهه. لم أر جلاديس في المكان. كان هيرب يقف قريبا من مورجان أكثر من أي شخص آخر. لم يتدخل، لكنه كان يحدق إلى الساطور. كان مورجي ينتحب، رغم أنه لم يبد معرضا لأي خطر مباشر.
كان مورجان يصرخ في براين كي يخرج. صاح: «اخرج من هذه المدينة، أنا جاد فيما أقول، إياك أن تنتظر حتى الغد إذا كنت تخشى على نفسك! اخرج!» ثم لوح بالساطور في حركات درامية باتجاه الباب. تحرك براين، لكنه - عن قصد أو غير قصد - حرك مؤخرته في خيلاء واستهزاء، وهو ما جعل مورجان يستشيط غضبا وينطلق في إثره ملوحا بالساطور على نحو متكلف. انطلق براين، وانطلق مورجان وراءه، بينما صرخت أيرين ووضعت يدها على بطنها. كان مورجان بدينا لا يقوى على الجري، ولا على رمي الساطور لمسافة بعيدة. راقب هيرب ما يحدث من مكانه عند مدخل الباب، وسرعان ما عاد مورجان وهوى بالساطور على المنضدة.
صاح مورجان: «ليعد الجميع إلى العمل! كفوا عن هذه النظرات الحمقاء! أنتم لا تقبضون رواتبكم لتنظروا هكذا! ما الذي تنوون فعله؟» ورمق أيرين بنظرة غاضبة.
قالت أيرين بنبرة مهادنة: «لا شيء.» «إذا كنت تنوين فعل شيء، فاخرجي من هنا.» «لا أنوي شيئا.» «حسنا!»
عدنا إلى العمل. خلع هيرب ثوبه الملطخ بالدماء وارتدى سترته ورحل، ربما ليتأكد من استعداد براين للرحيل في حافلة المساء. لم ينبس ببنت شفة. خرج مورجان وابنه إلى الفناء، وعاد هنري وأيرين إلى السقيفة المجاورة، حيث عملا على نتف الريش الذي وصل حتى ركبتيهما والذي كان من المفترض أن يتخلص منه براين.
قلت بنبرة هادئة: «أين جلاديس؟»
قالت مارجوري: «تسترد عافيتها.» تحدثت هي الأخرى بصوت خافت أكثر من المعتاد، ولم تكن عبارة «تسترد عافيتها» من الكلمات التي تستخدمها هي وليلي في العادة. استخدمت العبارة لوصف حال جلاديس بنية الاستهزاء منها.
لم تريدا التحدث حول ما حدث؛ لأنهما كانتا تخشيان مجيء مورجان وضبطهما؛ مما سيتسبب في طردهما. كانتا تخشيان ذلك، رغم براعتهما في أداء العمل. فضلا عن ذلك، فهما لم تشاهدا شيئا. ولا بد أنهما منزعجتان لعدم مشاهدتهما ما حدث. كل ما علمته هو أن براين إما فعل لجلاديس شيئا أو أراها شيئا لدى خروجها من دورة المياه، فبدأت تصرخ ودخلت في نوبة هيستيرية.
قالتا إنها ربما تعاني الآن من انهيار عصبي آخر، وهو في طريقه للخروج من المدينة. أعربتا عن سعادتهما للتخلص من الاثنين. •••
لدي صورة التقطت لطاقم العمل بالحظيرة عشية عيد الميلاد. التقطت الصورة باستخدام آلة تصوير وميضية كانت أحد مظاهر بذخ أحدهم في عيد الميلاد. أعتقد أنها كانت ملكا لأيرين. لا بد أن هيرب آبوت هو من التقط الصورة؛ فهو الشخص الذي يمكن الوثوق به في معرفة أو تعلم كيفية تشغيل أي جهاز جديد فورا، وآلات التصوير الوميضية كانت حديثة إلى حد ما في ذلك الوقت. التقطت الصورة نحو الساعة العاشرة عشية عيد الميلاد، بعد أن عاد هيرب ومورجي من توصيل آخر طلب، وكنا قد نظفنا منضدة استخراج الأحشاء وكنسنا ومسحنا الأرضية الإسمنتية. خلعنا أثوابنا الملطخة بالدماء وستراتنا الثقيلة ودخلنا الغرفة الصغيرة المسماة بغرفة الغداء، حيث كان بها منضدة ومدفأة. كنا لا نزال نرتدي ثياب العمل: الأردية السروالية والقمصان. ارتدى الرجال قبعات والنساء أوشحة مربوطة على النحو نفسه الذي ترتدى به وقت الحرب. أبدو في الصورة ممتلئة بعض الشيء ومبتهجة واجتماعية، وكأني تحولت إلى شخصية لا أذكر أنني كنت عليها أو أنني تظاهرت بها. أبدو أكبر سنا بكثير من الرابعة عشرة. أيرين الوحيدة التي خلعت وشاحها، لينسدل شعرها الأحمر الطويل. تظهر في الصورة بمظهر مغر داعر مهادن، وهو ما قد يتناسب مع سمعتها، وإن كان لا يشبه أي مظهر أذكره لها. لا بد أن آلة التصوير كانت تخصها؛ فقد تعمدت اتخاذ وضعية خاصة من أجل الصورة أكثر من أي شخص آخر. كانت مارجوري وليلي تبتسمان، كعادتهما، لكن كانت ابتسامتهما باهتة. بدتا - بشعرهما المستتر وجسديهما المتدثرين - أشبه بعاملين صارمين مرحين، لكن سريعا الغضب. لم يكن وشاحاهما مناسبين؛ ربما كانت القبعات مناسبة لهما أكثر. يبدو هنري منشرح الصدر، سعيدا لكونه جزءا من فريق العمل، يبتسم ابتسامة عريضة ويبدو أصغر من سنه بعشرين عاما. وهذا مورجي، يطل من الصورة بنظرة بؤس، غير مؤمن بسخاء تلك المناسبة، بينما مورجان متورد الوجه تبدو عليه أمارات السيطرة والشعور بالرضى. كان قد كافأ كلا منا للتو بديك حبش. كانت جميع الديوك تفتقر إلى ساق أو جناح، أو كانت مشوهة بشكل من الأشكال؛ ومن ثم لم يكن يستطيع بيعها بالسعر المتعارف عليه. لكن مورجان حاول جاهدا إقناعنا بأننا نحصل غالبا على أفضل اللحم من الديوك المشوهة، وأرانا أنه أخذ واحدا منها إلى بيته.
جميعنا نمسك أكوابا أو فناجين خزفية كبيرة، لا تحتوي على الشاي كالعادة، بل على ويسكي الجاودار. كان مورجان وهنري يحتسيان الويسكي منذ العشاء. قالت مارجوري وليلي إنهما لا تريدان سوى القليل، وإنهما تحتسيانه فقط لأن اليوم هو عشية عيد الميلاد، وإنهما متعبتان للغاية. قالت أيرين إنها متعبة أيضا، ولكن هذا لا يعني أنها تريد القليل. لم يصب هيرب بسخاء لها فقط، بل لمارجوري وليلي كذلك، ولم تعترضا. صب الويسكي في كوبي وكوب مورجي في نفس الوقت بشح شديد، وأضاف إليهما الكوكاكولا. كان هذا أول شراب أحتسيه في حياتي، ولذلك سأعتقد لسنوات أن الجاودار والكوكاكولا هو المشروب التقليدي الذي سوف أطلبه دوما، إلى أن ألاحظ أن قلة من الأشخاص هم الذين يحتسونه، وأنه يشعرني بالغثيان، مع أني لم أشعر بالغثيان في تلك الليلة؛ إذ لم يعطني هيرب الكثير. وباستثناء المذاق الغريب، وشعوري الخاص بما سيلي من تبعات، كان الأمر أشبه بشرب الكوكاكولا.
لا أحتاج إلى ظهور هيرب في الصورة كي أتذكر شكله، أقصد أنه لم يتغير شكله عما كان عليه طوال الوقت في الحظيرة وفي المرات القليلة التي رأيته فيها في الشارع، باستثناء مرة واحدة.
المرة الوحيدة التي بدا فيها مختلفا إلى حد ما عما كان عليه عندما كان مورجان يكيل السباب لبراين، وعندما فر براين على الطريق لاحقا. كيف بدت تلك النظرة المختلفة؟ حاولت أن أتذكر لأني تأملتها بإمعان في ذلك الوقت. لم يكن مظهره مختلفا كثيرا؛ إذ بدا وجهه آنذاك أكثر تأثرا وعبوسا، ولو كان علي وصف التعبير المرتسم عليه فسأقول إنه تعبير الخزي. لكن ما الذي يمكن أن يشعره بالخزي؟ أيشعر بالخزي من براين بسبب تصرفاته؟ بالتأكيد كان الأوان قد تأخر على حدوث ذلك؛ فمنذ متى وبراين يتصرف على نحو مختلف؟ أيشعر بالخزي من مورجان لانفعاله بحدة وتكلف هكذا؟ أم يشعر بالخزي من نفسه لأنه كان معروفا بقدرته على حل النزاعات والمشاجرات من هذا النوع في مهدها ولم يستطع فعل ذلك هنا؟ هل يشعر بالخزي لأنه لم يدافع عن براين؟ هل توقع من نفسه فعل هذا؛ أعني الدفاع عن براين؟
هذا ما فكرت فيه آنذاك. فيما بعد، عندما عرفت أكثر - على الأقل عن الجنس - فكرت في أن براين كان عشيق هيرب، وأن جلاديس كانت تحاول فعلا جذب انتباه هيرب، ولهذا السبب أهانها براين؛ سواء بتشجيع هيرب وموافقته أو دونهما. أليس صحيحا أن الأشخاص المتحفظين الذين يبدو عليهم الوقار والهيبة - أمثال هيرب - يختارون دوما شخصا مثل براين، ويهدرون حبهم البائس على شخص أبله وفاسد أخلاقيا لا يتصف حتى بالشر أو الوحشية، لكنه مجرد مصدر إزعاج دائم؟ فكرت في أن هيرب، بكل رقته وحذره، كان ينتقم لنفسه منا جميعا - ليس فقط من جلاديس ولكن منا جميعا - عن طريق براين، وأن ما كان يشعر به عندما تأملت وجهه لا بد وأنه كان ازدراء فظا مشوبا بالنشوة. كان شعورا بالحرج أيضا؛ الحرج لبراين ولنفسه ولجلاديس، ولنا جميعا إلى حد ما؛ إحساس بالخزي لنا جميعا؛ هذا ما فكرت فيه وقتذاك.
رغم هذا، تراجعت عن هذا التفسير فيما بعد. لقد وصلت إلى مرحلة من التراجع عن الأشياء التي لم أستطع معرفة حقيقتها. يكفيني الآن أن أفكر في وجه هيرب بهذا المظهر الغريب المغموم، وأن أفكر في عبث براين في ظل الوقار الذي كان يميز هيرب، وأن أفكر في تركيزي الذي يشوبه الغموض على هيرب، واحتياجي إلى الإمساك به متلبسا لو أتيحت لي الفرصة، ثم التسلل إليه والبقاء قريبة منه. كم هي جذابة ومبهجة فكرة الارتباط الحميمي بشخص لن يقبل أبدا على عرضها! ما زلت أستطيع الإحساس بجاذبية رجل كهذا، بجاذبية وعده بالمستقبل السعيد ورفضه لي. ما زلت أرغب في فهم الأمور دون اكتراث بالحقائق ولا بالنظريات.
عندما أنهيت شرابي أردت أن أقول شيئا لهيرب. وقفت إلى جواره وانتظرت لحظة لا ينصت فيها هيرب لأحد أو يتحدث مع أحد، ويكون فيها حديث الآخرين على درجة من الصخب لا يسمع معه ما سأقول. «آسفة لاضطرار صديقك إلى الرحيل.» «لا بأس.»
تحدث هيرب بنبرة ودودة لاهية؛ وهكذا لم يعطني أي فرصة للاهتمام بحياته أو الحديث عنها. كان يعلم ما أفكر فيه. لا بد وأنه اختبر ذلك مسبقا مع كثير من النساء. كان يعرف كيف يتعامل مع الأمر.
صبت ليلي لنفسها المزيد من الويسكي، وأخبرتنا كيف تنكرت هي وأعز صديقاتها (التي ماتت الآن بسبب مرض في الكبد) في زي رجال ذات مرة ودخلتا الركن المخصص للرجال في الحانة؛ ذلك الركن المكتوب فوقه «للرجال فقط» لأنهما أرادتا معرفة ما يحدث هناك. جلستا في أحد الأركان تحتسيان البيرة بأعين وآذان منتبهة، دون أن يشك أحد في أمرهما، لكن سرعان ما ظهرت مشكلة. «إلى أين سنذهب؟ لو ذهبنا إلى الركن الآخر الخاص بالسيدات، ورآنا أي أحد ونحن نتجه إلى هناك، فسيصرخ فينا. ولو ظللنا في ركن الرجال فسيلاحظ أحدهم أننا لا نتصرف كالرجال. وفي نفس الوقت كان مفعول البيرة اللعينة يسري فينا!»
قالت مارجوري: «وهو ما لا تفعلينه في شبابك!»
قدم لي كثيرون النصح أنا ومورجي. نصحونا أن نستمتع بحياتنا ما دمنا نستطيع ذلك، وأن نبقى بعيدا عن المشاكل. قالوا إنهم جميعا مروا بمرحلة الشباب ويعرفونها جيدا. وقال هيرب إننا طاقم عمل ماهر وإننا نقوم بمهامنا على أكمل وجه، وأضاف أنه لم يرد أن يقع في أي مشكلة مع أزواج أي من السيدات اللاتي يعملن في الحظيرة بسبب سهرهن هنا حتى وقت متأخر. أعربت مارجوري وليلي عن لامبالاتهما تجاه زوجيهما، بينما قالت أيرين إنها تحب زوجها وأنكرت أنه جيء به من ديترويت رغما عنه ليتزوجها، بغض النظر عما كان يقوله الناس. قال هنري إن الحياة تكون هنيئة ما لم نضعف أمامها، وتمنى لنا مورجان عيد ميلاد سعيدا.
عندما خرجنا من الحظيرة، كانت الثلوج تتساقط من السماء. قالت ليلي إن هذا الطقس أشبه ببطاقة معايدة، وقد كان حقا؛ فالثلوج تدور حول أضواء أعمدة الإنارة في المدينة، وحول المصابيح الملونة التي وضعها الناس خارج مداخل بيوتهم. أقل مورجان كلا من هنري وأيرين إلى بيتهما بشاحنته بسبب تقدم سن هنري وحمل أيرين، واحتفالا بعيد الميلاد. واتخذ مورجي طريقا مختصرا عبر الحقل، بينما رحل هيرب وحده مطأطئ الرأس ويداه في جيبيه، يتمايل قليلا وكأنه على متن قارب. وعقدت مارجوري وليلي ذراعيهما بذراعي وكأننا أصدقاء قدامى.
قالت ليلي: «هيا نغن. ماذا تقترحان؟»
قالت مارجوري: ««نحن الملوك الثلاثة»؟ «نحن مستخرجات أحشاء الحبش الثلاثة»؟» «ما رأيكن في أغنية «أحلم بعيد ميلاد ثلجي»؟» «ولماذا تحلمين؟ ها قد تحقق!»
وهكذا غنينا.
الحادثة
بعد ظهر أحد الأيام في بداية شهر ديسمبر، تسكعت فرانسيس بالقرب من إحدى النوافذ في الطابق الثاني بالمدرسة الثانوية في هانراتي. كان ذلك في عام 1943، وكان زي فرانسيس متماشيا مع موضة ذلك العام؛ إذ كانت ترتدي تنورة داكنة اللون مربعة النقش، وشالا ذا أهداب على شكل مثلث من نفس القماش؛ وضعت الشال على كتفيها وضمت طرفيه عند خصرها. كما كانت ترتدي بلوزة بيضاء اللون تميل إلى الصفرة من الساتان - الساتان الأصلي الذي اختفى من الأسواق بعد هذه الفترة مباشرة - واشتملت البلوزة على العديد من الأزرار اللؤلئية الصغيرة من الأمام وعلى الكمين. لم تكن فرانسيس معتادة على ارتداء مثل هذه الثياب لدى قدومها لتعليم الموسيقى في المدرسة الثانوية؛ فأي سترة وتنورة قديمتين كانتا ستؤديان الغرض؛ ولهذا كان هذا التغيير ملحوظا.
لم يكن لديها عمل في الطابق الثاني؛ ففرقتها الموسيقية تغني في الطابق السفلي. وخلال هذه الفترة كانت تدرب الطالبات بجد لإعدادهن لحفل الكريسماس. كانت أغنيتهن الصعبة هي «سوف يطعم قطيعه»، ثم «ترنيمة هورون» (وقد شكا أحد أولياء الأمور أنه ظن أن من ألف الترنيمة قسيس)، و«قلوب البلوط» لأنه كان لا بد من وجود أغنية وطنية بسبب الأحوال السائدة، وأغنية «الصحراء»، التي كانت من اختيار الطالبات. ووقتئذ كن يصدحن بأغنية «المدينة المقدسة». وكانت هذه الأغنية من الأغاني المفضلة بشدة، لا سيما لدى الفتيات الحالمات ممتلئات الصدر وكذلك سيدات الكورال. وكان بوسع فتيات المدرسة الثانوية إثارة غضب فرانسيس؛ فمرة يردن إغلاق النوافذ، ومرة يردن فتحها؛ مرة يقلن إن تيارات الهواء باردة، ومرة يقلن إن قواهن تخور من الحر. كن يعتنين بأجسادهن، ويتحركن غارقات في حب ذواتهن بغير رضى، وينصتن إلى رفرفات القلب، ويتحدثن عن تباريح الحب. إنها بداية انتقالهن إلى الأنوثة المكتملة. ثم ماذا يحدث لهن؟ نهود ومؤخرات ممتلئة، شعور طفيف بالأهمية، خجل، شرود ذهني، عناد، رائحة مشدات الجسم، وإفشاء أسرار مقززة. كن يحظين بنظرات تبجيلية في الكورال. أما عن العلاقات الغرامية، فما يمارسنه فعليا ليس سوى نوع رتيب من الجنس، على شاكلة قول: «يسير معي ويحدثني ويخبرني أني حبيبته.»
تركتهن فرانسيس وحدهن، وتظاهرت أنها ذاهبة إلى مرحاض المعلمين. كل ما تفعله هناك هو إضاءة الأنوار والنظر بارتياح إلى وجهها غير فائق الجمال؛ وجهها الطويل ذي الإشراقة الحزينة، بأنفه الكبير قليلا، والعينين البنيتين الصافيتين، وشعرها الكثيف المجعد الذي يتراوح لون خصلاته بين الأحمر والأسود. تحب فرانسيس مظهرها، وعادة ما تبتهج برؤية وجهها في المرآة . يبدو أن معظم النساء - على الأقل حسبما يرد في الكتب - يواجهن صعوبة في تقبل مظهرهن، وذلك باعتقاد أنهن أقل جمالا مما يبدون بالفعل. ولكن تعترف فرانسيس أن مشكلتها هي النقيض؛ فليس الأمر أنها تظن نفسها جميلة، بل أنها محظوظة بوجهها المغري. فهي تتذكر أحيانا فتاة في معهد الموسيقى اسمها ناتالي، ولا تتذكر اسم أبيها، كانت تعزف على الكمان. اندهشت فرانسيس عندما عرفت أن الناس أحيانا ما تخلط بينها وبين ناتالي التي اتسمت بوجه شاحب ناتئ العظام وشعر مجعد. بل كانت أكثر اندهاشا عندما علمت - عبر شبكة من الأصدقاء والأخلاء المقربين - أن الأمر كان يزعج ناتالي بقدر ما كان يزعجها. وعندما فسخت فرانسيس خطبتها على بول - وكان زميلا أيضا بمعهد الموسيقى - قال لها بنبرة فظة واقعية وخالية من أي تودد أو عواطف كان يشعر من قبل باضطراره إلى استخدامها معها: «حسنا، هل تعتقدين حقا أنك تستطيعين أن تقدمي لي أفضل من هذا؟ أنت لست أجمل الفتيات، وأنت تعلمين هذا.»
بعد أن نظرت إلى وجهها في المرآة أغلقت مصابيح الإضاءة، وبدلا من العودة إلى الفرقة الموسيقية صعدت إلى الطابق العلوي. خلال الفترة الصباحية في الشتاء تخيم الكآبة على المدرسة؛ حيث تكون درجة الحرارة منخفضة لأن الشمس لم تشرق بعد، والجميع يتثاءب ويرتجف، وأطفال الريف الذين تركوا منازلهم في ظلمة الليل يفركون أعينهم من النعاس. ولكن بحلول هذا الوقت من اليوم، بحلول وقت العصاري، شعرت فرانسيس بهمهمة في أرجاء المكان تبعث على الشعور بالارتياح، وساد بين الطالبات قدر مسموح به من النعاس، بينما ينعكس ضوء النهار على الألواح الخشبية داكنة اللون المبطنة للأجزاء التحتية من الجدران، وتتكدس المعاطف الصوفية غير المزخرفة والأوشحة والأحذية ذات الرقبة العالية وأدوات التزلج وعصي الهوكي في غرفة إيداع الثياب. وعبر النوافذ الفوقية المفتوحة بأبواب الفصول، تسمع تعليمات متعلقة بالمناهج الدراسية من إملاءات فرنسية وحقائق ثابتة. وإلى جانب كل هذا النظام والإذعان له، يسود شعور ملح معتاد - شعور بالتوق أو التحذير - أن مجموعة غريبة من الأشياء التي يمكنك استشعارها أحيانا في الموسيقى أو في منظر طبيعي مكبوتة بالكاد وتنذر بالانفجار والكشف عن ذاتها، ولكنها لا تفعل، بل تذوب وتتلاشى.
وقفت فرانسيس في مواجهة باب فصل العلوم مباشرة، وكانت النافذة الفوقية من الباب مفتوحة، فأمسى بوسعها سماع أصوات المعدات الزجاجية، وهمسات الطالبات، وتحرك الكراسي. لا بد أنه طلب منهم إجراء تجربة. وعلى نحو سخيف ومخز، شعرت بالتعرق في كفيها، وزيادة ضربات قلبها، تماما مثلما كانت تشعر قبل اختبار بيانو أو حفل موسيقي. إن هذا الجو المتأزم، والاحتمالات المفترضة بالفوز أو الفشل التي يمكنها تحويلها إلى حقيقة لنفسها وللآخرين؛ كل ذلك يبدو الآن ملفقا وسخيفا وزائفا. ولكن ماذا عن هذا الأمر؛ عن علاقتها بتيد ماكافالا؟ حتى الآن، لم تبتعد فرانسيس عن هذه العلاقة، حتى إنها لا تستطيع تمييز مدى السخافة التي يمكن أن تبدو عليها لأي فرد يراها. لا بأس، لو كانت السخافة تعني المخاطرة والطيش، فهذا لا يهمها؛ فربما جل ما تريده هو فرصة للمغامرة. لكن ثمة فكرة تراودها أحيانا بأن قصة الحب يمكن ألا تكون زائفة، ولكنها بطريقة ما مصطنعة ومتعمدة، أو فرصة متاحة، تماما شأنها شأن ذلك الأداء التعليمي السخيف؛ فهي اختراع آيل للسقوط. ولكن هذه الفكرة لا يمكن لفرانسيس المغامرة بها، ولهذا تنحيها جانبا.
من خلال النافذة، سمعت فرانسيس صوت طالبة مرتبكة وتشكو شيئا (وهذه سمة أخرى من سمات طالبات المدرسة الثانوية؛ فهن يتذمرن عندما لا يفهمن؛ ولهذا فعدم احترام الصبية للمدرس وتذمرهم أفضل من شكوى الفتيات). ثم تحدث تيد بصوت خفيض مجيبا عن الأسئلة ومفسرا. لم تستطع فرانسيس أن تسمع كلماته، ولكنها تخيلت أنه يميل بلطف لمساعدتهن، ويؤدي إحدى المهام العادية مثل خفض شعلة موقد بنزن. وقد كانت تحب أن تتخيله إنسانا مجدا في عمله، صبورا، غير معتمد على الآخرين. ولكنها كانت تعلم - أو بالأحرى بلغها - أن سلوكياته في الفصل تختلف عما رسمه في مخيلتها أو مخيلة الآخرين. فمن عادته التحدث عن عمله وعن طلابه بقدر من الازدراء والسخرية، وإذا سئل عن نوع التأديب الذي يفضله لضبط السلوك في الفصل، فسيقول: أوه، ليس الكثير، ربما لكمة في الفم، أو ركلة سريعة في المؤخرة. والحقيقة أنه ينال اهتمام طلابه بجميع أنواع الحيل والمداهنات، ويستعين بأدوات مثل الطراطير لعقاب الكسالى، وصفارات عيد الميلاد، ويواصل تحدي غبائهم بطريقة ميلودرامية للغاية، وذات مرة أحرق أوراق الاختبار خاصتهم ورقة ورقة في الحوض. وكانت فرانسيس تسمع الطالبات دوما تصفنه على هذا النحو: «شخصية غريبة!» لكنها لا تحب أن تسمعهن يقلن هذا، بيد أنها متأكدة أنهن يقلن هذا عنها أيضا؛ فهي نفسها تستخدم أساليب مبالغا فيها؛ فكانت تحرك أصابعها خلال شعرها الكثيف وتنتحب قائلة: «لا، لا، لا، لا» عندما يتدنى مستوى الغناء. ولكنها كانت تفضل ألا يضطر إلى القيام بمثل هذه الأمور؛ إذ كانت تخجل أحيانا من ذكر اسمه، ومن سماعها ما يقوله الناس عنه. ومع أنهم يصفونه بأنه ودود، يجول بخاطرها أن نبرة صوتهم تشي ببعض الحيرة وبعض الازدراء؛ ولذا كانت تتساءل: لماذا يضطر إلى تحمل هذا؟ فهي تعرف رأيه عن هذه المدينة ومن يعيشون فيها، أو ما يدعي أنه رأيه.
فتح الباب وتحرجت فرانسيس في صدمة؛ فآخر ما تريده هو أن يجدها تيد هنا تتنصت وتتجسس عليه. ولكنه لم يكن تيد، حمدا لله، إنها سكرتيرة المدرسة، امرأة جادة ممتلئة الجسم شغلت منصب السكرتيرة منذ أمد بعيد، منذ أن كانت فرانسيس نفسها طالبة بالمدرسة، بل وقبلها أيضا. إنها مخلصة للمدرسة وللدروس الدينية التي تعطيها في الكنيسة المتحدة. «أهلا بك يا عزيزتي، هل تستنشقين الهواء؟»
لم تكن النافذة التي تقف فرانسيس بجوارها مفتوحة بالطبع، بل وحتى شقوقها كانت مغطاة بشريط لاصق. ولكن فرانسيس لدى طرح هذا السؤال عليها رسمت على وجهها تعبيرا مازحا يؤيد كلام السكرتيرة قائلة: «متغيبة عن الفصل.» مقرة بعدم وجودها في فصلها. فذهبت السكرتيرة في هدوء إلى الدرج للنزول إلى الطابق السفلي وهي تخاطب فرانسيس بصوت حنون. «أداء فرقتك الموسيقية رائع اليوم؛ لطالما أحببت موسيقى الكريسماس.»
عادت فرانسيس إلى فصلها وجلست وراء مكتبها، مبتسمة للوجوه التي تصدح بالغناء. غنين «المدينة المقدسة» ثم من تلقاء أنفسهن بدأن غناء «ترنيمة ويستمنستر» كانت تبدو عليهن السخافة، ولكن ما بيدهن حيلة؛ فالغناء شيء سخيف بكل ما في الكلمة من معنى. لم تعتقد أبدا أنهن سيلاحظن ابتسامتها ويذكرن الأمر لاحقا قائلات إنها خرجت بالضرورة لتقابل تيد في الردهة. إن اعتقاد فرانسيس بأن علاقتها الغرامية سرية يبين بوضوح شديد افتقارها إلى الطبيعة الفطرية التي يتسم بها أهل المدن الصغيرة، ويبين كذلك ثقة وطيشا لا تدرك هي وجودهما في شخصيتها، وهذا ما يقصده الناس عندما يقولون عنها إن هذا الأمر يوضح بالطبع أنها غريبة عن المدينة، لكنها في الواقع لم تغب عن المدينة سوى أربع سنوات فقط قضتهم في معهد الموسيقى للدراسة. لكن الحقيقة هي أنها لطالما افتقرت إلى الحيطة. فبقامتها الطويلة وجسدها المتناسق ومنكبيها الضيقين، كانت تشبه الغرباء في حركتها السريعة، ونظراتها الشاردة، ونبرتها العالية، وما يحمله صوتها من توتر، وكذلك كانت تشبههم في براءة افتراضها أنها ليست محطا للأنظار وهي تتنقل على عجل من مكان إلى آخر في أرجاء المدينة وذراعاها محملتان بكتب الموسيقى، وتنادي على أناس على الجانب الآخر من الطريق وتوجه لهم رسائل تشي بالترتيبات المتذبذبة - بل والتي تبدو أحيانا مستحيلة - في حياتها. «أخبري بوني بألا تحضر حتى الساعة الثالثة والنصف!» «هل وجدت المفاتيح؟ لقد تركتها في المكتب.»
كانت على نفس هذه الحال في طفولتها؛ إذ أصرت أيما إصرار على أن تتعلم عزف البيانو، مع أن عائلتها لم يكن لديها بيانو في الشقة التي تعلو متجر الإلكترونيات حيث كانت تعيش مع والدتها وشقيقها (وكانت والدتها أرملة تقبض راتبا هزيلا من عملها في هذا المتجر). وبطريقة ما، تدبرت فرانسيس أمر الخمسة والثلاثين سنتا كل أسبوع اللازمة لتعلم البيانو، ولكن البيانو الوحيد الذي رأته كان بيانو معلمتها، أما في البيت، فكانت تتمرن على لوحة مفاتيح مرسومة بالقلم الرصاص على عتبة النافذة. وكان ثمة مؤلف موسيقي - يدعى هاندل، أكان هذا اسمه؟ - اعتاد التمرن على البيانو القيثاري في علية المنزل وهو يحكم إغلاق الباب كي لا يعرف أبوه مدى ولعه بالموسيقى. (والسؤال الشائق هنا هو كيف نجح هذا المؤلف الموسيقي في إدخال البيانو إلى ذلك المكان خلسة؟) لو كانت فرانسيس أصبحت عازفة بيانو مشهورة، لتحولت لوحة المفاتيح على عتبة نافذتها - التي تطل على الزقاق وسقف حلبة الكيرلنج - إلى أسطورة أخرى مثل أسطورة البيانو القيثاري.
مما قاله بول - الذي كان خطيبها وزميلها في المعهد - أيضا: «لا تحسبي أنك عبقرية، لأنك لست كذلك.» هل فكرت في هذا؟ كانت تعتقد أن المستقبل يخبئ لها شيئا مميزا. لم تفكر حتى في الأمر بوضوح، ولكنها تصرفت وكأنها فكرت فيه؛ فعادت إلى موطنها، وبدأت تدرس الموسيقى، أيام الإثنين في المدرسة الثانوية، وأيام الأربعاء في المدرسة الخاصة، وأيام الثلاثاء والخميس في المدارس الصغيرة بالريف، أما أيام السبت فمخصصة للتمرن على الأرجن وإعطاء الدروس الخصوصية، وأيام الأحد كانت تعزف في الكنيسة المتحدة.
وفي الكريسماس، كانت فرانسيس تكتب على بطاقات المعايدة التي ترسلها إلى أصدقائها القدامى في معهد الموسيقى: «ما زلت أتخبط في هذه العاصمة الثقافية العظيمة.» فما إن ماتت والدتها، وبمجرد أن شعرت بالحرية والانطلاق، شرعت فرانسيس في بدء حياة مستقلة غير واضحة الملامح، حياة ترضيها على نحو أفضل بلا حدود، حياة لم تزل بانتظارها. وكانت صديقاتها يرسلن رسائل توحي غالبا بنبرة التشتت والريبة نفسها. «أنجبت طفلا آخر، وكم أنا مشغولة، فيداي دوما في حوض الغسيل أنظف الحفاظات أكثر مما أمرنهما على لوحة المفاتيح.» كن جميعا في بداية الثلاثين من العمر. وهو عمر من الصعب أحيانا أن تعترف فيه الواحدة منا بأن ما تعيشه هو حياتها بالفعل.
كانت الرياح تحني الأشجار بالخارج حيث تغطيها الثلوج. عاصفة ثلجية بسيطة. أمر لا يثير الانتباه في هذه البقعة من الريف. وعلى عتبة النافذة توجد قنينة حبر من النحاس البالي بها ريشة طويلة، وهو شيء مألوف يجعل فرانسيس تفكر في ألف ليلة وليلة، أو شيء من هذا القبيل، شيء يبشر أو يوحي بوقوع أحداث غريبة وغامضة ومبهجة. •••
قال تيد عندما قابلته في الردهة بعد الساعة الرابعة: «مرحبا، كيف حالك ؟» ثم قال في نبرة صوت خفيضة: «غرفة الإمدادات، سأكون هناك.»
قالت فرانسيس: «حسنا، حسنا.» ذهبت لتغلق الغرفة على بعض كتب الموسيقى وتغلق البيانو. أخذت تعبث وتتلكأ في الأرجاء إلى أن رحلت جميع الطالبات، ثم هرولت إلى الطابق العلوي، إلى فصل العلوم، ومنه إلى حجرة كبيرة بلا نوافذ، كانت الغرفة التي يحصل منها تيد على إمداداته. ولكنه لم يكن قد وصل بعد.
كانت هذه الحجرة تستخدم كخزانة تتراص فيها الأرفف التي تحمل زجاجات محتوية على مواد كيميائية متنوعة - وكانت كبريتات النحاس هي المادة الوحيدة التي استطاعت فرانسيس معرفتها دون وجود ملصق على الزجاجة؛ فهي تتذكر لونها الجميل - ومواقد بنزن، ودوارق، وأنابيب اختبار، وهيكلا عظميا بشريا وآخر لهرة، وبعض الأعضاء المعبأة في زجاجات، أو ربما كائنات حية، فهي لم تتأملها عن قرب، وكانت الغرفة مظلمة على أية حال.
كانت فرانسيس تخشى أن يدخل عامل النظافة، أو حتى بعض الطالبات اللاتي يعملن تحت إشراف تيد في مشروع ما يتمحور حول العفن أو بيض الضفادع (مع أنه ليس التوقيت المناسب من العام لذلك بالطبع). ماذا لو عادت الطالبات بحثا عن شيء؟ عندما سمعت وقع خطوات، بدأ قلبها يخفق بقوة، وبعدما أدركت أنها خطوات تيد لم يهدأ خفقان قلبها ولكن تغير سبب خفقانه، فأصبح يدق ليس فزعا، وإنما من قوة التوقعات المسيطرة عليها، التي - رغم متعتها - كانت ثقيلة الوطأة جسديا عليها كالشعور بالخوف؛ وكانت التوقعات كفيلة ببث الشعور بالضيق في صدرها.
سمعته يغلق الباب.
نظرت فرانسيس إلى تيد بطريقتين، وكلاهما خلال نفس اللحظة التي ظهر أمامها عند مدخل باب غرفة الإمدادات، ثم سحب الباب ليواربه فكادا يكونان في ظلام دامس. أولا، رأته كما كان الوضع منذ عام مضى، قبل أن يرتبط بها؛ رأته تيد ماكافالا مدرس العلوم الذي لم يشارك في الحرب، مع أنه لم يبلغ الأربعين. وكان لديه بالفعل زوجة وثلاثة أبناء، وربما كان قلبه يصدر صوتا غريبا ينم عن مشكلة به، أو شيئا من هذا القبيل، وكان يبدو مجهدا بالفعل. رأته رجلا طويل القامة، منحني الظهر قليلا، أسود الشعر، ذا بشرة سمراء وتعبيرات ساخرة ومضطربة، وعينين منهكتين ولامعتين. ويمكن افتراض أنه رآها بنفس النظرة، وهي واقفة هناك، تبدو مترددة وخائفة، ومعطفها على ذراعها وحذاؤها في يدها، إذ جال بخاطرها أنه لن يكون من الحكمة تركهما في غرفة إيداع ثياب المعلمين. كان ثمة احتمال لمدة لحظة ألا يمكنهما تغيير شعور أحدهما تجاه الآخر، ألا يرى كل منهما الآخر بصورة مختلفة، ألا يتذكرا كيف تغيرت نظرة كل منهما للآخر، ألا يمنحا هذه المشاعر. وإذا كان الأمر كذلك، فماذا كانا يفعلان في ذلك المكان؟
نظرت إليه تارة أخرى وهو يغلق الباب، رأت جانب وجهه وانحدار عظم وجنتيه، وكم كان انحدارا بديعا وحادا على بشرة ملساء. لاحظت أنه أغلق الباب خلسة وبطريقة تنم عن شيء من قسوة الطباع. وحينها عرفت أنه ما من فرصة ستحول دون وقوع التغير في مشاعر كل منهما تجاه الآخر. فقد حدث بالفعل.
ثم حدث المعتاد؛ لعقات وضغطات، ألسنة وأجساد، مداعبة وألم وطمأنينة، دعوات وتنبيهات. اعتادت أن تتساءل خلال الفترة التي قضتها مع بول عما إذا كانت العلاقة الحميمية كلها خدعة، محض وهم، وعما إذا كان أحد يشعر حقا بما يتظاهران بالشعور به، لأنها بالطبع هي وبول لم يشعرا بما كانا يتظاهران بالشعور به. كان بينهما شعور قابض أثناء العلاقة مليء بالاعتذارات والقيود والإحراج، وأسوأ ما في الأمر التأوهات والمغازلات ومحاولات بث الطمأنينة التي يجدان نفسيهما مضطرين لتقديمها. ولكن لا، لم تكن خدعة، بل كان كل شيء حقيقيا، وقد تخطى الحدود؛ كما أن دلالات حدوثه - العينين المغلقتين، والرعشة الشديدة وكل المشاعر الحمقاء البدائية - كلها كانت أيضا حقيقية.
قالت لتيد: «كم شخصا آخر يعرف بهذا الأمر؟» «ليسوا كثيرين، ربما عشرة أو أكثر.» «لا أعتقد أن الأمر سينتشر.» «حسنا، لن يكون مقبولا للناس.»
كانت المسافة بين الأرفف ضيقة، وكانت هناك معدات كثيرة قابلة للكسر. فلماذا لم تفكر قليلا في ترك حذائها ومعطفها ووضعهما في مكان ما على الأرض؟ الحقيقة أنها لم تتوقع أنهما سيتعانقان كثيرا ، أو بالأحرى أنه ينوي عناقها بهذه الطريقة، لقد اعتقدت أنه أراد إخبارها بشيء فحسب.
فتح الباب قليلا ليدخل بعض الضوء إلى الغرفة، ثم أخذ حذاءها من يدها ووضعه خارج الغرفة. ثم أخذ معطفها، ولكن بدلا من وضعه بالخارج فرشه على ألواح الأرضية التي لم تغطها سجادة. المرة الأولى التي رأته يفعل شيئا كهذا كان في الربيع الماضي، في البستان البارد الذي كانت أشجاره حينها عارية من الأوراق، خلع سترته الجلدية وفرشها على نحو لا يسعهما على الأرض. تأثرت كثيرا بتصرفه التمهيدي البسيط، وبالطريقة التي فرش بها السترة وضبط فرشها، دون أية أسئلة أو شكوك أو استعجال. لم تكن متأكدة ماذا سيحدث حتى فرش السترة، كم كان وجهه لطيفا وهادئا وعاقد العزم! استرجعت هذه الذكرى لدى رؤيته وهو ينزل على ركبتيه في هذه المساحة الضيقة ويفرش معطفها. وكانت تفكر في الوقت نفسه: لو أراد مضاجعتي الآن، فهل يعني هذا أنه لن يستطيع المجيء يوم الأربعاء؟ الأربعاء ليلا هو الموعد الذي يتقابلان فيه بانتظام في الكنيسة بعد انتهاء فرانسيس من تمرين الكورال، فكانت تظل في الكنيسة، تعزف على الأرجن، إلى أن يرحل الجميع، وقرابة الساعة الحادية عشرة كانت تنزل وتطفئ الأنوار وتنتظر عند الباب الخلفي، باب مدرسة الأحد الدينية، لكي تدخله، وقد فكرا في هذا عندما أصبح الجو باردا. ولم تعرف فرانسيس ما الحجة التي كان يقولها لزوجته. «اخلعي ملابسك كلها.»
قالت فرانسيس: «لا يمكننا أن نفعل ذلك هنا.» مع أنها كانت تعلم أنهما سيفعلانها. كانا دائما يخلعان ثيابهما كلها، حتى خلال المرة الأولى التي ضاجعها في البستان؛ لم تكن تظن أبدا أنها لن تشعر بالبرد القارص.
لم يمارسا الجنس هنا في المدرسة إلا مرة واحدة فقط، وفي الغرفة نفسها، وقد كان ذلك خلال إجازة الصيف، بعد حلول المساء. كانت جميع الأجزاء الخشبية في فصل العلوم حديثة الطلاء، ولم تكن هناك علامات تحذيرية - فلماذا يضعونها ما داموا لا يتوقعون دخول أحد الغرفة؟ - كانت رائحة الطلاء قوية جدا، ولكنهما لم يلحظا ذلك إلا بعد حين. وقد كانا في وضع ملتو بطريقة ما حتى إن سيقانهما كانت في مدخل هذا الباب، وتلطخ كلاهما بالطلاء الذي دهن به إطار الباب. ولحسن حظ تيد أنه كان يرتدي سروالا قصيرا في هذا المساء - وهو مظهر غريب في المدينة وقتذاك - واستطاع إخبار جريتا بالحقيقة؛ بأن الطلاء لطخ ساقه عندما ذهب لفعل شيء في فصل العلوم، دون أن يضطر إلى أن يشرح لها كيف كانت ساقاه عاريتين. أما فرانسيس فلم تضطر إلى شرح شيء؛ إذ إن والدتها لم تكن لتلاحظ مثل هذه الأشياء. كما أنها لم تنظف الطلاء هلالي الشكل (الذي كان موجودا فوق كاحلها مباشرة). تركته حتى يزول من تلقاء نفسه، وكانت تستمتع بالنظر إليه ومعرفة أنه ما زال موجودا، مثلما كانت تستمتع بالكدمات داكنة اللون وعلامات العض فوق ذراعيها وكتفيها، والتي كان بوسعها تغطيتها بسهولة بأكمام طويلة، ولكنها لم تفعل ذلك. ثم كان الناس يسألونها: «كيف أصبت بهذه الكدمة البشعة؟» وكانت ترد: «لا أعلم! أصاب بالكدمات بسهولة. كلما أتفقد جسدي، أجد كدمة جديدة!» كانت أديليد، زوجة أخيها، هي الوحيدة التي تعرف سبب هذه الكدمات، وكانت تختلق الموقف لتقول شيئا عنها. «أوه، لقد خرجت مع ذلك القط مجددا. أليس كذلك؟ أليس كذلك؟» كانت تضحك، بل وتضع إصبعها على مكان الكدمة.
كانت أديليد هي الشخص الوحيد الذي حكت له فرانسيس عن هذه العلاقة، وقال تيد إنه لم يخبر أحدا بها، وقد صدقته فرانسيس، لكنه لم يعلم أنها قد أخبرت أديليد. وكم تمنت لو لم تفعل؛ فلم تكن تحبها بما يكفي لتجعلها كاتمة أسرارها. كان تصرفا سوقيا ومخزيا أن تحكي لها، ولكنها سلكته فقط تباهيا أمامها. وعندما قالت أديليد «القط» بهذه الطريقة الفظة والساخرة والمستفزة التي تعكس غيرتها، شعرت فرانسيس بالسعادة والابتهاج، ولكنها شعرت كذلك بالخجل. كان سيجن جنونها لو عرفت أن تيد يتحدث عن تفاصيلهما الحميمية بمثل هذا الشكل.
كانت الليلة التي لطخا فيها نفسيهما بالطلاء حارة، والمدينة بأكملها كانت قلقة وقانطة وتنتظر هطول المطر الذي لم يهطل إلا قرب الصباح مع عاصفة رعدية. كلما استرجعت فرانسيس هذا الوقت، فإنها دائما ما كانت تفكر في البرق، كشكل من أشكال الشهوة المؤلمة المهلكة والمجنونة. اعتادت أن تفكر في كل مرة ضاجعها فيها على حدة وتسترجعها في عقلها؛ إذ كان ثمة رسالة غامضة خاصة، أو إحساس مختلف، في كل مرة: المرة التي كانا فيها في فصل العلوم كان البرق والطلاء الرطب. والمرة التي كانا فيها في السيارة خلال هطول الأمطار في منتصف العصاري، والتي مارسا فيها الجنس بإيقاع ناعس - وكان كلاهما سعيدا وناعسا وقتها حتى إنهما لم يعبآ فيما يبدو بما سيفعلانه بعد ذلك - تلك المرة غمرها إحساس بالتموج الهادئ استقر في ذاكرتها. كان إحساس التموج نابعا من تدفق ماء المطر على زجاج السيارة الأمامي، وكأنها ستائر معقودة على الجانبين.
ولكن منذ أن صارا يتقابلان بانتظام في الكنيسة، لم يتغير النمط كثيرا، وصارت كل مرة مثل غيرها تقريبا.
قال تيد بثقة: «اخلعي كل ملابسك، لا تخافي.» «وماذا لو حضر عامل النظافة؟» «لا تخافي، لقد أنهى عمله في هذه الغرفة.» «كيف عرفت؟» «طلبت منه أن ينهي عمله هنا كي أستطيع أن أعمل.»
قالت فرانسيس وهي تقهقه وتخلع بلوزتها وصدريتها بصعوبة: «تعمل؟» كان قد فك الأزرار الأمامية، ولكن لم يزل هناك ستة أزرار في كل كم. أحبت فكرة أنه خطط للأمر، وأحبت أيضا التفكير في شهوانيته التي عزمت على أن تتقد فيه بعد ظهيرة هذا اليوم في غمرة انشغاله بتوجيه فصله، ولكن من ناحية أخرى لم تحب الأمر مطلقا؛ فضحكت بقوة لتحجب التوتر أو الإحباط اللذين لم تشأ سماع صوتهما في داخلها. قبلت خط الشعر المستقيم الذي يمتد فوق بطنه كسيقان النباتات، نابعا من شعر العانة ويمتد إلى الشعر الدقيق المتناسق الذي يغطي صدره. مهما يكن، كان جسده صديقا محببا إلى جسدها، وكان يزين تلك المنطقة الشامة المسطحة داكنة اللون التي تشبه الدمعة، والتي ربما كانت مألوفة لها (وربما لجريتا) أكثر مما كانت مألوفة له هو، ثم تلك السرة الصغيرة؛ وندبة قرحة المعدة الطويلة، وندبة استئصال الزائدة الدودية، ثم شعر العانة الذي يشبه الأسلاك؛ ثم عضوه الذكري المتورد المنتصب الرائع، وكانت لا تزال تشعر بالشعيرات الخشنة في فمها.
ثم طرق أحدهم الباب. «هش، لا بأس، سيرحل.» «مستر ماكافالا!»
كانت السكرتيرة. «هش، سترحل.»
كانت السكرتيرة واقفة بالخارج في الردهة تتساءل ماذا تفعل. كانت شبه متأكدة أن تيد بالغرفة وأن فرانسيس معه. ومثل كل شخص آخر في المدينة، كانت تعرف قصتهما منذ فترة. (من بين القلائل الذين كان من الواضح جهلهم بالأمر زوجة تيد، جريتا، ووالدة فرانسيس. لم تكن جريتا امرأة اجتماعية؛ فكان من الصعب على أحد إيجاد طريقة لإخبارها. وحاول الناس بطرق مختلفة إخبار السيدة رايت العجوز، والدة فرانسيس، ولكنها لم تستوعب فيما يبدو.) «مستر ماكافالا!»
أمام أعين فرانسيس مباشرة كان تيد يزداد شحوبا وضعفا، ويبدو رقيقا ومثيرا للشفقة. «مستر ماكافالا! آسفة لإخبارك بالأمر. لقد قتل ابنك!» •••
لم يقتل ابن تيد، بوبي، الذي كان في الثانية عشرة من عمره، ولكن السكرتيرة لم تكن تعرف ذلك. لقد أخبروها بوقوع حادث، حادث مريع أمام مكتب البريد، حيث قتل ابنا أوهير وماكافالا. كانت إصابة بوبي بالغة ونقل إلى لندن بسيارة الإسعاف فورا. لقد استغرق وصولهم إلى هناك أربع ساعات بسبب العاصفة الثلجية، وقد تبعهم تيد وجريتا بالسيارة.
جلس الوالدان في غرفة الانتظار بمستشفى فيكتوريا. ولاحظ تيد نقشا للملكة العجوز - تلك الأرملة الغاضبة - على نافذة ذات زجاج ملون، بدت في الرسم كقديسة، ويا لها من قديسة مثيرة للسخط. كما تخيل أن هذا النقش ينافس صورة القديس جوزيف المرسومة بالجص على جدار المستشفى التابع لمدينتهم، وهو يمد ذراعيه وكأنه سيسقط عليك؛ فكلاهما سيئ. ما جال بخاطره حينئذ أن يخبر فرانسيس بذلك؛ فعندما كان يبهجه أو يغضبه شيء - وكثيرة هي الأشياء التي كانت تجعله يشعر بالإحساسين في نفس الوقت - كان يفكر في إخبار فرانسيس. وبدا أن هذا يرضيه، مثلما قد يشعر أحدهم بالرضى لمراسلة محرر.
فكر في الاتصال بها، لا ليخبرها بشأن الملكة فيكتوريا، ليس الآن، ولكن ليخبرها بما حدث ، وأنه في لندن. لم يكن قد أخبرها أيضا أنه لن يستطيع مقابلتها مساء الأربعاء. كان ينوي إخبارها بذلك لاحقا. ولكن الأمر ليس مهما الآن؛ فكل شيء تغير. لم يستطع تيد الاتصال بها من الغرفة التي يجلس فيها هو وزوجته؛ فالهواتف كانت مرئية بوضوح في غرفة الانتظار.
قالت جريتا إنها لاحظت كافيتيريا أو لافتة ذات أسهم تشير إلى اتجاه الكافيتيريا في المستشفى؛ كانت الساعة حينها قد تخطت التاسعة، ولم يتناولا عشاءهما بعد. «يجب أن تتناول بعض الطعام.» قالتها جريتا دون أن تخاطب تيد بالتحديد، ولكنها كانت تتحدث وفقا لما جرى العرف عليه. من المحتمل أنها في هذه اللحظة كانت تفضل التحدث باللغة الفنلندية، ولكنها لم تكن تتحدث الفنلندية مع تيد؛ فهو لا يعرف كلمات كثيرة؛ إذ إنه نشأ في بيت كان يصر على استخدام الإنجليزية، على النقيض من منزل جريتا. لم يكن هناك أحد في هانراتي تستطيع جريتا التحدث بالفنلندية معه، وهذه كانت إحدى مشكلاتها. كانت فاتورة الهاتف هي المصدر الأساسي الذي يلتهم معظم مالهما؛ لأن تيد لم يكن بمقدوره الاعتراض على محادثاتها الطويلة والحزينة، وإن كانت مبتهجة فيما يبدو، مع والدتها وشقيقاتها.
طلبا شطائر جبن ولحم وقهوة، واشترت جريتا قطعة من فطيرة الزبيب، ترددت يدها فوقها للحظة قبل أن تلتقطها، ربما كانت في حيرة من أمرها حيال نوع الفطيرة الذي تريده، أو ربما كانت متحرجة من تناول فطيرة في هذا الوقت العصيب، وأمام زوجها. وفي أثناء جلوسهما خطر لتيد أن الوقت مناسب ليستأذن بالانصراف، ويعود إلى القاعة حيث توجد الهواتف ويتصل بفرانسيس.
راقب وجه جريتا ناصع البياض، وعينيها الفاتحتين، وهي تنكب على الطعام بنهم، وربما بأمل. كانت تأكل لتخفف من حدة فزعها، بالضبط مثلما فكر هو في الملكة فيكتوريا والقديس جوزيف ليخفف من حدة فزعه. كان على وشك الاستئذان والنهوض في اللحظة التي واتته فيها فجأة فكرة أنه إذا ذهب للاتصال بفرانسيس، فقد يموت ولده. وإذا لم يتصل بها، أو حتى يفكر فيها، واعتزم طردها من حياته، فسيضاعف من فرص نجاة بوبي ويحول دون موته. ما هذا الكم من الهراء؟ يا لها من خزعبلات تلك التي راودته على حين غرة، لكن كان من المستحيل أن يوقفها، من المستحيل أن يتغاضى عنها. ماذا لو كان الأسوأ قادما؟ ماذا لو تجسدت الفكرة التي ستراوده بعد ذلك في إحدى تلك المقايضات السخيفة؟ وراودته الفكرة: الإيمان بالرب وفقا للعقيدة اللوثرية، وقطع العهد على نفسه بالذهاب إلى الكنيسة بعد هذه الفترة من الانقطاع، والتنفيذ فورا، الآن، ولن يموت بوبي؛ والتخلي عن فرانسيس، التخلي عنها للأبد، ولن يموت بوبي.
التخلي عن فرانسيس!
كم كان هذا سخيفا ومجحفا، وكم كان من السهل وضع فرانسيس في جانب، وكأنها دنسة، وعلى الجانب الآخر ابنه المصاب، ابنه المسكين المحطم، الذي كانت نظرته - في المرة الوحيدة التي فتح فيها عينيه - تطالب بشيء ما من سبيل لتلبيته، تطالب بحياته ذات الاثنتي عشرة سنة. البراءة والفساد؛ بوبي وفرانسيس. يا له من اختزال! يا له من هراء! هراء تام!
توفي بوبي، فقد تحطمت ضلوعه، وثقبت إحدى رئتيه. وكان اللغز الرئيسي الذي حير الأطباء هو لماذا لم يمت فور الحادث، فقد مات قبل حلول منتصف الليل.
بعد ذلك بفترة طويلة، حكى تيد لفرانسيس ما حدث، ليس فقط عن صورة الملكة السخيفة، ولكن أيضا عن الوجبة التي تناولاها في الكافيتيريا، وعن أفكاره حول الاتصال بها، ولماذا لم يتصل، وكذلك أفكاره عن المقايضات. أخبرها بكل شيء، ولكنه لم يخبرها من باب الاعتراف، وإنما من باب التشويق، لتوضيح الطريقة التي يمكن أن ينتكس بها أكثر الأذهان عقلانية بل وينهار. ولكنه لم يتخيل أن ما أخبرها به قد يكون مثيرا للغضب عندما اتخذ هو - في نهاية المطاف - قرارا في صالحها. •••
في تلك الليلة، ليلة الحادث، انتظرت فرانسيس بضع لحظات وحدها في غرفة الإمدادات، في كامل ثيابها ومعطفها، أزرارها مغلقة، ومنتعلة حذاءها، ولم تفكر في أي شيء. أخذت تحدق في الهيكلين العظميين، حيث بدا الهيكل البشري أصغر من الحجم الطبيعي للإنسان، في حين بدا هيكل القط أكبر وأطول من الحجم الطبيعي للقط.
ثم خرجت من المدرسة دون أن تقابل أحدا، واستقلت سيارتها. ولكن لماذا أخذت معطفها وحذاءها من غرفة الثياب لكي تبدو كأنها عائدة إلى بيتها، في حين أن أي أحد بوسعه رؤية سيارتها وهي لم تزل موجودة هناك؟
كانت فرانسيس تملك سيارة قديمة، بلايموث موديل عام 1936. وبعدما رحلت من المدينة، علقت صورة في أذهان العديد من الأشخاص لفرانسيس وهي جالسة خلف مقود سيارتها المتوقفة، تجرب شيئا وراء الآخر لجعلها تتحرك (وهي متأخرة بالفعل عن الذهاب إلى مكان ما) بينما تصدر السيارة صوتا مزعجا متقطعا رافضة السير. أو - كحالها الآن - وهي تفتح نافذة السيارة، وتخرج رأسها المكشوفة تحت الثلج المتساقط، وتحاول إخراج إطارات السيارة المغروسة في الثلج المتراكم وهي تدور، وتحمل على وجهها تعبيرا يوحي بأنها لم تتوقع من هذه السيارة أن تفعل أي شيء سوى أن يتوقف محركها وتربكها، ولكنها ستقاوم تعطلها حتى آخر نفس لديها.
أخرجت السيارة بالفعل أخيرا من الثلوج، وقادتها أسفل التل نحو الشارع الرئيسي. لم تعرف ما حدث لبوبي، وما نوع الحادث الذي تعرض له، ولم تسمع ما قيل بعد أن تركها تيد. وفي الشارع الرئيسي كانت المتاجر مضاءة بشكل يبعث على الدفء، وكان هناك خيول وسيارات بطول الشارع (ففي هذا الوقت لم تكن طرقات المنطقة ممهدة)، وكلاهما حجب الهواء النقي بالأنفاس والعادم اللذين ينفسان عما يعتمل في داخلهما. بدا لها في تلك اللحظات أنه كان هناك أناس أكثر من المعتاد متجمهرين يتحدثون، أو لا يتحدثون، ليس لديهم استعداد للتفرق، خرج بعض أصحاب المتاجر ووقفوا هناك أيضا، دون معاطفهم، في الثلج، وبدت ناصية مكتب البريد مغلقة، وكان هذا هو الاتجاه الذي ينظر نحوه الناس.
صفت السيارة خلف متجر الإلكترونيات، وصعدت مسرعة السلالم الخارجية الطويلة التي جرفت عنها الثلج والجليد هذا الصباح، والتي ستكرر جرفها لاحقا تارة أخرى لتجمع المزيد من الجليد عليها. حينها شعرت كأنها تفر إلى مخبأ، ولكنها لم تفعل؛ إذ كانت أديليد موجودة. «فرانسيس؟ أهذه أنت؟»
خلعت فرانسيس معطفها في الردهة الخلفية للمنزل ، وتأكدت أن أزرار بلوزتها مغلقة، ووضعت حذاءها على الدواسة المطاطية. «كنت أخبر الجدة لتوي، فإنها لم تعرف أي شيء عن الأمر، ولم تسمع سيارة الإسعاف.»
كانت هناك سلة بها ملابس نظيفة على منضدة المطبخ، وفوقها كيس وسادة قديم لمنع تسرب الثلج إلى الملابس. دخلت فرانسيس المطبخ مستعدة لقطع حديث أديليد، ولكنها عرفت أنها لن تستطيع عندما رأت سلة الملابس. ففي الأوقات التي تكون خلالها فرانسيس أكثر انشغالا، قرب الكريسماس أو حفل الربيع، كانت أديليد تأتي وتأخذ ملابسها هي وأمها لتغسلها في بيتها، وتعود بجميع الملابس بعد كيها بالطريقة العادية أو برذاذ النشا؛ وكانت تستخدم أيضا مساحيق التبييض لجعل الملابس البيضاء أكثر بياضا. وكانت أديليد أما لأربعة أبناء، ولكنها دائما ما كانت تساعد الآخرين، فتخبز وتتسوق من أجلهم، وتعتني بأبنائهم، وتعرف أسرار البيوت المقفلة على مشكلاتها. كرم محض. ابتزاز محض.
قالت أديليد وهي تلتفت إلى فرانسيس: «كانت سيارة فريد بيتشر ملطخة بالدماء. كان صندوق سيارته مفتوحا، وكان يحمل فيه عربة الأطفال لينقلها إلى منزل أخت زوجته، وصندوق سيارته كان ملطخا بالكثير من الدماء. كان ملطخا بالكثير من الدماء.»
سألت فرانسيس بعد أن أدركت أنه لا مفر من سؤالها الآن، وأن زوجة أخيها ستخبرها بما حدث على أية حال: «هل كان فريد بيتشر؟ هل صدم فريد بيتشر ابن ماكافالا؟» كانت تعرف اسم بوبي، بالطبع، كانت تعرف أسماء ووجوه جميع أبناء تيد، ولكنها استخدمت غموضا مصطنعا في حديثها عن أي منهم - وعن تيد أيضا - ولهذا حتى الآن كان عليها أن تقول «ابن ماكافالا».
سألتها أديليد: «ألا تعرفين بالأمر أنت أيضا؟ أين كنت؟ ألم تكوني في المدرسة الثانوية؟ ألم يأتوا ليخبروه بالحادث؟»
ردت فرانسيس: «سمعت أنهم جاءوا ليخبروه.» رأت أن أديليد قد أعدت الشاي، وكانت في حاجة ماسة إلى كوب شاي، ولكنها كانت تخشى أن تلمس الأكواب أو إبريق الشاي، لأن يديها كانتا ترتجفان. «سمعت أن ابنه قتل.» «لم يكن هو من قتل، وإنما الصبي الآخر، ابن أوهير، كانا صبيين. قتل ابن أوهير فورا ، كان الأمر بشعا. وابن ماكافالا لن يعيش، لقد ذهبوا به إلى لندن في سيارة إسعاف، لكنه لن يعيش.»
قالت والدة فرانسيس الجالسة أمام المنضدة، وكتابها مفتوح أمامها: «يا إلهي، تلك الأم المسكينة.» ولكنها قد سمعت القصة كاملة من قبل.
قالت أديليد لفرانسيس بنبرة موبخة بعض الشيء: «لم يكن فريد بيتشر هو من صدمهما، لم يكن هذا ما حدث على الإطلاق. لقد ربط الصبيان مزلجتهما بالجزء الخلفي من سيارته، ولم يكن يعلم حتى أنهما فعلا هذا، لا بد أنهما ربطاها عندما أبطأ أمام المدرسة بسبب خروج جميع الطلاب، ثم جاءت سيارة من خلفه على التل، فانزلقت بسبب المزلجة، وصدمتهما. فدفعت المزلجة تحت سيارة فريد مباشرة.»
أصدرت السيدة رايت العجوز صوتا متأوها في نفس الوقت.
قالت أديليد وهي تحدق إلى فرانسيس كما لو أنها أرادت استثارة رد فعل أكبر لديها: «لا بد أن أحدا قد حذرهما. لقد تم تحذير جميع الأطفال وهم يفعلون هذا منذ سنوات وكان حدوث هذا محتوما. كان الأمر مريعا. جميع من شهد الحادث يقول إنه لن ينساه؛ لقد خرج فريد بيتشر من سيارته وتقيأ في الثلج أمام مكتب البريد مباشرة. يا إلهي، الدماء!»
قالت والدة فرانسيس: «أمر بشع.» ولكن كان اهتمامها قد تلاشى إلى حد بعيد. من المحتمل أنها كانت تفكر في العشاء. فمنذ الساعة الثالثة عصرا تقريبا، واهتمامها بالعشاء يتزايد. عندما كانت تتأخر فرانسيس، مثلما تأخرت ذاك اليوم، أو عندما يمر بها أحد لزيارتها في وقت متأخر بعد الظهيرة، معتقدا بلا شك أنها ستسعد بالزيارة، كانت تزداد عصبية، معتقدة أن العشاء سيتم تأجيله. كانت تحاول التحكم في نفسها، فتصبح ودودة ومتلهفة للحديث والتعامل مع ضيفها، تركز في مجموعة العبارات الاجتماعية الدمثة، وتتلفظ بها واحدة تلو الأخرى، على أمل أن يرضى الضيف سريعا ويرحل.
قالت لفرانسيس: «هل اشتريت شرائح اللحم؟»
بالطبع نسيت فرانسيس إحضار هذا الطلب. كانت قد وعدتها بإعداد شرائح اللحم برقائق الخبز، ولكنها لم تذهب إلى الجزار، فقد نسيت. «سأذهب الآن لإحضاره.» «كلا، لا تزعجي نفسك .»
قالت أديليد: «ثمة الكثير يدور بعقلها بسبب الحادث. لقد تناولنا طبقا من شرائح اللحم ليلة أمس. طهوته في الفرن مع الذرة الكريمية، وكم كان شهيا.» «حسنا. فرانسيس تعده مع الخبز.» «نعم أنا أعده هكذا أيضا. هذه الطريقة لذيذة أيضا، فأنا أحب التغيير أحيانا. لقد رأيت والد ذلك الصبي الذي قتل في الحادث، ابن أوهير، وهو خارج من محل الحانوتي. كم كان مريعا أن أراه، يبدو في الستين من عمره.»
قالت والدة فرانسيس: «لا بد أنه كان يرى الجثة.» ثم قالت لفرانسيس: «إعداد الأومليت سيكون كافيا.» «حقا؟» قالتها فرانسيس التي لم تكن تطيق فكرة العودة إلى الشارع من جديد. «أجل، ووفري كوبونات التموين.» «أليست غير ذات نفع كوبونات التموين هذه؟ لن يسمح له برؤية الجثة بعد، ليس قبل العمل على تجهيزه، لا بد وأنه كان يختار التابوت.» «نعم، على الأرجح.» «كلا، لن يكون قد جرى تجهيزه بعد، سيكون لا يزال راقدا على خشبة الموتى.»
كانت الطريقة التي قالت بها أديليد «خشبة الموتى» لافتة للنظر، قالتها بقوة ملحوظة، لفظتها وكأنها تقذف سمكة رطبة ضخمة على المنضدة أمامهما. كان لها عم يعمل حانوتيا في بلدة أخرى، وكانت فخورة بقرابتها له وبمعرفتها بأسرار المهنة. وكما هو متوقع، بدأت تتحدث عن عمل هذا العم مع ضحايا الحوادث، وعن فتى سلخت فروة رأسه من جراء حادث، وكيف أعاد عمها شكل رأسه الطبيعي، بذهابه إلى الحلاق وجمع قصاصات الشعر من سلة المهملات، ثم خلط الصبغات ليحصل على اللون المناسب تماما وصبغ قصاصات الشعر بها، وعمله على ذلك طوال الليل. لم يصدق والدا الصبي أنه من الجائز أن يبدو طبيعيا هكذا. وقالت أديليد إنه لفن أن يعرف سائر الحانوتيين عملهم مثلما يعرفه عمها.
كل ما جال بخاطر فرانسيس حينها أنها يجب أن تخبر تيد بهذا، فغالبا ما كانت تحكي لتيد أمورا قالتها أديليد.
قالت أديليد بعد أن أوضحت مجددا كم هو متدن أداء هذا الحانوتي مقارنة بعمها: «بالطبع يمكنهم إغلاق التابوت لو أرادوا ذلك.» ثم سألت فرانسيس: «هل كان هذا هو الصبي الوحيد لدى ماكافالا؟» «أعتقد هذا.» «أشعر بالأسى تجاههما، كما أن ليس لهما أي عائلة هنا. إنها حتى لا تتحدث الإنجليزية بطلاقة، أليس كذلك؟ طبعا بما أن الزوجين أوهير كاثوليكيان، فلديهما أربعة أو خمسة أبناء آخرين، أتعلمين، لقد جاء القس ومارس عليه تلك الطقوس التي يمارسونها، حتى لو كان الصبي قد مات وانتهى أمره.»
قالت والدة فرانسيس باستنكار: «يا إلهي، يا إلهي.» ولكن هذا الاستنكار لم يكن يحمل عداء حقيقيا تجاه الكاثوليكيين، وإنما هو شيء من كياسة البروتستانتيين بعضهم تجاه بعض. «لست مضطرة للذهاب إلى الجنازة، أليس كذلك؟» استقرت نظرة قلقة على وجه والدة فرانسيس كانت تظهر كلما كانت هناك مناسبة تجبرها على الاقتراب من مرضى أو أموات. «ما اسمهما؟» «أوهير ...» «نعم، إنهما من الكاثوليك.» «وماكافالا.» «لا أعرفهما، أليس كذلك؟ هل هما غرباء؟» «فنلنديون. من أونتاريو الشمالية.» «هذا ما ظننت؛ فالاسم يبدو أجنبيا. لست مضطرة إذن إلى الذهاب.» •••
اضطرت فرانسيس للخروج من المنزل مجددا؛ إذ كان عليها الذهاب إلى المكتبة في المساء لتجلب الكتب لوالدتها، فكل أسبوع كانت تجلب لوالدتها ثلاثة كتب جديدة من المكتبة. وكانت أمها تحب شكل الكتاب الضخم المشوق، فتقول إنها تقرأ فيه طويلا وكأنها تتحدث عن ارتداء معطف أو التدثر ببطانية لفترة طويلة. وفي الحقيقة، كان الكتاب بالنسبة لها مثل اللحاف الكثيف الباعث على الدفء، تلقيه عليها وتتدثر به. وعندما توشك على الانتهاء من قراءته - ويقل سمك طبقات اللحاف التي تحتمي به شيئا فشيئا - كانت تحصي الصفحات المتبقية وتقول: «هل أحضرت لي كتابا آخر؟ أجل. ها هو ذا، تذكرت. ما زال أمامي ذاك الكتاب الآخر عندما أفرغ من هذا.»
ولكن دائما يأتي الوقت الذي تفرغ فيه من آخر كتاب ويكون عليها الانتظار ريثما تذهب فرانسيس إلى المكتبة وتجلب ثلاثة كتب أخرى. (لحسن الحظ، كانت فرانسيس تكرر إحضار نفس الكتاب بعد فترة قصيرة، مثلا بعد ثلاثة أو أربعة أشهر. وكانت والدتها تنهمك في قراءته مجددا، وتقدم حتى بعض المعلومات عن السياق والشخصيات، وكأنها لم تقابلهم قط من قبل.) وكانت فرانسيس تقترح على والدتها أن تستمع إلى الراديو خلال انتظارها الكتب، ولكن مع أن والدتها لم ترفض قط عمل شيء يطلب منها، فإن الراديو لم يكن يسليها فيما يبدو. وفي الوقت الذي لا يكون بحوزتها أي كتاب تقرؤه، ربما تذهب إلى غرفة المعيشة وتسحب كتابا قديما من مكتبة المنزل - وقد يقع اختيارها على «جيكوب المخلص» أو «لورنا دون» - وتجلس بانحناءة على الكرسي القصير، ممسكة به وتقرؤه. وفي أوقات أخرى، قد تنتقل من غرفة إلى أخرى، دون أن ترفع قدميها عن الأرض، إلا إذا صادفت عتبة، فتتشبث بالأثاث، وتتخبط بالجدران، ولا ترى شيئا لأنها لا تضيء الأنوار، وتتحرك بضعف لأنها لم تعد تسير الآن، يباغتها قلق مرعب أو نوع من نوبات الاهتياج بطيء الإيقاع لو لم يكن لديها كتب تقرؤها أو طعام تتناوله أو حبوب منومة تصرفه عنها.
أحست فرانسيس بالمقت تجاه والدتها الليلة لأنها سألتها: «ماذا عن كتب المكتبة؟» شعرت بالاشمئزاز منها بسبب قسوة قلبها، وأنانيتها، وضعفها، وعمرها الطويل، وساقيها وذراعيها الصغيرتين الضعيفتين المترهلتين. لكن لم تكن والدتها أكثر قسوة منها. مرت فرانسيس من أمام مكتب البريد الذي خلا الآن من أي أثر للحادث، مجرد ثلج حديث متراكم، ثلج يهب على الشارع من ناحية الجنوب، من ناحية لندن (سيعود مضطرا، مهما حدث، سيعود). شعرت بالغضب الشديد من هذا الطفل، من غبائه، ومجازفته الحمقاء، من تباهيه، من اقتحامه حياة الآخرين، حياتها. لم تكن في حالة تسمح لها بالاستماع إلى وجهة نظر أي أحد الآن، وجهة نظر أديليد مثلا. كانت أديليد - قبل رحيلها - قد لحقت بفرانسيس إلى غرفة نومها حيث كانت فرانسيس تخلع بلوزتها الستان، لأنها لم تكن لتعد العشاء بها، فكانت قد فتحتها من الأمام، وتفك أزرار الكمين. فوقفت فرانسيس أمام أديليد مثلما كانت تقف أمام تيد قبل فترة وجيزة.
سألتها أديليد في صوت هامس متوتر: «فرانسيس، هل أنت بخير؟» «أجل.» «ألا تحسبين أن هذا انتقام منك ومنه؟» «ماذا؟»
قالت أديليد: «الرب ينتقم منه.» وفضحت مشاعر الإثارة والارتياح والرضى نفسها على ملامحها. فقبل زواجها من شقيق فرانسيس الأصغر سنا - الذي كان يتسم بعناده وبراءته - كانت أديليد معروفة بعلاقاتها الجنسية وكانت لها سمعة سيئة بخصوص هذا الأمر امتدت عاما أو اثنين، (وكثيرا ما كانت التوريات الجنسية تختلق على اسمها)، وكانت ممتلئة الجسم، يبدو عليها أنها متزوجة وأم لأبناء، وكانت حولاء قليلا. لم تفهم فرانسيس ما دفعها إلى مثل هذه الصداقة، أو المصاهرة، أو أي ما كان يصلح لتسميتها. كانتا تتحدثان عن الجنس والرجال وهما تجلسان في مطبخ أديليد خلال الليالي التي يخرج فيها كلارك لتدريب فريق الهوكي للشباب، وتضيفان إلى قهوتهما ويسكي كلارك الغالي (ثم تضيفان الماء إلى ما تبقى منه)، بينما تجف الحفاظات إلى جوار الموقد، وعلى الطاولة أمامهما قضبان معدنية رخيصة للعبة القطار، ودمية شنيعة بلا عينين أو ذراعين. ارتياح مخز، وانغماس آثم، وغلطة فادحة. لم يكن الرب يذكر في محادثات أديليد في تلك الأوقات، ولم تكن أديليد - في حديثها عن الجنس والرجال - قد سمعت قط مصطلح «العضو الذكري» وحاولت أن تستخدمه لكنها لم تستطع أن تتعوده، فكانت تستخدم مصطلح «قضيب»، فكانت تقول: «أخرج قضيبه.» باللذة المزعجة نفسها التي قالت بها «على خشبة الموتى.»
قالت لفرانسيس: «لا تبدين بخير، أنا متأكدة، يبدو أن الأمر قد أصابك بصدمة، تبدين مريضة.»
قالت فرانسيس: «عودي إلى البيت.»
كيف سيكون عليها أن تدفع ثمن فعلتها؟
كان هناك رجلان يعلقان مصابيح الكريسماس على أشجار البيسية الزرقاء أمام مكتب البريد. لماذا يفعلان هذا في هذه الساعة؟ لا بد أنهما قد بدآ قبل الحادث، ثم اضطرا إلى تركها. لا بد أنهما قضيا الوقت في احتساء الخمر، على الأقل هذا ما حدث مع أحدهما. كان أحدهما، كال كالاهان، عالقا وسط شبكة من المصابيح يحاول الخروج منها. أما الرجل الآخر، الزعيم كرير - وهو الاسم الذي أطلق عليه من باب السخرية لأنه لم يكن يوما زعيما لأي شيء - فوقف على مقربة منتظرا أن يخلص كال نفسه من شبكة المصابيح في الوقت الذي يلزمه. لم يتعلم الزعيم كرير القراءة أو الكتابة، ولكنه كان يعرف أين سبل السعادة ويسلكها. كانت مؤخرة شاحنتهما مليئة بأكاليل من نبات الإيلكس الصناعي وحبال مصابيح حمراء وخضراء سيتم تعليقها. لا بد أن فرانسيس - بسبب انخراطها في الحفلات الموسيقية وتقريبا كل شيء متعلق بطريقة الاحتفالات العامة التي يمكن أن يفكر فيها البلد - تعلم مكان تخزين الزينة والزخارف، وتعلم أيضا أنها تخزن عاما وراء عام في علية مبنى البلدية منسية، ثم وقت الحاجة إليها يتذكرها أحدهم في مجلس البلدية ويخرجها قائلا: «حسنا، علينا أن نفكر فيما سنفعل احتفالا بالكريسماس.» احتقرت فرانسيس هذين الأحمقين وتجاهلت تعليقهما الحبال والأنوار والأكاليل فوق الشجر. عدم الكفاءة، والأكاليل والحبال رثة المظهر، وجو الكدح العادي، كل هذا يحدث بسبب إدراك لاعقلاني لحدث ملزم يقع بصفة موسمية. وفي وقت آخر، ربما كانت ستعتبر هذه الأشياء مؤثرة، أو مثيرة للإعجاب بعض الشيء. ربما حاولت أن تشرح لتيد، الذي لم يستطع قط أن يفهم مشاعر الولاء التي تكنها لهانراتي. قال إنه يستطيع أن يعيش في مدينة، أو في البرية، أو مستعمرة على الحدود كالتي جاء منها، ولكن ليس في مكان كهذا، مثل هذا المكان الضيق، الذي به من البساطة ما يفتقر إلى امتيازات بساطة البرية، ومن القيود ما يحول دون أي تنوع حضري أو حياة.
ولكنه عاش فيه.
تذكرت فرانسيس أنها شعرت بهذا الاشمئزاز تجاه كل شيء في الصيف الماضي. كان تيد وجريتا وأبناؤهما قد سافروا لمدة ثلاثة أسابيع، متجهين إلى أونتاريو الشمالية لزيارة أقاربهم. وخلال الأسبوعين الأولين من الثلاثة، ذهبت فرانسيس إلى كوخ يطل على بحيرة هورون؛ وكان نفس الكوخ الذي تستأجره دائما. اصطحبت معها والدتها التي جلست تقرأ تحت شجرة بلسان جلعاد، وكانت فرانسيس سعيدة هناك. وفي الكوخ، كانت هناك طبعة قديمة من الموسوعة البريطانية وكانت تقرأ فيها مرارا وتكرارا المقالة غير المحدثة عن فنلندا. فتجلس في شرفة الكوخ ليلا وتسمع صوت تلاطم مياه البحيرة على الشاطئ وتفكر في أونتاريو الشمالية، حيث لم تذهب قط، وتفكر في البرية. ولكنها عندما تضطر للعودة إلى المدينة ولا تجد تيد هناك، تمر بوقت عصيب. كل صباح كانت تذهب إلى مكتب البريد ولا تجد أي رسالة منه، فتقف وتطل من نافذة مكتب البريد على مبنى البلدية، حيث كان يوجد مقياس ضخم بالأحمر والأبيض يسجل تقدم حملة بيع سندات النصر. لم تكن تستطيع تصديق أنه في أونتاريو الشمالية، في منازل أقاربه، يسكر ويأكل الولائم. لقد رحل. يمكن أن يكون في أي مكان، خارج هذا البلد؛ لم يعد موجودا بالنسبة إليها، باستثناء وجوده في الشعور الأحمق بالألم الذي تستحثه ذاكرتها. وقتها كانت تكره الجميع بالفعل، وكانت بالكاد تحدثهم بطريقة متحضرة. كرهت الناس، ودرجة الحرارة المرتفعة، ومبنى البلدية، ومقياس بيع سندات النصر، والأرصفة، والمباني، والأصوات. كانت خائفة من التفكير في هذا لاحقا، لم ترد أن تفكر كيف يعتمد شكل المنازل الجميل الباعث على الطمأنينة أو نبرة الصوت الحانية في التحيات على وجود شخص واحد في حياتها لم تكن تعرفه منذ عام مضى. كيف أدى وجوده في نفس البلدة، حتى عندما لم تستطع أن تراه أو تعرف أخباره، إلى تحقيق التوازن المطلوب لها.
كانت الليلة الأولى التي عاد فيها إلى المدينة هي ذاتها التي ذهبا فيها إلى المدرسة ولطخا نفسيهما بالطلاء الحديث. فكرت وقتذاك أن الحياة من دونه كانت تستحق التجربة، كانت مجرد الثمن الذي يجب أن تدفعه. لكنها نسيت الآن كيف كانت الحياة حينئذ، تماما مثلما يقولون إن المرأة تنسى ألم المخاض بين ولادة وأخرى.
ولكن الآن استطاعت أن تتذكر. كان ما سبق مجرد تمرين؛ شيئا اخترعته لتعذب نفسها به، الآن سيكون حقيقيا. سيعود إلى هانراتي ولكنه لن يعود إليها، ولأنه كان معها لحظة معرفته بأمر ابنه، فسيكرهها. أو على الأقل سيكره التفكير فيها لأنها ستجعله يفكر دائما في الحادث. وإذا افترضنا أن الطفل بطريقة ما ظل على قيد الحياة، قعيدا، فلن يكون هذا أفضل حالا، ليس بالنسبة إلى فرانسيس. سيفضل الزوجان الرحيل عن هنا. لقد أخبرها أن جريتا لم تحب المكان، كان هذا أحد الأمور القليلة التي قالها عن جريتا، وكانت تشعر بالوحدة، ولا تحس بالانتماء إلى هانراتي. وكم سيزداد كرهها لها الآن؟ ما تخيلته فرانسيس خلال الصيف الماضي سيصبح واقعا الصيف الحالي. سيكون في مكان ما خارج البلاد، سيجتمع شملهما هو وزوجته التي ربما تكون في أحضانه في هذه اللحظة، يواسيها ويتحدث معها بلغتهما، لكنه قال إنه لا يتحدث معها بالفنلندية، كان هذا رده على سؤال فرانسيس - وكانت فرانسيس ترى بوضوح أنه لا يحب أن تطرح عليه أسئلة - وقال إنه بالكاد يتحدث الفنلندية، ولكنها لم تصدقه. •••
قرأت فرانسيس أن أصول القبائل الفنلندية الأوغرية محاطة بالغموض، وقد أعجبها هذا التعبير؛ فلم تظن أن أي موسوعة بوسعها الاعتراف بشيء كهذا. كان يطلق على الفنلنديين الهاميون والكاريليون، وقد ظلوا وثنيين حتى القرن الثالث عشر، وكانوا يؤمنون بوجود إله للهواء، وإله للغابات، وإله للماء. حفظت فرانسيس أسماء هؤلاء الآلهة وفاجأت تيد بها: «أوكو، تابيو، أهتي.» لكن كانت هذه الأسماء غير مألوفة بالنسبة إليه؛ فالأسلاف الذين عرفهم ليسوا هم هؤلاء الوثنيين المسالمين، قاطني الغابات المجرية الذين في بعض الأماكن - طبقا للموسوعة - لا يزالون يقدمون قرابين للأشباح. كان أسلافه هم القوميين والاشتراكيين والراديكاليين المنتمين للقرن التاسع عشر، وكانت أسرته قد نفيت خارج فنلندا. لم تكن الغابة الشمالية أو أشجار الصنوبر والبتولا هي التي اشتاق إليها تيد، وإنما ردهات الاجتماعات والمكاتب الصحفية في هلسنكي وغرف المحاضرات وغرف القراءة. لم تعلق بذهنه أي طقوس وثنية (فقد قال إنها هراء عندما أخبرته فرانسيس عن تقديم القرابين إلى الأشباح)، وإنما علق بذهنه زمن انتشرت فيه الصحافة السرية، وتوزيع المنشورات بعد هبوط الليل، والمظاهرات الهالكة، وأحكام السجن المشرفة. كانوا يتظاهرون ضد السويديين، وينشرون فكرهم ضد الروس. فتساءلت فرانسيس بسذاجة لو كانت عائلتك شيوعية ألن تكون إلى جانب الروس؟ لقد اختلطت عليها التواريخ؛ فقد كان يتحدث عن زمن يسبق الثورة. ليس الأمر أن أي شيء قد اختلف الآن؛ فقد غزت روسيا فنلندا، وانحازت فنلندا رسميا لألمانيا، ولكن لم يكن ولاء تيد ليتحول أبدا، لم يكن ولاؤه سيتحول إلى كندا، التي قال إنه فيها بمثابة عدو أجنبي وكان خاضعا للمراقبة من جانب شرطة الخيالة الكندية الملكية، ولكن لم تستطع فرانسيس أن تصدق شيئا كهذا، ولكنه بدا فخورا به.
عندما خرجا للتمشية في فصل الخريف في البساتين الجافة، أخبرها الكثير من الأمور التي كان يجب أن تخجل من جهلها بها، حدثها عن الحرب الأهلية بإسبانيا، عن عمليات التطهير في روسيا. استمعت إليه، ولكن ظل انتباهها يشرد متخفيا في أسئلة وأجوبة منطقية، ليركز على عمود سور أو حفرة لخنزير الأرض. فهمت الفكرة العامة التي كان يحدثها عنها، فقد كان يؤمن أن هناك إفلاسا عاما، وأن الحرب - التي كان يعتقد بصفة عامة أنها أزمة ضخمة ولكنها مؤقتة - كانت في الواقع مجرد جانب طبيعي لهذه الحالة. وكلما أشارت إلى أي احتمالية مفعمة بالأمل أوضح لها أنها جانبها الصواب، ولماذا حتى الآن فشلت جميع الأنظمة، وأن التغيرات العنيفة سيعقب أحدها الآخر إلى أن ... «ماذا؟» «إلى أن يحدث انهيار تام.»
كم بدا راضيا وهو يقول هذا! كيف تجادله في رؤية تجلب له هذا السلام والرضى؟
قالت له وهي تقلب يده في يدها: «أنت أسمر البشرة. لم أكن أعلم أن الأوروبيين الشماليين بشرتهم داكنة هكذا.»
أخبرها أن بشرة أبناء فنلندا منقسمة إلى لونين، بشرة المجر وبشرة الاسكندينافيين، وأن منهم السمر والشقر، وشرح لها كيف لا يمتزج لونا البشرة ويحافظ كل منهما على تفرده، لينتجا أجيالا وراء أجيال على الهيئة نفسها في الأحياء نفسها وفي العائلة نفسها.
قال لها: «عائلة جريتا مثال ممتاز؛ فجريتا اسكندينافية الأصل، عظامها ضخمة وطويلة. إنها مستطيلة الجمجمة ...» «ماذا؟» «أي رأسها طويل، وبشرتها بيضاء، وعيناها زرقاوان، وشعرها أشقر. كما أن شقيقتها كارترود خمرية اللون، وعيناها مسحوبتان قليلا وشديدتا السواد. نفس الشيء في عائلتنا؛ فبوبي يشبه جريتا، ومارجريت تشبهني، وروث آن تشبه جريتا.»
كانت فرانسيس تشعر بالإثارة والفضول عندما تسمعه يتحدث عن جريتا، عن «عائلتهما»، لم تسأله أو تتحدث عنهم قط. في البداية، لم يكن يتحدث عنهم هو الآخر، ولكن ثمة أمران قالهما لها ظلا عالقين بذهنها؛ أحدهما أنه وجريتا قد تزوجا وهو لا يزال يدرس في الجامعة، خلال منحته الدراسية، وآنذاك استمرت في العيش مع أهلها في الشمال إلى أن تخرج وحصل على فرصة عمل. جعل هذا فرانسيس تتساءل إن كانت جريتا قد حملت منه قبل الزواج. ألهذا تزوجها؟ الأمر الثاني الذي قاله - بطريقة عابرة بينما كانا يتحدثان عن أماكن يتقابلان فيها - هو أنه لم يكن خائنا قط. ولذا افترضت فرانسيس عدم خيانته لها طوال الوقت، بسبب براءتها أو غرورها، فلم تفترض للحظة واحدة أنها قد تكون حلقة في سلسلة من سيدات أقام معهن علاقات، ولكن كلمة «خائن» (لم يقل حتى «خائن لجريتا») أوحت برابطة ما. وضعت جريتا تحت الضوء أمامهما، وأظهرتها جالسة في مكان ما منتظرة إياه، هادئة وصبورة، وجديرة بالاحترام، ومظلومة. زادتها الكلمة شرفا، بل وزادها هو نفسه احتراما.
في البداية، كان هذا هو الحال، ولكن الآن خلال حديثهما، كانت أبواب هذا الحوار تفتح ولكن لا تلبث أن تنغلق بسرعة مجددا وبعنف. وخلال ذلك اكتشفت فرانسيس ملاحظات خاطفة والتي كانت تخشاها وترغب فيها في آن واحد. فذات مرة، كان يجب أن يترك السيارة مع جريتا لكي تذهب بروث آن إلى الطبيب؛ إذ كانت روث آن تعاني ألما في أذنها، وظلت تبكي طوال الليل. ومرة أخرى علمت أن تيد وجريتا كانا يضعان معا ورق الحائط على جدران الردهة الأمامية. وعلمت أيضا بمرض العائلة بأكملها بعد تناول سجق مشكوك في صلاحيته. رصدت فرانسيس أكثر من مجرد ملاحظات خاطفة، بل إنها كانت تصاب بنزلات البرد التي تصاب بها عائلة ماكافالا؛ لقد بدأت تشعر أنها تعيش معهم في حميمية غريبة وخيالية.
طرحت عليه سؤلا واحدا. «ما لون ورق الحائط الذي وضعته أنت وزوجتك في الردهة؟»
فكر قليلا قبل أن يجيب، ثم قال: «مخطط، خطوط بيضاء وفضية.»
اختيار ورق الحائط جعل جريتا تبدو في نظر فرانسيس أكثر صلابة وذكاء وطموحا مما كانت تبدو في الشارع أو خلال تسوقها في متجر بقالة سوبريور، وهي ترتدي أثوابها باهتة اللون المزركشة بالورود المفتقرة إلى الذوق الرفيع، وسراويلها الفضفاضة مربعة النقش، ومنديل الرأس فوق شعرها. ربة منزل ضخمة شقراء، والنمش يملأ بشرتها. اصطدمت سلة مشترياتها ذات مرة بذراع فرانسيس وقالت لها: «معذرة.» الكلمة الوحيدة التي سمعتها فرانسيس منها على الإطلاق. صوت خجول تعوزه العاطفة ولسان ثقيل النطق باللهجة السائدة، هذا هو الصوت الذي يسمعه تيد كل يوم في حياته، وهذا هو الجسد الذي ينام إلى جواره كل ليلة. خارت قوى فرانسيس وارتعدت مفاصلها، هناك في متجر بقالة سوبريور أمام أرفف كرافت دينر واللحم والفاصوليا، فمجرد الوجود بالقرب من هذه المرأة الغامضة الضخمة، شديدة البراءة والقوة، شوش تفكيرها وجعل جسدها يرتجف. •••
في صباح يوم السبت، وجدت فرانسيس رسالة في صندوق بريدها يطلب تيد فيها أن تسمح له بدخول الكنيسة تلك الليلة. كانت متوترة طوال اليوم مثلما كانت متوترة عند انتظارها مقابلته في المرة الأولى، في بستان بيتيز بوش. انتظرته في الظلام بالقرب من باب أحد فصول مدرسة الأحد الدينية. كانت ليلة غير مناسبة، ليلة الأحد، كان من المحتمل أن يظهر القسيس أو عامل النظافة، وقد كان كلاهما موجودا بالفعل في المدرسة في وقت سابق، عندما كانت فرانسيس تعزف الأرجن مشتتة البال. لكنهما عادا لبيتهما؛ هذا ما كانت تأمله.
عادة كانا يمارسان الغرام هنا في الظلام، ولكن في تلك الليلة ظنت فرانسيس أنهما في حاجة إلى الضوء لأنهما يحتاجان إلى التحدث، فقادته فورا إلى فصل بمدرسة الأحد خلف شرفة الكورال. وكان الفصل عبارة عن غرفة طويلة وضيقة ومكتظة بالأشياء ولا تحتوي على أي نوافذ. كانت كراسي مدرسة الأحد مكدسة في أحد الأركان أحدها فوق الآخر، وكان هناك شيء غريب على منضدة المعلم، منفضة سجائر بها عقبان، ورفعتها فرانسيس. «لا بد أن غيرنا يأتي إلى هذا المكان.»
كان عليها أن تتحدث عن شيء آخر بخلاف الحادث؛ لأنها كانت متأكدة أنها لن تستطيع أن تتفوه بالكلمات المناسبة عن الأمر.
أجابها تيد - وهو ما بث بها بعض الراحة - قائلا: «المحبون يتناوبون على المكان. لا يفاجئني هذا.» وعدد أسماء محتملة لبعض المحبين: سكرتيرة المدرسة والناظر، وزوجة شقيق فرانسيس وقسيس هذه الكنيسة. ولكن كانت نبرة الحزن تخيم على صوته. «ربما نحتاج إلى وضع جدول لاحقا.»
لم يكترثا بإنزال الكراسي المكدسة أحدها فوق الآخر، فجلسا على الأرض واتكآ بظهريهما على الجدار تحت صورة للمسيح وهو يسير بجوار بحيرة طبرية.
قال تيد: «لم أشهد أسبوعا كهذا في حياتي. لا أعلم من أين أبدأ الحديث، عدنا من لندن يوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء جاءتنا عائلة جريتا، قادوا سيارتهم طوال الليل، على مدار ليلتين متواصلتين. لا أعلم كيف فعلوا ذلك، وقد استعانوا بكاسحة ثلوج لتتقدمهم في الطريق طوال خمسين ميلا تقريبا في إحدى المناطق. هؤلاء النساء قادرات على أي شيء؛ أبوهم مجرد خيال، أما النساء فمروعات وكارترود أسوؤهن. لديها وحدها ثمانية أبناء ولم تتوقف عن التحكم في شقيقاتها وعائلات شقيقاتها وأي شخص آخر يسمح لها بذلك، حتى جريتا ضعيفة أمامها.»
قال إن المشكلات بدأت على الفور بعد وفاة الصبي بشأن الجنازة؛ إذ إنه قرر إتمام إجراءات جنازة غير دينية. وكان قد اتخذ قراره منذ فترة طويلة أنه في حال وفاة أي فرد من عائلته فإنه لن يستدعي الكنيسة، ولم يقتنع الحانوتي بقراره ولكنه وافقه، وجريتا قالت لا بأس. فكتب تيد بضع فقرات توديعية نوى أن يقرأها بنفسه، هذا كل شيء، بلا ترتيل للترانيم ولا صلوات. لم يكن تيد أول من يفعل ذلك، والجميع يعرف شعوره، وجريتا تعرف حاله وعائلتها كذلك. ومع هذا، بدءوا يتصرفون كأن ما قاله شيء غريب لم يحدث من قبل، بل ومرعب. وتصرفوا كأن الإلحاد نفسه حالة لم يسمعوا بها من قبل، فحاولوا إقناعه بأن جنازة بهذا الشكل غير قانونية، وأنه قد يحبس على إثرها. «جاءوا برجل عجوز معهم، ظننت أنه عمهم أو أحد أقاربهم أو شيء من هذا القبيل. لم أقابلهم جميعا، فهي عائلة كبيرة. لهذا بعد أن أخبرتهم بخططي بالنسبة إلى الجنازة أخبروني أنه قسيسهم؛ قسيس فنلندي من معتنقي المذهب اللوثري نقلوه مسافة أربعمائة ميل ليرهبوني به . كان في حال مزرية هو أيضا، ذلك التعس العجوز، كان يعاني نزلة برد. وكانوا في حالة من الارتباك الشديد، يجرون هنا وهناك، يضعون لصقة الخردل على جسده، ويضعون قدميه في الماء، ويحاولون جعله في حالة صحية جيدة ليؤدي المهمة التي جاء لأجلها. يستحقون ما يحدث لهم إن مات بين أيديهم.»
كان تيد قد نهض على قدميه في هذه اللحظة، وأخذ يسير جيئة وذهابا في الفصل بمدرسة الأحد، قائلا إنه ما من شيء يمكن أن يرهبه، وأخبرهم أنهم بوسعهم الإتيان بالإبرشية كلها والكنيسة اللوثرية نفسها في شاحنة سكة حديدية؛ فسيدفن ابنه بطريقته. ولكن وقتئذ كانت جريتا قد استسلمت لهم، وانحازت لصفهم، ليس بدافع التدين - ولو مثقال ذرة - ولكن فقط بسبب البكاء والاتهامات المضادة وضعفها المعهود أمام عائلتها. ولم يقتصر الأمر على العائلة؛ فقد تدخل أيضا العديد من الفضوليين في هانراتي، كان المنزل مكتظا بهم، وكذلك قسيس الكنيسة المتحدة الذي ظهر في مرحلة ما للتشاور مع القسيس اللوثري. لكن تيد طرده، ثم اكتشف بعد ذلك أنها لم تكن غلطة القسيس أن يتدخل، فهو لم يأت من تلقاء نفسه، بل استدعته كارترود، وأخبرته أن الموقف بائس، وأن شقيقتها مصابة بانهيار عصبي.
سألته فرانسيس: «وهل كانت فعلا؟» «ماذا؟» «هل كانت - زوجتك - مصابة بانهيار عصبي؟» «أي شخص سيصاب بانهيار عصبي إذا وجدت في منزله تلك الثلة من المجانين.»
قال تيد إن الجنازة كانت عائلية، ولكن هذا لم يمنع أي أحد أراد التعزية من القدوم. كان واقفا هو بنفسه إلى جوار التابوت مستعدا لأن يطرح أرضا أي شخص يتدخل في الأمر، حتى لو كانت شقيقة زوجته - وكان ذلك سيسعده - أو القسيس العجوز المريض، أو حتى جريتا نفسها لو أقنعوها بمعتقدهم.
قالت فرانسيس لاإراديا: «يا إلهي!» «كنت أعلم أنها لن تفعل ذلك، ولكن كارترود كانت ستتدخل، أو الأم العجوز. لم أعلم ما كان سيحدث إن فعلها أحد وتدخل، لكني كنت أعلم أنني يجب ألا أبدو مترددا ولو للحظة. كان الأمر بشعا. وما إن بدأت أتلو الفقرات التوديعية التي كتبتها، حتى بدأت الأم العجوز تعول وتنتحب؛ فاضطررت أن أرفع صوتي. وكلما ارتفع صوتها بالفنلندية ارتفع صوتي بالإنجليزية. كان الأمر جنونيا.»
وبينما كان يتحدث أفرغ عقبي السجائر اللذين كانا في المنفضة في يده ثم أعادهما مجددا إليها، وهكذا مرة تلو الأخرى.
قالت فرانسيس بعد فترة صمت: «ولكن جريتا أمه.» «ماذا تقصدين؟» «ربما كانت ترغب بالفعل في جنازة دينية عادية.» «كلا، لم ترغب في ذلك.» «كيف عرفت؟» «أنا أعرفها، فهي لا تعتنق أي آراء أيا كانت. لقد استسلمت فقط أمام إرادة كارترود، ودائما ستفعل ذلك.»
ما جال بخاطر فرانسيس حينئذ أنه قد فعل كل ذلك لإرضاء نفسه. لم يفكر في جريتا لحظة واحدة، ولا في بوبي. كان يفكر في نفسه ومعتقداته وفي عدم الرضوخ لأعدائه، هذا ما كان يهمه. عجزت عن طمس هذه الفكرة التي لم ترق لها، وعجزت كذلك عن طمس مدى استيائها منها. لا يعني هذا أنها توقفت عن الإعجاب بتيد؛ فعلى الأقل لم تتوقف عن حبه، ولكن تغير شيء ما. وعندما فكرت في الأمر لاحقا، بدا لها أنها حتى هذه المرحلة كانت متورطة في علاقة طفولية ومحرجة. لقد أبقت على العلاقة حرصا على سعادتها، وكانت تنظر إلى تيد بالصورة التي أرادت أن تراه عليه، فتعيره الانتباه عندما تريد، ولا تأخذه على محمل الجد عندما تريد، بالرغم من معرفتها بأنها كانت تفعل ذلك. كانت ستقول إنه أهم شيء في حياتها.
لكنها لم تكن لتسمح بذلك بعد الآن، لم تكن لتسمح بذلك التخاذل والخداع.
ولأول مرة، فوجئت عندما أراد ممارسة الغرام معها؛ إذ إنها لم تكن مستعدة، لم تستطع أن تفهمه بعد، ولكنه بدا منكبا على رغبته بما لم يتح له الملاحظة. •••
في اليوم التالي، يوم الأحد، عزفت من أجل القداس، وكانت تلك هي المرة الأخيرة التي تعزف فيها فرانسيس في الكنيسة المتحدة.
استدعي تيد يوم الإثنين إلى مكتب مدير المدرسة. ما حدث هو أن كارترود شقيقة جريتا تعرفت على نساء هانراتي خلال خمسة أيام أكثر مما تعرفت عليهن جريتا خلال ثمانية عشر شهرا، فأخبرتها إحداهن بشأن العلاقة بين تيد وفرانسيس. ظنت فرانسيس فيما بعد أن أديليد هي من كشفت سرها على الأرجح، لا بد أنها أديليد، ولكنها كانت مخطئة. لقد قدمت أديليد نفسها لعائلة ماكافالا، ولكنها لم تكن من أفشت السر، فقد سبقها شخص آخر في ذلك. ونتيجة لغضب كارترود العارم بسبب الشجار بشأن الجنازة وخسارتها في هذه المعركة، ذهبت لمقابلة كل من مدير المدرسة الثانوية وقسيس الكنيسة المتحدة، وسألتهما عن الخطوات التي سيتخذانها. لم يرغب أي من المدير أو القسيس في اتخاذ أية خطوة؛ فقد كان كلاهما على علم بأمر العلاقة الغرامية، وكانا منزعجين بشأنها، آملين أن تنتهي؛ فقد كان كل من تيد وفرانسيس ذوي شأن بالنسبة إليهما. قال كلاهما لكارترود إنه بالتأكيد الآن، بعد موت الطفل، سيلم شعث الزوجين، وستذهب هذه العلاقة أدراج الرياح. أخبراها أنه سيكون من المؤسف إحداث جلبة الآن بعد هذه المعاناة التي تكبدتها العائلة جراء فقدان الابن، وأنه يمكن إصلاح ما انكسر بشرط ألا تعلم الزوجة شيئا. ولكن كارترود قطعت على نفسها عهدا أمامهما بأنها لن تسكت. قالت إنها تنوي إخبار جريتا قبل أن تعود لبلدها، وستقنعها بالرحيل معها لو لم يتخذ أي إجراء. كانت امرأة قوية، جسديا ولفظيا. وارتعب الرجلان منها.
قال المدير لتيد إن ثمة أمرا مؤسفا بلغ مسامعه، بل بلغ به. اعتذر لإثارته هذا الأمر بعد فاجعته على ولده مباشرة، ولكنه قال إنه لا يملك خيارا آخر. قال إنه يأمل أن يخمن تيد الموضوع الذي يريد أن يتحدث معه بشأنه، والذي يتعلق بامرأة في هذه المدينة كانت تحظى في الماضي باحترام الجميع، وأمل أن تسترد هذا الاحترام مجددا. قال إنه يتصور أن تيد نفسه قد قرر بالفعل وضع حد لهذه العلاقة، وتوقع أن يصدر من تيد أي حديث غامض ينم عن إحراجه تجاه قوله بأن عليه - أو سيكون عليه - وضع حد للعلاقة. ومهما بدا هذا الحديث مقنعا أو غير مقنع، كان المدير مستعدا لتقبله؛ فقد كان ينفذ وعده أمام شقيقة زوجته وحسب، لكي تخرج من المدينة دون إثارة المزيد من المشاكل.
هب تيد على قدميه، مما أدهش المدير، وقال إن هذا تعد على حرياته، وإنه لن يقبل هذا، وإنه يعلم من وراء هذا الأمر. وأضاف أنه لن يتحمل أي تطفل أو تدخل في شئونه، وأن علاقاته شأن يخصه وحده، وأن الزواج ليس أكثر من عادة قديمة تروج لها السلطات الكنسية، تماما مثل كل شيء آخر يجعلون الناس يرددونه دون فهم. ومن ناحية أخرى استطرد بقوله إنه كان سيترك جريتا على أية حال، وسيترك المدرسة وعمله وهانراتي، وسيتزوج فرانسيس.
اندهش المدير وظل يردد لا، لا تفعل، وطلب منه احتساء كوب من الماء ليهدأ. أنت لا تعني ما تقول؛ هراء. لا يمكنك أن تتخذ قرارا وأنت بهذه الحالة.
قال تيد: «اتخذت قراري منذ أمد بعيد.» وبدا عليه اقتناعه بما قاله. •••
قال تيد لفرانسيس: «كان يجب أن أسألك أولا على الأقل.» كانا يجلسان في غرفة المعيشة بشقتها في وقت متأخر بعد العصاري. لم تذهب فرانسيس إلى المدرسة الثانوية هذا الإثنين، وطلبت من فرقتها الموسيقية مقابلتها في مبنى البلدية، كي تدربهم هناك وتجعلهم يألفون الوقوف على خشبة المسرح. عادت إلى المنزل متأخرة قليلا، فقالت لها والدتها: «ثمة رجل بانتظارك في غرفة المعيشة. قال اسمه ولكني نسيته.» ونسيت والدتها أيضا إخبارها بأن القسيس قد اتصل وأراد أن تعاود فرانسيس الاتصال به، فلم تعرف فرانسيس بهذا قط.
ظنت فرانسيس أنه ربما يكون وكيل التأمين؛ فثمة مشكلة متعلقة بتأمين المبنى الذي يعيشون فيه ضد الحريق. وقد اتصل بها الوكيل الأسبوع الماضي وسألها ما إن كان بوسعه المجيء لمقابلتها عندما يأتي إلى المدينة. وخلال مرورها بردهة المنزل، حاولت أن تصفي ذهنها لكي تتحدث معه، وأخذ يجول بخاطرها إن كانت ستضطر إلى إيجاد مكان آخر لتعيش فيه، ثم رأت تيد جالسا بجوار النافذة في معطفه. لم يضئ الأنوار، ولكن تسلل بعض النور من الشارع إلى الغرفة. وتراقصت الأضواء الطيفية الحمراء والخضراء المعلقة على الشجر احتفالا بالكريسماس على وجهه .
عرفت بمجرد رؤيته ما حدث، لم تعرف التفاصيل ولكنها أدركت المضمون، فماذا غير ذلك سيجعله جالسا هنا في غرفة المعيشة، التي تقضي فيها أمها معظم الأوقات، أمام جدار مغطى بورق حائط قديم عليه رسومات لنبات السرخس، ومعلقة عليه صورة البشارة؛ التي بشر فيها الملاك جبريل السيدة العذراء بمولد المسيح.
قال برقة، كما لو كان يقرأ أفكارها: «هذه غرفة عتيقة الطراز.» كان مرهقا وفي حالة من الغرابة والغموض والضعف كتلك التي تعقب المشاجرات العنيفة أو القرارات المتعذر الرجوع عنها. أضاف: «لا تنم عن ذوقك على الإطلاق.»
أجابته فرانسيس: «إنها غرفة أمي.» في الوقت الذي أرادت فيه أن تسأل عن شكل الغرفة التي تعبر عن ذوقها، ولكن الوقت لم يكن ملائما. كيف بدت فرانسيس في عينيه في ذلك الحين؟ ما مقدار ما لاحظه فيها؟ أسدلت الستائر وأضاءت مصباحي الحائط.
سألها تيد بأدب، وهي تغلق البيانو: «هل هذا هو الركن الخاص بك؟» لقد أغلقته لكيلا تزعجه الموسيقى، أو لتحمي الموسيقى منه؛ فهو ليس مهتما بها.
قالت بسرعة وهي تلمس التمثال النصفي - الذي يبدو عليه سعره الزهيد - الموجود أعلى طاولة في جانب الغرفة: «نوعا ما. هذا موزارت، موسيقاري المفضل.»
يا له من شيء ساذج وطفولي ما تفوهت به! شعرت أنها يجب أن تقدم اعتذاراتها، لكن ليس لتيد وإنما لهذا الركن من حياتها، للبيانو ولموزارت والنسخة المطبوعة داكنة اللون للوحة «منظر طليطلة»، ذلك الركن الذي كانت تعشقه، وهي الآن مستعدة لكشفه أمامه وإفشاء كل ما به من أسرار.
بدأ تيد يخبرها عن أحداث اليوم، وما قاله المدير، وما قاله هو، بقدر ما استطاع التذكر. وخلال سرده للأحداث، جاءت ردوده إلى حد ما أكثر هدوءا وتنظيما ورصانة مما كانت عليه في الواقع. «ولذا قلت إنني سأتزوجك، ثم فكرت أنني افترضت موافقتك جدلا. ماذا لو رفضت الزواج مني؟»
قالت فرانسيس: «حسنا، كنت تعلم أنني لن أرفض.»
بالطبع كان يعلم ذلك؛ إذ كانا سيعمقان العلاقة وما من شيء سيوقفهما. لا والدة فرانسيس، التي كانت تجلس في المطبخ تقرأ دون أن تدري أن زواجهما كان بمنزلة حكم بالإعدام عليها (لأن هذا ما كان سيصير إليه الأمر؛ حيث ستذهب إلى كلارك وأديليد، وتقتلها الفوضى التي تحكم بيتهما؛ فسينسيان أمر الكتب التي تجلب لها من المكتبة وستذهب إلى فراشها وتموت)، ولا ابنتا تيد الصغيرتان، اللتان كانتا تتزلجان بعد الظهيرة في حلبة التزلج الخارجية على الأنغام الخافتة لموسيقى «حكايات من غابات فيينا» وتستمتعان - استمتاعا مكبوتا يملؤه الشعور بالذنب - بانتباه المارة الذي جلبه عليهما موت أخيهما.
قالت فرانسيس: «أتشرب قهوة؟ أوه، لا أعلم أساسا ما إن كان لدينا بن؛ فنحن ندخر جميع كوبونات التموين من أجل الشاي. أعد لك كوبا من الشاي؟» «ونحن ندخر كوبونات التموين من أجل البن. كلا، لا تكترثي.» «أنا آسفة.» «لا أريد أي شيء حقا.»
قالت فرانسيس: «نحن مصدومان، كلانا مصدوم.» «كان الأمر سيحدث بجميع الأحوال. كان سيصبح لزاما علينا اتخاذ القرار عاجلا أم آجلا.» «هل تعتقد هذا؟»
رد تيد بنفاد صبر: «أجل، بالطبع. طبعا كنا سنفعل ذلك.»
لكن لم يبد الأمر كذلك بالنسبة إلى فرانسيس، وتساءلت ما إن كان قد قال ذلك فقط لأنه لم يتحمل فكرة خروج أي شيء عن سيطرته - وبهذه الصورة المبالغ فيها والقاسية - ولأنه شعر بأنه مضطر لأن يخفي عنها الدور الصغير الذي لعبته في كل ذلك. كلا، ليس دورا صغيرا، بل دور غامض. كانت هناك سلسلة طويلة من الأحداث، كثير منها مخفي عنها، هي التي جلبته إلى هنا لكي يتقدم للزواج منها في أكثر الأماكن ملاءمة لذلك، الغرفة التي تقضي فيها والدتها معظم أوقاتها. لقد جعلت هذه الأحداث منها ضرورة. ولم يكن من المجدي التفكير فيما إذا كان أي شخص آخر سيسير على النهج نفسه، ولا التفكير فيما إذا كان هذا سيحدث لو لم تتصل حلقات سلسلة الأحداث بهذا الشكل المحكم؛ لأن سلسلة الأحداث كانت مترابطة بهذا الشكل المحكم، ولم يكن أي شخص آخر غيرها في ذلك الموقف، بل كانت هي نفسها فرانسيس؛ فرانسيس التي طالما آمنت بأن شيئا ما سيحدث لها، بأن لحظة ما فاصلة وواضحة ستأتي، وأنها ستجد نفسها وجها لوجه أمام مستقبلها. لقد تنبأت بذلك، وربما تنبأت بفضيحة ما، ولكنها لم تتنبأ بهذا العبء والإزعاج واحتمالية الأسى التي كانت في جوهر هذا الأمر.
قالت له: «يجب أن نتوخى الحذر.»
اعتقد أنها تقصد أنهما يجب ألا ينجبا أبناء لبعض الوقت على الأقل، وقد وافق على ذلك، مع أنه رأى أنها اختارت وقتا غير ملائم لإثارة أمر كهذا، ولكنها لم تقصد ذلك على الإطلاق. •••
وقفت فرانسيس بالقرب من أخيها كلارك ونعش زوجة أخيها أديليد تتلقى التعازي في دار مناسبات هانراتي بعد ذلك بثلاثين عاما تقريبا. وكانت دار المناسبات تقع على امتداد متجر الأثاث الذي كان مجاورا لمتجر الإلكترونيات القديم الذي كانت تقطن أعلاه هي وأمها. وبعد هذه الفترة الطويلة كان متجر الإلكترونيات قد احترق. والآن ما نتخيله هو أن فرانسيس تقف أسفل البناية التي عاشت فيها فترة طويلة من عمرها، ولكن فرانسيس نفسها لا تتخيل ذلك.
أصبح لون شعرها غريبا؛ فقد استحالت الخصلات السوداء في رأسها إلى اللون الرمادي، على عكس الخصلات الحمراء التي ظلت كما هي، مما أدى إلى مزيج ألوان ضاربة إلى الرمادي أقنعتها ابنتاها بصبغه، لكن اختيار درجة لون الصبغة لم يكن سديدا. مع ذلك، فدرجة اللون الجديدة، وكذلك أحمر الشفاه الثقيل، والبدلة الأنيقة مربعة النقش، والنحافة، وحالة الحيوية وعدم التركيز التي كانت فيها؛ كل ذلك جعلها تبدو كما عهدها الناس، وقد سعد الكثيرون برؤيتها.
كانت قد عادت إلى هانراتي قبل هذه المناسبة بالطبع، ولكن لم تكن تأتي كثيرا. ولم تصطحب تيد معها قط، لكنها كانت تجيء بابنتيها، اللتين كانتا تظنان هانراتي مكانا سخيفا وعجيبا، مكانا غريبا عاش فيه والداهما. أنجبت من تيد ابنتين، فأصبح لتيد أربعة بنات إجمالا، ولم يكن له ولد. وفي كل مرة في غرفة الولادة، كانت فرانسيس تشعر بالارتياح لذلك.
ظلت معتقدة أن أديليد هي من أفشت سرها، وظلت غاضبة بسبب هذا، مع أنها ربما تكون ممتنة لهذا. الآن أديليد ماتت، فقد ازداد وزنها قبل الوفاة وأصابتها مشكلة قلبية.
لم يسأل المعزون فرانسيس في دار المناسبات عن تيد، ولكنها شعرت بأن هذا بسبب الإحراج القديم، لا بسبب ضغينة يكنونها له، لكنهم سألوا عن ابنتيها. إلا أن فرانسيس نفسها ذكرت اسم تيد؛ فقالت إن الابنة الصغرى عادت من مونتريال حيث تدرس لكي تقضي بضعة أيام إلى جوار أبيها خلال فترة غياب أمها لحضور الجنازة. كان تيد في المستشفى مصابا بانتفاخ الرئة؛ إذ كان يذهب إلى المستشفى عندما تتأزم حالته الصحية ليتلقى العلاج، ثم يعود إلى البيت مجددا. وكان هذا الوضع سيستمر فترة.
بدأ الناس يتحدثون عن تيد، متذكرين سلوكياته العجيبة في الفصل، ويقولون إنهم لم يصادفوا أحدا مثله قط، ويجب أن يكون المعلمون مثله، وساعتها سيتغير حال المدرسة. ضحكت فرانسيس، ووافقتهم الرأي، ووضعت في اعتبارها ضرورة نقل كل ذلك إلى تيد، ولكن بطريقة عفوية كي لا يحسب أن الهدف منه هو إبهاجه. أما هو، فلم يعد إلى التدريس بعد رحيله عن هانراتي؛ فقد حصل على فرصة عمل في أوتاوا لصالح الحكومة بصفته عالم أحياء؛ ففي وقت الحرب، كان من الممكن الحصول على عمل كهذا دون شهادات علمية أعلى. أما فرانسيس، فعملت مدرسة موسيقى، وبراتبيهما استطاعا إرسال المال إلى جريتا التي عادت إلى أونتاريو الشمالية وأضحت تعيش مع عائلتها. ظنت فرانسيس أن تيد أحب عمله، كان يتورط في عداءات ومشاجرات كبيرة وكان حديثه ساخرا مع الناس، ولكن بحسب ما تراه كان هذا هو حال الموظفين الحكوميين. ولكنه كان ينظر إلى التدريس باعتباره مهنته الحقيقية؛ فكلما تقدم به العمر، تحدث مرارا وتكرارا عن الفترة التي كان يدرس فيها، مصورا إياها كنوع من مغامرات متتالية، مليئة بالمديرين المجانين، ومجالس الإدارات اللاعقلانية، والتلاميذ المتمردين الذين كان يكسر شوكتهم في النهاية، والتشويق الذي كان يجده في الأشياء التي لم يكن يرجح حدوثها. كم كان سيسر لو عرف أن ذكريات تلاميذه تتوافق مع ذكرياته.
نوت فرانسيس أيضا إخباره عن هيلين، ابنة أديليد، وكانت امرأة ممتلئة الجسم قصيرة في الثلاثينيات من عمرها، وقد اصطحبت فرانسيس إلى الطابق العلوي لتلقي نظرة أخيرة على أديليد التي كانت مغلقة الفم وصامتة على نحو لم تكن عليه خلال حياتها قط. «انظري ما فعلوه، لقد خاطوا فكيها لإطباق أحدهما على الآخر، هكذا يغلقون أفواه الموتى الآن، يخيطون فكيهم فلا تبدو أفواههم طبيعية. كانوا قديما يضعون حشوات صغيرة في أفواههم ويجعلون شفاهم أكثر سمكا، ولكنهم ما عادوا يفعلون ذلك الآن؛ فهو أمر مجهد.»
أتى إلى فرانسيس رجل شاحب وبدين متكئ على عكازين. «لا أعلم ما إن كنت تتذكرينني، كنت جار كلارك وأديليد. أنا فريد بيتشر.»
قالت فرانسيس: «أجل، أتذكرك.» مع أنها لم تفكر لحظة كيف تتذكره. استرجعت ذكرياتها خلال حديثها معه. تحدث معها عن ذكريات العلاقات الطيبة بين الجيران وأديليد، وأخبرها بالعلاجات التي يتلقاها لالتهاب المفاصل. تذكرت فرانسيس أن أديليد قالت إنه تقيأ في الثلج، فأعربت له عن شفقتها عليه بسبب الآلام والصعوبة التي يتكبدها في المشي، ولكنها أرادت حقا إخباره بمدى شفقتها عليه بسبب الحادث. ولكن، لو لم يخرج في الثلج في ذلك اليوم لينقل عربة أطفال عبر المدينة، لما عاشت فرانسيس في أوتاوا الآن، وما كانت لتحظى بابنتيها، وما كانت لتحظى بحياتها. كانت ستصبح حياتها مختلفة، هذا حقيقي، إنها متأكدة من ذلك، ولكن من المؤلم التفكير فيه. فالزاوية التي تنظر بها إلى ذلك الآن لا يمكن الاعتراف بوجودها أبدا؛ سيبدو الأمر بشعا. ولو لم يخرج في ذلك اليوم - هكذا جال في فكرها وهي تتحدث إليه - أين كنا سنصير جميعا الآن؟ سيكون بوبي في قرابة الأربعين من عمره، ولربما أصبح مهندسا - فاهتماماته الطفولية التي يسترجعها تيد الآن كثيرا جعلت هذا الاحتمال مرجحا - كان سيعمل في وظيفة مناسبة، وربما مميزة، وربما كانت له زوجة وأطفال، وكانت جريتا ستذهب للاطمئنان على تيد في المستشفى وتتابع حالته الصحية. وربما كانت فرانسيس ستظل هنا، في هانراتي، تدرس الموسيقى؛ ولربما كانت في مكان آخر، وربما كانت ستتعافى من حبه، وتحب شخصا آخر، أو لربما ازدادت قسوة وعزلة بسبب جرحها.
فكرت فرانسيس: «يا له من اختلاف!» لا تعلم من أين أتت هذه الفكرة أو مغزاها، بالتأكيد هناك اختلاف، وأي شخص يستطيع أن يرى هذا، اختلاف في الحياة. لقد حظيت بحبيبها، وفضيحتها، وزوجها، وابنتيها. ولكنها في قرارة نفسها تمضي في الحياة، وحدها، فرانسيس نفسها التي كانت تعيش على هذه الحال قبل حدوث أي من هذا.
بالتأكيد ليست فرانسيس نفسها بالضبط كما كانت.
ولكنها فرانسيس.
جال بخاطرها وهي تستدير متلهفة لتتلقى تعازي أحدهم أنها ستكون بنفس سوء أمها عندما يتقدم بها العمر، لكن لا بأس، فلا يزال أمامها الكثير لتحققه.
حافلة باردون
1
أتخيل نفسي فتاة عانسا من جيل آخر. كانت عائلتي تحفل بالعوانس. فأنا أنتمي إلى عائلة يتسم أفرادها بالتحفظ والسرية الشديدة والعناد والحرص؛ وشأني شأنهم، كنت أستطيع أن أتدبر أمري بالقليل لفترة طويلة. هنا قطعة من الحرير الصيني مطوية في درج قد بليت من لمسها بأصابعي في الظلام. أو رسالة واحدة مدسوسة تحت ملابسي عذرية الطابع، لا حاجة قط لأن تفتح أو تقرأ؛ لأن كل كلمة تحويها محفوظة عن ظهر قلب، ومجرد لمسها لمسة واحدة ينقل كل ما فيها. وربما حتى لا يوجد شيء ملموس على الإطلاق، لا شيء سوى ذكرى كلمة غامضة، أو نبرة صوت حميمية عابرة، أو نظرة متفحصة يائسة. ذلك كفيل بإبقائي على قيد الحياة. أستطيع أن أتدبر أمري بما لا يزيد على ذلك، عاما بعد عام بينما عكفت على تنظيف أسطال الحليب، وأسياخ الشوايات، واقتفيت أثر الأبقار بطول الطريق الوعر بين أشجار جار الماء وأزهار السوزان سوداء العين، وبسطت بدلات العمل النظيفة المبتلة لكي تجف على الحاجز، ومناشف الصحون على الشجيرات. ترى من سيكون الرجل؟ يمكن أن يكون أي شخص. لعله جندي لقي حتفه في معركة السوم، أو مزارع يعيش على الطريق له زوجة سليطة اللسان وعصبة من الأطفال؛ ربما أنه صبي ذهب إلى ساسكاتشوان ووعد أن يراسلني لكنه لم يف بوعده قط، أو لعله الواعظ الذي يوقظني كل أحد بالوعيد والثبور وعظائم الأمور. هويته ليست مهمة. فبإمكاني أن أتعلق بأي منهم، سرا. سر يدوم ما دامت الحياة، حلم يمتد طول العمر. يمكنني أن أنشد في المطبخ وأنا أجلي الفرن وأمسح زجاجات مصابيح الجاز، وأصب ماء للشاي من سطل الشرب، حيث الرائحة الكريهة بعض الشيء للصفيح المغسول، والخرق الرثة المهلهلة لأغراض الفرك والدعك. في الدور العلوي يستقر سريري بمقدمته العالية، وغطائه المشغول يدويا، والملاءات القطنية القاسية بأريجها المألوف، وقارورة الماء الساخن التي تخفف من الشد العضلي الذي ينتابني أو التي أقبض عليها بإحكام بين ساقي. هنالك أعود مرارا وتكرارا إلى قلب عالمي الخيالي، إلى تلك اللحظة التي يطلق الإنسان لنفسه العنان، ويسلم نفسه كليا إلى الشعور الجارف الذي لا مراء أنه يقضي على كل ما كنت عليه في السابق: إيمان راسخ لدى العذارى بالكمال المثالي؛ أي زوجة محبطة يمكن أن تؤكد لك أن إيمانك هذا لا مكان له في عالم الواقع.
وإذ أغمس المغرفة في السطل وجنوني البريء يكتنفني، أنشد التراتيل دون أن يتساءل أحد:
هو زنبق الوادي.
نجم الصباح الساطع.
بالنسبة لروحي هو أبهى طلعة من عشرة آلاف.
2
صيف هذا العام أقضيه في تورونتو بشقة صديقتي كاي حيث أعكف على استكمال كتاب عن تاريخ واحدة من العائلات، يدفع لي بعض الأثرياء لقاء تأليفه. وفي الربيع الماضي، اضطررت لتمضية بعض الوقت في أستراليا بسبب هذا الكتاب. وهناك التقيت بعالم أنثروبولوجيا كنت قد تعرفت عليه منذ سنوات في فانكوفر. وحينئذ كان متزوجا من زوجته الأولى (والآن هو متزوج من الثالثة)، وكنت أنا متزوجة من زوجي الأول (والآن أنا مطلقة). وكنا نعيش في فورت كامب التي كانت مساكن الطلبة المتزوجين بالجامعة.
وعكف عالم الأنثروبولوجيا على التحقق من جماعات لغوية تعيش شمالي كوينزلاند. كان يزمع الإقامة لأسابيع قلائل بالمدينة، وتحديدا في واحدة من الجامعات، قبل أن ينضم إلى زوجته في الهند. وكانت زوجته قد حصلت على منحة لدراسة الموسيقى الهندية في الهند؛ وهي من ذلك الضرب الجديد من الزوجات اللائي لديهن اهتمامات جادة خاصة بهن. أما زوجته الأولى فكانت فتاة عاملة تمد له يد العون في دراسته الجامعية، ثم استقرت بالبيت وأنجبت الأطفال.
التقينا على الغداء يوم السبت، ويوم الأحد انطلقنا في نزهة في قارب نهري يضج بالعائلات الصاخبة باتجاه محمية للحيوانات. وهنالك شاهدنا حيوان الومبت الأسترالي الذي تقوقع على نفسه فبدا أشبه بالسجق المشوي، وطائر الأمو الأسترالي الغاضب قبيح المنظر، ومشينا مستظلين بتعريشة من أزهار غير مألوفة والتقطنا صورنا مع دببة الكوالا، وأخبر كل منا الآخر بما استجد على حياته، ولم يخل حوارنا من المزح والجد والتعاطف الجذل. وفي طريق العودة، احتسينا الخمر من البار الموجود في القارب، وتبادلنا القبل، وجعلنا من أنفسنا أضحوكة. كان من المستحيل تقريبا تبادل أطراف الحديث بسبب ضوضاء المحركات وصراخ الأطفال الرضع وصياح الأطفال الذين يطاردون بعضهم بعضا، لكنه قال: «رجاء، تعالي وألق نظرة على بيتي. فقد اتخذت بيتا بصورة مؤقتة، وسيروق لك كثيرا. رجاء، لا أستطيع إلا أن أطلب إليك أن تنتقلي للعيش معي في بيتي.» «أينبغي علي؟»
قال وأردف قوله بالفعل: «سأجثو على ركبتي.»
قلت له: «انهض، وكفى! إننا في بلد أجنبي.» «هذا يعني أننا نستطيع أن نفعل ما يحلو لنا.»
كف بعض الأطفال عن اللعب ليرمقونا بنظراتهم. وخيم الصمت عليهم وبدوا مدهوشين.
3
أطلق عليه «إكس» كما لو كان شخصية في رواية عتيقة تتظاهر بأنها حقيقية. وإكس حرف في اسمه، لكنني اخترته لأنه يليق به في الظاهر. يبدو الحرف إكس بالنسبة لي واسع الدلالة وسري الطابع. واستخدام الحرف وحده دون الاسم يتسق مع منظومة عادة ما أتبناها في الوقت الراهن. أحدث نفسي قائلة «حافلة باردون رقم 144.» وتتراءى لي سلسلة كاملة من المشاهد، أراها مفصلة تفصيلا شديدا: الشوارع والبيوت، ولاتروب تيراس وبادينجتون، والمدارس الأشبه فيما يبدو بالأكواخ الشاسعة بديعة المنظر، ومحلات المراهنات، وأشجار فرانجيباني التي تسقط أزهارها الشمعية الهشة ذات الرائحة النفاذة على الأرض. في هذه الحافلة، انطلقنا إلى قلب المدينة أربع أو خمس مرات في المجمل، حاملين حقائبنا الشبكية للتسوق وشراء البقالة من محلات وولورث، واللحم من كولز، وعرق السوس وشيكولاتة الزنجبيل من محل الحلوى. المدينة مقامة في مجملها على الحدود بين الوديان؛ ولذا فقد انتابنا شعور بأننا نهبط عبر قرى شبه برية مكتظة بالسكان إلى قلب المدينة بنهرها الطيني وهيئتها الاستعمارية الرثة ولكن المبهجة في الوقت نفسه. في هذه الفترة الوجيزة، بدا كل شيء مألوفا جدا، لكنه رغم ذلك لم يختلط بأي شيء خبرناه في الماضي. شعرنا أننا نعلم علم اليقين حياة كل ربات البيوت اللائي يعتمرن قبعات واقية من الشمس ويركبن معنا الحافلة. أحسسنا أننا نعرف دواخل وتفاصيل البيوت المؤصدة التي تلفحها الشمس والمقامة على أعمدة خشبية أعلى الوديان، ونعرف الشوارع التي لم نستطع رؤيتها. لم تكن هذه الألفة ثقيلة الوطأة على صدورنا، بل كانت ممتعة وغريبة بعض الشيء، وكأننا صادفناها بطريقة لم نفهمها قط. انطلقنا وسط إحساس بالألفة وشعور بالأمان التام، أمان لم نشعر به من قبل - أو هكذا أخبرنا أنفسنا - في أي مكان من تلك الأماكن التي ننتسب إليها أكثر. لقد نعمنا بإجازة تخففت فيها أرواحنا من أعبائها دون أن يتسلل إلينا الشعور بالملل المرتبط عادة بالإجازات. كل يوم كان إكس يذهب إلى الجامعة، وأنطلق أنا إلى مكتبة الأبحاث لتفقد الصحف القديمة على قارئ الميكروفيلم.
ذات يوم، قصدت مدافن توونج بحثا عن بعض المقابر؛ كانت المدافن أضخم من نظيراتها في كندا وأقل منها جمالا، لكن النقوش التي خطت على بعض شواهد القبور كانت تتمتع بطابع غير رسمي مذهل: «أمنا الرائعة» و«رفيق عزيز». تساءلت عن مغزى تلك النقوش لدى الأستراليين، ثم تذكرت كيف نتساءل دوما عن مغزى الأشياء في بلد آخر، وكيف يدور بيني وبين إكس نقاش حول هذه المسألة.
خرج راعي الكنيسة من بيته الصغير ليمد لي يد العون. كان شابا يرتدي سروالا قصيرا، وعلى صدره وشم لسفينة تمخر عباب البحر. كان اسمها «أستراليا فيليكس». وثمة فتاة من الحريم موشومة على الجزء السفلي من ذراعه، ومحارب على الجزء العلوي منها. والذراع الأخرى مزدانة بتنانين وأعلام. وعلى ظهر كف من كفيه خريطة لأستراليا، والصليب الجنوبي على ظهر الكف الأخرى. لم ترق لى فكرة النظر إلي ساقيه، لكن ثمة مجموعة من الأحاسيس المعقدة تسللت إلي كمجموعة من المشاهد الكوميدية العمودية المتتابعة، وسلسلة من الميداليات المكللة بالزهور، وربما تحتوي على أسماء بعض الفتيات. كنت حريصة كل الحرص على أن أسجل هذه التفاصيل في ذاكرتي لأنني أستمتع أيما استمتاع بالعودة إلى البيت وإطلاع إكس عليها.
كان يرجع إلى البيت محملا هو الآخر بحكاياته الخاصة: حوارات تدور في الحافلة، واشتقاقات كلمات جديدة، وعلاقات جديدة اكتشفها.
لم نكن نهاب استخدام كلمة «حب»؛ فقد كنا نعيش بلا مسئولية، وبلا مستقبل. عشنا في حرية مطلقة، وبسخاء شديد، واحتفال دائم لا تخبو جذوته. لم يحدنا شك بأن سعادتنا ستدوم طوال الفترة الوجيزة المنشودة. وجل ما وبخنا بعضنا بعضا عليه هو الكسل وحسب؛ وتساءلنا ما إذا كنا سنندم في المستقبل لأننا لم نبادر بزيارة الحدائق النباتية كي نرى زهرة اللوتس وهي تتفتح، ولم نشاهد فيلما واحدا معا. كنا على يقين بأننا سنفكر في أشياء أكثر كنا نتمنى لو أطلعنا بعضنا بعضا عليها.
4
حلمت بأن إكس أرسل لي خطابا مكتوبا بطريقة غير متقنة باستخدام أسلوب الطباعة بالقوالب، وأدركت أنه فعل ذلك ليخفي ما يمكن أن يشي به خط يده، ورأيت مبادرته بارعة وذكية. لكنني عانيت الأمرين في قراءته. قال في خطابه إنه يود أن ننطلق في رحلة معا إلى كوبا، وأنه تلقى عرضا للقيام بهذه الرحلة من كاهن التقى به في حانة؛ وتساءلت عما إذا كان هذا الكاهن جاسوسا. قال إننا نستطيع أن نذهب لممارسة التزلج على الجليد في فيرمونت، وإنه لا يريد أن يتدخل في حياتي، لكنه يود أن يأويني. أحببت هذه الكلمة. لكن تعقيدات هذا الحلم تضاعفت. تأخر الخطاب. حاولت أن أتصل به هاتفيا، لكنني لم أستطع أن أحمل قرص الهاتف على الدوران. كذلك بدا أنني أتحمل مسئولية طفل رضيع نائم في درج من أدراج منضدة التسريحة. وأمست الأمور أكثر تعقيدا وكآبة حتى استيقظت. لم تكن كلمة «مأوى» قد فارقت ذهني، واضطررت لأن أشعر بها وهي تذوي. كنت مستلقية على مرتبة على أرضية شقة كاي التي تقع على ناصية شارعي كوين وباثوست في الثامنة صباحا. وكانت النوافذ مفتوحة للتخفيف من قيظ الصيف، والشوارع تعج بالساعين إلى أرزاقهم، والسيارات تتوقف وتنطلق وتطلق عجلاتها صريرا كلما انحرفت.
كانت الشقة زهيدة التكلفة مبهجة ذات نوافذ عالية وجدران بيضاء وستائر قطنية باهتة، وخشب أرضيات مدهون بلون رمادي لامع. كانت الشقة مكانا رخيصا ومؤقتا منذ مدة طويلة جدا حتى إنه لم يفكر أحد في تغييرها؛ ولذلك لم تزل الكسوة الخشبية لأسفل الجدران كما هي على حالها، وكذا الحواجز المثقوبة على أنابيب التدفئة المركزية. كان لدى كاي بعض السجاجيد الصغيرة الجميلة الباهتة، والوسادات والمفارش المعتادة بحيث تبدو المراتب الموجودة على الأرضية أشبه بالأرائك وأقل شبها بالمراتب. وثمة مجموعة بالية من زنبركات الأسرة مركونة على الجدار، تغطيها شالات وأوشحة ورسوم تخطيطية بالفحم مثبتة بمسامير لعشيق كاي السابق الفنان. لا يقدر أحد أن يفكر في طريقة ناجزة لإبعاد الزنبركات عن الطريق، أو حتى يتخيل كيف وصلت بها الحال إلى هنا من الأساس.
تكسب كاي رزقها من عملها من رسم النباتات؛ حيث تعكف على رسم صور غاية في الدقة لنباتات تدرج في الكتب الدراسية والكتيبات الحكومية. وتعيش في مزرعة وسط عائلة، فيها الكبار والصغار الذين يروحون ويعودون، وفي يوم من الأيام راحوا بلا رجعة. وتحتفظ كاي بهذا المكان في تورونتو، وكانت تعود إليه ليوم أو بعض يوم كل أسبوعين. يروق لها شارع كوين على امتداده بحاناته ومحلات بيع الأغراض المستعملة وأطلالها. لم يكن هناك أدنى احتمال أن تلتقي بمحض الصدفة بزملائها الذين التحقوا معها بمدرسة برانكسوم هول أو الذين رقصوا في حفل زفافها. وعندما تزوجت كاي، ارتدى زوجها تنورة اسكتلندية، وصنع إخوته الضباط قوسا من السيوف. وكان أبوها ضابطا برتبة عميد، وكان أول عمل لها في مقر الحاكم العام لكندا. أعتقد أنها لذلك لا تمل ولا تكل من حياة المخاطرة والارتجال، ولا تهاب أصوات الشجارات التي تندلع في وقت متأخر من الليل تحت النوافذ، أو المخمورين الذين يتسكعون على عتبة الباب بالدور السفلي. ولا تشعر بالخطر الذي أحس به قط، ولا يرد على خيالها الإحساس بالسقوط في هوة عميقة.
لا تملك كاي غلاية، بل تغلي الماء في قدر الطهي. وهي تصغرني بعشر سنوات، وذات فخذين نحيلتين، وشعر طويل ناعم داكن تتخلله خصلات رمادية. وعادة ما ترتدي قلنسوة مستديرة وملابس قديمة وفاتنة في آن واحد تبتاعها من محلات الأغراض المستعملة. وتمتد معرفتي بها إلى ست أو سبع سنوات، وخلال تلك الفترة كثيرا ما كانت تقع في الحب. وحالات عشقها تارة ما تكون جريئة وتارة غريبة.
على القارب الذي أبحر من جزيرة سنتر، التقت بسجين مسرح سراحا مشروطا، وكان رجلا طويل القامة داكن البشرة يعتمر عقالا مشغولا بألوان زاهية، وكان له شعر أسود مائل إلى الشيبة تداعبه الرياح. وكان قد أرسل إلى السجن بتهمة تدمير منزل زوجته السابقة أو بيت عشيقها؛ وهي جريمة وقعت بدافع العاطفة ذهلت كاي إذ علمت بها، ثم تغاضت عنها. قال هذا الرجل إن له جذورا هندية، وعندما ينتهي من أعماله في تورونتو سيصطحبها إلى جزيرته التي نشأ وترعرع فيها على ساحل كولومبيا البريطانية حيث كان من المخطط أن يركبوا الخيل على الشاطئ. فشرعت في الالتحاق بدروس لتعليم ركوب الخيل.
وخلال فترة انفصالها عنه، كانت تخشى على حياتها؛ فقد عثرت على رسائل غرام تهديدية مثبتة على قمصان نومها وملابسها الداخلية. فما كان منها إلا أن بدلت أقفال أبوابها، وذهبت إلى الشرطة، لكنها لم تفقد أملها في الحب ولم تتخل عنه البتة. وسرعان ما وقعت في حب فنان لم يدمر بيتا من قبل قط، لكن تسيطر عليه إشارات من عالم الأرواح. فقد تلقى رسالة من هذا العالم تخصها قبل أن يلقاها، وكان يتنبأ بما ستلفظ به من قول قبل أن يخرج من شفتيها، وكثيرا ما كان يرى نارا زرقاء نذير شؤم تحيط عنقها، على شكل طوق أو حلقة. وذات يوم اختفى دون سابق إنذار تاركا رسومه التخطيطية، وكتابا مرعبا عن علم التشريح؛ كان يحتوي على صور لجثث حقيقية مشرحة - أحشاؤها وجلدها وشعرها بألوانها الطبيعية - جثث محقونة بصبغات حمراء أو زرقاء تظهر غابة من الأوعية الدموية. وعلى رفوف كاي يستطيع المرء أن يطالع تاريخ علاقاتها الغرامية؛ فهنا كتب تتناول حالات الشغب في السجون، وهناك سير ذاتية لمعتقلين ترجع لفترة عشقها للسجين المسرح سراحا مشروطا؛ وهذا الكتاب الذي يتناول علم التشريح وغير ذلك من الظواهر الغامضة ينتمي للفترة التي وقعت فيها في غرام الفنان؛ وثمة كتب عن الكهوف وكتب من تأليف ألبرت سبير ترجع لفترة علاقتها بالمستورد الألماني الثري الذي علمها كلمة «أخصائي الكهوف»؛ وثمة بعض الكتب عن الثورة التي ترجع إلى فترة غرامها بشخص من جزر الهند الغربية.
تتقبل كاي العشيق وقصته عن طيب خاطر، وتتعلم لغته حرفيا أو مجازا. وفي بداية علاقتها بأي شخص، قد تحاول إخفاء حقيقتها؛ فتتظاهر بالتعقل أو السخرية، قائلة: «الأسبوع الماضي، صادفت رجلا ذا شخصية فريدة.» أو «هل أخبرتك أنني تبادلت أطراف حديث شائق ومضحك مع أحدهم في واحدة من الحفلات؟» وتتبع هذه المحاولة رعشة أو ارتباك مفتعل ماكر أو ابتسامة اعتذار وفي الوقت نفسه عناد، وتقول: «في الواقع، أخشى أنني وقعت في حبه، أليس هذا أمرا مرعبا؟» وفي المرة التالية التي أراها فيها، أجدها غارقة في حبه، وتتردد على المنجمين وتقحم اسمه في كل جملة تلفظ بها؛ وإذ تنطق باسمه، تميل نبرة صوتها إلى الدفء العاطفي، وتشيح بعينيها لأسفل خجلا، وتحيط بها هالة من الضعف المرغوب توجل الناظرين. وبعد ذلك، تدخل في مرحلة الاكتئاب، والشكوك والعذاب، وتسقط في هوة صراع إما لتحرير نفسها أو لمنعه من تحرير نفسه، فتترك الرسائل لدى خدمة الرد على المكالمات. وذات مرة، تنكرت في هيئة امرأة عجوز تعتمر شعرا مستعارا رماديا وترتدي معطفا باليا من الفرو، وطفقت تمشي جيئة وذهابا في البرد القارص خارج بيت المرأة التي ظنت أنها منافستها التي حلت محلها. بعد ذلك تتحدث بلامبالاة وعقلانية وذكاء عن غلطتها، وتقص أشياء مخزية استشفتها عن عشيقها، ثم تجري مكالمات هاتفية يائسة بائسة، وتعاقر الخمر وتلتحق بجلسات علاج بالمساج، والسباحة الاستشفائية وألعاب الجمباز.
وهي ليست استثناء بين بنات جنسها فيما تفعله؛ فهي تفعل ما يفعلنه. لعلها تبالغ بعض الشيء في أفعالها وفي صراحتها بشكل يفتقر إلى الحيطة، ولعلها تغالي في حماسها ودأبها. كما أن قوى الشفاء لديها وإيمانها لا ينضبان أبدا. وبينما أسخر منها كما يفعل الآخرون جميعا، فإني أدافع عنها أيضا قائلة إنها لم يقدر لها أن تعيش حياة التحفظ والاستسلام، وإنما حياتها هي حياة عدم رضى لا ينتهي وقصص بؤس وتردد تسرها في نفسها. فثقتها عمياء، ومآسيها يندى لها الجبين، ومع ذلك فهي تنجو دون أضرار ظاهرة للعيان. كما أنها لا تتيح لنفسها مجالا للانجراف أو تسمح لحياتها بأن تتعطل، وبالنسبة إلي فإن مشهد حياتها ليس محبطا.
إنها بصدد نسيان عشيق في الوقت الراهن؛ زوج امرأة أخرى في المزرعة يشعر بغربة عن زوجته. اسمه روي، ويعمل عالم أنثروبولوجيا هو الآخر.
تقول كاي: «يا له من انحطاط لمغامراتي أن أغرم بشخص يعيش بالمزرعة! انحطاط شديد بحق؛ فهو شخص أعرف عنه كل شاردة وواردة.»
أخبرت كاي أنني أحاول أن أنسى رجلا قابلته في أستراليا، وأنني أعتزم نسيانه بالكامل عندما أنتهي من كتابي، وحينئذ سأبحث عن عمل جديد، ومكان أعيش فيه.
فردت قائلة: «لا داعي للعجلة؛ هوني على نفسك.»
عندما أفكر في كلمة «نسيان»، أجد لها وقعا مشجعا ومعتادا ويبعث على الحياة. وتتناغم الكلمة مع مزاج كاي الحالي. عندما يكون الحب نضرا وأمواجه عالية، تزداد كاي غموضا وترددا. وحينما ينحسر الحب، وتتغلب على أقسى فتراته، تمسي مفعمة بالحيوية ومسلية وصريحة ونزاعة إلى التحليل.
تقول كاي: «الحب ما هو إلا رغبة في أن يرى الإنسان انعكاس ذاته. الحب دوما يختزل في حب الذات. يا للحماقة! إنك لا تريدينهم، بل تريدين ما يمكنك الحصول عليه منهم. إنه هوس وخداع للذات. هل سبق أن قرأت مذكرات ابنة فيكتور هوجو؟ أعتقد أنها كانت ابنته.» «لا.» «ولا أنا. لكنني قرأت عن تلك المذكرات. الجزء الذي لا ينمحي من ذاكرتي وأذهلني بشدة ذلك الذي قرأت فيه أنها خرجت إلى الشارع بعد سنوات طويلة من الهيام الذي بلغ منها مبلغ الهوس بذاك الرجل، والتقت به. مرت به في الشارع، وإما أنها لم تتعرف عليه أو تعرفت عليه لكنها عجزت عن الربط بين هذا الرجل الماثل أمامها وذاك الذي وقعت في حبه في خيالها. لقد عجزت عن الربط بينهما تماما.»
5
عندما تعرفت على إكس في فانكوفر كان رجلا مختلفا. كان طالب دراسات عليا جادا لم يزل لوثريا، وكان قويا، وحازما، يراه البعض متشددا. وكانت زوجته مشتتة الفكر أكثر منه - وهي أخصائية علاج طبيعي تدعى ماري وتعشق الرياضة والرقص. ولعلك لو فكرت في الاثنين لقلت إنها على الأرجح هي من قد تفكر في التخلي عنه. وكانت شقراء ذات أسنان كبيرة ولثة ظاهرة. كما أنني شاهدتها وهي تمارس لعبة البيسبول خلال نزهة خلوية. ووقتئذ، كان يجب أن أنأى بنفسي بين الشجيرات لإرضاع صغيري. كنت أبلغ من العمر حينها 21 عاما؛ وكنت فتاة بسيطة المظهر، وأما لطفل رضيع؛ ممتلئة الجسم، قرنفلية البشرة، وأصدر أحكاما سوداوية على الآخرين، وأتمتع بطموحات متقدة. وحتى ذلك الحين، لم تكن العلاقة الجنسية تخطر لي على بال على الإطلاق.
جاء إكس إلى الأجمة وناولني زجاجة من الجعة. «ماذا تفعلين هنا؟» «أرضع صغيري.» «ولم يتحتم عليك إرضاعه هنا؟ لم يكن أحد ليكترث بأمرك على أية حال.» «لو فعلت لاستشاط زوجي غضبا.» «حسنا، اشربي هذه. من المفترض أن الجعة مفيدة لحليبك، أليس كذلك؟»
كانت هذه هي المرة الوحيدة التي أتحدث فيها معه حسبما أتذكر. وثمة شيء غريب في الأسلوب المباشر الذي خاطبني به، ربما التودد على استحياء وإن كان مصرا عليه، ولعله إحساسي البهيج غير المتوقع بالامتنان الذي ارتبط باهتمامه بالنساء لاحقا، وربما أثره عليهن. أنا متأكدة من أنه دائما كان صبورا ومطمئنا وناجحا ومقدرا للآخرين ومخلصا لهم.
6
قابلت دينيس في مكتبة تورونتو للمراجع، وطلب إلي أن أتناول معه العشاء.
دينيس صديق إكس وقد حضر لزيارتنا في أستراليا، وهو شاب طويل القامة، نحيل القوام، متحفظ ودائم الابتسام. لكنه ليس شابا صغير السن؛ لعله في الخامسة والثلاثين من عمره. ويتمتع بأسلوب ودود وتوجيهي.
خرجت للقائه ظنا مني أنه يحمل لي رسالة ما. أليس من الغريب أن يرغب في تناول العشاء مع امرأة أكبر منه سنا لم يقابلها سوى مرة واحدة؟ أعتقد أنه سيقول لي ما إذا كان إكس قد عاد إلى كندا. فقد أخبرني إكس أنهما سيرجعان على الأرجح في يوليو، وبعدها سيمضي عاما كاملا في تأليف كتابه. وربما يقيمان في نوفا سكوشا خلال ذلك العام، وربما في أونتاريو.
وعندما جاء دينيس لزيارتنا في أستراليا، صنعت له طعاما منكها بالكاري. كنت سعيدة بفكرة استضافة ضيف، ومبتهجة لأنه وصل في الوقت المناسب تماما ليرى ضوء الليل العابر على الوادي. وكان بيتنا مبنيا على قوائم خشبية شأنه شأن غيره من البيوت، ومن النافذة حيث تناولنا الطعام تطلعنا على واد كالصحن البيضاوي، تطوقه بيوت صغيرة، ويحفل بأشجار الجاكاراندا والبونسيانا والفرانجيباني والسرو والنخيل؛ وكانت أوراقها كريش المراوح والسياط وريش الطيور والأطباق؛ منها الأخضر اللامع والباهت والداكن والمغبر والبراق. وهنالك عاش الدجاج الحبشي، وانطلقت أسراب الكوكابورا الصاخب نحو السماء في الغسق. اضطررنا للاندفاع نزولا على ضفة طينية منحدرة تحت البيت كي نصل إلى كوخ الغسيل ونعلق الملابس على حبل الغسيل الدوار. وهنالك وجدنا نسيج العنكبوت منسدلا على الكوخ كأنه قماش خيمة، ينطبق عليه تماما كما ينطبق الغطاء على القدر. وكان علينا أن نحذر ذلك العنكبوت الصغير الذي ينسج شبكة مخروطية ويفرز سما ليس له ترياق.
أرينا دينيس الوادي، وأخبرناه أن هذا بيت نموذجي من بيوت كوينزلاند العتيقة ذات الجدران العالية التي تتداخل جدرانها كالعاشق والمعشوق، وفتحات التهوية أعلى الأبواب التي تتخللها منحوتات رائعة لنباتات معترشة. لم يمحص في أي شيء باهتمام، لكنه تكلم عن الصين التي عاد منها توا. وقال إكس لاحقا إن دينيس يتحدث دوما عن آخر مكان قام بزيارته، وآخر أناس التقى بهم، ولم يبد أنه يلاحظ أي شيء، كما قال إنه على الأرجح سيتكلم عنا ويصف هذا المكان إلى من سيتناول معهم العشاء لاحقا في المدينة التالية. وقال إن دينيس يمضي حياته في الترحال، والتكلم عن السفر، وإنه يعرف عددا مهولا من الناس لدرجة أنه كلما نزل في مكان وجد من يدعوه لتناول العشاء.
قال لنا دينيس إنه رأى المعسكر الحربي الذي استكشف مؤخرا في مدينة شيان بالصين. ووصف صفوف الجنود المصنوعة بالحجم الطبيعي، وقال إن كلا منهم بدا له واقعيا ومميزا جدا، وأن بعضهم ما زال يحمل آثار الطلاء الذي كان يغطيهم في فترة من الفترات وميزهم عن غيرهم. وخلفهم على مسافة بعيدة كان هناك جدار ترابي. وبدت تماثيل الجنود المصنوعة من الطين وكأنها تخرج بخطى ثابتة من الأرض.
قال إن المشهد استدعى إلى ذاكرته نساء إكس؛ وهن مصفوفات صفا يلي الآخر، مع وجود امرأة جديدة تلوح دائما في نهاية الصف.
قال دينيس: «الجيش يتقدم.»
أجابه إكس: «دينيس، بالله عليك!»
سألت دينيس: «ولكن، هل يخرجون حقا من الأرض هكذا؟ دون أن يمسهم أذى؟»
قال دينيس بابتسامته القاسية: «من الذين لا يمسهم أذى؟ الجنود أم النساء؟ النساء لا يخرجن سالمات، أو على الأقل ليس لفترة طويلة.» فرد إكس: «هل من الممكن أن نغير الموضوع؟»
قال دينيس ملتفتا نحوي: «بالتأكيد. ردا على سؤالك، نادرا ما يخرجون بأجسامهم كاملة، أو هذا ما فهمته. فلا بد من تركيب سيقانهم وجذوعهم ورءوسهم بعضها فوق بعض، عادة. يجب أن تجمع أجزاء أجسادهم ثم يوضعون في وضعية منتصبة على أقدامهم.»
قال إكس بعد أن تنفس الصعداء: «لا بد أنه عمل شاق.» قلت لدينيس: «لكن الأمر يختلف بالنسبة للنساء.» تحدثت بعذوبة اجتماعية ودودة تكاد تجنح إلى الغزل كعادتي كلما استشعرت خبثا: «أعتقد أن المقارنة تفتقر إلى الدقة إلى حد ما. فلا أحد بحاجة إلى التنقيب عن النساء واستخراجهن وإيقافهن على أقدامهن. فما من أحد وضعهن في هذا الموقف من الأساس، بل جئن من تلقاء أنفسهن وبمحض إرادتهن، ويوما ما سيرحلن. فهن لسن جيشا دائما. ولعل غالبيتهن في طريقهن الآن إلى مكان آخر على أية حال.»
قال إكس: «أحسنت.»
بينما كنا نغسل الصحون في وقت متأخر من الليل، قال لي: «لم تمانعي إذ قال دينيس ما قال، أليس كذلك؟ لم يكن لديك مانع من مسايرتي له بعض الشيء، أليس كذلك؟ فهو يحب أن ينسج أساطيره الخاصة.» اتكأت برأسي على ظهره بين عظمتي كتفيه وقلت: «أيحب ذلك فعلا؟ لا، لا بأس. بالعكس، فقد كان الأمر مسليا.» «أراهن أنك لم تكن تعرف أن أول من وصف الصابون هو المؤرخ بليني، وأن أهل منطقة الغال (غرب أوروبا) كانوا يستخدمونه. أراهن أنك لم تكن تعلم أنهم كانوا يغلون شحم الماعز بمحلول القلى المستخرج من رماد الخشب.» «لا، لم أكن أعلم ذلك.»
7
لم ينبس دينيس ببنت شفة عن إكس أو أستراليا. لو كانت ذكرياتي عنه أفضل، لما وجدت دعوته لي على العشاء غريبة؛ فقد كان يبحث عن صحبة لتبادل أطراف الحديث. ومنذ أن كان في أستراليا، زار أيسلندا وجزر فارو. فطرحت عليه بعض الأسئلة، وأبديت اهتمامي واندهاشي، بل وصدمتي إن استدعى الأمر. كنت حريصة كل الحرص على زينتي، وغسلت شعري. وكنت آمل إن قابل إكس أن يقول إنني كنت رائعة الجمال.
وعلاوة على أسفاره، كان لدينيس نظرياته عن الفن والأدب والتاريخ والحياة. «لدي نظرية جديدة عن حياة النساء؛ فقد كنت أشعر دائما أن من الظلم الشديد ما يتعرضن له من ظروف.» «أية ظروف؟» «الطريقة التي لا بد أن يعشن بها مقارنة بالرجال، خاصة مع الكبر. انظري إلى حالك. فكري في الطريقة التي كان يمكن أن تسير بها حياتك لو كنت رجلا. فكري في الخيارات التي كانت ستتاح لك؛ أقصد الخيارات الجنسية. أيمكنك البدء من الصفر؟ الرجال يمكنهم ذلك. في الروايات وفي الواقع أيضا، يقعون في حب نساء أصغر سنا، ويرغبون في النساء الأصغر سنا ويمكنهم الحصول عليهن؛ وبذلك يملكون الزيجة الجديدة، والأطفال الجدد، والعائلات الجديدة.»
تساءلت إن كان سيطلعني على شيء خاص بزوجة إكس؛ ربما سترزق بطفل.
لكنه أردف بأسلوبه الخبيث المتعاطف: «إن الأمر شبيه بالثورة بالنسبة لهم، أليس كذلك؟ يملكون الزوجة الشابة الجديدة والأبناء الجدد، في الوقت الذي يستقبل فيه غيرهم من الرجال في نفس العمر أحفادهم، فيحسدهم هؤلاء ويحاولون أن يكتشفوا كيف يحذون حذوهم. إنه أسلوب حياة، أليس كذلك؟ لا بد أنه من الصعب أن يقاوم المرء الرغبة في البدء من الصفر، وأن يرى انعكاسه على مرآة الشباب الجميلة إذا سنحت له الفرصة.»
قلت له بابتهاج دون إصرار: «أعتقد أنني كنت سأقاوم؛ فلا أعتقد أنني أريد أن أنجب طفلا الآن.» «أرأيت؟ رغم أن الفرصة لا تسنح لك! فأنت امرأة والحياة بالنسبة للمرأة تسير في اتجاه واحد. كل ما يتعلق بمسألة العشاق الأصغر سنا هراء، أليس كذلك؟ هل تريدين عشيقا أصغر سنا؟»
قلت وأنا أمد يدي إلى طبق الحلوى: «لا أعتقد.» اخترت بودنج غنيا بالكريمة ومحلى بقطع مهروسة من «أبو فروة» في القاع وتوت العليق الطازج بأعلى. وكنت قد تناولت عشاء خفيفا عن عمد تاركة مساحة كبيرة للحلوى. واتبعت هذا الأسلوب كي أجد ما أتطلع إليه وأنا أستمع إلى دينيس.
قال دينيس بإلحاح: «امرأة في عمرك لا يسعها المنافسة؛ لا يمكنك منافسة الفتيات الأصغر منك سنا. ودوما ما ظننت أن هذا موقف مجحف جدا.» «ربما جبل الرجال بيولوجيا على مطاردة النساء الأصغر سنا؛ لا فائدة من التأفف والتذمر الآن.» «ولذلك، فالرجال بهذه الطريقة يجددون أنفسهم، ويعيدون ملء كأس الحيوية، بينما النساء يستبعدن - إن شئت فقولي - من المشهد الحياتي. لطالما رأيت أن هذه الحقيقة مؤسفة، لكن تفكيري الآن تحول 180 درجة. هل تعرفين رأيي الآن؟ أرى أن النساء هن الأوفر حظا! أتعلمين لماذا؟» «لماذا؟» «لأنهن يجبرن على الحياة في عالم الخسران والموت! حسنا، أعلم أن ثمة حلولا كعمليات شد الوجه. ولكن، كيف تساعدهن حقا مثل هذه الحلول؟ فالرحم يجف، وكذلك المهبل.»
شعرت به يراقبني بعينيه، بينما استمررت في تناول البودنج. فأردف قائلا: «لقد شاهدت بقاعا كثيرة من العالم، ورأيت العديد من الغرائب والكثير من المعاناة، وتوصلت الآن إلى أنك لن تنعمي بالسعادة قط إذا مارست خدعا على الحياة؛ فبالزهد في الدنيا وقبول الحرمان فقط نتأهب للموت ؛ ومن ثم نستطيع أن ننعم بأي قدر من السعادة. ربما أفكاري تبدو غريبة بالنسبة إليك، أليس كذلك؟»
لم أستطع أن أفكر في أي شيء للرد عليه.
8
عادة ما تدور بخلدي أبيات قليلة من الشعر، ولا أعرف ما جعلها تتبادر إلى ذهني. قد تكون قصيدة أو أغنية لم أكن أعلم أنني أعرفها، ولا داعي لأن تكون مطابقة لذوقي ومتماشية معه. وأحيانا لا أنتبه إليها البتة، ولكن إن انتبهت يسعني عادة رؤية أن القصيدة - أو الجزء الذي أحكمت قبضتي عليه منها - متصلة بمجريات حياتي الآن، وربما لا يكون ذلك هو ما يحدث فيما يبدو.
على سبيل المثال، في ربيع العام الماضي، وفي الخريف في أستراليا، عندما كنت سعيدة، كان البيت الذي يخطر على بالي في لحظة مرح: «يا لهذا الزمان الذي يسلبنا الشباب في ثقة ...»
لم أستطع أن أكمل القصيدة، رغم أنني أعلم القافية، وأن ثمة تتمة للقصيدة تسير على المنوال التالي «وفي القبر المظلم الصامت، يسدل الستار على قصة حياتنا.» كنت أعلم أن القصيدة كتبها سير والتر رالي ليلة إعدامه. ولم تتفق هذه القصيدة مع حالتي المزاجية، ورغم ذلك جالت بخاطري وكأنها شيء جميل وباعث على البهجة. ولم أتمهل للحظة للتساؤل عن سبب ورودها على ذهني من الأساس.
والآن وأنا أحاول أن أنظر إلى الأمور بجدية وعقلانية، علي أن أتذكر حوارنا بعد أن حزمنا أمتعتنا ووقفنا في انتظار سيارة الأجرة. وداخل الحقائب صنفت ملابسنا - التي تشاطرت الأدراج والخزائن، وتقلبت معا في الغسالة، وتعلقت معا على حبال الغسيل حيث حطت طيور الكوكابورا الصاخب - وانفصلت بلا أمل في احتكاك بعضها ببعض بعد الآن. «أنا سعيدة بشكل أو بآخر أن العلاقة انتهت دون أن يعكر صفوها شيء؛ فالأمور عادة ما تفسد عند الانفصال.» «أعلم ذلك.» «رغم كل شيء، كانت علاقتنا رائعة.»
قلت ذلك، لكن هذه كانت كذب؛ فقد بكيت ذات مرة، وظننت أنني دميمة، وأنه قد مل مني.
فقال: «نعم رائعة.»
على متن الطائرة، جالت القصيدة بخاطري مرة أخرى، وكنت لا أزال سعيدة. خلدت إلى النوم وأنا أظن أن إكس مستلق إلى جواري، وعندما أفقت سرعان ما ملأت المساحة التي كان يشغلها بذكريات صوته ونظراته وملامحه ودفئه ومشاهد تجمع بيننا معا.
كنت أسبح في بحر من الذكريات في البداية، وكانت تلك المشاهد المفصلة المتكررة هي التي تحول بيني وبين الغرق. لم أحاول أن أتملص منها، ولم أتمن ذلك. ولاحقا تمنيت لو فررت منها؛ فقد أمست وباء يجتاحني، وجل ما فعلته أن حركت بداخلي الرغبة والاشتياق والإحساس بقلة الحيلة؛ ثلاثية تعاني منها القطط البرية البائسة الحبيسة التي تسللت داخلي دون إذن مني، أو على الأقل دون أن أعي إلى متى ستظل على قيد الحياة، وإلى أي مدى ستكون قاسية. إن صور ولغة المشاهد الإباحية والرومانسية متشابهة؛ رتيبة ومغرية بشكل آلي، فتفضي سريعا إلى القنوط. ذلك ما كان على عقلي التعاطي معه، وذلك ما يستطيع إلى الآن التعاطي معه. جربت السهر وقراءة الكتب الجادة، لكن قدمي ما زالت تزل فأسقط بعمق في مشهد ما قبل أن أدري أين أنا.
على السرير امرأة تستلقي في ثوب نوم أصفر لم يكن ممزقا، لكنه نزع من على كتفيها ولف فوق خصرها وحوله، فلم يعد يغطي من جسدها أكثر مما يغطيه وشاح مجعد. وثمة رجل عار يميل عليها، يقدم لها كأسا من الماء. بينما المرأة - التي كادت تفقد وعيها، وساقاها متباعدتان، وذراعاها ملقاتان على امتدادهما، ورأسها ملتو إلى جانبها، وكأن شيئا أطاح بها أثناء كارثة طبيعية ما - تحاول أن تستعيد نشاطها وأن تمسك الكأس بيديها المرتعشتين. فتسقط قدرا من الماء على نهديها، وتحتسي بعضه ثم تستلقي مرة أخرى. والرجل أيضا يداه ترتعشان؛ يشرب من الكأس نفسها، وينظر إليها ويضحك ضحكة حزينة واعتذارية وحنونة، لكنها أيضا مندهشة، واندهاشها ليس ببعيد عن الرعب. تتساءل ضحكته: كيف نقدر على كل ذلك؟ ما معنى ذلك؟
ويقول: «كاد أحدنا يقضي على الآخر.»
ما برحت الغرفة تحفل برجع صدى الجلبة التي حدثت منذ قليل؛ أصوات الصراخ والرجاء والتوعدات القاسية والصيحات الحادة تعبيرا عن الوصول إلى الذروة والتشنجات الطويلة الضعيفة.
الغرفة مترعة برائحة الامتنان والمتعة، ومزيج غني من الحب، من غروب الحب الذهبي. نعم، نعم كان بالإمكان استنشاق هذه الرائحة.
أتفهمون ما أعنيه؟ هذا هو عذابي.
9
في هذا الوقت من العام، يصيب النساء الضجر من الملابس الصيفية التي تكشف عن الكتفين والظهر، والمنسوجات المطبوعة، والصنادل. وها هي بشائر الخريف تهل في محلات الملابس؛ فالسترات والتنورات الثقيلة معلقة على خلفية نسيج مخملي أسود أو أرجواني اللون، والبائعات الشابات يضعن زينة مبالغا فيها وكأنهن غانيات. وعن نفسي صرت مهتمة إلى حد الهوس بالملابس؛ وكل الحوارات التي تدور في محلات الملابس تبدو منطقية بالنسبة لي. «إن هذه الفتحة حول عنقي لا تناسبني؛ ضيقة جدا. أريدها واسعة. أتعرفين ما أعنيه؟» «نعم، أعرف ما تعنينه.» «أريد شيئا أنيقا جدا ومثيرا جدا. أتعرفين ما أعنيه؟» «نعم، أعرف ما تعنينه تماما.»
عكفت لسنوات طوال على ارتداء ملابس باهتة اللون، ولكني اكتشفت فجأة أنني لم أعد أطيقها؛ فاشتريت بلوزة من الستان لونها أحمر قان، ووشاحا أرجواني اللون، وتنورة لونها أزرق داكن. وقصصت شعري، وشذبت حاجبي، وجربت أحمر شفاه أرجوانيا فاتحا، ووضعت بودرة خدود تميل إلى اللون البني. أصاب بالذعر كلما فكرت في الهيئة التي كنت أتجول بها في أستراليا، بتنورتي القطنية الباهتة الملفوفة حول خصري، وقميصي قصير الكمين، وساقي المكشوفتين نظرا للطقس الحار - وكانت أوردتهما بارزة - ووجهي العاري الذي يتصبب عرقا تحت قبعتي القطنية. وإنني لشبه مقتنعة بأن المظهر المتقن كان يمكن أن يكون له أثر أقوى، والملابس الأكثر إثارة كانت لتجعلني أقل عرضة للنبذ. أتخيل أحيانا أنني سألتقي إكس فجأة في إحدى الحفلات أو في أحد شوارع تورونتو، وأنني سأصدمه بمظهري المتغير وإشراقتي التي أزهرت مؤخرا. لكنني أذكر نفسي بضرورة الحيطة والحذر، حتى في فترات الازدهار هذه؛ يجب أن أحذر لئلا تتحول الإشراقة والأناقة إلى سخافة وحماقة. ولكن لعل كل النساء الطاعنات في السن اللائي أراهن في شارع كوين يتحرين الحيطة؛ هذه المرأة البدينة ذات الشعر الوردي، وتلك العجوز التي تجاوزت الثمانين بحاجبيها الأسودين المرسومين؛ لعلهن يعتقدن جميعا أنهن لم يتجاوزن بعد هذا الخط الذي يفصل بين الأناقة والحماقة. حتى تلك المرأة ذات الزي الأصفر التي رأيتها منذ أيام قلائل في الترام - تلك المرأة القصيرة المكتنزة التي بلغت العقد السادس من عمرها بثوبها الأصفر المكشكش الذي يعلو ركبتيها بمسافة، وقبعتها المصنوعة من القش بشرائطها الصفراء، وحذائها الخفيض الأصفر، الذي يتماشى مع لون ثوبها، في قدميها الصغيرتين الممتلئتين - حتى هي لا تنشد سخرية الآخرين؛ فهي ترى نفسها زهرة أمام المرآة؛ زهرة ذات بتلات سخية تشع ضوءا أصفر بديعا.
انطلقت بعد ذلك بحثا عن أقراط؛ فطفت طوال اليوم أبحث عن أقراط أراها في مخيلتي بوضوح. أريد أقراطا مدلاة على شكل كرة فضية صغيرة مفرغة ومزركشة. أريد فضة قديمة وغير براقة نوعا ما. وهو نوع أقراط أتذكره جيدا. ربما تعتقد أن محلات الأغراض المستعملة تبيعه بلا شك، لكنني لم أستطع العثور عليه، ولا حتى أي شيء قريب الشبه به، ولا تفتأ هذه الأقراط تبدو ضرورية بالنسبة لي؛ ولذا دلفت إلى محل صغير في شارع جانبي على مقربة من شارع كوليدج آند سبادينا؛ جدران المحل كلها مزدانة بورق أسود ومؤثرات رخيصة ومرعبة؛ فهاك على سبيل المثال تمثال عار لعارضة أزياء صلعاء تجلس على سلم نقال ويتدلى منها بعض الحلي، وثمة فستان - كتلك الفساتين التي ارتديتها في الخمسينيات للرقص - مصنوع من نسيج شبكي وردي اللون ومزدان بنثار لامع، خشن من تحت الإبطين، معروض على ورق الحائط الأسود بطريقة تجعله يبدو مقبضا وإن كان جذابا.
وفي هذا المحل جلت ببصري بحثا عن درج المجوهرات. كانت البائعتان منشغلتين بمساعدة زبونة على تلبية متطلباتها، وكان يفصلها عني مرآة ثلاثية الجوانب فلم أكن أراها. كانت إحدى البائعتين بدينة وقريبة الشبه بالغجر، وقد لونت وجهها بلون مشمشي دافئ، والأخرى تصفف شعرها كعرف الديك، حيث تعلوه خصلة بيضاء يحيط بها شعر أسود فاحم، كالظربان الأمريكي. وكلتاهما تصيح سعادة بينما تحضران القبعات والحلي للزبونة حتى تجربها. وفي النهاية، يسعد الجميع وتخرج شابة جميلة، وهي ليست بشابة في حقيقة الأمر بل صبي جميل يرتدي زي النساء، يخرج من وراء المرآة. فكان يرتدي ثوبا مخمليا أسود اللون طويل الأكمام ووشاحا أسود مزركشا على الكتفين، وينتعل حذاء خفيضا أسود، وفي كفيه قفاز من اللون نفسه، وعلى رأسه قبعة سوداء صغيرة ذات برقع منقط. وكان على وجهه بعض الزينة الأنيقة، كما تتدلى خصلات الشعر المجعد بنية اللون من تحت القبعة. لا شك أنه أجمل شخص أنيق وقعت عيناي عليه طوال اليوم. وكان وجهه الباسم متوترا ومرتجفا. أذكر عندما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمري كان يحلو لي أن أبدو كعروس ليلة زفافها مستعينة بالستائر القديمة، أو كامرأة تزدان بأحمر الشفاه وقبعة مكسوة بالريش. وبعد كل الجهد المبذول والابتكار وافتتاني الشخصي بالنتيجة النهائية، أصاب بخيبة أمل شديدة. ماذا يفترض أن تفعل الآن؟ الاستعراض على الرصيف جيئة وذهابا؟ ثمة خوف شديد وجرأة وخيبة أمل في هذا الضرب من الاستعراض.
كان صوته صبيانيا أجش، وكان هو نفسه متسرعا وخجولا. «كيف أبدو يا أماه؟» «تبدو رائع الجمال!»
10
أعيش حالة من الاكتئاب حاليا. وأستطيع أن أدرك ذلك. لا بد أن هذا يعني أنني سأتجاوزها.
لا شك أنني أعيش حالة من الاكتئاب؛ فلا أقدر على التعامل مع كل ما يجثم على صدري ما لم أحصل على المساعدة، وإنني لا أريد سوى مساعدة شخص واحد وحسب: إكس. لا أستطيع أن أواصل المسير في الشوارع ما لم يكن لي وجود في عقله وفي عينيه. كثيرا ما يعاني الناس هذه المشكلة، وإننا لنعلم أن المشكلة مشكلتهم الخاصة وأنهم لا بد أن يغيروا الطريقة التي يفكرون بها، هذا كل ما في الأمر. إنها ليست مشكلة تستحق التفكير؛ فالحب ليس شيئا خطيرا، مع أنه قد يكون قاتلا. قرأت هذه العبارة في مكان ما، وإنني لأومن بها. الحمد لله أنني لا أعلم مكانه؛ فلا يمكنني الاتصال به هاتفيا، أو مراسلته، أو التربص به في الطريق.
ثمة رجل قطعت علاقتي به غير أنه كان يتبعني، وأخيرا أقنعني باحتساء الشاي معه في أحد المقاهي.
قال: «أعلم أنني جعلت من نفسي أضحوكة. أعلم أنك إذا كنت تكنين لي أدنى قدر من الحب، فإن هذا سيدمره.»
لم أنبس ببنت شفة.
ضرب السكرية بملعقته. «بم تفكرين عندما تكونين معي؟»
كنت أود أن أقول «لا أعرف.» لكنني بدلا من ذلك قلت: «أفكر كم أريد أن أبتعد عنك!»
نهض مرتعشا فسقطت ملعقته على الأرض.
وقال بنبرة مخنوقة: «لقد تحررت مني.»
كم كان هذا المشهد كوميديا ومرعبا، ومسرحيا وواقعيا في آن واحد. لقد كان يشعر بالحرمان الشديد، شأني تماما الآن، لكنني لم أرث لحاله، ولم أشعر بالأسف أنني لم أفعل.
11
راودني حلم جميل يبدو بعيدا كل البعد عن حالة اليقظة؛ كنت أنا وإكس وأناس آخرون لا أعرفهم - أو لا أستطيع أن أتذكرهم - نرتدي ملابس رياضية تحتية بريئة، تبدلت في مرحلة ما وتحولت إلى ملابس ناصعة البياض شفافة، واتضح أنها ليست ملابس وحسب بل جوهرنا نفسه، لحمنا وعظامنا، وبمعنى آخر أرواحنا. وحدث أن تعانقنا عناقا بدأ باندفاع كالمعتاد، لكنه تحول - بخفة جوهرنا وعذوبته - إلى حالة نادرة من الرضى والإشباع. لا أستطيع أن أصف الحلم وصفا وافيا؛ فهو أشبه برؤيا للجنة، رؤيا شديدة البراءة والتقليدية في مجملها. أعتقد أنه كان كذلك بالفعل. ولا أستطيع أن أعتذر عن الطبيعة التقليدية لأحلامي.
12
أمشي بطول الشارع حتى محل رونيمز للمخبوزات، فأدلف وأجلس على طاولة صغيرة عليها كوب من القهوة؛ ورونيمز مخبز إستوني يمكن أن تجد فيه عادة ربة منزل من منطقة البحر المتوسط ترتدي ثوبا أسود، وطفلا يتطلع إلى الكعك، ورجلا يحدث نفسه.
أجلس حيث يمكنني مراقبة الشارع، ويراودني شعور أن إكس على مقربة من المخبز في مكان ما؛ ربما على مسافة ألف ميل، أو ربما مائة ميل، أو ربما داخل المدينة. هو لا يعرف عنواني، لكنه يعلم أنني في تورونتو. وليس من الصعب أن يعثر علي.
في الوقت نفسه، أحدث نفسي بأنني يجب أن أنساه. وما يتعين علي أن أقرره حقا هو ما إذا كنت سأتعامل مع المسألة بجنون أم لا. لكنني لا أتمتع بقوة الاحتمال، ولا بقوة الإرادة الخالصة التي تعينني على التصرف بجنون لفترة طويلة.
ثمة حد لكم البؤس والفوضى اللذين يستطيع المرء تحملهما في سبيل الحب، بالضبط كما أن ثمة حدا للفوضى التي يمكن أن يتعايش معها المرء في البيت. وبينما لا يسعك معرفة الحد مسبقا، فإنك ستدركه عندما تصل إليه؛ هذا ما أومن به.
عندما تبدأ حقا في النسيان، هكذا سيكون الشعور: مسحة من الألم تتسلل إليك خلسة وتخترقك من حيث لا تدري. ومن بعدها يأتي شعور بالخفة. والخفة شعور يستدعي التفكير؛ فهو ليس ارتياحا وحسب. فثمة ضرب غريب من المتعة فيه، لا المتعة التي تتأتى بجرح الذات أو المتعة الخبيثة، فهي متعة ليست ذات طابع شخصي على الإطلاق. إنها متعة غير مبررة، متعة نابعة من اكتشاف كيف أن التصميم لم يكن ليتناسب، والبناء لم يكن ليستقيم، متعة في أن يضع المرء في الاعتبار مجددا كل ما كان متناقضا وثابتا وغير موائم في الحياة. أعتقد ذلك؛ أعتقد أن بداخلنا رغبة في التأكد من صحة هذا الاكتشاف، إلى جانب رغبة أخرى - قد تتصارع معها - في الاطمئنان إلى صورة الآفاق المستقبلية الدائمة والكلام المعسول.
أفكر في حلمي بالملابس البيضاء وكيف بدا في غير محله، ويذهلني أن كونه في غير محله هو مفتاح اللغز في الحب، جوهر المشكلة، لكنني لا أستطيع أن أحكم قبضتي على ما أراه، كأنني شخص ثمل أو واقع تحت تأثير المخدرات.
ما أحتاج إليه هو فترة راحة؛ راحة متعمدة، بتعريفات جديدة للحظ. لا الحظ الذي كان دينيس يتحدث عنه. أنت محظوظة لأنك جالسة في مخبز رونيمز تحتسين القهوة، وثمة أناس يروحون ويجيئون، ويتناولون طعامهم ويحتسون شرابهم، ويبتاعون الكعك، ويتحدثون الإسبانية والبرتغالية والصينية وغيرها من اللغات التي يمكنك محاولة اكتشافها.
13
عادت كاي من الريف. هي أيضا كانت ترتدي زيا جديدا؛ رداء فوقيا لونه أخضر داكن كذلك الذي ترتديه الفتيات في المدرسة، دون بلوزة تحتية أو حمالة صدر، وزوجا من الجوارب من اللون نفسه يصل إلى الركبة، وحذاء خفيضا برباط. «هل تبدو ثيابي غريبة؟» «نعم.» «هل تجعل ذراعي تبدوان داكنتين؟ هل تذكرين تلك المرأة التي كانت لها ذراعان داكنتان في قصيدة قديمة؟»
بالفعل تبدو ذراعاها ناعمتين وسمراوين. «كنت أنتوي العودة الأحد، لكن روي جاء بصحبة صديق وأقمنا جميعا حفلا لشي الذرة. وكان الأمر رائعا. يجب أن تقومي بزيارتنا ذات مرة.» «سأفعل يوما ما.» «كان الأطفال يطوفون ويدورون حولنا كالعفاريت في مشهد بديع، واحتسينا الميد. يعرف روي كيف يصنع دمى الخصوبة. وصديق روي هو أليكس فالتر؛ عالم الأنثروبولوجيا. شعرت أنني كان علي أن أعرف عنه المزيد، لكنني لم أفعل، ولم يكن هو ليمانع؛ فهو رجل لطيف. هل تعرفين ماذا فعل؟ بعد أن حل الظلام بينما كنا جالسين حول النار، دنا مني وتنهد وحسب، ثم وضع رأسه على حجري. يا لها من حركة لطيفة وبسيطة، كما لو كان كلبا صغيرا يتمسح في صاحبه! لم يفعل أحد مثل هذا الشيء معي من قبل.»
برو
كانت برو تعيش مع جوردون بعد أن ترك زوجته وقبل أن يرجع إليها؛ وهي الفترة التي امتدت عاما وأربعة أشهر إجمالا. ولاحقا، وقع الطلاق بينه وبين زوجته، ثم تلته فترة من التذبذب وعدم الاستقرار، حيث عاشا معا وانفصلا أكثر من مرة. وأخيرا؛ سافرت الزوجة إلى نيوزيلاندا، على الأرجح إلى الأبد.
لم ترجع برو إلى جزيرة فانكوفر حيث التقى جوردون بها حيث كانت تعمل حينها مضيفة بأحد المطاعم في فندق داخل منتجع. وحصلت على وظيفة في تورونتو بمحل لبيع النباتات، وكانت قد أقامت صداقات عدة بحلول تلك الفترة في تورونتو، وكان أغلبهم من أصدقاء جوردون وأصدقاء زوجته. فكانوا يحبون برو ومستعدين للتعاطف معها، لكنها كانت تخرجهم من هذه الحالة بخفة ظلها وسخريتها؛ وكانت ودودة جدا. فهي تتحدث بما يطلق عليه الكنديون الشرقيون «لكنة إنجليزية» رغم أنها ولدت في كندا - وتحديدا في دانكن على جزيرة فانكوفر. وتساعدها هذه اللكنة على التلفظ بأكثر الأشياء تهكما بطريقة ساحرة ومرحة. فهي تعرض حياتها على الآخرين على هيئة حكايات، ورغم أن أغلب حكاياتها تتمحور حول الآمال المفقودة والأحلام التي تصبح موضع سخرية، والأمور التي تحيد عما هو متوقع لها، وكل شيء يتحور بطريقة عجيبة دون أي تفسير منطقي قط، فإن الناس يسعدون بعد أن ينصتوا إليها، ويتحدثون عنها قائلين إنه لمن المريح أن يلتقي المرء شخصا مثلها، شخصا متحضرا غير معقد ولا يصعب حياته على نفسه، وليس له طلبات حقيقة أو شكاوى فعلية.
الشيء الوحيد الذي تشتكي منه كثيرا هو اسمها؛ تقول: إن برو هو اسم فتاة ترتاد المدرسة، وبرودنس اسم بتول عجوز؛ لا بد أن الوالدين اللذين سمياها هذا الاسم كانا ضيقي الأفق جدا لدرجة أنهما لم يضعا في الاعتبار مرحلة البلوغ. ماذا لو تضخم ثدياها - بحسب قولها - أو صارت ملامحها مثيرة؟ أم أن الاسم نفسه يضمن حماية صاحبته من ذلك؟ وإذ بلغت برو أواخر العقد الرابع من عمرها الآن - وهي ما زالت نحيلة القوام جميلة المحيا، تعتني بزبائنها بحيوية واجبة، وتسعد ضيوفها على الطعام - لعلها لم تكن بعيدة كل البعد عما جال بخاطر والديها من أفكار؛ فهي ذكية وعميقة التفكير، وتشاهد الأحداث بمرح. ومن الصعب أن نمنحها صفة النضج أو الأمومة أو أن نحملها مشكلات حقيقية.
أما عن أبنائها الكبار الذين هم ثمرة زيجة سابقة في جزيرة فانكوفر تصفها هي بالكارثة الكونية، فيأتون لزيارتها، وبدلا من مطالبتها بالمال شأن غيرهم من الأبناء، يحضرون لها الهدايا، ويحاولون إدارة حساباتها، ويتخذون التدابير اللازمة لعزل بيتها. فتسعد بهداياهم، وتستمع لنصائحهم، وشأنها شأن الابنة الهوجاء الطائشة تغفل عن الرد على رسائلهم.
ويأمل أبناؤها ألا تقيم في تورونتو بسبب جوردون؛ وهذا أمل كل من حولها، لكنها كانت تسخر من الفكرة؛ فهي تقيم الحفلات وترتادها، وأحيانا تواعد رجالا آخرين. وموقفها من العلاقة الجسدية مريح جدا لأصدقائها الذين تتملكهم حالات بشعة من التعاطف معها والغيرة منها، ويشعرون بالتحرر من القواعد التي طالما تقيدوا بها. فيبدو أنها تتعامل مع العلاقة الجسدية باعتبارها ضربا صحيا - وإن كان سخيفا بعض الشيء - من الانغماس في الملذات، شأنه شأن الرقص والمآدب الشهية؛ شيء لا ينبغي أن يحول دون معاملة الناس بعضهم بعضا بلطف ومرح.
والآن بعد أن رحلت زوجته عنه إلى الأبد، يأتي جوردون لزيارة برو بين الفينة والأخرى، وأحيانا ما يدعوها لتناول العشاء. وربما لا يترددان على مطعم، بل يذهبان إلى منزله. جوردون طباخ بارع. عندما كانت برو أو زوجته تعيش معه لم يكن يستطيع الطهي قط، لكن بمجرد أن عقد عزمه على تعلم الطهي فإنه - حسبما يقول بصدق - تفوق على كلتيهما.
ومؤخرا كان هو وبرو يتناولان العشاء في بيته؛ فطهى دجاج كييف الروسي وكريم بروليه للتحلية. وشأنه شأن أغلب الطهاة الجدد الجادين، تحدث جوردون عن الطعام.
جوردون ميسور الحال بحسب معايير برو والسواد الأعظم من الناس؛ فهو طبيب أمراض عصبية، وبيته جديد أقيم على ربوة عالية شمالي المدينة في المكان الذي شغلته من قبل مزارع بديعة المنظر ولكن غير مربحة. والآن، توجد بيوت فريدة من نوعها باهظة التكلفة من تصميم مهندسين معماريين مبنية على قطع أرض مساحة القطعة نصف فدان. وإذ تصف برو بيت جوردون تقول: «هل تعرفون أن لديه أربعة حمامات؟ لذا، إذا أراد أربعة أشخاص الاستحمام في الوقت نفسه، فلن يجدوا مشكلة. قد يبدو هذا العدد مبالغا فيه، لكنه أمر رائع بحق، ولا يضطر المرء إلى أن يمر بحجرة الجلوس الرئيسية قط لدخول الحمام.»
يتسم بيت جوردون باحتوائه على غرفة طعام مرتفعة المستوى؛ فهي تشبه المنصة ومحاطة بركن لتبادل أطراف الحديث، وآخر للموسيقى، وصف من النباتات الخضراء الضخمة المتراصة تحت زجاج مائل. لا يستطيع المرء أن يرى مدخل البيت من غرفة الطعام، لكن لا توجد جدران تعترض الطريق؛ بحيث تستطيع أن تسمع من غرفة ما يجري في أية غرفة أخرى.
خلال العشاء، رن جرس الباب. فاستأذن جوردون لينظر من الطارق، ونزل الدرج. سمعت برو صوتا أنثويا، ولكن لم تزل صاحبة الصوت خارج البيت؛ ولذلك لم تستطع أن تميز الكلمات. سمعت صوت جوردون محذرا بنبرة خفيضة. ولم يغلق الباب؛ فمن الواضح أن ذاك الشخص لم يدع إلى الداخل، لكن الأصوات استمرت مكتومة وغاضبة. وفجأة صاح جوردون بصوت عال، وظهر على الدرج بعد أن قطع نصف المسافة ملوحا بذراعيه.
قال: «الكريم بروليه. هلا تخرجينه من الفرن؟» ونزل الدرج سريعا بينما نهضت برو، واتجهت نحو المطبخ لإخراج الحلوى من الفرن. وعندما عادت كان جوردون يصعد الدرج على مهل، وعلى وجهه أمارات الانفعال والإنهاك. «كان أحد الأصدقاء.» قالها عابسا. «هل كل شيء على ما يرام؟»
أدركت برو أنه كان يتحدث عن الكريم بروليه، وقالت: إنه على ما يرام؛ فقد أخرجته من الفرن في الوقت المناسب. شكرها لكنه لم يبتهج. بدا أن الحلوى لم تكن السبب وراء كآبته، بل ما حدث على باب بيته أيا كان. ولكي تلهيه عما حدث، بدأت تسأله أسئلة احترافية عن النباتات.
قال: «لا أعرف عنها شيئا. أنت تعرفين ذلك.»
قالت: «ظننت أنك ربما اكتسبت خبرة بها تدريجيا كما فعلت مع الطهي.» «هي تعتني بالنباتات.»
قالت برو ذاكرة اسم مدبرة المنزل: «السيدة كار؟» «من في رأيك؟»
احمرت برو خجلا؛ كانت تكره أن يراها مرتابة.
قال جوردون دون أن تتبدل حالته المعنوية: «المشكلة هي اعتقادي أنني أريد أن أتزوجك.» جوردون رجل ضخم البنية ذو ملامح خشنة، يحب أن يرتدي ملابس ثقيلة وسترات ضخمة، وعيناه الزرقاوان عادة محتقنتان بالدم، وتعبيراتهما تشي بأن وراء هذه القلعة الحصينة روحا يائسا حائرا متململا.
قالت برو باستخفاف: «يا لها من مشكلة!» مع أنها تعرف جوردون تمام المعرفة لتدرك أنها بالفعل مشكلة.
رن جرس الباب مرة أخرى، رن مرتين، ثلاث مرات، قبل أن يصل جوردون إليه. هذه المرة كان هناك صوت تحطم؛ كأن شيئا ألقي ثم سقط على الأرض بقوة. صفق الباب، وعاد جوردون فورا إلى المشهد. ترنح على الدرج وأمسك رأسه بيده، وأشار بيده الأخرى إلى أنه ما من شيء حدث يستحق القلق، وأنه على برو أن تجلس.
قال: «حقيبة المبيت اللعينة. ألقتها في وجهي.» «هل أصابتك؟» «كادت تصيبني.» «لقد أحدثت صوتا قويا لا يليق بحقيبة مبيت. أكان بها أحجار؟» «ربما عبوات؛ مزيل العرق الخاص بها وما شابه ذلك من أغراض.» «أوه.»
رأته برو وهو يصب لنفسه كأسا من الشراب، وقالت: «أريد قدحا من القهوة إن أمكن.» قصدت المطبخ لتضع الماء على الموقد، وتبعها جوردون.
قال: «أعتقد أنني وقعت في حب تلك المرأة.» «من هي؟» «لا تعرفينها. هي صغيرة جدا في السن.» «أوه.» «لكنني أعتقد أنني أريد أن أتزوجك في غضون السنوات القلائل التالية.» «بعد أن تتخطى حبك لها؟» «نعم.» «حسنا، أعتقد أنه لا أحد يستطيع أن يجزم بما يمكن أن يحدث في غضون سنوات قلائل.» •••
عندما تتحدث برو عن هذه الواقعة تقول: «أعتقد أنه كان يخشى أن أضحك. هو لا يعلم لماذا يضحك الناس أو لماذا يلقون بحقائبهم في وجهه، لكنه لاحظ أنهم يفعلون. إنه إنسان صالح. حقا. يدعوني على عشاء شهي، ثم تأتي وتلقي بحقيبة مبيتها في وجهه. ومن المنطقي جدا أن يفكر في مسألة الزواج مني في غضون سنوات قلائل، بعدما يتخطى مرحلة الوقوع في الحب. أعتقد أنه فكر في البداية في البوح لي برغبته ليطمئنني نوعا ما.»
لم تذكر أنها في الصباح التالي أخذت واحدا من أزرار الأكمام الخاصة بجوردون من درج تسريحته. وكانت تلك الأزرار مصنوعة من الكهرمان، وكان قد اشتراها من روسيا خلال الإجازة التي أمضاها هو وزوجته عندما عاد كل منهما إلى الآخر بعد فترة انفصال. بدت تلك الأزرار كمربعات الحلوى بلونها الذهبي الشفاف. وهذا الزر الذي حصلت عليه سرعان ما دفئ في يدها، ثم وضعته في جيب سترتها. إن استيلاءها على زر واحد ليس بسرقة؛ قد يكون تذكارا، أو مزحة حميمة، أو عملا أخرق وحسب.
أصبحت برو وحدها في بيت جوردون؛ فقد خرج مبكرا كعادته دائما، ولا تصل مدبرة المنزل سوى في التاسعة صباحا. وبرو ليست بحاجة لأن تكون بالمحل سوى في العاشرة؛ والآن تستطيع أن تعد لنفسها طعام الإفطار، وتبقى لبعض الوقت، وتحتسي القهوة مع مدبرة المنزل التي كانت صديقتها في الماضي. ولكن فور أن وضعت الزر في جيبها، لم تتلكأ. بدا البيت مكانا كئيبا جدا لها لدرجة أنها لم تحتمل تمضية لحظة أخرى فيه. لقد كانت برو في حقيقة الأمر هي التي ساعدت في انتقاء البقعة التي بني عليها البيت. لكنها ليست مسئولة عن الموافقة على التصاميم؛ حيث كانت زوجة جوردون قد عادت خلال تلك الفترة.
عندما وصلت إلى بيتها، وضعت الزر في علبة تبغ صفيحية عتيقة. كان أبناؤها قد اشتروا هذه العلبة من محل للخردة منذ سنوات، وأهدوها إياها. وكانت خلال هذه الفترة قد اعتادت التدخين، فانتاب الأبناء القلق بشأنها، وأهدوها هذه العلبة التي كانت مملوءة بقطع الحلوى والهلام مع بطاقة عليها رسالة منهم مفادها أنه «لا بأس من أن تسمني بدلا من أن تدخني.» كانت هدية عيد ميلادها. والآن العلبة تحوي العديد من الأشياء إلى جوار زر الكم، وكلها أشياء ليست ذات قيمة كبيرة لكنها ليست تافهة أيضا: طبق صغير مطلي بالمينا، وملعقة ملح من الفضة، وسمكة من الكريستال. لم تكن هذه تذكارات لها قيمة عاطفية؛ فهي لا تنظر إليها مطلقا، وكثيرا ما تنسى محتوى العلبة. وهي ليست غنيمة وليس لها مكانة شعائرية. إنها لا تأخذ شيئا من منزل جوردون كلما زارته، أو كلما باتت عنده، ولا تأخذ شيئا احتفاء بما ربما تسميه زيارات لا تنسى؛ هي لا تفعل ذلك وهي في حالة غفلة، ولا يبدو أنها أسيرة دافع لا يقاوم، وإنما تأخذ شيئا بين الفينة والأخرى، وتطرحه في ظلمة علبة التبغ الصفيحية العتيقة، ثم بشكل أو بآخر تنسى أمره.
عشاء عيد العمال
قبل السادسة مساء بالضبط، ترجل جورج وروبرتا وأنجيلا وإيفا من شاحنة جورج - الذي قايض سيارته وحصل على شاحنة عندما انتقل للعيش في الريف - وعبروا الباحة الأمامية لبيت فاليري تحت ظل شجرتي دردار وارفتين بديعتي المنظر حظيتا بعناية باهظة التكلفة. تقول فاليري إن هاتين الشجرتين كلفتاها القيام برحلة إلى أوروبا. كان العشب المحيط الموجود تحتهما قد احتفظ بخضرته ونضارته طوال الصيف، وتحيط به زهور الأضاليا البراقة. بني البيت من الطوب الأحمر الباهت، وتحد أبوابه ونوافذه قوالب تزيينية من طوب أفتح لونا، أبيض اللون في الأساس. وينتشر هذا النمط المعماري عادة في مقاطعة جراي؛ ولعله كان تخصصا يتميز به أحد البنائين الأوائل.
كان جورج يحمل كراسي الحديقة القابلة للطي بناء على طلب فاليري لإحضارها، بينما تحمل روبرتا الحلوى، وكانت قالبا مستديرا من توت العليق المثلج، المصنوع من التوت الذي جمع من مزرعتهم الخاصة - مزرعة جورج - في وقت سابق من صيف ذلك العام. علبته روبرتا في مكعبات ثلج ولفته في مناشف الصحون، لكنها تتوق لوضعه في المجمد. وكانت أنجيلا وإيفا - ابنتا روبرتا - تحملان زجاجات النبيذ. وقد اتفقت روبرتا وزوجها على أن تمضي الفتاتان الصيف معها ومع جورج، والعام الدراسي معه في هاليفاكس. كان زوج روبرتا يعمل في البحرية. وتبلغ أنجيلا من العمر السابعة عشرة، وإيفا الثانية عشرة.
كان أربعتهم يرتدون ثيابا تشي بطريقة ما بأنهم بصدد الذهاب إلى حفلات عشاء مختلفة؛ فكان جورج ضخم الجثة، أسمر البشرة، عريض المنكبين - كانت له نظرة مهيبة احترافية تنم عن الثقة بالنفس ونفاد الصبر (وكان يعمل مدرسا) - يرتدي قميصا أنيقا وسروالا عاديا للغاية. أما روبرتا، فكانت ترتدي سروالا قطنيا حنطي اللون باهتا، وقميصا فضفاضا من الحرير الخام بلون الطوب اللبن، وهو اللون الذي يتماشى مع شعرها الداكن وبشرتها الشاحبة أيما تماش في أفضل حالاتها، لكنها لا تعيش أفضل حالاتها اليوم. عندما كانت تضع زينتها في الحمام، اعتقدت أن بشرتها بدت كقطعة من الورق المكسو بالشمع التي تجعدت فتحولت إلى كرة مشدودة ثم تراخت. عاشت لحظات سعادة مؤقتة بنحافتها، وكانت خطتها أن ترتدي صدرية نسائية فضية مثيرة تمتلكها - يا لها من مزحة ساحرة - لكنها غيرت رأيها في اللحظة الأخيرة. كانت ترتدي أيضا نظارة داكنة، والسبب هو أن دموعها قريبة ومتدفقة، لا في الأوقات البائسة حقا ولكن فيما بينها؛ وتفاجئها دموعها على حين غرة شأنها شأن العطس.
أما بالنسبة لأنجيلا وإيفا، فكانتا تلبسان ثيابا رائعة مستوحاة من صندوق ستائر قديمة عثر عليه بعلية بيت جورج؛ فترتدي أنجيلا ثوبا من الإستبرق الأخضر زمردي اللون، تتخلله خطوط طويلة أبهتتها الشمس، منسدلا عليها بحيث ينحسر عن كتف برونزية مكشوفة. وقصت أنجيلا قطعا على شكل أوراق العنب من الإستبرق وألصقتها على ورق مقوى، وزينت بها شعرها. تتمتع أنجيلا بقامة طويلة وشعر أشقر، وكانت تشعر بالحرج من الجمال الذي اكتسبه جسدها مؤخرا، وكانت تبذل جهدا خرافيا للتباهي به - كما هي حالها الآن - ثم تحمر خجلا وتعبس وتبدو كأنها أهينت كلما قال لها أحدهم إنها بارعة الجمال. أما إيفا، فترتدي طبقات عدة من الدانتيل المنسدل الرقيق المائل إلى الصفرة، مشبكة معا بدبابيس وأشرطة وأكاليل فلوكس بري متدلية ومتناثرة. وثمة نسيج من الدانتيل مربوط حول جبينها ومنسدل وراء ظهرها كطرحة عروس في عشرينيات القرن العشرين. وتحت الدانتيل ارتدت سروالها القصير خشية أن يستشف أحد ملابسها الداخلية عبر النسيج الرقيق؛ فهي متشددة وطائشة ومتقلبة المزاج وساخرة ومتفائلة ومثيرة للقلاقل. وتحت غطاء الوجه المثبت فوق رأسها، يزدان وجهها بظل عيون أخضر خليع، وأحمر شفاه غامق، ومسكرة داكنة. فعززت الألوان العنيفة من مظهرها الطفولي الذي يشي بالطيش والجرأة.
ركبت أنجيلا وإيفا في مؤخرة الشاحنة وصولا إلى هنا، حيث تجلسان باسترخاء على مقاعد الحديقة. يبعد بيت جورج عن بيت فاليري بخمسة كيلومترات تقريبا، لكن روبرتا لم تر الركوب في مؤخرة الشاحنة آمنا؛ كانت تريد أن تنزل الفتاتان وتجلسان على أرضية الشاحنة. ولدهشتها تكلم جورج بالنيابة عنهما قائلا إنه من المشين أن ترتميا على الأرضية وهما في أحسن زينتهما، وقال إنه سيقود ببطء وسيتجنب المطبات. وهكذا قاد شاحنته. كانت روبرتا متوترة بعض الشيء، لكنها ارتاحت لما وجدته متعاطفا ومتساهلا بشأن الأمور التي كانت تتوقع أن تزعجه؛ أي المبالغة والاستعراض. فقد تخلت هي نفسها عن ارتداء التنانير والثياب الطويلة بسبب ما صرح به بخصوص كراهيته للنساء اللائي يجرجرن ثيابهن على الأرض مما يوحي له بعدم رغبتهن في القيام بأي عمل جاد، بل وبرغبتهن الملحة في إعجاب الآخرين بهن وتوددهم إليهن، وهي الرغبة التي لا يطيقها جورج، بل وأمضى بعضا من وقته وبذل جهده طوال شبابه لقمعها.
ظنت روبرتا أنه بعد أن تكلم مع الفتاتين بهذه الطريقة الودودة، وبعد أن ساعدهما على ركوب الشاحنة، ربما سيتحدث إليها عندما تستقل الشاحنة، وربما حتى سيمسك بيدها، ويتغافل عن جرائرها غير المعروفة، لكن ذلك لم يحدث. خيم عليهما الصمت القاتل والشاحنة تتحرك بخطى وئيدة تكاد تكون جنائزية على الطرق الممهدة بالحصى الساخن. تشعر روبرتا وهي تقف على حافة الصمت وكأنها منكمشة كورقة شجر ذابلة. تعرف أن هذه صورة خيالية هستيرية. وفكرة الصياح وفتح باب الشاحنة وإلقاء نفسها منها على الحصى أيضا هستيرية. ينبغي أن تبذل جهدا كي لا تتمكن منها أفكارها الهستيرية وكي لا تبالغ. لكن الكراهية لا مراء - وماذا غيرها إذن؟ - هي التي يختلقها جورج ويصبها عليها بشكل مستمر، ولا شك أنها وقود قاتل. حاولت روبرتا أن تكسر حاجز الصمت بنفسها صانعة أصواتا تشي بالقلق أشبه بقرقرة الدجاج؛ إذ شدت قبضتها على المنشفات التي تلف توت العليق، تبعتها بتنهد مصطنع مزعج يراد به الدلالة على شعورها بالضجر وإن كان في الوقت نفسه يكشف عن شعورها بالسعادة والراحة. انطلقت الشاحنة بين نباتات الذرة العالية، وحدثت روبرتا نفسها كم هي قبيحة تلك النباتات؛ خالية من التنوع وأوراقها خشنة أشبه بجيش من الخرق. منذ متى وهما على هذه الحال؟ منذ صبيحة أمس. شعرت أن ثمة خطبا ما قبل أن يتركا فراشهما. خرجا وشربا حتى الثمالة ليلة أمس في محاولة لتحسين الأوضاع، لكن الارتياح لم يستمر.
قبل أن يقصدا منزل فاليري، كانت روبرتا في غرفة النوم تعقد ربطات صدريتها عندما دخل عليها جورج وقال: «أهذا ما سترتدينه؟» «نعم، هذا ما خطر لي أن أرتديه. ألا يبدو جميلا؟» «إبطاك مترهلان.» «فعلا؟ سأرتدي ثوبا بأكمام.»
في الشاحنة، وبعد أن أيقنت أنه لن يبادر بمصالحتها، أفسحت المجال لصدى كلماته يتردد في عقلها. كان ثمة حالة من الرضى في نبرة صوته؛ الرضى ببث اشمئزازه؛ فهو يشعر بالاشمئزاز من جسدها الذي لا يفتأ يشيخ، وكان بإمكانها أن تتوقع ذلك. فشرعت تطن بشيء ما، شاعرة بالبهجة والحرية، شاعرة بميزة تكتيكية عظيمة تتمثل في كونها الطرف المظلوم؛ لقد فرض عليها تحد بائس، وألقيت على مسامعها كلمات لا تغتفر.
لكن لنفترض أنه لا يعتقد أن كلماته لا تغتفر، لنفترض أنها هي التي لا تستحق المغفرة في رأيه؟ فهي دائما الملومة؛ والكوارث تلحق بها يوميا. جرى العرف على أنها فور أن تستشف تدهورا، تبادر بإصلاحه بكل ما أوتيت من قوة وعزم. والآن، أضحت محاولاتها لرأب الصدع تجلب المزيد من المشكلات؛ فهي تغطي تجاعيدها بالكريم بعصبية، فتطفح البقع على وجهها وكأنها مراهقة. ولما اتبعت حميات غذائية حتى نحل خصرها بالقدر الذي أسعدها، أصاب الهزال وجنتيها وعنقها. أما الإبطان المترهلان، فكيف يمكن ممارسة تمارين رياضية لهما؟ ما العمل؟ حان الوقت لدفع الثمن، ولكن ما المقابل؟ الخيلاء. ليت المقابل حتى الخيلاء. المقابل هو امتلاك هذه البشرة الجميلة ذات مرة، وتحدثها عنك؛ والسماح للتآلف بين الشعر والكتفين والثديين أن يكون لها الأثر الأنثوي المنشود. لا يسعك التوقف في الوقت المناسب، ولا تدرين ما يمكنك القيام به بدلا من ذلك؛ فتتركين نفسك عرضة للخزي. هكذا حدثت روبرتا نفسها مشفقة على ذاتها ومنغمسة في فيض من الحزن المرير.
يجب أن ترحل وتعيش وحيدة وترتدي ثيابا طويلة الأكمام. •••
تناديهم فاليري من وراء نافذة معتمة تحت أشجار العنب قائلة: «تفضلوا بالدخول. أنا أرتدي جواربي الطويلة وحسب.»
صاح جورج وروبرتا معا: «لا ترتدي جواربك الطويلة!» يستشف المرء من وقع صوتهما أنهما كانا يتبادلان أطراف حديث طريف طوال الطريق إلى بيت فاليري.
وصرخت أنجيلا وإيفا لتؤكدا: «لا ترتدي جوربك الطويل.»
أجابت فاليري من وراء نافذتها: «حسنا، ما دامت الجوارب الطويلة تتعرض لكل هذا التحامل، فلن أرتدي حتى ثيابي. سأخرج كما أنا الآن.»
صاح جورج في ذهول ممسكا بكراسي الحديقة أمام وجهه: «لا تخرجي علينا هكذا!»
لكن فاليري، التي ظهرت في مدخل البيت، بدت جميلة بفستانها الفضفاض الذي يمتزج فيه الأخضر بالذهبي والأزرق. ليس عليها أن تكترث برأي جورج في الثياب الطويلة. فلا ملامة عليها على أية حال لأنه لا يمكن أن يزعم أحد أنها تلهث وراء تودد الآخرين أو إعجابهم . هي طويلة القامة، يكاد ثديها لا يبين، ويبدو وجهها الطويل، غير جميل الملامح، متألقا من فرط الترحاب والعطف الشديد وخفة الظل والذكاء والتقدير، ويتخلل شعرها الأسود الكثيف المجعد بعض الشيب. وكانت قد أفرطت في صيف هذا العام في قص شعرها، فلم يبق منه سوى القليل المجعد المنحسر عن عنقها الطويل المصبوب والتجعدات على طرفي وجنتيها وأذنيها الكبيرتين المسطحتين.
قالت فاليري: «أعتقد أنني أبدو أشبه بالماعز بهذه القصة. إنني أحب الماعز وأعشق عيونها. أليس من الرائع أن تكون لنا هذه الحدقات الأفقية؟ فكرة عجيبة!»
يقول لها أبناؤها إنها غريبة الأطوار بالفعل.
ثم جاء طفلا فاليري بينما دلف جورج وروبرتا وأنجيلا وإيفا إلى القاعة الرئيسية، وقالت روبرتا إن الثلج يقطر من الحلوى ويجب أن تضع هذه الخلطة - بمظهرها الخداع - في المجمد. ظهرت روث أولا، وهي في الخامسة والعشرين من عمرها ويبلغ طولها ستة أقدام تقريبا، وتشبه أمها كثيرا. لقد تخلت عن رغبتها في التمثيل، وعكفت على تعلم التدريس للأطفال ذوي الاضطرابات. وكانت روث تلف حول ذراعيها نبتة عصا الذهب ونبتة دانتيل كوين آن والأضاليا - أعشاب وأزهار متشابكة بعضها مع بعض - ألقت بها عند مدخل القاعة بحركة مسرحية، وضمت توت العليق إلى صدرها.
وقالت بحب: «حلوى. يا للروعة! أنجيلا تبدين رائعة الجمال! وأنت أيضا يا إيفا. أعرف من هي إيفا؛ إنها عروس لاميرمور!»
بالنسبة لأنجيلا، لا بأس من هذا الإطراء الصريح من روث، بل إنها ترحب به؛ لأن روث هي أكثر إنسانة تروق لها في العالم كله، ولعلها حتى الوحيدة التي تعجب بها على الإطلاق.
وهنا سألت إيفا طربة: «عروس من؟ عروس من؟»
وقف ديفيد - ابن فاليري، طالب التاريخ البالغ من العمر 21 عاما - في مدخل غرفة المعيشة وعلى محياه ابتسامة تسامح ومودة استجابة للجلبة. وديفيد طويل القامة، نحيل البدن، داكن شعر الرأس، أسمر البشرة - شأنه شأن أمه وأخته - لكنه رزين خفيض الصوت وبعيد كل البعد عن التهور والطيش. في هذه الأسرة التي يتقيد أفرادها بكثير من الضوابط، يلاحظ أن السيدتين المفعمتين بالحيوية طليقتي اللسان تذعنان لديفيد بطريقة رسمية ما وكأنهما تلتمسان حمايته، مع أنه من المستبعد أن تحتاجا إلى الحماية تحديدا.
عندما خفتت حدة مراسم الترحاب، قال ديفيد: «دعوني أعرفكم بكمبرلي.» وعرفهم جميعا الواحد تلو الآخر بالفتاة المتأبطة ذراعه. كمبرلي فتاة أنيقة جدا وحسنة المظهر، كانت ترتدي تنورة بيضاء وقميصا ورديا بأكمام قصيرة. وهي ترتدي نظارة ولا يزدان وجهها بأي زينة؛ شعرها قصير ومنسدل وأنيق، ويميل لونه إلى البني الفاتح المحبب إلى النفس. صافحت كلا منهم ناظرة إلى أعينهم عبر نظارتها، ومع أن سلوكها مهذب جدا، بل وحتى يكاد يكون فيه مسحة تحفظ، ثمة إحساس طفيف - وهي تصافحهم - بأنها مسئول رسمي يرحب بأعضاء وفد طائش وعجيب.
تمتد علاقة فاليري بكل من جورج وروبرتا سنوات طويلة، وكانت تعرفهما قبل أن تجمع بينهما أية علاقة منذ فترة طويلة؛ فقد كانت هي وجورج ضمن العاملين بالمدرسة الثانوية نفسها بتورونتو. وكان جورج رئيس قسم الفنون، بينما كانت فاليري استشارية المدرسة، وكانت تعرف زوجة جورج عصبية المزاج الأنيقة التي قضت نحبها في حادث سقوط طائرة بولاية فلوريدا. إبان تلك الفترة كان جورج وزوجته منفصلين.
وبطبيعة الحال تعرف فاليري روبرتا لأن روبرتا هي زوجة ابن عمها آندرو. لم تهتم فاليري كثيرا لأمر زوج روبرتا، ولا هو اهتم لأمرها، وكل منهما وصف الآخر لروبرتا على أنه شخص يبعث على الضجر. فكان آندرو يقول دائما إن فاليري غريبة الهيئة مملة، وغير مثيرة بالمرة. وعندما أسرت روبرتا لفاليري بأنها ستهجره، قالت فاليري: «حسنا فعلت؛ فهو إنسان ممل.» سعدت روبرتا إذ وجدت هذا التعاطف، وشعرت بالسرور لأنها لن تضطر إلى التنقيب عن أسباب وجيهة لهجره؛ يبدو أنها حدثت نفسها بأن كونه مملا سبب وجيه بالقدر الكافي. وفي الوقت نفسه، كانت روبرتا تحدوها رغبة في الدفاع عن زوجها ومعرفة السبب وراء رأي فاليري أنه يبعث على الضجر، بل ولا تستطيع أن تتخطى فكرة رغبتها في الدفاع عنه حيث كانت تشعر بأن زواجه منها كان من سوء طالعه هو.
عندما رحلت روبرتا عن زوجها وغادرت هاليفاكس، أقامت لدى فاليري في تورونتو. وهنالك التقت بجورج الذي دعاها لزيارة مزرعته. وتزعم فاليري الآن أنهما يدينان لها بعلاقتهما التي هي ثمرة التوفيق بينهما بمحض الصدفة.
قالت فاليري: «كانت تلك المرة الأولى التي أشهد فيها الحب وهو يترعرع أمام عيني؛ بدا الأمر وكأنني أراقب ثمار الأمارليس وهي تنمو. يا له من أمر مذهل!»
لكن روبرتا - بقدر حبها لهما وتمنياتها لهما بالخير - كانت تتبنى فكرة أن الحب شيء تستطيع فاليري حقا أن تحيا دون أن يذكرها أحد به. في حضرة فاليري، يتساءل المرء أحيانا عن سبب الجلبة. فاليري نفسها تتساءل. فحياتها ووجودها، أكثر من أي رأي تعرب عنه، هما ما يذكران المرء بأن الحب ليس بالعاطفة الحميدة المخلصة وليس من المضمون أن يفضي إلى السعادة.
عندما تحدثت مع روبرتا عن جورج (قبل أن تعرف أن روبرتا واقعة في حبه)، قالت فاليري: «إنه رجل غامض بحق. أراه مثاليا جدا، وإن كان قد لا يروق له وصفي هذا. إنه مثالي؛ أقصد هذه المزرعة التي اشتراها، وهذه الحياة المثمرة النائية التي تكفيه ذاتيا في الريف.» واصلت حديثها عن طفولته وكيف ترعرع في تيمنس ابنا لصانع أحذية مجري، وكان أصغر إخوته الستة، وأول من أنهى المرحلة الثانوية منهم، ناهيك عن الجامعة. «إنه الشخص الذي يعلم تمام العلم كيف يقاتل أحدهم في الشارع، لكنه لا يعلم كيف يسبح. ولقد أحضر أباه العجوز سيئ الطباع محني الظهر إلى تورونتو وتعهده بالرعاية حتى وافته المنية. أعتقد أنه يعامل النساء بقسوة نوعا ما.»
أنصتت روبرتا إلى كل ذلك بأذن مصغية ولكن بلامبالاة في الأساس لأن ما يعرفه الآخرون عن جورج بدا بالنسبة لها غير ذي أهمية. كانت تشعر بالخطر والسعادة؛ فهي لم تكن تضع في حسبانها الوقوع في الحب. وجل ما كانت تعقد الآمال عليه هو أن تحيا حياة فاليري؛ فقد رسمت صور كتابين للأطفال، وظنت أنها تستطيع الحصول على عمولات أكثر؛ وحينئذ سيتسنى لها استئجار غرفة في حي بيتشيز شرقي تورونتو، وتدهن الجدران باللون الأبيض، وتجلس على وسادات بدلا من المقاعد، وتتعلم كيف تنظم نفسها وتفعل ما تحب في آن واحد، هكذا هي حياة المنعزلين بحسب ظنها. •••
جالت فاليري وروبرتا في البيت، ومعهما زجاجة من النبيذ البارد وكأسان كانتا من أغراض جدة فاليري. تعتقد روبرتا أن بيت فاليري هو الصورة التي تخطر بخلد الناس إذ يعربون باشتياق عن رغبتهم في «بيت في الريف» أو تحديدا «بيت في مزرعة من الطوب العتيق»؛ الطوب الأحمر الباهت الذي يبعث على الدفء ويحده طوب أفتح لونا، وأشجار العنب والدردار، والأرضيات الرملية والسجاد المعلق والجدران البيضاء، والإبريق المكسورة حافته فوق خزانة أدراج ضخمة أمام مرآة معتمة. بالطبع استغرق الأمر من فاليري 15 عاما كي تجلب كل هذه الأشياء؛ فقد اشترت هي وزوجها هذا البيت لتمضية الصيف، وبعد أن مات زوجها باعت بيتها بالمدينة، وانتقلت للعيش في شقة، وكرست مالها وجهدها لهذا البيت. وكان جورج قد اشترى بيته وأرضه قبل عامين بعد أن عرفته فاليري بهذه البقعة من الريف، ومنذ 14 شهرا ترك مهنة التدريس وانتقل للعيش هنا إلى الأبد. وإثر انتقاله إلى الريف مباشرة، التقى لأول مرة بروبرتا. وانتقلت هي للعيش معه في ديسمبر الماضي. وظنت أن إصلاح المكان سيستغرق عاما كاملا، وبعدها يستطيع جورج أن يزاول هواية النحت. كان جورج يريد أن يمسي نحاتا فعلا؛ ولذلك أراد التخلي عن التدريس وعيش عيشة الكفاف في الريف - حيث زراعة الكثير من الخضراوات وتربية الدجاج. لكنه لم يشرع في تنفيذ فكرة تربية الدجاج بعد.
قررت روبرتا أن تشغل وقتها برسم الصور الإيضاحية للكتب، ولكن لماذا لم تفعل ذلك بعد؟ لأنها لا تجد الوقت الكافي ولا المكان المناسب؛ لا المكان ولا الإضاءة الكافية ولا الطاولة الملائمة. كما أنه لا توجد لحظات تسيطر فيها بالكامل على مجريات الأمور بعد أن تمكنت منها الحياة وهيمنت على مقدراتها.
جل ما أنجزاه حتى الآن - ما أنجزه جورج تحديدا بينما قامت روبرتا بالتنظيف والطهي - هو تركيب سقف جديد للبيت، ونوافذ ذات إطار من الألومنيوم، وصب كيس تلو الآخر من مادة عازلة مغبرة شبيهة بالحصى في المساحة الموجودة وراء الجدران، ووضع ألواح من ألياف زجاجية صفراء شبيهة بالصوف لتدعيم سقف العلية، وتنظيف جميع مداخن المواقد واستبدال بعضها، وترميم جزء من المدخنة، واستبدال حواف السطح البارزة المتعفنة. وبعد كل هذه الإصلاحات الجوهرية المرهقة، لم يزل شكل البيت منفرا من الخارج، بكسوته من الطوب الأحمر الداكن غير الأصلي، ورواقه الذي لم يعد فيه موطئ لقدم بسبب ألواح الخشب الجديدة المجففة والقديمة المستعملة، وألواح الألياف الزجاجية الفائضة عن الحاجة وغير ذلك من الركام المفيد. ومن الداخل، تسود الظلمة وتفوح رائحة عطنة. تود روبرتا أن تنزع مشمع الأرضية وتزيل ورق الحائط الكئيب، لكن كل شيء يجب أن ينجز بنظام، وكان جورج قد استقر على هذا النظام؛ فلا طائل من وراء نزع المشمع وإزالة ورق الحائط سوى بعد الانتهاء من تركيب الأسلاك والطبقة العازلة، وإعادة ترميم هيكل البيت. ومؤخرا، شدد جورج على أنه قبل أن يشرع في تجديد البيت من الداخل أو وضع ألواح الجدران الخارجية للبيت، يجب أن يقوم بعملية إصلاح شاملة للحظيرة؛ فإذا لم يدعم هيكل العوارض الخشبية ويعززه، فمن المحتمل أن ينهار البيت كله تأثرا بعواصف فصل الشتاء القادم.
علاوة على ذلك، كان ثمة إصلاحات يجب إنجازها في الحديقة؛ حيث أشجار التفاح والكرز التي تم تقليمها، وقصب التوت الذي تم تنظيفه، والحديقة التي أعيد نثر بذورها بعد إنقاذها من رقع الأعشاب البرية الطويلة وأجزاء عارية في التربة، والدبش الموجود أسفل ظل بعض أشجار الصنوبر المهملة. في البداية، رسمت روبرتا صورة للمكان بأسره في مخيلتها، كل الأشياء التي أنجزت، والجاري إنجازها، والتي لم تنجز بعد. لكنها لا تفكر في العمل بهذه الطريقة الآن - ولا تتصورها بصفة عامة - بل استقرت في المطبخ تنجز الأعمال بحسب ما يستجد منها؛ فقد استغرق منها أمر معالجة محصول الحديقة - من صنع صلصلة الفلفل الحريفة وإعداد الطماطم والفلفل والفول والقمح تمهيدا لإيداعها في المجمد، وصنع عصير الطماطم ومربى الكرز - وقتا طويلا. وأحيانا ما تلقي نظرة على المجمد وتتساءل عمن سيتناول كل هذا الطعام إضافة إلى جورج؛ فهي تشعر بأن مطالبها في تضاؤل. •••
كانت الطاولة موضوعة في الشرفة الطويلة - المنعزلة عن الخارج بحاجز سلكي - التي تقع في الجزء الخلفي من البيت. خرجت فاليري وروبرتا من الباب الموجود في نهاية الشرفة، ونزلا على سلم المسافة بين درجاته غير طويلة وصولا إلى منطقة صغيرة جدرانها وأرضيتها من الطوب، أقامتها فاليري صيف هذا العام لكنها لا تحب أن تسميها فناء مرصوفا؛ فهي تزعم أن المرء لا يستقيم أن يكون لديه فناء مرصوف في بيت بمزرعة. ولم تستقر على اسم لهذه الباحة بعد. ولم تقرر أيضا ما إذا كانت ستجلب كراسي حديقة خشبية ثقيلة يروق لها شكلها، أم كراسي خفيفة ومريحة مصنوعة من مزيج من المعدن والبلاستك كتلك التي جلبها جورج وروبرتا.
صبت كلتاهما النبيذ ورفعتا كأسيهما القديمتين الواسعتين اللتين تعشقان ارتشاف النبيذ منهما، وتناهى إلى مسامعهما ضحكات روث وإيفا وأنجيلا من غرفة روث. كانت روث قد قالت إن عليهما مساعدتها في ارتداء ملابسها أيضا ... ستفكر في شيء تتفوق به عليهم جميعا. وكان أيضا بإمكانهما سماع حفيف منجل جورج الذي جلبه معه لقطع بعض الحشائش الطويلة ونبات الأرقطيون المحيط بمصنع الألبان الصغير الحجري خاصتها.
قالت فاليري: «مصنع الألبان يليق بأن يكون استوديو رائعا. حري بي أن أؤجره لفنان. جورج؟ أنت؟ أنا على استعداد أن أؤجره لقاء قص الأعشاب الضارة وإعداد قالب توت العليق. وبإمكان جورج أن يؤسس استوديو له في الحظيرة، أليس كذلك؟»
قالت روبرتا: «بلى، في نهاية المطاف.» في الوقت الراهن، كان جورج ينجز كل أعماله في الجزء الأمامي من البيت، وتحديدا في الردهة القديمة. فثمة بعض القطع المنحوتة لم ينته إلا من نصفها، والبعض الآخر كاد ينجزها - وكانت تغطيها ملاءات مغبرة - وبعض الكتل الخشبية أيضا (إذ يعمل جورج باستخدام الخشب وحسب)؛ فتجد كتلة ضخمة من البلوط المعالج، وقطعا من شجر جوز الأرمد المجفف في الفرن، وخشب الكرز. كما أن منشار الشق الخاص به، وأزاميله، والأزاميل المقعرة، وزيت بزر الكتان، وزيت التربنتين، وشمع العسل، والمواد الصمغية ؛ كلها موجودة وأغطيتها مغبرة ومربوطة بإحكام. وقد اعتادت إيفا وأنجيلا الذهاب إلى هناك والوقوف على أطراف أصابعهما بين الدبش والأعشاب واختلاس النظر من النافذة الأمامية على الأشكال المغطاة.
قالت إيفا لجورج: «يا للبشاعة! تبدو مرعبة. كيف شكلها تحت هذه الملاءات؟»
قال جورج: «كعكة خشبية؛ إنها منحوتة شهيرة.» «حقا!» «ثمرة بطاطس وطفل رضيع برأسين.»
في المرة التالية التي ذهبتا فيها لاختلاس النظر، وجدتا ملاءة منسدلة على النافذة؛ كانت ملاءة يميل لونها إلى الرمادي، بالية من أعلاها. وبالنسبة لأي شخص عابر بسيارته، جعلت تلك الملاءة هيئة البيت أكثر كآبة وأقرب إلى المهجور منه إلى المسكون.
قالت فاليري: «هل تعلمين أن لدي سجائر طيلة الوقت؟ لدي صندوق كامل منها، أخفيته في خزانة غرفتي.»
كانت قد أرسلت ديفيد وكمبرلي إلى المدينة بدعوى أن سجائرها نفدت. لا تقوى فاليري على الإقلاع عن التدخين، رغم أنها تتعاطى أقراص فيتامينات وتحرص كل الحرص على ألا تتناول أية أطعمة تحتوي على ألوان اصطناعية حمراء. «لم يخطر على بالي أن أدعي أن شيئا آخر نفد مني، وأردت أن يرحلا عني فترة من الوقت. والآن، لا أجرؤ على التدخين ولو سيجارة واحدة، وإلا شماها عندما يرجعان ويوقنان أنني كاذبة. وإنني في أمس الحاجة لسيجارة.»
قالت روبرتا: «احتس الخمر عوضا عن السجائر.» عندما وصلت إلى بيت فاليري، ظنت أنها لا تقدر على تبادل أطراف الحديث مع أحد ... وكانت تعتزم الادعاء بأنها تعاني من صداع وتسأل إذا كان بالإمكان أن تستلقي بعض الوقت. لكن فاليري شدت من أزرها كعادتها؛ ففاليري تجعل مما لا يحتمل شيئا مثيرا.
سألتها فاليري: «كيف حالك إذن؟»
أجابت روبرتا: «أوه.»
قالت فاليري: «لولا الناس لأمست الحياة رائعة. تبدو مقولتي وكأنها مقتبسة من عمل أدبي، لكنني اختلقتها توا. المشكلة هي أن كمبرلي مسيحية. لا بأس بالنسبة لي. لا بأس من مسيحي أو اثنين في الجوار. وبهذه المناسبة، أنا لست ضد المسيحية. لكنها مسيحية متشددة جدا، أليس كذلك؟ يدهشني كم تجعلني أشعر بأنني دنيئة.» •••
كان جورج يستمتع بقص الأعشاب. أولا : هو يحب أن يعمل دون أعين تراقبه؛ فكلما يباشر أعماله بالبيت هذه الأيام، يدرك أن مجموعة من النساء يراقبنه. وحتى لو لم تكن أي منهن في مجال رؤيته، يحس وكأنهن يراقبنه ... بأريحية شديدة، وينظرن لجهوده بحيرة واستمتاع. ويقر جورج، إذا فكر في الأمر، بأن روبرتا تضطلع بالفعل ببعض الأعمال، ولو أنها لم تنجز عملا قط يعود عليها بعائد مادي بحسب علمه، فهي لم تتصل بناشريها، ولم تبادر بتطوير أفكار جديدة من تلقاء نفسها. كما أنها تسمح لابنتيها بألا تفعلا شيئا طوال اليوم، بل وطوال الصيف بأكمله. وصبيحة أمس، استيقظ جورج متعبا ومحبطا - إذ خلد إلى النوم وعقله منشغل بالأعمال التي يجب أن يقوم بها في الحظيرة، وتسلل انشغاله إلى أحلامه التي حفلت بمشاهد سقوط أشياء، وتقديرات خاطئة، وأخطاء هيكلية - فخرج إلى المصطبة الخارجية الملحقة بالمطبخ، وحدث نفسه بأن يتناول البيض هناك ويفكر بإمعان في الأعمال التي يتعين عليه القيام بها اليوم. هذه المصطبة هي الشيء الوحيد الذي بناه حتى الآن؛ التغيير الوحيد الذي أدخله في البيت. لقد أقامها ربيع العام الماضي استجابة لشكاوى روبرتا حول ظلمة البيت والتهوية المحدودة. وحينئذ قال لها إن من بنوا هذه البيوت كانوا ينجزون معظم أعمالهم خارجها لدرجة أنه لم يخطر ببالهم قط الجلوس فيها فترة طويلة.
خرج جورج إلى المصطبة وفي يديه طبقه وكوبه، فوجد ثلاثتهم هناك بالفعل. كانت أنجيلا ترتدي ثوب الباليه وكان لونه أزرق ضاربا إلى الخضرة، حيث كانت تتمرن على الرقص متكئة على سور المصطبة. أما إيفا، فكانت تجلس وظهرها إلى جدار البيت تتناول رقائق النخالة في صحن الحساء بحماس شديد، لدرجة أن كمية كبيرة من الرقائق تساقطت على أرضية المصطبة. أما روبرتا، فكانت تجلس في مقعدها على المصطبة وبين يديها فنجان القهوة الذي لا يفارقها. رفعت إحدى ركبتيها، وحنت ظهرها للأمام، وارتدت نظارتها الداكنة فبدت متوترة ومكتئبة. يعرف جورج أنها تبكي من وراء هذه النظارة. وبدا له أنها سمحت لابنتيها باستنفاد طاقتها؛ فهي تمضي وقتها في استرضائهما وجمع سقط متاعهما ، وتتوسل إليهما أن ترتبا سريريهما، وتنظفا غرفتيهما. وسمعها جورج ذات مرة وهي ترجوهما أن تضعا الصحون في المطبخ كي يتسنى لها غسلها. أو هكذا تبدو الصورة بالنسبة له. أهذه هي موضة تربية أبناء الطبقة الوسطى؟ ها هي تبدي إعجابها بأنجيلا؛ تبدي إعجابها بابنتها بلطف ... بساقها البرونزية المرفوعة، وهيئتها التي تشي بالازدراء. لو تجرأت واحدة من أختيه على إتيان فعل كهذا، لانهالت عليها أمه ضربا.
أرخت أنجيلا ساقها وقالت: «تحياتي، سيدي!»
قال جورج: «لا أراك تضربين رأسك في الأرض.» فعادة ما كان يمزح مع الفتاتين مهما كانت حالته المزاجية. كان المزاح الجارح عادته، ولقد لاقى نجاحا منقطع النظير في الفصول الدراسية حيث أكد على شخصيته المبالغة نوعا ما، القاسية بين الحين والآخر، الممتعة دوما. وسلك السلوك نفسه مع أغلب المدرسين الآخرين أيضا، معبرا عن ازدرائه لهم على نحو مذهل، لدرجة أنهم لم يصدقوا أنه يعني ما يقول.
كان يروق لإيفا أن تستجيب لأي اقتراح من هذا النوع؛ فتمددت على المصطبة، وضربت رأسها بقوة على الألواح الخشبية.
قالت روبرتا: «ستصابين بارتجاج.» «لا، لن يحدث ذلك؛ جل ما في الأمر أنني أجري لنفسي جراحة في المخ.»
سألت أنجيلا: «جورج، هل تدرك أننا سنرحل بعد أربعة أيام؟ ألا يفطر ذلك قلبك؟» «إلى نصفين.»
قالت إيفا بعد أن جلست منتصبة وتحسست رأسها بحثا عن أية كدمات: «ولكن، هل ستسمح لأمي بأن تتعهد ديانا بالرعاية بعد أن نرحل؟»
سألتها روبرتا: «ماذا تقصدين ب «يسمح»؟!» وفي الوقت نفسه قال جورج: «بالطبع لا. سأربطها في عمود السرير إذا حاولت أن تقترب من الحظيرة.»
كانت هذه الهرة مزعجة؛ فإذا كانت أنجيلا ترى المزرعة مسرحا لها أو الطبيعة - التي تلهمها الأفكار والأشعار التي تسلم نفسها لها فتهيم على وجهها وتسرح في عالم الأحلام - فإن إيفا تراها مكانا مثاليا لرعاية الحيوانات، ولا تنسى أن تكرس بعضا من عنايتها للحشرات وأسماك المنوة والصخور والرخويات. ولا شك أن الاثنتين تريانها مكانا لتمضية الإجازة يفتح ذراعيه لهما فتسخرانه لأغراضهما ومتعهما أيا كانت، بيد أنهما لا تريان الأعمال المفترض عليهما القيام بها. أمضت إيفا الصيف في مطاردة خنازير الأرض والأرانب، وإقامة شراك للضفادع ثم إطلاق سراحها، واصطياد أسماك المنوة ووضعها في جرة، ومحاولة إيجاد حل لمشكلة استيعاب الحظيرة لأنواع مختلفة من الحيوانات. وحملها جورج مسئولية استدراج الغزال خارج الأجمة - إشباعا لرغبتها الشديدة لفعل ذلك - مما اضطره إلى ترك كل الأعمال التي بين يديه وإقامة حاجز سلكي بارتفاع 8 أقدام حول الحديقة. والحيوان الوحيد الذي تمكنت من اجتذابه إلى الحظيرة هي الهرة ديانا الدميمة نحيلة الذيل، نصف البرية، التي تشي حلماتها المتدلية بأنها تتعهد عائلة كبيرة من الهريرات في مكان ما؛ ولذا كانت إيفا تقضي أكبر قدر من وقتها في محاولة استكشاف مكان تلك الهريرات.
يرى جورج أن الهرة كائن طفيلي، ومصدر إزعاج شديد مرتقب، ومتعد على ممتلكاته. وبإطعامها وتشجيعها، يرى جورج أن إيفا سلكت درب الخيانة الصغرى - وإن كانت مؤثرة - التي دعمتها روبرتا سرا. إنه يعلم أن مشاعره بهذا الصدد مبالغ فيها، بل وحتى كوميدية؛ لكن هذا لا يساعده. فمن الأشياء التي كان يتجنبها ولم يرد أن يحققها قط أن يكون أبا كوميديا، شاجبا وأخرق. لكن سلوك روبرتا هو الذي يزعجه أكثر من تصرفات إيفا؛ فهنا تتجلى تماما الغلطة التي اقترفتها في تريبة بنتيها. ففي مخيلته، يستطيع أن يسمع روبرتا تتكلم مع شخص ما في حفلة قائلة: «تربي إيفا هرة بشعة، دميمة الهيئة ولا مأوى لها. هذا هو إنجازها الذي حققته خلال فصل الصيف. وأنجيلا تمضي نهارها كله في ممارسة قفزات الباليه وتلقانا بوجه عبوس.» إنه لم يسمع روبرتا تقول ذلذك فعلا - فهم لم يرتادوا أية حفلات - لكنه يستطيع أن يتخيل السيناريو بجلاء؛ أن تستدعي الفتاتين لتسلية الآخرين، وتجعل منهما شخصيات مسرحية لا يتوقع المرء منها أي شيء جدي. لا تبدو هذه الصورة الخيالية من منظور جورج تافهة فحسب بل وعديمة الشفقة أيضا. إن روبرتا المتساهلة مع ابنتيها، القلقة دائما من أن يجداها غير محبة لهما، ولا مهتمة بهما، ولا متفهمة لهما بالقدر الكافي؛ تحرمهما - مع كل ذلك - شيئا مهما؛ فهي لا تأخذهما على محمل الجد، ولا تربيهما التربية الحقة. وكيف لجورج أن يواجه هذا الموقف؟ إنه ليس أباهما. ومن بين الأسباب التي منعته من الإنجاب شكوكه في قدرته على إيلاء اهتمامه دون تحفظات - وطالما دعت الحاجة - لمسألة تربية النشء هذه تحديدا. فجورج كمدرس يعرف كيف يحدث جلبة شديدة ويجعل الأمور تسير في صالحه، لكن أن يضطر إلى أن يفعل ذلك في البيت أيضا مسألة مرهقة جدا. وكان الفتية - بصفة أساسية - هم الذين استطاع كسر شوكتهم؛ فهم مصدر الخطر في الفصل الدراسي. أما الفتيات، فلم يجشم نفسه قط عناء التعاطي معهن، فيما خلا بعض المناوشات مع المثيرات منهن وحسب. ولا يستقيم ذلك هنا.
وبعيدا عن كل ما سبق، فإنه عادة ما لا يستطيع إلا أن يعجب بأنجيلا وإيفا. بالنسبة له تبدو الفتاتان مرتبكتين وجذابتين، وهما تجدانه مسليا جدا؛ الأمر الذي يزعجه تارة ويروق له تارة أخرى. فعادته مع الناس إما التحفظ الشديد أو الإمتاع الشديد، ويميل هو شخصيا إلى الخيار الأول؛ ولذلك، فهو يحب أن يلقى إمتاعه تقدير الآخرين.
ولكن عندما أنهى إفطاره وأحضر سلتين سعة كل منهما ست كرات واتجه إلى الحديقة لجمع الطماطم، لم يحرك أحد ساكنا لمساعدته. استمرت روبرتا سجينة أفكارها المتقلبة وظلت تحتسي قهوتها. وكانت أنجيلا قد انتهت من تمارينها، وعكفت على التدوين في المفكرة التي تستخدمها لتسجيل مذكراتها. وانطلقت إيفا إلى الحظيرة. •••
جلست أنجيلا أمام البيانو في غرفة المعيشة ببيت فاليري؛ فلا يوجد بيانو في بيت جورج، وهي تفتقد العزف عليه. ألا تفتقد أمها البيانو أيضا؟ أمست أمها إنسانا لا يطلب شيئا.
خطت أنجيلا في مذكراتها: «رأيتها تتغير من شخص كنت أحترمه أيما احترام إلى شخص على شفا الانهيار العصبي. إذا كان هذا هو الحب، فلا أريد نصيبي منه. إنه يريد أن يستعبدها ويستعبدنا كلنا، وهي تسير على حبل مشدود محاولة أن تحول بينه وبين الجنون. فلا تستمتع بشيء، وإذا كان الخيار بيدها، لفضلت الاستلقاء في غرفة مظلمة وعلى عينيها حجاب فلا ترى أحدا ولا تفعل شيئا. هذه امرأة ذكية كانت تؤمن بالحرية.»
شرعت أنجيلا في عزف مقطوعة «المسيرة التركية» التي تستدعي إلى عقلها صورة بيت اشتراه والداها عندما كانت في الخامسة من عمرها؛ وكان فيه رف صغير بالقرب من السقف في غرفة الطعام اعتادت أمها أن تضع عليه أطباق الحلوى لأغراض الزينة، وكان هناك شجرة أو شجيرة في الباحة لها أوراق بلون الخس وبحجم أطباق الطعام.
كتبت في مذكراتها: «أعرف أن الحنين إلى الماضي شعور لا طائل منه. أحيانا أشعر وكأنني أمزق بعض الأشياء التي خطها قلمي حيث ربما كنت قاسية أكثر من اللازم في الحكم على أناس أو مواقف، لكنني قررت أن أترك كل شيء على حاله لأنني أريد أن يكون لدي سجل بحقيقة مشاعري حينئذ. أريد أن يكون لدي سجل صادق عن حياتي كلها. إنني أرى أن المشكلة الأساسية في كل مكان هي منع المرء نفسه من الكذب.»
خلال الصيف، قضت أنجيلا فترة طويلة من الوقت في القراءة. ومن بين ما قرأت «آنا كارنينا»، و«الجنس الآخر»، و«إميلي فتاة الرياح»، و«مختارات نورتون من الأشعار»، و«السيرة الذاتية لدابليو بي ييتس»، و«الساقطة السعيدة»، و«خلق الخلق»، و«سبع حكايات قوطية». وتحريا للدقة، فهي لم تقرأ بعض هذه الكتب إلى النهاية. اعتادت أمها القراءة طوال الوقت أيضا؛ إذ كانت أنجيلا ترجع إلى البيت من المدرسة تارة ظهرا وتارة بعد الظهر لتجد أمها منكبة على القراءة. قرأت أمها عن غزو المكسيك، وقرأت «قصة جنجي». وكانت أنجيلا تتعجب من مدى الأمان الذي بدا لها أن أمها تشعر به آنذاك.
كانت أنجيلا تحتفظ في خيالها بصورة واحدة عن إيفا قبل أن تولد الأخيرة؛ كان ثلاثتهم - أنجيلا وأمها وأبوها - جميعا على الشاطئ، وكان أبوها يحفر حفرة ضخمة في الرمال؛ فهو بارع في بناء قصور الرمال ذات الدروب وأنظمة الري؛ ولذلك تراقب أنجيلا باهتمام أي مشروع يشرع في بنائه. لكن الحفرة لا تستخدم في بناء قصور الرمال. فبعد أن انتهى منها أبوها ، تدحرجت أمها على الرمال باتجاه الحفرة وهي تقهقه، ووضعت بطنها في الحفرة. كانت إيفا في أحشائها، والفجوة أشبه بملعقة تسع بيضة. كان الشاطئ واسعا، يمتد لأميال وأميال من الرمال البيضاء التي تميل برقة باتجاه المياه الخضراء المائلة إلى الزرقة. ولا وجود لأرض صخرية بمحاذاة البحر، ولا لخلجان صغيرة. كان المكان مشرقا ورحبا. أين يمكن أن تكون هذه البقعة؟
انتقلت أنجيلا في عزفها من مقطوعة «المسيرة التركية» إلى «موسيقى ليلية صغيرة»، وكانت روبرتا تنصت إلى أنغام البيانو في الوقت الذي تستمع فيه إلى فاليري التي تتكلم بروح مرحة وبيأس عن خوفها من كمبرلي، وكراهيتها للدخلاء، وترددها المتعذر تبريره حيال التخلي عن أطفالها، وتفكر في أن تلك الخطوة لم تكن خاطئة. ماذا تعني بذلك؟ تعني أن هجرها لزوجها لم يكن خطأ. مهما حدث، فإن هجرها له لم يعبه شيء. بل كان ضروريا، وإن لم تفعل ما كانت لتعرف مدى ضروريته.
قالت فاليري بتعقل: «هذا وقت عصيب بالنسبة لك؛ فثمة ضغوط مهولة جدا.»
ردت روبرتا: «هذا ما أحدث نفسي به؛ لكنني أحيانا أظن أن هذا ليس السبب، لا البيت ولا الأبناء. ثمة هالة من الكآبة تخيم علي.»
قالت فاليري بنبرة متذمرة: «ثمة هالة من الكآبة دائما.» «أفكر في آندرو، ماذا كنت أفعل معه؟ أمهد الطريق للكشف عن مثالبه، وألوم عليه بقسوة، ثم أفقد شجاعتي وأصالحه. وتدريجيا تتجدد الرغبة في التخلص منه، لكنني كنت على يقين دائما بأنه هو الملوم، فلو كان قد فعل هذا أو ذاك لكنت أحببته. من المؤسف أنه تحول إلى - أتذكرين تلك الصفة التي وصفته بها؟ - شخص ممل.»
قالت فاليري: «لقد كان مملا. هكذا كان دائما. وأنت لست بمسئولة عن كل شيء.» «أفكر في الأمر لأنني أتساءل إذا كان هذا هو بالضبط سلوك جورج تجاهي؛ فهو يريد التخلص مني، ثم لا يحاول فعل ذلك، ثم يحاول، ثم لا يقدر على أن يعترف بذلك ولو حتى لنفسه؛ إنه يتعمد اختلاق إحباطات جديدة. أشعر بأنني أعرف ما كان يمر به آندرو. لا يعني هذا أنني قد أرجع إليه. مطلقا. لكنني أرى ما كان يشعر به.» «أشك أن الأمور تحدث بهذا التناظر الشديد.» «لا أعتقد ذلك أيضا. لا أعتقد أن العقاب ينزل بك بهذه الطريقة البسيطة. أليس من الغريب كيف أتعلق - وهذه هي حالي فعلا - بفكرة وجود نمط كهذا؟ أعني أن الفكرة جيدة؛ فكرة وجود هذا التوازن. ولكن، التجربة نفسها ليست جيدة. وإنني أريد أن أتجنبها.» «إنك تنسين كم كنت سعيدة خلال لحظات السعادة التي عشتها.» «والعكس صحيح. الأمر أشبه بالولادة.» •••
انتهى جورج من قص الأعشاب الضارة، وانشغل بتنظيف نصل المنجل. كان بإمكانه سماع صوت البيانو عبر النوافذ المفتوحة ببيت فاليري، ويحس بالهواء البارد الجميل المتدفق من ناحية النهر. وكان يشعر بتحسن كبير الآن، إما بسبب المجهود البسيط الذي بذله أو إحساسه بالارتياح أن أحدا لا يراقبه؛ ربما أنه من الرائع أن يبتعد وحسب عن المتطلبات المهولة لبيته. تساءل ما إذا كانت روبرتا هي التي تعزف على البيانو؛ فالموسيقى تتوافق على نحو رائع مع الأعمال التي يقوم بها؛ أولا مقطوعة «المسيرة التركية» البهيجة المناسبة لأعمال قص الأعشاب، والآن، بينما يقف لتنظيف نصل منجله وشم الحشائش المجزوزة، تتسلل إلى مسامعه التهاني الرقيقة لمقطوعة «موسيقى ليلية صغيرة»، مع أن أنغامها عزفت بشيء من التردد. وكالعادة كلما يشعر بتحسن مزاجي، وعندما تنقشع غمة الكآبة، يتوق للبحث عن روبرتا ليطوقها بين ذراعيه ويطمئنها - ويطمئن نفسه - أنه ما من ضرر حقيقي قد وقع. كان يأمل أن يفعل ذلك ليلة أمس عندما كانا يحتسيان الخمر، لكنه لم يستطع؛ شيء ما منعه.
استرجع جورج زيارة روبرتا الأولى لبيته. كانت تلك الزيارة في أواخر أغسطس أو بداية سبتمبر منذ زهاء عام مضى. خلال هذه الزيارة، رتبا لنزهة خلوية مبتكرة نوعا ما، فطهيا الولائم، واستمعا إلى أسطوانات موسيقية، وأخرجا الفراش إلى الفناء الخارجي. قضى ليالي صافية مع روبرتا وهي تشرح له الطرق المستبعدة التي ترتبط بها النجوم بمجموعاتها في السماء، وكان كل يوم معها لا يقدر بثمن. قالت روبرتا حينئذ إنه يجب أن يعرف كل شيء عنها الآن بمنتهى الصراحة؛ فهي في الثالثة والأربعين من عمرها؛ أي أكبر منه بست سنوات، ولقد هجرت زوجها لأن كل ما بينهما بدا مصطنعا، لكنها تكره أن تقر بذلك لأن اعترافها قد يبدو محض رياء، فهي لا تدري ما تعنيه، والأهم من ذلك أنها لا تعرف مدى قدراتها بالكامل. بدت في عينيه شجاعة وصادقة ومتواضعة؛ ولذا لا يتخيل كيف تفرز كل هذه الصفات مثل هذه الحدة والبكاء والملل والشعور بالخطر من الانهيار.
لكنه يحدث نفسه بأن الانطباع الأول يستحق الاحترام. •••
زينت إيفا وروث طاولة الطعام في الشرفة. كانت روث ترتدي قميصا أبيض اللون استعارته من أخيها، وسروال منامته المخطط وعمامة سوداء ضخمة؛ فبدت أقرب شبها بسيخ هندي متباه طيب المعشر.
قالت روث: «أعتقد أن الطاولة بحاجة إلى نثر أشياء عليها؛ لا مجال للرقة هنا يا إيفا.»
وعلى فترات متقطعة، وضعتا عليها البرتقال، وزهور الأضاليا الذهبية، وقرع البلوط المزدان بخطوط بديعة، وقرعا صيفيا، ويقطينا أصفر، وذرة هندية.
ووراء ستار الموسيقى، قالت إيفا: «أنجيلا لديها مشكلات تتعلق بالحياة هنا تتجاوز مشكلاتي؛ فهي تعتقد أن الأمر يتعلق بها كلما تشاجرا.»
سألت روث بصوت هامس: «وهل يتشاجران؟» ثم أردفت قائلة: «هذا ليس من شأني.» كانت قد وقعت في حب جورج عندما بلغت الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمرها. وخلال تلك الفترة، كانت أمها على علاقة صداقة مع جورج. وكانت روث تكره زوجته، وسرها انفصالهما. وتذكرت أن زوجته كانت ابنة طبيب أمراض نساء، وهو السبب الذي ساقته أمها لعجزه عن الانسجام مع زوجته. فلعل ثراء الأب هو الذي كانت تقصده أمها، أو الأسلوب الذي تربت عليه الابنة. لكن كلمة «طبيب أمراض نساء» بالنسبة لروث بدت حادة ومرعبة، وتخيلت ابنة هذا الطبيب ترتدي حلة معدنية باردة ومسننة. «تقع بينهما مناوشات صامتة. يمكننا الجزم بذلك. أنجيلا مهتمة جدا بتلك الشجارات، وتعتقد أن الكون كله يدور في فلكها. هذا ما يحدث عندما يصبح المرء مراهقا. ولا أريد أن ينالني ما نالها.»
توقفت أنجيلا عن العزف مؤقتا، وقالت إيفا بحدة: «أوه، لا أريد أن أرحل! فأنا أكره الرحيل.» «حقا؟» «أكره أن أترك ديانا. لا أعرف ماذا يمكن أن يحل بها. لا أعرف هل سأراها مجددا أم لا. ولا أعتقد أنني سأرى الغزال مرة أخرى. أكره اضطراري لترك الأشياء.»
بعد أن سكت البيانو، أمسى صوت إيفا مسموعا بالخارج حيث فاليري وروبرتا تجلسان. فسمعت روبرتا ما قالته إيفا، وارتقبت علها تسمع شيئا منها عن الصيف القادم. فأهبت نفسها لسماع ذلك.
لكن إيفا قالت: «أتعرفين؟ أنا أتفهم جورج. وليست لدي تحفظات أنجيلا عليه؛ فأنا أعرف كيف أتقبل المزاح. إنني أفهمه.»
التقت نظرات روبرتا وفاليري، وابتسمت روبرتا، وهزت رأسها وارتعشت؛ فقد كانت المخاوف تنتابها أحيانا من أن يؤذي جورج الفتاتين؛ لا جسديا بل وجدانيا بتحول في مشاعره من نوع ما، أو بإعرابه عن كراهيته لهما بأسلوب لا ينسى. بدا لها أنها علمتهما، بالأمثلة، تقبله واحترام صمته والاستجابة لمزاحه. ماذا لو تغير، وهما تأمنان جانبه، وكال لهما ضربة لا تنسى؟ إذا حدث ذلك، فستكون هي التي ساقتهما إلى هذا المصير. وكانت تشعر بالخطر. على سبيل المثال، عندما كان جورج يقلم شجر التفاح، سمعت هي أنجيلا تقول: «يملك أبي شجرة تفاح وشجرة كرز أيضا الآن.» (هذه معلومة جديدة؛ هل سيتعامل معها كنوع من المنافسة؟)
قال جورج: «أظن أن لديه بعض الخدم الذين يأتون لتقليم أشجاره، أليس كذلك؟»
قالت أنجيلا بابتهاج: «بل لديه المئات من الأقزام. إنه يحملهم جميعا على ارتداء مقاسات صغيرة من الزي الرسمي للبحرية.»
كانت أنجيلا في موقف حرج في تلك اللحظة؛ إذ يمكن أن تتسبب في مضايقة جورج. لكن روبرتا تظن الآن أن الخطر الحقيقي ليس متعلقا بأنجيلا التي تجد سبيلا دائما لتقبل الإهانة، بل والمتأهبة لجني بعض المكاسب. (فقد قرأت روبرتا أجزاء من مذكراتها.) المشكلة تكمن في أن إيفا - بمزاعمها تفهم الموقف وآمالها بالمصالحة الشاملة - هي التي يمكن أن تنهار وتنعزل. •••
انتقلت إيفا إلى دور الفتاة المزعجة وهي تتناول حساء التفاح والجرجير البارد، وقصت على الجالسين حول الطاولة: «خرجا ليلة أمس وشربا حتى الثمالة، وكانا مخمورين.»
فقال ديفيد إنه لم يسمع هذا التعبير منذ فترة طويلة.
وقالت فاليري: «يا لشقاوتكم أيها الصغار!»
قالت أنجيلا وقد بدت راشدة على ضوء الشموع - بل بدت وكأنها ملكة في حقيقة الأمر - وواعية بمراقبة ديفيد لها، ولو أنه من الصعب الجزم بما إذا كانت نظراته تشي بالاستحسان أم التحفظ: «فكرنا في الاتصال هاتفيا بجمعية إغاثة الأطفال.» بدا وكأن نظرات ديفيد تشي بالاستحسان؛ فقد سيطرت كمبرلي على تحفظاته.
قالت فاليري: «هل أمضيتما ليلة ماجنة؟ روبرتا، لم تصرحي لي قط بهذا. أين ذهبتما؟»
قالت روبرتا: «كانت ليلة غاية في الاحترام. ذهبنا إلى فندق كوينز في لوجان. وتحديدا إلى الردهة؛ هكذا يسمونها. فهي المكان الذي يتردد عليه علية القوم لاحتساء الخمر.»
قالت روث: «لم يكن جورج ليدعوك إلى حانة عتيقة؛ فهو متحفظ جدا.»
علقت فاليري قائلة: «صحيح. يعتقد جورج أنه ينبغي دعوة النساء إلى الأماكن الجميلة فحسب.»
عقبت أنجيلا: «والأطفال يحسن أن نراهم ولا نسمعهم.»
أردف جورج: «بل الأفضل ألا نراهم من الأساس.»
قالت روث: «يا لها من حيرة للجميع؛ إذ إنه يبدو هكذا وكأنه متطرف جامح!»
قال جورج: «رائع أن أحصل على تحليل نفسي مجاني. الواقع أن الليلة كانت ماجنة جدا، وربما لا تتذكر روبرتا من فرط الثمالة - على حد قول إيفا. فقد خلبت لب شخص كان يمارس ألاعيب بأعواد الأسنان.»
قالت روبرتا إنها لعبة يطلب من لاعبيها تكوين كلمة بأعواد الأسنان، ثم يستبعد عود منها أو يعاد ترتيبها بحيث يتم تشكيل كلمة أخرى، وهكذا دواليك.
قالت إيفا: «آمل أنها لم تكن كلمات بذيئة.»
فقالت أنجيلا: «لم أكن أتكلم بهذه الطريقة قط عندما كنت في عمرها. كنت طفلتك التي عرفت الإباحية مؤخرا.» «وبعد أن أصابنا الملل من اللعبة، أو أصابه هو، لأنني سريعا ما مللتها، أراني صورا له ولزوجته أثناء رحلة بحرية في البحر المتوسط. وكان بصحبة امرأة أخرى ليلة أمس لأن زوجته ماتت، وكان إذا نسي أين التقطت هذه الصورة، كانت السيدة التي بصحبته تذكره. قالت إنها لم تعتقد قط أنه نسيها.»
سألت روث: «الرحلة أم الزوجة؟» بينما كان جورج يقول إنه تبادل أطراف الحديث مع مزارعين هولنديين عرضا عليه القيام برحلة جوية في طائرتهما الخاصة.
وأضاف قائلا: «أظن أنني لم أقم بتلك الرحلة.»
قالت روبرتا دون أن تتطلع إليه: «أثنيتك عن الذهاب.»
قالت روث: «تبدو كلمة أثنيتك جميلة جدا. لا بد أنني أفكر في ثنيات القماش السويدي.»
سألت إيفا عن معنى كلمة «أثنيتك».
قالت روبرتا: «تعني أقنعته ألا يفعل. أقنعت جورج بألا يقوم برحلة جوية في الواحدة صباحا بصحبة المزارعين الهولنديين الثريين، لكننا عشنا تجربة رائعة حيث ساعدنا جميعا الرجل صاحب الرحلة البحرية في ركوب سيارته كي تتمكن صديقته من إقلاله إلى بيته.»
نهضت روث وكمبرلي لرفع صحون الحساء، وذهب ديفيد ليضع أسطوانة سيمفونية «عالم جديد» لدفورجاك؛ بناء على طلب أمه، قائلا إن السيمفونية مغرقة في العاطفة.
خيم عليهم الصمت ترقبا لبداية السيمفونية. وقالت إيفا: «كيف وقعتما في الحب على أية حال؟ هل هي الجاذبية الجسدية بينكما؟»
ضربتها روث برفق على رأسها بصحن من صحون الحساء قائلة: «حري بنا أن نخيط فمك. لا تنسي أنني أتعلم كيف أتكيف مع الأطفال المضطربين.» «ألم تنزعج لأن أمي تكبرك بكثير؟»
قالت أنجيلا: «أفهمتم الآن قصدي بشأنها؟»
قال جورج بتباه: «وماذا تعرفين عن الحب؟ الحب معاناة طويلة، الحب إحساس لطيف، يشبهني تماما من هذه الناحية. الحب ليس شعورا بالتفاخر ...»
قالت كمبرلي وهي تضع الخضراوات: «أعتقد أن هذا نوع معين من الحب، إذا كان وصفك مقتبسا.»
تحت ستار الحوار الدائر عن الترجمة ومعاني الكلمات (وهو الموضوع الذي لا يعرف جورج عنه الكثير، لكنه مع ذلك يعلن عن آراء متطرفة ومستفزة التزاما منه بأسلوبه التدريسي)، قالت روبرتا لفاليري: «قالت صديقة الرجل صاحب الرحلة البحرية إن الممتع في الأمر أن زوجته قامت بالرحلة البحرية كلها وهي تحمل حملا ثقيلا جدا أشبه بشاحنة تحميل.» «أشبه بماذا؟» «شاحنة تحميل. أنا أيضا ذهلت، فقالت: «أتعرفين؟ خضعت زوجته لعملية جراحية، وكانت مضطرة لأن ترتدي واحدا من تلك الأكياس الضخمة».» «أوه، يا إلهي!» «كانت ذراعاها بدينتين، وشعرها مخضبا باللون الأشقر. هكذا كان شكلها في الصور. وكانت صديقة الزوج شبيهة بها ولو أنها أكثر أناقة وأنحف قواما. أما الزوجة فبدت على محياها نظرة شهوانية سعيدة؛ نظرة من عاش أوقاتا رائعة.» «وحمل حملا ثقيلا.»
أترون كيف يضرب الحب بجذوره ويزدهر بالرغم من كل المتناقضات، وبين أكثر الأشخاص الذين لا تبدو عليهم أمارات الحب؟ أنا عن نفسي لا أحمل أحمالا ثقيلة، بل بعض التجاعيد والترهلات وقليلا من الشحوب وشيئا من الذبول. هكذا حدثت روبرتا نفسها. وتابعت حديث الذات قائلة إن ما أصابها ليس لها يد فيه، وهو ما حدثت نفسها به مرارا وتكرارا. وعادة ما كان حديث الذات هذا يتجلى على شكل انتحاب أو شكاية أو تذمر. والآن صار يدور بخلدها من تلقاء نفسه حتى إن نبرته أمست ضجرة ومتعبة. ويبدو أن هذه قد تكون الحقيقة. •••
عندما شرعوا في تناول الحلوى، كانت دفة الحوار تحولت إلى المعمار. وكان الضوء الوحيد الموجود في الشرفة ينبعث من الشموع المتراصة على الطاولة. وكانت روث قد طرحت الشموع الكبيرة بعيدا، ووضعت أمام كل كرسي شمعة واحدة صغيرة في حامل شموع أسود بمقبض، كشمعة ترانيم الأطفال. وأنشدت فاليري وروبرتا معا: «ها هي الشمعة أتت لتضيء طريقك إلى الفراش. ها هو السفاح جاء ليقطع رأسك!»
لم تبادر أي منهما بتعليم أطفالهما هذه الترانيم، وأطفالهما لم يسمعا بها قط من قبل.
قالت كمبرلي: «سمعت بها من قبل.»
قال جورج: «القوس المدبب - على سبيل المثال - كان موضة عابرة؛ فقد كان موضة معمارية قريبة الشبه بالموضة حاليا.»
قال ديفيد مسايرا الحديث: «ليس هذا وحسب. كان أكثر من مجرد موضة. فالذين بنوا الكاتدرائيات لم يكونوا مثلنا تماما.»
قالت كمبرلي: «كانوا لا يشبهوننا إلى حد بعيد.»
قالت فاليري: «أنا متأكدة أنني تعلمت دائما - هذا إن كنت قد تعلمت أساسا في تلك الأيام الغابرة - أن القوس المدبب تطور طبيعي للقوس المميز للعمارة الرومانسية. عن لهم فجأة أن يطوروه بقدر أكبر، فبدا أكثر تأثرا بالمعمار الديني.»
قال جورج مسرورا: «هراء. اعذريني. أعرف أن هذه دعواهم، لكن القوس المدبب في حقيقة الأمر أقدم الأقواس على الإطلاق. وهو الأيسر في بنائه أيضا؛ ولا يعتبر تطورا للقوس الدائري أبدا، هل يعقل أنه كان كذلك؟ فقد كانت هناك أقواس مدببة في مصر. القوس الدائري، وأعني قوس إقليد العقد، هو القوس الأكثر تطورا الذي يمكن بناؤه. الرواية كلها منقولة بشكل محرف محاباة للمسيحية.»
قالت روث: «ربما كان متطورا، لكنني أجده كئيبا. أراها محبطة جدا تلك الأقواس الدائرية. فهي رتيبة الشكل؛ فتراها تتكرر مرارا وتكرارا، فلا ترفع روحك المعنوية تحديدا.»
قالت كمبرلي: «لا بد أنها عبرت عن رغبة دفينة داخل الناس. وبالكاد يسعنا أن نسمي هذه الظاهرة موضة عابرة. فقد بنى الناس هذه الكاتدرائيات، ولم يمل أي مهندس معماري مخططها عليهم.» «هذا مفهوم خاطئ؛ فقد كان لديهم مهندسون معماريون. وفي بعض الحالات، تمكنا حتى من معرفة هوياتهم.»
قالت فاليري: «ومع هذا، أعتقد أن كمبرلي على حق؛ ففي هذه الكاتدرائيات يشعر المرء بقدر كبير من طموحات هؤلاء الناس، ويحس بالطابع المسيحي في المعمار.» «بغض النظر عن مشاعرك، تبقى حقيقة واحدة وهي أن الصليبيين جلبوا معهم فكرة القوس المدبب من العالم العربي، تماما مثلما جلبوا عشق الأطعمة الحريفة. فلم تبتكر الأقواس عن طريق اللاوعي الجمعي تقديسا للمسيح بالنحو نفسه الذي خلقت به. لقد كان هذا هو الطراز المعماري الأحدث. والأمثلة الأولى عليه تتجلى في إيطاليا، وبعد ذلك شقت طريقها شمالا.»
احمرت كمبرلي خجلا، لكنها مع ذلك ابتسمت على استحياء. وشعرت فاليري، بسبب كراهيتها الشديدة لكمبرلي، بضرورة أن تقول أي شيء مهما كان لإنقاذها من الموقف. لا بأس بالنسبة لفاليري أن تبدو سخيفة في أعين الآخرين؛ فهي على أتم استعداد أن تزج بنفسها في أي حوار لإخراجه عن مساره الجدلي لمجرد أن تحمل الناس على الضحك وتلطف الأجواء. وتتمتع روث بمهارة تلطيف الأجواء أيضا، مع أنها تفعل ذلك بلا تعمد ولكن بهدوء وبمحض الصدفة تقريبا، نتيجة التزامها الشديد بتسلسل أفكارها. ماذا عن ديفيد؟ في تلك اللحظة، كان ديفيد منشغلا بأنجيلا، ولم يكن منتبها كعادته. وكانت أنجيلا بصدد اختبار قدراتها؛ ولا مانع عندها أن تختبرها على ابن عمتها الذي عرفته منذ نعومة أظافرها. فحدثت روبرتا نفسها بأن كمبرلي تتعرض لهجوم من جبهتين. لكنها ستتدبر أمرها؛ فهي قوية بالقدر الذي يسمح لها بالحفاظ على ديفيد من أنجيلا ومثيلاتها، والاحتفاظ بابتسامتها إزاء هجمة جورج على معتقداتها. هل تتكهن ابتسامتها بكيف سينهار؟ هذا مستبعد. فهي تتكهن بكيف سيتعثرون جميعا ويضيعون في متاهات، ويعرقل الواحد منهم الآخر؛ ما مغزى الفوز بالنقاش على أية حال؟ بالنسبة لكمبرلي، تحقق النصر لها في كل النقاشات بالفعل.
وإذ خطر ذلك ببال روبرتا، شعرت بالرضى والارتياح بعد أن استدرجتهم جميعا إلى هذا الدرب. لقد أنقذتها اللامبالاة. أهم شيء أن تتعامل بلامبالاة مع جورج - هذه هي النعمة العظيمة. لكن لامبالاتها تتجاوزه إلى الآخرين؛ فهي لامبالاة سخية تمس الجميع. روبرتا ثملة بالقدر الكافي الذي يجعلها ميالة للإفصاح عن بعض اكتشافاتها. قد تقول لفاليري: «التغاضي عن الجانب الجنسي لا يكفي.» لكنها ما زالت واعية بالقدر الكافي الذي يجعلها تلتزم الصمت.
حملت فاليري جورج على الحديث عن إيطاليا. وشرعت روث وديفيد وكمبرلي وأنجيلا في التحدث عن شيء آخر. وسمعت روبرتا صوت أنجيلا وهي تتحدث بنفاد صبر وتسلط، وبشوق وخجل لم يستشعرهما إلا هي.
قالت أنجيلا: «الأمطار الحمضية ...»
وحينها وجهت إيفا ضربة لطيفة بأصابعها على ذارع روبرتا سائلة إياها: «فيم تفكرين؟» «لا أعرف.» «يستحيل ألا تعرفي. فيم تفكرين؟» «أفكر في الحياة.» «ماذا عن الحياة؟» «عن الناس.» «ماذا عن الناس؟» «عن الحلوى.»
ضربتها إيفا ضربة أقل رقة، مقهقهة: «ماذا عن الحلوى؟» «لا بأس بها.»
لاحقا، سنحت الفرصة لفاليري أن تصرح بأنها لم تولد في القرن التاسع عشر، على عكس ما يظن ديفيد، الذي يقول إن كل من ولدوا في هذه البلدة قبل الحرب العالمية الثانية إنما نشئوا فعليا في القرن التاسع عشر، وإن أسلوب تفكيرهم عتيق.
قالت فاليري: «إننا أكثر من أن نكون نتاجا لنشأتنا فحسب، كما تأمل أنت نفسك يا ديفيد.» وأضافت أنها كانت تنصت إلى كل الحوارات الدائرة حول التكدس السكاني والكارثة البيئية والكارثة النووية، والكوارث التي تقع هنا وهناك وتدمر طبقة الأوزون - ظلت الكوارث حديث المدينة سنوات طويلة - ولكن ها هم يجلسون معا، أصحاء جميعا، وعلى قدر نسبي من السلامة العقلية، يتناولون عشاء شهيا، ويحتسون خمرا لذيذة في الريف البديع الذي لم تطله يد الفساد.
قال ديفيد: «كان شعب الإنكا يتناول الطعام في أطباق ذهبية في الوقت الذي كان بيثارو يحط بسفنه على الشاطئ.»
قالت كمبرلي: «لا تتحدث وكأن الحل مستحيل.»
قالت روث بنبرة حالمة: «أعتقد أن الدمار حل بنا بالفعل. وأعتقد أن لدينا جميعا مفارقات تاريخية. لا، ليس هذا ما أعنيه. أعني أننا أطلال. بشكل أو بآخر نحن بالفعل أطلال.»
رفعت إيفا رأسها من بين ذراعيها المطويتين على الطاولة - وغطاء وجهها الشبكي منسدل على إحدى عينيها، وقد سالت زينة وجهها فتلطخ وجهها وبدا كزهرة مرقعة - وقالت بصوت عال وحازم: «إنني لست أطلالا.» فضحكوا جميعا.
قالت فاليري: «بالطبع لا!» وبعدها شرع الجميع في التثاؤب، ونهضوا عن مقاعدهم، وتبادلوا الابتسامات الرسمية الخجولة، وانطفأت الشموع، وحان وقت العودة إلى البيت.
قالت فاليري لهم: «استنشقوا هواء النهر الآن!» وبدا صوتها بائسا ورقيقا في الظلام. ••• «قمر محدب.»
كانت روبرتا هي التي شرحت لجورج ظاهرة القمر المحدب؛ ومن هنا جاء وصفه للقمر المحدب بأنه هدية. إن بزوغه هدية لهم الآن، بينما تنطلق بهم السيارة بين حقول القمح المظلمة. «بالفعل، ها هو.»
لا ترفض روبرتا الهدية بصمت، لكنها لا تلقاها بالترحاب أيضا. إنها مهذبة؛ تتثاءب وثمة نبرة خاصة لتثاؤبها. هذا ليس تكتيكا، ولو أنها تعرف أن اللامبالاة جذابة. والواقع جذاب. بإمكان جورج أن يستشف أي زيف في تصرفاتها؛ يمكنه دائما أن يقاوم تكتيكاتها. ولذا يتعين عليها التمادي إلى النهاية، إلى حد اللامبالاة. فيشعر حينها كم صارت منعزلة وخالية من الهموم، فيتجدد حبه لها. إنها تتمتع بقوة؛ ولكن لحظة الشروع في تقييمها، تتسرب من بين يديها. هكذا حدثت نفسها وهي تتثاءب وتتذبذب بين الاهتمام واللامبالاة. وإن استطاعت، فستظل على الحد الفاصل بينهما.
انطلقت الشاحنة التي تسع حمولة من التبغ مقدارها نصف طن - وكانت تحمل جورج وروبرتا في المقدمة وإيفا وأنجيلا في المؤخرة - على طريق الامتياز الثالث لمنطقة وايموث المعروف محليا باسم تليفون رود؛ وهو طريق ممهد بالحصى وعريض وتسير عليه سيارات كثيرة. انعطفوا إليه من طريق ريفر رود الأقل رحابة الذي يمر من أمام بيت فاليري. وتقدر المسافة من منعطف طريق ريفر رود إلى بوابة بيت جورج بميلين وربع الميل تقريبا. ويقطع طريقان جانبيان طريق تليفون رود بزوايا قائمة؛ وعلى هذين الطريقين لافتتان للتوقف مكتوب عليهما: طريق تليفون رود طريق ممتد. عبرت الشاحنة التقاطع الأول بالفعل، وعند التقاطع الثاني، من جهة الغرب، ظهرت سيارة دودج طراز 1969 خضراء داكنة تنطلق بسرعة تتراوح بين 80 و90 ميلا في الساعة. كانت السيارة تقل شابين في طريق العودة من حفل ساهر إلى بيتهما في لوجان؛ أحدهما فاقد الوعي، والثاني يقود السيارة؛ بيد أنه نسي إنارة المصابيح الأمامية، وكان يسترشد في طريقه بضوء القمر.
لم يكن هناك متسع من الوقت لقول كلمة واحدة؛ لم تصرخ روبرتا، ولم يلمس جورج المكابح. عبرت السيارة الضخمة من أمامهم بسرعة البرق وكأنها ومضة مظلمة مهولة، دون أضواء، وفيما يبدو دون صوت. خرجت السيارة من حقول الذرة المظلمة وملأت الفراغ المقابل لهم تماما كما تظهر سمكة مفلطحة ضخمة أمام الناظرين على حين غرة في حوض الأسماك. لم تكن تبعد أكثر من ياردة واحدة عن مصابيحهم الأمامية، ثم اختفت، تلاشت داخل حقول الذرة على الجانب الآخر من الطريق. واصلت الشاحنة طريقها واستمر جورج في القيادة على طريق تليفون رود، ثم انعطفوا إلى الممر، وتوقفت شاحنتهم وهم جلوس فيها، وسط الساحة المقابلة للهيكل المظلم للبيت المرمم نصفه. إن ما شعروا به ليس الرعب أو الامتنان، ليس بعد. ما كان يكتنفهم هو شعور بالغرابة، بتبدل هيئاتهم، بارتقائهم في الأعالي، بانفصالهم عن الأحداث الماضية والمستقبلية؛ شأنهم شأن السيارة الشبحية والسمكة الداكنة اللون. كانت الفروع الخشنة لأشجار الصنوبر تتمايل أعلى رءوسهم، وبزغ ضوء القمر أسفل هذه الفروع فوق الحشائش الضعيفة التي تغطي حديقتهم الجديدة.
قالت إيفا موقظة إياهم: «هل لقيتما حتفكما؟ ألم نصل إلى البيت؟»
السيدة كروس والسيدة كيد
تمتد العلاقة بين السيدة كروس والسيدة كيد إلى ثمانين عاما، وتحديدا منذ روضة الأطفال التي لم يكن قد أطلق عليها هذه الاسم حينئذ، بل كانت تسمى مرحلة التعليم الأساسي. والصورة الأولى التي تحتفظ بها السيدة كروس للسيدة كيد في مخيلتها تتمثل في وقوف السيدة كيد أمام زملائها في الصف وهي تلقي عليهم قصيدة ما، عاقدة يديها خلف ظهرها، ورافعة وجهها الصغير - الذي تزينه عيناها السوداوان - لأعلى ليرتفع صوتها الذي يشي بثقتها في ذاتها. وعلى مدار السنوات العشر اللاحقة، إذا كنت ستذهب إلى أي حفل موسيقي أو أي حدث ترفيهي، كنت ستجد السيدة كيد (التي لم تكن تعرف بالسيدة كيد حينئذ، بل ماريان باذرتون)، بقصتها الداكنة الكثيفة المتدلية باتساق فوق جبينها، ومئزرها المشدود لأعلى بجناحين عريضين متيبسين ومثبتين به، تلقي قصيدة بجدارة عالية وذاكرة حديدية. وحتى ذلك اليوم، ودون أي مبرر، ينطلق لسان السيدة كيد بالشعر وهي تجلس على كرسيها المتحرك:
اليوم اقتحمنا نحن الفرنسيين راتيسبون.
أو تقول:
أين السفن التي عهدناها؟
ترسي في الميناء إبان مد خليج فوندي.
ثم تتوقف عن إلقاء الشعر لا لأن ذاكرتها تخونها، ولكن رغبة منها في أن يسألها أحد: «ما هذه القصيدة؟» أو «ألم تكن هذه القصيدة في كتاب تعليم الأدب «القارئ الثالث»؟» وهو السؤال الذي تفسره هي بأنه طلب بأن تسترسل في حديثها:
منذ نصف قرن من الزمان،
بجمال وكبرياء جليلين.
أما أول ذكرى للسيدة كيد عن السيدة كروس (دولي جرينجر)، فتتمثل في وجه مربع متورد، وثوب غير منتظم الطول؛ إذ تتدلى أطرافه من ناحية وترتفع من ناحية، وضفائر كثيفة فاتحة اللون، وصوت جهوري؛ كل هذه الصفات مجتمعة في فتاة واقفة في الملعب ذات يوم مطير، عندما احتشدت الطالبات جميعا تحت الجزء الناتئ من السطح للاحتماء من المطر. كانت الفتيات وقتها يلعبن لعبة هي في واقع الأمر رقصة، ولكن لم تكن السيدة كيد تعرف كيف تمارسها. كانت رقصة من بين الرقصات المعروفة باسم فيرجينيا، وكلمات الأنشودة التي صدحت بها الفتيات هي:
ترجنا العربة العتيقة النحاسية لأعلى ولأسفل
ترجنا العربة العتيقة النحاسية لأعلى ولأسفل
ترجنا العربة العتيقة النحاسية لأعلى ولأسفل
أنت حبي الوحيد يا حبيبي!
لم تلف أي فتاة أو تضرب الأرض بقدميها وتغني بحماس أكثر من السيدة كروس التي كانت أصغر الفتيات المسموح لهن باللعب سنا وحجما. وقد عرفت اللعبة من أخواتها الأكبر سنا. أما السيدة كيد فكانت طفلة وحيدة.
يبدو أن الشباب، الذين ينمو إلى علمهم أن علاقة السيدتين ترجع إلى ما يربو على ثلاثة أرباع قرن من الزمان؛ يتخيلون أن هذه الرفقة المديدة تعني أن كل شيء بينهما مشترك. فهاتان السيدتان هما الوحيدتان اللتان تذكران ما كان يفصل إحداهما عن الأخرى، وما زال يفصلهما نوعا ما حتى الآن: الشقة التي تقع أعلى مكتب البريد والجمارك، حيث عاشت السيدة كيد مع أمها وأبيها الذي كان مديرا لمكتب البريد؛ والمنزل المستقل الملتصق بصف من المنازل المشابهة، والمطل على شارع نيوجيت، الذي عاشت فيه السيدة كروس مع والديها وأختيها وإخوتها الأربعة الذكور، وحقيقة أن السيدة كيد كانت تتردد على الكنيسة الأنجليكانية بينما ترددت السيدة كروس على الكنيسة الميثودية، وزواج السيدة كيد في الثالثة والعشرين من عمرها من مدرس علوم بمدرسة ثانوية، وزواج السيدة كروس في السابعة عشرة من العمر من رجل يعمل على قوارب البحيرة ولم يترق أبدا لرتبة كابتن. إضافة إلى أن السيدة كروس أنجبت ستة أطفال، بينما أنجبت السيدة كيد ثلاثة فقط. توفي زوج السيدة كروس فجأة في الثانية والأربعين من عمره ولم يكن لديه تأمين على الحياة، وتقاعد زوج السيدة كيد وانتقل للعيش في مدينة جودريتش، وحصل على معاش بعد سنوات من تقلده منصب مدير المدرسة الثانوية التي تقع في مدينة قريبة. ولم تتقلص الفجوة بين الصديقتين سوى مؤخرا؛ فقد حقق أبناؤهما المعادلة؛ أبناء السيدة كروس يكسبون دخلا موازيا في المتوسط لدخل أبناء السيدة كيد، مع أنهم لم يحصلوا على تعليم مواز؛ بينما يجني أحفاد السيدة كروس أموالا أكثر.
تقيم السيدة كروس في دار هيلتوب هوم للرعاية (والترجمة العربية لاسم هذه الدار «قمة التل») منذ ثلاث سنوات وشهرين، بينما تقيم السيدة كيد فيها منذ ثلاث سنوات إلا شهرا واحدا. وتعاني كل منهما من مشكلات في القلب، وكلتاهما تتنقل على كرسي متحرك منعا لإهدار طاقتهما. وخلال حوارهما الأول في الدار، قالت السيدة كيد: «لا أرى أية قمة تل.»
أجابتها السيدة كروس: «تستطيعين رؤية الطريق السريع من هنا. أعتقد هذا هو قصدهم من تسمية الدار بهذا الاسم. أين نزلت؟» «أكاد لا أعرف ما إن كنت سأستطيع الاستدلال على طريق العودة إلى غرفتي. ولكنها غرفة جميلة بغض النظر عن مكانها. غرفة فردية لا يشاركني في أحد.» «هكذا غرفتي أيضا. لدي غرفة فردية. هل غرفتك في الجانب الآخر من غرفة الطعام أم في هذا الجانب؟» «على الجانب الآخر.» «هذا رائع! هذا أفضل جانب؛ فالجميع بصحة جيدة في هذا الجانب، وإن كانت تكلفته أعلى. كلما كانت حالتك الصحية أفضل، زادت التكلفة. يسكن غرف الجانب الآخر من غرفة الطعام أولئك الذين فقدوا عقلهم.» «المصابون بالخرف؟» «نعم، الخرف. في هذا الجانب يعيش النزلاء الأصغر سنا، الذين يعانون من حالات شبيهة بأمراض الشيخوخة. هذا مثلا.» وأومأت برأسها باتجاه رجل مصاب بالعته المغولي، في زهاء الخمسين من عمره، كان يحاول العزف على الهارمونيكا. نقرت على رأسها وأضافت: «في الجانب المخصص لنا، لدينا نزلاء أصغر سنا، لكنهم لا يعانون من أية مشكلات عقلية. مجرد مرض ما. عندما يصل الأمر بهم إلى العجز عن رعاية أنفسهم، فإنهم ينقلون إلى الدور العلوي؛ فهنالك يودعون أصحاب الحالات الحرجة. أما المجانين فهم قصة أخرى؛ حيث يحبسونهم في الجناح الخلفي. هؤلاء هم المجانين بحق. أعتقد أيضا أن ثمة مكانا مخصصا للذين يتحركون بدون مشكلات لكن يعانون من التبول والتبرز اللاإراديين طوال الوقت.»
قالت السيدة كيد بابتسامة يشوبها بعض الانزعاج: «نحن الصفوة إذن . كنت أعلم أنني سأجد الكثير من الخرفين هنا، لكنني لم أكن أتوقع أن أجد آخرين، كهذا على سبيل المثال.» وأومأت برأسها بحذر باتجاه مريض العته المغولي الذي كان يرقص أمام النافذة رقصا نقريا. وعلى العكس من أغلب المصابين بالعته المغولي، كان هذا الرجل نحيلا ورشيق الحركة، وإن كان شديد الشحوب ويبدو عليه الوهن.
قالت السيدة كروس إذ لاحظته: «إنه أسعد من أغلب النزلاء. هذا هو المكان الوحيد في المقاطعة الذي يلقى فيه بكل ذوي الحاجات. لكنك بعد فترة قليلة ستكفين عن الانزعاج.» «أكف عن الانزعاج!» •••
كانت غرفة السيدة كيد تعج بالصخور والقواقع المعبأة في صناديق وقوارير، كما كان لديها صندوق يحوي فراشات محنطة هشة، وآخر يحوي طيورا مغردة محنطة. وتحوي أرفف كتبها كتبا مثل «سراخس وطحالب أمريكا الشمالية»، و«دليل بيترسون لطيور شرق أمريكا الشمالية»، و«كيف تعرف الصخور والمعادن»، وكتاب عن خرائط النجوم. وكان صندوق الفراشات والطيور المغردة المحنطة معلقا في وقت من الأوقات في الفصل الدراسي لزوجها مدرس العلوم؛ فقد اشترى الطيور المغردة، ولكنه هو والسيدة كيد كانا يعشقان جمع الفراشات بأيديهما. وكانت السيدة كيد طالبة بارعة في علم النباتات وعلم الحيوان. ولو لم تكن تعاني مما كان يعرف أيامها بحالة صحية معتلة، لدرست علم النبات بإحدى الجامعات، مع أن قليلا من الفتيات أقدمن على مثل هذه الخطوة آنذاك. ولذا يرسل لها أبناؤها الذين يعيشون في مناطق نائية كتبا جميلة عن موضوعات يوقنون بأنها ستروق لها، لكن أغلب هذه الكتب ضخمة وثقيلة الوزن فلا تجد سبيلا لتصفحها بطريقة مريحة، فسرعان ما تطرحها في أدنى رف. ولكنها لم تكن لتعترف لأبنائها بأن اهتماماتها خبت وتلاشت إلى حد بعيد. كانوا يقولون لها في خطاباتهم إنهم يذكرون كيف علمتهم كل شيء عن عيش الغراب؛ هل تذكرين عندما رأينا فطر الأمانيت السام (ملاك الهلاك) في أدغال بيتري خلال الفترة التي عشناها في لاجون؟ وكانت خطاباتهم تفوح منها رائحة الذكريات. كان هؤلاء الأبناء الذين يجري بهم قطار العمر يريدون أن تركن أمهم إلى ما كانت عليه منذ أربعين أو خمسين عاما؛ فكان لديهم تصور عنها لا يقل عشقا وأهمية عن أي تصور لدى أي والد عن أطفاله؛ كانوا يحتفون بما تتمتع به ويسمى عند الأطفال النضج المبكر: إشراقها وعشقها للمعرفة وإلحادها (وهو السر الذي دام طوال الفترة التي كان فيها زوجها مسئولا عن تنمية عقول الصغار)، وكل الجوانب التي تختلف فيها عن أي عجوز عادية. ومن ناحيتها، كانت تشعر أن من واجبها أن تخفي عنهم الأمارات الكثيرة التي تشي بأنها ليست شديدة الاختلاف عن أقرانها؛ عكس ما يظنون.
كانت السيدة كروس أيضا تستقبل الهدايا من أبنائها، لكنها لم تكن كتبا. فأفكارهم تهديهم إلى الحلي والصور والوسادات. فمثلا، تحتوي غرفة السيدة كروس على باقة من الزهور الصناعية التي تحتوي بداخلها على مصابيح ضوئية تشع أنوارها بالتدريج لأعلى وكأنها نافورة مياه. ولديها أيضا دمية على شكل امرأة أنيقة من الجنوب الأمريكي، تشكل تنورتها المصنوعة من مادة الستان وسادة للدبابيس. ولديها صورة للعشاء الإلهي يصدر منها ضوء ليصنع هالة حول رأس المسيح (كتبت السيدة كيد - بعد زيارتها الأولى - رسالة إلى أحد أبنائها وصفت فيها الصورة، وقالت إنها حاولت أن تستنتج الطعام الذي كان يتناوله المسيح وحواريوه، وتبين لها أنهم يتناولون شطائر الهامبرجر. وكم يطيب لأبنائها سماع مثل هذه الأشياء منها). وهناك أيضا إلى جوار الباب تمثال من الجص بالحجم الطبيعي لكلب من كلاب حراسة الغنم، يشبه كلبا كان لدى عائلة كروس عندما كان الأبناء صغارا، يدعى بوني العجوز. وكانت السيدة كروس تعرف أسعار هذه الهدايا من أبنائها وتعلم الناس بها، وتقول إنها مصدومة من سعرها المرتفع.
بعد وصول السيدة كيد بفترة وجيزة، اصطحبتها السيدة كروس في زيارة إلى الدور الثاني. وقد اعتادت السيدة كروس على الذهاب إلى الدور الثاني كل أسبوعين لزيارة ابنة عمتها؛ ليلي باربر العجوز.
حذرت السيدة كروس السيدة كيد بينما كانتا تشقان طريقهما على الكرسيين المتحركين باتجاه المصعد قائلة: «ليلي ليست بصحة جيدة. وثمة شيء آخر، المكان لا يعبق برائحة عطرة مع أنهم حريصون كل الحرص على رش المكان بمعطرات الجو. إنهم يبذلون قصارى جهدهم.»
أول شيء وقعت عليه عينا السيدة كيد فور أن خرجتا من المصعد امرأة صغيرة البنية كثيرة التجاعيد شيباء الشعر شعثاء، ترتدي فستانا مغضنا حتى إنه انحسر لأعلى وكشف عن ساقيها (فأشاحت السيدة كيد بوجهها عن هذا المنظر)، وتدلى لسانها بطريقة أوحت لها أنها تعجز عن استعادته داخل فمهما. كانت الرائحة الفواحة خليطا من رائحة بول ساخن - لدرجة أن المرء قد يظن أنهم وضعوه بالفعل على الموقد - ومعطرات جو برائحة الزهور. لكن كانت هناك امرأة أخرى رقيقة المحيا تبدو عليها الحكمة والقدرة على التمييز، ترفع شعرها في شكل كعكة وترتدي مئزرا فوق ثوب وردي نظيف.
بادرت هذه المرأة السيدة كروس والسيدة كيد بأسلوب طبيعي بقولها: «حسنا، هل أحضرتما الأوراق؟»
أجابت السيدة كيد بأدب ظنا منها أنها تقصد الصحف: «أوه، إنها لا تصلنا سوى بعد الساعة الخامسة تقريبا.»
قالت السيدة كروس: «لا تعيريها انتباهك.»
قالت المرأة: «يجب أن أوقع عليها اليوم، وإلا فستقع كارثة. سيوقعونني في ورطة. لم أعرف قط أن ذلك مخالف للقانون.» تكلمت المرأة ببراعة وإقناع وثقة شديدة لدرجة أن السيدة كيد اقتنعت بأنها سوية، ولكن السيدة كروس كانت تسرع بكرسيها مبتعدة. فتبعتها السيدة كيد.
قالت السيدة كروس بعد أن أدركتها السيدة كيد: «لا تشغلي نفسك بهذا الهراء.» وفي تلك اللحظة، ابتسمت لهما مبتهجة امرأة ذات غدة درقية متضخمة لم تر مثلها السيدة كيد منذ سنوات. وكان الجميع في هذا القسم العلوي بلا أسنان.
قالت السيدة كيد: «حسبت أن تضخم الغدة الدرقية لهذا الحد قد اختفى في ظل استخدام اليود.»
كانتا تتجهان نحو صياح وصراخ.
قالت صاحبة الصوت: «جورج! جورج! جيسي! أنا هنا! تعاليا واصحباني لأعلى! جورج!»
كان هناك صوت آخر يتخلل هذه الصرخات بمرح ليقول: «سيئ، سيئ سيئ سيئ، سيئ سيئ، سيئ سيئ سيئ.»
كانت صاحبتا هذين الصوتين تجلسان حول طاولة طويلة بجوار صف من النوافذ في منتصف القاعة. وكان بجوارهما تسع أو عشر سيدات يجلسن هناك ؛ بعضهن يتمتم أو يغني بهمس لنفسه، وكانت هناك امرأة تمزق وسادة صغيرة مزركشة صنعها أحدهم، وأخرى تأكل آيس كريم مغطى بالشيكولاتة، فتعلقت كسرات من الشيكولاتة على وجنتيها، وسالت قطرات من الآيس كريم على ذقنها. لم تتطلع أي منهن من النافذة أو بعضهن على بعض. ولم تعر أيهن انتباها لصيحات «جورج وجيسي» و«سيئ سيئ سيئ»؛ تلك الصيحات التي استمرت دون هوادة.
توقفت السيدة كيد. «أين ليلي هذه؟» «إنها في آخر غرف هذا الطابق؛ فهم لا يسمحون لها بمغادرة السرير.»
قالت السيدة كيد: «حسنا، اذهبي أنت وتفقديها؛ سأعود أدراجي إلى أسفل.»
قالت السيدة كروس: «لا شيء يدعوك للاستياء؛ كلهن يعشن في عالمهن الصغير، وهن سعداء به سعادة لا توصف.»
قالت السيدة كيد: «لعلهن كذلك. لكنني لست مثلهن. أراك في غرفة الترفيه.» واستدارت بكرسيها المتحرك، وقطعت القاعة ومنها إلى المصعد حيث السيدة ذات الثياب الوردية ما فتئت تتساءل بإلحاح عن أوراقها. ولم ترجع السيدة كيد مرة أخرى إلى هذا الطابق. •••
اعتادت السيدة كروس والسيدة كيد على لعب الأوراق في غرفة الترفيه يوميا بعد الظهر. فكانتا ترتديان الأقراط والجوارب والثياب التي تليق بفترة بعد الظهيرة وتذهبان إلى هذه الغرفة، وتتبادلان الأدوار في دفع حساب الشاي؛ فكانت فترات بعد الظهيرة هذه ممتعة بصفة عامة. وكان مستواهما في لعب الورق متقاربا. أحيانا كانتا تلعبان لعبة سكرابل (تكوين الكلمات)، لكن السيدة كروس لم تأخذ تلك اللعبة على محمل الجد - على عكس لعبة الأوراق - فأصبحت تافهة وميالة للتشاحن إذ تدافع عن تكوين كلمات من اختراعها؛ ولذا، كانتا تعودان إلى لعب الورق مرة أخرى مع التركيز على لعبة رومي أغلب الوقت. كانت الحياة أشبه بالمدرسة في هذا المكان. كان لكل شخص صديق حميم يرافقه؛ فكنت ترى نفس الأشخاص يجلسون دائما معا في غرفة الطعام، والبعض لم يكن لديه رفقة على الإطلاق. •••
التفتت السيدة كروس إلى جاك لأول مرة عندما كان في غرفة الترفيه إذ كانت تلعب الورق مع السيدة كيد. كان قد أودع في الدار منذ أسبوع تقريبا . وكانت السيدة كيد تعرف بأمره.
سألت السيدة كيد: «هل ترين هذا الرجل أحمر الشعر إلى جوار النافذة؟ جاء إلى الدار بعد أن أصيب بسكتة دماغية. إنه في التاسعة والخمسين فقط من عمره. سمعت بالأمر في غرفة الطعام قبل أن تنزلي.» «مسكين. في هذه السن الصغيرة!» «من حسن حظه أنه على قيد الحياة. والداه ما زالا على قيد الحياة، ويعيشان في مزرعة. كان في زيارة لهما وفي طريق العودة أصيب بالسكتة ووجدوه مغشيا عليه ووجهه في الأرض في فناء الحظيرة. لم يكن مقيما هنا في الجوار، بل كان يعيش في المنطقة الغربية.»
قالت السيدة كروس: «المسكين! أين كان يعمل؟» «كان يعمل بإحدى الصحف.» «هل كان متزوجا؟» «لم أسمع شيئا عن ذلك. كان معاقرا للخمر، ثم انضم إلى مؤسسة إيه إيه لعلاج إدمان الكحوليات، وتغلب على إدمانه. ولكن لا يمكنك أن تثقي بكل ما يتناهى إلى مسامعك في هذا المكان.» (كان هذا صحيحا. فعادة ما كان النزلاء يتداولون قصصا عن المستجدين؛ قصصا عن الأموال التي كانوا يملكونها، أو الأماكن التي ارتادوها، أو عدد العمليات التي خضعوا لها، والأجزاء البلاستيكية البديلة التي يحملونها سواء داخل أجسادهم أو خارجها. بعد بضعة أيام، قالت السيدة كروس إن جاك كان يعمل محررا بإحدى الصحف. في البداية، سمعت أن الصحيفة في سدبري، ثم سمعت أنها في وينيبيج. وقالت أيضا إنه أصيب بانهيار عصبي نتيجة مجهود زائد في العمل؛ وهذه هي الحقيقة، فهو لم يكن مدمنا للكحوليات قط. كما قالت إنه ينتسب إلى عائلة كريمة، وإن اسمه جاك ماكنيل.)
وقتئذ، لاحظت السيدة كروس كم بدا نظيفا ومعتنيا بنفسه في سرواله الرمادي وقميصه فاتح اللون. ولكن كان ثمة شيء متكلف وغير طبيعي، على الأقل بالنسبة له؛ إذ كان أشبه بشيء أمسى لامعا من فرط تعرضه للماء. كان رجلا ضخما لكنه عجز عن أن يقيم صلبه، حتى وهو جالس في مقعده المتحرك. وكان النصف الأيسر من جسمه كله مرتخيا وشبه مشلول وخائر القوى. ولم يكن الشيب قد اشتعل في شعر رأسه وشاربه بعد، بل اكتسيا بلون بني فاتح. وكان أبيض البشرة وكأنه لم يتعرض لضوء الشمس قط.
انقطع حبل أفكارها فجأة؛ فالواعظ الإنجيلي الذي اعتاد زيارة المكان كل أسبوع لتلاوة صلواته وإنشاد التراتيل (جرى العرف أن يأتي الواعظون الأكثر خبرة تباعا واحدا تلو الآخر أيام الآحاد)، كان يجوب غرفة الترفيه وزوجته في عقبه، يغدقان البسمات والتحيات على كل من تلتقي أعينهم بعينيه. نظرت السيدة كيد لأعلى عندما مرا بها وقالت همسا ولكن بصوت مسموع: «مرحى للعالم.»
تبسم جاك الذي كان يجول بكرسيه المتحرك عبر الغرفة بطريقة خرقاء - عادة في شكل دوائر - استجابة لتعليقها. كانت ابتسامته فطنة وساخرة، ولم تتماش قط مع هيئته التي تشي بعجزه. لوحت إليه السيدة كروس أن يقترب، وتحركت هي نحوه قاطعة جزءا من الطريق لتلتقي به. عرفته بنفسها وبالسيدة كيد. ففتح فاه وقال: «أنا ... أنا ... أنا.»
قالت السيدة كروس مشجعة إياه: «نعم، ماذا؟»
كرر جاك: «أنا ... أنا ... أنا.» وضرب الهواء بيده اليمنى، وسالت الدموع من عينيه.
سألته السيدة كيد: «هل تلعب معنا الورق؟»
قالت السيدة كروس: «يجب أن أكمل هذه اللعبة. أهلا بك إن شئت أن تجلس وتشاهد اللعب. هل لعبت الورق من قبل؟»
أخرج يده اليمنى من جانبه وأمسك بكرسيها، ومال برأسه منتحبا. حاول أن يرفع يده اليسرى كي يمسح دموعه، لكنه لم يستطع رفعها إلا مسافة قصيرة ثم سقطت في حجره مرة أخرى.
قالت السيدة كروس بصوت خفيض: «حسنا.» ثم تذكرت ما يجب أن تفعله عندما يبكي الأطفال؛ تذكرت كيف كانت تخرجهم من هذه الحالة بمزاحها الساخر. قالت وهي تميل ناحيته: «كيف يمكن أن أحزر ما تقول إذا كنت تبكي؟ تحل بالصبر. تعرفت على أناس أصيبوا بالسكتات الدماغية واستعادوا قدرتهم على الكلام. نعم، تعرفت على أمثالك. يجب ألا تبكي؛ فبكاؤك لن يجدي نفعا. تمهل في النطق. هيا قل: بوو ... هوو ... هوو. بوو ... هوو ... هوو. ستجعلنا نبكي إلى جوارك - أنا والسيدة كيد - لو ظللت على تلك الحالة.»
كانت هذه هي بداية تعهد السيدة كروس جاك بالرعاية ؛ فقد ساعدته على الجلوس ومشاهدة لعبة الورق، وتجفيف دموعه، إلى حد ما، وإصدار ضجيج كبديل للكلام عوضا عن محاولاته البائسة للكلام (أنا ... أنا ... أنا). شعرت السيدة كروس بأن شعورا ما يتطور بداخلها؛ كان شعورا بقدرتها القديمة على تحمل المسئولية والرعاية، وكفاءتها في وضع الخطط التي إن طبقت كما ينبغي يستحيل أن يستشفها من تطبق عليهم.
لكن السيدة كيد تستطيع أن تستشفها.
فقالت: «لا يمكن أن أطلق على هذه لعبة الورق.» •••
سرعان ما اكتشفت السيدة كروس أن جاك يفقد اهتمامه بلعبة الورق، وأنه لا جدوى من محاولة حمله على اللعب؛ فقد كانت غايته الحوار. لكن محاولته تبادل أطراف الحديث كانت تفضي إلى البكاء والنحيب.
قالت له: «البكاء لا يزعجني. فهو ليس بالأمر الغريب علي. لكن لن ينفعك أبدا أن يصفك الآخرون بالطفل البكاء، خاصة في ظل هذا الحشد من الناس.»
بدأت تطرح عليه أسئلة يمكنه الإجابة عنها إما بالإيجاب أو النفي؛ مما أسعده وأتاح لها فرصة اختبار صحة معلوماتها.
نعم، كان يعمل في صحيفة. لا، لم يكن متزوجا. لا، لم تكن الصحيفة في سدبري. وأخذت السيدة كروس تسرد أسماء كل المدن التي تخطر على بالها، لكنها عجزت عن الوصول للمدينة الصحيحة، فصار عصبيا وحاول أن يتكلم، وهذه المرة شارفت المقاطع أن تكون كلمة، لكنها لم تستطع أن تستشفها. ألقت باللوم على نفسها لأنها لا تلم بأسماء الكثير من الأماكن. وبعدها، إذ راودتها الفكرة، طلبت منه ألا يبارح مكانه وألا يتحرك قيد أنملة، فسترجع إليه، ثم انطلقت بكرسيها المتحرك إلى الردهة ومنها إلى المكتبة. وهنالك بحثت عن كتاب يحوي خرائط. تأففت عندما نما إلى علمها أنه لا يوجد كتاب كهذا؛ لم تجد سوى قصص رومانسية وكتب دينية. لكنها لم تيأس؛ فانطلقت عبر الردهة إلى غرفة السيدة كيد؛ فمنذ أن تراجعت وتيرة ممارستهما للعبة الورق (ما زالتا تلعبان بعض الأيام، ولكن ليس كل يوم)، اعتادت السيدة كيد على تمضية فترات بعد الظهيرة في غرفتها. ووقت أن ذهبت إليها السيدة كروس، كانت في غرفتها مستلقية على سريرها، في مبذل أرجواني اللون أنيق ذي رقبة عالية مطرزة. وكانت تشعر بصداع.
سألتها السيدة كروس: «هل لديك كتاب كتلك الكتب التي تتناول الجغرافيا؟ كتاب يحتوي على خرائط.» وشرحت لها أنها تريده من أجل جاك.
سألتها السيدة كيد: «تعنين أطلس. أعتقد أن لدي واحدا. لا يمكنني أن أتذكر مكانه. يمكنك البحث في الرف السفلي. لا أتذكر الكتب الموجودة في هذا الرف.»
صفت السيدة كروس كرسيها المتحرك إلى جوار مكتبة السيدة كيد، وشرعت ترفع الكتب الثقيلة على حجرها الواحد تلو الآخر، وتطالع عناوينها عن كثب. كانت تلهث من فرط السرعة التي تحركت بها بكرسيها.
قالت السيدة كيد: «إنك تنهكين نفسك. وإن لم تجدي ما تبحثين عنه، فستشعرين بالانزعاج وسينزعج بسببك. وما الهدف من كل ذلك؟» «إنني لست منزعجة. إنهم يرتكبون جريمة بإيداعه هنا.» «جريمة؟» «رجل ذكي كهذا، ماذا يفعل هنا؟ كان ينبغي أن يودعوه في أحد تلك الأماكن التي يعلمون فيها النزلاء أشياء كاستعادة القدرة على الكلام. ما اسم هذه الأماكن؟ أنت تعرفينها. لماذا أنزلوه هنا وحسب؟ أود أن أمد له يد العون، ولا أعرف كيف. حسنا، علي أن أحاول وحسب. إذا كان فتى من فتياني يعاني مما يعانيه في مكان لا يعرفه فيه أحد، فأملي الوحيد أن تهتم به امرأة ما اهتمامي بهذا الرجل.»
قالت السيدة كيد: «إعادة التأهيل. السبب الذي دعاهم لإيداعه في هذا المكان هو أن السكتة الدماغية على الأرجح كانت أقوى من أن يساعدوه بأي شيء.»
قالت السيدة كروس متجاهلة الرد على تفسير صديقتها: «كل شيء متاح سوى كتاب خرائط. سيحسب أنني لن أرجع.» ساقت كرسيها المتحرك من غرفة السيدة كيد دون كلمة شكر أو تحية وداع. كانت تخشى أن يحسب جاك أنها لم تكن تنوي العودة، وأن قصدها مما فعلت هو التخلص منه وحسب. وكما توقعت كان قد اختفى عندما عادت إلى غرفة الترفيه. لم تعرف كيف تتصرف. كانت على وشك البكاء. فلم تكن تعرف مكان غرفته. جال في خاطرها أن تذهب إلى مكتب الاستعلامات وتستفسر. لكن المسئولات عنه كن يتكاسلن عن العمل، وفور أن تشير عقارب الساعة إلى الرابعة، كن يرتدين معاطفهن ويرجعن إلى بيوتهن، ولا يكترثن بشيء. تحركت بكرسيها باتجاه الممر ببطء وهي تتساءل كيف تتصرف، وإذا بعينيها تقعان على جاك في ممر جانبي مسدود. «ها أنت ذا! الحمد لله! لم أكن أعرف أين أبحث عنك. هل ظننت أنني لن أرجع مرة أخرى؟ سأخبرك بما ذهبت للبحث عنه. كنت سأفاجئك. ذهبت بحثا عن أحد تلك الكتب التي تحوي خرائط - ماذا تسمونها؟ - كي تستطيع أن تشير إلى المكان الذي كنت تعيش فيه. أطلس!»
كان جالسا على كرسيه المتحرك يحدق في الجدار الوردي كما لو كان نافذة. وكان الجدار يحمل مجموعة من الرفوف المكشوفة، عليها مزهرية تحوي في داخلها نرجسا بريا بلاستيكيا، وبعض التماثيل الصغيرة لأقزام وكلاب؛ وعلى الجدار أيضا ثلاث لوحات ملونة حسب الأرقام، تم عملها في غرفة الأشغال اليدوية. «صديقتي السيدة كيد لديها عدد من الكتب يفوق تلك المتاحة في المكتبة. لديها كتاب لا يتناول شيئا سوى حشرات البق، وآخر عن القمر وحسب؛ متى هبطوا عليه، وتفاصيل أخرى عن كثب. لكنها لا تملك كتابا بسيطا عن الخرائط.»
كان جاك يشير إلى واحدة من اللوحات.
سألته السيدة كروس: «إلى أي واحدة تشير؟ لوحة الكنيسة والصليب؟ لا؟ اللوحة التي تعلوها؟ لوحة أشجار الصنوبر؟ نعم؟ ماذا عنها؟ أشجار الصنوبر والغزال الأحمر؟» كان يبتسم ويلوح وبيده. كانت تأمل ألا يتحمس أكثر من اللازم ثم يصاب بخيبة أمل هذه المرة. «ماذا عنها؟ إنها تشبه الأشياء التي تعرض على شاشة التلفزيون. أشجار؟ أخضر؟ أشجار الصنوبر؟ هل تقصد الغزال؟ ثلاثة غزلان؟ لا؟ نعم؟ ثلاثة غزلان حمراء؟» حرك ذراعه لأعلى ولأسفل فقالت: «لا أعرف حقا ما تقصده. ثلاثة ... غزلان ... حمراء (بالإنجليزية: ثري رد دير). انتظر لحظة! هذا اسم مكان. لقد سمعته في نشرة الأخبار. رد دير. رد دير! هذا هو المكان! هذا هو المكان الذي كنت تعيش فيه! هذا هو المكان الذي كنت تعمل فيه في إحدى الصحف! رد دير .»
شعرا بسعادة غامرة، وأخذ هو يلوح بذراعه محتفلا بتلك اللحظة وكأنه يقود أوركسترا، ومالت هي إلى الأمام ضاحكة وضاربة ركبتيها بيديها. «أوه، ليت كل شيء كان على هيئة صور كهذه، كان من الممكن أن نستمتع بوقتنا أنا وأنت! كان من الممكن أن نمرح كثيرا، أليس كذلك؟» •••
حددت السيدة كروس موعدا لزيارة الطبيب. «سمعت عن أشخاص عانوا من سكتات دماغية عنيفة واستعادوا قدرتهم على الكلام، أليس ذلك صحيحا؟» «هذا أمر محتمل. لكنه مرهون بعدة أمور. هل يهمك أمر هذا الرجل كثيرا؟» «لا بد أن إحساسه بالعجز بشع. لا عجب أنه يبكي.» «كم من الأطفال أنجبت؟» «ستة.» «أعتقد أنك حصلت على نصيبك من القلق.»
استطاعت أن تستشف أنه لا يود أن يصرح لها بشيء. فإما أنه لا يتذكر الكثير عن حالة جاك، أو أنه يتظاهر بالنسيان.
قال الطبيب: «أنا هنا لرعاية النزلاء؛ هذه هي مهمتي، وهذه هي مهمة الممرضات أيضا؛ ولذا، دعي لنا القلق؛ فهذا ما يدفعون لنا لقاءه، أليس كذلك؟»
أرادت أن تسأله عن مدى قلقه.
كانت السيدة كروس تود أن تتحدث إلى السيدة كيد بخصوص هذه الزيارة لأنها كانت تعرف أن السيدة كيد تقول عن الطبيب إنه أبله، لكن السيدة كيد فور علمها أن جاك هو سبب الزيارة، كانت ستلقي على مسامع صديقتها تعليقات تشي بنفاد الصبر؛ ولهذا لم تكلمها السيدة كروس عن جاك. بل تحدثت مع أناس آخرين عنه، لكنها وجدتهم يملون من الحديث. لا يبالي أحد بمصيبة أحد هنا، هكذا حدثت نفسها. حتى عندما يموت أحدهم، لا يكترث أحد. أنا ومن بعدي الطوفان. ما زلت على قيد الحياة، ماذا سأتناول على العشاء؟ إنها الأنانية. فهم لا يقلون سوءا عن نزلاء الدور الثاني، كل ما في الأمر أنهم لم يظهروا سوءهم بعد.
لم تصعد للدور الثاني، ولم تبادر بزيارة ليلي باربر منذ أن رافقت جاك. •••
كان يروق لهما الجلوس في ركن الممر إلى جوار صورة الغزال الأحمر؛ المكان الذي شهد أول نجاح لهما. اتفقا على أن يكون هذا هو مكانهما الخاص حيث يمكنهما الاختلاء بعيدا عن أعين الآخرين. أحضرت السيدة كروس قلم رصاص وورقة، وأخرجت الدرج الناتئ من كرسيه وثبتته، وحاولت أن تتعرف على قدرة جاك على الكتابة. كانت شأنها شأن الكلام بالنسبة له؛ فقد كان يكتب متعجلا بعض الشيء، ويضغط على القلم حتى ينكسر سنه، ثم يبدأ في البكاء. لم يحققا أي تقدم، في الكتابة أو الكلام. كان الجهد بلا طائل. لكنها كانت تتعلم كيف تتحدث إليه بطريقة نعم ولا، وبدا لها أحيانا أنها تستطيع قراءة أفكاره.
قالت له: «لو كنت أكثر ذكاء، لنفعتك أكثر من ذلك. أليس هذا مزعجا؟ أستطيع أن أقول كل ما يدور برأسي، لكن رأسي خاو دائما، بينما يعج رأسك بالأفكار ولا تستطيع أن تفصح بشيء منها. لا عليك. سنحتسي قدحا من القهوة، أليس كذلك؟ قدح من القهوة، هذا ما تحبه. اعتدنا أن نحتسي أنا وصديقتي السيدة كيد الشاي طوال الوقت، لكنني الآن أحتسي القهوة؛ فأنا أفضلها أيضا.» ••• «إذن، أنت لم تتزوج من قبل؟ أبدا؟»
أبدا. «هل كانت لديك حبيبة؟»
نعم. «هل كانت لديك حبيبة؟ حقا؟ منذ زمن طويل؟ منذ زمن طويل أم مؤخرا؟»
نعم. «منذ فترة طويلة أم مؤخرا؟ كلاهما. منذ فترة طويلة ومؤخرا. حبيبتان مختلفتان. حبيبة واحدة؟ واحدة. المرأة نفسها. كنت واقعا في عشق المرأة نفسها لسنوات طويلة، لكنك لم تتزوجها. أوه، جاك. ولماذا لم تفعل؟ ألم يكن من الممكن أن تقبل زواجك؟ هي لم تقدر. ولم لا؟ هل كانت متزوجة حينئذ؟ كانت متزوجة؟ نعم. نعم. يا إلهي.»
تأملت وجهه لترى إن كان يؤلمه التحدث في هذا الموضوع، أم أنه أراد أن يسترسل. حسبت أنه يود أن يسترسل. كان الفضول يقتلها حيث أرادت أن تسأل عن مكان هذه المرأة الآن، لكن شيئا ما حذرها ألا تفعل. وبدلا من ذلك، بدأت تتحدث بطريقة لا تفضح فضولها الشديد. «أتساءل إن كان بإمكاني تخمين اسمها؟ هل تذكر الموقف الذي توصلنا فيه إلى مكان عملك في رد دير؟ ألم يكن هذا الموقف رائعا؟ يمكنني أن أبدأ بحرف أ ثم أنتقل إلى بقية الأبجدية لمعرفة اسم حبيبتك. آن؟ أودري؟ أنابيل؟ لا. أعتقد أنني سأتبع حدسي وحسب. جين؟ ماري؟ لويز؟»
كان اسمها بات، اختصار باتريشيا. خمنته في محاولتها الثلاثين تقريبا. «الآن، في مخيلتي، كل من اسمهن بات شقراوات. ليست سمراء. هل تدري كيف تتكون صورة في مخيلتي لأي اسم؟ أكانت شقراء؟ نعم؟ وطويلة، في مخيلتي كل من اسمهن بات طويلات القامة. أكانت طويلة؟ حسنا! كان تخميني صحيحا. طويلة وشقراء. امرأة فاتنة. امرأة جميلة.»
نعم.
شعرت بالخجل من نفسها لأنها تمنت للحظة لو كان في حياتها أحد تخبره بما عرفته عن جاك. «هذا سر إذن بيني وبينك. والآن، إذا أردت أن تكتب رسالة إلى بات، تعال إلي. تعال إلي وسأخمن ما تريد أن تقول لها وسأكتبه لك.»
لا. رسالة لا. أبدا. «حسنا، لدي سر أنا أيضا. كان لي حبيب، لكنه قتل في الحرب العالمية الأولى. رافقني ذات مرة من حفل التزلج إلى بيتي، كان حفل التزلج الذي أقامته مدرستنا. كنت في الصف الأخير من المرحلة الثانوية. وكنت أبلغ من العمر أربعة عشر عاما. كان ذلك قبل الحرب. أعجبت به وكنت أفكر فيه. ولما سمعت أنه قتل، كان ذلك بعد أن تزوجت، فقد تزوجت في السابعة عشرة من عمري، عندما سمعت أنه قتل حدثت نفسي بأن لدي شيئا أتطلع إليه الآن. يمكنني أن أتطلع للقائه في الجنة. هذا صحيح. إلى هذا الحد كنت طفولية.
ماريان كانت في حفل التزلج هذا أيضا. أتعرف من أقصد بماريان؟ السيدة كيد. كانت بالحفل، وكانت ترتدي أجمل زي تزلج على الإطلاق. كان بلون السماء الزرقاء ومؤطر بفراء أبيض وله قلنسوة. وكانت تلف على يديها أيضا فراء أبيض اللون لتدفئتهما. لم أر شيئا وتمنيت اقتناءه كفراء اليدين هذا.» •••
السيدة كروس، وهي مستلقية في الظلام ليلا قبل أن تخلد إلى النوم، كانت تراجع كل الأحداث التي وقعت مع جاك في ذلك اليوم: كيف بدت هيئته، كيف بدا لون بشرته، هل بكى وإلى متى دام بكاؤه، وكم مرة بكى، وهل كان في حالة مزاجية عصبية في غرفة الطعام، منزعجا من الحشد الكبير الذي يحيط به أم ربما لا يروق له الطعام؛ ما إذا كان قال لها عمت مساء عابسا أم ممتنا. •••
في تلك الأثناء، كانت السيدة كيد قد وجدت لنفسها رفيقة جديدة. كان اسمها شارلوت وكانت نزيلة في غرفة على مقربة من غرفة الطعام ولكنها انتقلت مؤخرا إلى الجانب الآخر من الردهة. كانت شارلوت طويلة القامة، نحيفة القد، مهذبة وجديرة بالاحترام، في منتصف الأربعينيات من عمرها. كانت تعاني من مرض تصلب الأنسجة. وأحيانا كانت تقل عنها أعراض المرض، كحالها الآن؛ فيصبح بإمكانها العودة إلى بيتها إن شاءت وإن كان لها مأوى تذهب إليه، لكنها كانت سعيدة في هذه الدار. سنوات طويلة من الحياة في مؤسسات رعاية المرضى جعلتها طفولية الطابع عطوفة وبشوشة. كانت تساعد في محل تصفيف الشعر الموجود بالدار، وكانت تعشق عملها فيه، كانت تحب أن تمشط شعر السيدة كيد وترفعه بالمشابك مشيدة بكثرة الشعر الأسود الذي لم يطله الشيب بعد. كانت تضع صبغة مؤقتة على شعرها تجعله يميل إلى الأشقر الفاتح، وتصففه لأعلى على نحو يجعله يبدو كثيفا، وتثبته على هذا النحو بمثبت الشعر. وكان بإمكان السيدة كيد أن تشم رائحة مثبت الشعر من غرفتها، وكانت تنادي عليها قائلة: «شارلوت! هل نقلوك إلى هنا كي تصيبينا بالاختناق؟»
فتضحك شارلوت مقهقهة. أحضرت هدية للسيدة كيد؛ كانت محفظة حمراء مصنوعة من اللباد، ومثبتة فيها تصميمات من أوراق شجر، وأزهار زرقاء وصفراء؛ صنعتها لها خصوصا في غرفة الأشغال اليدوية. وحدثت السيدة كيد نفسها كم كانت تلك المحفظة تشبه حامل وصفات الطعام الذي اعتاد أبناؤها أن يجلبوه إلى البيت من المدرسة بعد صنعه؛ وكان عبارة عن طبق كبير من الورق المقوى مثبت به نصف طبق بخيط لامع بحيث يتيح تثبيت ورق وصفات الطعام بينهما. لكنه لم يكن يحوي ما يكفي من أوراق وصفات الطعام ليكون ذا نفع حقيقي. كان شيئا تافها بذل فيه جهد جهيد شأنه شأن الأقمشة المطرزة بالكروشيه للإمساك بأواني المطبخ الساخنة التي يمكن أن يتعرض المرء للحرق إن استخدمها؛ ومثله مثل رأس الحصان المنحوت من الخشب وبه خطاف ليس كبيرا بالقدر الكافي لتعليق قبعة عليه.
صنعت شارلوت محافظ لبناتها المتزوجات، ولحفيدتها الصغيرة، وللمرأة التي كانت تعيش مع زوجها وأخذت اسمه. وقد كان الاثنان - زوجها وتلك المرأة - يجيئان بانتظام لزيارة شارلوت؛ وكانوا جميعا نعم الأصدقاء. كان هذا الترتيب مرضيا بالنسبة للزوج، وبالنسبة للبنات، وربما لشارلوت نفسها. ولم تكن شارلوت مخدوعة بأي شكل، والأرجح أنها استسلمت لعلاقتهما دون تذمر. بل ربما سعدت بهذه الفرصة.
قالت السيدة كروس: «ماذا تتوقعين؟ إنها شارلوت هانئة البال.»
لم يقع بين السيدة كروس والسيدة كيد أي خلاف أو فتور في علاقتهما. فما زالتا تتبادلان أطراف الحديث وتلعبان الورق. لكن استمرار العلاقة بشكلها الأول كان صعبا عليهما وقتئذ؛ فقد كفا عن الجلوس على الطاولة نفسها في غرفة الطعام لأن السيدة كروس كان عليها الاعتناء بجاك والتأكد من أنه ليس بحاجة ليد المساعدة في قطع شريحة اللحم. لم يكن يسمح لأحد غيرها بقطعها، بل كان يتظاهر بإعراضه عن الطعام ويفوت على نفسه حصته من البروتين إن لم تكن موجودة. كما أن شارلوت احتلت مكان السيدة كروس على طاولة الطعام مع السيدة كيد. ولم يكن لدى شارلوت أي مشكلة في قطع شريحة اللحم خاصتها، والواقع أنها كانت تقطع شريحة اللحم والخبز المحمص والبيض والخضراوات والكعك وأي شيء تتناوله ويسهل قطعه إلى أجزاء صغيرة قبل أن تشرع في تناول الطعام. ولأن السيدة كيد قالت لها إن أسلوبها في تناول الطعام مخالف للآداب العامة، شعرت شارلوت بالاكتئاب، لكنها كانت عنيدة واستمرت في تناول الطعام بطريقتها المعتادة.
قالت السيدة كيد للسيدة كروس عن شارلوت: «ما كنا لنستسلم بسهولة، أنا ولا أنت. ما كان ليتاح أمامنا الاختيار.» «هذا صحيح. لم تكن هناك أماكن كهذه. لم تكن أماكن جيدة. وما كانت لتساعدنا على البقاء على قيد الحياة على النحو نفسه الذي يعتنون به بشارلوت. أعني باستخدام العقاقير وما شابه ذلك. وربما أن العقاقير هي التي تجعلها تتصرف بسذاجة.»
التزمت السيدة كيد الصمت، وعلا وجهها العبوس لما وصفت صديقتها شارلوت بالسذاجة، ولو أن هذه هي الطريقة الفظة لصياغة ما كانت تحاول هي نفسها التعبير عنه. بعد لحظة من الصمت، تكلمت بلا مبالاة. «أعتقد أنها أذكى مما تظهر للآخرين.»
قالت السيدة كروس بهدوء: «لا يمكنني الجزم.»
جلست السيدة كيد ورأسها مائل إلى الأمام سارحة في أفكارها. يمكنها الجلوس هكذا لنصف ساعة بسهولة تاركة شعرها لشارلوت لتمشطه وتعتني به. هل كانت تتحول إلى واحدة من هؤلاء العجائز اللائي تطيب لهن خدمة الآخرين لهن؟ فهؤلاء العجائز بحاجة إلى من يصدرن إليه الأوامر؛ إنهن اللائي جبن العالم على متن سفن بحرية، فقد قرأت عنهن في الروايات. كن يسافرن حول العالم، وينزلن في الفنادق أو يعشن في قصور مهيبة متداعية مع وصيفاتهن. كان من السهل جدا إصدار الأوامر لشارلوت، وحملها على ممارسة لعبة سكرابل، وتوجيهها كلما سلكت سلوكا غير مستحب. وكانت شارلوت تتوق لأن تصبح خادمة لدى إحداهن. لماذا إذن كبحت السيدة كيد رغبتها في استخدامها؟ لم ترغب أن تندرج تحت فئة هؤلاء العجائز اللائي يسهل تمييزهن. علاوة على ذلك، فالخدم يكلفون أسيادهم أكثر مما يستحقون. وفي نهاية المطاف، إخلاص الناس لك ليس إلا قيد من حديد يلتف حول عنقك. إنها التوقعات؛ ولذا أرادت أن تحرر نفسها من كل هذا. أحيانا كانت تفعل ذلك بالاستلقاء على سريرها وإلقاء كل الأشعار التي تحفظها عن ظهر قلب بينها وبين نفسها، أو ذكر الحقائق التي أمسى من الصعب شيئا فشيئا البقاء عليها في ذاكرتها. وفي أحيان أخرى كانت تتخيل بيتا على حدود غابة مظلمة أو مستنقع مظلم وأمامه حقول غناء زاهية الألوان تمتد حتى الشاطئ. تخيلت أنها تعيش هناك وحدها كامرأة عجوز على صفحات قصة. •••
أرادت السيدة كروس أن تصطحب جاك معها خلال الزيارات؛ فقد حسبت أن الأوان قد آن لكي يتعلم الاندماج مع الآخرين. والآن، لم يعد يبك كثيرا في خلوتهما كما كانت عادته من قبل. لكن أحيانا أثناء تناول الوجبات كانت تخجل منه وتخبره بذلك. كان يستاء من شيء ما، وعادة لم تكن تعرف سبب استيائه، وأحيانا كان عبوسه واستياؤه يستمر حتى يضرب السكرية أو يطيح بكل الأواني التي يستخدمها على الأرض. ففكرت أنه إن استطاع أن يألف القليل من الناس كما ألفها، فسيهدأ وسيتصرف بلباقة.
في المرة الأولى التي اصطحبته فيها إلى غرفة السيدة كيد، قالت الأخيرة إنها كانت على وشك الخروج هي وشارلوت. كانتا تقصدان غرفة الأشغال اليدوية، ولكنها لم تطلب إليهما أن يرافقاها. وفي المرة الثانية التي حضرا فيها، كانت السيدة كيد وشارلوت تلعبان لعبة سكرابل؛ ولذا لم يكن هناك مفر من استقبالهما.
قالت السيدة كروس: «أتمانعين إن شاهدناكما لبرهة؟» «أوه، لا، ولكن لا تلوميني إذا أصابك الضجر؛ فشارلوت تستغرق وقتا طويلا جدا كي تتخذ قراراتها في اللعبة.» «لسنا في عجلة من أمرنا. وما من أحد ينتظرنا في أي مكان آخر. أليس كذلك يا جاك؟»
تساءلت ما إذا كان بإمكانها إقناع جاك بممارسة هذه اللعبة. فلم تكن تدرك مدى المشكلة التي يعاني منها عندما حاول أن يكتب؛ أكانت المشكلة في عجزه عن ترتيب الأحرف؟ هل هذه هي المشكلة وحسب؟ أم كان عاجزا عن تحديد كيف تصوغان الكلمات؟ ربما أن تلك هي مشكلته الأساسية.
على أية حال، كان جاك مهتما باللعبة؛ إذ دفع كرسيه إلى جوار شارلوت التي التقطت بعض الأحرف، ثم أعادتها، ثم التقطتها مرة أخرى، وأمعنت النظر فيها في يدها، وأخيرا شكلت كلمة
wind
حيث بدأت بحرف
w
الذي انتهت به كلمة
elbow
التي أتت بها السيدة كيد. فهم جاك اللعبة فيما يبدو. وكان سعيدا جدا لدرجة أنه ربت على ركبة شارلوت مهنئا إياها. فأملت السيدة كروس أن تدرك شارلوت أن بادرته كانت بدافع الود وحسب وألا تستاء.
ولكن لم يكن هناك داع للقلق؛ فشارلوت لم تكن تعرف كيف تستاء من الآخرين.
قالت السيدة كيد بوجه عبوس: «أحسنت.» وعلى الفور شكلت كلمة
demon
مبتدئة بحرف
d
الذي انتهت به كلمة شارلوت، وأضافت: «كلمة بثلاث نقاط.» ودونت النقاط: «التقطي أحرفك يا شارلوت.»
عرضت شارلوت أحرفها الجديدة على جاك، الواحد تلو الآخر، فأصدر غمغمة تنم عن تشجيعه. وراقبته السيدة كروس عاقدة الآمال على ألا يحدث شيء يعكر مزاجه ويفسد المودة التي يبديها. لم يعكر شيء صفوه، لكن أثره على قدرة شارلوت على التركيز لم يكن إيجابيا.
سألته شارلوت: «هل تريد أن تساعدني؟» وقامت بتحريك اللوح الصغير الذي يحمل الأحرف، بحيث صار أمام كل منهما. وانحنى بشدة لدرجة أن رأسه كاد يمس كتفيها.
قال جاك وقد بدا متهللا: «أنا ... أنا ... أنا.»
سألته شارلوت مازحة: «أنا ... أنا ... أنا؟ أي كلمة هذه التي تنطق أنا ... أنا ... أنا؟»
توقعت السيدة كروس أن يستشيط غضبا، لكنه ضحك مقهقها، وكذلك شارلوت أيضا، فأضحت مباراة في الضحك بينهما.
قالت السيدة كيد: «يا للصداقة التي نشأت بينكما!»
فكرت السيدة كروس أنه من الأفضل أن تتفادى إثارة حنق السيدة كيد إن أرادا تكرار الزيارة بصفة منتظمة.
فقالت بعذوبة: «جاك، لا تشتت شارلوت. دعها تلعب.»
ولكنها وهي تلفظ عبارتها الأخيرة، رأت يد جاك وهي تهبط على لوح لعبة سكرابل بشكل أخرق، فطاشت الأحرف في الهواء. التفت إليها وأراها نظرته القبيحة التي كانت أسوأ من أي نظرة وقعت عليها عيناها من قبل. ذهلت بل وشعرت بالرعب، لكنها لم ترد أن يرى الخوف في عينيها.
قالت: «ماذا فعلت؟ يا له من سلوك!»
أصدر صوتا ينم عن الاشمئزاز، وأطاح بلوح لعبة سكرابل وتبعثرت الأحرف كلها على الأرض، دون أن يشيح بوجهه عن السيدة كروس بحيث لا يتسلل إليها الشك في أن اشمئزازه وغضبته بسببها هي فقط. وحينئذ، أدركت أنه من المهم في هذه اللحظة أن تتحدث ببرود وحسم. هكذا يجب أن يتعامل المرء مع الأطفال أو الحيوانات؛ يجب أن تريهم أن هيمنتك على الموقف لم تتزعزع، وأنك لم تتأثر أو تنزعج من هذه التصرفات. لكنها لم تقو على النطق بكلمة واحدة، واكتنفها شعور بالأسى والصدمة وقلة الحيلة، واغرورقت عيناها بالدموع. ولما رأى دموعها ازدادت تعبيرات وجهه كرها وتوعدا كما لو كانت المشاعر التي يضمرها لها تتقد وتزداد لهيبا مع مرور كل لحظة.
في تلك اللحظات، لم تفارق الابتسامة وجه شارلوت؛ إما لأنها لم تستطع أن تخرج من حالة الضحك الهستيري التي سيطرت عليها منذ قليل، أو لأنها لم تعرف ما يمكن أن تفعل سوى الابتسام مهما حدث. فتخضب وجهها بحمرة الخجل، وبدت على محياها أمارات الأسف والتوتر.
تمكن جاك من الدوران بكرسيه بحركة عنيفة وخرقاء. ووقفت شارلوت. وحملت السيدة كروس نفسها على الكلام. «نعم، من الأفضل أن تقليه إلى مهجعه الآن. من الأفضل أن يعود لمهجعه ويهدأ ويتوب عن تصرفاته المشينة. من الأفضل أن يفعل ذلك.»
أصدر جاك صوتا ساخرا القصد منه فيما يبدو أن يوحي بأن السيدة كروس تملي على شارلوت ما كانت ستفعله شارلوت على أية حال؛ كانت السيدة كروس تتظاهر وحسب بالسيطرة على مجريات الأمور. فأمسكت شارلوت بالكرسي المتحرك، وأخذت تدفعه باتجاه الباب، وزمت شفتيها الباسمتين محاولة التركيز وهي تتجنب الاصطدام برفوف المكتبة وصندوق الفراشات المتكئ على الجدار في طريقها للخارج. ربما كان من الصعب عليها توجيه كرسيه المتحرك، وربما كان لديها مشكلة في الأفعال الانعكاسية العادية وتوازنات جسدها فلم تستطع التعويل عليها من الأساس. لكنها بدت سعيدة؛ إذ رفعت يدها لتحيتهما وأطلقت العنان لابتسامتها، وانطلقت إلى الممر. كانت تشبه تماما واحدة من تلك الدمى العتيقة، لا من النوع الذي اعتادت السيدتان كروس وكيد على حيازته، ولكن الدمى التي كانت أمهما تلهوان بها؛ دمى بأجساد طويلة رخوة، ووجوه وردية وبيضاء، وشعر مجعد مصفف على الطريقة الصينية، وابتسامات خليقة بسيدة نبيلة. ظل جاك مشيحا بوجهه؛ والجزء الذي استطاعت السيدة كروس أن تراه منه كان مضرجا بحمرة شديدة.
قالت السيدة كيد عندما رحلا: «سيكون من السهل على أي رجل أن ينال من شارلوت ما يريد.»
قالت السيدة كروس بنبرة جافة مع أن صوتها كان مرتعدا: «لا أعتقد أنه يمثل مصدر خطر كبير.»
تطلعت السيدة كيد على لوح لعبة سكرابل والأحرف المبعثرة على الأرضية كلها.
وقالت: «لن ننجح إن حاولنا جمع هذه الأحرف. إذا حاولت إحدانا أن تنحني، فسيغشى عليها.» وصدقت.
قالت السيدة كروس بعد أن أمست تتحكم في نبرة صوتها الآن: «يا لنا من عجوزين عديمتي الفائدة، ألسنا كذلك؟» «لن نحاول جمعها. عندما تأتينا الفتاة بالعصير، سأطلب إليها أن تجمعها. لا حاجة لأن نروي ما حدث. هذا ما سنفعله. لن ننحني لجمعها ونكسر أنفينا.»
أحست السيدة كروس بقلبها يخفق بشدة. كان قلبها أشبه بغراب عجوز كسيح يتخبط داخل صدرها؛ فعقدت يديها محل قلبها كي تقبض عليه.
قالت السيدة كيد دون أن تشيح بناظريها عن وجه السيدة كروس: «حسنا، إنني لم أحك لك أبدا، لا أحسب أنني قلت لك. لم أخبرك قط بما حدث عندما نهضت من السرير سريعا في شقتي، ووقعت على وجهي وأغشي علي. من حسن الحظ أن جارتي في الشقة السفلى كانت موجودة في بيتها، وسمعت صوت ارتطامي بالأرض، فاستدعت ذاك الرجل، لا أذكر ما يطلقون عليه؛ نعم، المشرف على العقار. فدلفا إلى الشقة ووجدا حرارتي منخفضة جدا، فاتصلا بالإسعاف. لا أذكر شيئا عما حدث بعد ذلك. لا يمكنني حتى أن أذكر أي شيء حدث طوال الأسابيع الثلاثة اللاحقة. لم أكن فاقدة الوعي. ليتني كنت كذلك. لكنني كنت واعية، وقلت أشياء سخيفة. هل تعرفين أول شيء استدعته ذاكرتي؟ الطبيب النفسي الذي جاء لزيارتي! كانوا قد استدعوا طبيبا نفسيا لمعرفة ما إذا كنت مختلة عقليا. لكن أحدا لم يخبرني أنه طبيب نفسي. هذا جزء من العلاج، لا أحد يطلعك على الحقيقة. كان يرتدي شيئا أشبه بسترة الجيش. كان شابا وديعا هادئا؛ ولذا، حسبته شابا عاديا جاء من الشارع.
سألني: «ما اسم رئيس الوزراء؟»
حسنا! ظننته مخبولا. فقلت له: «ومن يعبأ؟» وأدرت ظهري له وكأنني سأخلد إلى النوم، ومنذ ذلك الحين لم أنس شيئا.» «من يعبأ!»
الواقع أن السيدة كروس سمعت هذه القصة من قبل من السيدة كيد، لكن ذلك كان منذ فترة طويلة، فضحكت الآن ليس على سبيل المجاملة فقط، بل ضحكت بارتياح؛ فقد كان لوقع صوت السيدة كيد الحازم على تعاستها تأثير المخدر.
وفي خضم ضحكاتهما، طرحت السيدة كيد سؤالا سريعا وجادا. «هل أنت بخير؟»
رفعت السيدة كروس يديها من على صدرها، وسكتت لحظات. «أعتقد أنني بخير. لكنني أظن أنني في حاجة إلى الذهاب إلى غرفتي للاستلقاء.»
استشف من حوارهما أن السيدة كيد قالت أيضا: «قلبك ضعيف، لا ينبغي أن تجعليه عرضة لهذه الانفعالات.» وأجابتها السيدة كروس قائلة: «لن أغير من عاداتي، وإن كان في كلامك شيء من الصواب.»
قالت السيدة كيد: «لم تحضري بكرسيك المتحرك.» إذ كانت السيدة كروس تجلس على كرسي عادي خلال الزيارة، وكانت قد جاءت إلى الغرفة وهي تمشي الهوينى خلف كرسي جاك لمساعدته على توجيه كرسيه.
قالت: «باستطاعتي المشي إن أخذت وقتي.» «لا، ستجلسين على كرسيي وسأدفعك.» «لا يمكنك أن تفعلي ذلك.» «بل أستطيع. إذا لم أستنفد طاقتي، فسيجن جنوني بسبب الحروف المبعثرة على الأرض وما من سبيل للعب سكرابل الآن.»
رفعت السيدة كروس جسدها، وجلست على كرسي السيدة كيد المتحرك. وحينما نهضت من الكرسي العادي، شعرت بوهن شديد في ساقيها جعلها تفكر في أن السيدة كيد على حق؛ فلم تكن لتستطيع المشي عشر خطوات.
قالت السيدة كيد وهي تدل صديقتها على الطريق خروجا من الغرفة ومنها إلى الممر: «والآن.» «لا ترهقي نفسك. لا تحاولي الإسراع أكثر من اللازم.» «لا.»
قطعتا الممر، ثم انعطفتا يسارا، وشقتا طريقهما بنجاح عبر ممر منحدر قليلا لأعلى. وتناهى إلى مسامع السيدة كروس صوت أنفاس السيدة كيد. «لعلي أستطيع إكمال الطريق وحدي.» «لا، لن تستطيعي.»
انعطفتا يسارا مرة أخرى أعلى الممر المنحدر. والآن، ظهرت غرفة السيدة كروس في الأفق. كان يفصلهما عنها ثلاثة أبواب.
قالت السيدة كيد على مهل ومشددة على كلماتها كي تخفي انقطاع أنفاسها: «جل ما سأفعله الآن أن أعطيك دفعة. أستطيع أن أعطيك دفعة تساعدك على الوصول إلى باب غرفتك بالضبط.»
فسألتها السيدة كروس بريبة: «أحقا تستطيعين؟» «بلا شك. وعندئذ يمكنك الاسترخاء والاستلقاء على سريرك. خذي وقتك كما تشائين إلى أن تشعري أنك بخير. وبعدها استدعي الفتاة العاملة ، واطلبي إليها إعادة الكرسي إلي.» «ألن تصدميني بأي شيء؟» «شاهدي بنفسك.»
بعدها دفعت السيدة كيد الكرسي المتحرك دفعة محسوبة بدقة وبراعة، فتدحرج إلى الأمام بسلاسة وتوقف حيث قالت بالضبط، في المكان المناسب تماما أمام باب الغرفة. وأسرعت السيدة كروس برفع قدميها ويديها خلال هذه المرحلة الأخيرة الوجيزة من الرحلة، ثم أرختها جميعا. وأومأت برأسها إيماءة رضى واستسلام، والتفتت ودلفت إلى غرفتها دون أية مشكلة.
وفور أن توارت السيدة كروس عن الأنظار، تهاوت السيدة كيد على الأرض وجلست متكئة على الجدار، ومددت ساقيها أمامها على مشمع الأرضية البارد. ودعت ربها ألا يمر أي شخص فضولي حتى تستعيد قوتها، لتبدأ رحلة العودة إلى مهجعها.
قصص الحظ العاثر
كانت جولي ترتدي فستانا مقلما بخطوط وردية وبيضاء وتعتمر قبعة من القش بلون الصوف الطبيعي، تحت حافتها زهرة وردية. كانت القبعة أول شيء لاحظته في مظهرها بينما كانت تمشي بخطى واسعة في الشارع. لوهلة لم أدرك أنها جولي. فعلى مدار العامين السابقين، عشت لحظات من الذهول كلما التقيت أصدقائي في الأماكن العامة. فكانوا يبدون أكبر مما ينبغي. ولكن لم تبد جولي أكبر سنا، بيد أنها لفتت انتباهي بطريقة لم يسبق لها مثيل. كانت القبعة هي ما لفت انتباهي لها؛ إذ جال في خاطري أنها تعطي انطباعا أنيقا، رغم أنه لا يناسبها، وهي تغطي رأس تلك المرأة طويلة القامة صبيانية الطباع. بعدها أدركت أنها جولي، فأسرعت لتحيتها، وجلسنا حول مائدة في ظل شمسية بمطعم على الرصيف حيث تناولنا الغداء.
لم نكن قد تقابلنا منذ شهرين، وتحديدا منذ المؤتمر الذي عقد في شهر مايو. واليوم أنا في زيارة إلى تورونتو، حيث تعيش جولي.
سرعان ما أخبرتني بمجريات الأمور. بدت جميلة وهي جالسة، بملامح وجهها الرقيقة المستظلة بالقبعة، وعينيها الداكنتين اللامعتين.
قالت جولي: «هذا الأمر يجعلني أسترجع أحداث قصة ما؛ أليس ما حدث يشبه إحدى تلك القصص الساخرة التي تنطوي على تحول مفاجئ في الأحداث في نهايتها؟ تلك القصص المشهورة جدا؟ لقد اعتقدت حقا أنني جيء بي لحمايتك . لا ، لا لحمايتك تحديدا، فهذه كلمة سفيهة جدا، لكنني حسبت أن شعورا ما كان يخالجك، ولكنك توخيت الحذر، وهذا ما استدعى وجودي. ألن تصنع هذه الحبكة قصة رائعة؟ لماذا أمست هذه القصص عتيقة؟»
قلت: «لأنها بدت متوقعة أكثر من اللازم، أو لأن الناس حسبوا أن هذه ليست هي الطريقة التي تسير بها الأمور، أو أنهم تساءلوا: من يعبأ بالطريقة التي تجري بها الأمور؟»
قالت جولي: «الأمر ليس كذلك بالنسبة لي! لم يكن أي شيء متوقعا!» نظر شخص أو اثنان باتجاهنا؛ فالطاولات هنا تكاد تكون متلاصقة.
ثم عبست ودفعت القبعة لأسفل على وجنتيها، فسحقت الزهرة المتدلية على صدغها.
قالت: «لا بد أن أكون صريحة. أشعر أنني أميل إلى الرعونة والطيش الآن. كما أنني مذهلة فحسب. هل هذه القبعة سخيفة؟ لا، حقا، هل تذكرين عندما كنا نقود السيارة وأخبرتني بالزيارة التي قمت بها؟ الزيارة التي اصطحبك فيها ذلك الرجل لمقابلة الأثرياء؟ المرأة الثرية؟ تلك المرأة البشعة؟ هل تذكرين ما قلته آنذاك أن للحب نوعين، وأن منهما نوعا لا يود أحد أن يظن أنه ضيعه؟ حسنا، كنت أفكر آنذاك، هل ضيعت الحب بنوعيه؟ لم تسنح لي الفرصة حتى أن أميز بين نوعي الحب.»
كنت على وشك أن أقول «ليزلي»، وهو اسم زوج جولي.
قالت جولي: «لا تقولي «ليزلي». أنت تعرفين أن هذه العلاقة لا تهمني. ليس بوسعي شيء؛ إنها فعلا لا تهمني؛ ولذا، كنت أعد نفسي لعدم الاكتراث بها، بل والسخرية منها، ولكن خطر لي التفكير فيما يدفعني إلى الرضى بمجرد الفتات!»
قلت لها: «دوجلاس أفضل من الفتات.» «نعم، إنه كذلك.» •••
عندما انفض المؤتمر في مايو الماضي، واصطفت الحافلات أمام بوابة الفندق الصيفي بانتظار أن تقل الناس إما إلى تورونتو أو إلى المطار، دلفت إلى غرفة جولي ووجدتها تحزم حقيبة الظهر خاصتها.
قلت لها: «أمنت لنا وسيلة مواصلات إلى تورونتو، إذا كنت تفضلينها عن الحافلة. هل تذكرين الرجل الذي عرفتك به ليلة أمس؟ دوجلاس ريدر؟»
أجابت جولي: «حسنا. أصابني السأم بعض الشيء من كل هؤلاء الرجال. هل لا بد أن أتحدث معه؟» «قليلا. هو سيتكلم.»
أعنتها على ارتداء حقيبة ظهرها؛ ولعلها لا تملك حقيبة للمبيت. كانت ترتدي حذاء طويل العنق يتحمل المشي لمسافات طويلة، وسترة من القطن المتين. لم تكن تمزح بشأن ارتدائها هذا الحذاء؛ إذ كان بإمكانها العودة إلى تورونتو سيرا على الأقدام؛ ففي صيف كل عام، كانت هي وزوجها وبعض أبنائهما يقطعون طريق بروس سيرا على الأقدام. وثمة أمور أخرى تتعلق بها تتماشى مع الصورة الكلية؛ فهي تصنع الزبادي بنفسها، وكذلك الخبز الأسمر والجرانولا. قد يظن البعض أنني ربما كنت قلقة بشأن تعريفها بدوجلاس الذي كان يجنح إلى أكثر الأفكار استفزازا إذا ما تحدث أحدهم أمامه بشيء ينم عن الاهتمام بالصحة. فقد سمعته ذات مرة يخبر الناس أن الزبادي يؤدي إلى الإصابة بالسرطان، وأن التدخين مفيد للقلب، وأن الحيتان كائنات مقيتة. إنه يفعل ذلك على سبيل المزاح، ولكن بثقة شديدة ممزوجة بإضافات صادمة من عنده المقصود منها الاستهزاء والسخرية، مستخدما إحصائيات زائفة وتفاصيل مختلقة؛ ومن ثم يستشيط غضبا أولئك الذين يجادلهم أو يرتبكون أو قد يشعرون بالإساءة الشديدة، وأحيانا ما تغلب عليهم كل هذه المشاعر دفعة واحدة. لا أتذكر أنني فكرت كيف ستتعامل جولي معه، لكنني أفترض أنني لو كنت فكرت في الأمر، لجزمت بأنها لن تجد مشكلة في التعامل معه؛ فجولي ليست إنسانة بسيطة؛ فهي تتعامل بأساليب ملتوية، ودوما على علم بما تفعله وبما ترتاب فيه. ليس من السهل إذن معرفة ما ترمي إليه من خلال دوافعها.
أنا وجولي صديقتان منذ سنوات. وهي تعمل أمينة بواحدة من مكتبات الأطفال في تورونتو. ولقد ساعدتني في الحصول على الوظيفة التي أشغلها حاليا، أو على الأقل، هي التي أطلعتني على الحاجة إلى شغلها. أنا أعمل الآن سائقة لشاحنة تقل مكتبة متنقلة في وادي أوتاوا. أما عن حياتي الشخصية، فقد طلقت منذ فترة طويلة؛ ولذلك من الطبيعي أن تتحدث إلي جولي عن مشكلة تزعم أنها تعجز عن مناقشتها مع كثير من الناس. إنه سؤال في واقع الأمر أكثر من كونه مشكلة. والسؤال هو: هل ينبغي أن تحاول جولي العيش بمفردها؟ قالت لي إن زوجها ليزلي قاسي القلب وسطحي وعنيد ولا يشبعها عاطفيا، غير أنه وفي ومخلص وسامي المبادئ وضعيف. وقالت أيضا إنها لا تريده في حياتها على الإطلاق، لكنها تظن أنها ربما تفتقده أكثر مما تستطيع الاحتمال. وأخبرتني أنها لا تتوهم أن لديها القدرة على جذب أي رجل آخر، لكنها تحس أحيانا أن مشاعرها وحياتها ... إلخ، تضيع هباء.
أنصت إليها، وحدثت نفسي أن شكواها تشبه شكاوى الكثير من النساء، وحقيقة الأمر أنها أشبه كثيرا بالشكاوى التي كنت أصدع بها حينما كنت متزوجة. إلى أي مدى ستستمر هذه الأحاسيس؟ وإلى أي حد ستتعمق؟ إلى أي مدى يعتبر بذل هذه المشاعر ممارسة تحقق التوازن للعلاقة الزوجية وتبقي عليها؟ سألتها عما إذا كانت قد وقعت في الحب من قبل مع أي شخص آخر غيره، فقالت إنها حسبت أنها وقعت ذات مرة في حب شاب التقت به على الشاطئ، لكن الأمر كله كان هراء، وتلاشت مشاعرها نحوه. وخلال السنوات الأخيرة، ظن رجل أنه وقع في حبها، لكن هذه العلاقة كانت هراء أيضا ولم يتمخض عنها شيء. قلت لها إن للوحدة وجها قبيحا، ولا شك أنني نصحتها بإعادة النظر. أحسب نفسي أكثر من جولي شجاعة لأنني أقدمت على المخاطرة، بل في الواقع أقدمت على أكثر من مخاطرة. •••
تناولت أنا وجولي ودوجلاس ريدر الغداء في مطعم يقع في بناية خشبية بيضاء عتيقة تطل على بحيرة صغيرة؛ تمثل واحدة من سلسلة من البحيرات. وقتئذ، قبل أن يتم إنشاء الطريق، كان ثمة مرسى ترسو عليه قوارب البحيرة؛ إذ كانت القوارب تجلب الزوار الساعين لتمضية الإجازة آنذاك - وكذلك الإمدادات - إلى الشاطئ. كانت الأشجار تغطي الشاطئ وتحيط بجانبي البناية، وغلب عليها شجر البتولا والحور. ولم تكن أوراق الأشجار قد نمت أعلاها بعد، مع أننا كنا في شهر مايو، بل كادت كل الفروع تكون عارية إلا من نفحة من الخضار، وكأن الأخضر هو لون الهواء . وتحت الأشجار كانت هناك مئات الزهرات الثلاثية البيضاء. وكان اليوم غائما رغم محاولات أشعة الشمس النفاذ من بين السحب، وبدا ماء البحيرة متلألئا وباردا.
جلسنا في شرفة طويلة محاطة بألواح من الزجاج على مقاعد عتيقة الطراز، مختلفة لا يشبه أحدها الآخر، ومطلية بألوان زاهية تشبه كراسي المطبخ. وكنا الرواد الوحيدين هناك. وكان الوقت متأخرا إلى حد ما لتناول الغداء، لكننا تناولنا دجاجا مشويا.
قلت: «وكأننا نتناول عشاء الأحد حقا؛ عشاء يوم الأحد بعد زيارة الكنيسة.»
قالت جولي: «إنه لمكان جميل.» وسألت دوجلاس كيف تعرف على هذا المطعم.
قال دوجلاس إن الفرصة سنحت له للتعرف على الأماكن كلها؛ فقد أمضى فترة طويلة جدا في الترحال والتنقل بين أرجاء المقاطعة، حيث إنه مسئول عن جمع المواد لدار المحفوظات المحلية وشرائها، من مذكرات ورسائل وتسجيلات قديمة بأنواعها المختلفة، والتي عادة ما تهمل وتضيع أو تباع إلى غيره من القائمين على جمع المواد من خارج المقاطعة أو البلد كله. وفي عمله، كان دوجلاس يتتبع العديد من الأدلة ويعتمد على حدسه، وعندما تقع يداه على كنز ما، فإن حيازته لا تئول إليه مباشرة؛ فعادة ما يتعين عليه إقناع ملاك هذه المواد القيمة ببيعها - سواء المتحفظون أو المتشككون أو الطماعون - والتفوق على التجار الخصوصيين.
فقلت لجولي: «إنه قرصان من نوع ما فعلا.»
تكلم عن التجار الخصوصيين وسرد قصصا عن منافسيه. فأحيانا كانوا يستحوذون على مادة قيمة، ثم يحاولون بيعها له بمنتهى الصفاقة مرة أخرى، أو يحاولون بيعها لأعلى المزايدين عليها من خارج البلد؛ وهي الكارثة التي أقسم على الحيلولة دون وقوعها.
كان دوجلاس طويل القامة، وكان أكثر الناس يحسبونه هزيلا بغض النظر عن بطنه البارز الذي جد عليه حديثا ولا يتناسب مع قوامه، وربما كان مؤقتا وسرعان ما سيتلاشى. أما شعره، فكان رمادي اللون قصيرا، ربما كي يطمئن له أصحاب المذكرات العجز والمتحفظون. وبالنسبة لي، بدا دوجلاس صبياني الهيئة. لا أقصد أن أوحي بذلك بأنه رجل ذو وجه بريء متورد وخجول، بل ما خطر على بالي كان فورة الشباب الحادة والملامح المتجهمة الواثقة في نفسها، التي عادة ما نراها في صور المجندين في الحرب العالمية الثانية. كان دوجلاس واحدا من هؤلاء، وهو غض لم ينضج بعد. يا للتواضع والرضى المرسومين على تلك الوجوه المقفلة على أسرارها! الوقوع في الحب بالنسبة لهؤلاء الرجال سريع وخاص ومدهش، وكذا استعادة أنفسهم بعد حالة حب. شاهدته إذ قص على جولي قصص الذين يتاجرون في الكتب والصحف القديمة، وكيف أنهم ليسوا رجعيي التفكير وكتومين، كما أشيع عنهم في مخيلة العامة، وليسوا عجزا ثرثارين غامضين، بل هم محتالون يتمتعون بالجرأة وصفات المقامرين وثقة الرجال. وفي هذه الحالة، وكذلك في أية حالة أخرى تتجلى فيها احتمالات كسب المال، يكثر الخداع والكذب والتحايل والتنمر.
قالت جولي: «هذه هي فكرة الناس حيال أي شيء يتعلق بالكتب. وهي الفكرة نفسها التي لديهم حيال أمينات المكتبات. فلتفكرا مثلا في عدد المرات التي نسمع فيها الناس يقولون إن فلانة ليست أمينة مكتبة عادية؛ ألم تجدي في نفسك رغبة في وصف نفسك بهذه الصفة؟»
كانت جولي سعيدة وهي تحتسي خمرها، وكنت أحسب أن شعورها هذا يرجع إلى البراعة التي أبدتها في المؤتمر؛ فهي تتمتع بموهبة في المؤتمرات، ولا تمانع من أن تمد يد العون للآخرين. إن لديها القدرة على التحدث على الملأ في الاجتماعات العامة دون أن يجف حلقها أو ترتعش ركبتاها؛ فهي تعرف متى تكون نقطة النظام مطلوبة في الجلسات والاجتماعات. وتفضل نوعا ما الاجتماعات واللجان والرسائل الإخبارية. لقد عملت لدى رابطة الآباء والمعلمين والحزب الديمقراطي الجديد والكنيسة الوحدوية وجمعيات المستأجرين، ونوادي جريت بوكس (أمهات الكتب). كما وهبت جزءا كبيرا من حياتها للمؤسسات؛ فقالت إن حبها للمؤسسات ربما كان إدمانا، لكنها عندما تكون في الاجتماعات، يترسخ لديها أكثر أن الاجتماعات لها تأثيرات رائعة على الناس؛ فهي تجعلهم يشعرون بأن الأمور ليست كلها عويصة وملغزة كما تبدو.
والآن، في هذا اللقاء، تساءلت جولي من هم أمناء المكتبات العاديون؟ أين يمكننا العثور عليهم؟ في الواقع ربما يعتقد أحدنا أننا بذلنا جهدا خرافيا لمنع انتشار هذه الصورة في عقول الناس.
إذ قالت: «لكن الأسلوب الذي اتبعناه لفعل ذلك ليس محكما؛ فهي مهنة يشغلها الباحثون عن ملاذ.» وهذا لا يعني - بحسب كلام جولي - أن كل الذين يشغلون هذه المهنة يشعرون بالذعر وتعوزهم الحيوية والنشاط. على العكس تماما، فهي مهنة حافلة بالغرائب والعجائب، وشغلها الكثير من الأشخاص الاجتماعيين الواثقين في أنفسهم والذين يحبون جذب الانتباه إليهم.
قال دوجلاس: «والعوانس غريبات الأطوار.»
قالت جولي: «ومع ذلك، لا تزال تلك الصورة سائدة. لقد جاء مدير مركز المؤتمرات وتحدث مع رئيسة المؤتمر صباح هذا اليوم، وسألها إن كانت تريد قائمة بالذين غادروا غرفهم ليلا. هل تتخيلين أنهم يظنون أننا نريد أن نعرف ذلك؟»
قلت: «أليس من المفترض أن نعرف ذلك؟» «أعني رسميا. كيف يحصلون على هذه المعلومات عن الناس على أية حال؟»
قال دوجلاس: «عن طريق الجواسيس. حراس الأخلاق العامة الهواة التابعون لمؤسسة إيه جي بي إم. أنا شخصيا عضو فيها. الأمر أشبه بالعمل كمسئول عن إخلاء الأماكن وقت نشوب الحرائق.»
لم تفهم جولي حديثه، بل قالت عابسة: «أعتقد أنهم الشباب الأصغر سنا.»
قال دوجلاس وهو يهز رأسه نافيا: «حسدا منهم على الثورة الجنسية.» ثم أضاف ناظرا باتجاهي: «على أية حال، ظننت أن الأمر انتهى. ألم ينته بعد؟»
قلت: «على حد علمي.»
قالت جولي: «هذا ليس إنصافا؛ فهو لم يحدث من الأساس. لا، حقا. ليتني كنت أصغر سنا. أعني ولدت في حقبة زمنية لاحقة. لماذا لا نكون صرحاء بشأن الموضوع؟» شعرت أن هناك شيئا من العناد والإغراء في حديثها - إغراء طفولي الطابع - لكنه مع ذلك لم يبد عبثا، فقد بدا في هذه اللحظة ضروريا. ورد فعلها جعلني أشعر بالتوتر خوفا عليها. كنا نحتسي زجاجة النبيذ الثانية، وكانت قد شربت كمية تفوق ما شربته أنا أو دوجلاس.
قالت: «حسنا، أعرف أن الأمر غريب؛ فلقد أتيحت لي الفرصة مرتين في حياتي، لكن في الحالتين انتهى الأمر نهاية غير طبيعية. أعني غريبة جدا؛ لذا، أعتقد أن كلتيهما ليستا مقدرتين لي . لا، لا أعني إرادة الرب.»
قلت: «أوه يا جولي.»
قالت: «أنتما لا تعرفان القصة كاملة.»
ظننت أنها شربت حتى الثمالة فعلا، وأنني ينبغي علي فعل ما في استطاعتي للحفاظ على الطابع المرح للحوار، فقلت: «بلى أعرف. قابلت طالبا في قسم الطب النفسي بينما كنت تلقين بالكعك في البحر.»
شعرت بالسعادة عندما ضحك دوجلاس.
فسألها دوجلاس: «أحقا فعلت؟ هل كنت تلقين بكعكك في البحر؟ هل كان بشعا إلى هذا الحد؟»
أجابت جولي بأسلوبها المصطنع الساخر اللاذع: «كان لذيذا جدا، ومزخرفا جدا. كعك سانت أونر. ذلك الكعك العملاق. كان مغطى بكريمة وكستارد وزبدة اسكتلندية. لا، السبب الذي كان يدعوني لإلقائه في البحر ...» وبادرتني بالحديث قائلة: «وأعتقد أنني قلت لك ذلك من قبل، هو أنني كنت أعاني من مشكلة سرية آنذاك. كانت لدي مشكلة خاصة بالطعام. كنت حديثة الزواج، وكنا نعيش في فانكوفر بالقرب من شاطئ كيتسيلانو. وكنت من الذين يأكلون بنهم ثم يصابون بإسهال شديد. وقد كنت معتادة وقتئذ على أن أعد فطائر الكريمة وأتناولها الواحدة تلو الأخرى، أو أصنع حلوى الفدج وألتهم مقدار مقلاة كاملة منها، ثم أتناول المستردة وأحتسي الماء كي أتقيأ، أو جرعات مهولة من الملح الإنجليزي لتقيؤ الحلوى. كان أمرا بشعا؛ ذلك الشعور بالذنب. كنت أشعر بأنني مسيرة. لا بد أن هذه الحالة كانت لها علاقة بالجنس. يزعمون الآن أن ثمة علاقة بينهما، أليس كذلك؟
حسنا، ذات يوم صنعت كعكة بشعة، وتظاهرت بأنني أصنعها لأجل ليزلي، ولكن لحظة أن انتهيت من صنعها، أدركت أنني أصنعها لنفسي، كنت سأتناولها كلها في نهاية المطاف، وذهبت لكي ألقي بها في سلة القمامة، لكنني كنت أعلم أنني سأعود لأستخرجها مرة أخرى. أليس ذلك مقززا؟ ولذلك، فقد وضعت الكعكة كلها في كيس ورقي بني، وانطلقت إلى الحافة الصخرية للشاطئ، وأطحت بها في البحر. لكن هذا الشاب رآني، فرمقني بنظرة ذات مغزى، فعلمت ما كان يدور بخلده. ما أول فكرة تخطر على البال بطبيعة الحال عندما ترى فتاة تلقي بكيس من الورق البني اللون في البحر؟ اضطررت أن أقول له إنها مجرد كعكة. قلت إنني أخطأت في مكوناتها، وشعرت بالخزي لأنني أفسدتها هكذا. وبعد ربع ساعة من الحوار معه، وجدت نفسي أصرح له بالحقيقة التي لم أتخيل أنني سأفصح بها لأحد قط. قال لي إنه طالب علم نفس بجامعة كولومبيا البريطانية، لكنه تخلف عن الحضور لأنهم مؤمنون بالمدرسة السلوكية هناك. ولم أكن أعلم، لم أكن أعلم من هم أنصار المدرسة السلوكية.»
أضافت جولي باستسلام وتعجب: «وبعدها صار صديقي. لمدة ستة أسابيع تقريبا. طلب إلي أن أقرأ ليونج. وكان هذا الشاب شعره أجعد جدا يميل لونه للون جلد الفئران. وكنا نستلقي وراء الصخور ونتعانق بشدة. وكانت تلك الفترة توافق شهر فبراير أو مارس، ولم يزل الجو باردا. لم يكن يستطيع مقابلتي سوى يوم واحد في الأسبوع، وكان اليوم نفسه كل مرة. لم تتطور علاقتنا كثيرا. ذروتها، حسنا، ذروتها كانت عندما اكتشفت أنه نزيل في مستشفى للأمراض العقلية، وأن هذا هو اليوم الذي يخرج فيه للتنزه. لا أعرف ما إذا كنت قد اكتشفت هذه الحقيقة أولا، أم الندوب التي شوهت رقبته هي التي جعلتني أكتشفها. هل قلت إنه كان بلحية؟ كانت اللحية شيئا غير تقليدي بالمرة آنذاك. وكان ليزلي يمقتها. لكنه هو نفسه له لحية الآن. لقد حاول أن يقطع رقبته. لا أعني ليزلي، بل ذلك الشاب.»
قلت متأثرة: «أوه يا جولي!» مع أنني سمعت هذه القصة من قبل. إن ذكر الانتحار يشبه في نظري تلك الأحشاء التي تندفع من جرح في جسد الإنسان؛ يتعين عليك أن تعيدها إلى مكانها وتضع بعض الضمادات على الجرح بسرعة.
قالت: «لم تكن التجربة سيئة لهذه الدرجة؛ فقد كان يتعافى. وأنا متأكدة أنه تعافى. كان فتى متدفق المشاعر يعاني من أزمة ما. لكنني كنت مرتعبة جدا لأنني أحسست أنني لست ببعيدة عن الجنون أنا أيضا، خاصة في ظل شراهتي وتقيؤ الطعام وما إلى ذلك. وفي الوقت نفسه، اعترف لي بأنه في السابعة عشرة من عمره وحسب. كان قد خدعني بشأن عمره الحقيقي. وكانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر البعير؛ فكرة أنني أتسكع مع صبي أصغر مني بثلاث سنوات. انتابني شعور بالخزي. خدعته أنا أيضا إذ قلت له إنني متفهمة وإن مسألة العمر لا تهمني، وإنني سألتقي به الأسبوع التالي. وعدت إلى البيت وقلت لليزلي إنني لم أعد أقوى على العيش في شقة في الطابق السفلي، وإننا يجب أن ننتقل إلى بيت آخر. وأجهشت بالبكاء. بعدها عثرت لنا على مكان على الشاطئ الشمالي في غضون أسبوع. لم أكن لأذهب إلى شاطئ كيتس بيتش أبدا. فعندما كان أبنائي صغارا، وكنا نصحبهم إلى الشاطئ، كنت أصر دوما على الذهاب إلى شواطئ سبانيش بانكس أو شاطئ أمبلسايد. ترى ماذا حل به؟»
قلت: «لعله بخير؛ لعله أمسى عالما نفسانيا مشهورا يمشي على خطى يونج.»
قال دوجلاس: «أو عالما نفسانيا مشهورا متبعا للمدرسة السلوكية، أو معلقا رياضيا. ولكن لا يبدو عليك الآن أنك تناولت كميات مبالغا فيها من فطائر الكريمة.»
قالت: «لقد تغلبت على شراهتي. أعتقد عندما حبلت. الحياة عجيبة جدا.»
صب دوجلاس بقية النبيذ بأسلوب رسمي.
قال لجولي: «قلت مرتين، هلا تخبريننا بالمرة الثانية؟»
جال في خاطري أن الأمور تسير على ما يرام؛ فهو لم ينفر منها، ولم يتسلل إليه الشعور بالسأم، بل راقت له. كنت أراقب ردود أفعاله وهي تتكلم، وأتعجب: ما السبب وراء هذا الشعور بالتوتر كلما عرفنا رجلا بصديقة لنا؟ لم هذا التوتر حيال ما إذا كان الرجل سيشعر بالضجر أو التأفف منها؟
قالت جولي: «المرة الثانية كانت أكثر غرابة. على الأقل لم أفهمها بالقدر الكافي. لا يجب أن أعبأ بسرد تلك القصص السخيفة، لكن أما وقد أخبرتكم عنها، أعتقد أنني سأمضي قدما. حسنا، هذه القصة حيرتني تماما. وقعت أحداثها في فانكوفر أيضا، ولكن بعد الأولى بسنوات. كنت قد انضممت إلى ما عرف باسم مجموعة علاج جماعي. كانت نوعا من العلاج الجماعي للتعساء الحيارى الذين يعيشون حياة طبيعية. كانت هذه المجموعات موضة رائجة آنذاك، وكان مقرها على الساحل الغربي. وخلال هذه الجلسات، كانت تجرى حوارات عديدة حول التخلص من الأقنعة التي يتخفى وراءها الناس، وتقارب بعضنا من بعض؛ الأمر الذي يستخف به، لكني أظن أن نفعه كان أكثر من ضرره. كانت التجربة جديدة نوعا ما. لا بد أنني أبدو في نظريكما وكأنني أحاول أن أبرر انضمامي إليهم. وكأنني أزعم أنني كنت أصنع مشغولات المكرمية اليدوية منذ 15 عاما، قبل أن تمسي موضة رائجة، بينما في الواقع لم يكن ثمة ضرورة لأن يصنع أحد هذه المشغولات في أي وقت من الأصل.»
قال دوجلاس: «لا أعرف ما المكرمية من الأساس.»
قلت: «هذا أفضل ما في الموضوع.» «كان رجلا يدعى ستانلي من كاليفورنيا، وكان يدير العديد من هذه المجموعات. لم يكن ليعترف بأنه يديرها. كان لا يحب أن يلفت الانتباه، لكنه كان يحصل على مقابل مادي. كنا ندفع له لقاء خدماته. كان طبيبا نفسانيا. وكان شعره أسود طويلا ومجعدا وجميلا، وبالطبع كانت له لحية أيضا. لكن اللحى لم تكن رائجة آنذاك. كان يقتحم المكان بطريقة خرقاء تلقائية. وكان يقول: «حسنا، سيبدو الأمر جنونيا بعض الشيء، لكنني أتساءل ...» كان لديه أسلوب يوحي للآخرين بأنهم أذكى منه. كان صادقا جدا. كان يقول: «إنك لا تدركين كم أنت جميلة!» لا، لا أستطيع أن أجعله يبدو صادقا. لا بد أن كلماته كانت أكثر تعقيدا من ذلك. على أية حال، سرعان ما أرسل لي خطابا. أقصد ستانلي. كان تقديرا لسماتي العقلية والجسدية والروحانية، واعترف أنه وقع في حبي.
تعاملت مع الموقف بنضج شديد. أرسلت إليه ردا قلت فيه إنه بالكاد يعرفني. فجاءني رده أنه يعرفني حق المعرفة. وبعدها اتصل بي هاتفيا واعتذر عن إزعاجه لي. قال إنه لم يستطع أن يمنع نفسه من الاعتراف بحبه لي. وسألني إن كان بالإمكان أن نحتسي قدحا من القهوة معا. لا بأس. احتسينا القهوة معا أكثر من مرة. كنت أتحدث بأسلوب مرح، بينما كان هو يقاطعني بين الفينة والأخرى ليتغزل في جمال حاجبي. وذات مرة، تساءل كيف تبدو حلمتاي. لدي حاجبان عاديان جدا . توقفت عن احتساء القهوة معه، فبات مولعا بالتربص بالقرب من بيتي في شاحنته القديمة. حقا أقول. كنت إذا خرجت للتسوق في السوق المركزية، فإذا به إلى جواري يرمق منتجات الألبان التي اشتريتها بتعبير وجهه الكئيب. أحيانا ما كانت تصلني منه ثلاث رسائل يوميا: قصائد شعرية عني وعن أهميتي بالنسبة له، واعترافات بانعدام ثقته في نفسه، وكيف أنه لم يكن يود أن يمسي معلما نفسيا، وكم أنني مناسبة له لأنني متحفظة وسديدة الرأي. يا للعبث! كنت أعلم أن الأمر كله سخيف، لكنني لن أنكر أنني أدمنته بشكل أو بآخر. كنت أعلم التوقيت الذي يأتي فيه ساعي البريد بالضبط. وقررت أنني لست عجوزا لدرجة تمنعني من التحرر بعض الشيء.
بعد حوالي نصف العام على بدء تودده إلي، اتصلت بي هاتفيا امرأة أخرى تنتمي إلى مجموعتنا. وأخبرتني أن الأمور اتخذت منحنى كارثيا؛ فقد اعترفت امرأة أخرى في واحدة من المجموعات العلاجية لزوجها بأنها على علاقة حميمية بستانلي. فثارت ثائرة الزوج الذي لم يكن عضوا في المجموعة، وتسربت القصة، ثم كشفت أكثر من امرأة أخرى القصة نفسها، واعترفن بأنهن كن على علاقة حميمية بستانلي، وسرعان ما اختفى شعورهن بتأنيب الضمير، وكأنهن كن ضحايا للشعوذة. واتضح أنه كان منظما جدا في علاقاته؛ فكان يختار امرأة واحدة من كل مجموعة. وكانت لديه عشيقة من مجموعتي؛ ولذا من المفترض أنني كنت خارج حساباته. وكن دوما زوجات، فقد كان يتفادى العزباوات اللائي قد يسببن له الإزعاج. كان لديه تسع عشيقات. حقا، تسع عشيقات.»
قال دوجلاس: «رجل حياته حافلة!»
قالت جولي: «هكذا كانت ردة فعل كل الرجال. كلهم ضحكوا سرا. عدا الأزواج طبعا. عقد اجتماع رسمي نوعا ما لمجموعة من الأشخاص في بيت إحدى السيدات. وكان لديها مطبخ رائع تتوسطه منضدة لتقطيع الطعام، وأذكر أنني تساءلت في نفسي إن كان قد طارحها الغرام عليها. كان الجميع أهدأ من أن يعترفن بصدمتهن حيال جريمة الزنى أو ما شابه ذلك؛ ولذا قلنا إننا مستاءات جدا من خيانة ستانلي لثقتنا. والواقع أنني أعتقد أن بعض النساء شعرن بالاستياء لأن اختياره لم يقع عليهن. قلت ذلك على سبيل المزاح. ولم أنبس ببنت شفة لأحد عن الطريقة التي كان ستانلي يتصرف بها معي. وإذا كانت هناك أية امرأة أخرى تحظى بالمعاملة نفسها التي عاملني بها ستانلي، فهي لم تعترف أيضا. بعض النساء اللائي وقع اختياره عليهن أجهشن بالبكاء. وبعدها أخذن يواسين بعضهن البعض ويقارن علاقته بهن. يا له من مشهد! كلما أذكره أتعجب. وكنت حائرة جدا. لم أستطع أن أتخيل ما حدث. كيف يمكن لأحد أن يتخيله؟ فكرت في زوجة ستانلي. كانت فتاة جميلة طويلة الساقين، وعصبية نوعا ما. التقيت بها بضع مرات وحدثت نفسي: ليتك تعرفين ما يلقيه زوجك على مسامعي! والنساء الأخريات أيضا التقين بها وحدثن أنفسهن بما حدثت به نفسي. ولعلها كانت تعرف بأمرهن جميعا، تعرف بأمرنا جميعا. ولعلها كانت تحدث نفسها قائلة: ليتك تعرفين أن هناك الكثير سواك. هل هذا ممكن؟ قلت له ذات مرة إن الأمر كله عبث، فقال: لا تقولي ذلك، لا تقولي ذلك لي! حسبته سيبكي. ما تفسيركما للموقف إذن؟ الحماس الذي يتقد به. لا أعني الجزء المتعلق بالعلاقة الحميمية. فهذا أقل ما يعنيني بشكل أو بآخر.»
تساءل دوجلاس: «هل نال منه الأزواج؟» «واجهه وفد منهم. ولم ينكر شيئا. قال إنه تصرف بحسن نية وبدوافع خيرية، وإن حبهم للتملك والغيرة هما المشكلة. لكنه اضطر أن يغادر المدينة بعد أن تداعت مجموعاته الواحدة تلو الأخرى. رحل هو وزوجته وأطفاله الصغار عن المدينة في شاحنته، لكنه أرسل إلينا فواتير. الجميع استلموا فواتيره. النساء اللائي كن على علاقة حميمية به ومن سواهن. حصلت على فاتورتي الخاصة. وكف عن إرسال الخطابات، واكتفى بالفواتير. دفعت له. وأعتقد أن أغلبهن دفع. لم يسعني إلا التفكير في زوجته وأطفاله.
حسنا، كما ترون. إنني لا أجذب سوى غريبي الأطوار. وهذه ميزة لأنني كنت متزوجة خلال تلك العلاقات العابرة ولم أتخل عن عفتي بغض النظر عن أي شيء قد أكون قلته. لا بد أن نحتسي قهوة الآن .» •••
سلكنا بسيارتنا الدروب الخلفية في الريف الرملي البائس جنوبي بحيرة سيمكو. كانت الرياح تهب فتطيح بالحشائش على الكثبان الرملية. لم نر سيارة أخرى تقريبا على الطريق. أبرزنا خارطة الطريق لنرى موقعنا عليها، وسلك دوجلاس دربا جانبيا ليقودنا عبر قرية حيث كاد يعثر على مذكرات قيمة جدا. أرانا البيت الذي كان يحوي المذكرات. ثمة عجوز أضرمت النيران في المذكرات - أو هكذا زعمت - لأن أجزاء منها كانت فاضحة.
قال دوجلاس: «إنهم يخشون أن يفضحهم الجيل الثالث والرابع.»
قالت جولي: «على عكسي تماما. أنا لا أعبأ بفضح علاقاتي الغرامية السخيفة غير المكتملة.»
فأنشد دوجلاس: «الظهر والجانب عاريان، عاريان، والقدم والذراع باردتان ...»
قلت: «أستطيع أن أكشف عن أسراري؛ فهي ليست مسلية على أية حال.»
قال دوجلاس: «هل سنجازف بالاستماع إليها؟»
قلت: «ولكنها مثيرة. كنت أفكر عندما كنا في المطعم في زيارة قمت بها بصحبة رجل كنت أحبه. كان هذا قبل وصولك إلى تورونتو يا جولي. كنا بصدد زيارة بعض أصدقائه الذين يملكون بيتا على التلال الواقعة على جانب مقاطعة كيبك من نهر أوتاوا. لم أر قط بيتا مثله. كان أشبه بسلسلة من المكعبات الزجاجية التي تربطها سلالم منحدرة ومصاطب. وكان صديقاه هما كيث وكارولاين؛ زوجين ولهما أطفال لكننا لم نرهم. لم يكن الرجل الذي كنت برفقته متزوجا، بل لم يكن متزوجا منذ فترة طويلة. وفي طريقنا إليهما، سألته عن حال كيث وكارولاين، فقال إنهما ثريان. قلت له إن هذا ليس بوصف شاف. فقال إن المال مال كارولاين ورثته عن أبيها الذي كان يملك مصنعا للجعة. وأشار إلى المصنع. ثمة شيء غامض في الطريقة التي نطق بها كلمة «أبيها» جعلني أتخيل أمارات الثراء عليها، كما تخيلها هو، كالرموش الطويلة أو الصدر الناهد، جعلني أتخيله وكأنه شيء مادي يشي بالرفاهية. فالمال المتوارث يمكن أن يجعل المرأة تبدو غنيمة وكنزا يرام، على خلاف المال الذي تجنيه بنفسها الذي يبدو مبتذلا وعاديا. لكنه قال إنها عصبية جدا. سافلة. أما كيث فمسكين ومخلص يعمل لصالح الحكومة في منصب يعاون فيه مساعدي الوزير، ولكنني لم أكن أعرف شيئا عن هذا المنصب.»
فقالت جولي: «مساعد وكيل وزارة.»
وأردف دوجلاس: «حتى القطط والأطفال يعرفون هذا المنصب.»
قالت جولي: «أشكرك.»
كنت أجلس في وسطهما، ناظرة إلى جولي معظم الوقت كلما تحدثت. «قال إنه يروق لهما استضافة بعض الأصدقاء خارج دائرة الأثرياء والعاملين بالحكومة؛ أناس يريانهم غريبي الأطوار أو مستقلين أو ذوي نزعة فنية، وأحيانا ما كانا يدعوان فنانا معدما ليمسي لعبة في يد كارولاين تثير غضبته وتتباهى وتتفاخر بجودها وسخائها معه.»
قالت جولي: «من الواضح أنه لم يكن يحب صديقيه كثيرا.» «لا أستطيع أن أجزم بما إذا كان يفكر في الأمر بهذه الطريقة. أعنى مسألة الحب أو الكره. توقعت أن يكون لمظهرهما هيبة، أو على الأقل هكذا توقعت أن أرى الزوجة، لكنهما كانا صغيري الحجم. وكان كيث دقيقا ومضيافا جدا، وكان النمش يغطي يديه؛ أذكر يديه لأنه دائما كان يقدم لنا الشراب أو الطعام أو وسادة لنتكئ عليها بنفسه. أما كارولاين، فكانت صغيرة البنية للغاية، ذات شعر طويل ناعم، وجبهة بيضاء بارزة، وكانت ترتدي ثوبا قطنيا رمادي اللون له قلنسوة خاصة به. ولم تضع على وجهها زينة بالمرة. شعرت بضخامتي وصراخة هيئتي إلى جوارها. وبينما تبادل الرجلان أطراف الحديث عن البيت، وقفت هي وحنت رأسها ولم تكد يداها تظهران من كمي ثوبها. كان البيت جديدا. وبعدها قالت بنبرة صوتها الواهن كم كانت تحب الشتاء حيث يتجمع الجليد بالخارج، ويفرش سجادا أبيض على الأرض وتكتسي قطع الأثاث بالبياض. بدا لي أن كيث شعر بالإحراج منها، وقال إن ما تصفه أشبه بملعب سكواش، وإن كلامها يفتقر إلى الإدراك السليم. انتابني شعور بالشفقة عليها لأنها كانت على وشك أن تجعل من نفسها أضحوكة. بدت وكأنها تتوسل للآخرين أن يشعروها بالطمأنينة، ومع ذلك بدا أن طمأنة الآخرين لها تنطوي على شيء من الزيف والنفاق. هكذا كانت طبيعتها؛ حالة من التوتر الشديد تكتنفها. وبدا أن كل موضوع يطرح على مائدة الحوار يقع في حبائل سخائها العاطفي ونفاقها . حتى إن الرجل الذي كنت بصحبته أصبح فظا جدا معها، واعتبرت سلوكه دنيئا. حدثت نفسي أنها حتى لو كانت مدعية، فهذا دليل على أنها تفتقر لشعور ما، أليس كذلك؟ ألا يفترض أن يمد لها المحترمون يد المساعدة؟ كل ما في الأمر أنها لا تعرف فيما يبدو كيف تلتمس مساعدة الآخرين.
جلسنا خارج البيت على مصطبة نحتسي الشراب، وحينها ظهر الرجل الذي استضافاه في منزلهما. كان فتى يدعى مارتن في أوائل العقد الثالث من عمره، أو لعله أكبر سنا. كان يتحلى بأسلوب راق جدا. طلبت منه كارولاين بطريقة متذللة جدا إن كان بإمكانه أن يجلب بعض البطانيات - إذ كان البرد قارصا على المصطبة - ولما ذهب قالت إنه كاتب مسرحي. قالت إنه كاتب مسرحي بارع بحق، لكن مسرحياته غلب عليها الطابع الأوروبي أكثر من اللازم فلم تلق نجاحا هنا. كانت مسرحياته كثيرة جدا ولاذعة للغاية. كثيرة ولاذعة. وبعدها قالت: وا أسفاه على حال المسرح والحال التي وصل إليها الأدب في بلدنا! ألسنا في حال يرثى لها؟ إنه زمن التوافه. فحدثت نفسي بأنها يجب ألا تعرف أنني من المساهمين في هذة الحال المؤسفة، لأنني كنت أعمل آنذاك محررة مساعدة بمجلة صغيرة؛ مجلة ثاوزاند أيلاندز، وكنت قد نشرت قصيدة أو اثنتين. لكنها سألتني حينئذ إن كان بالإمكان أن أعرف مارتن على بعض الأشخاص البارزين الذين تعرفت عليهم من خلال عملي في المجلة. يا له من تحول سريع في نبرة هذا الصوت الخفيض الحساس البائس من الإهانة إلى طلب معروف! بدأت أظنها سافلة فعلا؛ عندما رجع مارتن والبطانيات معه، غمرتها حالة شديدة من الارتعاش كانت متكلفة، وشكرت له كثيرا وكأنها على شفير البكاء. ألقى ببطانية عليها، وبهذه الطريقة علمت أنهما عاشقان. أخبرني الرجل الذي كنت برفقته أن لها عشاقا. وعلى حد تعبيره تحديدا، كانت كارولاين شرهة جنسيا. سألته إن كان طارحها الغرام من قبل، فقال نعم منذ فترة طويلة. أردت أن أسأله عن كرهه لها، وإذا كان هذا الكره قد شكل عائقا أمام علاقتهما الحميمية ، لكنني أدركت أنه سؤال ساذج جدا.
طلب مني مارتن أن أتمشى معه. نزلنا عددا كبيرا من درجات السلم، وجلسنا على مصطبة بجوار المياه، واتضح لي أنه شخص خبيث. كان يحقد على بعض الناس الذين زعم أنه يعرفهم في المسرح في مونتريال. وقال إن كارولاين كانت بدينة، وبعد أن فقدت وزنها، لزم الأمر أن تخضع لعملية تجميل لبطنها لأن الجلد ترهل بشدة. فاحت من مارتن رائحة خانقة؛ كان يدخن تلك السجائر الصغيرة. بدأ الشعور بالأسى على كارولاين يطغى علي مرة أخرى. هذا ما يتعين على المرء أن يتحمله لقاء نزواته ورغباته. إذا لزم الأمر أن تتخذي عشيقا من عباقرة عالم الأدب، فهذا الرجل مثال على من ينتهي بك الأمر إلى معاشرتهم. وإذا كنت مزيفة، فالأرجح أن تقعي في شرك من هم أكثر منك زيفا. هذه هي الأفكار التي كانت تجول برأسي.
حسنا، لننتقل إلى العشاء. احتسينا الكثير من النبيذ الذي تبعه البراندي. لم يكف كيث عن ضيافتنا، لكن لم يشعر أحدنا بالاسترخاء؛ إذ كان مارتن ساخرا بطريقة لاذعة وواضحة، محاولا الانتصار على الجميع في النقاشات المطروحة، ولكن كارولاين كانت حادة بطريقة مهذبة جدا؛ فكانت تتناول كل موضوع وتحرف مسار الحديث ليبدو من تحادثه غبيا. وفي نهاية المطاف، اشتبك مارتن والرجل الذي كنت برفقته في جدال حاد وبذيء جدا لدرجة أن كارولاين طفقت تتململ وتئن. نهض الرجل الذي كنت برفقته، وقال إنه سيخلد إلى النوم، وسكت مارتن عن الحديث عابسا، أما كارولاين فبدأت تتعامل على حين غرة بود مع كيث حيث شاركته احتساء البراندي متجاهلة مارتن بالمرة.
ذهبت إلى غرفتي، فوجدت الرجل الذي أتيت برفقته في فراشي، رغم أن كلا منا كانت له غرفته الخاصة؛ إذ كانت كارولاين شديدة الاهتمام بالسلوكيات الاجتماعية السديدة رغم كل شيء. بات ليلته معي، وكان غاضبا جدا. وقبل أن أطارحه الغرام وأثناءه وبعده، لم يكف عن الكلام عن مارتن وكم كان مخادعا وغير أمين، ووافقته الرأي. وقلت إن مارتن مشكلتهما هما. فقال: فليهنآ به، هو وأسلوبه الاستعراضي المتكلف ، وأخيرا خلد إلى النوم وكذلك فعلت أنا، لكنني استيقظت في منتصف الليل. استيقظت ولدي شعور مؤكد بشيء ما. أحيانا ما نستيقظ ولدينا هذا الشعور تجاه شيء ما. أعدت ترتيب أفكاري وركزت في حديثه، وبادرني الظن ... إنه على علاقة بكارولاين. كنت أعرف ذلك. كنت أعرف. كنت أحاول إخفاء إحساسي بعلمي بالأمر؛ ليس فقط لأن معرفتي به لن تساعد في شيء، بل أيضا لأنه لم يبد لائقا أن أعرف. لكن فور أن يجزم المرء بشيء كهذا، لا يسعه كتمان إحساسه حقا. بدا كل شيء واضحا لي. مارتن مثلا، كان وجوده من ترتيبها؛ فقد حرصت على وجود العاشقين القديم والجديد معا لتحريك مشاعرها. ثمة شيء فج حيال الموقف كله، لكن هذا لا يعني أن فجاجته لن تؤتي ثمارها. ثمة شيء فج حيالها هي شخصيا. كل هذا الهراء الشعري والعبث العاطفي كان يحدث بفجاجة؛ لم تكن بارعة في زيفها وادعائها، لكن هذا لم يكن مهما. ما يهم هو رغبتها في الاستمرار في الادعاء بالقدر الكافي. ما يهم هو أن تكون لديها الرغبة في الإرباك وإشاعة البلبلة. لكي تمارس المرأة فتنتها لا يتعين عليها أن تكون مثيرة ومغرية وبارعة الجمال، كل ما في الأمر أن تكون لديها الإرادة على الإرباك.
وتساءلت في قرارة نفسي: لم تفاجأت؟ أليس هذا ما تسمعينه دائما؟ كيف لا يتبع الحب المنطق، أو لا يخدم مصلحة المرء، وكيف لا يمت بصلة للتفضيلات العادية؟»
سأل دوجلاس: «أين تسمعين هذا الكلام دائما؟» «هذا أمر عادي، غير استثنائي. هناك الحب الذكي الذي يعتمد على الاختيار الذكي؛ وهذا هو النوع الذي يجب أن يعتمد عليه المرء حين يقرر الزواج. وهناك الحب الذي لا يمت للذكاء بصلة، وهو أشبه بالهوس؛ وهذا هو الحب الذي يقيم له الجميع وزنا بحق، وهذا هو الحب الذي لا يود أحد أن يضيعه.»
قال دوجلاس: «عادي.» «تعرف ما أعنيه. وتعرف أنه صحيح؛ فكل الأفكار المبتذلة صحيحة.»
قال: «مبتذلة. هذه كلمة نادرا ما تتناهى إلى مسامعي.»
قالت جولي: «هذه قصة بائسة .»
قلت : «قصصك أيضا كانت بائسة.»
قالت: «قصصي كانت مثيرة للضحك نوعا ما. هل سألته إن كان متيما بها أم لا؟»
قلت: «لم يكن سؤالي ليفيدني. كان سيجعلني في مواجهة معها. كنت خياره المنطقي. كنت أنا المرأة التي أحبها. لم أكن أطيق الفكرة. لم أكن أتحملها. كانت فكرة مهينة جدا. أمسيت حساسة ومكتئبة جدا. قلت له إنه لا يحبني حقا. كان هذا كافيا. لم يكن يحتمل أن يواجهه أحد بشيء عن نفسه.» •••
توقفنا عند كنيسة ريفية تجلت لنا في الأفق من الطريق السريع.
قال دوجلاس: «شيء يخفف من آلام الروح بعد قصص الحظ العاثر هذه، وقبل أن نعلق في الازدحام المروري المعتاد ليوم الأحد.»
تجولنا حول المدافن أولا ناظرين إلى أقدم شواهد القبور، وأخذنا نقرأ الأسماء والتواريخ بصوت عال.
قرأت بيت شعر عثرت عليه منقوشا على أحد الشواهد بصوت عال:
ازدادت البلايا وطالما تحملتها،
ولم يجد الأطباء لها نفعا،
حتى أذن الرب بأن يخفف من وطأتها،
فساقها بعيدا عن آلامها.
قلت: «ساقها. يا لها من كلمة جميلة!»
بعدها شعرت بشيء يجثم علي؛ شبح أحد الموتى أو عقاب. سمعت الوقع السخيف لصوتي يرجع صداه إلي بعد أن اصطدم بحقيقة الأجساد المزجاة هنا، الأجساد المكدسة وكأنها طبقات من نسيج متعفن أو أوراق شجر متحللة. شعرت بالألم والحرمان القديمين. كم ستجدنا تلك الأجساد غرباء ساعين نحو نزواتنا ومذنبين؛ ثلاثة أشخاص في منتصف العمر ما زال الحب أو الجنس يثيرهم.
كان باب الكنيسة مفتوحا. وقالت جولي إن القائمين على الكنيسة يتحلون بثقة شديدة في الناس، فحتى الكنائس الأنجليكانية التي كان من المفترض أن تفتح أبوابها على مصارعها طوال الوقت عادة ما تكون مغلقة في أيامنا هذه بسبب المخربين. وقالت إنها فوجئت أن الأبرشية سمحت لهم بإبقائها مفتوحة.
سأل دوجلاس: «كيف تعرفين معلومات عن الأبرشيات؟» «كان أبي كاهنا. ألم تستطع أن تخمن؟»
كان الجو أبرد داخل الكنيسة عن خارجها. مشت جولي بخطى ثابتة إلى الأمام ناظرة إلى لوحة الشرف، واللوحات التذكارية المعلقة على الجدران. نظرت إلى ما وراء آخر مقعد خشبي على صف من مساند القدمين؛ حيث كان الناس يجثون للدعاء والابتهال. كان كل مسند مطرزا بتصميم مختلف.
وضع دوجلاس يده على كتفي، لم يطوق كتفي بذراعه، ولو التفتت جولي ما كانت لتلاحظ. مر بيده سريعا على ظهري حتى استقرت عند خصري، وضغط ضغطة خفيفة على أضلعي قبل أن يمر من ورائي ويمشي باتجاه الممشى الخارجي، متأهبا لأن يشرح شيئا ما لجولي، التي كانت تحاول أن تقرأ عبارة لاتينية على نافذة من الزجاج الملون.
كان مطرزا على أحد مساند القدمين صليب القديس جورج، وعلى آخر صليب القديس أندراوس.
لم أكن أتوقع أن يعلن دوجلاس عن أي مشاعر نحوي قط، سواء خلال سردي للقصة أو بعد الانتهاء منها. ولم أعتقد أنه سيقول لي إنني على حق أو إن الصواب جانبني. سمعته يترجم، وجولي تضحك، لكنني لم أستطع أن أشاركهما الموقف. شعرت أن ثمة حقيقة عن نفسي غمرتني أو أربكتني، أو على الأقل حقيقة لم أعرف كيف أتصرف حيالها. ضغطة اليد التي لا تعد بشيء يمكن أن تكون عتابا أو تخفيفا. شيء معلق قد يمسي أبديا. يمكن أن أكون مصرة دوما على معرفة ما يمثل أهمية بالنسبة له وما لا يمثل، لكنني أكون دوما مغيبة فلا أعرفهما.
على مسند قدمين آخر، كان مطرزا رسم لحمامة جاثية على أرضية زرقاء وفي فمها فرع من الزيتون، وعلى مسند آخر مصباح تخرج منه خطوط مستقيمة من تقطيب ذهبي لإبراز أشعته الكثيرة المتشعبة، وعلى مسند آخر زنبقة بيضاء، لا، بل كانت زهرة ثلاثية. عندما توصلت إلى هذا الاكتشاف، ناديت دوجلاس وجولي ليشاهداه. سعدت بهذه الصورة البسيطة للزهرة والتي تجلت فيما بين الصور الأقدم والأغرب. أعتقد أنني صرت مفعمة بالحياة منذ تلك اللحظة. الواقع أننا صرنا جميعا مفعمين بالحياة، وكأن كلا منا - في قرارة نفسه - عثر على ينبوع مجهول يفيض أملا. وعندما توقفنا للتزود بالوقود، تعجبت أنا وجولي لما شاهدنا البطاقات الائتمانية التي يحملها دوجلاس، وقلنا إننا لا نود العودة إلى تورونتو. وتحدثنا عن كيف يمكننا جميعا الفرار إلى نوفا سكوتشا، والعيش اعتمادا على رصيد بطاقاته الائتمانية، وعندما تأتي السلطات للبحث عنا، سنختبئ ونبدل أسماءنا، ونعمل في وظائف متواضعة: أنا وجولي ساقيتان في حانة، ودوجلاس ينصب شراكا لسرطانات البحر، وحينئذ نحيا جميعا حياة هانئة.
الزائرون
دلفت ملدريد إلى المطبخ، وألقت نظرة على الساعة التي أشارت عقاربها في ذلك الحين إلى الثانية إلا خمس دقائق، وكانت تظن قبل دخولها أنها ستشير على الأقل إلى الثانية والنصف. جاء ولفريد من الباب الخلفي عبر حجرة الغسيل وقال: «أليس من المفترض أن تكوني بالخارج لمؤانستهم؟»
كانت جريس زوجة أخيه ألبرت وأختها فيرا جالستين تستظلان بظل سقيفة مرأب السيارة تصنعان مفارش كروشيه للمائدة، وكان ألبرت بالخارج خلف المنزل جالسا إلى جوار رقعة من الأرض زرعها ولفريد فاصوليا وطماطم وخيارا، وكل نصف ساعة كان ولفريد يذهب إلى الأرض ليرى أي الطماطم ناضجة بالقدر الكافي لقطفها، فكان يقطفها قبل أوانها ويضعها على عتبة نافذة المطبخ كي لا تصل إليها الحشرات.
قالت ملدريد وهي تصب لنفسها كأسا من الماء: «كنت معهم بالفعل.» وأردفت بعد أن تجرعت كأس الماء: «وربما أصحبهم في جولة بالسيارة.» «فكرة سديدة.» «كيف حال ألبرت؟»
كان ألبرت قد أمضى معظم ساعات نهار أمس - أول أيام الزيارة - مستلقيا على الفراش. «لا أعرف.» «إن كان مريضا فسيقول بلا شك.»
قال ولفريد: «هذه هي طبيعته، وهذا ما لا يعترف به قط.»
كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها ولفريد أخاه منذ أكثر من 30 عاما.
كان ولفريد وملدريد متقاعدين عن العمل، وكان بيتهما صغير الحجم بما لا يتناسب مع حجميهما، لكنهما انسجما مع المكان بسلاسة. لديهما مطبخ لا تزيد مساحته عن الرواق بكثير، وحمام حجمه متوسط تقريبا، وغرفتا نوم تمتلئان عن آخرهما إذا وضع في كل منهما سرير كبير ومنضدة زينة، وغرفة معيشة تحوي أريكة كبيرة على بعد خمسة أقدام من تليفزيون كبير، مع طاولة منخفضة في حجم التابوت بين الأريكة والتليفزيون، وشرفة خارجية صغيرة ومغلقة بألواح زجاجية.
وضعت ملدريد طاولة في الشرفة الخارجية لتقديم الوجبات عليها للزائرين، وعادة ما تتناول هي وولفريد الطعام على الطاولة الموضوعة أسفل نافذة المطبخ. إذا قام أحدهما وتجول في المكان، فدائما ما لا يبارح الثاني مكانه. كان من المستحيل أن يعيش خمسة أشخاص في هذا المكان، حتى لو كان ثلاثة منهم نحفاء نحافة هؤلاء الزائرين.
من حسن الطالع أن الشرفة الخارجية تحوي أريكة تفرد إلى سرير، وكانت فيرا - أخت زوجة أخيه - تنام عليها. وقد كان حضور فيرا مفاجأة بالنسبة لملدريد وولفريد؛ فعندما كان ولفريد يتحدث عبر الهاتف في المكالمة التي علم فيها بشأن الزيارة (فبحسب زعمه، لم يكتب أحد من أفراد عائلته خطابا قط) - وكما قال هو - لم يأت أحد على ذكر أخت زوجة أخيه، بل تعلق الأمر كله بزيارة ألبرت وزوجته وحسب. ظنت ملدريد أن ولفريد ربما لم ينتبه أثناء المكالمة لأنه كان متحمسا جدا. وعندما كان ولفريد يتحدث مع ألبرت عبر الهاتف من لوجان بأونتاريو إلى إلدر بساسكاتشوان، ويتلقى نبأ زيارة أخيه، غمره شعور بالسعادة وطفق يعرب عن حفاوته ودهشته وطمأنته لأخيه.
صاح عبر الهاتف: «تعال على الفور، يمكننا استضافتك ما شئت، لدينا متسع كبير. ستسعدنا استضافتك، ولا تعبأ بتذاكر العودة. تعال إلينا واستمتع بالصيف.» ولعل في تلك الأثناء بينما كان يعرب عن حفاوته الشديدة تكلم ألبرت عن أخت زوجته.
قال ولفريد على سبيل المزاح، عندما التقى جريس وفيرا لأول مرة: «كيف تميز بينهما؟ أم أنك تعاني دائما؟»
قال ألبرت دون أن ينظر إليهما: «إنهما ليستا توءمين.» وكان ألبرت قصير القامة نحيلا يرتدي ملابس داكنة بدا فيها وكأنه يزن أكبر من وزنه الحقيقي كالأيكة الكثيفة، وكان يرتدي ربطة عنق صغيرة وقبعة كقبعة رعاة البقر، لكن هذه الأشياء كلها لم تضف عليه مظهرا أنيقا؛ وكانت وجنتاه الشاحبتان متدليتين على جانبي ذقنه.
قالت ملدريد بود للسيدتين النحيلتين الشيباوين اللتين كان النمش منتشرا في بشرتيهما: «إن الشبه بينكما كبير.» وأخذت تفكر فيما يمكن أن تفعله الأراضي الزراعية ببشرة السيدات؛ فشعرت بالتباهي بجمال بشرتها الذي عوضها عن سمنتها . وقبل الزيارة كانت قد وضعت صبغة مؤقتة على شعرها جعلته يميل إلى اللون الذهبي، وارتدت سروالا فاتح اللون وبلوزة تتماشى معه، وكانت جريس وفيرا ترتديان ثوبين لهما ثنيات فضفاضة على صدريهما غير الممتلئين، وسترتين صيفيتين. «الشبه بينكما كبير، أكبر من الشبه بين زوجي وأخيه.»
كانت على حق، فولفريد له رأس كبير وبطن ضخم بارز، ووجه قلق ومتحمس، وتعبيرات وجه متقلبة، ويبدو كرجل يعشق المزاح والدردشة، وهكذا كان فعلا.
قال ولفريد: «من حسن الحظ أنكم جميعا نحفاء، يمكنكم جميعا النوم في سرير واحد، وبالطبع سينام ألبرت في المنتصف.»
قالت ملدريد ملتفتة إلى فيرا: «لا تعيروه بالا، لدينا أريكة رائعة تفرد إلى سرير إذا لم يكن لديك مانع من النوم في الشرفة الخارجية. الشرفة لها مصراع على نوافذها، وتهب عليها أرق النسمات من جميع الجهات.»
لا أحد يعلم إن كانت الأختان قد استوعبتا من الأساس مزحة ولفريد.
قال ألبرت: «لا بأس بذلك.»
ولأن ألبرت وجريس ناما في الغرفة الاحتياطية التي عادة ما كانت ملدريد تنام فيها؛ اضطر ملدريد وولفريد أن يتشاركا سريرا كبيرا، ولم تكن هذه عادتهما. وفي الليل، راود ولفريد أحد أحلامه المروعة التي كانت سببا في انتقال ملدريد إلى الغرفة الاحتياطية من الأساس.
صرخ ولفريد مذعورا: «امسك!» هل كان على متن قارب البحيرة يحاول أن يسحب غريقا من الماء؟ «ولفريد، استيقظ! كفاك صياحا وبث رعب في قلوبنا.»
قال ولفريد: «أنا مستيقظ، لم أكن أصيح.» «إذن أنا من كان يصيح!»
كانا مستلقيين كل على ظهره. تنهدا بعمق، ثم أدار كل منهما ظهره للآخر، وأمسك كلاهما برفق - ولكن بإحكام - بالغطاء العلوي وهما يستديران.
قالت ملدريد: «أليست الحيتان هي التي تعجز عن التقلب عندما تصل إلى الشاطئ؟»
قال ولفريد وكل منهما يولي الآخر ظهره: «ما زال بإمكاني التقلب، لعلك تظنين أن هذا هو الشيء الوحيد الذي أستطيع القيام به.» «لا تتحرك من مكانك، فكلهم يسمعوننا.»
في الصباح سألتهم: «هل أيقظكم ولفريد من نومكم؟ فهو لا يكف عن الصراخ في نومه.»
أجابها ألبرت : «لم أخلد إلى النوم على أية حال.» •••
خرجت ملدريد ودعت السيدتين إلى ركوب السيارة. قالت: «سنقوم بجولة بالسيارة، وننعم بالنسيم البارد في ظل هذا القيظ.» جلست السيدتان بالمقعد الخلفي لأنه لم تكن هناك فسحة بالأمام حتى لسيدتين نحيلتين مثلهما.
قالت ملدريد بمرح: «أنا السائق الخاص لكما! إلى أين تودان الذهاب جنابكما؟»
قالت إحداهما: «إلى أي مكان يطيب لك.» عندما لا تكون ملدريد تنظر إليهما فإنها لا تستطيع الجزم أيهما تتحدث.
جالت بهما حول وينتر كورت وطريق تشيلسي درايف لمشاهدة البيوت الجديدة بمناظرها الطبيعية البديعة ومسابحها، وبعدها صحبتهما إلى نادي الصيد والألعاب الرياضية حيث شاهدن طيور الزينة وعائلة الغزلان وحيوان الراكون، والقط بوبكات البري الحبيس. شعرت ملدريد بالتعب وكأنها قادت سيارتها إلى تورونتو، وأحست بالحاجة إلى شيء ينعشها ويعيد لها طاقتها، فاتجهت بالسيارة إلى ذاك المكان الواقع على الطريق السريع لشراء الآيس كريم. طلبت الأختان مخروطين صغيرين بمذاق الفانيليا، أما ملدريد فطلبت مخروطا من نكهتين؛ الزبيب بالرم وكريمة اللوز. جلسن حول طاولة من طاولات التنزه الخلوية يلعقن الآيس كريم وينظرن إلى حقل ذرة.
قالت ملدريد: «يزرعون الكثير من الذرة في هذه الأنحاء.» كان ألبرت يعمل مديرا لصومعة حبوب تعمل بالآلات قبل أن يحال للتقاعد؛ ولذا افترضت ملدريد أن المحاصيل ربما تثير اهتمامهما. «هل يزرعون الكثير من الذرة غربا؟»
فكرتا في الأمر، وقالت جريس: «حسنا، ليس كثيرا.»
قالت فيرا: «كنت أتساءل.»
قالت ملدريد بمرح: «عم تتساءلين؟» «ترى هل عندكم كنيسة خمسينية هنا في لوجان؟»
ركبن السيارة مرة أخرى، وبعد أن ضللن الطريق لبعض الوقت، عثرن على الكنيسة الخمسينية. لم تكن واحدة من أجمل الكنائس في المدينة، كانت بناية عادية من أحجار إسمنتية، مطلية أبوابها وأطر نوافذها باللون البرتقالي، ومعلقة عليها لافتة باسم الكاهن وأوقات إقامة القداس. ولم تكن هناك أية أشجار ظليلة على مقربة من الكنيسة، ولا شجيرات أو أزهار، بل ساحة جافة. ربما يذكرهما هذا المشهد بمدينة ساسكاتشوان.
قالت ملدريد وهي تطالع اللافتة: «الكنيسة الخمسينية. هل هذه هي الكنيسة التي تترددون عليها ؟» «نعم.» «لا نتردد أنا وولفريد على الكنيسة، وإذا ذهبنا، أعتقد أننا سنقصد الكنيسة المتحدة. هل تودان الترجل والتحقق مما إذا كانت مفتوحة أم لا؟» «كلا.» «إذا كانت مغلقة، يمكن أن نحاول البحث عن الكاهن. إنني لا أعرفه شخصيا، لكنني لا أعرف الكثيرين من سكان لوجان على أية حال، أعرف فقط الذين يلعبون البولينج، والذين يلعبون الورق في رابطة المحاربين البريطانيين. خلاف ذلك لا أعرف الكثير. هل تحبان أن نذهب لرؤية الكاهن؟»
أجابتا بالنفي، فكرت ملدريد في الكنيسة الخمسينية، وظنت أنها الكنيسة التي يتكلم فيها الناس بالألسنة، ففكرت في الاستفادة من قضاء عصر ذلك اليوم معهما والتأكد من ظنها؛ لذا فقد سألتهما: هل هذا صحيح؟ «نعم، هذا صحيح.» «ولكن، ما الألسنة؟»
خيم الصمت عليهما لحظة ثم قالت إحداهما بصعوبة: «إنه صوت الرب.»
قالت ملدريد: «يا إلهي!» أرادت أن تسهب في أسئلتها - هل كانتا تتكلمان بالألسنة أيضا؟ - لكنهما أشعرتاها بالتوتر، وكان من الواضح أنها أصابتهما بالتوتر أيضا. تركتهما تتطلعان إلى الكنيسة لدقائق معدودة، ثم سألتهما ما إذا كانتا قد اكتفتا، فجاء ردهما بالإيجاب وشكرتاها. •••
فكرت ملدريد في أنها لو كانت قد تزوجت من ولفريد في شبابهما، لعرفت أكثر عن عائلته وما تتوقعه من أفرادها. ملدريد وولفريد تزوجا وكل منهما في أواخر مرحلة منتصف العمر، بعد فترة من التودد لم تتجاوز ستة أسابيع، ولم يكن قد سبق لهما الزواج من قبل؛ فقد كان ولفريد كثير الترحال، أو هكذا زعم. كان يعمل على قوارب البحيرة وفي معسكرات معالجة الأخشاب، وساعد في بناء البيوت وضخ الغاز وتقليم الأشجار، وامتد عمله من كاليفورنيا وحتى يوكون، ومن الساحل الشرقي إلى الغرب. أمضت ملدريد معظم حياتها في مدينة ماكجو التي تبعد عن لوجان حيث تعيش حاليا مسافة 20 ميلا، وكانت ابنة وحيدة، وتلقت دروسا في الرقص الإيقاعي (الكلاكيت)، ثم أرسلت للدراسة في كلية إدارة الأعمال، ومن كلية إدارة الأعمال انتقلت للعمل في مصنع تول شو في مدينة ماكجو، وسرعان ما أمست حبيبة السيد تول صاحب المصنع، وظلت على علاقة به.
وفي الأيام الأخيرة من حياة السيد تول قابلت ملدريد ولفريد. كان السيد تول محتجزا في مستشفى الأمراض النفسية المطل على بحيرة هورون، وكان ولفريد يعمل حارسا هناك. كان السيد تول يبلغ من العمر اثنين وثمانين عاما، ولم يكن يستطيع التعرف على ملدريد، لكنها واظبت على زياته على أية حال، وكان يناديها باسم سادي، وهو اسم زوجته. كانت زوجته قد قضت نحبها آنذاك، لكنها كانت على قيد الحياة عندما كان السيد تول وملدريد يخرجان في نزهات ويقيمان بالفنادق معا، ويقضيان أوقاتهما في الكوخ الذي اشتراه السيد تول لملدريد على شاطئ أمبرلي، وخلال الفترة التي عرفته فيها، لم تسمعه يتكلم قط عن زوجته سوى بطريقة جافة وبنفاد صبر. والآن، وهو في المستشفى، كان عليها أن تسمعه وهو يقول لسادي إنه يحبها، ويطلب منها أن تغفر له. وإذ تظاهرت بأنها سادي، قالت ملدريد إنها سامحته. كانت تخشى أن يزل لسانه باعتراف ما عن امرأة سوقية داعرة اسمها ملدريد، ومع ذلك، لم تكف عن زيارته. لم يكن قلبها ليسمح لها بأن تتخلى عنه، كانت هذه مشكلتها دائما. ولكن عندما يظهر الأبناء أو البنات أو أخوات سادي، كان يتعين عليها أن تختفي، ولما فوجئت بأحدهم ذات مرة، اضطرت أن تطلب من ولفريد أن يساعدها على الخروج من مخرج خلفي، وبعد أن تسللت، جلست على حجر إسمنتي إلى جوار الباب الخلفي ودخنت سيجارة، وسألها ولفريد عما ألم بها من خطب. كانت مستاءة، ولم يكن لديها أحد في ماكجو تفضي إليه بمكنون صدرها، فأخبرته بما حدث، بل وأطلعته حتى على الرسالة التي تلقتها من أحد المحامين يطلب فيها منها إخلاء كوخ أمبرلي. وطوال الفترة التي قضتها مع السيد تول كانت تحسب أن الكوخ باسمها، لكنه لم يكن كذلك.
انحاز لها ولفريد، وعاد إلى الداخل ليتجسس على عائلة السيد تول التي جاءت لزيارته، وأخبرها أنهم جلسوا يحدقون في العجوز المسكين كالغربان الواقفة على سياج. لم يوضح لملدريد ما كانت تعرفه بالفعل: أنها كان يجب أن تضع في اعتبارها السيناريو الأسوأ الذي كان على وشك الحدوث. هي نفسها قالتها. «كان علي الاختفاء من حياته عندما كان ذلك في صالحي، حين كنت لا أزال أملك بعض المميزات.»
قال ولفريد بعقلانية: «لا بد أنك كنت تهيمين به عشقا.»
أجابته ملدريد بحزن: «لم يكن حبا قط.» تجهم ولفريد وشعر بحرج شديد. فأحست ملدريد أنها يجب ألا تسترسل، ولم تستطع أن تشرح على أية حال السر وراء افتتانها بالسيد تول خلال الفترة التي كان فيها أحسن حالا، عندما كانت حاجته لها ماسة لدرجة جعلتها تظن أنه سيغير مسار حياته تماما من أجلها.
زهقت روح السيد تول في منتصف الليل. اتصل ولفريد هاتفيا بملدريد في السابعة صباحا ليعلمها بنبأ وفاته.
قال لها: «لم أرد أن أوقظك، لكنني أردت أن تعرفي الخبر قبل أن تسمعيه على الملأ.»
وبعدها دعاها لتناول العشاء معه في أحد المطاعم، ولأنها كانت معتادة على السيد تول وآدابه، دهشت من سلوكيات ولفريد على المائدة. أحست بتوتره؛ فقد انزعج لأن النادلة لم تحضر كئوس الماء. قالت له ملدريد إنها ستستقيل من عملها، وإنها تريد أن تبعد عن ماكجو، وربما ينتهي بها المقام إلى الغرب.
قال ولفريد: «ولم لا ينتهي بك المقام في لوجان؟ لدي بيت هناك. إنه ليس بالبيت الكبير، لكنه يسع شخصين.»
فاستوعبت الموقف كله؛ توتره الشديد، واستياءه من النادلة، وتصرفاته الحنونة معها، الأمر كله مرتبط بها. سألته إن سبق له الزواج من قبل، وإلا فلم لم يتزوج؟
قال إنه كان مشغولا دوما وكثير الترحال، وإضافة إلى ذلك، ليس من السهل أن يلتقي المرء بامرأة طيبة القلب. كانت على وشك التأكد مما إذا كان يعي الموقف كاملا، وتوضح له أنها لم تتوقع شيئا من وصية السيد تول (وبالفعل لم تحصل على شيء)، لكنها استشفت في آخر لحظة قبل أن تقول شيئا أن ولفريد من الرجال الذين يشعرون بالإهانة من أمر كهذا.
وبدلا من ذلك قالت: «أتعرف أنك لن تكون أول من يطارحني الغرام؟»
أجابها: «كفى، لن نتطرق إلى هذا الموضوع بالبيت أبدا، اتفقنا؟»
وافقت ملدريد، وسرها رؤية تحسن سريع في سلوكه تجاه النادلة، بل إنه في الحقيقة تجاوز توقعاتها حيث اعتذر إليها عن نفاد صبره منذ قليل، قائلا إنه عمل في مطعم في فترة من الفترات، وأخبرها عن مكان المطعم الذي كان يعمل به؛ على طريق ألاسكا السريع. ووجدت الفتاة صعوبة في التملص منه لتقديم القهوة لرواد المطعم الآخرين.
ولم يطرأ تحسن آخر على آداب ولفريد على المائدة. وخمنت ملدريد أن هذه واحدة من خصاله - كعازب - التي يتعين عليها أن تتكيف معها.
قالت ملدريد: «من الأفضل أن تطلعني على مكان ولادتك وغيره من معلومات.»
قال لها إنه ولد في مزرعة ببلدة هوليت، لكنه رحل عنها بعد ثلاثة أيام من ولادته.
قال ضاحكا: «كثير الأسفار!» ثم ترك الهزل، وأخبرها أن أمه ماتت خلال ساعات من ولادته، وأن خالته هي التي تعهدته بالرعاية. وكانت خالته متزوجة من رجل يعمل بالسكك الحديدية، وكانوا كثيري الانتقال، وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره توفيت خالته. ثم تطلع إليه زوج خالته سائلا: «إنك لفتى ضخم الجثة، ما مقاس حذائك؟»
أجاب ولفريد: «تسعة.» «إذن فأنت كبير بالقدر الكافي لتكسب قوت يومك بنفسك.»
قال ولفريد: «كان لديه هو وخالتي ثمانية من الأطفال؛ فلا لوم عليه.» «هل لديك أي إخوة أو أخوات في عائلتك الأصلية؟» طرحت ملدريد عليه هذا السؤال وهي تفكر بأريحية في حياتها الخاصة وما كانت عليه منذ زمن بعيد؛ صورة أمها وهي تمشط شعرها المجعد في الصباح، والهرة الصغيرة بانسي التي اعتادت أن تلبسها ملابس دميتها، وتضعها في عربة الدمية وتطوف بها حول البناية. «كانت لدي أختان متزوجتان أكبر مني، لكنهما توفيتا. ولي أخ وحيد انتقل للعيش في ساسكاتشوان، يعمل مديرا لصومعة حبوب تعمل بالآلات. لا أعرف كم يكسب من عمله هذا، لكن أتخيل أن عمله مجز؛ فقد التحق بكلية إدارة الأعمال مثلك تماما، وهو مختلف عني كثيرا.» •••
في اليوم الذي قضاه ألبرت في الفراش، أراد إسدال الستائر، ورفض الذهاب إلى الطبيب. لم يفهم ولفريد منه ما الخطب، بينما قال ألبرت إنه متعب وحسب.
قالت ملدريد: «لعله متعب، فلندعه يسترح.»
لكن ولفريد ظل يتردد على الغرفة الاحتياطية التي يستلقي فيها أخوه جيئة وذهابا طوال اليوم، يتكلم ويدخن ويسأل ألبرت عن حاله. أخبر ألبرت أنه عالج نفسه من صداع نصفي لعين بتناول كراث طازج من البستان في الربيع، فقال ألبرت إنه لا يعاني من الصداع النصفي، حتى إن كان يود إسدال الستائر. وأضاف أنه لم يصب قط بصداع قوي طوال حياته، ففسر له ولفريد أنه قد يصاب بصداع نصفي دون أن يعرف - أي دون أن يشعر بألم فعلي - ولذا فربما أن هذا هو ما يعانيه ألبرت، فأجابه ألبرت أنه لا يفهم كيف يمكن أن يحدث ذلك.
في فترة مبكرة من ظهيرة ذلك اليوم، سمعت ملدريد ولفريد يحدث جلبة ببحثه عن شيء في حجرة الملابس، ثم خرج منها وناداها. «ملدريد! ملدريد! أين زجاجة الخمر تكساس؟» «في البوفيه.» أجابته وأخرجتها له كي لا يفتش في الأواني الخزفية الخاصة بأمها. كانت داخل صندوق طويل مزين بنقش ذهبي بارز وعليه وسام جوقة الشرف. حملها ولفريد معه إلى غرفة النوم، ووضعها على منضدة الزينة كي يراها ألبرت. «ما هذه في رأيك؟ وكيف تراني حصلت عليها؟»
كانت زجاجة من الويسكي سعة جالون تحتوي على نسبة 70٪ كحولا، فاز بها ولفريد في بطولة رمي الأسهم في أوين ساوند التي أقيمت في فبراير منذ ثلاث سنوات. وصف ولفريد الرحلة المروعة من لوجان إلى أوين ساوند حيث كان يقود السيارة بنفسه، وظل أعضاء الفريق يطلبون إليه التوقف عند كل مدينة يصلون إليها، وألا يحاول أن يمضي قدما. وهبت عاصفة ثلجية قوية من جهة بحيرة هورون، فغطتهم الثلوج وأحاطت بهم إحاطة السوار بالمعصم، وظهرت شاحنات وحافلات أمام أعينهم على حين غرة وراء السديم الأبيض، ولم يكن هناك مجال للمناورة لأن الطريق كان محاطا بتراكمات جليدية بطول 10 أقدام. ظل ولفريد يقود السيارة عاجزا عن الرؤية وهو يشق طريقه عبر الدروب المنحدرة والثلج المتراكم. وأخيرا، على الطريق السريع رقم 6، ظهر ضوء أزرق أمامه، ضوء أزرق دوار، منارة، ضوء إنقاذ؛ لقد كانت جرافة الثلج تسير أمامهم، وكانت الثلوج تعود لتغطي الطريق بالسرعة نفسها التي تزيحه بها الجرافة تقريبا، ولكن من خلال السير على مقربة من الجرافة، تمكنوا من الوصول سالمين إلى أوين ساوند، وهناك شاركوا في البطولة، وحققوا الفوز.
سمعت ملدريد ولفريد يسأل أخاه: «هل سبق أن مارست لعبة رمي الأسهم من قبل؟»
قال ألبرت: «كقاعدة عامة، لعبة رمي الأسهم تمارس في الأماكن التي تقدم الخمور، وكقاعدة عامة، لا أرتاد هذه الأماكن.» «حسنا، هذا الذي أمامك خمر، لكنني لا أفكر في احتسائه أبدا، وإنما أحتفظ به ليذكرني بشرف الفوز.» •••
خلال الزيارة، اتخذت جلستهم نمطا منتظما؛ ففي فترة الظهيرة، اعتادت جريس وفيرا الجلوس في مرأب السيارة، تحيكان مفارش كروشيه للطاولة، وكانت ملدريد تجلس معهما بين الحين والآخر. أما ألبرت وولفريد، فكانا يجلسان وراء البيت إلى جوار الخضراوات. وبعد العشاء، يجلسون معا في الخارج في إضاءة خافتة بعد نقل كراسيهم إلى المرج الموجود أمام أحواض الزهور. وتواصل جريس وفيرا حياكتهما طالما كان بإمكانهما الرؤية بوضوح.
أعجب ولفريد بالكروشيه. «بكم تبيعان المفرش الواحد؟»
قال ألبرت: «بمئات الدولارات.»
قالت جريس: «إنها تباع لصالح الكنيسة.»
قال ولفريد: «كانت بلانش بلاك أبرع سيدة تصنع المشغولات بالكروشيه، وأكفأ خياطة عرفتها في حياتي، وأفضل من أمسك بالإبرة لصنع المشغولات من أي نوع، وأكثر الطاهيات كفاءة.»
قالت ملدريد: «يا له من اسم!» «كانت تعيش في ولاية ميشيجان. كان ذلك عندما مللت العمل على متن القوارب، وحصلت على وظيفة هناك في مزرعة. وكانت تستطيع أن تصنع الألحفة أو أي شيء من هذا القبيل، وتخبز الخبز والكعك الشهي وأي شيء، لكنها في الواقع لم تكن جميلة الشكل ولا متسقة القوام.»
بعد ذلك ألقيت على مسامع الزائرين قصة سبق أن سمعتها ملدريد من قبل، كان يقصها ولفريد كلما أثير حديث عن الفتيات الجميلات والفتيات غير الجميلات، أو الخبز أو حفلات جمع التبرعات، أو الغرور. قص ولفريد أنه هو وصديق له ذهبا لحضور واحد من حفلات جمع التبرعات التي تباع فيها علب الطعام، حيث يزايد المرء على علبة أثناء وقت مستقطع من الرقص، وكانت العلب تحتوي على طعام الغداء، وكان من يرسو عليه المزاد يتناول الطعام بصحبة الفتاة التي أعدت الطعام الموجود في العلبة. أحضرت بلانش بلاك غداء في علبة، وكذا فعلت فتاة جميلة تدعى الآنسة بيوكانن، فتسلل ولفريد وصديقه إلى الغرفة الخلفية، وقاما بتبديل غلافي العلبتين، ولما حان وقت المزايدة، زايد رجل يدعى جاك فليك - كان شديد الغرور بنفسه ومفتونا بالآنسة بيوكانن - على العلبة التي ظن أنها لبيوكانن، بينما زايد ولفريد وصديقه على العلبة التي حسبها الجميع لبلانش بلاك، وأعطيت العلبتان للمزايدين، ومما صدم جاك فليك اضطراره مجالسة بلانش بلاك، أما ولفريد وصديقه فكانت الآنسة بيوكانن من نصيبهما، وبعدها تطلع ولفريد في العلبة فلم يجد فيها سوى شطائر مدهونة بمعجون وردي اللون. «وحينها ذهبت إلى جاك فليك واقترحت عليه أن يبادلني الغداء والفتاة. لم أقدم على هذه الخطوة طمعا في الطعام وحسب، بل لأنني رأيت كيف كان سيعامل هذه الفتاة المسكينة، فوافق هو على الفور، وجلسنا معها. أكلنا دجاجا محمرا، ولحما مدخنا وبسكويتا، وشطيرة بالبلح. لم آكل في حياتي كما أكلت يومها. كما كانت تخفي في أسفل العلبة قارورة ويسكي صغيرة؛ وعليه جلست وتناولت الطعام واحتسيت الويسكي ناظرا إلى جاك وهو يتناول الشطائر المدهونة.»
لا بد أن ولفريد شرع في سرد قصته تقديرا للسيدات اللائي جعلتهن مهارتهن في الحياكة بالكروشيه أو الخبز أو خلاف ذلك يتفوقن على غيرهن ممن يتمتعن بالجمال، لكن ملدريد لم تعتقد حتى أن جريس وفيرا يطيب لهما تصنيفهما ضمن فئة أمثال بلانش بلاك التي لم تكن جميلة، كما أن ذكره قارورة الويسكي كان خطأ منه. كما كان خطأ أثر عليها هي سلبا؛ إذ أخذت تفكر كم هي بحاجة إلى احتساء شراب في هذه اللحظة، وسرحت بخيالها في كل أشكال الخمور التي يمكن أن يتخيلها إنسان؛ أولد فاشوند، وبراون كاو، وبينك ليدي.
قال ولفريد: «من الأفضل أن أذهب وأتفقد مكيف الهواء لعلي أستطيع إصلاحه، سنموت من الحر الليلة إن لم أصلحه.»
ظلت ملدريد جالسة، وفي البناية المجاورة كان هناك ضوء أزرق ينبعث من جهاز يصدر صوتا عاليا يشبه الصرير، ويصيد الحشرات.
قالت: «أعتقد أن هذه الأجهزة تحدث فارقا في مكافحة الحشرات.»
قال ألبرت: «إنها تشويهم.» «لكن ضجيجها يزعجني.»
حسبته لن يرد عليها، لكنه قال أخيرا: «إذا لم تحدث ضجيجا، فلن تستطيع قتل الحشرات.»
عندما عادت ملدريد إلى البيت لتصنع بعض القهوة (باعتبارها شرابا جيدا لا مانع لدى أبناء الكنيسة الخمسينية من احتسائه)، تناهى إلى مسامعها صوت مكيف الهواء وهو يطن. فنظرت داخل غرفة النوم، ورأت ولفريد مستلقيا وغارقا في النوم ومنهكا. «ولفريد؟»
قفز من مكانه قائلا: «لم أكن نائما.» «ما زالوا جالسين بالخارج أمام المنزل، خطر لي أن أعد القهوة.» ولم تستطع أن تمنع نفسها من إضافة: «يسعدني أن العطل الذي كان بمكيف الهواء ليس خطيرا.» •••
في اليوم قبل الأخير للزيارة، قرروا زيارة بلدة هوليت التي تبعد عنهم 45 ميلا ليروا المكان الذي ولد فيه ولفريد وألبرت. كانت هذه فكرة ملدريد، وقد ظنت أن ألبرت قد يقترح تلك الفكرة، وكانت بانتظار اقتراحه لأنها لم ترد أن ترغمه على القيام بأي شيء يشق عليه، لكنها طرحت الفكرة أخيرا. قالت إنها ظلت تحاول لفترة طويلة أن تقنع ولفريد بأن يصحبها إلى ذلك المكان، لكنه قال إنه سيضل الطريق، خاصة وأنه لم يرجع إليه منذ أن رحل عنه رضيعا. كانت البنايات كلها قد اختفت، وكذا المزارع؛ هذا الجزء كله من البلدة تحول إلى محمية.
جلبت جريس وفيرا مفارش الطاولة معهما لحياكتها بالكروشيه، وتساءلت ملدريد كيف لم تشعر أي منهما بالدوار وهما منكبتان على الحياكة في سيارة متحركة. جلست في وسطهما في المقعد الخلفي، وشعرت بأنها منحشرة بينهما، مع أنها كانت تعلم أنها السبب في هذه الوضعية لسمنتها. وقاد ولفريد السيارة وجلس ألبرت إلى جواره.
دائما ما يميل ولفريد للجدال أثناء القيادة.
سأل قائلا: «ماذا يعيب المراهنة؟ لا أعني المقامرة، لا أعني أن نذهب إلى لاس فيجاس ونضيع كل ما نملك من مال على تلك الألعاب والماكينات. لكن الحظ يمكن أن يكون حليفك في المراهنات، فذات مرة قضيت شتاء مجانا في مدينة سو، فزت بنفقاته في إحدى المراهنات.»
قال ألبرت: «سو سانت ماري.» «دائما ما نطلق عليها اسم سو، وقتها نزلت من على متن كاملوبس لقضاء الشتاء في المدينة؛ كاملوبس ذاك القارب العتيق المروع. وذات ليلة في الحانة، كان رواد الحانة يستمعون لمباراة هوكي على المذياع، كان ذلك قبل التليفزيون، وكانت النتيجة 4 لصالح سدبري ولا شيء لسو.»
قال ألبرت: «كدنا نصل إلى المنعطف الذي سيخرجنا عن الطريق السريع.»
قالت ملدريد: «انتبه للمنعطف يا ولفريد.» «أنا منتبه.»
قال ألبرت: «ليس هذا المنعطف، بل التالي.» «كنت أساعدهم في الحانة، أسقي الجعة مقابل إكرامية، لأنني لم أكن أحمل بطاقة اتحاد العمال، وإذا بذلك الرجل المتبرم يسب فريق سو، فقلت إنهم ربما ينجحون في الخروج من كبوتهم والفوز بالمباراة.»
قال ألبرت: «انعطف من هنا.»
انعطف ولفريد فجأة. «قال لي الرجل: راهن على ما تدعيه إن شئت! راهن على قولك هذا! كان الرهان 10 مقابل 1، ولم يكن لدي المال، لكن صاحب الفندق حيث كانت الحانة كان رجلا شهما، وكنت أمد له يد العون، فقال لي: اقبل بالرهان يا ولفريد! امض قدما، واقبل بالرهان!»
قرأت ملدريد لافتة مكتوبا عليها «محمية هوليت»، انطلقت بهم السيارة بمحاذاة مستنقع مظلم.
قالت ملدريد: «يا إلهي! المكان موحش جدا هنا، والمياه راكدة لا تتحرك في هذا الوقت من العام.»
قال ألبرت: «هذا هو مستنقع هوليت، يمتد لمسافة أميال.»
خرجوا من منطقة المستنقع، فأحاطت بهم من الجانبين أرض مقفرة، وتربة سوداء متقلقلة، وحفر وأشجار مقتلعة من جذورها، كان الطريق وعرا جدا. «قال سوف أساندك، وهكذا غامرت وقبلت بالرهان.»
قرأت ملدريد لافتات الطرق الجانبية: «طريق مسدود، لا توجد أدوات صيانة لجرف الثلوج بعد هذه النقطة.»
قال ألبرت: «يجب أن ننعطف جهة الجنوب الآن.»
قال ولفريد: «الجنوب؟ حسنا، الجنوب. وهكذا، قبلت بالرهان، أتعرفون ماذا حدث؟ صمد فريق سو وهزم سدبري 7-4!»
ظهرت بركة ضخمة في الأفق، وعمود برج مراقبة، ولافتة مكتوب عليها: «نقطة مراقبة الطيور البرية.»
قالت ملدريد: «طيور برية، ترى ماذا يمكن أن نرى هناك؟»
لم يكن ولفريد ليتوقف عن الثرثرة. «إنك لا تميزين بين الغراب والصقر يا ملدريد! هزم فريق سو فريق سدبري 7-4 وفزت برهاني. تسلل ذلك الرجل إلى الخارج بينما كنت منشغلا، لكن مدير الفندق كان يعلم أين يعيش، وفي اليوم التالي حصلت على مائة دولار. وعندما استدعيت للعودة إلى متن قارب كاملوبس، لم يكن بجيبي سوى النقود التي كانت معي عندما نزلت عن القارب قبل الكريسماس؛ وهكذا أمضيت الشتاء مجانا في مدينة سو.»
قال ألبرت: «يبدو أن هذا هو المكان.»
سأل ولفريد: «أين؟» «هنا.» «هنا؟ أمضيت إجازة الشتاء مجانا من رهان واحد فقط.»
انحرفوا عن الطريق ومنه إلى حارة وعرة نوعا ما حيث رأوا أسهما خشبية على عمود. «درب هوثورن. درب شوجر بوش. درب تاماراك. ممنوع تجاوز المركبات الآلية لهذه النقطة.» أوقف ولفريد السيارة، وخرج هو وألبرت، وترجلت جريس كي تخرج ملدريد، ثم عادت أدراجها إلى السيارة. كانت الأسهم كلها تشير إلى الاتجاه نفسه، وحسبت ملدريد أن بعض الأطفال ربما عبثوا بها، ولم تر أية دروب في الأفق على الإطلاق. وها هم خرجوا من أرض المستنقعات المنخفضة ليجدوا أنفسهم محاطين بتلال صغيرة وعرة.
سألت ألبرت: «أهنا كانت مزرعتك؟»
أجاب ألبرت مشيرا أعلى التل: «كان البيت هناك بأعلى، وكان الطريق يمتد إلى هناك، والحظيرة كانت بالخلف.»
كان ثمة صندوق خشبي بني اللون على العمود تحت الأسهم، فتحته وأخرجت منه حفنة من النشرات زاهية الألوان، وتصفحتها. «تحتوي هذه النشرات على مختلف الدروب.»
قال ولفريد وهو يومئ برأسه باتجاه الأختين الجالستين بالسيارة: «ربما تودان قراءة شيء ما طالما أنهما لن تترجلا من السيارة. ربما ينبغي عليك سؤالهما.»
قالت ملدريد: «إنهما مشغولتان.» حدثت نفسها أنه ينبغي أن تذهب إليهما وتقول لهما أن تفتحا النوافذ كي لا تصابا بالاختناق، لكنها قررت أن تدعهما يكتشفان الأمر بنفسيهما. كان ألبرت قد شرع في صعود التل، وتبعته هي وولفريد بمشقة وعناء عبر نبات عصا الذهب الذي لدهشتها كان أيسر في المشي عليه من الحشائش؛ فهي نباتات لا تعرقل السائر عليها، وكان لها ملمس ناعم كالحرير. كانت تعرف نباتات عصا الذهب والجزر البري، لكن ما تلك الأزهار البيضاء الصغيرة المنثورة على الأجمة الخفيضة، وتلك الأزهار الزرقاء ذات البتلات الخشنة، وهذه الأزهار القرمزية الشبيهة بالريش؟ دائما ما يسمع المرء عن أزهار الربيع، وعشب الحوذان والزهرة الثلاثية وأذريون الماء، لكن ثمة أزهارا كثيرة مجهولة الهوية في نهاية فصل الصيف. وكان هناك أيضا ضفادع صغيرة تقفز من تحت أقدامهم، وفراشات صغيرة بيضاء، ومئات من الحشرات التي عجزت ملدريد عن رؤيتها، لكنها شعرت أنها تقتات على ذراعيها المكشوفتين وتلسعهما.
راح ألبرت يمشي جيئة وذهابا على العشب، وانعطف وتوقف ونظر حوله، ثم شرع في المشي مرة أخرى، كان يحاول أن يميز حدود البيت. نظر ولفريد إلى العشب متجهما وقال: «إنهم لا يتركون لك الكثير.»
سألت ملدريد بوهن: «من؟» واقتلعت نبات عصا الذهب لتهوي به على وجهها. «مسئولو المحمية، لا يتركون حجرا واحدا من أحجار الأساس على حاله، ولا حفرة لسرداب أو طوبة أو عارضة خشبية واحدة، ينبشون كل شيء ويطمرون مكان حفرهم، ويجرون ما نبشوه بعيدا.» «حسنا، أعتقد أنهم لا يستطيعون ترك كومة من الحطام فيتعثر الناس بها.»
سأله ولفريد: «أمتأكد أن هذه هي البقعة التي كان عليها البيت؟»
أجابه ألبرت: «هنا تقريبا، وواجهته كانت جهة الجنوب. كانت البوابة الأمامية هنا.»
قالت ملدريد باهتمام يضارع ما تبقى لها من جهد: «لعلك واقف على عتبة المنزل يا ألبرت.»
لكن ألبرت قال: «لم يكن لدينا عتبة للبوابة الأمامية قط، فهي لم تفتح سوى مرة واحدة بحسب ما أتذكر، وكان ذلك لنعش أمي، وحينئذ وضعنا بعض الكتل الخشبية على الأرض لعمل عتبة مؤقتا.»
قالت ملدريد إذ رأت أجمة على مقربة من المكان الذي كان يقف فيه: «هذه زهرة ليلك، هل كانت تزرع آنذاك؟ لا بد أنها كانت تزرع آنذاك.» «أعتقد أنها كانت تزرع .» «هل هي بيضاء أم أرجوانية اللون؟» «لا يمكنني الجزم.»
جال بخاطر ملدريد أن هذا هو الفارق بينه وبين ولفريد؛ فولفريد كان يعطيها إجابة لسؤالها، سواء تذكر أو لم يتذكر، كان سيقول إجابة محددة ثم يصدق ما قال. الإخوة والأخوات سر غامض بالنسبة لها؛ فها هما جريس وفيرا يتحدثان كما لو كانا فمين في رأس واحد، وها هما ولفريد وألبرت لا يربط بينهما رابط. •••
تناولوا الغداء في مقهى على الطريق، ولكن لم يكن المقهى مرخصا، وإلا لطلبت ملدريد جعة دون أن تعبأ بصدمة جريس وفيرا فيها، أو تعبأ كيف يحدق ولفريد فيها؛ فقد كانت تعاني الحر الشديد بالفعل، وكان وجه ألبرت متوردا، وعيناه تلمعان بنظرة تشع تركيزا، وبدا ولفريد مشاكسا.
قال ألبرت: «كان هذا المستنقع أكبر بكثير، لقد جففوه.»
قالت ملدريد: «كي يستطيع الناس الوصول إلى هذا المكان والتمشية ورؤية أشياء مختلفة.» كانت لا تزال تحمل النشرات الخضراء والصفراء في يدها، فبسطتها وعاينتها.
قرأت فيها: «صيحات صاخبة، وصرخات، وأصوات صرير يتردد صداها في هذه الأجمة. هل تميز أيا من هذه الأصوات؟ معظمها يصدر عن الطيور.» وتساءلت: عمن غير الطيور يمكن أن تصدر إذن؟
قال ألبرت: «خاض رجل في مستنقع هوليت وظل هناك.»
أحدث ولفريد فوضى عارمة بصلصة الطماطم وصلصة مرق اللحم، ثم غمس البطاطس فيها بأصابعه.
وتساءل: «إلى متى ظل هناك؟» «إلى الأبد.»
سأل ولفريد مشيرا إلى البطاطس المقلية في طبق ملدريد: «هل ستتناولين هذه؟»
فقسمت ملدريد البطاطس بينها وبين ولفريد، وسألت ألبرت وهي تدفع بنصف البطاطس في طبق ولفريد: «إلى الأبد؟ هل كنت تعرفه؟» «لا، كان ذلك منذ فترة طويلة جدا.» «هل تعرف اسمه؟» «لويد سالوز.»
سأل ولفريد: «من؟»
قال ألبرت: «لويد سالوز، كان يعمل في مزرعة.»
قال ولفريد: «لم أسمع به من قبل.»
سألت ملدريد: «ماذا تعني أنه خاض في المستنقع؟» «عثروا على ملابسه على قضبان السكك الحديدية، وهذا ما قالوه، إنه خاض في المستنقع.» «وما الذي يدفعه للخوض في المستنقع عاريا؟»
فكر ألبرت لبضع دقائق ثم قال: «ربما أراد أن يعيش لحظات مثيرة.» «وهل ترك حذاءه أيضا؟» «أعتقد ذلك.»
قالت ملدريد سريعا: «ربما انتحر، هل بحثوا عن جثته؟» «بحثوا بالفعل.» «أو ربما قتل. هل كان لديه أعداء؟ هل كان متورطا في خطب ما؟ ربما كان مدينا أو متورطا في مشكلة لها علاقة بفتاة.»
قال ألبرت: «لا.» «هل عثروا على أي أثر له؟» «لا.» «هل كان هناك أي شخص مشتبه به بالجوار آنذاك؟» «لا.»
قالت ملدريد: «لا بد أن هناك تفسيرا منطقيا، فإذا لم يمت المرء، فلا بد أنه يواصل حياته في مكان ما.»
أخرج ألبرت الهامبرجر بشوكته خارج الشطيرة ووضعه على صحنه، حيث بادر بتقطيعه إلى أجزاء صغيرة. فلم يكن قد تناول أي شيء بعد. «ظن الناس أنه كان يعيش في المستنقع.»
قال ولفريد: «كان عليهم البحث في المستنقع إذن.» «خاضوا المستنقع من الجانبين، وقالوا إنهم سيلتقون في المنتصف، لكنهم لم يلتقوا.»
سألت ملدريد: «لماذا؟» «لا يمكنك الخوض في هذا المستنقع هكذا ببساطة، لم يكن ذلك ممكنا آنذاك.»
سأل ولفريد بإصرار: «هل حسبوا أنه هناك إذن؟ هل هذا ما حسبوه؟»
قال ألبرت على مضض: «أغلبهم.» فبدا الازدراء والدهشة على وجه ولفريد. «علام كان يقتات؟»
وضع ألبرت سكينه وشوكته وقال بكآبة: «اللحم.»
وفجأة، بعد أن كانت ملدريد تشعر بالحر الشديد، شعرت بقشعريرة في ذراعيها.
سألت بنبرة أكثر إذعانا واستغراقا في التفكير من ذي قبل: «ألم يره أحد قط؟» «زعم اثنان ذلك.» «من هما؟» «أحدهما امرأة كانت في الخمسين من عمرها عندما عرفتها، وكانت فتاة صغيرة عندما رأته. رأته عندما عادت لتجلب البقر، رأت شخصا طويل القامة أبيض البشرة يجري وراء الأشجار.»
سأل ولفريد: «أكانت قريبة بالقدر الكافي لتميز إن كان رجلا أم امراة؟»
أخذ ألبرت سؤاله على محمل الجد. «لا أدري كم كانت قريبة.»
قالت ملدريد: «هذه أحدهما، من كان الآخر؟» «كان صبيا يصطاد، وكان هذا بعدها بسنوات. نظر لأعلى فوجد رجلا أبيض البشرة يراقبه من الضفة الأخرى، فحسب أنه رأى شبحا.»
سأل ولفريد: «هل هذا كل شيء؟ لم يكتشفوا ما حدث قط؟» «نعم.»
قالت ملدريد: «أعتقد أنه ميت الآن على أية حال.»
فقال ألبرت: «مات منذ زمن بعيد.»
حدثت ملدريد نفسها أنه لو كان ولفريد هو الذي يقص هذه القصة، لاتخذت القصة مسارا آخر، ولوضع لها ولفريد نهاية بشكل أو بآخر. كان ليزعم أن لويد سالوز عاود الظهور عاريا كيوم ولدته أمه مطالبا برهانه، أو أنه عاد في حلة مليونير بعد أن خدع بعض رجال العصابات الذين سلبوه أمواله. في قصص ولفريد، تأكد أن الأجزاء الكئيبة السوداوية ستفسح المجال لشيء أفضل، وإذا أتى أحدهم سلوكا بعينه، فثمة تفسير واضح لسلوكه دائما. وإذا كان ولفريد إحدى شخصيات قصصه، وهو ما يحدث عادة، فلا بد أن يكون الحظ حليفه دائما بشكل أو بآخر؛ فيفوز بوجبة شهية أو زجاجة ويسكي أو مبلغ من المال، ولكن لا الحظ ولا المال كان لهما دور في هذه القصة، فتساءلت لم قص عليهم ألبرت هذه القصة، ومغزاها بالنسبة له. «ما الذي جعلك تتذكر هذه القصة يا ألبرت؟»
فور أن طرحت سؤالها، أدركت أنها ما كان ينبغي أن تتكلم؛ فلم يكن الأمر يعنيها.
قالت: «أرى أن لديهم فطائر التفاح أو الزبيب.»
قال ولفريد بصوت أجش: «لا توجد فطائر تفاح أو زبيب في مستنقع هوليت ذاك! أنا سأتناول فطيرة تفاح.»
التقط ألبرت قطعة من الهامبرجر البارد ثم وضعها تارة أخرى وقال: «هذه ليست قصة، بل حدث حقيقي.» •••
أزالت ملدريد أغطية وفرش السرير الذي نام عليه الزائرون، ولم تفرش غيرها. واستلقت إلى جوار ولفريد في ليلتهما الأولى بمفردهما.
قبل أن تخلد إلى النوم، قالت لولفريد: «ما من شخص عاقل يذهب ليعيش في مستنقع.»
قال ولفريد: «إذا أردت العيش في مكان كهذا، فإن أفضل خيار سيكون الغابة حيث لن تجدي مشكلة في إشعال النار إن شئت.»
يبدو أنه استعاد روح دعابته، لكن بكاءه أيقظها ليلا، لم تصب بالدهشة لأنها رأته وهو يبكي من قبل، عادة ليلا. كان من الصعب أن يجزم أحد بكيفية معرفتها ببكائه؛ فهو لم يكن يحدث أي ضجة، ولم يكن يتحرك. لعل هذا نفسه هو الشيء غير المألوف، فقد كانت تعرف أنه مستلق إلى جوارها على ظهره وعيناه مغرورقتان بالدموع التي تبلل وجهه. «ولفريد؟»
فيما سبق، عندما كان يوافق على إطلاعها على سبب بكائه، كان السبب يبدو عجيبا جدا بالنسبة لها، يبدو سببا ارتجله في لحظتها، أو مجرد سبب لا يمت إلا بصلة ضعيفة للسبب الحقيقي، أو لعل هذا هو أقصى ما يستطيع التعبير عنه. «ولفريد.» «من المرجح أنني وألبرت لن نلتقي مرة أخرى أبدا.» قالها ولفريد بصوت عال دون أن تدمع عيناه، ودون أن يشي صوته بالرضى أو الندم.
قالت ملدريد: «ما لم نذهب إلى ساسكاتشوان.» وكانا بالفعل قد تلقيا دعوة لزيارة ساسكاتشوان، ولكنها ظنت آن ذاك أن احتمال ذهابها إلى تلك المدينة يساوي بالضبط احتمال ذهابها إلى سيبيريا.
أضافت ملدريد: «يوما ما.»
قال ولفريد: «نعم، ربما يوما ما.» التقط نفسا طويلا وبصوت عال بدا علامة على الرضى، «لكنه ليس الأسبوع القادم.»
أقمار المشتري
عثرت على أبي في قسم القلب بالطابق الثامن من مستشفى تورونتو العام. كان في غرفة مزدوجة، وكان السرير الآخر خاليا. وقال لي أبي سابقا إن تأمينه الصحي لا يغطي سوى سرير في العنبر، وكان قلقا من أن يضطر إلى دفع مصاريف إضافية.
قال: «لم أطلب غرفة مزدوجة قط.»
قلت إن العنابر على الأرجح ممتلئة عن آخرها. «لا، فقد رأيت بعض الأسرة الشاغرة بينما كانوا يسوقون كرسيي المتحرك ليجيئوا بي إلى هنا.»
قلت: «ربما السبب إذن هو ضرورة إيصالك بهذا الجهاز. لا تقلق. إذا كانت هناك أية تكاليف إضافية، فسيقولون لك.»
قال: «هذا صحيح على الأرجح. ما كانوا ليضعوا هذه الأجهزة في العنابر. أعتقد أن تأميني يغطي استخدام هذه الأجهزة.»
قلت إنني على يقين أنه كذلك.
كانت ثمة أسلاك ملصقة بصدره، وشاشة صغيرة معلقة فوق رأسه. وعلى الشاشة خط متعرج لامع يسير باستمرار. ويصاحب ظهوره إشارة صوتية مثيرة للأعصاب. كان أداء قلبه معروضا على الشاشة. حاولت أن أتجاهله. بدا لي أن التركيز الشديد فيه - بل والمبالغة في الانتباه إلى ما يفترض أن يكون نشاطا سريا جدا - يجلب الكثير من المتاعب. فأي شيء معروض على هذا النحو عرضة لأن يزداد نشاطه وتسوء حالته.
لكن أبي لم ينتبه. قال إنهم أعطوه مهدئات؛ حبوب السعادة. فبدا هادئا ومتفائلا.
كان الأمر مختلفا تماما البارحة. عندما أودعه المستشفى في غرفة الطوارئ، كان شاحب اللون مطبق الفم. فتح باب السيارة، ووقف وقال بهدوء: «ربما كان من الأفضل أن تحضري لي كرسيا متحركا.» تكلم بالنبرة نفسها التي يتكلم بها وقت الأزمات. ذات مرة، اندلعت النيران في مدخنتنا. كانت ظهيرة يوم أحد، وكنت في غرفة الطعام أحيك ثوبا. دخل وقال بنبرته التحذيرية الواقعية نفسها: «جانيت، هل تعلمين أين أجد بعضا من مسحوق الخبيز؟» كان يريد أن يلقي به على النار. وبعدها قال: «أعتقد أنك السبب - لأنك عكفت على الحياكة يوم الأحد.» (ثمة أسطورة مسيحية تقول إن الحياكة يوم الأحد تجلب الحظ السيئ.)
اضطررت للانتظار لأكثر من ساعة في غرفة انتظار الطوارئ. استدعوا إخصائي قلب من نفس المستشفى، وكان شابا في مقتبل العمر. استدعاني إلى الردهة، وشرح لي أن أداء أحد صمامات القلب سيئ للغاية، والحالة تستدعي إجراء جراحة فورية.
سألته عما يمكن أن يحدث إن لم تجر الجراحة.
قال الطبيب: «سيتحتم عليه أن يلزم الفراش.» «إلى متى؟» «ربما لثلاثة أشهر.» «أعني إلى متى سيعيش؟»
قال الطبيب: «هذا ما أعنيه أيضا.»
ذهبت لرؤية أبي. كان جالسا في سريره في زاوية معزولة بستارة. قال: «الحالة مستعصية، أليس كذلك؟ هل حدثك عن الصمام؟»
قلت: «ليست مستعصية تماما.» ثم كررت على مسامعه أي شيء يبعث على الأمل قاله الطبيب، بل وبالغت فيه، «لست في حالة حرجة حاليا. وبخلاف القلب، حالتك البدنية جيدة.»
قال أبي بكآبة: «بخلاف القلب.»
كنت متعبة من القيادة؛ إذ اضطررت إلى الذهاب لداجليش لأخذه من هناك، ثم عدت مرة أخرى إلى تورونتو منذ الظهيرة. كما كنت قلقة بشأن إعادة السيارة المستأجرة في الوقت المحدد، ومنزعجة بسبب ما قرأته في مقال طالعته في مجلة بغرفة الانتظار. كان المقال عن كاتبة أخرى، امرأة أصغر وأجمل مني، وربما أكثر موهبة أيضا. كنت في زيارة إلى إنجلترا لمدة شهرين؛ ولذا لم أر هذا المقال من قبل، لكن خطر لي أثناء القراءة أن يكون أبي قد طالعه. أستطيع أن أسمع صوته وهو يقول إنه لم يجد لي أي ذكر في مجلة ماكلينز. وإذا كان قد طالع شيئا عني لقال إنه لم يركز في المقال، ولكانت نبرة صوته مازحة متسامحة، ومع ذلك كان يثير بداخلي إحساسا مألوفا بالغربة والوحشة. كانت الرسالة التي تصلني منه بسيطة: الشهرة لا تتأتى إلا بالكفاح، وعندما تنالها يجب أن تعتذر عنها. وسواء نلتها أو لم تنلها، لن تفلت من لوم اللائمين.
لم يفاجئني تشخيص الطبيب. كنت على أهبة الاستعداد لسماع أخبار مثيلة، وشعرت بالرضى عن نفسي؛ إذ تعاملت مع الموقف بهدوء، تماما كما كنت سأشعر بالرضى عن نفسي لتضميد جرح أو التطلع من شرفة آيلة للسقوط في بناية عالية. حدثت نفسي بأن الأوان قد آن؛ لا بد أن يحدث شيء ما. ها هو ذا، لم يراودني أي شعور بالاعتراض أو الرفض الذي كان يراودني منذ عشرين عاما، بل منذ عشرة أعوام. وعندما رأيت في ملامح أبي شعوره بالاعتراض على ما جرى له - شعور بالرفض ملأ قلبه وكأنه أصغر بثلاثين أو أربعين عاما - قسا قلبي وحدثته بانشراحة صدر ملحة ومزعجة، قلت: «بخلاف ذلك الاحتمالات كثيرة.» •••
في اليوم التالي عاد إلى طبيعته مرة أخرى.
قال أبي ما كنت سأقوله له تماما. قال إنه يرى أن الطبيب الشاب ربما كان متحمسا أكثر من اللازم لإجراء العملية. وأضاف أنه «سعيد بمشرط الجراحة.» كان ساخرا ومتباهيا بالألفاظ الشائع استخدامها في المستشفى. قال إن طبيبا آخر فحصه، طبيبا أكبر سنا، وقرر أن الراحة والعلاج سيؤديان الغرض.
لم أسأله عن التفاصيل. «قال إن لدي صماما معيبا، حسنا، لا شك أن هذه مشكلة. أرادوا أن يعرفوا إذا كنت قد عانيت من حمى روماتيزمية في طفولتي، فقلت إني لا أعتقد ذلك . لكن آنذاك لم يكن الأطباء يشخصون ما يعانيه المرضى في معظم الوقت. كما أن والدي لم يكن ممن يستعينون بالأطباء.»
جعلني التفكير في طفولة أبي التي تخيلتها دوما بائسة وخطيرة - المزرعة المعدمة والأخوات المذعورات والأب القاسي - أقل استسلاما لموته. تخيلته هاربا للعمل على قوارب البحيرة، تخيلته يعدو بطول شريط السكك الحديدية، وباتجاه جودريتش في ضوء القمر. اعتاد أن يحكي عن هذه الرحلة. في مكان ما على طول السكك الحديدية عثر على شجرة سفرجل. أشجار السفرجل نادرة في البقعة التي نعيش فيها من الريف؛ الواقع أنني لم أر واحدة قط. ولا حتى تلك التي عثر عليها أبي، مع أنه اصطحبنا يوما في رحلة استكشافية للبحث عنها. ظن أنه يعرف تقاطع الطرق الذي كانت قريبة منه، لكننا لم نستطع العثور عليها. لم يستطع وقتئذ تناول ثمار الشجرة بالطبع، لكنه انبهر بفكرة وجودها؛ فقد جعلته يشعر وكأنه وصل إلى جزء جديد من العالم.
ذلك الطفل الذي فر من بيته، الذي نجا من المخاطر وظل على قيد الحياة، أضحى اليوم عجوزا محجوزا هنا بسبب قلبه الواهن. لم أتابع هذه الأفكار. لم أعبأ بالتفكير في شخصياته وهو أصغر سنا. حتى جذعه العاري الأبيض الممتلئ - كان يتمتع بجسم عمال جيله الذين نادرا ما يتعرضون للشمس - كان خطرا علي؛ بدا قويا جدا ومفعما بالشباب. العنق المجعد، والنمش الذي يغطي يديه وذراعيه، ورأسه الصغير اللطيف بشعره الخفيف وشاربه الرمادي، كانت تلك هي الأشياء التي اعتدت عليها.
سألني أبي بعقلانية: «ما الذي يدفعني إلى الخضوع لعملية جراحية إذن؟ فكري في الخطر الذي تنطوي عليه العملية لمن هم في مثل سني، ومن أجل ماذا؟ بضع سنوات خارج المستشفى. أعتقد أن الخيار الأفضل بالنسبة لي أن أعود إلى البيت ولا أشق على نفسي. أستسلم بهدوء. هذا كل ما يستطيع من هم في عمري القيام به. موقف الإنسان يتغير حسب عمره كما تعرفين. تطرأ على المرء بعض التغييرات النفسية. ويبدو ذلك الشيء طبيعيا بقدر أكبر.»
سألته: «أي شيء تقصد؟» «الموت. لا شيء أكثر طبيعية من الموت. لا، ما أعنيه تحديدا هو أنني لن أخضع للعملية.» «أيبدو لك هذا قرارا طبيعيا؟» «نعم.»
قلت: «الأمر يرجع إليك.» ولكنني كنت أوافقه الرأي تماما. هذا ما كان يجب أن أتوقعه منه. كلما حدثت الناس عن أبي، أكدت على استقلاله واعتماده على نفسه وصبره. لقد عمل في أحد المصانع، وتعهد حديقته بالرعاية، وقرأ كتب التاريخ. يمكنه أن يقص عليك قصص الأباطرة الرومان أو حروب البلقان. لم يحدث جلبة في حياته. •••
استقبلتني جوديث - ابنتي الصغرى - في مطار تورونتو منذ يومين. وكان بصحبتها الفتى الذي تعيش معه؛ اسمه دون. كانا يعتزمان الرحيل إلى المكسيك في صباح اليوم التالي، وكان المخطط أن أنزل ضيفة على شقتهما طوال إقامتي في تورونتو. في الوقت الراهن، أعيش في فانكوفر. وأحيانا أقول إن محل إقامتي في فانكوفر.
سألتها: «أين نيكولا؟» وخطر على بالي في نفس اللحظة تعرضها لحادث أو جرعة مخدرات زائدة. نيكولا ابنتي الكبرى. كانت طالبة بمعهد الموسيقى، ثم صارت نادلة، ثم أمست عاطلة عن العمل. لو كانت استقبلتني بالمطار، لربما تفوهت بما يسيء إليها. لربما سألتها عن خططها، وحينها كانت ستزيح شعرها للوراء بأناقة وتقول: «خطط؟» - وكأنها كلمة من اختراعي.
ردت جوديث: «كنت أعلم أن أول ما ستتكلمين عنه هو نيكولا.» «غير صحيح. قلت مرحبا وأنا ...»
قال دون محايدا: «سنحضر حقيبتك.» «أهي بخير؟»
أجابت جوديث بمرح مصطنع: «أنا متأكدة أنها بخير. لو كنت أنا التي لم تأت لاستقبالك لما بدوت قلقة هكذا.» «بالطبع كنت سأقلق.» «غير صحيح. نيكولا هي الطفلة المدللة للعائلة. إنها أكبر مني بأربع سنوات، كما تعلمين.» «من المفترض أن أعلم.»
قالت جوديث إنها لا تعرف مكان نيكولا تحديدا. وأضافت أن نيكولا تركت شقتها (مقلب القمامة هذا!) واتصلت هاتفيا بها (وهو حدث جلل أن تتصل نيكولا) لتقول إنها أرادت أن تعيش في عزلة عن الناس لفترة من الوقت، ولكنها بخير.
قالت جوديث بلطف أكبر ونحن في الطريق إلى شاحنتهم: «قلت لها إنك ستقلقين عليها.» تقدمنا دون حاملا حقيبتي. واستطردت قائلة : «لكن لا تقلقي. صدقيني، هي بخير.»
لم يرحني حضور دون؛ لم أكن أحب أن يسمع هذه الأشياء. تخيلت الحوارات التي لا بد أنها دارت بين جوديث ودون، أو بين دون وجوديث ونيكولا - لأن نيكولا وجوديث كانتا على علاقة طيبة في بعض الأحيان - أو بين دون وجوديث ونيكولا وغيرهم ممن لا أعرف حتى أسماءهم. لا بد أنهم تحدثوا عني. لا بد أن جوديث ونيكولا كانتا تتبادلان الملاحظات، وتقصان الحكايات؛ تحللان، وتأسفان، وتلومان، وتسامحان. ليتني أنجبت صبيا وفتاة، أو صبيين؛ لم يكونا ليفعلا ذلك؛ فمن المستحيل أن يعرف الصبية الكثير عن أمهم.
كنت أتصرف على النحو نفسه عندما كنت في سنهما؛ ففي سن جوديث، كنت أتحدث مع أصدقائي في مطعم الجامعة، وفي وقت متأخر من الليل ونحن نحتسي القهوة في غرفنا الرثة. بينما عندما كنت في عمر نيكولا، كانت نيكولا نفسها في سلة حمل الأطفال أو تتحرك في حجري، وكنت أحتسي القهوة أيضا طوال فترات العصاري المطيرة في فانكوفر برفقة صديقتي الوحيدة في الحي روث بودرو، التي كانت تعشق القراءة وتشعر بالارتباك كلما فكرت في حالها كما كنت أرتبك أنا شخصيا. كنا نتحدث عن أبوينا وطفولتنا، رغم أننا كنا في بعض الأحيان نعمد إلى تجنب الحديث عن زيجاتنا. كم كنا نسترسل في الحديث عن آبائنا وأمهاتنا، ونستنكر زيجاتهم، وطموحاتهم الخاطئة أو خوفهم من الطموح! وكم أهملناهم ونجحنا في إقصائهم عن حياتنا، وقررنا عدم قدرتهم على التغيير! يا للتبجح!
نظرت إلى دون وهو يمشي أمامي. كان فتى طويل القامة تبدو عليه الجدية والبساطة، ذا شعر أسود ثقيل، ولحية منمقة بدقة. بأي حق يسمع عني ويعرف تفاصيل حياتي التي ربما أكون قد نسيتها شخصيا؟ بدت لي لحيته وقصة شعره متكلفتين.
ذات مرة، عندما كان أبنائي صغارا، قال لي أبي: «أتعرفين تلك السنوات التي كبرت خلالها ... حسنا، لقد أمست ذكرى ضبابية بالنسبة لي. لا يسعني أن أميز بين سنة وأخرى من هذه الفترة.» شعرت وقتها بالاستياء. وتذكرت كل سنة منها بأسى ووضوح. كان بإمكاني أن أحزر كم كان عمري عندما كنت أذهب لمشاهدة فساتين السهرة في نافذة عرض محلات بينبو لملابس السيدات. كل أسبوع خلال الشتاء، كان يعرض فستان جديد في نافذة العرض وتسلط عليه الأضواء - هذا بترتر ومصنوع من قماش التل، وهذا وردي، وهذا أرجواني فاتح، وهذا أزرق غامق، وهذا أصفر - وأنا أقف متعبدة محرومة يقرصني البرد على الرصيف الموحل. كان بالإمكان أن أحزر كم كان عمري عندما زورت توقيع أمي على تقرير مدرسي متدني الدرجات، وعندما أصبت بالحصبة، وعندما قمنا بتجهيز الغرفة الأمامية. لكن السنوات التي كانت جوديث ونيكولا فيها صغيرتين - عندما كنت أعيش مع أبيهما - أمست ضبابية، نعم، ضبابية هي أفضل صفة تصف تلك الفترة. أتذكر أنني كنت أجفف الحفاظات على حبال الغسيل، وأعود لأجمعها وأطويها؛ ويمكنني أن أتذكر طاولة المطبخ في منزلين أقمنا بهما، ومكان سلة الملابس. أتذكر البرامج التليفزيونية - باباي رجل البحار، والمهرجون الثلاثة وفانوراما. وعندما كان برنامج فانوراما يعرض، يحين وقت إضاءة الأنوار وإعداد طعام العشاء. لكنني عجزت عن التمييز بين الأعوام. عشنا خارج مدينة فانكوفر في مدينة سكنية للمغتربين تدعى دورمير، أو دورمر أو دورماوس - شيء من هذا القبيل. كنت أنام كثيرا حينئذ؛ الحمل جعلني ناعسة طوال الوقت؛ وكذلك الرضاعة الليلية، وهطول الأمطار على الساحل الغربي. أتذكر أشجار الأرز التي يقطر ماء المطر من فوقها، ونبات الغار اللامع بقطرات المياه؛ تثاؤب الزوجات وغلبة النوم عليهن، والزيارات واحتساء القهوة وطي الحفاظات؛ الأزواج الذين يرجعون إلى بيوتهم ليلا من المدينة الواقعة على الضفة الأخرى. كل ليلة كنت أقبل زوجي لدى عودته إلى البيت في معطفه المبلل، وآمل أن يوقظني من النوم؛ كنت أعد له اللحم والبطاطس ونوعا من الخضراوات الأربع التي يسمح لي بطهيها. كان يتناول طعامه بشراهة مهولة، ويغلبه النعاس على أريكة غرفة المعيشة. أمسينا زوجين كالأزواج في أفلام الكرتون؛ كأننا في منتصف العمر وما زلنا في العشرينيات.
هذه السنوات المتخبطة هي التي ستذكرها طفلتانا طوال حياتهما. زوايا الأفنية التي لعبتا فيها ولم أزرها قط هي ما ستلتصق بذاكرتهما .
سألت جوديث: «ألم ترغب نيكولا في رؤيتي؟»
أجابت جوديث: «لا تريد أن ترى أحدا معظم الوقت.» تقدمت جوديث إلى الأمام ولمست ذراع دون. كنت أعرف مغزى هذه اللمسة - كانت اعتذارا، وسيلة قلقة لطمأنته. فالمرأة حينما تلمس رجلا بهذه الطريقة فهي تفعل ذلك لتذكره بامتنانها له، وبإدراكها أنه يقوم لأجلها بشيء ممل بالنسبة له أو يهدد كرامته بعض الشيء. أشعرتني طريقة لمس ابنتي لرجل - بل صبي - بهذه الطريقة بالهرم أكثر مما لو كان عندي أحفاد. شعرت بتوترها المشوب بالحزن، وكنت قادرة على توقع لفتاتها الملطفة. طفلتي الشقراء الصريحة قصيرة القامة ممتلئة القوام. لم ينبغي أن أظن أن مشاعرها لن تتحرك لأحد، وأنها ستظل دائما صريحة وخرقاء ومستقلة؟ بالضبط كما أزعم أن نيكولا ماكرة ومنعزلة وباردة ومغرية. لا بد أن كثيرا من الناس يعرفون أشياء تناقض مزاعمي.
في الصباح، غادر دون وجوديث إلى المكسيك. وقررت أني أريد رؤية شخص خارج نطاق أقاربي، شخص لم يكن يتوقع مني أي شيء تحديدا. اتصلت بعشيق سابق لي، لكنني تلقيت رسالة على المجيب الآلي: «توم شيبارد يتحدث. سأكون خارج المدينة خلال شهر سبتمبر. برجاء تسجيل رسالتك واسمك ورقم هاتفك.»
بدا صوت توم مبهجا ومألوفا جدا لدرجة أنني كدت أفتح فمي لأسأله عن مغزى رسالته الحمقاء هذه، لكنني وضعت سماعة الهاتف. شعرت وكأنه فعل ذلك عن عمد ليخيب ظني، وكأننا خططنا للقاء في مكان عام، فلم يحضر. أذكر أنه فعلها ذات مرة.
أعددت لنفسي كأسا من الفيرموت، مع أن الوقت لم يتجاوز الظهيرة بعد، واتصلت بأبي.
قال: «حسنا، أهم شيء أنك لو تأخرت 15 دقيقة أخرى عن الاتصال، لما لحقت بي.» «هل كنت ستذهب إلى وسط البلد؟» «وسط تورونتو.»
قال إنه ذاهب إلى المستشفى؛ فقد أراد طبيبه في داجليش أن يفحصه الأطباء في تورونتو، وأعطاه خطابا لعرضه عليهم في غرفة الطوارئ.
سألته: «غرفة الطوارئ؟» «الأمر ليس طارئا. يبدو أنه يعتقد أن هذه هي الطريقة المثلى للتعامل مع الأمر. يعرف اسم زميل له هناك. ولو كان سيحدد لي موعدا ، لاستغرق الأمر أسابيع طويلة.»
سألته: «هل طبيبك على علم بأنك ستقود سيارتك حتى تورونتو؟» «حسنا، لم يقل إنني لا أستطيع.»
كانت محصلة هذا الحوار أنني استأجرت سيارة، وقدتها إلى داجليش، ورجعت بأبي إلى تورونتو، وأودعته غرفة الطوارئ في السابعة من مساء ذلك اليوم.
قبل رحيل جوديث قلت لها: «هل أنت متأكدة أن نيكولا تعرف أنني مقيمة هنا؟»
قالت: «نعم، لقد أخبرتها.»
كان الهاتف يرن بين الفينة والأخرى، لكن المتصل دائما يكون صديقا لجوديث. •••
قال أبي: «يبدو أنني سأخضع للعملية.» كان هذا في اليوم الرابع من إقامته بالمستشفى. كان قد غير رأيه تماما بين ليلة وضحاها. «يبدو أن من الأفضل أن أخضع لها.»
لم أعرف ماذا كان يريدني أن أقول. حسبت أنه ربما كان ينتظر مني اعتراضا أو محاولة لإقناعه بالعدول عن الجراحة.
سألته: «متى سيجرونها؟» «بعد غد.»
قلت إنني ذاهبة إلى الحمام. فقصدت غرفة الممرضات، وهناك وجدت امرأة ظننت أنها رئيسة التمريض. على أية حال، كانت ذات شعر رمادي لطيفة وتبدو عليها الجدية.
قلت لها: «أبي سيخضع لعملية جراحية بعد غد.» «أوه، نعم.» «أردت فقط أن أتحدث مع أحد بشأنه. ظننت أن الأطباء قرروا أنه من الأفضل ألا يخضع للعملية. وأعتقد أن السبب أنه طاعن في السن.» «حسنا، القرار قراره وقرار الطبيب.» ثم ابتسمت لي دون تعال. «من الصعب اتخاذ هذه القرارات.» «كيف كانت نتائج فحوصاته؟» «حسنا، لم أطلع على جميع فحوصاته.»
كنت متأكدة أنها اطلعت عليها. بعد لحظة قالت: «يجب أن نكون واقعيين. لكن الأطباء هنا بارعون جدا.»
عندما عدت إلى الغرفة، قال أبي بصوت مندهش: «بحار بلا شطآن.»
سألته: «ماذا؟» تساءلت ما إذا كان قد اكتشف الوقت المتبقي له في الحياة، أو كم أن الوقت المتبقي له محدود. تساءلت ما إذا كانت الأقراص التي يتعاطاها قد أدخلته في حالة من النشوة المفرطة، أم أنه أراد المقامرة. ذات مرة، بينما كان يتكلم معي عن حياته، قال: «مشكلتي أنني كنت دوما أخشى المخاطرة.»
كنت أقول للناس دوما إنه لم يتكلم عن حياته نادما قط، لكن هذا لم يكن صحيحا. كل ما في الأمر أنني لم أكن أنصت إليه. قال إنه كان ينبغي أن يعمل موردا للجيش - كانت حالته المادية ستتحسن. وقال إنه كان ينبغي أن يزاول مهنة النجارة مستقلا بعد الحرب. وكان ينبغي أن يغادر مدينة داجليش. ذات مرة قال: «حياة ضائعة، أليس كذلك؟» لكنه كان يسخر من نفسه، قائلا إن مثل هذه العبارة درامية للغاية. وكان كلما يقتبس شعرا، أستشعر دوما نبرة ساخرة في صوته، وكأنها اعتذار عن استعراض معرفته الشعر واعتذار عن الترفيه عن نفسه.
قال مجددا: «بحار بلا شطآن.» واستطرد: ««وراءه تقبع جزر الأزور الرمادية، خلف بوابات هرقل؛ أمامه ما من سراب للشطآن، أمامه بحار بلا شطآن.» هذا ما كان يدور بخلدي ليلة أمس. ولكن، هل تعتقدين أني استطعت تذكر نوع البحار؟ لم أستطع. أكانت بحارا موحشة؟ بحارا خاوية؟ كنت على وشك أن أتذكرها، لكنني لم أستطع. ولكن الآن عندما دلفت إلى الغرفة، ولم أكن أفكر فيها مطلقا، خطرت لي الكلمة فجأة. هذا ما يحدث دائما، أليس كذلك؟ الأمر ليس مفاجئا؛ فأنا أطرح على عقلي سؤالا. وتكون الإجابة حاضرة، لكنني لا أستطيع أن أرى العلاقات التي يصنعها عقلي للوصول إليها. شأنه شأن الحاسب الآلي، لا يوجد شيء فيه يتعذر إيجاده. أتعرفين، في حالتي هذه، لو كان هناك أي شيء لا يمكنني تفسيره مباشرة، فثمة دافع قوي بداخلي يجعلني ... حسنا يجعلني أحوله إلى لغز. ثمة دافع قوي يجعلني أومن ب ... أنت تعرفين قصدي.»
سألته برفق وفي داخلي شعور هائل بالحب والتقدير: «بالروح؟» «أوه، أعتقد أنه يمكنك إطلاق اسم الروح عليه. أتعرفين، عندما دخلت الغرفة أول مرة، كانت هناك كومة من الأوراق إلى جوار السرير. أحدهم تركها هنا - تلك الصحف الصفراء التي لم أعبأ يوما بتصفحها. وشرعت في قراءتها. سأقرأ أي شيء يقع تحت يدي. ثمة سلسلة منشورة في تلك الصحيفة عن تجارب شخصية لأناس ماتوا من وجهة النظر الطبية - معظمهم أصيبوا بأزمات قلبية - ثم عادوا للحياة مرة أخرى . يروون ذكرياتهم عن الفترة التي فارقوا فيها الحياة. تجاربهم.»
سألته: «وهل كانت ذكريات سعيدة أم لا؟» «أوه، سعيدة. كانت أرواحهم تصعد إلى سقف الغرفة ليتطلعوا إلى أجسادهم من عل والأطباء يعالجونهم. وبعدها يصعدون لأعلى، ويتعرفون على بعض الأشخاص الذين فارقوا الحياة قبلهم. لا يرونهم تحديدا، لكن يستشعرون وجودهم. تارة على هيئة طنين، وتارة أخرى على هيئة ... ما اسم هذا الضوء أو اللون الذي يحيط بالإنسان؟» «هالة؟» «بالضبط، ولكن دون أن يكون للشخص نفسه وجود. هذا كل ما يرونه؛ وبعدها يرجعون إلى أجسادهم، ويشعرون بالآلام البشرية كلها ... يرجعون إلى الحياة.» «هل بدا كلامهم مقنعا؟» «أوه، لا أعرف. الأمر يرتهن بما إذا كنت تودين تصديق مثل هذه الأشياء أم لا. وإذا كنت ستصدقينها، وتأخذينها على محمل الجد، أعتقد أنك يجب أن تتعاملي مع كل ما ينشر في هذه الصحف بجدية أيضا.» «ماذا فيها خلاف ذلك؟» «هراء ... علاجات للسرطان والصلع وكلام فارغ عن جيل الشباب والمستفيدين من إعانات الدولة. وأخبار تافهة عن نجوم السينما.» «نعم، أعرف ذلك.»
قال: «من هم في مثل حالتي يجب أن يتوخوا الحذر وأن ينتبهوا جيدا، وإلا فسيخدعون أنفسهم.» ثم قال: «هناك بعض التفاصيل الدقيقة التي ينبغي أن نقف عليها.» وأخبرني عن وصيته والبيت والمقبرة. كان كل شيء بسيطا.
سألته: «هل تريدني أن أتصل ببيجي؟» بيجي أختي، وهي زوجة لفلكي وتعيش في فيكتوريا.
فكر في الأمر، وقال أخيرا: «أعتقد أننا يجب أن نخبرهما. ولكن قولي لهما لا داعي للقلق.» «حسنا.» «لا، تمهلي. من المفترض أن يذهب سام لأحد المؤتمرات نهاية هذا الأسبوع، وبيجي كانت تعتزم مرافقته. لا أريد لهما الحيرة بشأن تغيير خططهما.» «أين سيعقد المؤتمر؟»
قال بفخر: «في أمستردام.» كان فخورا بسام، وحريصا على تتبع كتبه ومقالاته. كان يختار واحدة من مقالاته ويقول بنبرة إعجاب لم تخل من قليل من السخرية: «هلا تلقين نظرة عليها؟ لا أفهم كلمة واحدة منها!»
كان يقول: «البروفيسور سام، وصغاره الثلاثة.» هكذا كان يشير إلى أحفاده الذين كانوا يشبهون أباهم في ذكائه وفي ثقته المحببة بذاته ... ميله البريء المفعم بالحيوية للاستعراض والتباهي. التحقوا بمدرسة خاصة تميل إلى تطبيق النظام التعليمي القديم، وبدءوا في دراسة التفاضل والتكامل في الصف الخامس. أحيانا ما يسهب أبي في وصفهم مشبها إياهم: «بالكلاب الذين تدربوا على الطاعة. وبيجي ...»
ولكن إذا قلت: «هل تفترض أنها تدربت على الطاعة هي الأخرى؟» كان يكف عن العبث. أتخيل أنه عندما كان بصحبة سام وبيجي، كان يتكلم عني بالأسلوب ذاته، وأنه لمح إلى تقلباتي المزاجية كما لمح إلى جديتهم الزائدة، وأنه ألقى نكاتا عني، ولم يخف دهشته (أو تظاهر بأنه لم يخفها) من أن الناس يدفعون لقاء قراءة ما أكتبه. كان عليه أن يفعل ذلك كي لا يبدو أبدا متباهيا بي، لكنه كان يضع حدا لنفسه كلما أحس أن مزاحه أوشك أن يتجاوز الحد. وبالطبع عثرت لاحقا في البيت على أشياء لي احتفظ بها - بضع مجلات، وقصاصات، وأشياء لم أعبأ بها قط.
والآن، أبحر بأفكاره من عائلة بيجي إلي. سألني: «هل اتصلت بك جوديث؟» «ليس بعد.» «حسنا، لم يمض وقت طويل. هل كانا يعتزمان النوم في الشاحنة؟» «نعم.» «أعتقد أنها آمنة بالقدر الكافي، إذا توقفا في الأماكن المناسبة.» كنت أعرف أنه سيسهب في كلامه هذا، وكنت أعرف أن إسهابه سيميل إلى الهزل. «أعتقد أنهما سيضعان لافتة في منتصف الطريق، شأنهما شأن المستكشفين الأوائل، أليس كذلك؟»
ابتسمت لكنني لم أجبه. «أفهم من ذلك أنك ليس لديك اعتراضات؟»
قلت: «نعم.» «هذا ما آمنت به أنا أيضا؛ ألا أتدخل في شئون أبنائي. حاولت ألا أقول أي شيء. لم أقل شيئا قط عندما هجرت ريتشارد.» «ماذا تعني أنك لم تقل شيئا؟ أتعني أنك لم تنتقدني؟» «لم يكن الأمر يخصني.» «لا.» «لكن هذا لا يعني أنني كنت راضيا عن هذه الخطوة.»
أصابتني الدهشة، لا لما قاله وحسب، ولكن لإحساسه بأن لديه الحق، حتى في هذه اللحظات، أن يقوله. اضطررت أن أتطلع من النافذة على السيارات المارة حتى أتمالك نفسي.
أضاف قائلا: «أردت أن تعرفي شعوري وحسب.»
منذ فترة طويلة ، قال لي بأسلوبه الرقيق: «أمر عجيب. عندما رأيت ريتشارد لأول مرة ذكرني بما كان أبي يقوله. كان يقول لو كان ذلك الرجل يتمتع بنصف ما يزعم من ذكاء، لكان أذكى مرتين مما هو في واقع الأمر.»
التفت لأذكره بذلك، لكنني وجدت نفسي أتطلع إلى الخط المتعرج على شاشة مراقبة أداء القلب. لم يكن ثمة خطب ما، لم يكن هناك أي اختلاف مثلا في صوت الصفير والنقاط المرسومة. ولكن مجرد وجوده هناك. رأى أبي أين نظرت، فقال: «ميزة غير عادلة.» فقلت: «إنها كذلك. سأضطر إلى أن أوصل جسدي ببعض الأجهزة أنا أيضا.» ضحكنا ثم قبلته بشكل رسمي، وغادرت المكان. حدثت نفسي أنه على الأقل لم يسألني عن نيكولا. •••
لم أذهب إلى المستشفى ظهر اليوم التالي لأن أبي كان سيخضع لبعض الفحوصات استعدادا للعملية الجراحية. كان من المقرر أن أزوره مساء. وجدت نفسي أتجول بين محلات الملابس في شارع بلور وأقيس بعض الثياب. وفجأة طغى علي انشغالي بالموضة وبمظهري الخارجي وغمرني كصداع قاتل. أخذت أتطلع إلى النساء في الشارع والملابس في المحلات في محاولة اكتشاف ما الجديد الذي يمكن أن يطرأ على مظهري وما يمكنني شراؤه. كنت أدرك سبب هذا الهوس المفاجئ، لكنني وجدت صعوبة في التغلب عليه. قال لي بعض الناس إنهم، عندما يكونون في انتظار أنباء متعلقة بحياة أو موت عزيز لديهم، يقفون أمام الثلاجة المفتوحة على مصراعيها ليأكلوا أي شيء أمامهم - بطاطس مسلوقة باردة، أو صلصة حارة، أو علب الكريمة المخفوقة - أو لا يكفون عن حل الكلمات المتقاطعة. في تلك اللحظات، ينصب الانتباه على شيء ما - شيء يشتت التفكير عن الحدث الأصلي - فينشغل الإنسان به تماما، ويمسي جديا للغاية. ظللت أقلب في الملابس المرتبة على الرفوف، وأرتديها داخل غرف تبديل الملابس الحارة الصغيرة أمام المرايا القاسية. كنت أتصبب عرقا؛ ولمرة أو مرتين أحسست أنني على وشك الإغماء. ولما خرجت إلى الشارع مجددا، جال بخاطري أنني يجب أن أرحل عن شارع بلور، وقررت أن أزور المتحف.
تذكرت فترة أخرى عشتها في فانكوفر. خلال تلك الفترة كانت نيكولا ترتاد الحضانة، بينما كانت جوديث لا تزال رضيعة. اصطحبنا نيكولا إلى الطبيب لأنها كانت مصابة بنزلة برد، أو ربما لإجراء فحص روتيني لها، وكشف تحليل الدم شيئا يتعلق بخلايا الدم البيضاء - إما أن عددها كان أكثر من المعتاد أو أنها كانت متضخمة. طلب الطبيب فحوصات إضافية، فاصطحبت نيكولا إلى المستشفى لإجرائها. لم يذكر أحد أنها ربما تكون مصابة بسرطان الدم، لكنني كنت أعرف بالطبع أن هذا هو ما يبحثون عنه. عندما اصطحبت نيكولا إلى البيت، طلبت من جليسة الأطفال التي كانت ترعى جوديث أن تبقى لفترة الظهيرة، وذهبت للتسوق. اشتريت أجرأ ثوب حظيت به في حياتي؛ ثوبا ضيقا من الحرير الأسود مزينا بتطريز من الأمام. تذكرت ظهر ذاك اليوم الربيعي الجميل، والحذاء ذا الكعب العالي في المتجر، والملابس الداخلية المطبوعة بلون جلد النمر المرقط.
استرجعت ذاكرتي أيضا العودة إلى البيت من مستشفى سانت بول مرورا بجسر لايونز جيت في الحافلة المكتظة، ونيكولا تجلس على ركبتي. فجأة تذكرت نيكولا الاسم الذي كانت تطلقه على الجسر وهي صغيرة وهمست في أذني: «الجسل - على الجسل.» لم أتجنب قط لمس ابنتي - نيكولا كانت نحيلة وجميلة حتى آنذاك، بقوامها البديع وشعرها الأسود الناعم - لكنني أدركت أنني ألمسها بطريقة مختلفة، ولو أنني لم أكن أحسب أن هذا الاختلاف يمكن إدراكه قط. كنت ألمسها وأنا حريصة على ألا أغالي في لمس أي جزء منها. أدركت كيف يمكن استبقاء الحب بأشكاله مع شخص محكوم عليه بالموت، ولكن على أن يمنح الحب بانضباط وبمقدار محدد في واقع الأمر؛ لأنك لا بد وأن تصمد. ويمكن القيام بهذا باحتياط شديد بحيث لا يساور المحبوب أدنى شك، تماما كما لا يساورها شك في حكم الموت المحكوم عليها به. نيكولا لم تعرف، ولم يكن لها أن تعرف. كانت اللعب والقبلات والنكات تنهال عليها؛ لم يكن لها أن تعرف قط، رغم أني كنت أقلق من أن تشعر بأن ثمة خطبا ما خلال الإجازات المختلقة والأيام العادية المصطنعة . لكن الأمور سارت على ما يرام. لم تكن نيكولا مصابة بسرطان الدم. وكبرت نيكولا ولم تزل على قيد الحياة، وربما كانت سعيدة ومنعزلة عن الآخرين.
لم أستطع أن أفكر في أي شيء في المتحف أردت أن أراه حقا؛ ولذا فقد تجاوزته وقصدت القبة السماوية. لم يسبق لي أن زرت القبة السماوية من قبل. كان من المقرر أن يبدأ العرض في غضون عشر دقائق. دلفت إلى الداخل، واشتريت تذكرة، وانضممت إلى الصف. كان هناك فصل كامل من طلاب المدارس، وربما حتى فصلان، بصحبة المعلمين والأمهات المتطوعات الذين يقودون الأطفال. جلت ببصري لعلي أجد راشدين مستقلين آخرين، فعثرت على شخص واحد فقط؛ رجل أحمر الوجه منتفخ العينين بدا وكأنه بصدد زيارة القبة السماوية ليمنع نفسه من الذهاب إلى الحانة.
في الداخل، جلسنا على مقاعد مريحة بشكل مدهش، ومائلة للخلف بحيث يستلقي عليها الجالس وكأنه على أرجوحة شبكية، وانتباهه منصب على قبة السقف الذي سرعان ما استحال لونه إلى الأزرق الداكن، بينما حدوده محاطة بإضاءة خافتة. انبعث صوت موسيقى رائع وآسر. وطفق الراشدون يسكتون الأطفال في محاولة لإقناعهم بالكف عن طقطقة أكياس شرائح البطاطس المقلية. وبعدها ارتفع صوت رجل من الجدران، صوت معبر ومحترف، يتحدث ببطء وهدوء. ذكرني صوته بعض الشيء بالطريقة التي اعتاد بها مذيعو الراديو التقديم لقطعة موسيقى كلاسيكية، أو وصف تقدم العائلة المالكة إلى كنيسة وستمينستر آبي خلال واحد من احتفالاتهم الملكية. كان هناك تأثير صدى صوت ضعيف.
بدأت النجوم تملأ السقف المظلم. لكنها لم تخرج مرة واحدة، بل نجم تلو الآخر، كما تظهر النجوم حقا في الليل، ولو أنها كانت أسرع بعض الشيء. وظهرت مجرة درب التبانة، وكانت تقترب شيئا فشيئا؛ وسبحت النجوم حتى صارت لامعة مبهرة وشقت طريقها حتى ذوت عند أطراف القبة السماوية أو خلف رأسي. وبينما استمر تدفق الضوء، عرض صوت المعلق الحقائق المدهشة. قال إنه منذ بضع سنوات ضوئية، ظهرت الشمس كنجم مضيء، ولم يكن للكواكب أثر. وقبل ذلك ببضعة عشرات السنوات الضوئية، لم تكن الشمس مرئية أيضا للعين المجردة. وهذه المسافة - التي تقدر ببضعة عشرات السنوات الضوئية - توازي حوالي جزء من الألف من المسافة الفاصلة بين الشمس ومركز مجرتنا - مجرة واحدة - التي تحتوي بدورها على حوالي مائتي مليار شمس، وهي بدورها واحدة من ملايين، وربما حتى مليارات المجرات. تكرارات لا حصر لها، وتنويعات لا تحصى. كل هذه الأشياء كانت تمر من فوق رأسي أيضا ككرات البرق.
انحسر الواقع الآن، وأفسح المجال لحيلة مألوفة. ثمة نموذج للنظام الشمسي يدور مبتعدا بشكل أنيق. وثمة حشرة مضيئة انطلقت من الأرض باتجاه كوكب المشتري. برمجت عقلي المتملص المتضائل بإصرار على تسجيل الحقائق. يبلغ حجم المشتري مثلين ونصف حجم كل الكواكب مجتمعة. هذه البقعة الحمراء العظيمة. الأقمار الثلاثة عشر. تجاوزنا المشتري، وألقينا نظرة على المدار العجيب لكوكب بلوتو، والحلقات الثلجية لكوكب زحل. ثم عدنا إلى الأرض ومنها إلى كوكب الزهرة الحار المدهش البالغ ضغطه الجوي تسعة أمثال ضغط الأرض الجوي. وها هو عطارد - الكوكب المحروم من الأقمار - يدور ثلاث دورات حول نفسه أثناء دورانه حول الشمس مرتين؛ نسق غريب لا يرضينا بقدر ما يرضينا ما اعتادوا أن يقولوه لنا حين زعموا أنه يدور حول نفسه مرة واحدة فقط أثناء دورانه حول الشمس؛ لا توجد ظلمة أبدية إذن. ما الذي يدعوهم إلى إمدادنا بمثل هذه المعلومات بهذه الثقة، فقط ليعلنوا لنا بعدها أنها عارية تماما من الصحة؟ أخيرا، الصورة المألوفة على صفحات المجلات: تربة المريخ الحمراء والسماء الوردية الزاهية.
عندما انتهى العرض، قبعت في كرسيي بينما مر الأطفال من أمامي دون أن يعلقوا على شيء مما رأوه أو سمعوه توا. كانوا يزعجون المشرفين عليهم طلبا للمأكولات والمزيد من الترفيه. ثمة جهود بذلت من أجل لفت انتباههم وصرفه عن الفشار وشرائح البطاطس المقلية المعلبة، وتركيزه على الكثير من الحقائق المعلومة والمجهولة والتفاصيل الهائلة، بدا أن هذا المجهود راح هباء. حدثت نفسي أن هذا لمصلحتهم. يملك الأطفال مناعة طبيعية، أغلبهم على الأقل، ويجب عدم العبث بها. أما الراشدون الذين يستنكرون هذا الأمر ، والذين روجوا لهذا العرض، ألم تكن لديهم مناعة هم أنفسهم لدرجة أنهم استطاعوا استخدام صدى الصوت والموسيقى والهيبة الكنسية لمحاكاة الهيبة التي افترضوا أنهم يجب أن يشعروا بها؟ الهيبة؛ ماذا يفترض أن تعني؟ نوبة من الارتعاش تنتابك عندما تتطلع من النافذة؟ فور أن تعرف ماهيتها، لن تبادر بالتقرب منها.
جاء رجلان بمكانس لتنظيف المخلفات التي تركها الجمهور. قالوا لي إن العرض التالي سيبدأ بعد 40 دقيقة. وإلى أن يبدأ علي أن أخرج. •••
قلت لأبي: «ذهبت لمشاهدة العرض بالقبة السماوية. كان مثيرا جدا. كان يتناول النظام الشمسي». حدثت نفسي أن يا للكلمة السخيفة التي استخدمتها: «مثير»! فأضفت قائلة: «بدا المكان أشبه بمعبد زائف نوعا ما.»
كان أبي يتكلم بالفعل. «أذكر عندما اكتشفوا كوكب بلوتو بالضبط في المكان الذي حسبوا أنهم سيجدونه فيه. عطارد والزهرة والأرض والمريخ، ثم المشتري ومن بعده زحل ونب... لا أورانوس ثم نبتون فبلوتو. أهذا هو الترتيب الصحيح؟»
قلت له: «نعم.» كنت سعيدة أيضا أنه لم ينتبه إلى الجزء المتعلق بالمعبد الزائف. كنت أقصد التعبير بصدق، لكن أسلوبي بدا متعاليا ومصطنعا. «اذكر لي أقمار المشتري.» «حسنا، لا أعرف الجديد منها. ثمة مجموعة من الأقمار الجديدة، أليس كذلك؟» «هناك قمران، لكنهما ليسا جديدين.»
قال أبي: «جديدان بالنسبة لنا. أصبحت تتكلمين بصفاقة شديدة الآن لأن المشرط بانتظاري.» «المشرط بانتظارك! يا له من تعبير!»
لم يكن مستلقيا في سريره الليلة، ليلته الأخيرة قبل العملية؛ فقد فصلوه عن جهازه، وكان جالسا في كرسي إلى جوار النافذة. وكانت ساقاه عاريتين حيث كان يرتدي مبذل المستشفى، لكنه لم يبد خجلا أو مستوحشا، بل بدا مطرقا ولكن ضحوكا، وكان مضيفا ودودا.
قلت له: «لم تذكر حتى أسماء الأقمار القديمة.» «أعطيني بعض الوقت. جاليليو سماها؛ آيو.» «هذه بداية جيدة.» «كانت أقمار المشتري أول الأجرام السماوية التي اكتشفت بواسطة التليسكوب.» قالها أبي بجدية وكأنه يستطيع أن يرى الجملة مخطوطة في كتاب قديم. وتابع قائلا: «ولم يكن جاليليو هو الذي سماها، بل كان شخصا ألمانيا. آيو وأوروبا وجانيميد وكاليستو . ها أنا قد ذكرتها.» «نعم.» «آيو وأوروبا كانتا صديقتي جوبيتر كبير آلهة الرومان، أليس كذلك؟ وجانيميد كان صبيا. راعي غنم؟ لا أعرف من كاليستو.»
قلت له: «أعتقد أنها كانت صديقة جوبيتر أيضا. زوجة جوبيتر حولتها إلى دب وعلقتها في السماء. الدب الأكبر والدب الأصغر. كان الدب الأصغر رضيعها.»
تردد صوت في الإذاعة الداخلية يؤذن بانتهاء ميعاد الزيارة ووجوب مغادرة الزوار للمستشفى.
قلت له: «سأراك عندما تخرج من غرفة الإفاقة.» «نعم.»
عندما وصلت إلى الباب، نادى علي قائلا: «لم يكن جانيميد راعي غنم، بل كان ساقي الخمر لدى جوبيتر.» •••
عندما غادرت القبة السماوية ظهر ذلك اليوم، جلت في أرجاء المتحف حتى وصلت إلى الحديقة الصينية. ورأيت الجمال الحجرية مرة أخرى، والمحاربين والمقبرة. وجلست على مقعد يطل على شارع بلور. وعبر الأجمات الدائمة الخضرة والسياج العالي المصنوع من الحديد المتشابك، شاهدت الناس يمرون من أمامي تحت ضوء شمس الأصيل. حقق عرض القبة السماوية الغرض المراد منه على أية حال؛ حيث هدأ من روعي واستنفد قواي. رأيت فتاة ذكرتني بنيكولا. كانت ترتدي معطفا واقيا من المطر، وتحمل كيسا من البقالة. كانت أقصر قامة من نيكولا - بل لم تبد قريبة الشبه بها بالمرة - لكنني ظننت أنني ربما سأرى نيكولا. ربما سأراها تتمشى في أحد الشوارع، ربما على مقربة من هنا - مثقلة وشاردة الذهن ووحيدة. أمست تنتمي الآن إلى عالم الكبار، وربما تكون واحدة من المتسوقين الذين يسيرون في طريقهم إلى بيوتهم.
إذا حدث ورأيتها، فلن أحرك ساكنا، وسأراقبها وحسب. هذا ما قررته. وأحسست كأني أحد هؤلاء الأشخاص الذين صعدوا لأعلى مستمتعين بموت مؤقت. شعور بالراحة، أستمتع به طالما دام هذا الإحساس. اختار أبي، واختارت نيكولا. ذات يوم، ربما في القريب العاجل، ستتصل بي، لكن الأمور لم تتغير عن ذي قبل.
كنت أود أن أنهض وأذهب إلى المقبرة لمشاهدة المنحوتات البارزة، والصور الحجرية التي تحيط بها بالكامل. كنت دائما أريد مشاهدتها، لكنني لم أفعل قط، ولا حتى هذه المرة؛ فقد كان البرد يشتد بالخارج ، فدلفت إلى الداخل لاحتساء قدح من القهوة وتناول شيء من الطعام قبل أن أعود إلى المستشفى.
Page inconnue