أي لم يغالب غيرك بتعداد ما كان منك من البلاء الحسن، وأنت من سوء الحال مشارف التلف، ويقوى هذه الطريقة أنه يقال في معناه: ما احتُفل بكذا، فاحتُفل من الحفل، كما أن أبالي من البلاء. وقال بعضهم: إن معنى قولهم لم أبالَ به: لم أخطره ببالي، والبال: الخَلَد، وجه هذا القول أن يكون بالي مقلوبًا، لأن البال عينه معتل، وزعم أنه يشهد له ما جاء في المثل: ما إباليه بالة، وما جاء في المأثور عن بعضهم في صفة قوم: لا يباليهم الله بالة، وقول سويد بن أبي كاهل:
عنا لكَ لا أبالي الناسَ بالًا ... أشتَّى بعدُ كانوا أو جميعًا
وهذا الوجه يضعف لأن سيبويه ذكر أن بالة وزنه بالية، وأنه مصدر كالعافية، والعاقبة، فحذفت لامه تخفيفًا، ومثله قولهم: الحانة، ألا ترى أنه يقال في جمعه الحواني، كما قيل في جارية: الجواري، وأن النسبة إليه حانوى، وأنشد:
وكيفَ لنا بالشُّربِ إن لم تكنْ لنا ... دوانيقُ عند الحانويّ ولا نقْدُ
وإذا كان الأمر في قولهم بالة، على ما ذكر سيبويه، فإن بالى جاء على أصله لا قلب فيه ولا تغيير، فأما قولهم: لا ألقي له بالًا، فهو كما يقال: ما ألقي له سمعًا، أي لا أستمع إليه، ويجب أن يكون أخذ من البال الخلد، قال الله تعالى:) إنَّ في ذلك لَذِكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد (. وقال الأصمعي في الأمثال: ما ألقي لذلك بالًا أي لا له ولا أتحفَّظ به، والبال: الحال ههنا، كما يقال: أصلح الله بالكم.
مسألة من التنزيل
قوله تعالى:) حتَّى يعطوا الجِزيةَ عن يد وهم صاغرون (، فيه وجوه، يجوز أن يكون اليد النعمة، فيكون المعنى: يؤدون الجزية عن نعمة عليهم وامتنان للمسلمين فيهم، وهو مقادتهم لهم على ما هم عليه، وتخليتهم بينهم وبين أسبابهم ومساكنهم، ويكون موضع عن يد نصبًا على الحال، كأنه قال: يعطون الجزية مقابلة لنعمكم عندهم، وعوضًا عنها، وقد حمل على مثل هذا اليد في قوله تعالى:) فرَدُّوا أيديَهمْ في أفواهِهم (، فقيل معناه: ردوا نعم الله عليهم بتكذيبهم وجحدهم وتخوفهم، ويقاربه قوله ﷿:) يريدونَ أن يُطفئوا نورَ الله بأفواههم (، ويجوز أن يكون المراد باليد القوة من قولهم: لا يدَ لي بكذا، أي لا قوة، فيكون المعنى: يؤدون الجزية متعقبةً لاستعلائكم، ويجوز أن يكون الجارحة، وقد توسّع فيها، فيكون المعنى: يعطون الجزية بعد اعتراف لكم بأن أيديكم فوق أيديهم، وإظهار للتذلل في مصارفهم، والجزية في كلامهم، الخراج الموضوع، وسمى جزية: لأنها قضاء لما عليه أخذ، يقال: جزى عني كذا، أي قضى، وفي القرآن:) واتقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا (لا يقضي ولا يُغني، ومنه قيل للمتقاضي: المتجازي، وفي الحديث: كان رجلٌ يُداينُ الناسَ وله كاتبٌ ومُتجازٍ.
مسألة من الآثار
يشمل على ضروب من الفوائد
روي في الخبر أن النبي ﵇ والمسلمين ﵃ يوم أُحد، لما قال أبو سفيان وحزبه: أُعْلُ هُبَل، قالوا في جوابهم: الله أعلى وأجلّ. فسأل بعضهم، فقال: كيف جاز هذا الكلام؟ وأفعل من باب التفضيل موضوعة لأن يجيء لتفضيل واحد على جماعة هو منها، ولذلك يضاف إليها، أو إلى واحد منكور ينوب منابها، تقول: هذا أفضل القوم، وزيد أفضل الرجال، والمعنى أنه واحد منهم يزيد فضله على فضلهم، وكذلك إذا تممته بمن يوجب التشارك فيما يقع التفضيل فيه، تقول: زيد أفضل من عمرو، والمعنى: يزيد فضله على فضل عمرو، ولو قلت: الإنسان أصلب من الحجارة، لم يجز لاختلاف الجنسين، وإذا كان موضوع أفعل في التفضيل على هذا، فلا يجوز أن يكون كلام النبيّ ﵇ للتفضيل لما يحصل فيه من مشاركة هُبل لله تعالى في العلُوّ والجلالة، وإن كان الله ﷿ مفضلًا في الكلام عليه، ولا يجوز أيضًا أن يكون المراد بأعلى وأجل: الله عليٌّ وجليلٌ، كما قال عبيد:
فتلكَ سبيلٌ لستُ فيها بأوحدِ
1 / 15