La mère du roman: Les Mille et Une Nuits dans les littératures du monde et une étude en littérature comparée
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Genres
وننتقل بعد ذلك إلى مجموعة زمنية أخرى من الأدباء الإنجليز، وهم الذين ازدهروا في أواخر القرن التاسع عشر، ومنهم ثاكري وديكنز وويلكي كولنز وجورج ميريديث وجورج إليوت وروبرت لويس ستيفنسون.
ولم ترتبط ألف ليلة وليلة في ذهن وليام مكبيس ثاكري (1811-1863م) بالخوف والرعب كما في طفولة كولردج ودي كوينسي، بل بالخيال والتسلية. وقد تعمقت معرفة ثاكري بأمور الشرق خاصة بعد رحلته إلى تلك البلاد التي أنتجت كتابه «ملاحظات رحلة من كورنهيل إلى القاهرة الكبرى» الذي صدر عام 1845م، والتي زار فيها كثيرا من حواضر الأمم التي ورد ذكرها في قصص ألف ليلة وليلة. وفي ذلك الكتاب، يمدح ثاكري قصص ألف ليلة بقوله: «إن حكاياتها تخلو من الواقعية المزعجة في سردها للأحداث العنيفة، مما لا يترك إحساسا بالفاجعة لدى قارئها. فمرجانة، حين تقتل الأربعين لصا بالزيت المغلي، لا تبدو أبدا أنها تسبب لهم أي أذى حقيقي، ورغم أن الملك شهريار يقطع رقاب العذارى قبل مجيء شهرزاد، فإن القارئ يتصور حقا أن هؤلاء الفتيات يعدن إلى الحياة ثانية في غرفة خلفية من غرف قصر السلطان، حيث يرقصن ويغنين على أنغام العود والقيثارة!»
ويبدو أثر تلك القصص في كثير من روايات ثاكري، وأهمها «سوق الغرور». ففي تلك الرواية، ينقل المؤلف ذكريات مطالعته لألف ليلة إلى شخصية «وليام دوبن»، الذي يستلقي في ظل إحدى الأشجار بملعب المدرسة ليطالع ألف ليلة وينسى معها كل شيء عن حاضره. وتلعب الإشارات إلى قصص الليالى دورا «تناصيا» هاما في سياق أحداث سوق الغرور، حيث يتأصل شعور وليام دوبن بالدونية الطبقية تجاه محبوبته إميليا سدلي؛ لأن أباه مجرد تاجر بقالة في المدينة. ولهذا تتزوج حبيبته من شاب لا قيمة له إلا غناه ووسامته وهو جورج أوزبورن. وحكايات ألف ليلة تمتلئ بشخصيات التجار، وتصورهم في منزلة محترمة وتمتلئ بالثناء على تلك المهنة، وفيها يرتقي الكثير من التجار إلى مرتبة الحكام والوزراء، بل والملوك أيضا. وإشارات الرواية إلى ألف ليلة تتركز في حكايتين هما الرحلة الثانية للسندباد البحري، وحكاية الأمير أحمد والحورية بري بانو. ودوبون يجد سلوى وعزاء في تلك القصص التي تصور نجاح شخصيات في مثل منزلته في الارتقاء إلى مصاف الأثرياء وإلى الزواج بمحبوبتهم في نهاية الأمر. فالسندباد البحري، وهو أصلا من التجار، يعود من سفرته الثانية التي حمله فيها طائر الرخ إلى وادي الجواهر، محملا بكل أصناف اللؤلؤ والياقوت والزبرجد. وفي الحكاية الثانية، يتنكر الأمير أحمد في هيئة تاجر حيث يصادف الحورية الأميرة بري بانو ويفوز بقلبها والزواج منها، بل ويصبح في النهاية سلطانا من سلاطين الهند!
وكان لحكايات ألف ليلة وليلة بالنسبة لثاكري نفس الأثر التشجيعي والتعويضي الذي مثلته لوليام دوبن. فواقع أن حياة ثاكري افتقرت في معظمها إلى السعادة والاستقرار، جعلت من أحلام طفولته وصباه مادة ثمينة بالنسبة له. وقد قال مرة لصديقه أمير الشعراء تنيسون وهو يهنئه على مجموعته «قصائد الملوك»: «لقد جعلتني أشعر بالسعادة التي تعودت أن أشعر بها في صباي مع الليالي العربية.»
ومن الحكايات الأخرى التي ترددت كثيرا عند ثاكري، قصة النشار، وهو اسم الأخ الخامس لحلاق بغداد الذي كان يقص حكايات إخوته الستة على مسامع الخليفة هارون الرشيد. والحكاية معروفة وقد تكون سابقة على ألف ليلة، وهي قصة الشاب الفقير الذي يرث مائة دينار عن أبيه ولم يدر ما يصنع بها؛ فاشترى بها زجاجا ووضعه في طبق كبير وجلس في موضع بالسوق ليبيعه. وبينما هو جالس، يشطح به الفكر فيتخيل أنه قد باع الزجاج بضعف الثمن الذي اشتراه به، ويظل في تلك التجارة يبيع ويشتري حتى يربح ربحا عظيما، فيشتري دارا جميلة وخيولا وسروجا مذهبة، ويبعث في خطبة ابنة الوزير التي اشتهرت بحسنها، ويتبادل الهدايا النفيسة مع أبيها الوزير فيسعى الجميع إلى إرضائه وخدمته. وفي يوم الزفاف يتعالى على عروسه وهي تقبل يده ورجله، ثم تناوله قدحا ليشرب وهو يتمنع، ولما تلح عليه ينتفض ويبعدها عنه برفصة من قدمه، هكذا: ويرفص الرجل الحالم أمامه فيضرب الطبق الذي عليه الزجاج ويضيع كل رأس ماله هباء نتيجة رعونته وانسياقه وراء الخيال. والقصة طويلة بعد ذلك ولكن هذا الجزء هو ما يجذب ثاكري فيها. والغريب أن نفس الحكاية - الأمثولة - ترد في «خرافات أيسوب» التي يقرأها الغربيون في دراستهم الأولى، بيد أن ثاكري يفضل حكاية ألف ليلة وليلة على حكاية خرافات أيسوب. وهي ترد عند أيسوب بعنوان «الصبية والدلو» وتحكي عن الفتاة ابنة الفلاح التي حلبت البقرة وساقها الخيال وهي عائدة بالدلو المليء باللبن بأنها ستبيعه زبدا وتربح منه مالا تنشئ به مزرعة كبيرة تدريجيا، وتصبح ثرية فتلبس أفخر الثياب، ويخطب الفتيان ودها ولكنها تردهم عنها وترفض ودهم، وهزت رأسها عند ذلك الحد إذ تمثل الرفض، مما يطيح بدلو اللبن أرضا ويتبدد حلمها هباء. وهي نفس الحكاية التي ترددها الأمثال الشعبية في العديد من الثقافات؛ ونقول عندنا - ضمن أمثلة أخرى - «يا كركدن، لا تحسبن، تا تقبضن!» وقد وردت إشارات إلى تلك الحكاية خصوصا في روايتي «هنري إزموند» و«بندنيس». وظهرت أيضا في «سوق الغرور»، إذ بطلتها «بيكي شارب» تحلم بالزواج من «جو سدلي» دون أن تعرفه ويعرفها: «لقد بنت لنفسها أبهى قلعة في الهواء وأصبحت هي الآمرة فيها، ومعها زوج يقبع في خلفية الصورة ... وهي تشتمل على أفخر الشيلان والعمامات والقلائد الماسية، وتمتطي صهوة فيل يسير على إيقاع ذي اللحية الزرقاء، تتهادى إلى لقاء ملك المغول. أحلام النشار الساحرة!»
ومن الملاحظ أن ثاكري كان معجبا أيضا بحكاية الأخ السادس، الذي دعاه الأمير البرمكي إلى وليمة فاخرة وإنما وهمية تماما. وهذا يوحي إلى ما كان ثاكري يوليه لقوة الخيال، وقدرته على التخفيف من سطوة الحرمان عن طريق الأحلام والفانتازيا. وكان هو ذاته يشبه نفسه بالنشار، حين يخطط ويحلم بالمجلات التي ستستعين به وبكتاباته، وهو ما عبر عنه كذلك عن طريق «آرثر بندنيس» في الرواية التي تحمل الاسم الأخير حين يقول: «يالي من نشار كبير، لأني ربحت خمسة جنيهات من القصائد التي ألفتها، وها هم قد تعاقدوا معي لكتابة نصف دستة من المقالات للصحف!»
أما تشارلز ديكنز (1812-1870م) فيبدو أنه قد تلقى أول انطباعاته عن ألف ليلة وليلة من التصاوير والرسومات التي تضمنتها طبعات الكتاب، ويقال إن الصورة التي تركت أثرا في نفسه أكثر من الصور الأخرى هي التي تبين الملكين شهريار وشاه زمان فوق الشجرة يتطلعان إلى الصبية زوجة الجني في قفصها الزجاجي المسحور. بيد أن أثر ألف ليلة وليلة في أعمال ديكنز لم يظهر فيما قبل عام 1839م، إلى أن صدرت في ذلك العام ترجمتا «تورنز» و«لين»، مما جعله يعيد اكتشاف حكاياتها، متزامنا مع قراءاته لروايات والتر سكوت التاريخية أيضا، وكانت نتيجة ذلك ما ذكره الباحث ك. فيلدنج أنه، باستثناء أعمال شكسبير، لم يثر خيال ديكنز شيء أو أشار إلى شيء في رواياته أكثر من حكايات الليالي العربية؛ وكان يرى نفسه شبيها بشهرزاد وهو يكتب قصصه ورواياته. ويبدأ أثر الكتاب عند ديكنز منذ روايته «ساعة السيد همفري»، حين أخذ الروائي الإنجليزي يجرب أسلوب القصة الإطار مستخدما قصص يأجوج ومأجوج في بداية الرواية. ويبدو عظم امتنانه للكتاب في مقالة كتبها في الجريدة الأسبوعية «ساعات منزلية» - التي كان يصدرها عام 1858م - بعنوان «شجرة عيد الميلاد»، ويتحدث فيها عن شجرة عيد ميلاد خيالية يضع فيها ديكنز أعز الهدايا التي يحبها. وفي أعلى الشجرة هناك طبعا لعب الأطفال وحدها، ويأتي تحتها الكتب التي أحبها، مثل «ذات الرداء الأحمر»؛ ثم: «صه! غابة مرة أخرى - ليست غابة روبن هود ولا فالنتاين أو القزم الأصفر ... بل ملك شرقي في طيلسان وعمامة براقتين. لا وحق الله ! بل ملكان شرقيان، إذ أرى آخر ينظر من وراء كتفه. وتحت الشجرة، على الحشائش، يرقد جسد مارد ضخم بلون الفحم، غارق في نومه، ورأسه على حجر سيدة، وبالقرب منهما صندوق زجاجي، مغلق بأقفال أربعة من المعدن البراق، حيث يبقي السيدة حبيسة حين يكون مستيقظا. إني أرى المفاتيح الأربعة في زناره الآن. وتشير السيدة إلى الملكين أعلى الشجرة فيهبطان في رفق. إنها مناظر الليالى العربية الباهرة.» «أواه! الآن تصبح كل الأشياء العادية غير عادية وسحرية بالنسبة لي. كل المصابيح سحرية، وكل الخواتم مطلسمة، وأصص الزهور العادية مليئة بالكنوز التي يغطيها بعض التراب؛ والأشجار مهيأة كيما يستخفي علي بابا وراءها، وقطع اللحم كيما تلقى إلى وادي الماس حتى تلتصق الجواهر الثمينة بها وتحملها النسور إلى أعشاشها حيث يفزعها الصيادون بصيحاتهم العالية. والفطائر تصنع حسب وصفة ابن وزير البصرة، الذي أصبح خبازا بعد أن ضبط في سراويله الداخلية على بوابة دمشق. وكل الإسكافيين هم مصطفى، وهم يخيطون الناس الذين حملوهم إليهم مقطعين أربعة أجزاء.» «وأى خاتم حديدي ملقى على الحجر إن هو إلا مدخل كهف ينتظر الساحر، وركوة النيران الصغيرة، والسحر الأسود، ما سيجعل الأرض تهتز. وكل البلح المستورد يأتي من الشجرة نفسها التي جاءت منها تلك البلحة المنكودة التي ألقى التاجر نواتها فقلعت عين ابن الجني الخفي. وكل حبات الزيتون تأتي من المحصول الذي وضعه التاجر اللص بدلا من الذهب في جرة صديقه؛ وكل التفاح هو مثل الثلاث تفاحات التي اشتراها الرجل من بستان الخليفة والتي سرق العبد الأسود واحدة منها من ابن الرجل. وكل الكلاب ترتبط بذلك الكلب المسحور الذي كان يميز النقود المزيفة بيده. ويستدعي الأرز إلى الذاكرة تلك المرأة المخيفة التي هي في الحقيقة غولة لا تأكل إلا حبات قليلة من الأرز كي تلتهم وجبتها المرعبة في المقابر بعد ذلك. أما حصاني الهزاز ... فلا بد أن يكون له زر في عنقه حتى يطير بي، كما فعل الحصان الخشبي بالأمير الفارسي أمام بصر أبيه الملك.» «... وحين أصحو في فراشي عند مطلع الصباح، في أيام الشتاء الباردة المظلمة، والثلج يلقي بظلاله على إفريز النافذة، أسمع دينارزاد تهتف: أختاه، أختاه، إن كنت ما تزالين مستيقظة، أرجو أن تكملي حكاية ملك الجزر السوداء. وترد شهرزاد: لو سمح السلطان بإبقائي يوما آخر يا أختي. وعندها يبرز السلطان الكريم، ولا يعطي أي أمر بالقتل، ونتنفس نحن جميعا الصعداء.»
ويستبين من ذلك المقال مدى المتعة التي تبعثها الذكرى الكاملة للحكايات، فنشعر أن ديكنز كان بوسعه المضي في ذكر قائمة الأشياء العادية التي تتردد في ألف ليلة وليلة إلى ما لا نهاية. ويستبين من روايته «أوقات صعبة» رأيه الثابت بأن القدرة على الاستمتاع بالأمور العجائبية لازمة للصحة العقلية للإنسان؛ كما أن الأطفال عادة ما ينتابهم العجب من تلك الحكايات، وكلما زادت قدرتهم على التعجب، زاد اقترابهم من الله.
ومن الروايات الأخرى لديكنز التي تستخدم ألف ليلة وليلة لزيادة زخم بعض المواقف والإشارات فيها: «مارتن شزلويت» و«ديفيد كوبرفيلد» و«آمال كبار». ففي شزلويت، يعتبر ديكنز قدرة المرء على الاستمرار بالتمتع بالحكايات العجيبة التي جذبته في طفولته، دليلا أكيدا على طيبة القلب وسلامته، أما اللامبالاة أو الاستعلاء اللاهي عن تلك الحكايات فهو دليل التبلد الحسي والمكر. وقد بدا ذلك في شخصية «توم بينش» المعجب بكتب الحكايات الفارسية الذي يراه في واجهة محل الكتب، في حين يسخر مستر «بكسنيف» من الحكايات العربية في حديثه إلى مارتن شزلويت ويخلط بينها، معبرا تماما عن طبيعة شخصيته التي يريد ديكنز أن يصورها. وفي «أوقات صعبة»، يصوب ديكنز سهام نقده الجارح لكل من لا يؤمن بقيمة العجائب في حياة الإنسان. ويذكر الباحث «ميشيل سلاتر» أن إحدى حكايات ألف ليلة وليلة المحببة إلى قلب ديكنز هي قصة الصعلوك الثالث، صاحب حكاية جبل المغناطيس، والشبان العشرة الذين يسودون وجوههم ويبكون على مصيرهم كل ليلة، وقد أمدته بصور واستعارات أصيلة في كل من روايتيه «الصغيرة دوريت» و«قصة مدينتين».
وأكثر الصور شهرة لدى عشاق ديكنز هي العملية التي استخدمت في سبيل إعادة تأهيل البخيل «سكروج» في «ليلة الكريسماس». فالخطوة الأساسية لعملية الإصلاح تلك، هي إعادته إلى ذكريات طفولته، التي كان يستمتع بها بالحكايات الخيالية وعلى رأسها ألف ليلة وليلة: «ولمسه الشبح على ذراعه، وأشار إلى صورته وهو صغير، عاكفا على قراءاته. وفجأة، ظهر رجل يشتمل على ملابس غريبة يقف خارج النافذة، ومعه فأس معلقة في حزامه، ويقود حمارا محملا بالحطب. هه! إنه علي بابا، علي بابا العزيز الطيب. أجل، أجل، أعرفه ... وذلك الآخر، ما اسمه، الذي ترك أمام بوابة دمشق في سرواله الداخلي، ألا تراه! وخادم السلطان، الذي علقه الجني مقلوبا، ها هو قائم على رأسه. يستحق ما جرى له، فكيف يجرؤ على الزواج من الأميرة؟!»
Page inconnue