56

والحقيقة - كما قلت مرارا - أن الأحياء الدنيا هي «مسودات» الخلق التي تتراءى فيها نيات الخالق كما تتراءى في النسخة المنقحة، وقد تظهر من «المسودة» أكثر مما تظهر بعد التنقيح. فإذا اطلع القارئ على كتاب في الحشرات، فليس من اللازم اللازب أن يطلع عليه ليكتب في موضوعه، ولكنه يطلع عليه لينفذ إلى بواطن الطبائع وأصولها الأولى، ويعرف من ثم كيف نشأ هذا الإحساس أو ذاك الإحساس، فيقترب بذلك من صدق الحس وصدق التعبير، ولو في غير هذا الموضوع.

كذلك لا أحب أن أجيب عن السؤال كما أجاب قارئ التاريخ في البيت المشهور:

ومن وعى التاريخ في صدره

أضاف أعمارا إلى عمره

فليست إضافة أعمار إلى العمر بالشيء المهم إلا على اعتبار واحد، وهو أن يكون العمر المضاف مقدارا من الحياة لا مقدارا من السنين، أو مقدارا من مادة الحس والفكر والخيال، لا مقدارا من أخبار الوقائع وعدد السنين التي وقعت فيها؛ فإن ساعة من الحس والفكر والخيال تساوي مائة سنة أو مئات من السنين، ليس فيها إلا أنها شريط تسجيل لطائفة من الأخبار، وطائفة من الأرقام.

كلا ... لست أهوى القراءة لأكتب، ولا أهوى القراءة لأزداد عمرا في تقدير الحساب ...

وإنما أهوى القراءة لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا، وحياة واحدة لا تكفيني، ولا تحرك كل ما في ضميري من بواعث الحركة.

والقراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة في مدى عمر الإنسان الواحد؛ لأنها تزيد هذه الحياة من ناحية العمق، وإن كانت لا تطيلها بمقادير الحساب ...

فكرتك أنت فكرة واحدة ...

شعورك أنت شعور واحد ...

Page inconnue