بين يدي الكتاب
الجذور الأولى
البدايات
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الأمريكي
الترجمات إلى اللغات الأوروبية الأخرى وأثرها
الحكايات الكاملة
القصة الإطار
القصة داخل القصة
الحب العذري الرومانسي
الجنس والإيروسية
قصص الشطار والعيارين
الخوارق والعجائبية والواقعية السحرية
حكايات حيل النساء ومكرهن
قصص الخيال العلمي
الرواية البوليسية
لمحات فرويدية في ألف ليلة وليلة
الأحلام
موازنات ومقارنات
ومازال مسلسل ألف ليلة وليلة مستمرا
المراجع المستخدمة في الكتاب
بين يدي الكتاب
الجذور الأولى
البدايات
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الأمريكي
الترجمات إلى اللغات الأوروبية الأخرى وأثرها
الحكايات الكاملة
القصة الإطار
القصة داخل القصة
الحب العذري الرومانسي
الجنس والإيروسية
قصص الشطار والعيارين
الخوارق والعجائبية والواقعية السحرية
حكايات حيل النساء ومكرهن
قصص الخيال العلمي
الرواية البوليسية
لمحات فرويدية في ألف ليلة وليلة
الأحلام
موازنات ومقارنات
ومازال مسلسل ألف ليلة وليلة مستمرا
المراجع المستخدمة في الكتاب
الرواية الأم
الرواية الأم
ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
تأليف
ماهر البطوطي
كان يوما ما زلت أذكره من عام 1961م حين قررت على نحو قاطع أن أتخذ الكتابة والترجمة مهنة أساسية لي. كنت أدرس آخر سنة في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، وقد تشبعت بالمقررات الدراسية، خاصة في تلك السنة، وتأثرت برواية «جيمس جويس»؛ «صورة للفنان في شبابه»، التي قرر بطلها نذر نفسه للأدب والفن والجمال بكل أشكاله. كذلك درسنا «همنجواي» وحياته وأسلوبه الجديد في الكتابة. وكنت أتابع ما يصدر من كتب مهمة خارج مقررات الدراسة، فتأثرت بأدب «ألبير كامي» وفلسفته، وكتاب «اللامنتمي» الذي كتبه «كولن ولسون» وأصبح حديث الأدباء.
وكنت قد بدأت القراءة وجمع الكتب منذ كنت في العاشرة من عمري، فنشأت على كتب «توفيق الحكيم» و«طه حسين» و«نجيب محفوظ» و«يوسف السباعي» وشعر «أحمد شوقي». وبدأت أيضا في جمع الكتب والسلاسل الجميلة التي كانت تصدر في مصر في الخمسينيات، ومنها: «الهلال» و«كتاب الهلال» و «روايات الهلال»، و«اقرأ»، و«كتب للجميع»، وكتب ومطبوعات «كتابي» و«الكتاب الذهبي»، وغير ذلك.
وبعد التخرج في الجامعة، عرفت أن من يريد أن يتخذ الكتابة مهنة، فعليه إجادة لغته العربية إجادة تامة، وكذلك ألا يعتمد في معيشته على مكافآت الكتابة؛ فدرست القرآن الكريم وتدبرت آياته ولغته، وقرأت كتب النحو المتاحة، وما طالته يدي من كتب التراث العتيقة. ولم أبدأ الكتابة إلا بعد أن شغلت وظيفة مناسبة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة، تترك لي وقتا كافيا بعدها للقراءة والكتابة. ولما كنت أريد الكتابة في النقد الأدبي، كانت أوائل مقالاتي نقدا وعرضا لما أحببته من الكتاب والأدباء. ثم جاءت الترجمة وأفسحت لها بعض الوقت أولا، ثم زحفت على معظم الوقت بعد ذلك. وكان أول كتبي المنشورة عن «إرنست همنجواي»، ثم رواية «جيمس جويس» التي أحببتها. وبدأت في دراسة اللغتين الإسبانية والفرنسية قبل أن تنتدبني الوزارة للعمل ملحقا ثقافيا في مدريد، حيث قضيت أكثر من أربع سنوات.
وبعد عودتي من إسبانيا، قضيت أربع سنوات أخرى بالقاهرة أزود المجلات في القاهرة وبيروت بمقالاتي المؤلفة والمترجمة، قبل أن أتوجه إلى نيويورك للعمل مترجما ثم محررا بالأمانة العامة للأمم المتحدة. وقد عكفت على الكتابة والترجمة عن الأدب المكتوب بالإسبانية من شعر ورواية ومسرحية، حتى أساهم في تشييد جسر ثقافي للقراء العرب إلى تلك الثقافة الثرية. ولكن لم أنس اللغات الأخرى، فترجمت لشاعر الشعب الأمريكي «والت ويتمان» وبعض آثار اللغة الفرنسية، وزاد إنتاجي بعد التقاعد من العمل حتى قاربت أعمالي ثلاثين كتابا.
ولما كانت الكتب الورقية، رغم أهميتها، تذوي وتغيب حروفها بفعل الزمن، فقد رحبت بقيام مؤسسة «هنداوي» بوضع كتبي رقمية على النت لتكون متاحة لمن يريد قراءتها، والمؤسسة بذلك تضطلع بعمل مهم في نشر الثقافة وإتاحتها وحفظها على مر السنين.
بين يدي الكتاب
موضوعات هذا الكتاب هي بحكم الضرورة انتقائية، فعالم ألف ليلة وليلة رحيب رحابة لياليها الألف والواحدة، وكل موضوع عنها يمكن أن يستغرق كتابا بحاله، ويمكن أن يتفرع إلى عدد من الموضوعات الأخرى، كما تتفرع قصصها الإطارية إلى قصص داخلية على نحو مستمر.
وقد تركز جهدي في تلك الأبحاث في عملية تجميع وتوفيق بين أبحاث وكتب عديدة تناولت هذا الموضوع العريض. كما قمت بعرض آراء الباحثين الذين كتبوا فيه في مختلف اللغات، واضعا كل رأي في مكانه الخاص به حسب الموضوعات التي قسمت إليها الكتاب، ولذلك فإن عملي في الكتاب أقرب إلى التصنيف والترجمة والترتيب، أكثر منه تأليفا، عدا بعض الآراء التي تختص بموضوعات محددة مثل علم النفس في حكايات ألف ليلة وليلة، والقصة البوليسية والخيال العلمي، وغيرها. وقد اعتمدت اعتمادا أساسيا على خمسة كتب أساسية هي: (1)
IN THE ENGLISH LITERATURE, ST. MARTIN’S PRESS, NEW YORK, 1988. (2)
ALICE E. LASATYER: SPAIN TO ENGLAND UNIVERSITY
(3)
E. L. RANELAGH: THE PAST WE SHARE, QUARTET BOOKS, 1979. (4)
ROBERT IRWIN, THE ARABIAN NIGHTS, A COMPANION,
(5)
MIA I. GERHARDT: THE ART OF STORY-TELLING, A LITERARY STUDY OF THE THOUSAND AND ONE NIGHTS, LEIDEN, E. J. BRILL, 1963.
وقد عرضت أهم ما جاء في تلك الكتب مع الشرح والتعليق والموازنة، وكلي أمل أن تجري ترجمة هذه الكتب إلى اللغة العربية في القريب العاجل، حتى تكون متاحة بكامل ما فيها أمام القارئ العربي، كيما يدرك حجم الأثر الهائل الذي تركه ذلك الكتاب العربي في أعلام الأدب العالمي في كل زمان ومكان.
ويضاف إلى هذه الكتب الأساسية، عشرات من المراجع الأخرى التي رجعت إليها لتقطير بعض ما جاء فيها في مقالات وأفكار هذا الكتاب، كيما أقدمها في صورة سهلة مختصرة إلى القارئ العربي. وقد قرأت تلك المراجع في لغاتها الأساسية التي أعرفها - العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية - أما الألمانية فقد اضطررت إلى قراءة كتبها مترجمة إلى إحدى تلك اللغات التي أقرأ بها، وقد تنبهت إلى أهمية اللغة الألمانية في دراسات الأدب واللغة المقارنين، إذ أسهم الباحثون الألمان بنصيب وافر في الدراسات المشرقية والعربية على نحو يجعل معرفة تلك اللغة ضرورة هامة.
ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن الهدف الأساسي من هذه الأبحاث ليس هو تبيان ما اقتبسه الأوروبيون من حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها من القصص العربي، بقدر ما هو ربط الموضوعات بعضها بالبعض الآخر، وإقامة موازنات ومقابلات بين تلك الأعمال الأوروبية ومثيلاتها في الكتاب العربي الشهير، كذلك فقد اتخذت من تلك الموازنات نقطة انطلاق للحديث عن مؤلفات وكتب أوروبية تدخل في نطاق موضوع البحث، بهدف إعطاء القارئ العربي فكرة أوسع وأشمل عن حدود الموضوع، وكيفية تناوله من جوانب مختلفة.
ولما كانت بعض حكايات ألف ليلة وليلة تزخر بشخصيات عديدة وبأحداث كثيرة بالغة التعقيد والتداخل، كان لزاما تناول تلك الحكايات أكثر من مرة، حسب فصول البحث، فهناك حكايات تدخل في نطاق مواضيع قصة الإطار، والقصة البوليسية، وقصص مكائد النساء، مثلا؛ ولذلك سيجد القارئ شيئا من التكرار في الحديث عن تلك القصص؛ إذ إنها تحتوي على عناصر لازمة للنقاش في الفصل الذي يتناوله البحث. وقد بذلت جهدي في تقليص هذا التكرار قدر الإمكان، ولكني أحرص هنا على الإشارة إليه، وأنه مقصود في حد ذاته لتأكيد بعض الأفكار الأساسية التي يهدف إليها هذا الكتاب.
وقد نبع اهتمامي بكتاب ألف ليلة وليلة منذ توفري على دراسة الفن الروائي بصفة عامة؛ إذ نحن نجد في الكتاب العربي كل أنواع القصة قديمها وحديثها، في صورة هي بدائية بطبيعة الحال؛ ففيه كل أنواع السرد، وكل أنواع الخيال، وكل أنواع الواقعية. فمن ناحية الأشكال السردية، فبالإضافة إلى ما ذكرناه عن القصة الإطار والقصة داخل القصة، هناك أيضا السرد المباشر والسرد غير المباشر وتيار الوعي (حكاية النائم اليقظان) ووجهات النظر والمؤلف المتطفل وامتزاج الأنواع الأدبية وتداخلات الزمان والمكان، وغيرها. وفي ألف ليلة أيضا من المواضيع ما جاء بكتابنا عن الرواية البوليسية ورواية الخيال العلمي، بيد أن فيها أيضا ما يمكن اعتباره إرهاصات رواية الأجيال والرواية التاريخية ورواية الرسائل والقصة السيكولوجية والقصة الإيروسية، وغير ذلك، وقد قمت منذ سنوات بترجمة كتاب «الفن الروائي» لديفيد لودج، وفيه خمسون فصلا تعالج الأوجه المختلفة للرواية والقصص، وفي الإمكان تطبيق كل هذه الفصول على حكايات ألف ليلة وليلة، ربما باستثناء الفصل المعنون «التليفون»، برغم إمكانية تطبيقه - بقليل من الخيال - على بعض أشكال الاتصال عن بعد بين بعض شخصيات ألف ليلة! وهذه الموضوعات مادة خصبة للبحث لكل من يهتم بهذا الموضوع من موضوعات الأدب المقارن والأدب الروائي.
وسوف أذكر هنا في سطور موجزة أمثلة ثلاثة تبين مدى ما كانت ألف ليلة وليلة - وما تزال - تتمتع به في الغرب من أهمية، أولها أنها كانت تدرج - في العصر الفيكتوري بإنجلترا - ضمن الكتب العشرة الأكثر انتشارا؛ وثانيها ما ذكره الباحث الرحالة البريطاني دوجلاس سلدن بعد رحلته إلى القاهرة في بداية القرن العشرين، من أن ألف ليلة وليلة بترجمة إدوارد لين هي العمل الكلاسيكي الأجنبي الأعظم بعد الكتاب المقدس؛ والثالث هو اختيار أهم دار لنشر كتب الاقتناء وهي «إيستون برس» الأمريكية ألف ليلة وليلة لإدراجها ضمن أهم مائة كتاب في العالم قاطبة.
وتبقى كلمة عرفان وامتنان لأصدقاء العمر الذين أمدوني بالمشورة والكتب والتشجيع: الأستاذ على كمال زغلول، الدكتور محمد عناني، المستشار أحمد السودة، الأستاذ محمد محمد عتريس، الدكتور ماهر شفيق فريد، فلهم كل شكر وتقدير.
ماهر حسن البطوطي
نيويورك، 2005
الجذور الأولى
(1) آثار إسلامية في أوروبا المسيحية
تذكر الباحثة «أليس لاساتير» في كتابها الهام «من إسبانيا إلى إنجلترا» أن من الدلائل ذات المغزى العميق ما حدث عام 1827م في بريطانيا، حين قامت كنيسة إنجلترا بإخراج رفات القديس «كوذبرت» لنقله إلى مكان آخر، ففوجئ الجميع حين وجدوا أن رفات القديس ملفوف في رداء حريري مطرز بكلمات في لغة غير معروفة لديهم، واتضح بعد البحث أنها عبارة «لا إله إلا الله» منسوجة بأحرف عربية بالخط الكوفي المربع، ولم يتضح سر ذلك الرداء وصلته بقديس إنجليزي إلا عام 1931م، حين توفر الباحث «ف. بكلر» على تأصيل العلاقات بين المسلمين والغرب في كتابه «هارون الرشيد وشارل العظيم»، وقد شرح بكلر الأحداث التي بدأت عام 765م، حين أرسل ملك فرنسا «بيبين» بعثة إلى الخليفة العباسي وقتها في بغداد؛ مكثت ثلاث سنوات ثم عادت مصحوبة بجماعة من المسلمين حاملين الهدايا الثمينة والطرف العربية الشرقية، وقد حذا خليفة بيبين، شارلمان، حذو سلفه فأرسل وفدا من ثلاثة سفراء (منهم يهودي يقوم بمهام الترجمة) إلى هارون الرشيد عام 797م، أتبعه بوفدين آخرين عامي 802م و806م على التوالي، وكان هارون الرشيد يرد بإرسال وفوده وبعثاته وهداياه إلى فرنسا، وكان هناك تعاون مستمر بين ملوك فرنسا والخلفاء العباسيين وولاتهم في الأقطار العربية والإسلامية، فكان الفرنسيون يطلبون امتيازات وحماية للحجاج المسيحيين إلى القدس، والتحالف معهم ضد الإمبراطورية البيزنطية المنافسة، خاصة إبان فتنة «الأيقونات» التي قسمت العالم المسيحي وقتها؛ بينما كان الخلفاء العباسيون ينشدون عون الفرنجة في تنافسهم وصراعهم ضد الأمويين الذين تقلدوا سدة الحكم في إسبانيا الإسلامية على يد عبد الرحمن الداخل، وكان من بين الهدايا التي تبودلت بين الطرفين، والتي شملت الحيوانات الشرقية والعاج والسيوف والمشغولات الذهبية وأطقم الشطرنج، رداء حريري سابغ موشى بكتابات عربية زخرفية بخط عربي بديع. وبعد سقوط الإمبراطورية الكارولنجية في فرنسا عام 888م، تم توزيع تلك الطرف الشرقية فيما بين النبلاء الفرنسيين، وأرسل أحدهم - وهو الدوق «هيو» - الرداء الحريري العربي هدية إلى ملك إنجلترا أيامها، لأن الدوق كان يطمع في الزواج من أخت ذلك الملك، وقد أهدى الملك الإنجليزي الرداء - ضمن سبعة أردية أخرى - إلى دير «دورهام» حيث كان القديس كوذبرت مدفونا، وفي عام 1104م، أخرج رهبان الدير رفات القديس، كيما يثووه فيما وصف أيامها بأنه «رداء كنسي ملكي»، وكان هذا هو الرداء الذي ظهر عام 1827م، والذي اتضح أن كلماته هي الشطر الأول من عبارة التوحيد الإسلامية!
وتوجد في المتحف البريطاني الآن قطعة من النقود التي تم صكها عام 774م للملك «أوفا» المعاصر للملك شارلمان؛ وهي قطعة ذهبية كتب على وجهها باللاتينية «الملك أوفا»، وعلى ظهرها العبارة الإسلامية «لا إله إلا الله»، وكانت تلك العبارة العربية تستخدم كرمز فني جميل في كثير من الزخارف في بلدان عديدة، مثلها في ذلك مثل عبارة «لا غالب إلا الله» التي انتثرت في أبهاء قصر الحمراء الأندلسي الشهير وما زالت به حتى اليوم، وتذكر الباحثة لاساتير كذلك، أن الرسامين المشهورين «فرا أنجيليكو» و«فرا ليبو ليبي» قد استخدما أيضا نفس ذلك النوع من العبارات العربية كنوع من الزخارف الفنية - دون معرفة بمعناها أو مضمونها - في تزيين ثياب بعض الشخصيات التي رسماها، ومنها لوحة فرا ليبو المعنونة «تتويج العذراء» المعروضة الآن في متحف أوفيزي بفلورنسا.
وكل هذا دليل على مدى تغلغل الأثر العربي والإسلامي في الأوساط الغربية في العصور الوسطى نتيجة العلاقات المتبادلة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، في وقت السلم ووقت الحرب على حد سواء. وقد أرجعت الباحثة ذاتها ندرة البحوث في ذلك الموضوع إلى عاملين رئيسين: صعوبة جمع الباحثين بين المعرفة المطلوبة باللغات الأوروبية القديمة: الإنجليزية القديمة والوسطى، والبروفنسالية القديمة، والفرنسية القديمة، والألمانية الوسطى والمتقدمة، ولاتينية القرون الوسطى، وبين المعرفة الجيدة باللغات العربية والفارسية والعبرية وغيرها من اللغات الشرقية التي تلزم للبحث في عناصر الأدب المقارن والتأثيرات المتبادلة. أما العامل الثاني فهو العصبية والنزعات القومية التي تتحيز لوجهات نظر معينة تنحو إلى رفض النظر إلى التراث القومي بوصفه متأثرا بعوامل شرقية، عربية أو إسلامية، خاصة إذا كان الأمر له صلة بالدين أو العقيدة، مثل الهجوم الذي واجهه البروفيسور هارديسون حين خرج بنظريته التي رفض فيها نسبة مسرحيات الآلام المسيحية في العصور الوسطى إلى حوارات السؤال والجواب في اللاهوت المسيحي، ثم تبلورها بعد ذلك خارج نطاق الكنيسة، وإنما أرجع نشوءها جزئيا إلى طقوس المستعربين في إسبانيا الإسلامية. وحين يزعم بعض الغلاة أن سبب تأخر إسبانيا عن ركب الحضارة الغربية بعد عصور النهضة يرجع إلى الوجود العربي فيها زهاء الثمانية قرون، فهم يتجاهلون النهضة الزاهرة التي شهدتها إسبانيا إبان الدولة العربية فيها، حين كانت مدن مثل طليطلة وقرطبة وغرناطة مراكز رئيسية للعلم والمعرفة والمدنية والحضارة، في الوقت الذي كانت مدن الغرب الرئيسية في حالة أشبه بالبداوة. ويرجع الباحثون الموضوعيون سبب عدم لحاق إسبانيا بركب التطور الحضاري الغربي إلى ما حدث بعد سقوط غرناطة وطرد العرب والمسلمين واليهود بعد ذلك من البلاد، وقيام محاكم التفتيش بحرق كل ما وجدته من كتب ومخطوطات عربية وإسلامية، مما أدى إلى هجرة وفرار آلاف من العلماء والأطباء والتجار والصناع والحرفيين، وهو الأمر الذي أثر على هذه المجالات الهامة من مجالات الحياة والتطور الحضاري.
وقد شهدت العصور الوسطى نشاطين حضاريين أساسيين في المراكز المسيحية في أوروبا، أولهما حركة الترجمة الواسعة التي جرت في إسبانيا وصقلية للمخطوطات العربية والإسلامية، وعلى رأسها مركز الترجمة في طليطلة؛ وثانيهما نشوء اللغات المحلية المتفرعة من اللاتينية والجرمانية في بلدان أوروبا.
وقد أقام العرب والمسلمون في إسبانيا دولة مترامية الأطراف دامت زهاء الثمانية قرون، وامتدت دولتهم إلى قبرص ومالطة وكريت، وإلى عدة جزر إيطالية أهمها صقلية وسردينيا، ووصلت غزواتهم إلى وسط فرنسا وفي أجزاء من سويسرا الحالية. وقد بلغت اللغة العربية في زمن ازدهار الحضارة العربية شأوا أصبحت معه هي اللغة العلمية والثقافية العالمية، وأصبح طلاب العلم يتعلمونها ويبرعون فيها، بوصفها لغة دولية
LINGUA FRANCA ، وغدا تعلمها واستخدامها دليلا على الثقافة والرقي.
ولم يقتصر التأثير العربي على الوجود الإسلامي العربي في تلك البلاد، بل تواجد عن طرق أخرى منها الحروب الصليبية التي كان لها أوجه أخرى غير الصراع الحربي والاستيطاني، هو التفاعل الذي قام بين الأفراد والجماعات التي احتكت ببعضها وامتزجت إبان الوجود الأوروبي آنذاك في البلاد التي طاولتها الغزوات الصليبية، وما عاد به هؤلاء الأفراد والجماعات من ذكريات وحضارة وقصص وأشعار وأساطير عرفوها من أهل البلاد التي أقاموا فيها. (2) الدولة العربية في إسبانيا
دخلت إسبانيا تحت الحكم العربي منذ عام 711م والذي استمر حتى عام 1492م لفترة تقارب الثمانية قرون، وقد بسط العرب سيطرتهم على معظم الجزيرة الأيبيرية، وتغلغلوا في جنوب فرنسا وبعض المدن التي تقع في سويسرا الحالية، كما أنهم حكموا أيضا لفترات طويلة جزائر إيطالية أهمها صقلية وسردينيا، بالإضافة إلى جزر قبرص ومالطة وكريت، بيد أن الحكم العربي انحصر في القرنين الأخيرين في مملكة غرناطة في الجنوب الإسباني.
وينقسم التاريخ العربي الإسلامي في إسبانيا إلى ستة عصور: (1)
التبعية لولاة أفريقيا الشمالية (711-756م). (2)
إمارة مستقلة ثم خلافة للأسرة الأموية، مركزها قرطبة (756-1030م). (3)
عصر ملوك الطوائف (1030-1090م). (4)
المرابطون (1090-1146م). (5)
الموحدون (1127-1248م). (6)
مملكة غرناطة (1230-1492م).
وقد بلغت الحضارة الإسلامية الأندلسية أوجها تحت حكم الأمويين، حين أسس عبد الرحمن الأول «الداخل» إمارته هناك بعد فراره من المذبحة التي قام بها العباسيون بعد اعتلائهم سدة الحكم ضد سلالة أمراء بني أمية، ونقلهم عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد. وفي عهد عبد الرحمن الثاني، صدت إسبانيا بنجاح محاولة الفايكنج لغزو البلاد، وكانت هي المنطقة الوحيدة في الغرب الأوروبي التي نجحت في صد غزو الفايكنج. وفي عهد ذلك العاهل، بلغت قرطبة شأوا عاليا من التقدم الثقافي والحضاري تبدى في الموسيقى والشعر والقصص، إلى جانب آداب البلاط وطرز الأزياء، وكلها أثرت في الدول المجاورة لإسبانيا. أما عبد الرحمن الثالث فقد أعلن إسبانيا خلافة مستقلة عن الخلافة العباسية في بغداد واتخذ لقب خليفة عام 921م، وجعل من عاصمته قرطبة أعظم مدينة في أوروبا كلها بوصفها مركزا للعلم والحضارة والفنون. ولمعت في عهده أسماء مثل ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد الذي اهتم بالشعر العربي في إسبانيا الذي تطور على نحو يختلف عن الشعر العربي الكلاسيكي الذي كان يكتب في المشرق العربي. وهناك أيضا «ابن مسرة»، الصوفي الزاهد، وكان أول أندلسي يرحل إلى المشرق - سوريا والعراق - للدرس والتحصيل. وقد أرسى سابقة لعدد كبير من المفكرين الأندلسيين، الذين عاد معظمهم إلى إسبانيا وبحوزتهم مجموعات كبيرة من المخطوطات اليونانية والعربية والفارسية في مختلف العلوم والتخصصات.
وفي عصر الحكم الثاني (961-976م)، كانت مكتبته تضم 400 ألف مجلد، وكان هو الذي رعى كتاب أبي الفرج الأصبهاني الشهير «الأغاني» الذي كان يكتبه في بغداد؛ ذلك أن الحكم كان يريد الحصول على «النسخة الأولى» من الكتاب المخطوط. وبعد ذلك بقليل، جلب «مسلمة المغريطي» إلى الأندلس أعمال الخوارزمي الحسابية والرياضية، ورسائل إخوان الصفاء، وهي الأعمال التي قدر لها أن تقوم بأبلغ الأثر في العلوم بسائر أنواعها، وفي النزعة الصوفية في إسبانيا، ومنها انتقلت إلى بلدان أوروبا المجاورة. وحتى في عصر ملوك الطوائف، نبغ هناك العديد من الشخصيات العلمية والثقافية على رأسهم ابن حزم (994-1064م) الفقيه والعالم الأديب صاحب أهم كتاب في الديانات المقارنة «الملل والنحل»، ومؤلف «طوق الحمامة» الذي كان له أثره العميق في تطور صيغ الحب العذري (الغزلي) وانتشاره في أوساط التروبادور في بروفانس، الذين تأثر شعرهم أيضا بالموشحة والزجل في الأندلس العربي. وظهر أيضا الشاعر ابن زيدون والأميرة ولادة بنت المستكفي. وفيه أيضا اشتهر ابن جبيرول (1021-1070م) الذي ترك أثرا واضحا في الحركة الاسكولائية في العصور الوسطى بكتابه
FONS VITAE «نبع الحياة» مترجما عن اللغة العربية إلى اللاتينية والذي كان ذائعا وسط الدارسين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ورغم أنه كان يهودي الديانة، فقد كان عربي الثقافة، وكان يكتب بسهولة باللغتين اللاتينية والعربية لدرجة أن أحدا لم يكتشف أن مؤلف ذلك الكتاب، الذي كان معروفا باللاتينية تحت اسم
AVICEBRON
هو ذاته ابن جبيرول إلا عام 1846م، بعد أن كان يظن أنه كاتب عربي مسلم. والحقيقة أن ذلك لا يغير من الأمر شيئا؛ فاللغة هي الأساس الثقافي الذي يبين في كتابات المرء، بغض النظر عن الديانة أو القومية.
وفي عصر إسبانيا المغاربية، وهو الاسم الذي يطلقه المؤرخون على عصور المرابطين والموحدين في إسبانيا، شهدت البلاد تقدما في حركة الاسترداد المسيحي، وواكب ذلك تسارع بالجملة في ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية. وفي عصر المرابطين (1090-1146م)، نبغ ابن باجة في مؤلفاته التي ناقش فيها أفلاطون وأرسطو، وترجمت مؤلفاته إلى اللاتينية وأصبحت مادة للدرس في أوروبا الغربية، جنبا إلى جنب مع كتابه «تدبير المتوحد» الذي انتقد فيه مادية عصره وفساده. وفي الأدب، ألف ابن قزمان أزجاله التي ابتدع نمطها وخالف بها النمط الشعري السائد في المشرق العربي وقتها، وتناقلها الناس في الأندلس حتى وصلت إلى التروبادوريين. ونبغ في القصص الفلسفي ابن طفيل، الذي كتب «حي بن يقظان» التي صور فيها إمكانية التوصل إلى العقيدة الإلهية والتجلي الصوفي من داخل النفس على نحو طبيعي. وتذكر «لاساتر» أن مخطوطة عربية لهذا الكتاب اكتشفت في المغرب بعد كتابته بخمسة قرون وانتقلت إلى انجلترا حيث ترجمه إلى اللاتينية إدوارد بوكوك عام 1671م. وقد صدرت ثلاث ترجمات للكتاب إلى الإنجليزية في الأعوام 1674م و1686م و1708م. وقد رحب أتباع مذهب الكويكرز بالكتاب إذ رأوا فيه تأكيدا لمذهبهم في عقيدة النور الداخلي؛ كما أن قصة الشاب الذي يعيش مستقلا في جزيرة مهجورة ويزدهر فيها، قد ألهمت دانييل ديفو - ضمن أعمال أخرى - روايته روبنسون كروزو التي كتبها بعد عشرة أعوام فقط من صدور الترجمة الإنجليزية الأخيرة لحي بن يقظان.
وفي عصر الموحدين، ألف ابن رشد كتبه في التوفيق بين الفلسفة اليونانية والعقائد الإيمانية، مما ضمن لها انتشارا واسعا في العالم الغربي، وأثرت في أفكار توماس الأقويني الذي سار على نفس نهج الفيلسوف العربي. وتعلم الدارسون الأوروبيون من المجادلات الفلسفية والصوفية التي نشأت بين ابن رشد والغزالي. كما كانت كتب الغزالي معروفة لدى الأوروبيين، وأثرت مؤلفاته عن التصوف - جنبا إلى جنب مع الصوفي الأندلسي الأشهر ابن عربي - في متصوفة المسيحية الكبار. وفي مجال الشعر، جمع ابن سعيد الأندلسي مختارات ثمينة من أعمال شعراء عصره ساعدت في تتبع موضوعات الشعر العربي الأندلسي منذ نشأته.
ومع تسارع حركة الاسترداد الإسباني، اكتشف العالم اللاتيني ثروة المخطوطات العربية التي وجدت في المدن المفتوحة وشرعوا في ترجمتها، خاصة في طليطلة، ثم في مرسية وإشبيلية. فبعد أن استولى ألفونسو السادس على طليطلة عام 1085م أصبحت مركزا أساسيا لترجمة الكتب والوثائق العربية إلى اللاتينية، كما تحولت في الوقت نفسه إلى عاصمة للعلم والثقافة يؤمها الدارسون من إيطاليا والإمبراطورية الرومانية المقدسة وفرنسا وإنجلترا. وبعد سقوط قرطبة وإشبيلية في يد فرناندو الثالث في 1236م و1248م، على التوالي، انحصر الحكم الإسلامي العربي في مملكة غرناطة في الجنوب، واستمرت قائمة لمدة قرنين ونصف من الزمان.
وتشبه حركة الترجمة الواسعة النطاق التي بدأت في إسبانيا وصقلية في القرن الثاني عشر، حركة الترجمة التي نشأت في بغداد في منتصف القرن التاسع في عهد الخليفة المأمون في «بيت الحكمة». وفي حين كان الهدف من الحركة البغدادية هو ترجمة الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية والتعليق عليها والزيادة فيها، هدفت مدرسة طليطلة إلى ترجمة تلك الكتب العربية إلى اللاتينية. وكما استعان العرب أحيانا بالتراجمة الوسطاء، أي بالمسيحيين النسطوريين لترجمة اللغة الإغريقية إلى السريانية ومنها إلى العربية، استعان الإسبان في بعض الأحيان باليهود الذين كانوا يقيمون بين ظهراني العرب والمسلمين لترجمة المؤلفات العربية إلى اللغة الرومانسية المحكية (وهي التي أصبحت اللغة الإسبانية بعد ذلك)، ومنها إلى اللاتينية.
ومن بين المترجمين الذين عملوا بنشاط في شمال إسبانيا، يبرز روبرت الكيتوني، نسبة إلى مدينة كيتون، وهو إنجليزي عاش حوالي الأعوام 1110-1160م. وكان مركز اهتمامه علوم الكيمياء والجبر التي ترجم فيها الكثير من المؤلفات. وفي عام 1143م، كلفه بطرس الوقور، رئيس دير كلوني المشهور، بترجمة القرآن من العربية إلى اللاتينية، بالاشتراك مع هرمان الدلماسي. وتعتبر هذه الترجمة أول نقل للقرآن الكريم إلى لغة أوروبية، وتبرهن على أن الترجمة من العربية لم تقتصر على العلوم الأساسية كالهندسة والطب والفلك والنباتات وغيرها، بل شملت العلوم الفقهية والأدبية أيضا. وتدل ترجمة القرآن منذ تلك الفترة المبكرة على المصدر الذي تسللت منه الموضوعات والقصص الإسلامية إلى أوروبا ومنها إنجلترا، نظرا إلى جنسية المترجم. ومن المترجمين المشهورين الآخرين في علوم الفلك والنجوم يوحنا الإشبيلي، وهو يهودي متنصر عمل في طليطلة وإشبيلية، وقدم علماء الفلك المسلمين إلى العالم اللاتيني، ومنه استقى دانتي أسماء هؤلاء - ومنهم الفرغاني - في ملحمته الكوميديا الإلهية.
وقد أدت ثروة المعلومات التي نتجت عن ترجمة العلوم والآداب العربية في أقطار العالم الأوروبي - سواء باللاتينية أو اللغات المحلية التي كانت قد بدأت في التفرع منها - إلى نشوء ما أصبح يطلق عليه «نهضة القرن الثاني عشر». وقد أدت تلك النهضة إلى الإسراع في نشوء الجامعات الأوروبية في باريس ومونبلييه وسالرنو وبولونيا، وأبرزت المفكرين الاسكولائيين مثل ألبرتوس ماجنوس وتوماس الأقويني، الذين كانوا يوفقون بين الفكر والفلسفة اليونانية والتجريب العلمي وبين اللاهوت المسيحي. وقد لعب دير كلوني، الذي أشرنا إليه قبلا، دورا كبيرا في نشر الثقافة والعلم. فبالإضافة إلى ترجمة القرآن والآثار النبوية الإسلامية، بهدف التعريف بها والرد عليها، أشرف الدير على حركة الحج إلى ضريح القديس سنتياجو في بلدة كومبوستيلا في شمال إسبانيا، وهو القديس الذي يفترض أنه قد أدخل المسيحية إلى إسبانيا. وقامت في نفس الفترة رواية أخرى حول ضريح جوزيف الأريماثي (الرامي) الذي يفترض أنه وفد إلى إنجلترا مع الكأس والحربة المقدسين وأدخل المسيحية إلى إنجلترا، وله ضريح يزوره الحجاج في «جلاستونبيري آبى». وفي فترة من الفترات التاريخية الأولى، اختلطت شخصية القديس سنتياجو (جيمس) بجيمس أخي المسيح وأول رئيس لكنيسة أورشليم، مما ألهب حركة الحجيج إلى ضريحه من كل أنحاء العالم المسيحي، وجعلهم يتعرفون على إسبانيا وثقافتها وينقلون ما سمعوه وعرفوه إلى بلادهم بعد عودتهم.
وقد نشأ شعراء التروبادور في تلك الفترة في جنوب فرنسا، وتميز شعرهم بالقافية وبنمط الشعر العذري أو ما يسمى شعر البلاط (وسأسميه مؤقتا الشعر الغزلي)، وهما ظاهرتان كانتا معروفتين منذ زمن في إسبانيا العربية. وكان التروبادور على صلة وثيقة بإسبانيا وتياراتها الثقافية، فقد كان الجنوب الفرنسي في أوقات عديدة جزءا من الشمال الإسباني، وكانت ثمة صلات سياسية - بل وصلات مصاهرة - وثيقة تربط نبلاء بواتييه وتولوز وبورغندي بنبلاء أراغون وقشتالة وقطلونية. وكانت بروفانس نفسها تتبع مملكة أراغون في كثير من الأحيان، إلى أن ضمتها فرنسا إليها نهائيا بعد الحملة الصليبية ضد الألبيجنسيين، وحينها لجأ الكثير من شعراء التروبادور إلى إسبانيا هربا من الاضطهاد. بيد أن أهم الروابط بين التروبادور وإسبانيا هي الروابط اللغوية، فاللغة التي كانوا يستخدمونها في أشعارهم وأغانيهم، البروفانسالية، مرتبطة باللغة القطلونية المستخدمة في شرق إسبانيا. ويرتكز إنكار بعض الباحثين للأثر العربي والإسلامي في الآداب الأوروبية في العصور الوسطى إلى فكرة عدم وجود صلات وروابط فكرية وثقافية بين المسلمين والمسيحيين في ذلك الوقت، وهي فكرة يكفي للدلالة على خطئها النظر إلى كمية الكلمات العربية التي دخلت اللغة الإسبانية ومنها إلى لغات أوروبية أخرى.
ففي إسبانيا العربية، تواجدت أربع لغات عاشت جنبا إلى جنب: العربية الفصحى ويستخدمها أهل الأدب والعلوم؛ والعربية الجارية التي تستخدم في الإدارة والمعاملات الحكومية والتجارية؛ واللاتينية التي يستخدمها رجال الكنيسة؛ والرومانسية التي يستخدمها عامة الناس. وحتى القرن الثالث عشر، كانت اللغة الرومانسية تنقسم هي الأخرى إلى لهجات أربع: القشتالية في وسط إسبانيا، والقطلونية في شرقها، والجليقية في الشمال الغربي، والبرتغالية في الغرب. وكان المسيحيون الإسبان متأثرين باللغة العربية وآدابها خاصة الشعر منذ أقدم العصور ، ودليل ذلك المقولة الشهيرة لكاتب مسيحي يدعى ألفارو تناقلتها الكتب منذ عام 854م والتي يقول فيها: «إن شبابنا المسيحيين، برغم تكلفهم اللطف والكياسة وحسن البيان وطلاقة اللسان، إنما كانوا يسترعون الأنظار بحسن هندامهم وحسن تصرفهم فيما يعرض من الأمور، وبما عرف عنهم من حسن الأدب ودماثة الخلق، وبتشبعهم بالبلاغة العربية، نراهم يتناولون كتب الكلدانيين (يعني المسلمين) منهم، ويطالعونها بلهف ويناقشونها في حماسة وغيرة، ويشيدون بذكرها، ويمتدحونها بكل ضروب التنميق في اللفظ وحسن البيان، على حين أنهم لا يفقهون شيئا من جمال الأدب الكنسي، ويحتقرون جداول الكنيسة التي تنساب إليها من الجنة. وا أسفاه! لقد جهل المسيحيون نظم شريعتهم، وأصبحت الأمم اللاتينية لا تعير لغتها اهتماما، حتى لا تكاد تجد في جماعة المسيحيين كافة رجلا من كل ألف رجل يستطيع أن يستفسر عن صحة صديق بعبارات واضحة جلية، وأنت واجد بين جمهرة السوقة والعامة أشخاصا لا يحصى عددهم، يحيطون إحاطة تامة بالعبارات الفصيحة التي خلفتها اللغة العربية في عصورها الذهبية، حتى لقد استطاعوا أن ينظموا القصائد المقفاة - تلك القصائد التي يتجلى فيها أسمى مراتب الجمال، بل كان بعضهم أمهر من العرب أنفسهم في قرض الشعر.» (عن كتاب توماس آرنولد «الدعوة إلى الإسلام» ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن والدكتور عبد المجيد عابدين والأستاذ إسماعيل النحراوي).
ومنذ بداية القرن التاسع، أصبح المسيحيون في إسبانيا ممن ينتهجون الطرق العربية في الحياة والثقافة يسمون بالمستعربين
MOZARABES ، من لفظة مستعرب أي الذي يتمثل اللغة والعادات العربية. وقد نشأ نوع من الأدب الهجين يسمى الأدب العجمي
ALJAMIADO ، تستخدم فيه لغة رومانسية مكتوبة بأحرف عربية. وقد تم في أوائل القرن العشرين العثور على مجموعة من المخطوطات مكتوبة بتلك الطريقة مخبوءة في أرضية بيت قديم في أراغون درءا لأعين رجال محاكم التفتيش. ومن أمثلة الأدب العجمي كتاب يسمى «قصيدة يوسف»، لغته هي الرومانسية التي كانت مستخدمة في أراغون، ومكتوب بحروف عربية. والقصة مستمدة من القرآن الكريم ومن كتب قصص الأنبياء العربية.
وفي عصر مملكة غرناطة نبغ اثنان من المستعربين الإسبان تركا أثرا بالغا في الأدب الإسباني المقارن، أولهما القس الدومينيكي «رايموند مارتين» الذي كان يتقن العربية والعبرية وكتب مؤلفات في الأخرويات تنبئ عن تأثره بالكتابات العربية في ذلك الموضوع. والثاني هو العالم المشهور «رايموند لول» (1233-1315م) الذي كان يكتب بالعربية والقطلونية في موضوعات الصوفية والأخرويات، وله كتاب عن الحب العذري وآخر عن الفروسية، وكلها من الموضوعات التي كتب فيها العرب في إسبانيا. وكتابه عن الفروسية وطبقاتها موجود بالقطلانية والفرنسية القديمة والإنجليزية الوسطى والاسكتلندية، مما يدل على المدى الذي بلغته تلك المخطوطات في الوصول إلى جميع أنحاء العالم الأوروبي آنذاك وتأثره بها.
ويرجع إلى ذلك العصر ظهور لسان الدين ابن الخطيب الذي أرخ لغرناطة وتاريخها وآدابها، كما أنه كتب مقامات يتخللها الكثير من الأشعار، ويشتهر بجمعه عددا من الموشحات والأزجال الإسبانية الأولى التي كتبت باللغات العربية والعبرية والرومانسية. وقد ظهرت في ذلك العصر أوائل المؤلفات المشهورة في الأدب الإسباني ذات المسحة العربية الخالصة مثل كتاب الكونت لوقانور وكتاب الحب المحمود، واللذين سنتناولهما لاحقا. وتقع فترة حكم ألفونسو العاشر هنا أيضا (حكم في قشتالة ما بين 1252-1284م)، ويسميه المؤرخون ألفونسو الحكيم، بسبب اهتمامه بالفلك والشعر، وإشرافه على ترجمة الكتب العربية وكتابة القوانين والتاريخ. ومن بين الكتب التي أمر بترجمتها، كتاب كليلة ودمنة، وكتاب حيل النساء ومكرهن. وقد ظهر أثر هذين الكتابين في كثير من المجموعات القصصية التي كتبت بعد ذلك باللاتينية وفي اللغات الأوروبية الأخرى الناشئة. ومن الكتب الهامة التي انتقلت عبر ترجمات ألفونسو إلى إنجلترا وفرنسا كتاب «الأزياج الألفونسية»، عن حركات الكواكب، وهو يقوم على كتب الخوارزمي والبطروجي والمغريطي في الفلك، وموجود في مخطوطات فرنسية وإنجليزية تعود إلى أوائل القرن الرابع عشر، مما جعلها في متناول العلماء الذين صاغوا بعد ذلك علم الفلك الحديث. ومن الكتب الهامة الأخرى كتاب «معراج محمد»، الذي يصف إسراء النبي
صلى الله عليه وسلم
ومعراجه في السماوات العلى، وقد عثر عليه في منتصف القرن العشرين في نسخ باللاتينية والقشتالية والفرنسية القديمة. ومن المقدمة، نعلم أنه قد ترجم إلى القشتالية من اللغة العربية مباشرة إبان حكم ألفونسو العاشر الحكيم في عام 1264م. والمخطوط ذاته مودع في المكتبة البودلية بإنجلترا، ولا يعرف سر انتقاله ووجوده هناك، إلا ما يظنه الباحثون من زواج أخت ألفونسو غير الشقيقة إليانور من الملك إدوارد الأول ملك إنجلترا!
أما أعمال ألفونسو الأصلية الشهيرة فهي «أهازيج سانتا ماريا» (الكانتيجات)، وهي حوالي أربعمائة قصيدة تضمها أربع مخطوطات بالموسيقى المصاحبة لها. وأشكال هذه الأنشودات مستمدة مباشرة من الأشكال الأولى للشعر العربي الأندلسي الذي كان شائعا في إسبانيا وقتها. (3) القصص
يقول الباحث «جون إستن كللر» إن الحكاية هي «أعظم إسهام شرقي مفرد في أدب الغرب.» فقد تكاثرت الحكايات القصصية في أشكال مختلفة في أوروبا الغربية فجأة بدءا من القرن الثاني عشر. وقد تم إدراج بعض هذه القصص في مجموعات، انطلقت معظمها من قصة إطارية، وانتشرت أولا عن طريق الرواية الشفوية، على لسان الحكائين والأدباء الدينيين والتجار والعائدين من الحملات الصليبية ومن طرق الحج إلى القدس وسنتياجو دي كومبوستيلا وغيرهما من المزارات الدينية الهامة. وكانت تلك القصص تحتوي على الدوام عنصرا شرقيا، هذا إذا لم تكن منقولة أصلا عن العربية أو الفارسية. ورغم اعتراف النقاد بأثر الحكايات الشرقية في الآداب الأوروبية، فإنهم يجادلون في الاعتراف بإسبانيا بوصفها المعبر الذي انتقلت منه تلك القصص والحكايات إلى دول أوروبا الأخرى كفرنسا وإنجلترا. ولكن الواقع يبين أن عرضا مقارنا لبعض الكتب المصدرية الأساسية للقصص في اللغات اللاتينية والفرنسية القديمة والإنجليزية الوسطى والإسبانية والعربية، يظهر بوضوح أن إسبانيا (ومن بعدها صقلية) كانت هي همزة الوصل في تدفق الحكايات العربية إلى أوروبا.
قصص الأمثال
عرفت الأمثولات أو قصص الأمثال بوصفها أسلوبا وعظيا منذ باكورة العصور الوسطى، بيد أنها برزت إلى مكان الصدارة في الخطب الدينية في القرن الثالث عشر عن طريق مجموعتين من كتب الأمثولات، كتاب «المواعظ» الذي وضعه «جاك دي فيتري»، والآخر من وضع «إتيين دي بوربون»، وقد عاشا في منتصف القرن الثالث عشر. وتمتلئ مواعظ دي فيتري بالقصص والحكايات الأمثولية، المستمدة غالبا من مصادر شرقية. ويتضح مدى تأثير المصادر العربية في تلك الحكايات من واقع أن دي فيتري كان من كبار القساوسة الذين رافقوا الحملات الصليبية إلى القدس، وتولى مناصب كنسية في بلاد فلسطين، كما أنه رافق الحملة الصليبية التي بلغت دمياط، وأرسل تقريرا عنها إلى البابا. وقد دخل كثير من تلك الحكايات بعد ذلك في المجموعات القصصية التي جمعت في فترة لاحقة.
وقد انتشرت في ذلك الوقت أيضا أنواع أخرى من القصص، منها قصص الحيوان
BEAST FABLES ، والقصص الشعري الهازل
FABLIAUX ، والمقامات، والقصص الإطارية. وظهر ذلك في مجموعات أوروبية معروفة أشهرها ما يلي:
مرشد الحكماء
وهو كتاب ظهر عام 1110م باللاتينية بعنوان
DISCIPLINA CLERICALIS ، من تأليف طبيب وباحث إسباني يهودي هو الفقيه موسى السفاردي، الذي تنصر وحمل اسم بطرس ألفونس عام 1106م وهاجر من الأندلس إلى إنجلترا حيث بقي هناك حتى وفاته عام 1135م. وقد ساهم ألفونسو في إدخال علوم الفلك العربية إلى إنجلترا؛ بيد أن أثره الباقي يتمثل في كتابه ذاك الذي شاع في العصور الوسطى وأصبح من أهم الكتابات القصصية في أوروبا في القرون الوسطى. وقد وضع ألفونس الكتاب أولا باللغة العربية، ثم ترجمه إلى اللاتينية، ومنها انتقل إلى اللغات الأوروبية الأخرى. وتوجد حاليا 63 مخطوطة من الكتاب في نسخه الأولى.
ويبدأ الكتاب بنفس طريقة المؤلفات العربية؛ بحمد الله والثناء على أفضاله ونعمه، ثم يذكر كيف استقى موضوعات حكايات كتابه من الأقوال الحكيمة التي استمع إليها، ومن الأمثال والقصص والأشعار العربية، ومن حكايات الحيوان. ويقول إنه يسوق تلك الحكايات بغرض تهذيب النفس وكيما يستخدمها الحكماء ورجال الدين في مواعظهم، ومن هنا اسم الكتاب. ويضم الكتاب 34 قصة، وإن كانت هناك قصص تشتمل على أكثر من حكاية واحدة، كما أن البعض يجمعها قصة إطارية، عن أب ينصح ابنه، أو حكيم يعظ تلميذه. ومعظم الحكايات لها ما يقابلها في ألف ليلة وليلة، خاصة حكايات حيل النساء ومكرهن، وحكايات الحيوانات. والآثار العربية والإسلامية تبين في ثنايا الكتاب، من الأسماء إلى الإشارات، وقصص الأنبياء الذين وردوا في القرآن، بل وفيها كثير من الأحاديث والنصائح النبوية، مثل القول بأن يعمل الإنسان لآخرته كما لو أنه سيموت غدا ولدنياه كأنه يعيش أبدا.
وكان أثر هذا الكتاب عظيما وشاملا في القصص الأوروبي، فصدرت بعده مجموعات قصصية عديدة في اللاتينية وفي اللغات الأوروبية المحلية تنهل من نبعه، كما نهل منه أيضا بوكاتشيو وتشوسر كما سنرى بعد ذلك.
حكماء روما السبعة
ترجع حبكة هذه القصة إلى زمن بعيد، وظهرت في آداب أمم شتى، بيد أنها لم تشتهر في الآداب الأوروبية الأولى إلا عن طريق نسختها العربية، ومن ضمنها ورودها في قصة شهيرة من قصص ألف ليلة وليلة. والحبكة تتخذ صورا متعددة، ولكنها تنحصر في حيل النساء لإغواء رجل يرغبن فيه، ثم التنصل من تلك الرغبة وإلصاقها بالرجل حين لا يستجيب ذلك الرجل لطلبهن. وظهر ذلك في قصة الأخوين الفرعونية، وكتاب السندباد (وهو غير قصة السندباد البحري المعروفة)، وكتاب خداع النساء، والسبعة وزراء، والحكماء السبعة، وجزء من توتي نامة الفارسية، ثم أساسا في ألف ليلة وليلة. وهي قد وردت في ألف ليلة في حكاية الملك وولده والجارية والوزراء السبعة، حيث تتهم الجارية ابن الملك ظلما بمحاولة إغوائها، والحقيقة هي العكس، بينما الابن في صوم إجباري عن الكلام لمدة معينة لا يستطيع دفاعا عن نفسه، فينبري حكماء الملك ووزرائه بإقناعه ببراءة ابنه عن طريق قص حكايات مكر النساء وحيلهن. وقد انتقلت تلك القصص إلى اللغات الأوروبية أكثر ما انتقلت عن طريق ترجمة إسبانية لمجموعة منها ظهرت باسم «مكايد النساء وحيلهن» وهو الكتاب الذي أمر الدوق «فدريك» أخو ألفونسو الحكيم بترجمته من العربية إلى الإسبانية عام 1253م.
وتجدر الإشارة أيضا إلى نشأة تلك الحبكة أيضا حول قصة النبي يوسف مع زليخة امرأة العزيز. وهي رغم ورودها في كتب العهد القديم، لم تبرز في الحكايات الشعبية إلا بعد تناولها في صورتها العربية، حيث ذكرت في القرآن الكريم، وفي كتب قصص الأنبياء، ثم صاغها الحكاة والمؤلفون العرب في صورة أدبية شيقة. وقد ظهرت في عدة صور في إسبانيا العربية، بل ويوجد نص لها مكتوب باللغة العجمية، أي الإسبانية الناشئة مسطرة بحروف عربية، لاستخدام الموريسكيين الذين بقوا في إسبانيا بعد انتهاء الحكم العربي بها. وقد حقق العلامة منندث بيدال ذلك النص وأصدره بتعليقات ودراسات ضافية هامة.
مرشد الحياة الإنسانية
وهو كتاب صدر باللاتينية بعنوان
DIRECTORIUM VITAE HUMANAE ، عبارة عن ترجمة عن العربية لكتاب «كليلة ودمنة». وقد صدر الكتاب العربي عام 750م، ونقله ابن المقفع عن الفارسية، ويقال إنه من تأليفه لا ترجمته. وهو يضم مجموعة من القصص والحكايات الخرافية على لسان الطيور والحيوانات، وتنتهي دوما بأمثلة ومواعظ أخلاقية ترشد الملوك والحكام - والإنسانية عامة - إلى طريق الحكمة والصواب في الحياة والتعامل مع الناس والأحداث. وكانت تلك القصص ذائعة على ألسنة الرواة في إسبانيا قبل صدورها في الكتاب المشار إليه عام 1251م. وكثير من تلك القصص وارد بشكل أو بآخر في ألف ليلة وليلة، مما سبب لها انتشارا أوسع بين أوساط المهتمين بالقصص ونقله إلى اللغات الأوروبية.
قصص روما
وهو من أشمل الكتب وأشهرها ويضم مجموعة كبيرة من الحكايات والأمثولات والحكم والمواعظ، تم تصنيفه باللاتينية وصدر في أواخر القرن الثالث عشر باسم
GESTA ROMANORUM . ورغم اسمه، فمحتوياته معظمها عربي، ألبست غطاء أوروبيا قروسطيا؛ لاستخدام النبلاء والسادة الإقطاعيين في ذلك العصر وتثقيفهم وتسليتهم في نفس الوقت. وتضم المجموعة قصصا كثيرة مما سبق ظهوره في الترجمات السابقة للكتب التي ذكرناها، وبالطبع فقد احتوت على الكثير مما ورد في كتاب ألف ليلة وليلة. ومن تلك الحكايات: الرجل الذي يقتل كلبه ظنا منه أنه قتل ابنه بينما هو دافع عنه، وقصة العجوز التي تتوسط بين حبيب والمرأة التي يعشقها باستخدام حيلة الكلبة التي تبدو وكأنها تبكي، وقصص عن خداع النساء لأزواجهن، وقصة الصديقين اللذين يقبلان التضحية بحياتهما في سبيل الصداقة، وغيرها من الحكايات الموجودة في ألف ليلة.
بيد أن أغرب ما في هذه المجموعة الفريدة، قصة مستلهمة من القصص القرآني، وهي تحكي عن عابد من الزهاد يرى من كهفه مالكا لقطيع من الأغنام يقتل الحارس ظلما ظنا منه أنه أهمل الحراسة، فيثور على ما اعتبره عدم عدالة من السماء، فيرسل اليه الله ملاكا في هيئة رجل، يصحبه فيرى منه أفعالا تخالف الظاهر؛ فهو يقتل من يبدون أبرياء ويكافئ من هو شرير. وفي النهاية يشرح الملاك للزاهد الحكمة الإلهية من وراء تلك الأفعال، وهو ما لا يمكن للإنسان بعقليته القاصرة أن يدرك ما وراءها. وهذه القصة هي بالطبع مأخوذه عن قصة موسى وفتاه والخضر، الواردة في سورة الكهف. وقد ترجم القرآن الكريم أول ما ترجم في إسبانيا، وكانت سوره وآياته معروفة فيها بطبيعة الحال. وقد تأثر الشاعر الإنجليزي المعروف ألكساندر بوب بهذه القصة الواردة في المجموعة، وكان يظن أنها من أصل إسباني.
كتاب الحب المحمود
وهو بالقشتالية من تأليف كبير الأساقفة «خوان رويث» عام 1330م. والكتاب عبارة عن مجموعة من القصص السردي نثرا وشعرا، بعضه ديني وعظي وأكثره سخرية ومزاح. وقد حوى كل شيء، من الكلام العلمي، إلى أحاديث الحب وقصص الحيوانات والخرافات. والراوي يمر بكل التجارب، فهو آنا الفاشل في غرامياته، وأحيانا المحب الجسور، وطورا الضحية المكلوم. والمؤلف يشرح في مقدمة الكتاب الفرق بين الحب المحمود، الذي هو هبة من عند الله، والحب المجنون، وهو الحب الشهواني الدنيوي. وهو قد وضع الكتاب ليبين للقارئ شرور الحب الدنيوي، ولكنه يضيف أنه أيضا يبين له كيف يسلك طريقه في هذا الميدان، حيث إن معظم الناس ينغمسون في ذلك العالم الدنيوي!
ويشرع المؤلف في سرد أخبار غرامياته، التي بدأها في شبابه مع سيدة أترعته بقصص الحكايات والخرافات ولكنها رفضت حبه لها. ثم يرسل خوان رويث أحد أصدقائه للتوسط له لدى سيدة أحبها، فيحصل الصديق عليها لنفسه! وهكذا يفشل في حبه مع عدد من الفتيات، فيظهر له إله الحب في أحلامه ليشرح له سبب إخفاقه ويبين له كيف ينجح مع النساء، مضمنا شرحه الكثير من القصص والحكايات الخرافية. ويستعين البطل بخدمات عجوز تتوسط له لدى حبيبته الأرملة، ولكنه يخفق معها أيضا. ويسجل المؤلف بعد ذلك مغامراته مع أربع فتيات في جبال السييرا، ويمتلئ هذا الفصل بالأزجال الشعرية على النسق الأندلسي العربي. وبعد عودته إلى المدينة، يستأنف خوان رويث محاولاته في الحب والغرام، مع إحدى الراهبات التي لا تبغي سوى الحب الأفلاطوني، فيرغب عنها إلى إحدى العربيات، التي تتيح للمؤلف استخدام ما يعرف من اللغة العربية الدارجة التي يوردها في ذلك الجزء من مغامراته.
والكتاب مزيج من تأثيرات متعددة، يبرز فيها الأثر العربي، حيث نجد ملامح الشخصية البيكارسكية التي ظهرت مع مقامات الحريري والهمذاني، والأزجال التي ظهرت أول ما ظهرت في الأندلس، ثم القصص والحكايات وخرافات الحيوانات، التي ورد الكثير منها في ألف ليلة وليلة. وصور التودد إلى النساء وإغوائهن، والاستعانة بوسيط من العجائز، كله مأخوذ من قصص ألف ليلة وليلة التي كانت شائعة أيام خوان رويث على ألسنة الحكائين في كل مكان.
الكونت لوقانور
وضع هذا الكتاب - الذي يعتبر من درر الأدب الإسباني المبكر - خوان مانويل (1282-1348م). والكتاب يسمى أحيانا «كتاب باترونيو» وأيضا «كتاب الأمثولات». وهو يمثل حلقة من حلقات الاندماج بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية التي تمثلت في أوائل المؤلفات في الأدب الإسباني. فكثير من قصص ألكونت لوقانور مأخوذ عن أصول عربية، ولا غرو، فقد كان خوان مانويل عليما بالعربية ويقرأ بها، بل ويتضمن كتابه بعض العبارات العربية الدارجة مكتوبة بحروف لاتينية.
والكتاب يماثل كتاب كليلة ودمنة، في أنه عبارة عن نصائح ومواعظ قصصية يتلقاها ألكونت لوقانور من معلمه ومرشده باترونيو. فكل مرة يسأل ألكونت سؤالا، يرد عليه المعلم بقصة، ينهيها بالعظة منها في «قفلة» شعرية. وحكايات الكتاب مستوحاة من القصص العربية التي شاعت في إسبانيا والتي تضمنتها الكتب التي ذكرناها آنفا. ومن أشهر قصص الكتاب «حكاية المعتمد ملك إشبيلية مع زوجته الرميكية»، التي تصور عدم رضا المرأة مهما فعل زوجها لتلبية رغباتها. وكثير من تلك القصص لها مقابلها في ألف ليلة وليلة، بعضها صريح النسبة، وبعضها مغطى بطبقة إسبانية مسيحية محلية. فنحن نجد فيه قصة الثعلب (وهي هنا ثعلبة) والغراب، والملك ووزيره، والملك وأولاده الثلاثة، وقصة الابن الذي أراد أن يختبر إخلاص أصدقائه له ... إلخ . كذلك تكثر القصص المتعلقة بالعرب والمسلمين في المجموعة، مما يشي بتأثيرهم في الجو الثقافي الذي كان سائدا هناك آنذاك.
الديكاميرون
والمؤلف هو جيوفاني بوكاتشيو الذي عاش في إيطاليا في الفترة من 1313م إلى 1375م، وتلقى مصادر ثقافته عن طريق المؤلفات اللاتينية، ثم تعرف على بترارك وتأثر بدانتي. وقد أصدر عدة كتب قبل أن يقدم على تأليف كتابه الأساسي، الديكاميرون. والكتاب عبارة عن حكايات متعددة تلقى ضمن قصة إطارية، سنذكر تفاصيلها في فصل القصة الإطار. والواقع أننا سنعرض في هذا الكتاب كثيرا للديكاميرون، فهو يدخل في اختصاص أكثر من فصل من فصول كتابنا. وسنتعرض هنا لموضوعات قصصه التي تماثل حكايات وردت في ألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب ذات الأصل الشرقي، وإن كان مؤلف الكتاب لم يطلع على الحكايات العربية ذاتها، فإنه كان أليفا بها عن طريق انتقالها شفاهة وحكاية من إسبانيا إلى البلاد الأوروبية المجاورة ومنها إيطاليا. فقصص الديكاميرون تمتلئ بمغامرات الحب والجنس مثل قصص ألف ليلة، وتزخر بتصوير نفاق الكثير من رجال الدين وتهالكهم على الملذات الدنيوية، والخدع التي تقوم بها بعض النساء ومكرهن واحتيالهن إلى الوصال مع من يحببن بشتى الطرق والوسائل. وأكبر دليل على الأثر العربي في الديكاميرون، القصة التي روتها «فيلومينا» في اليوم الأول عن «ملخي صديق» اليهودي وصلاح الدين الأيوبي؛ وتحكي فيها كيف احتاج صلاح الدين إلى الحصول على تمويل من اليهودي الثري، فاستدعاه من الإسكندرية وسأله: أي دين من الأديان الثلاثة - اليهودية والمسيحية والإسلام - هو الدين الصحيح؟ وأدرك اليهودي الماكر أنها مكيدة من السلطان، فحكى له قصة الخاتم الثمين الذي كانت إحدى الأسر العريقة تتوارثه من قديم الزمن، وكان عاهل الأسرة يعطيه لمن يعتبره أحكم أبنائه. ويصل الخاتم إلى أب له ثلاثة أبناء، لم يكن يفضل واحدا منهم على الآخرين، فلما حضرته الوفاة أمر بصنع خاتمين مشابهين تماما للخاتم الثمين بحيث لا يمكن التفريق بينهم، وأعطى خاتما لكل واحد من الأبناء على حدة. وبعد وفاة الأب، فوجئ الأولاد الثلاثة بأن مع كل واحد منهم الخاتم الثمين، ولم يكن في مستطاع أحد أبدا التعرف على الخاتم الأصيل من بين تلك الخواتم الثلاثة. وأنهى اليهودي قصته قائلا: وهكذا أقول لك يا مولاي إن نفس الشيء ينطبق على النواميس الثلاثة التي منحها الرب لشعوبه الثلاثة، فكل واحد منهم يعتبر نفسه الوريث الشرعي للدين الإلهي، وأن دينه هو الدين الصحيح، ولكن - كما هو الحال مع الخواتم الثلاثة - تظل الحقيقة غير معروفة. ويدرك صلاح الدين أن الرجل قد تخلص بحكمته من مغبة الرد، فضحك وأطلعه على حاجته إلى المال، ورحب اليهودي بإقراضه ما يريد. وقد رد السلطان بعد ذلك ما أخذه من المال، وقرب إليه اليهودي الحكيم الذي أصبح من خلصائه.
ومن الواضح أن بوكاتشيو ما كان له أن يؤلف قصة كهذه من نسج خياله، بل هو قد أثبتها وطورها بعد أن قرأها أو سمعها شفاهة من أفواه الرواة باللغة التي يعرفها. وكان الكثير من الحكايات التي أتى بها العائدون من الحملات الصليبية تتعلق بصلاح الدين الأيوبي وعلاقاته بالأوروبيين وتتغنى بصفاته الحميدة وفروسيته الكريمة، ولا شك أن هذه واحدة منها.
وهناك القصة الخامسة من اليوم الأول، وتحكي عن افتتان ملك فرنسا فيليب لي بورني بزوجة المركيز الإيطالي دي مونفرات، فيذهب إليها في غياب زوجها بهدف إغوائها. وتفطن السيدة الشريفة لغرض الملك، فتعمد إلى الحيلة بأن تقيم له وليمة تقدم له فيها أطباقا متتابعة كلها من الدجاج. ولما يتعجب الملك من ذلك، ويسألها ألا يوجد في بلدهم سوى الدجاج دون أن يكون فيهم ديك واحد، تجيبه بأن دجاجاتهم تشبه النساء، فرغم اختلاف امرأة عن الأخرى اختلافات يسيرة، فالنساء تتشابه فيما بينها. ويدرك الملك القصد من وراء كلام الزوجة، فيعف عنها ويتركها في حالها. والقصة ترد بنفس الشكل في ألف ليلة وليلة، في رداء عربي صميم، تقع أحداثها ضمن دورة حكاية الملك وولده والجارية ووزرائه السبع، في قصة تحمل عنوان «حكاية الملك وزوجة وزيره»، وفيها تقدم زوجة الوزير إلى الملك الطامع فيها تسعين صحنا، «فجعل الملك يأكل من كل صحن ملعقة ، والطعام ألوان مختلفة وطعمها واحد. فتعجب الملك من ذلك غاية العجب ثم قال: أيتها الجارية، أرى هذه الأنواع كثيرة وطعمها واحد. فقالت له الجارية: أسعد الله الملك، هذا مثل ضربته لك لتعتبر به. فقال لها: وما سببه؟ فقالت: أصلح الله حال مولانا الملك إن في قصرك تسعين محظية مختلفات الألوان وطعمهن واحد. فلما سمع الملك ذلك الكلام خجل منها وقام من وقته وخرج من المنزل ولم يتعرض لها بسوء.» ويخشى زوج المرأة أن يكون الملك قد عبث بزوجته، فيحادثه عن طريق الرمز، عن دخول الأسد إلى أرضه، فيطمئنه الملك بقوله إن الأسد لم يطأ أرضه، فيعرف أن زوجته طيبة صالحة.
والقصة واردة قبل ذلك في القصص القرآني المتعلق بالنبي داود عليه السلام، وقصص الأنبياء للثعالبي، الذي يقص قصة زواج داود من امرأة أورياء قائد جيوشه، وقصة الخصمين اللذين تسورا المحراب ليقصا على داود خلافهما بشأن الأخ الذي لديه تسع وتسعون نعجة ثم يطمع في النعجة الواحدة التي يمتلكها أخوه، رغم عدم اختلافها في شيء عن بقية النعاج. والمثل والعبرة واضحان في القصة.
ثم هناك القصة السابعة من اليوم الثاني، ويحكي فيها بوكاتشيو عن سلطان بابل (بغداد؟) وابنته «ألاتيل» ذات الجمال الأخاذ الذي يفتن كل من رآه أو سمع به. ويخطب ملك الجرف (في شمال أفريقيا؟) ابنة السلطان، ولكن السفن التي تقلها إليه من ميناء الإسكندرية (!) تجنح تحت وطأة العواصف إلى جزيرة ميورقة. ومن هنا، تبدأ مصائب الأميرة المسلمة، إذ لا يراها أي رجل إلا ويفتتن بجمالها. وهكذا يتعاقب محبو ألاتيل عليها، ويقتل الواحد منهم الآخر في سبيل الفوز بها، بل وتقوم الحروب بين المدن الإغريقية في سبيل الحصول عليها. ونجد هنا التصوير المعهود للعلاقات بين اليونان وبيزنطة، وبينهما وبين ملوك الإسلام، على النحو الذي تصوره ألف ليلة خصوصا في «حكاية الملك عمر النعمان». وتتقلب الأحداث بالأميرة المسلمة في البلاد المسيحية، إلى أن يراها أحد معارف أبيها السلطان ويعود بها إلى الإسكندرية «حيث كانت الأمة المصرية كلها في حزن لفقدها.» وبناء على نصيحة صديق أبيها الذي أنقذها، تخفي عن الجميع ما لاقته من معاملة في غربتها، وتزف ثانية إلى ملك الجرف، الذي يجدها عذراء كما هو المعهود في أميرات الشرق عند زواجهن! ويبدي بوكاتشيو في تلك الحكاية جهلا كبيرا بجغرافية المدن الإسلامية، فيخلط بين بابل والإسكندرية، وإن كان يبدي معرفة بالمسلمين وعاداتهم وعقائدهم كما كان يراها المسيحيون في عصره، وهو ما يدعو للاعتقاد بأنه قد استقى تلك القصة من حكايات عربية متواترة، منها القصص المشابهة لها في ألف ليلة وليلة.
وثمة قصتان أخريان تجري أحداثهما في تونس. إلا أن أغلبية الحكايات تتعلق بالنساء وحيلهن في التوصل إلى من يحببن، وهي نفس التيمة التي تتغلغل في ثنايا حكايات ألف ليلة وليلة. بل إن هناك القصة الرابعة من قصص اليوم السابع في الديكاميرون، وهي تحكي عن الزوج الذي يضبط زوجته وقد تسللت أثناء الليل للقاء عشيقها، فيغلق الباب حتى لا يدعها تدخل ثانية عند عودتها. وتتوسل الزوجة لزوجها كي لا يفضحها ويفتح الباب لها، فلما أيأسها، تلقي حجرا ثقيلا في البئر لتوهم الزوج بأنها ألقت بنفسها فيه. ولما يخرج الزوج ليستطلع ما حدث لزوجته، تغافله الزوجة وتدلف إلى داخل البيت ثم تغلق الباب من دون زوجها، وتصيح شاكية للجيران من سوء معاملة زوجها لها وبقائه طوال الليل بالخارج مع عشيقاته! ونفس هذه الحبكة واردة بحذافيرها في ألف ليلة وليلة. وربما يكون بوكاتشيو قد أخذها من مجموعات القصص المترجم إلى اللاتينية من قصص ألف ليلة وغيرها من الكتب العربية والشرقية.
كتب القصص الإنجليزية
وقد وجدت القصص اللاتينية التي سبق ذكرها طريقها آخر الأمر إلى اللغة الإنجليزية القديمة والوسطى. فبالإضافة إلى ترجمة الأعمال السابقة، ظهرت مجموعات من الحكايات المكتوبة أصلا بالإنجليزية، عكست في معظمها الصلة مع الأدب الناشئ في أوروبا والذي تستبين فيه ملامح التراث العربي الإسباني وقتها. وقد اشتهرت من بين تلك المجموعات الكتب التالية: «الصفاء»
و«اللؤلؤة»
THE PEARL
و«السير جاوين والفارس الأخضر»
SIR GAWAIN AND THE GREEN KNIGHT ، وهي كلها كتب نهلت من معين الحكايات والأساطير والرومانسات الأندلسية بعد أن غلفتها بطابع غربي مسيحي به الكثير من قصص الكتاب المقدس والأساطير الكلتية وتيمات الكأس المقدسة وما تفرع عنها من قصص وحكايات.
وفيما بين عامي 1371-1372م، ألف «جوفروا دي لا تور» كتابا بالإنجليزية الوسطى عنوانه «كتاب فارس لتور لاندري»، وهو مجموعة من الأمثولات والحكايات الأخلاقية في قصة إطارية، يماثل كتابي مرشد الحكماء والكونت لوقانور السابق الإشارة إليهما. والمجموعة تحكي أيضا حكايات النساء ومكرهن، وقصص الحكمة على أفواه الحيوانات، بعد أن صبغ المؤلف كل ذلك بصبغة إنجليزية قروسطية مسيحية في تصويرها، وإن كان معظمها إعادة صياغة لحكايات عربية ذاعت في وقتها في إسبانيا العربية وانتقلت إلى أوروبا ومنها إلى إنجلترا عن طريق مجموعات الكتب اللاتينية، وعن طريق الحجاج والعائدين من الحملات الصليبية.
وحوالي عام 1390م، يصدر الكاتب المعاصر لتشوسر «جون جاور» كتابه «اعترافات العاشق»
CONFESSIO AMANTIS
الذي لا يزال موجودا منه الآن حوالي أربعين مخطوطا. والكتاب يدور حول الحب العذري أو الحب الغزلي، وينقسم إلى ثمانية كتب يتعلق كل منها بقصص إحدى الخطايا السبع. وكثير من تلك القصص إعادة صياغة لقصص ظهرت في مجموعات قصصية أخرى بل وفي حكايات كانتربري، وكذلك يستمد المؤلف حبكاته من مصادر كلاسيكية أخرى. والنبع العربي الأندلسي - وهو يظهر هنا في صورة إسبانية - واضح في بعض تلك القصص، مثل قصة بترونللا الحكيمة في الكتاب الأول. ففي تلك القصة، يسأل الملك ألفونسو ملك قشتالة أحد منافسيه - السيد بدرو - ثلاثة أسئلة. وتقوم ابنة السيد بدرو بالرد نيابة عن أبيها، فتظهر مدى معرفتها الواسعة بالعلوم والفنون، إلى درجة أن يفتتن الملك الإسباني بها فيتزوجها وينعم على أبيها. ومثل هذه القصة ومواقفها تتكرر كثيرا في ألف ليلة وليلة، كحكاية الجارية تودد. وكون قصة جاور تدور في إسبانيا وتصور ملكها ألفونسو، يلمح إلى الأصل العربي الشفاهي لحبكتها.
أما قصة «سير جاوين والفارس الأخضر» فهي حلقة من قصص الملك آرثر والكأس المقدسة. وقد أرجع النقاد شخصية الفارس الأخضر إلى التراث الشعبي الكلتي، وإلى طقوس الربيع الوثنية، والى أساطير الزرع والحصاد. وتضيف «لاساتير» إلى ذلك تأثير شخصية «الخضر» العربية الإسلامية، التي ذاعت في إسبانيا عن طريق ترجمات القرآن الكريم والتعليقات عليه، ثم كتابات الصوفية خاصة ابن عربي الذي ذكره في «الفتوحات المكية»، وكذلك ظهوره في الكثير من القصص العربي مثل قصة الإسكندر. ولكن أوضح الأمثلة على معرفة الأندلس بشخصية الخضر، هو تكرار ظهوره في قصص ألف ليلة وليلة؛ فقد ورد ذكره في «حكاية تاج الملوك والأميرة دنيا» و«حكاية أبو محمد الكسلان» و«مدينة النحاس» و«مغامرات بلوقيا» و«عبد الله بن فاضل وأخويه». وكل ذلك ضمن انتشارا واسعا لفكرة الخضر والقصص والأساطير التي نسجت حوله، في إسبانيا التي عرفت قصص ألف ليلة وليلة شفاهة منذ دخلها العرب والمسلمون.
حكايات كانتربري
عاش تشوسر - أبو الأدب الإنجليزي - في الفترة بين 1340م و1400م، وعمل في خدمة عدد من النبلاء والأمراء الإنجليز، ثم دخل في خدمة الملك نفسه عام 1367م، وكان من بين مهامه الترفيه عن البلاط الملكي بالقصص والأشعار والموسيقى، ولكنه عمل في وظائف هامة أيضا، وكلف بعدة مهام خارج إنجلترا. وقد تم إيفاده إلى عدة بعثات دبلوماسية في فرنسا وإيطاليا، حيث تعرف على الآثار الأدبية في تلكما البلدين، واطلع على الأعمال الفرنسية المبكرة، وأعمال دانتي وبترارك في إيطاليا، ويقال إنه التقى هناك ببوكاتشيو. كذلك تورد الوثائق بعثة مبكرة له إلى إسبانيا، في مملكة «نبره». وقد مكنت رحلات تشوسر إلى الدول الأوروبية المجاورة لإسبانيا - ولإسبانيا ذاتها في بعض الأقوال - من تعرفه على مجموعات القصص والأشعار والرومانسات التي دخلت من الأدب العربي الأندلسي إلى تلك المؤلفات، علاوة على معرفته الوثيقة بكتاب بطرس ألفونس «مرشد الحكماء» الذي سبق ذكره والذي كتبه مؤلفه في إنجلترا، وكتاب «اعتراف العاشق» لجاور، وهما من الكتب التي يستبين فيها العنصر العربي والشرقي بوضوح. وقد كتب تشوسر عدة مؤلفات هامة، منها «برلمان الطيور» و«ترويلوس وكريسيدا» و«أسطورة النساء الفضليات»، ولكن العمل الذي خلد ذكره هو «حكايات كانتربري» الذي كتبه مؤلفه تباعا خلال سنواته الأخيرة.
وكما في قصص الديكاميرون، تحتوي قصص «حكايات كانتربري» على الكثير من قصص خدع النساء ومكرهن، واحتيالهن بكل الطرق إلى وصال عشاقهن، وهذه «التيمة» هي من التيمات الرئيسية في ألف ليلة وليلة، ووردت في الكثير من حكاياتها (بالإضافة إلى القصة الإطارية الأساسية التي تتعلق بخيانة زوجتي الملكين شهريار وشاه زمان)، لعل أهمها قصة ابن الملك محمود صاحب الجزائر السود، الذي كانت زوجته - وهي ابنة عمه في نفس الوقت - تخونه مع عبد أسود، ثم تسحر زوجها حين كشف خيانتها بأن جعلت نصفه حجرا ونصفه بشرا. وسوف نعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل المخصص له.
كذلك تضم حكايات كانتربري الكثير من القصص التي تفضح نفاق بعض رجال الدين الذين يتظاهرون بالورع والتقوى كي يقضوا حاجاتهم الشخصية وشهواتهم، مثل قصص الراهب الجوال وبائع صكوك الغفران. وثمة حكايات في هذا الكتاب تماثل تماما حكايات موجودة في ألف ليلة وليلة، مثل حكاية الفارس الذي يروي قصة شابين يحبان نفس الأميرة ويقتتلان على الفوز بالزواج منها. كذلك قصة الغراب الذي ينم لسيده عن خيانة زوجته له، وهي قصة ترددت مرتين في ألف ليلة. وبعض القصص في حكايات كانتربري ينتهي بموعظة وعبرة، مثل عبرة قصة ناظر الضيعة حين يقول في نهاية قصته: «وعلى ذلك ينطبق المثل القائل: من يبذر الشر لا ينبغي أن يجني ثمرة الخير، والمخادع لا بد أن يخدع.» وكثيرا ما يعلق صاحب الخان على القصص التي يحكيها الحجاج بعبارات تشرح مفادها وتبين العبرة والدرس منها. قارن هذا بالعبارة التي تتردد دوما في ألف ليلة «... حكايتك حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر.» وهناك أيضا ما جاء في خاتمة قصة «حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وابنته فتنة» هكذا: «فلما أصبح الصباح أمر الخليفة أن يؤرخ جميع ما جرى لغانم من أوله إلى آخره وأن يدون في السجلات لأجل أن يطلع عليه من يأتي بعده فيتعجب من تصرفات الأقدار ويفوض الأمر إلى خالق الليل والنهار.» ويمكن أيضا مقارنة نهاية حكايات كانتربري بنهاية معظم حكايات ألف ليلة. فبعد أن يقص رجل القانون حكايته في كتاب تشوسر، يقول: «وهكذا عاشوا جميعا في أعمال البر والفضيلة ولم يقترفوا إثما، حتى جاء الموت وفرق بينهم وبين الحياة.» وطبعا هذه العبارة هي صدى للعبارة المشهورة في ألف ليلة بتنويعاتها المختلفة مثل «ولم يزالوا في أرغد عيش إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.»
ويذكر الدكتوران مجدي وهبة وعبد الحميد يونس في مقدمة ترجمتهما العربية لحكايات كانتربري ما يلي: «وما من دارس لحكايات كانتربري أو متذوق لما تحكيه من أهداف وما تصوره من شخصيات إلا ويتذكر على الفور حكايات ألف ليلة وليلة، وهي التي عرفت في أوروبا وإنجلترا بأنها «الليالي العربية»
ARABIAN NIGHTS . ولا ريب في أن هذه المجموعة عرفت واشتهرت في أوروبا قبل تشوسر بأمد غير قصير، وأنها اقتبست أو ترجمت وحدات منها إلى الآداب الإسبانية والفرنسية والإنجليزية وغيرها. «والمصدر الشعبي للحكاية يفرض على المؤلف المعروف أو المجهول أن يعتمد على المأثور من المعتقدات التي يؤمن بها الإنسان. ويعد رجل الدين شخصية بارزة ومؤثرة من شخصيات هذه الحكايات. والعقلية الشعبية تنقل صورة الكاهن القديم مع شيء من التطور إلى الذين يتخذون الدين حرفة لهم في الحياة. وفي حكايات كانتربري نماذج واضحة تصور هذه الأنماط، التي تتشابه بالكهنة في الحضارات القديمة. وفي ألف ليلة وليلة حكايات شخوصها من تلك الأنماط. وأي تحليل لها يكشف، على الرغم من اختلاف الديانتين - الإسلامية في ألف ليلة وليلة، والمسيحية في حكايات كانتربري - التماثل في مصير تلك الشخوص. ونموذج رجل الدين له قدرات خارقة، وله سلوك يمتاز به، فهو غامض يظهر غير ما يبطن، ويستعين بالحيلة إلى جانب المكانة الدينية، التي جعلته يكاد يحتكر العلم الظاهر والخفي، وهو يملك، في تصور العامة، أن في سلطته أن يؤثر في القوى الخفية، وأن يحقق كل ما يريد أن يحققه لمن يؤمنون به.»
ويستبين أثر حكايات ألف ليلة وليلة في حكايات كانتربري أكثر ما يستبين في أربع قصص: حكاية الفارس؛ حكاية رجل القانون؛ حكاية ابن الفارس؛ حكاية المتعهد (حسب الترجمة العربية). ففي حكاية الفارس، تتلبس تيمة الأخوين اللذين يعشقان نفس الفتاة من أول نظرة مسحة كلاسيكية، تنقل الحكاية إلى أثينا واليونان. وتدور حبكتها حول قرار الملك أبي الفتاة - الأميرة إميلي - أن يعطيها زوجة لمن يفوز في مسابقة فروسية تقام بين الأخوين أركيتي وبالامون- وهذه تيمة مألوفة في أكثر من قصة بألف ليلة، وإن كان السباق يأخذ فيها أشكالا متنوعة. وقد ربط نقاد الأدب المقارن بين هذه الحكاية وقصة عمر بن النعمان في ألف ليلة، التي تتناول علاقات بين ملك في دمشق «قبل خلافة عبد الملك بن مروان» وبين ملوك بيزنطة، وابنين لذلك الملك أحدهما عربي والآخر من زوجة بيزنطية. والحكاية من أطول حكايات ألف ليلة وليلة، وتزخر بالعديد من المحالفات والمنازعات بين بلاد العرب وبيزنطة، وبها الشخصيات المشهورة: إبريزة والعجوز ذات الدواهي وعمر النعمان وولداه شركان وضوء المكان.
وحكاية رجل القانون تقع حوادثها في بلاد الشام، حيث ترتبط بالتجارة مع روما، ويتناقل الناس جمال ابنة الإمبراطور المسماه كونستانزا، حتى إن سلطان الشام يهيم بها غراما عن طريق السماع بأوصاف حسنها (والحب سماعا تيمة أخرى في حكايات ألف ليلة وليلة وقصص الحب الرومانسي). ولا يجد ذلك السلطان - كيما يفوز بزواج الأميرة - إلا أن يوافق على التحول إلى دين الإمبراطور. وهنا يسير تشوسر نفس مسار شخصيات ألف ليلة الذين يتحولون عن دينهم ليفوزوا بقلوب أحبائهم، ولكن كل على هواه، فعند تشوسر تتحول الشخصيات إلى النصرانية، وفي ألف ليلة يتحولون إلى الإسلام. بيد أن والدة السلطان عند تشوسر لا ترضى عن مسلك ابنها، وتضمر الانتقام من ابنها وعروسه التي دعته إلى تغيير دينهم، فتقضي على الجميع في وليمة الزفاف، وتترك كونستانزا وحيدة في قارب يتجه بها إلى الجزر البريطانية، حيث تصادفها أحداث وتقلبات جديرة بتلك التي تحدث في قصص ألف ليلة وليلة. وترد في القصة ألفاظ عربية تنم عن معرفة تشوسر بأصل تلك القصص، إلا أنه يصبغها كما ذكرنا بصبغة مسيحية غربية خالصة.
وفي حكاية المتعهد، نرى القصة التي ترددت في الكثير من المجموعات القصصية العربية واللاتينية المنقولة عن العربية، وهي أصلا كذلك في ألف ليلة وليلة، وهي قصة الطائر الذي يكشف خيانة الزوجة، وهو عند تشوسر غراب أبيض يربيه الأمير فيبوس ويعلمه الكلام. ويكشف الغراب للأمير طبيعة زوجته الشريرة وخيانتها له مع أحد عشاقها مما يحمله على قتلها. ولكن الأمير يغضب أيضا على الغراب فيغير لونه الأبيض إلى اللون الأسود، وهي عادة تشوسر في إدخال الأسطورة في ثنايا قصصه. (4) الرومانسات
يعتبر اصطلاح الرومانس من أكثر الاصطلاحات الأدبية واللغوية غموضا واختلاطا؛ إذ إنه ينطبق على كثير من الأشكال والأنواع الأدبية التي تطورت منذ القرون الوسطى. وسأورد فيما يلي بعض التعريفات له كما وردت في المعاجم والمراجع الأساسية: «... هي رواية أو قصة شعرية أو نثرية ظهرت في القرون الوسطى، موضوعها المغامرات الفروسية والهوى العذري، وروحها عاطفية وخيالية. وهذه القصة الخيالية اعتاد العلماء تقسيمها أقساما ثلاثة: شعرية، ونثرية، وآرثرية. وميزوا هذا القسم الأخير عن القسمين الآخرين بتسمية خاصة لكثرة (ما ورد) من القصص حول الملك آرثر. كما اعتاد العلماء التمييز بين (الرومانس) والرواية النثرية معتبرين الثاني منها (رومانس) خاضعة لقواعد المسرحية من حبكة ورسم شخصيات وتناسب أجزاء وتسلسل في السرد من البداية إلى النهاية.» (معجم مصطلحات الأدب للدكتور مجدي وهبة).
ويشير نفس المعجم السابق إلى أن نفس الكلمة تطلق على مجموعة اللغات التي انحدرت من اللغة اللاتينية في أوروبا. وهي ثالثا تطلق على «نوع من القصائد الغنائية القصصية التي شاعت في إسبانيا وخاصة بعد الحروب التي نشبت بين الإسبان وملوك الطوائف في الأندلس. وأغلب هذه القصائد يدور حول مآثر الفرسان الإسبان ومغامراتهم الغرامية مع أميرات الأندلس».
وقد زاد من اختلاط هذا المصطلح، ما جاء بعد ذلك من مصطلحات الرومانسية (الرومانتيكية) ومصطلح الرواية الفرنسية التي أصبحت تدعى
ROMAN ، ناهيك بما يتعلق بالاسم مما يخص روما ورومانيا والاسم الذي اختارته الغجر لأنفسهم وهو أيضا «روما»!
وقد ظهرت أول أمثلة هذا النوع الأدبي في فرنسا في أوائل القرن الثاني عشر، مختلطة بالملاحم وأناشيد المآثر
CHANSONS DE GESTE
التي كانت ذائعة وقتها. وكل هذه الأنماط الأدبية قد تولدت من الأدب - بكل أنواعه - الذي كان موجودا في إسبانيا العربية الإسلامية. ويرجع الباحث الإنجليزي «توماس وورتون» جميع الرومانسات الأوروبية إلى إسبانيا العربية. فهو يوسع من افتراض أن إسبانيا القروسطية قد نشرت المعارف الأدبية إلى جانب المعارف العلمية والفلسفية المعترف بها. ومن بين عشرات الرومانسات المتبقية من العصور الوسطى، تبرز الأمثلة التالية:
رومانسة الإسكندر
وهي من أشهر الرومانسات الأوروبية ذات الأصول العربية والتي استمدت مضمونها من كل من الكتاب اليوناني المصري المنسوب لكالستينس، ومن القصص القرآني عن ذي القرنين، الذي أسهب بعض مفسري القرآن الكريم في وصفه وإسناد الوقائع إليه بما يؤكد أن المقصود به هو الإسكندر الأكبر. والرومانسات الأوروبية القروسطية عن الإسكندر تنسب إلى «ألبيريك دي بريانسون» و«ألكساندر دي برنيه» الفرنسيين. وتدخل عناصر عربية وشرقية إلى نسخ قصص الإسكندر حين تحكي عن ترحاله في مناطق آسيا بحثا عن نبع الحياة الذي يهب من يستحم فيه الحياة الأبدية؛ وفي جهة ما تهرب سمكة من تابع الإسكندر وتتسرب إلى ينبوع قريب، فيقفز التابع وراء السمكة فينال الخلود، فقد كان ذلك هو نبع الحياة الأبدية الذي يبحث عنه القائد العظيم وإن لم يستفد منه، فالأسطورة تقول إن واحدا فقط - هو أول من تغمره مياه النبع - هو المستفيد بالحياة الأبدية. وتمضي القصة لتقول إن ذلك التابع أصبح يسمى «الخضر»، الذي ينبت الزرع الأخضر من تحت قدميه، والذي مقدر له أن يعيش حتى يوم القيامة. وواضح أن عنصر هذه القصة مأخوذ من أحداث موسى عليه السلام وصاحبه، المذكورة في سورة الكهف، ومن تعليقات مفسري القرآن الكريم القدامى على تلك السورة التي يذكر فيها ذو القرنين أيضا، وهو الذي قال عنه المفسرون إنه هو الإسكندر الأكبر. وقد تخللت التفاسير القرآنية - التي دخلتها الكثير من الإسرائيليات من تفاصيل الأحداث التاريخية والقصص - قصص ووقائع عديدة عن حياة الإسكندر المقدوني كتبها معلقون فارسيون وشعراء ملاحم كالفردوسي ومؤرخون كالطبري، وكلها تردد قصة نبع الحياة وكيف ناله الخضر وعجز الإسكندر عنه.
وقد تلاقت في إسبانيا الأندلسية جميع العناصر المتعددة لأسطورة الإسكندر الأكبر، اليونانية والسريانية والفارسية، واتخذت صبغة عربية أصيلة، أخذ عنها من أخذ من واضعي القصص والرومانسات الأوروبية، بعد أن خلعوا عليها ما يناسب قوميتهم ودينهم، واطرحوا عنها الجوانب الإسلامية والقرآنية التي وردت في كثير من المخطوطات العربية التي تناولت القصة. وقد بقي من القصة العربية شخصية الخضر، التي ظهرت بعد ذلك في رومانسات أوروبية أخرى ملتبسة بفارس في أساطير الكأس المقدسة يدعى الفارس الأخضر.
ومن بين مخطوطات القصة العربية الأصلية، نشر المستشرق الإسباني الكبير إميليو غرسية جومز مخطوطا كاملا عن الإسكندر وغزواته في فارس، في كتاب ثمين قدم له بدراسة قيمة عن الموضوع، وألحق به النص العربي الكامل للمخطوط.
فلوار إي بلانشفلير
وهي رومانسة فرنسية أولى تدور حول موضوع شرقي، عن الحب الذي يدور بين فلوار وبلانشفلير منذ الطفولة، وحبكة القصة عربية بحتة في ثوب غربي مسيحي، تحكي عن قتال بين جماعة من المسلمين والمسيحيين، يأسر فيه المسلمون سيدة تلتحق بخدمة زوجة ملك إسبانيا الأندلسية. وفي إسبانيا، تلد ابنة تدعوها بلانشفلير (قارن أسماء الأزهار في ألف ليلة: ورد الأكمام، والملك زهر شاه، وريحانة، وغير ذلك)، في نفس اليوم الذي تلد فيه الملكة المسلمة ولدا يسمى فلوار. وينمو الطفلان معا، ويرضعان من الأم المسيحية، ويقعان في حب أحدهما الآخر. ولكن الملك والملكة لا يرضيان عن ذلك الحب بالطبع، فيبيعان بلانشفلير سرا، ويشيدان قبرا فارغا يوهمان ابنهما أنه قبر حبيبته التي ماتت (والقبر المزيف تيمة متكررة في بعض حكايات ألف ليلة). وحين يعلم فلوار ذلك يمرض ويشارف الموت، فيضطر الأبوان أن يخبراه بالحقيقة، فيرحل الابن بحثا عن بلانشفلير. ويعثر عليها بعد الكثير من التجوال ويجدها جارية في حريم أمير بابل (أي بغداد أيام الخلافة العباسية) ويرشو الخدم كيما يدخلاه إلى القصر مختفيا في سلة ورود ضخمة. وحين يكتشف الأمير العربي الأمر، يحكم على العاشقين بالموت، ولكن الحب الغامر بين فلوار وبلانشفير، الذي يتبدى في طلب كل منهما أن يموت قبل الآخر، يدفع الأمير إلى العفو عنهما والقبول بزواجهما. والقصة تحفل بالجو الشرقي وطرائفه وعجائبه ، كما أن الحبكة نفسها مأخوذة من قصص ألف ليلة وليلة، وإن فات الصائغ البروفسالي للحكاية - وهو يضفي الطابع الغربي المسيحي إليها - كثيرا من الهنات، مثل امتناع الزواج بين فلوار وبلانشفير بحكم أنهما أخوان في الرضاعة. وقد يكون ذلك هو السبب الأصلي لمعارضة الملك والملكة في زواجهما في أول الأمر.
أوكاسان ونيكوليت
وهي مثال واضح آخر للرومانسة الفرنسية في القرون الوسطى التي استمدت موضوعاتها وشكلها من حكايات وأغاني المقامات العربية وقصص ألف ليلة وليلة التي كانت تلقى وتنشد شفاهة على السامعين في حلقات متقطعة. وما من شك في أن مؤلف هذه القصة الشعبية التي تجمع بين الشعر والنثر هو من قبيل مؤلفي التروبادور البروفنساليين الذي ألبس حبكته العربية ثيابا فرنسية مسيحية؛ فمن المعروف اليوم أنه اختار اسم نيكوليت من الاسم نيقوليس المستمد من اسم بلقيس العربية ملكة سبأ، وأن أوكاسان هو الصيغة الفرنسية للاسم العربي أبو القاسم، والقصة ذاتها ترداد لتيمات واردة في حكاية الأمير أنس الوجود في ألف ليلة وليلة.
والرومانسة الفرنسية تدور حول أوكاسان، ابن أحد النبلاء من حكام إقليم بروفانس الفرنسي، الذي يهيم حبا بنيكوليت الأسيرة المسلمة التي جلبها معه أحد أتباع الحاكم في غزوة من غزواته. بيد أن الأب يحظر على ابنه الزواج من حبيبته، ويأمر بإلقاء نيكوليت في السجن. ويمرض الحبيب، ويمتنع عن مشاركة أبيه في الحرب ضد النبلاء الطامعين في أرضه إلى أن يقطع على نفسه عهدا بالسماح له بلقاء حبيبته إذا ساعد في المعارك. بيد أن الأب يحنث بوعده، ويلقي بابنه في السجن، ويتهدد حياة نيكوليت فتهرب إلى الغابات ويشاع أنها هلكت هناك. ويطلق الأب سراح ابنه أوكاسان محاولا تعزيته عن حبه، غير أن العاشق يخرج سعيا للبحث عن نيكوليت ويعثر عليها في خاتمة المطاف. ويأوى العاشقان إلى قلعة أسطورية حيث يعيشان ثلاث سنوات في سعادة غامرة، إلى أن يغزو المسلمون المنطقة ويأسروا نيكوليت وينقلوها معهم إلى قرطاجة حيث يتعرف ملكها عليها باعتبارها ابنته التي كان الفرنسيون قد أخذوها أسيرة من قبل. ويصل أوكاسان إلى بلده بعد ذلك، فيجد أن أباه قد توفي وأنه قد أصبح حاكما للإقليم من بعده. وترحل نيكوليت إلى فرنسا طلبا لحبيبها متنكرة في زي منشد أغان جوال، ويلتقيان في النهاية، حيث يعيشان «في تبات ونبات»، ونكاد نقول «إلى أن أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات!»
والحبكة العربية في الرومانسه الفرنسية ظاهرة الوضوح، وهي تتردد في الكثير من حكايات ألف ليلة وليلة، وتمزج، مثلها، بين عالم الواقع وعالم الخيال الذي يصل أحيانا إلى الفانتازيا الخالصة. وحتى التقسيم والشكل في الرومانسه، يتبع تقسيم الليالى العربية، إذ يبدأ كل مقطع بأرجوزة شعرية، يأتي بعدها سرد للأحداث التي وقعت، بادئا دوما بسطر يكاد يكون ما معناه «يقول الراوي يا سادة يا كرام!» كما أنها تحفل بالطرائف ذات الأصل العربي، مثل الموقف الذي يقول فيه أوكاسان إنه لا يحب الذهاب إلى الفردوس لأنه لن يجد هناك إلا القسس والبؤساء والموجوعين، بينما ستزخر جهنم بالأدباء والفرسان والجميلات الناهدات، وحيث ستكون هناك حبيبته نيكوليت!
رومانسات الملك آرثر والكأس المقدسة
تعتبر شخصية الملك آرثر وما حيك عنها من قصص وحكايات وملاحم وأساطير، أحد أهم وأبرز الموضوعات التي شملتها الرومانسات التي اختلطت فيها الصور والموتيفات العربية والإسلامية بأشد الموضوعات غربية ومسيحية، مما يشكل أحد أغرب تلاحم وتداخل فيما بين القصص والأساطير الغربية والعربية. ويتفرع عن «الدورة الآرثرية»، كما أصبح يطلق على كل ما يمت مباشرة لشخصية الملك آرثر، عدة موضوعات أساسية هامة، منها الكأس المقدسة، ومغامرات برسيفال، وقصة يوسف الرامي، وغيرها كثير.
ورغم أن الملك آرثر شخصية أسطورية إنجليزية، فقد وضعت قصصها وحكاياتها في فرنسا، وأول من قام بذلك الكاتب الفرنسي التروبادوري «كرتيان دي تروا»، الذي أدخل قصة الغرام بين زوجة آرثر «جنفييف» والفارس «لانسلوت»، على طريقة حب البلاط الغزلي، الذي يمزج الهوى العذري بالحب الجسدي. ولما كانت قصص الملك آرثر تتعلق كلها بالفروسية والفرسان، ومنها قصة فرسان المائدة المستديرة، كان من الأساسي لأبطال تلك القصص الخدمة في الحروب الصليبية. ومن هنا جاء الاتصال بين وقائع تلك القصص والرومانسات وبين العناصر العربية والشرقية فيها. وقد مزج واضعو تلك الرومانسات الصور السحرية والغرائب والخوارق التي خبروها في الشرق وحكاياته، بالأساطير والتراث الشعبي الكلتي، فأنتجوا مزيجا رائعا من الطلسمات والقصور الشامخة والعذارى الفاتنات والرياض الفواحة، مما يشيع في تلك القصص. وقد ازدهر ذلك النوع من الأدب عن طريق اللقاح الثقافي الذي أتى من الثقافة العربية، وأثرت الأفكار الصوفية عن مثاليات الفروسية، فظهرت واضحة في فرسان الملك آرثر وأعمالهم.
وتمثل الكأس المقدسة رمزا أساسيا في الرومانسات القروسطية. وقد بدأ الحديث عن الكأس بطريقة عامة، ولم يتم ربطه بالكأس التي شرب منها السيد المسيح في العشاء الأخير إلا بعد ظهور قصة يوسف الرامي
JOSEPH OF ARIMATHIE ، وهي رومانسة فرنسية - لها صورة إنجليزية أيضا - تحكي قصة هذه الشخصية الغامضة التي وردت في أناجيل العهد الجديد. والأناجيل تذكر يوسف الذي من الرامة - مدينة يهودية - الذي طلب جسد المسيح من بيلاطس كيما يدفنه حسب التعاليم الدينية. ولا تذكر الأناجيل شيئا آخر عنه. والرومانسة من وضع «روبير دي بورون» حوالي عام 1190م، ويحكي فيها كيف سجن يوسف الرامي بعد ذلك لمدة عشرين عاما كانت الملائكة خلالها تقوم بإطعامه وحفظه، وبعد تحرره يرحل إلى إنجلترا ومعه الكأس المقدسة التي يفترض أنه حصل فيها على قطرات من دماء المسيح، وقام بتأسيس أول كنيسة في إنجلترا ودعا الناس إلى المسيحية هناك. ولا يعرف أحد من أين أتى دي بورون بقصة يوسف الرامي تلك، ولكن بعض الباحثين يربطون بينها وبين ذهاب القديس سنتياجو إلى إسبانيا لدعوة أهلها إلى المسيحية بنفس الشكل، ويرون أن قصص الحجاج الذين يتوجهون إلى مدينة سنتياجو دي كومبوستيلا شمال إسبانيا حيث ضريح القديس سنتياجو، هي التي وراء ابتكار قصة مماثلة عن القديس الذي أدخل المسيحية إلى إنجلترا، والذي يقال إنه مدفون بكنيسة جلاستونبيري حيث يحج الناس إلى قبره هناك. وقد كتب راهب الكنيسة «جون جلاستونبيري»، مخطوطا في القرن الرابع عشر عن قصة يوسف الرامي. وتذكر الباحثة «مارجريت مري» في بحثها المعنون «العناصر المصرية في رومانسة الكأس المقدسة» (وتقتبسها أليس لاساتير في كتابها) أن القصة بها إشارة إسلامية عجيبة الشأن، ترد باللاتينية، وتقول «وكان مع يوسف في تابوته المثوى فيه قارورتان إحداهما بيضاء والأخرى فضية، مليئتان بدم وعرق النبي يسوع.»
ومن المدهش العثور في نص كتبه راهب مسيحي على نعت للمسيح بأنه نبي، وهي صفة لا يطلقها عليه إلا المسلمون أو بعض الطوائف اليهودية.
ولما كان ظهور قصص الكأس المقدسة ويوسف الرامي قد تواكب مع حركة الترجمة الكبرى التي قامت في إسبانيا لنقل المعارف العربية إلى اللغات المحلية، والتي شارك فيها عدد كبير من أتباع الديانات المختلفة ممن كانوا يتقنون اللغات المطلوبة، فإن وجود مثل تلك الإشارات الإسلامية والعربية في متون الكتب، ليس غريبا.
ومن العجيب استمرار قصص وأساطير الكأس المقدسة إلى يومنا هذا، مع صدور الرواية التي أصبحت الأكثر انتشارا «شفرة دافنشي» لمؤلفها «دان براون»، حيث يلعب لغز الكأس المقدسة دورا أساسيا في أحداثها، وفيها أيضا أسرار ومعميات ذات أصول عربية.
بارسيفال
وقصة بارسيفال هي قلب قصص الدورة الآرثرية. وقد يعجب القراء من إدراجها ضمن المؤثرات العربية الأندلسية وقصص ألف ليلة وليلة، وسبب ذلك العجب هو الطابع الجرماني الأصيل الذي اتخذته منذ وضع فاجنر أوبراه الشهيرة على تلك القصة من قصص الفروسية القروسطية. بيد أن الرومانسة التي وضعها «وولفرام فون إيشنباخ» عن بارزيفال (وهي الصيغة الألمانية لبارسيفال) فيما بين 1197م و1215م، فيها الكثير من الإشارات العربية التي استمدها من الترجمات الأوروبية للكتب العربية، التي تسببت في نشوء ما يسميه الباحثون الآن بنهضة القرن الثاني عشر. ورغم أن إيشنباخ يعترف في كتابه أنه اعتمد في مصادره على كرتيان دي تروا، فمن الواضح أنه لم يكن مصدره الوحيد، خاصة في الفصلين الأولين، والفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه. فالفصلان الأولان من كتاب إيشنباخ يقصان مغامرات أبي بارزيفال المسمى جاموريه وزواجه من ملكة مسلمة في شمال أفريقيا أنجب منها ابنا أسماه «فيريفيز». وفي نهاية الرومانسة، يعتنق الابن النصرانية، ويتزوج من عذراء الكأس المسيحية، ويرحل إلى الهند. وهناك يصبح ابنه هو الشخصية الأسطورية «برستر جون »؛ مثلما يصبح أحد أبناء بارزيفال «لوهنجرين». وهكذا يضم إيشنباخ في رومانسته الكثير من خيوط أسطورة بارزيفال ويضفرها في عقدة محبوكة الصنع.
ويذكر إيشنباخ أيضا من مصادر قصته، بالإضافة إلى كرتيان دي تروا، شخصا يدعى كيوت البروفانسي، الذي حصل معرفته في طليطلة من المخطوطات التي ألفها «فليغيتانيس الوثني» (وفي تلك الفترة، كانت صفة الوثني تطلق على العرب واليهود). وقد كان إقليم البروفانس الفرنسي مرتبطا ثقافيا - وسياسيا أحيانا - بقطلونيا وأراغون الإسبانيتين. وكتاب إيشنباخ يختلف عن كتب الكأس المقدسة الأخرى بتناوله قصص الحب التي يتعرض لها أبطاله، وبوصف الكأس وصفا مغايرا، وإدراجه الكثير من المعارف والمعلومات العلمية في صلب قصته، وكل ذلك يشير إلى مؤثرات إسلامية عربية أندلسية. وأحداث رومانسة إيشنباخ تقع في أوروبا وآسيا وأفريقيا، في حين تقع أحداث الرومانسات الأخرى في بريطانيا. وتتردد في الرومانسة أسماء ومواقع ومدن ذات أصل عربي واضح. كما أن أوصاف الحب الذي يقوم بين الأبطال يغطي كل أنواع الحب التي كانت معروفة في الأندلس بالذات والتي ذكرها ابن حزم بالتفصيل في كتابه «طوق الحمامة»، وقصص الحب والعشق والهوى التي أبرزتها حكايات ألف ليلة وليلة. ففي الكتاب قصص الحب ذات المسحة الصبيانية (أوبيلوت وجوان)، والحب الحسي (جوان وأنتيكوني) والحب قبل رؤية الحبيب (جراموفلانز وإتونجي) والحب الزوجي (بارزيفال وكوندويرامورس). وتقرر «لاساتير» أن صور الحب في رومانسة إيشنباخ عن بارزيفال هي صور أندلسية أقرب منها صورا فرنسية أو ألمانية. ومن الاختلافات البينة أن الكأس قبل رومانسة إيشنباخ كانت كأسا أو وعاء أو طبقا، أما في إيشنباخ فهي حجر تقوم على خدمتها خمس وعشرون عذراء ويحرسها سلك عسكري يدعى التمبليزين. وثمة حمامة تقوم كل جمعة حزينة بوضع قطعة بسكويت على الحجر. وهناك فارس جريح ذو صلة بالقلعة الموجود بها الكأس، وأرض يباب، وهو يتفق في هذا مع نسخ بارسيفال الأخرى.
ومن أبرز الصور العربية في بارزيفال إيشنباخ، شخصية امرأة تدعى «كوندري»، عارفة بكل علوم عصرها، لغوية وعالمة وساحرة. وتقول عنها الرومانسة «كانت الفتاة ذات ثقافة عريضة حتى إنها تتقن جميع اللغات، اللاتينية والعربية والفرنسية. وكانت عالمة بآداب اللياقة واللهجات وعلوم الهندسة، وتعرف كذلك علوم الفلك. كان اسمها كوندري، ولقبها الساحرة». وفي الفصل السادس عشر، نرى الكثير من معرفة كوندري، حين تعدد أسماء الجواهر والمعادن، وبعضها بالاسم العربي له، ثم تعدد الكواكب السبع، وتسميها كلها باسمها العربي، ومنها زحل والمشتري والشمس والقمر. وتذكرنا كوندري على الفور بالجارية تودد، في ألف ليلة وليلة، التي تعي كل العلوم والمعارف وتستعرضها أمام الخليفة في سهولة ودقة واقتدار. ويبرز السؤال: من أين استقى إيشنباخ معلوماته العربية تلك؟ وهو قد أرجع معرفته بالأمور والمصطلحات العربية في رومانسته إلى «كيوت» و«فليغيتانيز»، بيد أنه هو نفسه لا بد وأن يكون قد عرف بعضا من الرسائل العلمية الإسبانية العربية التي كانت متداولة أيامها في الأوساط المثقفة، أو اتصل بشخص يكون قد قرأها في أصلها العربي، أو عن طريق أحد أفراد التروبادور الذي عرفها عن طريق القصص والحكايات العربية التي استقوها من الأندلس.
وفي الفصل التاسع من بارزيفال، هناك مقطع طويل يشير إلى الصلة بين العرب وبين مغامرات الكأس المقدسة. ففيه يقول المؤلف إن «كيوت» قد عثر في طليطلة على أول مصدر من مصادر تلك المغامرة متمثلا في مخطوط عربي مهمل، من وضع فليغيتانيس، العالم سليل سليمان الحكيم. «وكان بوسع فليغيتانيس الوثني (العربي) معرفة كيف تغرب النجوم وتطلع ثانية والمدة التي تستغرقها كل نجمة في الدوران قبل أن تصل ثانية إلى نقطة البدء. وترتبط مصائر البشر بدورات النجوم. ولقد رأى فليغيتانيس الوثني بعينيه في كوكبة النجوم من الأشياء ما عجز عن التعبير عنه. وقال إن هناك شيئا يدعى الكأس المقدسة قرأه بوضوح في الكوكبة. وقد تركه رهط من الملائكة على الأرض ثم طاروا إلى حيث توجد النجوم.»
ورغم أن المؤلف وصف فليغيتانيس بأنه إسرائيلي من سلالة سليمان، فبوسعنا تفسيره أيضا بالعربي، من إطلاق صفة «الوثني» عليه، إذ إنها هي الصفة التي كان يطلقها إيشنباخ على أي شيء عربي، مثل إطلاقه على اللغة العربية اسم اللغة الوثنية! وقد دعت تلك الفقرة المثيرة من الرومانسه الباحثة «لاساتير» إلى البحث عن الشخصية التي دعاها المؤلف باسم فليغيتانيس، الذي لا بد أن يكون من العاملين في مجال الفلك وعلم النجوم والذي ترجمت أعماله في إسبانيا وفرنسا وصقلية قبل قيام إيشنباخ بوضع رومانسته. وقد استخلصت الباحثة أن فليغيتانيس هذا لا يمكن إلا أن يكون «الفرغاني»، الفلكي العربي المشهور. وهي تذكر أنه كان هناك اثنان يحملان الاسم اللاتيني «الفرغانوس»، وإن كان الأرجح أن المقصود هو الفلكي أبو العباس أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني (المتوفى عام 863م)، الذي عمل في رعاية الخليفة المأمون في بغداد. وقد قام يوحنا الإشبيلي بترجمة كتابه «علوم الفلك» إلى اللاتينية عام 1137م، وترجمه جيرار الكريموني مرة أخرى عام 1172م. وكلا المترجمين عملا في طليطلة، وانتشرت ترجمتاهما انتشارا واسعا في كل أنحاء أوروبا حيث لا تزال توجد مخطوطات عديدة منها. وللفرغاني كتب أخرى في العلوم، اعتمد دانتي على أحدها وهو الذي ترجم إلى اللاتينية بعنوان
LIBER DE AGGREGATIONIBUS STELLARUM ET PRINCIPIIS CELECTIUM MOTUUM ، في كتابيه
VITA NUOVA
و
CONVIVIO ، حيث يذكر دانتي الفرغاني بالاسم في الكتاب الثاني. وترى «لاساتير» أنه من المهم القيام بمزيد من الدراسة لكتب ومخطوطات الفرغاني للتوصل إلى مفاتيح صلته بموضوع مسيحي صميم مثل موضوع الكأس المقدسة، وذلك بعد أن أشار إيشنباخ بوضوح إلى تلك الصلة العربية البينة في رومانسته عن الكأس المقدسة.
تريستان وإيزولت
وهذه أيضا قصة أسطورية خلعت عليها المعالجة الموسيقية مسحة جرمانية تجعل من الصعب التوصل إلى أصولها ومصادرها، ويصعب معها التحقق من الآثار الشرقية والعربية فيها. ومن الغريب أن أصولها التي يسلم بها النقاد اليوم هي أصول كلتية أيرلندية قديمة، بينما أول صورها المكتوبة هي بالفرنسية الأولى، ورغم ذلك يعتقد الكثيرون أن أصلها جرماني، بسبب الأوبرا الرائعة التي وضعها لها فاجنر العظيم.
وقصة تريستان - كما تذكر «لاساتير» - هي إحدى الرومانسات المتصلة بقصص الملك آرثر، وهي مثال طيب للموضوعات الكلتية التي جرى تطويرها في فرنسا وصوغها في رومانسة آرثرية. ومع ذلك، ففي بعض مراحل تطور القصة، دخلتها عدة تيمات شرقية انتشرت عن طريق الصلات بين جنوبي فرنسا وإسبانيا. وكانت قصة تريستان معروفة جيدا للتروبادور البروفنساليين والقطلونيين، وهم يذكرونه في قصائدهم أكثر من أي شخصية آرثرية أخرى. وتقول «هيلين نيوستيد» في كتابها عن أصول أسطورة تريستان وتطورها: «إن الأسطورة المركبة التي وصلت إلى واضعي الرومانسات في أواخر القرن الثاني عشر قد تضمنت، لا الأعراف الكلتية فحسب، بل وأيضا عناصر من مصادر متنوعة كالقصص الفولكلوري، والرومانسات العربية ، والقصص الشرقية المتعلقة بالخدع والاحتيال.»
وتدور الحبكة القصصية الأساسية لرومانسة تريستان وإيزولت - والتي اتخذت العديد من الصور والصياغات المختلفة - حول مولد تريستان وصباه، ثم تغلبه في الفروسية على فارس أيرلندي هو عم إيزولت ويدعى مورولت. ويعود تريستان إلى أيرلندا بحثا عن عروس لعمه الملك مارك، وهي إيزولت التي تدرك أن تريستان هو الذي قتل عمها. ويصطحب تريستان إيزولت إلى كورنوول، حيث يشربان في السفينة عن طريق الخطأ شراب الحب السحري الذي كان معدا لتشربه إيزولت مع عريسها الملك مارك. وهكذا تتزوج إيزولت الملك ولكن قلبها يظل معلقا بتريستان. وتتقلب الظروف بالحبيبين بين فراق واتصال ووعيد بالعقاب. ويتم نفي تريستان بعض الوقت، فيتزوج من إمرأة أخرى تدعى إيزولت أيضا. وينتهي به الأمر إلى إشرافه على الموت إما مسموما أو عن طريق إصابته بجراح مميتة، فيبعث في طلب الملكة، ويطلب عند عودة السفينة أن ترفع علما أبيض إذا كانت إيزولت عليها، وعلما أسود في حالة عدم حضور حبيبته. وتعلم زوجته بالموضوع، فتخدعه بقولها إن السفينة ترفع علما أسود، فيموت تريستان بحسرته. وحين تصل إيزولت وتجد أن حبيبها قد مات، يطويها الموت هي أيضا.
وثمة مواقف ومشاهد في الرومانسة ذات مسحة شرقية صرف، يتبدى بعضها في حكايات ألف ليلة وليلة، مثل اللقاء الذي تم بين تريستان وإيزولت تحت إحدى الأشجار، حين يشعران بوجود من يراقبهما، فيتعمدان الحديث في موضوعات بعيدة عن الحب حتى لا يشك الرقيب في وجود علاقة بينهما. وثمة مشهد شرقي آخر حين تقسم إيزولت أنه لم يطوقها أحد بيديه أبدا سوى زوجها والحاج الذي حملها من فوره إنقاذا لها؛ ولم يكن ذلك الحاج إلا تريستان متنكرا. كذلك لا يمكن إغفال التوازي بين زواج تريستان من امرأة تحمل نفس اسم إيزولت، وهو نفس ما حدث في القصة العربية القديمة قيس وليلى. ففي الرومانسة العربية، يجبر قيس على الانفصال عن ليلى، فيتزوج من أخرى تحمل الاسم نفسه رغم عدم حبه لها. وحين يمرض قيس، يرسل في طلب ليلى، ويموتان معا في لقائهما الأخير. والتشابه بين الحبكتين أكثر من أن يكون مصادفة، رغم الصيغة الغربية التي ألبست للقصة، والابتعاد فيها عن أي أثر إسلامي والاستعاضة عنه بصور أخرى تتفق مع الواقع الغربي في العصور الوسطى.
البدايات
(1) أنطوان جالان
في عام 1704م، أصدر الفرنسي «أنطوان جالان» أول حلقة في ترجمته الفرنسية لقصص من «ألف ليلة وليلة». وقد افتتح بذلك بداية سلسلة طويلة لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، من الطبعات والترجمات والحكايات المختلفة المتعددة التي تدور كلها حول ذلك الكتاب؛ الأسطورة! وتعتبر ترجمة جالان تلك، أول نسخة تخرج من المطبعة لألف ليلة وليلة، وبهذا تكون هذه الترجمة الفرنسية قد سبقت أي نسخ عربية في الطباعة؛ حيث إن أول نسخة تخرج مطبوعة باللغة العربية كانت في كلكتا بالهند عام 1835م.
ومنذ بدأت ترجمة جالان في الصدور، لم ينقطع إقبال القراء عليها واستمتاعهم بها وشغفهم بمطالعة قصصها التي ملأت حياتهم بالخيال والعجائب التي لم يكونوا قد سمعوا بها من قبل. وأنطوان جالان (1646-1715م) هو أحد رواد الولع بالشرق وأدبه وآثاره؛ وقد ولد في بلدة «رولو» بمقاطعة «بيكاردي» الفرنسية، ودرس اللغات الكلاسيكية ومبادئ التركية، مما أهله لأن يلتحق عام 1670م بالعمل مع المركيز دي نوانتل الذي كان سفيرا لفرنسا لدى السلطان العثماني بالقسطنطينية. وهناك، درس جالان العربية والفارسية، وعمق معرفته بالتركية واليونانية، وقام برحلات عديدة في المنطقة، زار فيها سوريا وفلسطين واليونان، بهدف جمع الآثار والمقتنيات الشرقية - ومنها المخطوطات والعملات والتماثيل والميداليات - للسفير الفرنسي ثم للملك لويس الرابع عشر. وقد مكنه ذلك من أن يتم تعيينه بعد عودته إلى فرنسا أمينا للعملات والميداليات في المتحف الملكي. وقد عاود جالان زياراته وإقاماته لمدد طويلة لتركيا والأقطار العربية حتى عودته النهائية لفرنسا في أواخر عام 1688م، حين بدأ في العمل في ترجمات ومؤلفات عن الموضوعات الشرقية.
وفي عام 1692م، يعمل جالان مساعدا لبارتيليمي دي إيربوليه في مشروعه الضخم بوضع المؤلف الهام «المكتبة الشرقية، أو المعجم العام لكل ما يخص معرفة شعوب الشرق»، الذي كان أول محاولة لوضع دائرة معارف عن الإسلام وشعوبه، والذي يعتبره النقاد بداية الاستشراق الغربي بمعناه الأكاديمي. وقد واصل جالان العمل في الموسوعة بعد وفاة إيربوليه عام 1695م، ونشر العمل الكامل في 1797م. وقد ألهمت المادة التي وردت في هذا المعجم الكثير من الأعمال ذات الموضوعات العربية، ومنها رواية «الواثق» لوليام بكفورد، والعمل الشعري الضخم «ثعلبة» لروبرت سذي.
بيد أن شهرة جالان قد اعتمدت أساسا على ترجمته لألف ليلة وليلة. ففي التسعينيات من القرن السابع عشر، حصل جالان على مخطوطة عربية بها قصص رحلات السندباد البحري، فنشرها عام 1701م. وشجعه نجاح تلك القصص على البدء في ترجمة مخطوطات حصل عليها من بعض معارفه في سوريا تحتوي على قصص ألف ليلة وليلة، ويبلغ مجموعها أربعة مخطوطات، تعتبر الآن (باستثناء صفحة واحدة من مخطوط أقدم يرجع إلى القرن التاسع الميلادي) أقدم مخطوطات عثر عليها من الكتاب، ولا تزال ثلاثة مخطوطات منها في المكتبة القومية بباريس، بينما فقد المجلد الرابع من هذه المخطوطات الأولى.
وبدأت ترجمة جالان في الظهور بدءا من عام 1704م. وفي مدى عامين، بلغ عدد المجلدات المنشورة بالفرنسية سبعة، احتوت على جميع القصص التي وردت في المخطوطات الأولى التي كانت في حوزة جالان، مضافا إليها قصص السندباد البحري، وقصة أخرى من مخطوط مجهول تحتوي على حكاية «قمر الزمان والأميرة بدور». ولما لم يجد الناشر مادة جديدة لدى جالان بعد ذلك، عمد - رغم اعتراض جالان وغضبه - إلى إصدار مجلد ثامن تضمن قصصا سابقة كان جالان قد ترجمها، مع قصص أخرى ترجمها المستشرق الفرنسي - زميل جالان - «فرانسوا بتي دي لا كروا»، تلبية لطلب القراء في المزيد من هذه القصص التي لاقت إقبالا شديدا.
وقد حفز ذلك جالان على البحث عن مزيد من المخطوطات والمصادر لقصص جديدة من ألف ليلة وليلة يلبي بترجمتها طلب الناشر والقراء. وبناء على ذلك، قام صديق لجالان - هو الرحالة بول لوكاس - إلى دعوة أحد السوريين الموارنة ويدعى «حنا دياب» لزيارة فرنسا، وقدمه إلى جالان بوصفه حائزا لمخطوطات جديدة لألف ليلة وليلة. وقد أمد «حنا» جالان بمادة جديدة غزيرة من الحكايات بما مكنه من إصدار أربعة مجلدات جديدة من الترجمات الفرنسية لقصص من ألف ليلة. ويبدو أن المادة التي وفرها حنا لجالان جاء معظمها من الذاكرة، حيث كان يتلو على جالان القصص بالعربية، بينما جالان يدون ترجمة ما يحكيه له حنا بالفرنسية، ولهذا لا توجد أية مخطوطات عربية لتلك المجلدات الأربعة، التي وصلت بنسخة جالان الفرنسية إلى اثني عشر مجلدا، بما فيها المجلد الثامن الذي سبقت الإشارة اليه. ومن الملاحظ أن طبعة جالان هذه تحتوي على عدد من القصص التي لم توجد في الطبعات العربية الأصلية المتداولة الآن في البلاد العربية، ومنها قصص «علي بابا والأربعون لصا» و«علاء الدين والمصباح السحري» و«النائم الذي استيقظ». وقد اصطلح النقاد على تسمية تلك القصص باسم «القصص اليتيمة» حيث انفرد جالان بها. (2) الطبعات العربية الأولى
لم تصدر نسخ مطبوعة من كتاب ألف ليلة وليلة قبل بدايات القرن التاسع عشر. وكان صدورها مطبوعة على النحو التالي، بالترتيب الزمني لبدء الصدور: (1)
طبعة كلكتا الأولى بالهند خلال الأعوام 1818-1824م، في مجلدين صدرا تحت رعاية كلية فورت وليامز التابعة لشركة الهند الشرقية، البريطانية، بتحرير الشيخ أحمد بن محمود شيرواني، بغرض توفير نصوص عربية لدارسي اللغة العربية في الهند وخاصة موظفي شركة الهند الشرقية. وتحتوي هذه الطبعة على مائتي ليلة فقط. (2)
طبعة برسلاو التي بدأت في الصدور عام 1825م بإشراف البروفيسور مكسميليان هابشت (أو هابخت كما ذكر في الكتاب) الذي أصدر منه ثمانية أجزاء، وبعد وفاته تولى البروفيسور فلايشر إصدار أربعة أجزاء أخرى منه، اكتملت عام 1838م. وقد درس هابشت على يد المستشرق الفرنسي الكبير سلفستر دي ساسي في باريس قبل أن يذهب إلى برسلاو أستاذا للغة العربية هناك. وقد ذكر أنه قد تلقى مخطوطا لألف ليلة وليلة من تونس من طرف مردخاي بن النجار، وبدأ يترجمه إلى الألمانية، قبل أن يتحول عوضا عن ذلك إلى نشر المخطوط العربي ذاته. ويجمع الباحثون اليوم على أن المخطوط التونسي لم يكن له وجود وأنه ليس إلا من بنات أوهام هابشت!
والغريب أن كتبا كثيرة تذكر اسم «برسلاو » دون أن تفسر ذلك الاسم أو تحدد مكانه، حتى عثرت أخيرا على تعريف كامل لبرسلاو في المقدمة الشيقة التي كتبها الدكتور جابر عصفور للطبعة الثالثة المصورة عن طبعة برسلاو، الصادرة عن دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة عام 2002م. ومنها نعلم أن «برسلاو هي التسمية الألمانية لمدينة بولندية قديمة ... وتقع على نهر أودر في الجنوب الغربي من بولندا بالقرب من الحدود الألمانية. وقد استولت عليها القوات البروسية سنة 1741م خلال عهد فردريك الثاني، ضمن الصراع الأوروبي، فأصبحت مدينة ألمانية منذ ذلك الوقت، وظلت كذلك إلى أن هزمت ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، فعادت المدينة إلى بولندا عام 1945م، واستعادت اسمها البولندي القديم فروتسواف الذي ينطق بالإنجليزية
WROCLAW .» وإني أثبت هنا هذه المعلومة الهامة نظرا لصعوبة الحصول عليها في سياق ألف ليلة وليلة. (3)
طبعة بولاق في مصر التي نشرت في مجلدين عام 1835م، وتسمى أيضا طبعة القاهرة. وقد صدرت عن المطبعة التي أنشأها محمد علي في مصر عام 1821م في حي بولاق، وكانت أول مطبعة محلية من نوعها بعد المطبعة العربية التي جلبها نابليون معه في غزوته المصرية. وقد أشرف على هذه الطبعة من ألف ليلة الشيخ عبد الرحمن الصفتي، وكانت هي أساس الترجمة التي قام بها إدوارد لين إلى الإنجليزية. (4)
طبعة كلكتا الثانية التي صدرت خلال الأعوام 1839-1842م في أربعة مجلدات بتحرير وليام ماكناتن، الذي استعان في إصدارها بما سبقها من طبعات، وبهذا بدت أقرب ما تكون إلى الطبعة «الكاملة» لألف ليلة وليلة. وقد استعان بهذه الطبعة المترجمون «تورينز » و«بين» و«بيرتون» و«ليتمان». (3) المخطوطات العربية
أما المخطوطات المتوافرة حاليا من ألف ليلة وليلة بأي شكل من أشكالها فقد أمكن حصرها كما يلي، نقلا عن كتاب الدكتور محسن مهدي: (1)
مخطوطات أنطوان جالان، وهي عبارة عن أربعة مجلدات، لا يوجد منها الآن سوى ثلاثة محفوظة في المكتبة القومية بباريس. (2)
المخطوط الذي ترجم منه «ديونيسيوس شاويش» و«جاك كازوت» ترجمتهما «تكملة ألف ليلة وليلة»، التي أصدراها في باريس في الأعوام 1788-1789م. ويحتوي المخطوط على قصص لم ترد في ترجمة جالان؛ وهو في مجلدين: الأول في 121 ورقة، والثاني 130 ورقة ومودع في المكتبة الوطنية الفرنسية أيضا. ويذكر الباحثون أن هذا المخطوط غير أصلي، وإنما كتبه شاويش بنفسه نقلا عن مخطوطات لقصص عربية متناثرة في الكتب، وقدمه على أساس أنه مخطوط لقصص متصلة تتمم حكايات ألف ليلة وليلة. (3)
مخطوط ميخائيل الصباغ. وهو في مجلدين، نسخها صاحبها عن مخطوط قال إنه كتب في بغداد في أول القرن التاسع عشر. وقد حصل «دي بارسيفال» على المخطوط بعد عام 1806م، واختفى المخطوط بعد ذلك إلى أن اشتراه «زوتنبرج» حوالي عام 1886م وأهداه إلى المكتبة القومية بباريس حيث هو الآن. (4)
مخطوط المكتبة الرسولية بالفاتيكان. في مجلدين. (5)
مخطوط مكتبة جون رايلندز بمانشستر. مجلد في 229 ورقة. (6)
مخطوط المكتب الهندي بلندن. 389 ورقة. (7)
مخطوط «عابدين». في 231 ورقة ومودع في المكتبة القومية بباريس. (8)
مخطوط الأكاديمية التاريخية الملكية بمدريد. في مجلدين، 239 ورقة. (9)
مخطوط مكتبة كنيسة المسيح بأكسفورد، مجلد في 144 ورقة. (10)
مخطوط مكتبة المتحف البريطاني بلندن. 186 ورقة. (11)
مخطوط المكتبة البودلية بأكسفورد. سبعة مجلدات. اشتهر باسم مالكه الأصلي الرحالة المستشرق «إدوارد ورتلي مونتاج» (1713-1776م). (12)
مخطوط «بنوا دي ماييه» (1656-1738م). جلبه ماييه من مصر حيث كان يعمل قنصلا لفرنسا هناك. مودع في المكتبة القومية بباريس الآن.
كما يضيف الدكتور مهدي إلى ذلك مخطوطين لحكاية سيرة عمر النعمان، في مكتبة جامعة توبنجن وفي مكتبة جون رايلندر بمانشستر. وقد أورد الدكتور مهدي في كتابه الهام تعليقات مطولة على تلك المخطوطات، أتبعها بصور لصفحات من كل منها، مما يعطي القارئ فكرة عن الخط الذي دونت به وعن حالتها بوجه عام.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك ورقة مخطوطة من حكايات ألف ليلة، تعود إلى القرن التاسع الميلادي، اكتشفتها الباحثة «نبيهة عبود» ونشرتها عام 1949م في مقالة لها. وهي أقدم مخطوط يتعلق بالكتاب، وهو ما يثبت أنه قد تم تدوين حكاياته منذ ذلك العهد المبكر، وأنها كانت متاحة في مخطوطات مكتوبة إلى جانب تلاوتها شفاهة منذ أقدم العصور.
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي
(1) الترجمات الإنجليزية
وكانت ترجمات جالان هي التي تلقفها المترجمون في الدول الأوروبية الأخرى، فقد صدرت طبعات بالإنجليزية لألف ليلة وليلة نقلا عن طبعة جالان فور صدورها تقريبا، في طبعات شعبية أول الأمر سرعان ما ذاعت وانتشرت بين القراء على جميع المستويات وجميع الأعمار. واتخذت الترجمة الإنجليزية اسم «مسامرات الليالي العربية»
ARABIAN NIGHTS ENTERTAINMENT ، رغم أن جالان احتفظ باسمها الأصلي بالفرنسية
LES MILLE ET UNE NUITS . وبحلول عام 1793م، كانت قد صدرت 18 طبعة من الترجمات الإنجليزية، وتضاعف ذلك العدد في الأعوام الأربعين التالية. وتمت كذلك ترجمة كل ما صدر من تتابعات وتكملات لألف ليلة وليلة في فرنسا إلى الإنجليزية بعد صدورها بالفرنسية بوقت وجيز. وهكذا قام «روبرت هيرون» بترجمة ما أصدره «جاك كازوت» بمعونة العربي ديونيسيوس شاويش تحت اسم «تكملة ألف ليلة وليلة»، إلى الإنجليزية تحت عنوان «الحكايات العربية» ونشرها في لندن عام 1792م. ويستبين من ذلك مدى النجاح الذي لاقته ألف ليلة وليلة في إنجلترا، حيث تركت أثرها البالغ في معظم الأدباء والكتاب البريطانيين على مختلف العصور، بدءا من وردزورث وكولردج، حتى جيمس جويس وما بعده. وما تزال ألف ليلة وليلة تمارس أثرها حتى يومنا هذا كما سنرى في الفصل الأخير من هذا الكتاب.
وكانت أول ترجمة «أدبية» لألف ليلة وليلة من الفرنسية إلى الإنجليزية هي التي قام بها «إدوارد فوستر» عام 1802م في خمسة مجلدات مع مقدمة ضافية، ثم ترجمة «جوناثان سكوت» عام 1811م؛ من بعد عشرات الطبعات الشعبية التي يطلق عليها بالإنجليزية
GRUB STREET EDITIONS
نسبة إلى شارع «جراب» الذي كانت تطبع فيه الكتب الشعبية . أما أول ترجمة إنجليزية «كلاسيكية» مأخوذة عن نص عربي مباشرة، فقد جاءت على يدي المستشرق المستعرب المعروف إدوارد وليام لين (1801-1876م)، وظهرت أولا في أجزاء شهرية خلال الأعوام 1838-1841م، ثم نشرت بعد ذلك في ثلاثة مجلدات. وقد أقدم لين على ترجمة ألف ليلة وليلة كحلقة من الأعمال التي توفر عليها كمستشرق تخصص في الموضوعات العربية والإسلامية، والتي بدأها بكتابه الهام «عادات المصريين المحدثين» عام 1836م. وتضم أعماله الأخرى ترجمة أجزاء من القرآن الكريم، ثم معجمه الضخم العربي-الإنجليزي الذي تقصى فيه تاريخ الكلمات العربية واستخداماتها، والذي سبقت فكرته فكرة المعجم الإنجليزي المطول أكسفورد الذي صنفه اللغوي الإنجليزي «جيمس مري» (1837-1915م) بدءا من عام 1884م والذي صدر تحت الاسم الذي اشتهر به منذ عام 1933م وهو
OXFORD ENGLISH DICTIONARY ، وما زال يصدر مجددا إلى يومنا هذا مع الإضافات الضرورية.
وقد اعتمد لين في ترجمته لألف ليلة وليلة على نسخة بولاق العربية، مع بعض الإضافات من طبعتي كلكتا الأولى وبرسلاو. وقد قصد لين من ترجمته أن تكون مناسبة للقراءة العامة، لذلك هذبها وحذف منها كل العبارات والمواقف التي لا تلائم المفاهيم الأخلاقية الشائعة في عصره الفيكتوري. كما أنه لم يترجم الليالي كاملة، بل اختار منها ما اعتبره أساسيا وهاما، وما يصور العادات والتقاليد العربية والشرقية.
والترجمة الإنجليزية الهامة التالية قام بها «جون بين» (1842-1906م)، الذي أبدى نبوغا مبكرا في الشعر واللغات، مما مكنه - وهو ما يزال في التاسعة عشرة من عمره - من ترجمة أشعار عن الألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية واليونانية واللاتينية والتركية والفارسية والعربية! وفي عام 1877م، أسس هو ومجموعة من رفاقه «جماعة فيون» بغرض رئيسي هو نشر ترجمة «بين» الإنجليزية لقصائد الشاعر الفرنسي القروسطي «فرانسوا فيون». وقد قامت نفس الجماعة بنشر ترجمة «بين» لألف ليلة وليلة عن طريق الاشتراكات المسبقة - هربا من الرقابة - واقتصرت على 500 نسخة فقط مع التعهد بعدم إعادة طبعها في حياة المترجم، رغم أن الطلب على الاشتراك فيها تعدى الألفين.
وقد اعتمد «بين» في ترجمته على نسخة كلكتا الثانية التي تعتبر من النسخ الأكثر اكتمالا بوجه عام. وبما أنه كان شاعرا في الأصل، فقد تناول الأشعار التي تتخلل حكايات ألف ليلة تناولا جادا وترجمها ببراعة، بيد أنه لم يحاول نقل الأسلوب السجعي العربي الذي يبدو كثيرا في العبارات العربية للكتاب. وقد نظر «بين» إلى ترجمته بوصفها عملا أدبيا محضا، ولهذا لم يعن بوضع ملاحظات أو حواش على الترجمة تتعلق بالعادات العربية والإسلامية، كما فعل لين من قبله وكما سيفعل بيرتون من بعده. وقد استغرق العمل في الترجمة ست سنوات، وصدرت في تسعة مجلدات خلال الأعوام 1882-1884م. ثم ترجم «بين» بعدها قصصا إضافية من طبعتي كلكتا الأولى وبرسلاو ، ونشرها عام 1884م بعنوان «حكايات من العربية».
وكان «بين» مغرما بالكلمات الإنجليزية القديمة والمهجورة، واستخدمها كثيرا في ترجمته، وساعده في ذلك، الاتجاه الذي كان سائدا أيامه في بعث النصوص الإنجليزية القديمة وإعادة نشرها، وبدء صدور القاموس الشامل للغة الإنجليزية الذي سبقت الإشارة إليه. ومن العجيب أن ترجمة «بين»، رغم الإقبال الذي نالته وقت صدورها، قد طواها النسيان بعد صدور ترجمة بيرتون، ولا يكاد أحد يذكرها اليوم، رغم أن الترجمات الأخرى السابقة عليها ما تزال تحتل مكانة كبيرة، كترجمة لين.
وقد شجع النجاح التجاري لترجمة «بين»، ووجود عدد كبير من المشتركين الذين لم يحظوا بنسخة من الترجمة، شجع المستشرق الرحالة المغامر السير ريتشارد بيرتون (1821-1890م) على المضي قدما - أو بالأحرى الشروع - في ترجمته الخاصة به لألف ليلة وليلة. ورغم أنه كان دائما يذكر أنه بدأ في الترجمة قبل أن يسمع بترجمة «بين»، فمن الثابت الآن أنه لم يبدأها إلا بعد ذلك. وقد قبل «بين» عروض المساعدة التي أرسلها له بيرتون، واستشاره في العديد من الأمور. وقد صدرت ترجمة بيرتون في عشرة أجزاء، عن طريق الاشتراكات أيضا، عن دار نشر وهمية تحمل اسم «كاماشاسترا»؛ وأتبعها بسبعة أجزاء أخرى بعنوان «الليالي التكميلية». وقد ضمت تلك الأجزاء السبعة عشر كل القصص والحكايات والنوادر التي احتوتها كل النسخ والطبعات المختلفة لألف ليلة وليلة؛ مما جعلها طبعة «جامعة» حقيقية للكتاب، وإن لم تكن أكثرها «شرعية» من الناحية الأكاديمية؛ إذ إننا نجد فيها الكثير من النصوص التي قد لا تمت بصلة لألف ليلة الأصلية، ولكنها، منذ أن دخلت في طبعة بيرتون، أصبحت منها. كذلك احتوت طبعة بيرتون على شروحات وتعليقات وحواش مسهبة جعلت من الترجمة دائرة معارف عن عادات العرب والمسلمين والشرقيين عموما في كل المناطق والعصور، وإن كان العديد منها قد اعتمد على أراء بيرتون وملاحظاته الشخصية ودراساته الأنثروبولوجية، التي جمعها إبان رحلاته العديدة في البلاد العربية والإسلامية.
ويتفق المحققون اليوم على أن بيرتون قد اعتمد كثيرا على ترجمة «بين»، بل ونقل الكثير منها حرفيا، وتعمد تغيير كلمات قليلة وإدخال تعديلات شكلية حتى يبرر ترجمته «الجديدة». وقد وازنت الباحثة «ميا جيهارت» بين الترجمتين، وأثبتت التشابه التام في كثير من ترجمات القصص بين بيرتون و«بين». وقد سار بيرتون على نهج استخدام الكلمات المعقدة المهجورة، وإن حاول نقل إيقاع السجع العربي إلى الترجمة الإنجليزية، وحافظ على تقسيم الليالي التي يقطعها صياح الديك كل ليلة، وهو ما أهمله «بين» تماما.
ومن عجب أن الترجمة التي تدخل اليوم في عداد «الكلاسيكيات» هي ترجمة بيرتون، وهي التي تصدر اليوم في طبعات مختلفة لهواة اقتناء الكتب، وآخر طبعاتها الفاخرة صدرت في 17 جزءا عن دار «إيستون برس» وهي الطبعة التي اعتمدت عليها في هذا الكتاب أحيانا. (2) ألف ليلة وليلة والأدباء الإنجليز
ساهمت الترجمات الأدبية العديدة التي ظهرت في اللغة الإنجليزية لألف ليلة وليلة منذ أواخر القرن الثامن عشر، في إذكاء الأثر البالغ الذي تركته حكاياتها لدى معظم أدباء وكتاب إنجلترا طوال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فنحن نرى من الكتاب الذي حرره وكتب مقدمته البروفيسور «كراكشيولو»، مدى تأثر هؤلاء الكتاب بقصص «الليالي العربية». وقد أصل الكتاب أثر ألف ليلة وليلة على الأدباء التالين: جوناثان سويف، جوزيف أديسون، ألكساندر بوب، لورانس ستيرن، توماس كارلايل، إدوارد جيبون، والتر سكوت، وردزورث، كولردج، روبرت سذي، تشارلز ديكنز، ويلكي كولنز، وليام ثاكري، روبرت لويس ستيفنسون، جورج ميريدث، جوزيف كونراد ، ه. ج. ويلز، هنري جيمس، وليام بتلر ييتس، جيمس جويس، ت. س. إليوت. فيا لها من كوكبة رائعة من الأسماء!
وبالطبع، يتراوح مدى الأثر الذي خلفته القصص العربية في نفوس هؤلاء الأدباء وإنتاجهم من واحد لآخر. فإذا تناولنا مجموعة من الكتاب الذين عاشوا في نفس الفترة ما بين أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، وهم ما يمكن أن نسميهم بالرومانسيين، لوجدنا أنهم جميعا قد تأثروا بحكايات ألف ليلة وليلة، وأشاروا إليها في كتاباتهم. بل إن من النقاد من قال إن الحركة الرومانسية أصلا قد تفجرت في إنجلترا نتيجة «اكتشاف» الكتاب والفنانين لحكايات ألف ليلة، التي أدخلت إلى وعيهم أنواعا من الخيال والمشاعر المتدفقة والأحاسيس العاطفية التي لم يجدوها من قبل فيما طالعوه من كتب ودراسات، وذلك بدءا من صدور طبعة من الليالي العربية الجديدة عام 1792م التي أثارت ذكريات شعراء البحيرة عن مطالعاتهم السابقة في قصص ألف ليلة وليلة. ولنأخذ هؤلاء الأدباء الرومانسيين في مجموعهم أولا. وتذكر الباحثة «ميريام ألموت» عن بعض أولئك الشعراء، أنهم أعادوا اكتشاف حكايات ألف ليلة وليلة نتيجة لصدور تلك الطبعات الجديدة منها، وترجمات لقصص شرقية وعربية، في نفس الفترة التي بدأ فيها تكوينهم الفكري والثقافي والأدبي، وتزامن مع أبدع نتاج قرائحهم. وقد أشاعت المقدمة التي كتبها «هنرى ويبر» لكتابه «حكايات من الشرق» الذي جمع فيه حكايات ألف ليلة وليلة وقصص عربية أخرى في صورة جذابة، وأصدره عام 1812م، في إشاعة اهتمام متجدد بتلك الحكايات. وهو يقول في تلك المقدمة: «من ذلك الذي لا تغمره البهجة إذ يتذكر العواطف والانفعالات التي صاحبت قراءته للمرة الأولى لحكايات ألف ليلة وليلة ... ومن السليم أن نؤكد أن حكايات خيالية مثل مصباح علاء الدين السحري، والمغارة التي أوى إليها الأربعون لصا، قد أسهمت في تسلية وإمتاع جميع الأجيال التي تعاقبت منذ ظهور تلك الحكايات لأول مرة، أكثر مما ساهمت به كل الأعمال التي قدمها الخيال الأوروبي من أجل تثقيف الشباب وإمتاعه. إن مثل هذا الرصيد من الخيال الأصيل والصور الفنية الباهرة والعناصر الغرائبية العجيبة التي تعرض العبر الأخلاقية بمهارة وليس بشكل متعنت مفتعل من الأمثال المفروضة، بل في صورة أمثولات سارة مقبولة، لا يمكن أن توجد في أي عمل آخر من أعمال الخيال.»
فمثلا، تمتلئ الخواطر التي كان يخطها كولردج، والخطابات التي تبادلها مع أصدقائه، بذكرياته عن ألف ليلة وليلة، التي يزعم أنه بدأ قراءتها وهو في السادسة من عمره، ويشير إلى حكاياتها وشخوصها كثيرا. فهو يقول في دفتر خواطره: «أعطني الأعمال التي ملأت شبابي بالبهجة والحبور، أعطني ... أعطنى «الليالي العربية.» وفي موضع آخر يقول عن ألف ليلة وليلة: «ولما كنت قد قرأت مجلدا من تلك الحكايات مرارا وتكرارا قبل عيد ميلادي الخامس، فلا بد أن يكون معروفا نوعية الخيالات والأحاسيس التي كانت تنتابني حينذاك. كان الكتاب، على ما أذكر، يقع في ركن من نافذة البهو في منزل والدي العزيز، ولا يمكن أن أنسى الشعور الذي هو مزيج من الرهبة والرغبة الجارفة الذي كنت أحس به كلما نظرت إلى المجلد وتأملته، إلى أن تغمر شمس النهار الغرفة وتغطيه بأشعتها؛ وعندئذ، وليس قبل ذلك، كنت أحس بالشجاعة لأن أمسك بالكنز الثمين وأهرع به إلى ركن مشمس في الفناء.» وكان كولردج يربط بين الحكايات الخيالية الخرافية، ومنها ألف ليلة وليلة، وبين القدرة على الحلم الذي يتجاوز الواقع الذي يعيشه الإنسان. وكان يعزو دهشة البعض من تقديره لليالي العربية إلى عدم قدرتهم على الحلم. وكل هذا لا يترك مجالا للشك في الدور الذي لعبته حكايات ألف ليلة وليلة، بما أثارته في نفسه من توهج وأحلام وأخيلة، في تشكيل نظرية «الخيال» لديه، والتفريق الذي وضعه بين الخيال
IMAGINATION
والتخيل
FANCY .
ويربط البروفيسور كراكشيولو بين قصيدة كولردج المشهورة «الملاح الهرم» وبين قصص السندباد البحري، بينما يقدم الباحث «ألان جرانت» تحليلا إضافيا لفكرة القدر والمصير والشر ومدى مسئولية الانسان عن أفعاله، ويربط بها ما بين مسئولية الملاح الهرم عن قتل طائر البطريق ومسئولية التاجر عن قتل ابن الجني المارد في القصة التي ترد في أوائل حكايات شهرزاد .
أما عن وردزورث، فإن قصيدته البيوجرافية «المقدمة» مليئة بالإشارات إلى ألف ليلة وليلة والأثر الذي خلفته في نفسه. هاك مثلا هذا الجزء الذي ورد في الكتاب الخامس منها:
وكان عندي آنذاك كنز ثمين؛
كتاب صغير مجلد بقماش أصفر اللون؛
مختارات قليلة من «الحكايات العربية».
وحين علمت،
كما أعلم الآن لأول مرة،
من رفقائي في هذا المقام الجديد،
أن هذا الكنز العزيز الذي بحوزتي،
إن هو إلا قطرة من محيط كبير،
وأن هناك مجلدات أربعة كبيرة منه،
تنسج كلها على نفس المنوال،
كان الأمر حقا بالنسبة لي،
كشفا يتعدى الأرض إلى السماء والجنان.
أما ثالث شعراء البحيرة، روبرت سذي (1774-1843م) فعندنا قصيدته الطويلة «ثعلبة» التي كانت نتاج قراءاته في تراث المكتبة الشرقية، ومنها ألف ليلة وليلة.
وبالنسبة للشاعر الأشهر، اللورد بايرون، فله مجموعة كاملة من القصائد الطويلة، أطلق عليها مترجمه الدكتور محمد عناني اسم «حكاياته الشرقية»، وهي تشمل «عروس أبيدوس» التي أسماها «حكاية تركية»، و«القرصان» و«حصار كورينثة».
وكانت ألفة بايرون بالمؤلفات الشرقية وثيقة. ومما يروى عنه أن ناشره «جون مري» أبدى قلقه من أن بايرون - في إحدى قصائده - قد أورد اسم «قابيل» على لسان أحد المسلمين؛ فرد بايرون: «هل تظن أن أهل الجليل وحدهم هم من يعرفون آدم وإبراهيم وداود وحتى موسى ... لا شك أنك ستدهش إذا علمت أن «زليخا» هي الاسم الفارسي لزوجة «بوطيفار»، وأن هناك قصيدة طويلة عنها هي ويوسف بالفارسية.» وكان يقصد من ذلك أن تلك الشخصيات التي وردت في الكتاب المقدس، موجودة كذلك لدى المسلمين في كتابهم المقدس وعقيدتهم الإسلامية. وهذا ما يؤكد قول الدكتور عناني، في حواشيه على ترجمته لرائعة بايرون «دون جوان» من أن بايرون كان «شديد الإعجاب بالعقيدة الإسلامية ويكثر من الإشارة إليها.»
وفي الملحمة الشعرية الرائعة «دون جوان»، تخرج خيالات ألف ليلة وليلة من وعي بايرون في الفقرة التالية:
وعلى البعد وقف مهرج قزم يحكي حكاياته الخيالية،
إلى حلقة هادئة وخطها الشيب من المسنين الذين يدخنون،
عن الكنوز السرية التي عثر عليها في أودية خفية،
وعن الإجابات اللماحة الرائعة من أفواه الأعراب المزاحين،
وعن الرقى التي يكتسب بها الذهب وتشفي الأمراض المستعصية،
وعن الصخور المسحورة التي تفتح بابها لمن يطرقه،
وعن الساحرات من السيدات اللائي يستطعن بعمل واحد،
تحويل أزواجهن إلى وحوش (ولكن هذه الحكاية حقيقية).
الفقرة 34 من النشيد الثالث، ترجمة الدكتور محمد عناني
ويعلق الدكتور عناني على هذه الفقرة قائلا: «الصورة الأولى هي صورة افتح يا سمسم! من حكاية علي بابا في ألف ليلة وليلة، ولم تكن الحكايات قد ترجمت كاملة في ذلك الوقت، وربما سمع بها بايرون من بعض الرواة، وأما الزوجات اللائي يحولن أزواجهن إلى وحوش فمرجعها ملحمة الأوديسة لهوميروس ، حيث تحول الساحرة كيركي
CIRCE
الرجال إلى وحوش (في الكتاب العاشر).» وأضيف أنا أن ثمة حكايات في ألف ليلة عن نسوة ساحرات حولن الرجال إلى وحوش وتماثيل أيضا، كما جاء في قصة الملك الذي تزوج ابنة عمه، ولما اكتشف خيانتها له سحرته إلى مسخ نصفه حجر ونصفه إنسان، وسحرت سكان مدينته إلى أسماك مختلفة الألوان. وهناك أيضا الحية - الجارية في قصة كبيرة الصبابا زبيدة (من قصص الحمال والبنات) التي سحرت أختي الصبية إلى كلبتين من الكلاب السود. وفي حكاية «سيدي نعمان» (وهي غير موجودة في المجلدات العربية الشائعة وإن وردت في ترجمة جالان)، يكتشف صاحب هذا الاسم أنه تزوج من «غولة» تأكل لحوم الموتى، فلما يجاهرها بذلك أملا في إصلاحها، ترش عليه بعض مياه السحر فتحوله إلى كلب. وثمة صور أخرى من السحر تمتلئ بها ألف ليلة وليلة سنتحدث عنها في فصل خاص.
أما «جون كيتس»، فقد استمد الكثير من موضوعات قصائده الطويلة من الأساطير، الكلاسيكية أساسا، وإنما بعد أن صبغها بالصبغة الشرقية والعربية المقنعة. فقصيدته «ليلة القديسة آنييز» تحكي قصة أشبه بقصص ألف ليلة وليلة. وهي تدور حول القديسة آنييز، حامية الشابات العذارى، وليلتها تقع في 20 يناير من كل عام، وفيها يتبدى للعذراوات - إن هن قمن ببعض الطقوس المعينة - صورة الحبيب الذي سيتزوج منهن في المستقبل. ويحيك كيتس حبكة قصته الشعرية عن أسرتين إقطاعيتين في عداء وخلاف مستمرين، يذكر بعداء آل كابيوليت وآل منتاجيو في روميو وجولييت. وعلى نفس نسق الحبيبين في مأساة شكسبير الشهيرة، يحب «بورفيرو» ابنة الأسرة المعادية «مادلين» ويخطط للفوز بها في ليلة القديسة آنييز، بمساعدة مربية مادلين العجوز. وفي تلك الليلة، تقيم أسرة مادلين حفلا كبيرا يصطخب بالموسيقى والمراح والشراب في قلعتهم الحصينة، ولكن العاشق بورفيرو ينجح بواسطة المربية في الدخول إلى القلعة والاختباء في غرفة نوم مادلين. وتأوي مادلين إلى غرفتها قبل انتهاء الاحتفالات، كيما تقوم بطقوس الليلة التي سترى فيها خيال زوجها الموعود، فتركع مبتهلة إلى قديستها، ثم تأوي إلى مخدعها. وتصوير كيتس لهذه المشاهد يمتلئ بالصور الغرامية والإيروسية من كل نوع، مصبوبة في قالب شعري رومانسي رفيع. ويغلف الشاعر صوره الحسية الإيروسية بالغاية النهائية التي تتفق مع المواقف الأخلاقية في عصره، وهي أن تلك العلاقة هي مقدمة للزواج في خاتمة المطاف. ويدلف الحبيب إلى مخدع حبيبته، التي تتقبله بوصفه تجسيدا لوعود ليلة القديسة آنييز. بيد أن مادلين تفيق على الحقائق الحسية التي ينطوي عليها ذلك اللقاء، ويؤكد بروفيرو لها حبه بترتيب هروبهما معا لإتمام الزواج بها. ويهرب العاشقان متسللين وسط المحتفلين والحراس الذين خدرهم التعب والشراب.
وقد نجحت القصيدة نجاحا كبيرا، فقد صور كيتس ببراعة فائقة صور الحب التي سادت سابقا في رومانسات العصور الوسطى، مضيفا إليها الحس الشاعري العميق الذي تميز به، والصور البلاغية الجديدة، وتصوير أجواء الحلم واليقظة، والتداخل بين الحب العذري والحب الحسي، في أجواء تلفها غمامات الأساطير والأحلام. وكل ذلك يقربها من صور العشق والهيام التي نجدها كثيرا في ألف ليلة وليلة بين أبناء الملوك والأمراء وبناتهن. ويشير البروفيسور «كراكشيولو» على وجه الخصوص إلى الفقرة 30 من القصيدة، ويرى أنها تلعب على نفس أوتار «حكاية الفرس المسحور» في ألف ليلة. كما أنها تعدد الأصناف والمأكولات العربية التي جاء ذكرها في قصة الحمال والثلاث بنات. وتجري الفقرة على النحو التالي:
وعند ذاك، وإلى جانب الفراش،
حيث القمر يلقي بضوئه الفضي الخافت،
أعد المائدة في سكون، والشجن يغمر فؤاده؛
إذ هو يغطيها بمفرش،
نسجته الألوان الذهبية والقرمزية والسوداء،
رقية من رقيات إله النوم الناعس!
وكان النفير الصاخب لاحتفالات منتصف الليل،
والطبول النحاسية،
والأبواق التي تتردد أصداؤها في كل الأنحاء،
تصك أذنيه بالإزعاج،
حين تصل إليه في منتهاها،
فأغلق باب البهو من خلفه،
وخفتت الضوضاء كلية. •••
وما تزال مادلين في نومها الموشى باللازورد،
متدثرة بأغطية وملابس كتانية،
نائمة يفوح منها عطر اللافندر،
بينما أخرج بروفيرو،
كوما من التفاح الموشى بالسكر،
والسفرجل، والبرقوق، واليقطين،
والجيلاتين الذي يضارع القشدة حلاوة،
وأشربة العسل المصفى،
بنكهة القرفة الدارصينية،
ومعها ما لذ وطاب من المنا وحلو التمر،
مما تجلبه السفائن من الديار المغربية،
والطيبات المتبلة بالأفاويه،
وكلها تأتي من أقاصي سمرقند الحريرية،
ولبنان أشجار الأرز. •••
ورص كل هذه الطيبات بيده المتوهجة،
في أطباق ذهبية وفي سلال وهاجة،
موشاة بالفضة المضفورة،
فتبدت باذخة في هدأة الليل،
تفعم أرجاء الحجرة بالنور المضمخ بالعطر.
والآن، يا حبيبتي، يا ملاكي الجميل،
استيقظي!
إنك أنت فردوسي، وأنا عابد جمالك،
افتحي عينيك بحق القديسة «آنييز» الحانية،
وإلا غفوت إلى جوارك،
فروحي تتحرق شوقا إليك.
وعلى نفس النحو تأثر «شيللي» بالجو الشرقي الذي أشاعته الترجمات الأدبية المتتالية لألف ليلة وليلة وغيرها من المؤلفات الشرقية، فنجد تراثه الشعري مليئا بالإشارات العربية والشرقية؛ وله قصيدة ملحمية بعنوان «ثورة الإسلام»، بيد أنها - فيما يبدو - قد حملت هذا العنوان لمجرد جذب أنظار القراء حيث سادت موجة الولع الشرقي بعد نشر عدد من الترجمات الأدبية الباذخة من القصص العربية وألف ليلة وليلة. وكان عنوان القصيدة الأصلي «لاؤن وسيثنا، أو ثورة المدينة الذهبية: رؤيا للقرن التاسع عشر»؛ فأصبح عنوانها «ثورة الإسلام، قصيدة في اثني عشر نشيدا».
وفي أول قصائده الناجحة «ألاستور»، حين يريد شيللي أن يصور زهد الشاعر الشاب في العواطف الأرضية، يختار «صبية عربية» كي تقدم قلبها وحبها للشاعر. بيد أنه يعرض عنها، وفي المقابل، يدلف إلى رؤيا حلمية يتجمع فيها رمز خياله عن الجمال والحق والحب ونهمه وراء المعرفة الحقة. ويسعى وراء تحقيق رؤاه في عالم الواقع، حيث تقوده خطاه القهقرى عبر تاريخ الحضارات الإنسانية، وإلى الشرق: الجزيرة العربية وفارس وجبال الهند، وإلى كشمير، مكان رؤياه الحلمية. وقد كتب شيللي كذلك قصيدة سماها الحشاشين، إشارة إلى تلك الطائفة الإسماعيلية التي أقامها شيخ الجبل في قلعة آلموت، ومنهم جاءت الكلمة الإنجليزية
ASSASSIN .
وقد بدأ شيللي كتابة يوميات مع حبيبته وزوجته لاحقا ماري، بدأها منذ اليوم الذي هربا فيه سويا إلى أوروبا، 28 يوليو 1814م، في مفكرة ذهبية ابتاعاها في باريس. ونحن نعرف من تلك اليوميات الكتب التي كانا يقرآنها، ونجد من بينها كتاب «قصص الشرق» لهنري ويبر، والكتاب الذي أصدره الفرنسي جاك كازوت بمعاونة السوري دوم شاويش وضما فيه ترجمة لحكايات جديدة من ألف ليلة وليلة. وقد ذكرت ماري في تلك اليوميات قراءتهما لقصة النائم الذي استيقظ بالذات. ومن بين الكتب الأخرى التي كانا يطالعانها كتاب الواثق لبيكفورد، وثعلبة لسذي، والصديق لفولتير. كما قرأ شيللي كذلك كتاب «تاريخ العرب» لسيمون أوكلي، وهو كتاب ضخم من جزأين كان قد صدر قبل ذلك بعنوان «الفتح العربي لسوريا وفارس ومصر». وقد أمدت تلك الكتب شيللي بمعلومات ثمينة وخيال دافق ظهر في العناصر العربية والشرقية في عدد من قصائده. كذلك يشير النقاد إلى تأثر «ماري شيللي» نفسها بتلك الخيالات الشرقية، التي نتج عنها روايتها «فرانكنشتاين» التي أصبحت رائدة في روايات الخوارق وروايات الرعب والأشباح، ويعدها البعض أول رواية من روايات الخيال العلمي. وقد بدأت ماري شيللي كتابتها في مباراة لكتابة قصة أشباح مع زوجها ولورد بايرون حين كانا في فيلا بحيرة جنيف، في أمسية ماطرة راعدة بارقة احتجزتهم في الداخل!
أما توماس دي كوينسي (1785-1859م) فله قصة طريفة مع ألف ليلة وليلة؛ فرغم أنه كان يتذكر حكاياتها وهو صغير بشيء من الرعب، فقد ذكر في سيرته الذاتية كيف أن صورة من صور حكاية علاء الدين والمصباح السحري قد أمدته بفكرة أساسية من نظريته بأن العالم يتألف من «تداعيات». والصورة جاءته من الساحر الأفريقي وهو يضع أذنه على الأرض كي يتسمع الخطى في آفاق الدنيا ليعرف في أي مكان يوجد الصبي الذي سيمكنه من العثور على المصباح السحري. فالساحر «يمتلك القدرة على قراءة حروف من الألفبائية جديدة ولا نهاية لها ... نبضات القلب، حركات الإرادة، خيالات الذهن، ويتعين عليه أن يعيدها في حروف هيروغليفية تنطق بها خطوات الصبي الطائرة.» وقد وجد دي كوينسي في تلك الصورة إلماحا بفكرة أن «كل شيء موجود في الدنيا له معنى وغرض، وأن أصغر شيء في الوجود لا بد أن يكون انعكاسا لأكبر شيء فيه.» وكان الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس هو من ذكر أن قصة علاء الدين لا تحتوي على هذا المشهد، وأن دي كوينسي لا بد أنه حلم به أو صوره له خياله، فصاغ من ذلك أفكارا أصيلة به، وأثرى كتاباته بها، وأنه - فوق كل شيء - أضاف بذلك بعدا جديدا على القصة الأصلية دخل في صلبها الأساسي.
وننتقل إلى السير والتر سكوت (1771-1832م)، الذي يعتبر أبا الرواية التاريخية. يذكر أندرو لانج في تعليقه على سلسلة روايات ويفرلي التي أرخ فيها سكوت لاسكوتلندا في قالب قصصي، كيف استعان سكوت بالليالي العربية في فكرة التسجيل الخيالي لعملية اندماج الاسكتلنديين، وهم شعب باترياركي وعسكري مثلهم في ذلك مثل عرب الصحراء، في خضم المجتمع التجاري والثقافي، على نحو مفاجئ. وترجع معرفة سكوت بألف ليلة وليلة إلى أيام صباه، حين كان متعودا على أن يقرأ منها على أفراد الأسرة. ورغم أن الإشارات إلى حكايات ألف ليلة تنتشر في كل مؤلفاته، فإن الرواية التي تعكس أثرا مباشرا للكتاب العربي هي روايته «الأثرى»
THE ANTIQUARIAN
من سلسلة روايات ويفرلي أيضا. ففيها نجد تأثيرات قصة النائم الذي استيقظ، التي تحيط بحبكة رواية سكوت وتأثيرها النفسي. أما روايته الأساسية «ويفرلي»، فهي منسوجة نسيجا عربيا خالصا، فكأنها البساط السحري الذي ورد ذكره في «حكاية الأمير أحمد وبري بانو»، وحوادثها تلقي ظلالها عليها أيضا. ففي الحكاية الألف ليلية، تقود عواطف رومانسية مجهولة كلا من الأمير أحمد والأميرة بري بانو إلى برية مجهولة ، حيث يكتشف كل منهما المقام السردابي لابنة أحد أقوى وأعتى ملوك الجان، والتي يبلغ من حسنها أن ينسى الأمير ذكرى أي حب له قبلها. وفي «ويفرلي»، يتبدى فنار مرتفعات اسكتلندا «كمركبة نارية يخترق بها الجني الشرير، في قصة شرقية، الأرض والبحر.» ويستمر النسج الشرقي في رواية سكوت حتى منتهاها، حين يشرف «فيرجس» على الموت ويفكر في شعبه الذي سيصبح بلا قائد، ولكنه يتبصر فيدرك أن ويفرلي لا يمكن أن تكون بالنسبة لعشيرته مجرد مغارة سحرية تنفتح بتعزيمة «افتح يا سمسم»! وحين أراد ناقد مجلة «الناقد البريطاني» الحديث عن رواية سكوت، خص بثنائه العناصر العربية في النسيج الروائي، ذاكرا أنها أنسب شيء للنمط الذي أراده المؤلف في تقديم اسكتلندا للإنجليز، قائلا في مقاله: «ينبغي لهذه القصة أن توضع في نفس مرتبة «مسامرات الليالي العربية» حيث الحكاية - وإن جذبت الانتباه أحيانا - ما هي إلا أقل أهمية بالقياس إلى الصورة الصادقة التي تقدمها لعادات الشرق وتقاليده.» ويبين الأستاذ كراكشيولو ببراعة أن ألف ليلة وليلة تعين القارئ على تفهم خصائص روايات سكوت التاريخية تفهما أفضل، من حيث النقاط التالية: (1)
الأمثلة التي يبدو فيها البناء القصصي مفككا بينما هو في الواقع شبكة معقدة من الإيحاءات والتوازنات والتناقضات. (2)
التنوع الشديد للمادة المتناولة. (3)
صهر أنواع أدبية مقتبسة من شتى المصادر مما يمكن من توسيع نطاق الشكل الروائي ذاته. (4)
الرجفة التي يخلقها وضع ما هو فوق الواقع إلى جوار المألوف اليومي. (5)
المزج الإبداعي بين الخيالي والواقعي الشامل لثقافات متتالية. (6)
المسافات الشاسعة التي يغطيها الرحالة في روايات سكوت. (7)
التنوع الشامل في تصوير شخصيات من جميع الطبقات، بحيث تتضمن الملوك والأرستقراطيين والفلاحين والخارجين على القانون والمهنيين والتجار والعمال. (8)
مهارة النساء وحسن تدبيرهن واتساع حيلتهن.
وفي هذا الفصل عن سكوت، يورد الأستاذ كراكشيولو نموذجا للخطوات التي يتأثر فيها الكاتب الإنجليزي خصوصا بقصص الليالي، حيث يتلقى المرء أول تأثيراته في مرحلة الطفولة عن طريق حكايات وقصص الأهل، ثم يعيد المرء بعد ذلك الإمساك بذكريات الطفولة تلك عن طريق اكتشاف أبعاد جديدة لتلك القصص العربية، ويتم ذلك عن طريق عدة سبل منها: (1)
ظهور تعليقات أو أبحاث جديدة عن تلك القصص، سواء كانت أدبية أو أنثروبولوجية؛ (2)
القيام برحلات فعلية إلى أقطار عربية وإسلامية، أو تمثل ثقافات تلك الأقطار عن طريق الفنون خاصة المعمارية منها والتصاميم العربية والإسلامية. (3)
ظهور حكايات وقصص جديدة من قصص ألف ليلة لم تكن قد نشرت من قبل. (4)
صدور ترجمات جديدة لألف ليلة وليلة أو طبعات جديدة للترجمات السابقة. (5)
التصاوير والتصاميم العربية والإسلامية التي تصاحب طبعات ألف ليلة وليلة. (6)
الأثر الانعكاسي، أي أثر الكتاب والأدباء الذين تأثروا بتلك القصص وظهر ذلك الأثر في كتاباتهم.
ثم يقرر البروفيسور أنه في خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر ، كانت الإضافة الرئيسية الوحيدة بعد أنماط العصور الوسطى ثم عصر النهضة، هو نمط سلسلة روايات ويفرلي؛ وأن الأثر التكويني لوالتر سكوت، الذي امتد منذ عصر جين أوستن حتى وفاة الملكة فكتوريا، لا يمكن فصله عن حكايات وقصص ألف ليلة وليلة. ويذكر الباحث جون هايدن (في كتابه «سكوت: الموروث النقدي» الصادر عام 1970م) كيف نقل سكوت الدروس القصصية التي استقاها من كتاب ألف ليلة وليلة لا إلى الكتاب الإنجليز فحسب، بل ولكتاب أوروبا وأمريكا، ذاكرا الاستجابات المكثفة لذلك لدى هنريش هايني، جوتة، ستندال، بلينسكي، مارك توين. (3) الأدباء الإنجليز في أواخر القرن التاسع عشر
وننتقل بعد ذلك إلى مجموعة زمنية أخرى من الأدباء الإنجليز، وهم الذين ازدهروا في أواخر القرن التاسع عشر، ومنهم ثاكري وديكنز وويلكي كولنز وجورج ميريديث وجورج إليوت وروبرت لويس ستيفنسون.
ولم ترتبط ألف ليلة وليلة في ذهن وليام مكبيس ثاكري (1811-1863م) بالخوف والرعب كما في طفولة كولردج ودي كوينسي، بل بالخيال والتسلية. وقد تعمقت معرفة ثاكري بأمور الشرق خاصة بعد رحلته إلى تلك البلاد التي أنتجت كتابه «ملاحظات رحلة من كورنهيل إلى القاهرة الكبرى» الذي صدر عام 1845م، والتي زار فيها كثيرا من حواضر الأمم التي ورد ذكرها في قصص ألف ليلة وليلة. وفي ذلك الكتاب، يمدح ثاكري قصص ألف ليلة بقوله: «إن حكاياتها تخلو من الواقعية المزعجة في سردها للأحداث العنيفة، مما لا يترك إحساسا بالفاجعة لدى قارئها. فمرجانة، حين تقتل الأربعين لصا بالزيت المغلي، لا تبدو أبدا أنها تسبب لهم أي أذى حقيقي، ورغم أن الملك شهريار يقطع رقاب العذارى قبل مجيء شهرزاد، فإن القارئ يتصور حقا أن هؤلاء الفتيات يعدن إلى الحياة ثانية في غرفة خلفية من غرف قصر السلطان، حيث يرقصن ويغنين على أنغام العود والقيثارة!»
ويبدو أثر تلك القصص في كثير من روايات ثاكري، وأهمها «سوق الغرور». ففي تلك الرواية، ينقل المؤلف ذكريات مطالعته لألف ليلة إلى شخصية «وليام دوبن»، الذي يستلقي في ظل إحدى الأشجار بملعب المدرسة ليطالع ألف ليلة وينسى معها كل شيء عن حاضره. وتلعب الإشارات إلى قصص الليالى دورا «تناصيا» هاما في سياق أحداث سوق الغرور، حيث يتأصل شعور وليام دوبن بالدونية الطبقية تجاه محبوبته إميليا سدلي؛ لأن أباه مجرد تاجر بقالة في المدينة. ولهذا تتزوج حبيبته من شاب لا قيمة له إلا غناه ووسامته وهو جورج أوزبورن. وحكايات ألف ليلة تمتلئ بشخصيات التجار، وتصورهم في منزلة محترمة وتمتلئ بالثناء على تلك المهنة، وفيها يرتقي الكثير من التجار إلى مرتبة الحكام والوزراء، بل والملوك أيضا. وإشارات الرواية إلى ألف ليلة تتركز في حكايتين هما الرحلة الثانية للسندباد البحري، وحكاية الأمير أحمد والحورية بري بانو. ودوبون يجد سلوى وعزاء في تلك القصص التي تصور نجاح شخصيات في مثل منزلته في الارتقاء إلى مصاف الأثرياء وإلى الزواج بمحبوبتهم في نهاية الأمر. فالسندباد البحري، وهو أصلا من التجار، يعود من سفرته الثانية التي حمله فيها طائر الرخ إلى وادي الجواهر، محملا بكل أصناف اللؤلؤ والياقوت والزبرجد. وفي الحكاية الثانية، يتنكر الأمير أحمد في هيئة تاجر حيث يصادف الحورية الأميرة بري بانو ويفوز بقلبها والزواج منها، بل ويصبح في النهاية سلطانا من سلاطين الهند!
وكان لحكايات ألف ليلة وليلة بالنسبة لثاكري نفس الأثر التشجيعي والتعويضي الذي مثلته لوليام دوبن. فواقع أن حياة ثاكري افتقرت في معظمها إلى السعادة والاستقرار، جعلت من أحلام طفولته وصباه مادة ثمينة بالنسبة له. وقد قال مرة لصديقه أمير الشعراء تنيسون وهو يهنئه على مجموعته «قصائد الملوك»: «لقد جعلتني أشعر بالسعادة التي تعودت أن أشعر بها في صباي مع الليالي العربية.»
ومن الحكايات الأخرى التي ترددت كثيرا عند ثاكري، قصة النشار، وهو اسم الأخ الخامس لحلاق بغداد الذي كان يقص حكايات إخوته الستة على مسامع الخليفة هارون الرشيد. والحكاية معروفة وقد تكون سابقة على ألف ليلة، وهي قصة الشاب الفقير الذي يرث مائة دينار عن أبيه ولم يدر ما يصنع بها؛ فاشترى بها زجاجا ووضعه في طبق كبير وجلس في موضع بالسوق ليبيعه. وبينما هو جالس، يشطح به الفكر فيتخيل أنه قد باع الزجاج بضعف الثمن الذي اشتراه به، ويظل في تلك التجارة يبيع ويشتري حتى يربح ربحا عظيما، فيشتري دارا جميلة وخيولا وسروجا مذهبة، ويبعث في خطبة ابنة الوزير التي اشتهرت بحسنها، ويتبادل الهدايا النفيسة مع أبيها الوزير فيسعى الجميع إلى إرضائه وخدمته. وفي يوم الزفاف يتعالى على عروسه وهي تقبل يده ورجله، ثم تناوله قدحا ليشرب وهو يتمنع، ولما تلح عليه ينتفض ويبعدها عنه برفصة من قدمه، هكذا: ويرفص الرجل الحالم أمامه فيضرب الطبق الذي عليه الزجاج ويضيع كل رأس ماله هباء نتيجة رعونته وانسياقه وراء الخيال. والقصة طويلة بعد ذلك ولكن هذا الجزء هو ما يجذب ثاكري فيها. والغريب أن نفس الحكاية - الأمثولة - ترد في «خرافات أيسوب» التي يقرأها الغربيون في دراستهم الأولى، بيد أن ثاكري يفضل حكاية ألف ليلة وليلة على حكاية خرافات أيسوب. وهي ترد عند أيسوب بعنوان «الصبية والدلو» وتحكي عن الفتاة ابنة الفلاح التي حلبت البقرة وساقها الخيال وهي عائدة بالدلو المليء باللبن بأنها ستبيعه زبدا وتربح منه مالا تنشئ به مزرعة كبيرة تدريجيا، وتصبح ثرية فتلبس أفخر الثياب، ويخطب الفتيان ودها ولكنها تردهم عنها وترفض ودهم، وهزت رأسها عند ذلك الحد إذ تمثل الرفض، مما يطيح بدلو اللبن أرضا ويتبدد حلمها هباء. وهي نفس الحكاية التي ترددها الأمثال الشعبية في العديد من الثقافات؛ ونقول عندنا - ضمن أمثلة أخرى - «يا كركدن، لا تحسبن، تا تقبضن!» وقد وردت إشارات إلى تلك الحكاية خصوصا في روايتي «هنري إزموند» و«بندنيس». وظهرت أيضا في «سوق الغرور»، إذ بطلتها «بيكي شارب» تحلم بالزواج من «جو سدلي» دون أن تعرفه ويعرفها: «لقد بنت لنفسها أبهى قلعة في الهواء وأصبحت هي الآمرة فيها، ومعها زوج يقبع في خلفية الصورة ... وهي تشتمل على أفخر الشيلان والعمامات والقلائد الماسية، وتمتطي صهوة فيل يسير على إيقاع ذي اللحية الزرقاء، تتهادى إلى لقاء ملك المغول. أحلام النشار الساحرة!»
ومن الملاحظ أن ثاكري كان معجبا أيضا بحكاية الأخ السادس، الذي دعاه الأمير البرمكي إلى وليمة فاخرة وإنما وهمية تماما. وهذا يوحي إلى ما كان ثاكري يوليه لقوة الخيال، وقدرته على التخفيف من سطوة الحرمان عن طريق الأحلام والفانتازيا. وكان هو ذاته يشبه نفسه بالنشار، حين يخطط ويحلم بالمجلات التي ستستعين به وبكتاباته، وهو ما عبر عنه كذلك عن طريق «آرثر بندنيس» في الرواية التي تحمل الاسم الأخير حين يقول: «يالي من نشار كبير، لأني ربحت خمسة جنيهات من القصائد التي ألفتها، وها هم قد تعاقدوا معي لكتابة نصف دستة من المقالات للصحف!»
أما تشارلز ديكنز (1812-1870م) فيبدو أنه قد تلقى أول انطباعاته عن ألف ليلة وليلة من التصاوير والرسومات التي تضمنتها طبعات الكتاب، ويقال إن الصورة التي تركت أثرا في نفسه أكثر من الصور الأخرى هي التي تبين الملكين شهريار وشاه زمان فوق الشجرة يتطلعان إلى الصبية زوجة الجني في قفصها الزجاجي المسحور. بيد أن أثر ألف ليلة وليلة في أعمال ديكنز لم يظهر فيما قبل عام 1839م، إلى أن صدرت في ذلك العام ترجمتا «تورنز» و«لين»، مما جعله يعيد اكتشاف حكاياتها، متزامنا مع قراءاته لروايات والتر سكوت التاريخية أيضا، وكانت نتيجة ذلك ما ذكره الباحث ك. فيلدنج أنه، باستثناء أعمال شكسبير، لم يثر خيال ديكنز شيء أو أشار إلى شيء في رواياته أكثر من حكايات الليالي العربية؛ وكان يرى نفسه شبيها بشهرزاد وهو يكتب قصصه ورواياته. ويبدأ أثر الكتاب عند ديكنز منذ روايته «ساعة السيد همفري»، حين أخذ الروائي الإنجليزي يجرب أسلوب القصة الإطار مستخدما قصص يأجوج ومأجوج في بداية الرواية. ويبدو عظم امتنانه للكتاب في مقالة كتبها في الجريدة الأسبوعية «ساعات منزلية» - التي كان يصدرها عام 1858م - بعنوان «شجرة عيد الميلاد»، ويتحدث فيها عن شجرة عيد ميلاد خيالية يضع فيها ديكنز أعز الهدايا التي يحبها. وفي أعلى الشجرة هناك طبعا لعب الأطفال وحدها، ويأتي تحتها الكتب التي أحبها، مثل «ذات الرداء الأحمر»؛ ثم: «صه! غابة مرة أخرى - ليست غابة روبن هود ولا فالنتاين أو القزم الأصفر ... بل ملك شرقي في طيلسان وعمامة براقتين. لا وحق الله ! بل ملكان شرقيان، إذ أرى آخر ينظر من وراء كتفه. وتحت الشجرة، على الحشائش، يرقد جسد مارد ضخم بلون الفحم، غارق في نومه، ورأسه على حجر سيدة، وبالقرب منهما صندوق زجاجي، مغلق بأقفال أربعة من المعدن البراق، حيث يبقي السيدة حبيسة حين يكون مستيقظا. إني أرى المفاتيح الأربعة في زناره الآن. وتشير السيدة إلى الملكين أعلى الشجرة فيهبطان في رفق. إنها مناظر الليالى العربية الباهرة.» «أواه! الآن تصبح كل الأشياء العادية غير عادية وسحرية بالنسبة لي. كل المصابيح سحرية، وكل الخواتم مطلسمة، وأصص الزهور العادية مليئة بالكنوز التي يغطيها بعض التراب؛ والأشجار مهيأة كيما يستخفي علي بابا وراءها، وقطع اللحم كيما تلقى إلى وادي الماس حتى تلتصق الجواهر الثمينة بها وتحملها النسور إلى أعشاشها حيث يفزعها الصيادون بصيحاتهم العالية. والفطائر تصنع حسب وصفة ابن وزير البصرة، الذي أصبح خبازا بعد أن ضبط في سراويله الداخلية على بوابة دمشق. وكل الإسكافيين هم مصطفى، وهم يخيطون الناس الذين حملوهم إليهم مقطعين أربعة أجزاء.» «وأى خاتم حديدي ملقى على الحجر إن هو إلا مدخل كهف ينتظر الساحر، وركوة النيران الصغيرة، والسحر الأسود، ما سيجعل الأرض تهتز. وكل البلح المستورد يأتي من الشجرة نفسها التي جاءت منها تلك البلحة المنكودة التي ألقى التاجر نواتها فقلعت عين ابن الجني الخفي. وكل حبات الزيتون تأتي من المحصول الذي وضعه التاجر اللص بدلا من الذهب في جرة صديقه؛ وكل التفاح هو مثل الثلاث تفاحات التي اشتراها الرجل من بستان الخليفة والتي سرق العبد الأسود واحدة منها من ابن الرجل. وكل الكلاب ترتبط بذلك الكلب المسحور الذي كان يميز النقود المزيفة بيده. ويستدعي الأرز إلى الذاكرة تلك المرأة المخيفة التي هي في الحقيقة غولة لا تأكل إلا حبات قليلة من الأرز كي تلتهم وجبتها المرعبة في المقابر بعد ذلك. أما حصاني الهزاز ... فلا بد أن يكون له زر في عنقه حتى يطير بي، كما فعل الحصان الخشبي بالأمير الفارسي أمام بصر أبيه الملك.» «... وحين أصحو في فراشي عند مطلع الصباح، في أيام الشتاء الباردة المظلمة، والثلج يلقي بظلاله على إفريز النافذة، أسمع دينارزاد تهتف: أختاه، أختاه، إن كنت ما تزالين مستيقظة، أرجو أن تكملي حكاية ملك الجزر السوداء. وترد شهرزاد: لو سمح السلطان بإبقائي يوما آخر يا أختي. وعندها يبرز السلطان الكريم، ولا يعطي أي أمر بالقتل، ونتنفس نحن جميعا الصعداء.»
ويستبين من ذلك المقال مدى المتعة التي تبعثها الذكرى الكاملة للحكايات، فنشعر أن ديكنز كان بوسعه المضي في ذكر قائمة الأشياء العادية التي تتردد في ألف ليلة وليلة إلى ما لا نهاية. ويستبين من روايته «أوقات صعبة» رأيه الثابت بأن القدرة على الاستمتاع بالأمور العجائبية لازمة للصحة العقلية للإنسان؛ كما أن الأطفال عادة ما ينتابهم العجب من تلك الحكايات، وكلما زادت قدرتهم على التعجب، زاد اقترابهم من الله.
ومن الروايات الأخرى لديكنز التي تستخدم ألف ليلة وليلة لزيادة زخم بعض المواقف والإشارات فيها: «مارتن شزلويت» و«ديفيد كوبرفيلد» و«آمال كبار». ففي شزلويت، يعتبر ديكنز قدرة المرء على الاستمرار بالتمتع بالحكايات العجيبة التي جذبته في طفولته، دليلا أكيدا على طيبة القلب وسلامته، أما اللامبالاة أو الاستعلاء اللاهي عن تلك الحكايات فهو دليل التبلد الحسي والمكر. وقد بدا ذلك في شخصية «توم بينش» المعجب بكتب الحكايات الفارسية الذي يراه في واجهة محل الكتب، في حين يسخر مستر «بكسنيف» من الحكايات العربية في حديثه إلى مارتن شزلويت ويخلط بينها، معبرا تماما عن طبيعة شخصيته التي يريد ديكنز أن يصورها. وفي «أوقات صعبة»، يصوب ديكنز سهام نقده الجارح لكل من لا يؤمن بقيمة العجائب في حياة الإنسان. ويذكر الباحث «ميشيل سلاتر» أن إحدى حكايات ألف ليلة وليلة المحببة إلى قلب ديكنز هي قصة الصعلوك الثالث، صاحب حكاية جبل المغناطيس، والشبان العشرة الذين يسودون وجوههم ويبكون على مصيرهم كل ليلة، وقد أمدته بصور واستعارات أصيلة في كل من روايتيه «الصغيرة دوريت» و«قصة مدينتين».
وأكثر الصور شهرة لدى عشاق ديكنز هي العملية التي استخدمت في سبيل إعادة تأهيل البخيل «سكروج» في «ليلة الكريسماس». فالخطوة الأساسية لعملية الإصلاح تلك، هي إعادته إلى ذكريات طفولته، التي كان يستمتع بها بالحكايات الخيالية وعلى رأسها ألف ليلة وليلة: «ولمسه الشبح على ذراعه، وأشار إلى صورته وهو صغير، عاكفا على قراءاته. وفجأة، ظهر رجل يشتمل على ملابس غريبة يقف خارج النافذة، ومعه فأس معلقة في حزامه، ويقود حمارا محملا بالحطب. هه! إنه علي بابا، علي بابا العزيز الطيب. أجل، أجل، أعرفه ... وذلك الآخر، ما اسمه، الذي ترك أمام بوابة دمشق في سرواله الداخلي، ألا تراه! وخادم السلطان، الذي علقه الجني مقلوبا، ها هو قائم على رأسه. يستحق ما جرى له، فكيف يجرؤ على الزواج من الأميرة؟!»
كذلك لم يفت ديكنز استخدام الليالي العربية في نقده الاجتماعي والسياسي في عهده؛ فقد استخدمها في هجومه على الظلم الاجتماعي في عدم توفير تربية أخلاقية ملائمة للطبقات الفقيرة في نفس الوقت الذي تقسو الحكومة على أفراد تلك الطبقات إذا هم انحرفوا إلى الجريمة، مشبها ذلك الموقف برغبة الجني في معاقبة التاجر لأنه ألقى نواة البلح ففقأ عين ابن الجني، رغم أنه لا حيلة له ولا يد في ذلك الأذى. واستخدم نفس الإشارات من ألف ليلة ليصب جام سخريته من عجز الحكومة البريطانية في عهده في مجال السياسة الخارجية في قضية حرب القرم، فنشر مقالة سماها «ألف دجال ودجال» سخر فيها من شخصية لورد بالمرستون رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، مغيرا ألفاظ حكايات شهيرة في ألف ليلة لتلقي بظلال السخرية المريرة من سياسات عصره البالية.
وقد شارك «ويلكي كولين» (1824-1889م) تشارلز ديكنز الصداقة والزمالة ... والإعجاب بألف ليلة وليلة. وقد تبادل الكاتبان الصديقان مجموعة كبيرة من الرسائل، وتتبدى فيها إشارات كثيرة لماحة لقصص الكتاب. وقد أفرد البروفيسور «كراكشيولو» فصلا كبيرا بقلمه في الكتاب الذي حرره عن أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي لويلكي كولينز، عدد فيه الإشارات الكثيرة في أعمال كولينز لقصص ألف ليلة، والتأثرات التي تلقاها من مؤلفين آخرين تحدثوا عن الكتاب، خاصة والتر سكوت ودي كوينسي وديكنز. وقد استخلص البروفيسور أن أكثر ما تأثر به كولينز هو طريقة الإطار، والسرد الذي يشبه الصندوق الصيني، أو العروسة الروسية، حيث تتولد القصص من رحم قصص أخرى، على نحو دائري لا نهائي. وقد استبان التأثر بمجموعة القصص العربية في قصتين لكولينز هما «بعد الظلام» و«ملكة القلب»، في جمعهما للقصص داخل القصص، التي تروى في الليل بغرض كسب الوقت لمزيد من التلاحم الإنساني.
بيد أن تركيز مقال البروفيسور كراكشيولو كان على رواية ويلكي كولينز «الماسة الصفراء»، التي تتبع فيها مصير أشهر ماسة في التاريخ وهي «الكوهينور»، وربط بينها وبين التغلغل البريطاني في الهند والعلاقات الغربية بالشرق عموما. وقد انتهج كولينز في الرواية عناصر التشويق الواردة في قصص الرواية البوليسية، واعتمد طرق الاستجواب والاستدلال المستقاة من توثيق النصوص عند العرب والمسلمين، بتسلسل الرواة ودرجة موثوقيتهم.
وقد استخدم كولينز الإشارات إلى ألف ليلة وليلة وحكاياتها المشهورة كيما يضيف أبعادا جديدة على ما يقصه في رواياته؛ كما أنه وجد في تلك الحكايات الوسيلة التي تمكنه من تأمين إضفاء الثراء والعمق على شخصياته، اللازمين لتوضيح النتائج السيكلوجية والأخلاقية التي ترتبت على تكوين إمبراطورية بريطانية فيما وراء البحار، ونظام للتصنيف الطبقي في إنجلترا ذاتها.
وكان «روبرت لويس ستيفنسون» (1850-1894م) أكثر صراحة من سابقيه حين أفرد كتابا خاصا أطلق عليه «الليالي العربية الجديدة» نشره عام 1882م. وكان ينظر إلى حكايات ألف ليلة وليلة بوصفها أدبا خالصا لا يهدف من ورائه إلى مواعظ أخلاقية أو أهمية فكرية. وقد قال عنها في عام 1882م: «هناك مثلا كتاب محبوب أكثر من كتب شكسبير، يأسر النفوس في عهد الطفولة ويبهج النفس في الكبر، وأعني به الليالي العربية، حيث لا تجد مواعظ أخلاقية ولا اهتمامات فكرية. إننا لا نتعرف على وجوه أو أصوات إنسانية وسط جمهرة الملوك والجنيات والساحرات والشحاذين. فالمغامرات الخالصة فيها توفر المتعة والتسلية وفيها الكفاية.»
وقد استخدم ستيفنسون أسلوب توالي القصص وتوالدها، من شخصية إلى أخرى، بنفس طريقة قصص ألف ليلة وليلة، حيث شخصية تسلم الحدث إلى شخصية أخرى، دافعة القصة والسرد إلى الأمام. وهذا ما يحدث في قصتي «نادي الانتحار» و«ماسة الراجا» من مجموعة «الليالي العربية الجديدة». ففي القصة الأولى، بعد أن يهرب الشاب من نادي الانتحار: «وهنا (يقول المؤلف العربي) تنتهي حكاية الشاب والكعكات، وهو الآن رب أسرة محترمة في شارع وجمور، بميدان كافندش. ولن أذكر رقم المنزل لأسباب واضحة. أما من يريدون أن يتابعوا مغامرات الأمير فلوريزل مع رئيس نادي الانتحار، فيمكنهم أن يقرءوا حكاية الطبيب وصندوق ساراتوجا.»
وهذا هو المعادل لما تقوله شهرزاد حين تنتهي من حكاية لتبدأ بأخرى، من مثل «وأين يكون هذا من حكاية ...» كيما يقول لها الملك شهريار: «وكيف كان ذلك؟» لتنطلق في رواية الحكاية الجديدة.
كذلك كان ستيفنسون مغرما بفكرة «القرين المضاد» التي تتبدى كثيرا في قصص ألف ليلة، أي شخصين متلازمين يكونان على طرفي نقيض، مثل السندباد البحري: التاجر الناجح والمغامر الجسور، والسندباد البري الفقير؛ وأبو كير: الصباغ الشرير المحتال، وصديقه أبو صير: الحلاق الطيب المتسامح. وقد برز ذلك التشخيص التضادي في بعض قصص الليالي العربية الجديدة، وفي رواية «سيد بالانتري»، في شخصية الأخوين: جيمس الشرير، وهنري الطيب. وفي رواية «عفريت القارورة»، استخدم ستيفنسون مزيجا عجيبا من حكايتي «علاء الدين والمصباح السحري» و«الصياد والجني»، حيث صور شخصية أحد أبناء هاواي ويدعى «كييف» يخاطر بحلول اللعنة عليه بشرائه قارورة الجني، الذي يلبي طلبات صاحبه بشرط واحد: أنه إذا مات صاحب القارورة وهي ما زالت بحوزته، يذهب إلى الجحيم مباشرة. والقصة بهذا تحمل أيضا ظلالا من أسطورة فاوست. وتتضمن قصة ستيفنسون ملامح ألف ليلية، من تحريمات واشتراطات، منها أنه إذا رغب «كييف» في التخلص من القارورة ببيعها، فعليه أن يقبل فيها ثمنا أقل مما دفعه فيها، مما يعقد الأمور. كما أن عفريت القارورة يختلف عن عفريت علاء الدين، فهو جني شرير يقوم بمسخ صاحبه ذات مرة إلى حجر، كما أنه لا يهبه القصر الذي طلبه منه، بل يجعله يرثه عن عمه وابن عمه بعد أن يدبر مصرعهما غرقا في البحر. ويبيع كييف القارورة، ويتأهب للزواج من حبيبته، حين يكتشف أنه قد أصيب بالبرص؛ فيضطر بذلك إلى استعادة القارورة طلبا للشفاء. وعلى نسق حكايات ألف ليلة، ينهي ستيفنسون قصته نهاية سعيدة، بأن يجعل رجلا شريرا يسرق القارورة من كييف، فيتخلص بذلك هو وزوجته من تلك اللعنة الجهنمية. ونرى من هذا كيف تناول ستيفنسون عناصر من الكتاب العربي وأضفى عليها عناصر أشد ظلمة وجهامة، ومضى معها إلى نهاية ما يمكن أن تحتمله القصة الأصلية، مضيفا بذلك معاني جديدة عليها بما يتفق مع الفكرة الأخلاقية التي أراد توصيلها إلى قارئه.
وقد بنى «جورج ميريدث» (1828-1909م) شهرته على رواية احتذى فيها حذو قصص ألف ليلة وليلة، وأعطاها اسما غريبا هو «قص شعر شجبات» وعنوانا فرعيا «مسامرات عربية» وصدرت عام 1855م. وكان ميريدث من المؤمنين بأن الوقت قد حان للروائيين الإنجليز لنشدان حيوية وانفتاح الحكاية العربية كما حدث في القرون الوسطى، وأن تلك الحكايات يمكن أن تخصب أرضية الرواية المعاصرة بما فيها من تعبيرات اجتماعية ومتعة قصصية في نفس الوقت. وقد طالع ميريدث ألف ليلة وليلة في طفولته وكانت كتابه المفضل في صباه؛ وقد بنى روايته الأولى على نهجها، ذاكرا في مقدمته أن روايته محاولة لاحتذاء «أسلوب وطريقة الحكائين الشرقيين». وكان ميريدث يحكي قصصا كهذه لابنته المتبناة كل ليلة، ويبدو أن روايته هي نتيجة تلك القصص الخيالية التي كان يبتدعها كل ليلة. بيد أن «حلق شعر شجبات» هي في الواقع مكتوبة للكبار. وفيها نقرأ: «والآن، قصة «شبلي باجراج» والكرة التي تتبعها، والمملكة التي في جوف الأرض التي وصل إليها، والقصر المسحور الذي دخل إليه، والملك النائم الذي قام شبلي بحلق شعره، والأميرتين اللتين أطلق سراحهما، والعفريت الذي كانت تسيطر عليه إحداهما وتحبسه في زجاجة ...»
ويجد «شبلي باجراج» نفسه في سلسلة من الانطلاقات والمحن في نضاله لحلق الشعر السحري لشجبات الذي يخضع المدينة، التي لها نفس اسمه، لطغيانه، كيما يحرر المدينة وأهلها منه. ويفضل النقاد اليوم اعتبار الرواية «أليجورية» تمثل القضاء على الظلم الإنساني والاجتماعي، وإزالة الأوهام والخرافات التي تهدد الحرية الإنسانية، عنها بوصفها رواية قصصية عادية. وهي تمتلئ بالتيمات المأخوذة من ألف ليلة، مثل طائر الرخ، والجني الذي يخدم سيدته ثم ينقلب عليها، والمصباح السحري ... إلخ.
ورواية ميريدث الثانية، «هاري رتشموند»، تحكي قصة نضج بطلها في مسيرة حياته، على نسق مغامرات الأمير قمر الزمان وأحداثها؛ فهاري محكوم بشخصية أبيه «روي» الذي يبني حياته على الأوهام والأحلام، على نحو ما جاء في قصص الصعاليك الثلاثة. وفي رواية ميريدث تلك، يقرأ الأب والابن «الليالي العربية»، وهي إشارة ورمز لما سيقوم به الأب من إدخال ابنه في سلسلة من الوقائع والأحداث التي تشبه ما جاء في قصص ألف ليلة وليلة. وتوفر قصص الكتاب العربي ذريعة لهاري رتشموند كيما يضفي عقلانية على الوهم الذي يقدمه له أبوه: «وفي ثنايا هذه الليالي العربية، جلسنا على بساط طار بنا إلى القارة الأوروبية، حيث اعتللت ثم شفيت عن طريق شم إحدى التفاحات، ووجه أبي حركاتنا عن طريق منظار تلسكوبي كان ينبئنا بأسماء الفنادق الجاهزة لاستقبالنا.» بيد أن ذلك الوهم لا يمكن أن يدوم، فعدم القدرة على التمييز بين الفانتازيا والواقع مناسب للطفل، أما إذا جاء من جانب الكبار، فيكون أثره مدمرا.
ويقوم ميريدث في تلك الرواية بعملية تناص غير ظاهري بينها وبين حكاية الأمير أحمد وبري بانو في ألف ليلة، كي يصور إسقاطات كثيفة على حياة هاري رتشموند وعلاقاته بعدد من الفتيات والسيدات، إلى جانب علاقاته المعقدة بأبيه، على النحو الذي سارت عليه أحداث الحكاية العربية، بما في القصتين من مشاعر غيرة وخيانة تشف عن ملامح أوديبية ظاهرة في رواية ميريدث، كما تذكر الباحثة «كورنيليا كوك» في مقالها عن ميريدث وألف ليلة. ويتحرر هاري رتشموند من أسر طفولته التي شيدها أبوه من حوله، ولا يصل إلى تحقيق الذات الناضج إلا خارج الإطار الأبوي، بعد التغرب عن أبيه وهزيمة الأب ووفاته.
وثمة رواية ثالثة لميريدث هي «إيفان هارنجتون» تضرب أيضا على أوتار ألف ليلة وليلة، حيث يتم تصوير إيفان فيها بوصفه علاء الدين الآخر. والساحر الذي كان يتسلط على علاء الدين ، هو توم كوجلزبي الذي يقوم أيضا بدور هارون الرشيد في تحقيقه للعدالة ولكن ليس قبل تدبير بعض «المقالب» لمعارفه، على نحو ما فعل الخليفة العربي مع أبي الحسن، النائم اليقظان. وتمتلئ هذه الرواية بالشخصيات المضادة، على نسق سندباد وهندباد، بل إن المؤلف يسير على نفس النمط، لنجد أسماء مثل كارنجتون وبارنجتون يتلازمان مع هارنجتون!
ولا يفوتنا قبل الانتقال إلى مجموعة أخرى من الأدباء الإنجليز التالين لهؤلاء أن نذكر أن ثمة عددا من المفكرين والمؤرخين في تلك الفترة قد أبدوا اهتماما مماثلا بالحكايات العربية والشرقية، فقد طالع المؤرخ المشهور إدوارد جيبون، صاحب «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية» ألف ليلة وليلة في سن مبكرة، ووجد أنها كتاب «لن يكف عن امتاع القارئ بما يقدمه من صور مؤثرة للعادات الإنسانية والمعجزات الغريبة.» ويذكر كاتب سيرة جيبون، ج. م. يونج، أن إعزاز جيبون لحكايات ألف ليلة وليلة قد يكون السبب في التعاطف الحار الذي يبديه في كتابه تجاه الشرق الأدنى - خاصة الخلافة العباسية - الذي يفوق تعاطفه مع أوروبا في عصور الإقطاع.
وكما ألهمت قراءة إلياذة هوميروس قيام البروفيسور شيلمان بكشف آثار طروادة وأطلالها، ألهمت قراءات السير هنري لايارد لحكايات ألف ليلة وغرامه بقصص الحصان الأبنوس ومدينة النحاس قيامه بعد ذلك بالكشف عن أطلال نينوى عام 1840م.
أما أغرب الآراء فهي التي ذكرها «روبرت إروين» من أن الصفات الغرائبية والعجائبية لحكايات ألف ليلة وليلة قد تركت فيما يبدو أثرا قويا في ذهن الكاردينال نيومان في طفولته، أدت به إلى أن يقبل بسهولة، بعد ذلك، الإيمان الكاثوليكي، الذي تمثل فيه المعجزات واقعا حقيقيا في نفس المؤمنين. كذلك تمثل حالة توماس كارلايل (1795-1881م) واقعة فريدة في الدافع له إلى الاهتمامات الشرقية والإسلامية التي انتهت إلى محاضرته الهامة عن رسول الإسلام بوصفه البطل في صورة الرسول، إذ يذكر الباحث «جيمس أنتوني فرود»، الذي أرخ لحياة كارلايل في جزأين عام 1884م، أن قراءته وحبه لقصص ألف ليلة وليلة كانت هي الدافع لديه للاهتمام بالأمور الشرقية، والاطلاع على أصول الدين الإسلامي وحياة النبي محمد ،
صلى الله عليه وسلم ، وتخليص كل ذلك من الأغاليط والخرافات التي شاعت في الغرب، وكانت محاضرة كارلايل التي ضمها في كتابه الهام «عن الأبطال وعبادة البطولة» الصادر عام 1841م، من أوائل الكتابات الموضوعية عن الإسلام ونبيه في وقتها، والتي غيرت أفكار الأوروبيين عن الإسلام ونبيه الكريم تغييرا جذريا. (4) أوائل القرن العشرين
تناولنا في فصول أخرى من هذا الكتاب أعمالا لكونراد وويلز، ونضيف هنا تفاصيل أخرى عن صلتهما بألف ليلة وليلة.
رغم صدور ترجمة بولندية لألف ليلة وليلة عام 1874م، قبل أن يغادر كونراد موطنه بولندا بعام، نجده قد تعرف على الكتاب في طبعاته الفرنسية، ثم اتصلت معلوماته عن الإسلام والمسلمين منذ إقامته في الملايو، وعبر مطالعاته لكتب السير ريتشارد بيرتون، خصوصا كتابه عن زيارته لمكة والمدينة. وقد نجح الباحث «هانز فان مارل» في إرجاع الكثير من الإشارات والأفكار عند كونراد عن الإسلام إلى كتب بيرتون.
وبما أن كونراد كان بحارا وضابطا بحريا، ومعظم رواياته تدور حول البحر والجزر والرحلات البحرية، فقد انصب اهتمامه «الألف ليلي» على رحلات السندباد، وكانت الصورة البديعية التي أثرت فيه وترددت في أعماله هي صورة «شيخ البحر» الذي لاقاه السندباد البحري في سفرته الخامسة، والذي خدعه وركب فوق كتفيه وسخره كأنه بهيمة تحمله من مكان إلى مكان. وقد استخدم كونراد ذلك الرمز لتصوير العبء الثقيل الذي يمكن أن تحمله شخصية من شخصياته. وقد وردت تلك الصورة في روايتيه «الأوتوكراسية والحرب» (1905م) و«نوسترومو» (1904م). وقبل ذلك، كتب كونراد في خطاب له عن المصاعب التي يلاقيها في كتابة قصته «العودة» قائلا «إنها مثل شيخ البحر بالنسبة لي، فليس بوسعي أن أنزلها من فوق كتفي.» ويعيد نفس الصورة في خطاب له إلى «مننجهام جراهام»: «إننى كشيخ البحر، لا يمكنك أن تتخلص مني بمجرد اقتراح أن أكتب إلى أخيك.»
ويستخدم كونراد كذلك صورة الغول، بالكلمة ذاتها التي دخلت بصورتها العربية، لتصوير الرعب والخوف، وقد ارتبطت عنده كذلك بموضوع آكلي لحوم البشر، الذي كتب عنه كثيرا. ومن الملاحظ أن بداية تردد هذه الإشارات عن شيخ البحر والغول قد بدأت عند كونراد مباشرة بعد نشر بيرتون لترجمته لألف ليلة وليلة.
وإذا كان كونراد يستخدم إشاراته إلى ألف ليلة وليلة كي يعبر عن قوى خانقة، فإن ويلز - على وجه العموم - يربط بينها وبين السعة والإمكانيات والتطلعات المستقبلية. ويقول ويلز في رسالة له إلى أمه أنه كان في فترة عام 1894م «يكتب كي يعيش» ويشير في مذكراته «تجربة في السيرة الذاتية» إلى أنه كان نتيجة لذلك «يتلقط» الأفكار التي يمكنه استخدامها في مقالاته وقصصه إبان ذلك الوقت. ويعود إلى تلك الأيام قيامه بكتابة قصته «جزيرة إيبيورنيس» وهي تنويعة فكاهية - علمية على قصة رحلة السندباد الثانية (مع مزيج من روبنسون كروزو)، حين يتخلف السندباد في جزيرة جرداء يعثر فيها على بيضة طائر الرخ. وفي قصة ويلز، يشير الراوي صراحة إلى قصة السندباد، ويذكر طائرا عملاقا هو الإيبيرونيس، ويقول «إن رخ السندباد لم يكن إلا أسطورة لذلك الطير.» قبل أن يشرع في سرد روايته عن غرقه ولجوئه إلى جزيرة يكتشف فيها بيضة ضخمة. وقد كتب ويلز قصته تلك عام 1894م، وفيها حاشية يعلق بها بيرتون على الرحلة الثانية للسندباد البحري يذكر فيها أنواعا أخرى من الطيور الأسطورية، ويقترح أصلا مشتركا لها في ذكريات «طائر التروداكتيل المجنح الهائل الحجم وغيره من المخلوقات المخيفة المجنحة ... وثمة أساس آخر لا يحتاج إلا إلى قليل من المبالغة ... ويمكن أن يكون السندباد يشير إلى طائر الإيبيوريس في مدغشقر ...» ومن هنا يأتي تأثر ويلز بترجمة بيرتون لليالي العربية وتعليقاته عليها، واستخدامه نفس كلمة بيرتون لعنوان قصته. ويتساءل «روبرت إمبسون» في مقاله عن ويلز وألف ليلة وليلة، بعد أن شرح كيف كتب ويلز قصة «آلة الزمن» مطورا إياها في أشكال مختلفة إلى أن وصلت إلينا في شكلها الحالي: «هل قادت قراءة ألف ليلة وليلة ويلز إلى الأسلوب الهيكلي للقصة الإطار الذي استخدمه في آلة الزمن؟» (انظر أيضا فصل «القصة الإطار» في كتابنا هذا).
وكما يشير إلى قيام ألف ليلة وليلة بلعب دور هام في مؤلفات ويلز المبكرة، فقد استمر ذلك التأثير في مده بمصادر وإلهامات عديدة بعد ذلك. ففي روايته المشهورة «تاريخ مستر بولي»، يمثل الأدب بصفة عامة الإمكانيات الواسعة للحياة الإنسانية، ويقوم علامة على الانطلاق فيما وراء القيود التي تفرضها التقاليد والظروف. وحين يشتري مستر بولي عددا من كتب الأدب، يكون كتاب ألف ليلة وليلة من بينها، ويمثل ذلك النوع من الأدب الخلاق؛ في حين يقدم المؤلف أشخاصا آخرين يمثلون الوجه الآخر الذي يفرض القيود ويحجر على انطلاق الفكر والخيال، مثل شخصية مستر فولز.
وهناك روايتان أخريان تتصلان اتصالا مباشرا بقصص ألف ليلة، أولاها رواية «النائم يستيقظ» (1898م) التي تأخذ نفس العنوان الفرنسي والإنجليزي لحكاية النائم اليقظان في ألف ليلة، ونفس فكرة الاستغراق في النوم، ولكنه يطور الموضوع بأن يجعله يدور حول «جراهام» الذي ينام ثم يستيقظ بعد مرور مائتي سنة، فيكتشف أنه قد أصبح ملكا على الأرض. وعندها يتوقف التناص بين شخصيته وشخصية التاجر أبي الحسن، ويصبح متلازما لشخصية الخليفة هارون الرشيد، فيتخذ «وزيرا» لنفسه، ويطوف ليلا في شوارع مدينته متنكرا لاستطلاع أحوال الناس. والرواية الثانية بعنوان «البحث العظيم» (1915م)، وفيها يستمد ويلز صورا من ألف ليلة وليلة ليصور قدرة العجائب على تشكيل الحياة وتنظيمها على نحو لا يوفره الواقع. وفيها يقوم «بنهام» ببحث يتحدد عن طريق إشارة إلى ألف ليلة: «لقد ظن في البداية أن ما على المرء إلا أن يكد ويسعى لبلوغ الآمال؛ ولكن - بعد حياة من السعي والكد - أصبح على قناعة بأن هناك شيئا ... شيئا من نوع افتح يا سمسم ... يقوم فجأة بفتح المغارة السحرية للكون أمام بني البشر، تلك المغارة الثمينة التي تكمن في كل شيء يؤمن به المرء.» ويحلم «بنهام» بشيء مماثل لما حدث لجراهام في رواية النائم يستيقظ حين يجد نفسه مالكا لكل شيء، وينتهي حلم بنهام في نهاية القصة بأن يجد نفسه متجولا في العالم «ملوكيا، لا يعرفه أحد ... أخيرا أصبح، إذا صح القول، هارون الرشيد مرة أخرى، يتجول في أنحاء الدنيا في سكينة، لأن الأمان الذي يشيع في قصره لن يطلعه على أسرار أمراض البشرية.» (5) عملاقان من أيرلندا
وطبعا، من سيكون أولهما غير العظيم جيمس جويس؟!
وحين ذكر «فكتور شلوفسكي» أن العمل الفني ينشأ من خلفية أعمال أخرى ومن خلال ارتباطات بها: لم يكن ذلك ينطبق أكثر ما ينطبق إلا على أعمال جويس. وثمة الكثير مما يوثق صلة جويس بألف ليلة وليلة؛ فكانت لديه نسخة من الترجمة الإيطالية وهو يعيش في تريستا. وحين انتقل إلى باريس، استبدل بها نسخة من ترجمة ريتشارد بيرتون من 17 جزءا. ويوثق «توماس كونوللي» في كتيبه عن «المكتبة الشخصية لجيمس جويس» وجود تلك الترجمة لدى الكاتب، ويشير إلى الأماكن التي ترك فيها جويس أوراقا فاصلة للرجوع إليها لاحقا. وقد ذكر «بادرايك كولوم» وزوجته ماري في كتابهما الهام «صديقنا جيمس جويس» (1959م) ما يلي:
ولما كانت «فنجانز ويك» تتناول الحياة الليلية، فقد أراد أن يتعرف على الأعمال الأخرى التي اتخذت حياة الليل نقطة انطلاق لها. وكان أحد تلك الأعمال: «الليالي العربية» ... فقد كان إطارها يتعلق بالليل، كما أننا نعرف أن المجموعة تأصلت في قصص الطوافين ليلا. ورغب جويس أن يقوم أحد بقراءة الليالي العربية كيما يخبره ببعض ملامحها. لذلك أرسل إلى شقتي ستة عشر مجلدا من ترجمة بيرتون للكتاب. وكان أول شيء ذكرته له عنها محط اهتمامه: أن خلفية الحكايات العربية حكايات فارسية، بل إن الراوية وأختها تحملان اسمين فارسيين. وكان جويس مفتونا بالطريقة التي تفضي بها إحدى الثقافات إلى ثقافة أخرى، وأراد أن يعرف عما إذا كان هناك تناظر بين نشوء الحكايات العربية من الفارسية وبين نشوء حكايات الملك آرثر من الحكايات والأساطير الكلتية؛ وسأل عن معنى اسمي الراوية وأختها. وقد طالعت الأجزاء الستة عشر جميعها ... وحدثت جويس عن ملامح كثيرة فيها. ولا بد أن يظهر في فنجانز ويك الخليفة وهو يتجول ليلا مع وزيره، غير أن السطور التي أنا على يقين بأنه استمدها من قراءتي فهي التي تدور حول «الأختان اللتان تتحدثان ليلا».
ويبدو أن معرفة جويس بالسندباد البحري قد تزامنت مع معرفته بالأوديسة لهوميروس، إن لم تكن قد سبقتها. فنحن نعرف من فصل «تليماخوس» في رواية عوليس لجويس، ألفة ستيفن ديدالوس - وهو جويس - بعرض بطريقة البانتومايم (إشارات وإيماءات دون كلام) جرى تقديمه في دبلن عام 1892م - حين كان جويس في العاشرة من عمره - عنوانه «بانتومايم توركو المرعب»، وهو جزء من العرض العام «بانتومايم السندباد البحري».
وتمتلئ الملاحظات والتخطيطات التي كان جويس يكتبها قبل البدء في كتابة «فنجانز ويك» - بدءا من عام 1922م - بالإشارات إلى قصص وشخصيات ألف ليلة وليلة. ففي جزء معنون «الأختان»، يكتب جويس: «الليالي العربية، سلسلة من القصص، قصص داخل قصص.» ويشير إلى «مفخرة شهرزاد». وهذا قد يوحي أيضا أن قصته القصيرة «الأختان» في مجموعة «أناس من دبلن» كان مقصودا بهما شهرزاد ودينارزاد أيضا، فمن المؤكد أن هيكل القصة هو صورة للقصة الإطار وبداخلها قصص متفرقة: بيان عن «موتر العجوز» وقصصه التي لا تنتهي، يتبعه بيان عن «الأب فلين» وقصصه، ويكمل ذلك قصة إليزا عن أخيها. ويلاحظ أن أخت إليزا، تبدو وكأنها «على وشك أن تستغرق في النوم» حين كانت أختها تروي لها القصة. وفي فنجانز ويك، تظهر «الأختان» كذلك في «متنزه فينيكس»، ويقدمهما جويس بعبارة «سكرتزيرازد ودونيازاد اللتان تتكلمان ليلا على نحو لا يمكن السيطرة عليه».
ومن الجلي أن «فنجانز ويك» - مثله مثل ألف ليلة وليلة - هو كتاب ليلى. وقد أشار الناقد «كلايف هارت» إلى أن ثمة حكايتين من الكتاب العربي يرفدان الهيكل الحلمي لفنجانز ويك. فعلى نحو ما يحدث لأبي الحسن من تمثل شخصية أعظم منه، يغفو بطل الكتاب متعدد الشخصيات «وبعد نعسة له يستيقظ في مثوى مختلف ليجد أنه قد أصبح الأب بالفعل.» ويوازي تردد أبي الحسن بين عالمين، التقلب الحيزي والمكاني لفنجان. وهناك أيضا حكاية «حياتا السلطان محمود»، التي جعل فيها أحد الحكماء الصوفيين سلطان مصر يشعر خلال لحظات قليلة وضع فيها رأسه في نافورة القصر أنه قد أمضى سنوات طوالا في عمل شاق، فيقدم بذلك عمرا كاملا في لحظة قصيرة. وقد وفرت تلك النسبية الزمنية الفريدة مصدرا هاما لجويس يضغط فيه الزمن ويبسطه كيما يظهر الحنكة الروائية والصنعة السردية التي تناسب كتابه. وقد استوحى جويس فكرة الاضطراب الزمني كذلك من التداخل في أزمنة القصص التي يضمها كتاب ألف ليلة؛ فمن المفترض أن شهريار وشهرزاد كانا يعيشان في زمن الساسانيين السابقين على الإسلام، بينما شهرزاد تحكي عن هارون الرشيد والمأمون بل والظاهر بيبرس، وهم لم يظهروا على مسرح التاريخ إلا بعد الساسانيين بآماد طويلة!
وتزخر فنجانز ويك بإشارات وتمثلات عديدة أخرى من ألف ليلة وليلة، بيد أن «لعب» جويس بالكلمات، وتغييره فيها ونحته لكلمات مركبة وكلمات لا وجود لها، يجعل من الصعب تقديم فكرة باللغة العربية لتلك التوازيات على نحو واضح. ولا شك أن أي ترجمة مرتقبة لفنجانز ويك إلى العربية ستكون من مفاخر الترجمة، بما يضارع كلا من عمل جويس وألف ليلة وليلة.
وحين نرتد إلى رواية جويس الأساسية «عوليس» نجدها تمتلئ هي الأخرى بإشارات ألف ليلة وحكاياتها وشخصياتها. فبطلاها «المستر بلوم» و«ستيفن ديدالوس» يطوفان بمدينة دبلن كطواف هارون الرشيد في بغداد. وتتردد في أفكار بلوم وتهويماته الفانتازية صور الشرق، كما في فصل «كاليبسو»: «مكان ما في الشرق ... أتجول في طرق مسقوفة. وجوه معممة تمر بي. مغارات مظلمة فيها محلات السجاد، رجل ضخم، توركو المرعب، يجلس عاقدا ساقيه، يدخن نرجيلة ملفوفة الخرطوم ... أطوف هنا وهناك طوال اليوم. قد أصادف لصا أو اثنين ... سماء الليل، قمر، بنفسجي، لون رباط جورب «موللي» الجديد. شرائط. اسمع. فتاة تعزف على إحدى تلك الآلات التي ما اسمها: القانون.» وهو مغرم بكل ما هو شرق أوسطي، مما يسهل دخول زوجته موللي - المولودة في جبل طارق العربي الأصل - إلى خيالاته.
وصورة عوليس بطل الملحمة اليونانية الأوديسة، إذ اتخذ جويس الهيكل الهومري نموذجا علويا لروايته، تمتزج - بالضرورة - بصورة السندباد البحري، فهناك أوجه شبه عديدة بين الاثنين وما يصادفانه في ترحالهما، ولهذا يتردد ذكر السندباد كثيرا أيضا في رواية جويس. ونمثل على ذلك بهذه الفقرة التي وردت في أواخر الرواية، بعد إياب الرحالة إلى منزله في دبلن، التي عالجها جويس بأسلوبه المعهود في تشكيل اللغة والألفاظ على نحو تركيبي خيالي. والفقرة من ترجمة الدكتور لويس عوض: «مع رفاقه. ومن رفاقه؟»
السندباد البحري. السندباد البحار والصندباد الصياد والخندباد الخياط والبندباد النجار والحندباد الحداد والفندباد الفلاح والبندباد البناء والهندباد الهجاء والرندباد الرقاص والكندباد الكشاف والدندباد الدساس والطندباد الطحان والزندباد الزمار والسجندباد السجان والغنغباد الفثفاث.» «متى كان ذلك؟» «حين مضى إلى الفراش المظلم فوجد مربعا حول بيضة الفرخ، فرخ الرخ، رخ السندباد البحري في ليلة الفراش، فراش كل فرخ، فرخ كل رخ، رخ مظلمباد النوار.»
أما عملاق الأدب الأيرلندي الثاني فهو وليام بتلر ييتس (1865-1939م)، صاحب جائزة نوبل للآداب لعام 1923م. وإنتاج ييتس غزير متنوع، وله تجارب عميقة في الصوفية والأدب التلقائي، توجت بكتابه الصوفي العميق «رؤيا». وكالعادة، عرف ييتس ألف ليلة وليلة منذ طفولته، وقد وجدت في مكتبته نسخة من كتاب «خمس قصص محببة من الليالي العربية في كلمات مبسطة»، الصادر عام 1871م، وعليها إهداء من والده إليه. وقال عن قصص ألف ليلة بعد ذلك في رسائله: «إن تقاليدنا لا تسمح لنا إلا بالبركة، فالفنون هي امتداد لصور الغبطة والسعادة. طوبى لصور الموت البطولي (شكسبير)، طوبى للحياة البطولية (سرفانتس)، طوبى للحكيم (بلزاك). وإلى ذلك كله، هناك سبب أكثر إقناعا كيلا نسمح بأساليب الدعاية في حياتنا. إني سوف أكتبها بأسلوب «الليالي العربية» التي أقرأ فيها كل يوم. هناك ثلاثة أشخاص في غاية الأهمية: (1) رجل يعزف على الناي (2) رجل ينحت تمثالا (3) رجل بين ذراعي امرأة. لقد قال جيته إن علينا أن نعتزل، وأنا أعتقد أن الدعاية هي ما يجب أن نعتزله ... لقد وجدت اقتباسا في ترجمة «بويز ماترز» (لطبعة ماردروس الفرنسية لألف ليلة وليلة) ... يمكن أن تكون شعارا لكتاب تعليمي للأطفال ... حين تذكر شهرزاد للملك أنها سوف تحكي له ثلاث أقاصيص ترى أنها أخلاقية ولكن قد يظنها آخرون غير ذلك. ويقترح الملك أن يصرفا أخت شهرزاد الصغيرة كي لا تسمعها ... ولكن شهرزاد تقول: «كلا ليس هناك من خجل في الحديث عن الأشياء التي لدينا تحت الزنار.»
كذلك يكتب ييتس في كتابه «أساطير» أن شكسبير وبلزاك وألف ليلة وليلة هي «أدب جاد بالنسبة لأولئك الذين ينشدون الحقيقة بشكل جدي.» وكان يقدر تلك الأعمال بوصفها ذات صفات موسوعية. ويعيد تأكيد اختياراته حين يقول: «كان ليونيل جونسون يرى أن المرء يجب أن يكون قد قرأ كل الكتب الجيدة قبل أن يكون قد بلغ سن الأربعين ثم يكتفي بعد ذلك بستة كتب، فقلت إني أريد ستة مؤلفين وليس ستة كتب؛ يأتي شكسبير أولا، ثم الليالي العربية في أحدث طبعاتها الإنجليزية، ثم وليام موريس الذي يمدني بكل القصص العظيمة بما فيها هوميروس وقصص البطولة، ثم بلزاك.»
وكان إعجاب ييتس بأسلوب ألف ليلة الواقعي القاسي هو الذي قاده إلى عمل بلزاك الموسوعي في سلسلة رواياته عن المجتمع الفرنسي التي يجمعها عنوان «الكوميديا الإنسانية». وقد ظهر أثر شكسبير وألف ليلة وليلة وبلزاك في قصص ييتس، وفي كتابه الصوفي الروحي «رؤيا». وفي قصائد ييتس، يظهر اهتمامه بشخصية هارون الرشيد، لا الشخصية التاريخية، بل الأدبية والأسطورية. ففي قصيدته القصصية المعنونة «هدية هارون الرشيد» يصور لنا حكاية أشبه بحكايات ألف ليلة في شكل أقصوصة شعرية تحكي عن هارون الرشيد بعد أن أوقع بالبرامكة نكبتهم المعروفة. ويتخذ الرشيد عروسا جديدة، ويشرك أحد ندمائه؛ النطاسي الفيلسوف المترجم «كوستا بن لوقا» في أفراحه بأن يهديه عروسا حسناء شابة. ولدهشة الجميع، تقع العروس الشابة في حب الفيلسوف الشيخ. وتظهر خاصية عجيبة في العروس بعد الزواج، وهي أنها تتحدث في أثناء نومها بأمور فكرية وفلسفية تتضمن كل ما كان ابن لوقا يبحث عنه في دراساته وقراءاته في مكتبة الخليفة العباسي العامرة؛ ولكن، حين تستيقظ الزوجة، كانت تعيش كفتاة عادية تقوم بواجباتها المنزلية دون أن تدري بما تتفوه به في نومها. وأصبحت الزوجة قرة عين زوجها الفيلسوف، ولذلك لم يذكر لها أبدا أسرار ما كانت تقوله في الليل خشية أن تظن أن حبه لها واهتمامه بها راجعان إلى المعرفة التي تتفوه بها في نومها وليس من أجلها هي بذاتها.
وقد عاد ييتس لموضوع كوستا بن لوقا في «رؤيا»، حيث يشرح «مايكل روبارتس» - الشخصية التي ابتدعها ييتس - أن ديانة «الجودوالي» - التي ابتدعها ييتس أيضا - كانت تحوز كتابا عليما يدعى «طريق الروح بين الشمس والقمر»، منسوب إلى كوستا بن لوقا، وهو فيلسوف طبيب مسيحي في بلاط هارون الرشيد، ثم ضاع الكتاب بعد ذلك مع كتاب صغير آخر يصف حياة ذلك الفيلسوف. ويبدو في القصيدة أيضا - وفي كتاب «رؤيا» - ما يفيد أن أتباع ديانة الجودوالي قد استمدوا من الأقوال التي كانت زوجة كوستا بن لوقا تتفوه بها في نومها، تعاليم كانوا يخطونها على الرمال لتلقين شبابهم تلك الأقوال وتوعيتهم بها.
ومن المعروف أن ييتس قد انغمس - ضمن أنشطته المتعددة - في دراسات «الروحانية» وعلوم الغيب الخفية التي شاعت في أيامه، وانعكس ذلك في الكثير من كتاباته، خاصة قصائده وقصص مايكل روبارتس، وأساسا في عمله الأساسي «رؤيا»، في نسختيها. وفي مسعى ييتس إلى تأسيس بعض أفكاره عن الروحانية والعلوم الغيبية على ركيزة لا تقبل الجدل، عثر - عن طريق كتاب ألف ليلة وليلة - على الطرق التي يمكن بها تقديم تلك العلوم والتجارب الروحانية عن طريق القصص الخرافية والأدب الشعبي المعروف والأدب الشعبي المخترع. وقد لجأ في ذلك إلى استخدام التراكيب السردية الواردة في ألف ليلة كيما يتمكن من تنظيم نظرياته المستعرضة بصورة منهجية تناسب عصره.
الصانع الأمهر
ومن يكون هذا الصانع الأمهر سوى «توماس ستيرنز إليوت»، الذي - إلى جانب جيمس جويس وغيره - أصبح من رواد الحداثة في الأدب، برغم كونه - على حد قول لويس عوض - شاعرا رجعيا وناقدا رجعيا!
وقد تحدثت مع صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد - الكاتب والمترجم الأمهر، والمرجع العربي في إليوت - عن إليوت وألف ليلة وليلة، فأبدى انزعاجه الشديد لذلك الموضوع، رغم أن الأمر هو قبل كل شيء أمر موازنة ومقارنة وليس أمر تأثر وتأثير قد لا يكون له محل في المقام الأول. وعلى ذلك فسوف أقتصر هنا على ترجمة مقالة «جون هيث-ستابس» القصيرة عن الموضوع، وهي التي اختتمت كتاب البروفيسور كراكشيولو الذي اعتمدت عليه أساسا في موضوع ألف ليلة وليلة والأدب الإنجليزي، والمقال بعنوان: «ملك الجزر السوداء وأسطورة الأرض الخراب»: «سوف نذكر القارئ - دون الدخول في تفاصيل مجموعات سردية متشابكة - أن تكملة قصة الصياد والجني هي حكاية الملك الشاب صاحب الجزر السوداء. وتتعلق تلك الحكاية بسلطان يخرج في طلب ما يبحث عنه، فيصادف أولا بحيرة مليئة بسمك أبيض وأحمر وأصفر وأزرق، ثم يعثر على قصر مهجور به هذا الملك المسحور، الذي وقع ضحية زوجته الساحرة الشريرة التي حولت نصفه الأسفل إلى رخام أسود. وكان الملك قد فاجأ زوجته مع عبد أسود كريه، فأشهر عليه السيف وتركه معتقدا أنه قد قتله، ولكنه كان حيا وإن لم يعد قادرا على الحركة أو الكلام. وقد أقامت الزوجة ضريحا في القصر ادعت أنه لابن عم لها، وأودعت فيه عشيقها لترعاه. ولما يثور الملك الزوج على ذلك، تعرف هي من أوقع بعشيقها فتسحره إلى حجر من وسطه إلى أسفله. وحولت كذلك مملكته إلى جبال أربعة بينهم بحيرة سحرت فيها سكان المملكة إلى السمك الذي سبق ذكره: السمك الأبيض هم المسلمون، والأحمر الزرادشتيون، والأصفر اليهود، والأزرق المسيحيون. ويعمل السلطان على مساعدة الملك المسحور، فيقتل العبد ويرغم الملكة الشريرة على فك السحر عن زوجها الملك الشاب وإعادة المملكة وسكانها إلى حالتهم الطبيعية. وتعيد الساحرة الملك إلى حالته الأولى برش ماء عليه من قارورة صغيرة. ويتم التخلص من العبد الأسود والملكة الساحرة.»
ويبدو لي أن هناك بعض التشابه المثير للاهتمام بين تلك الحكاية وبين الرومانسات الأوروبية في العصور الوسطى التي تتناول الكأس المقدسة. ففي تلك الرومانسات، يمر البطل بالأرض الخراب، مملكة الملك الصياد. وكان ذلك الملك قيما على أثرين مقدسين: الكأس المقدسة (وهي الكأس التي استخدمها المسيح في العشاء الأخير، والتي استخدمت بعد ذلك لتلقي دمه وهو ينزف على الصليب)، والحربة التي طعن بها الحارس الروماني جانب المسيح. ونتيجة لخطأ ارتكبه الملك، تحل عليه المصائب، فقد طعنته الحربة المقدسة في فخذيه فأصبح مقعدا لا يستطيع حراكا. وفي الوقت ذاته، ضرب البوار مملكته فأصبحت أرضا خرابا. ويتمكن البطل - عن طريق استخدام الصيغة الشعائرية الصحيحة - من إعادة الملك إلى طبيعته الأولى ورد الخصوبة إلى أرض بلاده.
وقد ألمحت جيسي م. وستون، في كتابها «من الطقوس إلى الرومانس» (وقد أصبح الكتاب مشهورا بوصفه قد ألهم ت. س. إليوت تركيبة قصيدته «الأرض الخراب») إلى أنه يمكن إرجاع هذه الأساطير المسيحية إلى أنماط طقوس الخصب ما قبل المسيحية، من النوع الذي افترضه كتاب فريزر «الغصن الذهبي» وعلينا أن نفترض وجود مرحلة بدائية من الثقافة تتركز فيها تلك الرمزية في شخص الملك المقدس، الذي يحكم بناء على علاقته بالإلهة التي تضفي أيضا الحياة على أرضه. وتكفل خصوبة الملك المستمرة خصوبة الأرض، وحين تضعف خصوبته، لا بد من قتله وإحلال آخر محله. وهذا الآخر لا بد من اعتباره نفس الملك وقد ولد من جديد أو ابتعث حيا. وهكذا فنحن نجد في الشرق الأدنى القديم مفهوم الإله الذي يموت، سواء كان آتيس أو أدونيس أو أوزوريس. وهو حبيب الإلهة أو زوجها أو ابنها، وهي التي تحزن حين يموت مع موت السنة وتفرح عند عودته مع عودة الخصب في الربيع. وقد ألمع «روبرت جريفز» في كتابه «الإلهة البيضاء» - إذ أقام تحليله على أساطير عدد من الثقافات المختلفة - إلى نمط توزع فيه الإلهة حبها بين قرينين، إله السنة الذاهبة، وإله السنة القادمة، حيث ينتصر ويخسر كل منهما مرة بالتناوب في صراع شعائري.
فإذا نظرنا إلى الموضوع من ذلك الجانب، فبوسعنا أن نرى في الملك الصياد، وفي تحول ملك الجزر السوداء إلى حجر، رموزا واضحة، إلى حد كبير، للعجز الجنسي الذي يؤدي بدوره إلى انتقال العجز إلى أرضهما. وفي القصة العربية، تصبح الإلهة هي الملكة الشريرة التي تنقل حبها إلى قرين جديد يثخن بالجراح وتحزن هي عليه كالحزن على أدونيس وأوزوريس. وفي قصص الكأس المقدسة، يبدو أن الإلهة تتمثل في «الصبية الشوهاء» التي تظهر في الكثير من تلك القصص كرسولة الكأس أو حاملته، والتي يتوحد قبحها مع جدب الأرض الخراب. ولا شك في أن قيام الملكة في القصة العربية برش الماء يعكس طقسا من طقوس در المطر؛ وقارورتها غير ذات شأن بالمقارنة بالكأس المقدسة. وقد كان المعلقون المسيحيون مترددين نوعا ما في رؤية رمزي الأنثى والذكر في الكأس المقدسة والحربة، على التوالي. أما أنا فلا أرى ما يزعج في الفكرة التي تنادي بأن رموز وهب الحياة الإيجابية لثقافة في دورها البدائي يمكن أن تلبس قيما جديدة وتصطبغ بصبغة روحية في سياق ديني أكثر علوا.
ويمثل السلطان أو الفارس الذي يخرج ساعيا، الملك الجديد أو الذي يولد ثانية والذي يعيد الخصب إلى الأرض اليابسة. وفي كلتا القصتين، لا يحل السلطان ولا الفارس محل الملك، كما نظن أنه يفعل في الأسطورة الأصلية؛ بل هناك في الحكاية العربية ما هو عكس ذلك، حيث يقوم السلطان الساعي في خاتمة المطاف بتبني ملك الجزر السوداء.
وأعتقد أنه لا بد من اعتبار أن كلا من قصص الكأس المقدسة والحكاية العربية يستمدان من أصل مشترك. فكل منهما يتضمن ملامح يفتقدها الآخر، وإذا اجتمعا معا يلقيان الضوء على نمط الطقوس الأسطورية المفترضة. وتعتقد جيسي واطسن أن النمط الطقوسي الذي لمسته وراء قصص الكأس المقدسة قد جلبه إلى الغرب التجار الفينيقيون في الأزمنة المبكرة، بيد أن هذا الرأى يجب اعتباره اليوم تبسيطا للأمور. فعلى وجه الخصوص، ليس هناك دليل حقيقي على أن تجار القصدير الفينيقيين قد وصلوا إلى بريطانيا على وجه الإطلاق. ومع ذلك، يمكن أن تكون فينيقيا القديمة، حيث راجت عقيدة الإلهة البحرية «أترجاتيس» أو «درسيتو»، هي نقطة البداية لكل تلك الأساطير.
ولقد قيل كثيرا بطبيعة الحال إن قصص الرومانسات الغربية في القرون الوسطى قد تضمنت مادة ذات أصل عربي. وكثيرا ما حدث ذلك، بيد أن العناصر الرئيسية في أساطير الكأس المقدسة تعود فيما يبدو القهقرى إلى الأعراف الكلتية. وواقع أن المملكة التي يحكمها الملك في القصة التي نشير إليها هنا تسمى الجزر السوداء، يفتح إمكانية هامة: هل لدينا هنا حالة قصة غربية تهاجر ناحية الشرق؟ هل يمكن أن تكون الجزر السوداء بأي حال هي إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا - التي كان وجودها معروفا - ولو من بعيد - لدى الجغرافيين العرب؟»
وتجدر الإشارة أيضا إلى ما ذكره الباحث كراكشيولو من تأثر إليوت بجوزيف كونراد واهتماماته العربية والبوذية، مما دعاه إلى وضع اقتباس من رواية كونراد قلب الظلمات لقصيدته «الأرض الخراب»، قبل أن يحذف عزرا باوند الاقتباس. وقد ذكر ستيفن سبندر في كتابه عن إليوت أن إليوت قال له إنه كان يفكر - وقت كتابته للأرض الخراب - في اعتناق البوذية.
ونشير أيضا إلى أن إليوت قد كتب وهو في السادسة عشرة من عمره قصة قصيرة عنوانها «قصة حوت» بها أصداء مماثلة لرحلة السندباد البحري الأولى، إذ إنها تدور حول بحارين غرقت سفينتهما وعاشا فوق ظهر حوت هائل الحجم!
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الأمريكي
وقد انتقلت الترجمات الإنجليزية الأولى لألف ليلة وليلة إلى العالم الجديد أيضا، إلى الولايات المتحدة التي كانت في دور التكوين والامتداد، وحيث سادت اللغة والثقافة الأنجلو سكسونية. فقد قضى الأمريكيون القرون الأولى بعد استيطانهم العالم الجديد في ظروف طبيعية وسياسية صعبة جعلتهم يعتمدون ثقافيا على دول المنشأ التي جاءوا منها. ومنذ القرن الثامن عشر، بعد أن أعلنت الولايات المتحدة الاستقلال عام 1776م، بدأت طلائع الشعب الأمريكي المتميز تخط السطور الأولى في تاريخ الأمة الأمريكية الجديدة.
ولذلك نجد أن بدايات القصة والرواية في أمريكا قد بدأت متأخرة، فأول روائي أمريكي نبغ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو «جيمس فينيمور كوب» (1789-1851م). أما من تميز بنشر الولع بالشرق والعرب فهو الكاتب «واشنطون إرفنج» (1783-1859م). وقد ولد إرفنج في نيويورك، وتوفي بها، ولكنه قضى معظم حياته متنقلا مرتحلا في الكثير من البلدان. وقد قادته رحلاته إلى إسبانيا، حيث هام بالآثار والجو العربي والإسلامي هناك، خاصة في الأندلس بالجنوب. وزار غرناطة، وأقام في قصر الحمراء فيها بإذن من السلطات في الفترة من مايو إلى يوليو 1829م. وهناك، استمع إلى قصص «الحكائين» الأندلسيين، ويذكر منهم اسم «ماتيو خيميني»، الذي قص عليه حكايات استمع إليها من جده الذي ولد قبل ذلك بمائة عام، فحكى له عن أسرار السحر العربي والكنوز المخبوءة وقصص الحب العذري، وغيرها من التراث العربي الأندلسي. وكل هذه الموضوعات قد تدوولت منذ أيام الوجود العربي في إسبانيا، وفي قصص ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والأساطير والملاحم العربية، التي تسللت كلها إلى الرومانسات وكتب الأمثولات والقصص الشعرية في إسبانيا وجنوب فرنسا إبان ظهور اللغات القومية التي تفرعت عن اللغة اللاتينية.
وقد كتب إرفنج كثيرا عن العرب والإسلام، وله كتاب ضخم عن سيرة النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وكتاب آخر عن سقوط غرناطة. ولكن ما يعنينا هنا هو كتابه الذي جمع فيه القصص والحكايات والأساطير العربية التي جاد بها خياله القصصي، تحت عنوان «حكايات قصر الحمراء» الذي صدر في طبعته النهائية عام 1851م، وتشتمل حكاياته على الكثير من القصص والحبكات الموجودة في ألف ليلة وليلة، ومثال ذلك قصة «المنجم العربي»، ويقص فيها إرفنج عن ملك عربي في غرناطة يدعى ابن حافظ، كان في حروب دائمة مع الملوك المنافسين المجاورين له. ويأتيه يوما طبيب فيلسوف ساحر من مصر يدعى إبراهيم بن أبي أيوب، ويزعم أنه كان يعيش في الجزيرة العربية عند مهبط الإسلام، وأنه قد صاحب الجيش العربي الذي فتح مصر، وبقي فيها بعد ذلك حيث تعلم فنون السحر والعلوم الخفية على يد الكهنة المصريين، مما مكنه من اكتشاف إكسير الحياة! ويتخذ الساحر العربي لنفسه كهفا رحيبا على التل الذي أقيم فيه بعد ذلك قصر الحمراء وجنة العريف، به صالات غطاها بكتابات فرعونية ورسوم الأفلاك والنجوم. وأصبح لتوه من مستشاري ملك غرناطة وخلصائه، ويخترع له شيئا مماثلا لما رآه مرة في مصر ليحمي البلاد من الأعداء. فيشيد، بمعونة كتاب فرعوني سحري استقدمته له الجن، برجا عاليا فوق قصر الملك من حجارة مجلوبة من أهرامات مصر! وكان في البرج فتحات تطل على جميع الجهات المحيطة به، وعليه تمثال من البرونز لفارس عربي على جواده، وفي يده درع، وفي اليد الأخرى رمح. فإذا كان ثمة خطر ينذر البلاد بغزو وشيك، اتجه التمثال ناحية الجهة المتوقع أن يأتي الغزو منها، وأرخى رمحه في ذلك الاتجاه. ووضع الساحر موائد في البرج، خصص لكل مائدة بلدا من البلاد المحيطة بغرناطة والتي كانت في عداء وحروب مع ملكها، وعلى كل مائدة تماثيل خشبية تمثل جيش كل بلدة من تلك البلدان.
وطلب المنجم العربي من الملك أن يحضر إلى البرج ليشاهد الاختراع العجيب. ويلمس الملك الغرناطي الأعجوبة بنفسه، فقد كان ثمة جيش من الأعداء على أهبة غزو بلاده، فإذا بالفارس البرونزي يتجه ويصوب رمحه تجاه منطقة تدعى «لوبي» كانت في عداء مع غرناطة، فيعلم الملك أن جيشا منها يغزو بلاده. ويرشد ابن أبي أيوب الملك إلى ما يجب عمله، إذ يذهب به إلى المائدة التي تمثل لوبي، فيجد التماثيل الخشبية الصغيرة تصطخب عليها كأنها في معمعة القتال، وما كان على الملك إلا أن يتناول الرمح ويعمل الضرب في تلك التماثيل حتى تصيب الضربات الجبش الحقيقي في مقتل، وتنزل به الهزيمة حتى قبل أن يدخل إلى حدود غرناطة. ويوفر هذا الاختراع الأمن والطمأنينة للملك أبي حافظ ، وأصبح أعداؤه في خشية منه بعد أن تكررت هزيمة الجيوش التي وجهوها إلى بلاده دون أن يعلموا السر في ذلك. وطلب الملك من الساحر العربي أن يطلب ما يشاء، فيتصنع الزهد ولا يطلب سوى المزيد من التوسع في غرف كهفه، وإنما يزودها بجميع وسائل الراحة والرفاهية، ويعلق في أبهائها قناديل البلور وصحائف الفضة، حتى أصبحت «الصومعة» كما كانت تسمى كهوف الساحر، تضارع قصور الملك بل وتفوقها.
وذات مرة، يعود جيش الملك الغرناطي بأسيرة إسبانية ذات جمال خارق، فيتنازع عليها الملك نفسه وقائد جيوشه «رادوفان»؛ ولكن الملك يستحوذ عليها ولا يستطيع لها فراقا. ويحذره الساحر العربي منها، وأنها قد تكون مكيدة من جيرانه الإسبان للإيقاع به، ويطلب إلى الملك أن يهديها له! ويرفض الملك غاضبا، ويهب كل وقته للاستمتاع بصحبة الفتاة الإسبانية والاستماع إلى الموسيقى التي تعزفها. ويقيم الملك الاحتفالات والمهرجانات من أجل تسلية حبيبته، وينفق في ذلك الأموال الطائلة . وينتهي غضب قائد الجيش على ملكه بأن يدبر القائد تمردا لطرد الملك والاستيلاء على الحكم، ولكن الملك يتمكن بعد جهد جهيد من إخماد التمرد والقضاء على الخارجين عليه. وبعدها يطلب إلى الساحر أن يخترع له شيئا يتمكن بموجبه من إحباط الفتن الداخلية أيضا قبل وقوعها. فيحكي له ابن أبي أيوب قصة مملكة «إرم» ذات العماد والجنان التي كانت فيها والكنوز التي احتوت عليها، ويقول للملك إنه سيشيد له مدينة مماثلة بالسحر الذي بين يديه، وله مطلب وحيد: هو أن يحوز أول دابة تدخل المدينة الجديدة بكل ما عليها.
وعند افتتاح المدينة السحرية الجديدة، يفاجأ الملك بأن أول الداخلين إليها هو حصان يحمل الفتاة الإسبانية التي يعشقها. ويطالب الساحر العربي بالحصان وما يحمله، تنفيذا لوعد الملك له. ولكن الملك يثور ويدرك أن الساحر قد خدعه ويرفض أن يعطيه الأميرة الإسبانية، التي كانت ترقب كل ذلك وعلى شفتيها ابتسامة ماكرة. ويقبض الساحر العربي على يد الأميرة، ويضرب الأرض بعصا سحرية في يده، فتنشق ويختفي هو والأميرة في باطنها، كما تختفي المدينة الجديدة التي أقامها الساحر، وسط دهشة الملك ورعبه. ومع اختفاء المنجم، يزول التمثال البرونزي الذي كان ينذر بقدوم العدو، ويروح كل أثر للموائد التي عليها التماثيل الخشبية التي كانت تمكن ابن حافظ من هزيمة أعدائه بسهولة. ويعود الأمر إلى سابق عهده بعد أن شعر أعداء مملكة غرناطة أن قوة ابن حافظ قد زالت، ويضطر إلى منازلتهم في ميادين القتال كما كان يفعل في الماضي. أما كهوف الساحر العربي فقد اختفت أيضا باختفائه، ولم يبق منها غير المدخل الظاهري، الذي شيد مكانه فيما بعد قصر الحمراء وحدائقه الغناء.
وكما يرى القارئ، عمد إرفنج إلى خليط من القصص الشعبية وقصص ألف ليلة وليلة لإخراج مثل قصته هذه. ونحن نرى أحدوثة التمثال الذي ينبئ بقدوم الأعداء في قصة «حكاية الحكماء الثلاثة» بألف ليلة وليلة، كما ورد ذكره أيضا في القصص العربية التي قيلت عن الإسكندر ذي القرنين، وتسربت إلى القصص الرومانسي الغربي.
وهناك أيضا «إدجار ألان بو» (1809-1849م) الذي تأثر بحكايات ألف ليلة، وأشعلت خياله في ابتكار القصص الخيالية وقصص الأشباح والجريمة. وله قصة بعنوان «الليلة الثانية بعد الألف» سنتناولها بالتفصيل في فصل آخر من هذا الكتاب.
أما مارك توين (1835-1910م)، فإن اهتماماته بالأدب الشعبي الأمريكي، قادته بالضرورة إلى حكايات ألف ليلة وليلة. وكان توين يمزج في كتبه بين كل شيء وبين النغمة الساخرة من كل شيء؛ وها هو أشهر شخصياته «هاكلبري فن» يقول في الرواية التي تحمل نفس الاسم مخاطبا صديقه العبد جيم: «كان عليك أن ترى المعلم هنري الثامن في أوج ازدهاره. كان مزدهرا؛ فقد كان يقترن بزوجة جديدة كل يوم، ثم يقطع رأسها في صباح اليوم التالي. وكان يقوم بذلك على نحو طبيعي كأنما هو يطلب بيضا لإفطاره. يقول «هاتوا لي نل جوين.» فيحضرونها له. وفي الصباح التالي: «اقصفوا رقبتها»، فيقصفون رقبتها. ويقول: «أحضروا جين شاير.» وها هي أمامه. وفي الصباح التالي «اقصفوا رقبتها.» فيقصفون رقبتها. «هاتوا روزامون الحسناء.» وتجيب روزامون الحسناء النداء. «اقصفوا رقبتها.» وكان يجعل كل واحدة منهن تقص عليه حكاية كل ليلة؛ واستمر على هذا المنوال حتى أتم ألف حكاية وحكاية، ثم جمع كل تلك الحكايات في كتاب وأسماه «كتاب يوم القيامة»، وقد كان عنوانا مناسبا يصف الحالة.»
وكيما نعرف قدر رواية هاكلبري فن، يكفي أن نقتبس ما قاله عنها إرنست همنجواي: «كل الأدب الحديث يأتي من كتاب واحد لمارك توين. إنه أفضل كتبنا قاطبة. كل الكتابات الأمريكية تنبع منه. لم يكن هناك شيء قبله. لم يأت بعد شيء مثله.»
أما شاعر الشعب الأمريكي، والت ويتمان، فقد تعرض للكتاب منذ حداثته. فحين كان في الحادية عشرة من عمره، ترك المدرسة والتحق بالعمل كاتبا في مكتب محاماة جيمس كلارك وابنه إدوارد في نيويورك. وهو يذكر تلك الفترة من حياته بعرفان قائلا: «كان إدوارد يساعدني في تحسين خطي وفي كتابة العرائض، ثم قام بالحدث الأعظم في حياتي حتى تلك اللحظة، فقد اشترك لي في إحدى المكتبات المتنقلة. وبعدها استمتعت بقراءة الرومانسات من كل نوع - بدءا من «الليالي العربية» كل مجلداتها، وهي عمل مدهش. وبعدها، قصص من كل نوع، فطالعت روايات والتر سكوت واحدة بعد أخرى، وقصائده الشعرية.» أما الإشارات العربية والإسلامية في شعر ويتمان وكتاباته فهي جديرة ببحث طويل مستقل.
ومن الأدباء الأمريكيين البارزين الذين تأثروا بالكتاب العربي الروائي المشهور «هرمان ملفيل» (1819-1891م). وقد أعدت الباحثة «دوروثي فنكلستاين» رسالة جامعية عن الآثار الشرقية في أعمال ملفيل، بينت فيها بوضوح أثر ألف ليلة وليله فيها. وقد استبان ذلك الأثر منذ أول أعمال ملفيل المنشورة، وهو كتاب مقالات عنوانه «شذرات من مكتبي» صدر عام 1839م. ومن المرجح أن الكاتب قد قرأ ألف ليلة وليلة لأول مرة في صباه في مكتبة ولاية نيويورك، في ترجمة جوناثان سكوت ذات الستة مجلدات، التي نشرت في أمريكا عام 1826م.
وقد اشتهر ملفيل بكتبه ورواياته التي تدور في البحار الجنوبية في آسيا وغيرها من المناطق القصية، كما يظهر في كتابيه «تايبي» و«أومو». بيد أنه في روايته «ماردي»
MARDI ، الصادرة عام 1849م، يعالج موضوعا عربيا يعيد إلى الأذهان أجواء ألف ليلة وليلة. وهو قد كتب الرواية كي ينقل «معاني خفية» في صورة رومانسة أليجورية، استمد وحيها من استكشاف متجدد خاص به لحكايات ألف ليلة. ففي الرواية نجد أسماء ذات نكهة عربية أسطورية: ييلا، تاجي، يومي، بابالانجا، عليمه. ويذكر النقاد أنه حتى اسم ماردي يقصد به الكلمة العربية «أرضي» وعليه كان يجب ترجمة اسم الرواية إلى «مارضي»؛ وييلا تعيش في أرض تسمى
ARDAIR ، مما قد يعني أرض الهواء.
ويبدو من طريقة رسم تلك الأسماء بالإنجليزية، أنه استمد الطريقة من ترجمة إدوارد لين لألف ليلة وليلة، حين رسم الأسماء بطريقة معينة خاصة به. فمثلا، كان قارئ الإنجليزية متعودا أن يقرأ المقابل الإنجليزي لكلمات مثل وزير - سلطان - القاهرة - دمشق، على النحو التالي:
VIZIER - SULTAN - CAIRO - DAMASCUS ؛ بيد أن «لين» كتبها على النحو التالي:
WEZEER - SOOLTAUN - MASR - EL SHAM ، وهو ما لم يتقبله القراء بسهولة، فأعادها الناشرون إلى الطريقة المعروفة بعد ذلك. ويبدو أن ملفيل كان يستخدم الطبعة الأولى من ترجمة لين بطريقته الفريدة في رسم الكلمات العربية . وقد واكب تأليفه لرواية «ماردي» ظهور مقالات عدة عن ألف ليلة وليلة في مجلة «عالم الأدب» خلال الفترة من فبراير إلى مايو 1848م، مما أسهم في تشكيل أفكار ملفيل في تلك المدة.
وماردي رواية طويلة غريبة، تبدأ بداية تماثل بدايات «تايبي» و«أومو»، ثم تبدأ في الفصل الثلاثين تتخذ شكل الرومانسات. وتبدأ بقصة البحار الذي يهجر سفينته ويتجه إلى أرخبيل ماردي، حيث يصبح اسمه «تاجي»، ويصادف هناك «ييلا» ويعشقها ويقضي معها فترة في هناء غامر. ثم تختفي حبيبته على نحو مفاجئ، فيخرج في رحلة سعي بحثا عنها، في صحبة رهط ممن قابلهم في ماردي: الملك مديا - بابالانجا - يوومي - محيي. ويجوب تاجي وصحبه بحارا وبحارا، ويمرون بعشرات من الجزر العجيبة، ويصادفون فيها أقواما وأقواما يعيشون حيوات عجيبة ولهم أسماء تماثل الأسماء العربية. ولكن تاجي لا ينجح في العثور على حبيبته، وتنتهي الرواية بعودته إلى ماردي، ثم خروجه هائما على وجهه في البحر العريض اللامتناهي.
وحكاية السعي وراء الحبيبة من الموضوعات المتكررة في ألف ليلة وليلة. وتذكر الباحثة فنكلستاين أن ملفيل قد تأثر في ماردي بحكاية «تاج الملوك والأميرة دنيا»، التي تقص خروج تاج الملوك بحثا عن حبيبته دنيا، ومغامراته في سبيل التقرب منها وكسب ودها. وأضيف أن قصة ماردي تتشابه أيضا مع حكاية حسن البصري، وهي من حكايات رحلات السعي الشائقة، وفيها يتزوج حسن البصري من حبيبته ابنة ملك الجان ويأخذها معه إلى بلاده، ولكنها تنجح في الوصول إلى الريش الذي يمكنها من الطيران عائدة إلى بلادها القصية. ولما يجد أن زوجته قد اختفت، يخرج في رحلة سعي لاستعادتها، يلقى فيها أهوالا جساما. بيد أن الفرق في قصص ألف ليلة هو نجاح المحبين في الوصول إلى أحبائهن، بينما يفشل تاجي في الوصول إلى حبيبته ييلا في رواية ملفيل.
وقد فسر النقاد رحلة السعي التي يقوم بها «تاجي» بوصفها البحث عن المطلق، عن سر الحياة والوجود، وهو الموضوع الذي عاد إليه ملفيل بعد ذلك في صورة أعمق وأدق وفي حرفية روائية ناضجة في رائعته «موبي ديك».
وتأثر ملفيل في موبي ديك برواية «الواثق»، التي كتبها الإنجليزي وليام بكفوررد على نمط ألف ليلة وليلة. فالواثق يخالف دينه وينخرط في ممارسات شيطانية مشعوذة، وهو بهذا يشبه «إهاب» بطل موبي ديك في هوسه الشيطاني بفكرة متسلطة قهرية تدفع حياته وأفعاله. وينتهي الواثق وإهاب نهاية مدمرة. بيد أنه لا بد أن نشير إلى أن موبي ديك رواية ذات أبعاد عميقة، ولها تفسيرات عدة لا يمكن حصرها في جانب واحد.
وقد استمر الأدباء الأمريكيون في مطالعة كتاب ألف ليلة وليلة والتأثر به إلى يومنا هذا. ونحن نجد ذلك في أصداء متناثرة هنا وهناك في كتاباتهم. وقد استمر ذلك الأثر واضحا حتى عند عدد من الروائيين المعاصرين، وسوف نتناول بعضهم في فصل «وما يزال مسلسل ألف ليلة وليلة مستمرا».
الترجمات إلى اللغات الأوروبية الأخرى وأثرها
(1) ألف ليلة واللغة الفرنسية
ذكرنا من قبل ترجمة جالان بوصفها أول نص مطبوع لألف ليلة وليلة. وقد ظل هذا النص هو السائد في الأدب الفرنسي إلى أن قام الدكتور «ماردروس» بترجمته للكتاب. وقصة حياة ماردروس عجيبة في حد ذاتها؛ فجده كان من مواطني القوزاق بروسيا، وحارب مع القائد المسلم شميل ضد ضم الروس للقوزاق، وبعد هزيمة القوزاق، انتقلت أسرة ماردروس إلى مصر، حيث ولد جوزيف ماردروس في القاهرة عام 1868م، وترعرع وسط بيئتها العربية. وبعد ذلك، هاجر ماردروس إلى فرنسا ودرس الطب ثم عمل مفتش صحة في وزارة الداخلية الفرنسية، وقضى الكثير إبان عمله ذاك في الجزائر. وقد أصدر عددا من الكتب ذات الموضوعات الشرقية، بيد أن اسمه ارتبط بترجمته لألف ليلة وليلة، التي صدرت بين الأعوام 1899-1904 في ستة عشر جزءا. وقد فاخر ماردروس بأن ترجمته هي أدق وأكمل ترجمة حرفية للكتاب، وإن كنا قد أشرنا إلى مبالغاته الإيروتيكية في فصل آخر من كتابنا هذا. وقد استقبلت الأوساط الفرنسية الترجمة الجديدة استقبالا حسنا، ربما لأنها الأولى بعد ترجمة جالان، أوسع فيها الإنجليز الكتاب ترجمات وتعليقات ذاع صيتها. وكانت تلك الترجمة هي التي اعتمد عليها الكثير من الأدباء الفرنسيين الذين عاصروا صدورها وما بعد ذلك، ومنهم أندريه جيد ومارسيل بروست. وكان ماردروس من الذكاء أن أهدى الترجمة إلى ذكرى «ستيفان مالارميه» الشاعر الفرنسي المشهور، كما أنه أدرج اهداءات في المجلدات المتتالية لرموز الأدب الفرنسي المعاصر، ومنهم بول فاليري وريمي دي جورمون وأناتول فرانس.
وقد زعم ماردروس أول الأمر أنه يترجم الكتاب عن نص بولاق الذي اعتبره أفضل النصوص العربية. ولكن، حين بدأ النقاد يلاحظون اختلافات بين ترجمته وبين النص البولاقي العربي، غير ماردروس قوله، وذكر أنه يترجم في الواقع عن مخطوط جزائري يعود إلى القرن السابع عشر، ادعى أنه الأصل لطبعة بولاق المصرية المطبوعة. ولكن ظهر بعد ذلك أنه لا وجود لمثل ذلك المخطوط وأن ماردروس اخترعه اختراعا، وأنه كان يترجم القصص المتناثرة في المخطوطات المتعددة لألف ليلة، ويزيد عليها من خياله واستطراداته، خاصة ما يتصل بالنواحي الإيروتيكية، كما أبرزنا في الفصل الخاص بذلك. ومن الإضافات الغريبة التي أوردها ماردروس في ترجمته مثلا، السؤال الذي وجهه الملك شهريار إلى شهرزاد بعد حكاياتها عن الحيوانات، حين يسألها عن اللغة التي تستخدمها تلك الحيوانات وهي تتحدث، فتجيبه وكلها ثقة: «في لغة عربية فصيحة ناصعة يا مولاي!» وهذا من ألاعيب المترجم الكوميدية، إذ لا يرد ذلك في أي من مخطوطات ألف ليلة.
وفي عام 1923م، عرض الناشر البريطاني «جوناثان كيب» على المغامر المعروف ت. إ. لورانس، المشهور بلورانس العرب، أن يقوم بترجمة نص ماردروس الفرنسي إلى اللغة الإنجليزية؛ ووافق لورانس على ذلك ولكن المشروع لم يتحقق، وقام بالترجمة بعد ذلك «باويز ماترز».
وقد خلفت قصص ألف ليلة وليلة أثرها في الأدباء الفرنسيين منذ ظهورها عام 1704م، وساعدت على دفع الولع بالشرق والعرب والإسلام، الذي بلغ ذروته بغزوة نابليون لمصر، واصطحابه لجمهرة من العلماء والدارسين الذين أجروا مسحا عاما تجلى في سفر «وصف مصر». وقائمة الكتاب الذين تأثروا بألف ليلة من الفرنسيين طويلة، منهم «فولتير» في قصته «الصديق»
ZADIG
التي ترد فيها قصة الاستدلال المنطقي الذي قام به الأمراء الثلاثة في حكاية «أبناء ملك اليمن» في ألف ليلة وليلة، إضافة لموضوع الكتاب على وجه العموم. وقد أثرت حكاية ألف ليلة وليلة المذكورة - عن طريق قصة فولتير - في المقالة التي كتبها ت. ه. هكسلي عام 1881م بعنوان «أسلوب زاديج: التنبؤ الاسترجاعي كوظيفة علمية».
أما تأثر الكاتب العظيم بروست لخطى ألف ليلة وليلة فسنفرد له مكانا في فصل آخر.
وقد استمر التأثير للكتاب لدى الأدباء الفرنسيين إلى يومنا هذا، فقد ذكر الكاتب الفرنسي المعاصر «أوليفييه رولان»، بمناسبة حضوره معرض الكتاب بالقاهرة في يناير 2005، أنه قد استفاد من «ألف ليلة وليلة» في كتابة روايته «اختراع العالم»
L’INVENTION DU MONDE . (2) لغات أخرى
وقد ترجمت ألف ليلة وليلة إلى معظم اللغات الأوروبية بعد صدورها بالفرنسية لأول مرة، وإن كانت الترجمات قد تمت عبر لغات وسيطة وليست عن العربية الأصلية. وبعد ذلك ظهرت ترجمات مباشرة عن العربية في عدد من اللغات الأساسية.
ففي ألمانيا، صدرت ترجمات ألمانية للقصص إثر ظهورها بالفرنسية والإنجليزية. بيد أن الترجمات الأدبية الكاملة بدأت منذ عام 1825م على يد المستشرق «هابشت»، تلاها ترجمة «فايل» في الأعوام 1837-1841م فترجمة «هننج» أعوام 1895-1899م في 24 مجلدا. ولكن أشهر الترجمات الألمانية هي التي قدمها المستشرق «إينو ليتمان» (1875-1958م) وهي ترجمة كاملة للكتاب نقلا عن نص كلكتا الثاني مع بعض الاستعانة بنصوص ريتشارد بيرتون. وقد قام ليتمان بشيء غريب لم يسبقه إليه أحد، وهو أنه عمد إلى ترجمة أبيات الشعر التي فيها فحش إيروتيكي، لا إلى الألمانية القديمة، بل إلى اللاتينية! وقد ظلت ترجمته هي المعتمدة في الأوساط الألمانية إلى أن سمعنا مؤخرا بصدور ترجمة ألمانية جديدة عرضت في معرض فرانكفورت للكتاب 2004م بمناسبة احتفاء المعرض بالثقافة العربية. وقد تأثر عملاق الأدب جيتة بألف ليلة والكتب الشرقية والإسلامية عموما، وظهر ذلك واضحا في ديوانه الشرقي. ومن بين من تأثروا بالحكايات العربية من أدباء اللغة الألمانية غير جيتة هنريش هايني وتوماس مان وريلكة.
وفي إيطاليا، قام المستعرب «فرانشسكو جابرييل» بالإشراف على ترجمة لألف ليلة وليلة نقلا عن طبعة بولاق وكلكتا الثانية. ومن بين من اعترفوا بتأثير الكتاب فيهم الروائي المشهور ألبرتو مورافيا والروائي الشاعر السينمائي باولو بازوليني.
أما في روسيا، فقد ترجم ألف ليلة وليلة م. أ. ساليير، وظهرت الترجمة خلال الأعوام 1929-1933م، عن دار النشر «أكاديميا» تحت رعاية مكسيم جوركي الذي أقام دار النشر الحكومية تلك كي يوفر للأدباء والمترجمين الروس مجالا للنشر، وكيما - على رأى «روبرت إروين» - ينقذهم من الموت جوعا! ولكن أثر الليالي بالطبع يسبق تلك الترجمات، فنحن نجد أن الكاتب الروسي بوشكين قد أورد قصة تمثال البرونز الذي ينبئ عن هجوم الأعداء - وهي من قصص ألف ليلة وليلة - في حكايته القصيرة «الديك الذهبي» التي حولها رمسكي كورساكوف بعد ذلك إلى أوبرا مشهورة.
أما بالنسبة للغة الإسبانية، فالأمر يعود إلى ما قبل طبعة جالان، حيث كانت القصص تروى شفاهة منذ الوجود العربي والإسلامي في إسبانيا، إلى حد ظهور قصصها في كتب باللغة الإسبانية في مهدها الأول، كما رأينا تفصيلا في موضوع العصور الوسطى. وسوف نضرب أمثلة في فصل آخر على تأثر سرفانتس بالقصص العربي في قصصه وفي دون كيشوت؛ كما أن معاصره المسرحي الكبير «لوبي دي فيجا» (1562-1635م) له مسرحية معروفة اسمها «الصبية تيودور» مماثلة تماما لحكاية «الجارية تودد» في ألف ليلة وليلة. وهذا دليل واضح على ذيوع قصص ألف ليلة في إسبانيا منذ القدم.
وقد وجدت الترجمات الشعبية الإسبانية لقصص ألف ليلة وليلة منذ ظهورها، ومن الطبيعي أن تنتقل أيضا إلى بلدان أمريكا اللاتينية. وقد اشتهرت بعد ذلك ترجمة الإسباني «رافاييل كاسينوس - آسينس»، معلم بورخيس، لألف ليلة وليلة؛ وكذلك هناك ترجمة رائعة للمستشرق الإسباني «خوان فيرنيت». أما عن الأثر الذي تركته تلك القصص في أدب اللغة الإسبانية فبعيد الغور، ويستحق مبحثا مستقلا. ولكننا نشير هنا إلى أكبر المهتمين بألف ليلة وليلة وهو الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899-1986م)، الذي كتب عنها وأشاد بها كثيرا في كتبه ومحاضراته. وله عبارة شهيرة عنها صارت مثلا، مفادها أن ألف ليلة وليلة كتاب بلغ من الأهمية والشهرة واستقراره في وجدان الناس أنه حتى لا يهم أن يكون المرء قد قرأه! ومن المأثور عن بورخيس أنه لم يكن يسافر إلى مكان سيقضي فيه بعض الوقت إلا ويصطحب معه مجلدات ألف ليلة وليلة، بترجمة ريتشارد بيرتون ذات السبعة عشر جزءا. أما عن الروائي الكولومبي المشهور جابرييل جرسيه ماركيز، فيكفي أن نقتبس هنا ما قاله عن الكتاب في سيرته الذاتية «أن تعيش لتحكي» في معرض امتحان شفوى تقدم له: «سار كل شيء روتينيا إلى أن سألني عن الكتب التي قرأتها، ولفت نظره أنني قرأت كتبا كثيرة ومختلفة على الرغم من حداثة سني، وأني قرأت ألف ليلة وليلة في طبعة للكبار التي لم يحذفوا منها بعض المقاطع الصعبة التي أثارت حفيظة الأب أنجاريتا. أدهشني أنه كان كتابا مهما، لأنني اعتقدت دائما أن الكبار لا يمكنهم أن يصدقوا أن الجان يخرج من الزجاجات أو أن الأبواب تفتح بكلمة سحرية.» (ترجمة طلعت شاهين). ومن هنا نعرف كيف أثرت حكايات ألف ليلة وليلة في تشكيل أسلوب الواقعية السحرية عند ماركيز.
وقد تأثر أيضا بالقصص العربي شاعر غرناطة الأندلسي جرسيه لوركا، والشيلي العظيم بابلو نيرودا. ومما يذكر أن نيرودا كان يكتب في أول عهده في سنتياجو دي شيلي مقالاته وشعره في جريدة تسمى «علي بابا»!
الحكايات الكاملة
تعددت نسخ كتاب ألف ليلة وليلة، سواء في مخطوطاتها، أو طبعاتها العربية، أو ترجماتها المتعددة، حتى أصبح من العسير وجود تشابه كامل في مجموعات القصص التي تحويها تلك النسخ المختلفة، أو حتى في أحداث بعض الحكايات بعينها. وقد اشتد الجدل حول ذلك الموضوع نظرا لوجود الكثير من القصص والحكايات التي نجدها في ترجمة ما، ولا نجدها في الأصول العربية المتداولة في الدول العربية أو في ترجمات «كاملة» أخرى. وقد أدى ذلك الاضطراب إلى عدم وجود طبعة عربية شاملة تجمع كل القصص نقلا عن مخطوطات عربية أصلية، إلى أن خرجت إحدى الباحثات في أواخر العام 2004م مدعية أن ليالي ألف ليلة وليلة لا تتعدى 268 ليلة، وأن الليالي الباقية بما فيها من حكايات، إنما هي من تأليف أنطوان جالان! وهكذا أصبحت الليالي فرنسية وليست عربية! وقد ذكر ذلك مستنكرا الكاتب رشاد أبو شاور في مقالة بجريدة القدس العربي في أول ديسمبر 2004م، من أن «كلوديا أوت» التي توصف بأنها مختصة بالثقافة العربية وبأنها باحثة، قدمت في معرض فرانكفورت الأخير كتابا خلاصته أن حكايات «ألف ليلة وليلة» ليست عربية قح، وأن مؤلفها أرشيفجي فرنسي، اهتدى إلى الليالي وترجمها. وبعد أن رأى رواجها وانتشارها وتلقف الفرنسيين لها، وما عادت به عليه، انهمك في تأليف حكايات تلبي رغبة الذائقة الفرنسية المتلهفة على ما تمنحه الحكايات الشرقية من إثارة أحاسيس.» وقد رد الكاتب مشكورا دعوى الباحثة الفرنسية ببراهين أهمها الأمور العربية والإسلامية والشرقية الخالصة التي وردت في روح القصص والتي لا يمكن لغربي أن يلمسها ويدركها.
ويقع بعض العيب على الجانب العربي الذي أهمل ألف ليلة وليلة طويلا، ولم يعكف على جمعها وتقديمها بالشكل الذي اهتم به الغرب. وإني أرى أنه لا بد من حصر جميع القصص التي وردت في أي طبعة أو ترجمة لألف ليلة وليلة، وإخراج كتاب شامل بالعربية يتضمن كل تلك القصص عن أصل عربي يمكن الاطمئنان إليه، حتى يكون بين يدي القارئ العربي تلك الحكايات التي تدعى باليتيمة أو المنحولة، والتي وجدت أنا نفسي صعوبة كبيرة في تحديدها بل والعثور عليها.
وحتى أقرب إلى القارئ الكريم فكرة عن هذا الموضوع، سأورد فيما يلي قائمة بعناوين جميع الحكايات التي دخلت في كتاب ألف ليلة وليلة في أي من نسخها المخطوطة أو المطبوعة أو المترجمة، وسأستقيها أساسا من القصص التي ذكرتها الباحثة «ميا جيهارت» في كتابها المتخصص عن ألف ليلة وليلة، مع بعض التعديلات في العناوين كيما تتفق مع النسخ العربية، وتعديلات أخرى كذلك اقتضاها السياق التنظيمي للحكايات. وسأستعين أيضا بالترجمات الشاملة لريتشارد بيرتون و«بين» و«ماردروس»، مع محاولة ترجمة ما لم يمكن التحصل عليه من العناوين العربية. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من الترجمات يستخدم عناوين فيها إضافات تفسيرية وزيادات تعين القارئ على الإحاطة بالمضمون على نحو أوضح؛ وقد آثرت إيراد العناوين الموجودة في الطبعات العربية - حيثما وجدت - دون تلك الزيادات وبنفس الصورة التي وردت عليها: - بداية القصة الإطار. (أ)
حكاية الحمار والثور مع صاحب الزرع. (1) حكاية التاجر مع العفريت. (أ)
حكاية الشيخ الأول. (ب)
حكاية الشيخ الثاني. (ج)
حكاية الشيخ الثالث. (2) حكاية الصياد مع العفريت. (أ)
حكاية وزير الملك يونان والحكيم دوبان. (ب)
حكاية الملك سندباد. (ج)
حكاية الوزير الحسود. (د)
حكاية الأمير المسحور. (3) حكاية الحمال مع البنات. (أ)
حكاية الصعلوك الأول. (ب)
حكاية الصعلوك الثاني. (ج)
حكاية الحاسد والمحسود. (د)
حكاية الصعلوك الثالث. (ه)
حكاية كبيرة الصبايا. (و)
حكاية البوابة. (4) حكاية التفاحات الثلاث. (5) حكاية الوزيرين نور الدين وشمس الدين. (6) حكاية الأحدب. (أ)
حكاية النصراني. (ب)
حكاية المباشر. (ج)
حكاية الطبيب اليهودي. (د)
حكاية الخياط.
حكاية الأعرج مع مزين بغداد.
حكاية مزين بغداد مع إخوته الستة.
حكاية الأخ الأول الأكبر.
حكاية الأخ الثاني الحدار.
حكاية الأخ الثالث.
حكاية الأخ الرابع الأعور.
حكاية الأخ الخامس.
حكاية الأخ السادس. (7) حكاية أنيس الجليس وعلي نور. (8) حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وابنته فتنة.
حكاية غانم المتيم المسلوب.
حكاية العبد الأول صواب.
حكاية العبد الثاني كافور.
حكاية العبد الثالث بخيت. (9) حكاية الملك عمر النعمان مع ولديه شركان وضوء المكان.
زفاف نزهة الزمان إلى الملك شركان.
حكاية مقتل الملك عمر النعمان.
حكاية الصبية الأولى.
حكاية الصبية الثانية.
حكاية الصبية الثالثة.
حكاية الصبية الرابعة.
حكاية الصبية الخامسة.
حكاية العجوز.
حكاية الدير.
حكاية عزيز وعزيزة والملك سليمان.
حكاية الشاب عزيز.
حكاية الأميرة دنيا مع تاج الملوك.
حكاية كان ما كان ابن ضوء المكان.
مقتل العجوز ذات الدواهي. (10) حكاية الحيوانات والإنسان. (11) حكاية الزاهد والحمام. (12) حكاية الراعي التقي. (13) حكاية السلحفاة وطائر الماء. (14) حكاية الثعلب والذئب. (15) حكاية الصقر والحجل. (16) حكاية الفأرة وبنت عرس. (17) حكاية الغراب والسنور. (18) حكاية الثعلب والغراب. (أ)
حكاية القملة والفأر. (ب)
حكاية الصقر وضراري الطير. (ج)
حكاية العصفور والنسر. (19) حكاية القنفذ والورشان. (أ)
حكاية التاجر والسارقين. (20) حكاية اللص مع القرد. (أ)
حكاية النساج الأحمق. (21) حكاية الطاووس والعصفور. (22) حكاية علي بن بكار وشمس النهار. (23) حكاية قمر الزمان . (أ)
حكاية نعمة ونعم. (24) حكاية علاء الدين أبي الشامات. (25) حكاية علاء الدين والمصباح السحري. (26) حكاية علي بابا والأربعين حرامي. (27) حكاية الأمير أحمد والجنية بيري بانو. (28) حكاية حاتم الطائي. (29) حكاية معن بن زائدة. (30) حكاية معن بن زائدة والأعرابي. (31) حكاية بلدة لبطة. (32) حكاية هشام بن عبد الملك والشاب الأعرابي. (33) حكاية إبراهيم بن المهدي. (34) حكاية عبد الله بن أبي قلابة وإرم ذات العماد. (35) حكاية إسحق الموصلي. (36) حكاية الحشاش والسيدة النبيلة. (37) حكاية الخليفة المزور. (38) حكاية علي العجمي. (39) حكاية هارون الرشيد وأبو يوسف. (40) حكاية خالد بن عبد الله مع السارق المزيف. (41) حكاية جعفر البرمكي والفوال. (42) حكاية أبي محمد الكسلان. (43) حكاية يحيى بن خالد. (44) حكاية المزور. (45) حكاية المأمون والفقيه الغريب. (46) حكاية علي شار وزمرد. (47) حكاية جبير بن عمير والست بدور. (48) حكاية اليمني والجواري الستة. (49) حكاية هارون الرشيد والجارية وأبي نواس. (50) حكاية الرجل والصحن من ذهب. (51) حكاية اللص ووالي الإسكندرية. (52) حكاية الملك الناصر والولاة الثلاثة. (أ)
حكاية والي القاهرة. (ب)
حكاية والي بولاق. (ج)
حكاية والي مصر القديمة. (53) حكاية اللص والصيرفي. (54) حكاية والي قوص وقاطع الطريق. (55) حكاية إبراهيم بن المهدي والتاجر. (56) حكاية الصدقة. (57) حكاية الإسرائيلي الورع. (58) حكاية أبي حسان الزيادي والخراساني. (59) حكاية الصديق عند الضيق. (60) حكاية إفلاس رجل من بغداد. (61) حكاية المتوكل ومحبوبة. (62) حكاية وردان الجزار والمرأة والدب. (63) حكاية بنت السلطان والقرد. (64) حكاية الفرس الطائر. (65) حكاية أنس الوجود والورد في الأكمام. (66) حكاية أبي نواس والغلمان الحسان. (67) حكاية عبد الله بن معمر ورجل من البصرة. (68) حكاية العاشق العذري. (69) حكاية بدر الدين وزير اليمن والشيخ. (70) حكاية العاشقين في مكتب التعليم. (71) حكاية المتلمس وزوجته أميمة. (72) حكاية هارون الرشيد والسيدة زبيدة في البحيرة. (73) حكاية هارون الرشيد والشعراء الثلاثة. (74) حكاية مصعب بن الزبير وعائشة بنت طلحة. (75) حكاية أبي الأسود والجارية الحولاء. (76) حكاية هارون الرشيد والجاريتين. (77) حكاية هارون الرشيد والجواري الثلاث. (78) حكاية الطحان وزوجته. (79) حكاية المغفل والشاطر. (80) حكاية هارون الرشيد والسيدة زبيدة والقاضي. (81) حكاية النائم اليقظان. (أ)
حكاية الحرفوش والطباخ. (82) حكاية الحاكم بأمر الله. (83) حكاية كسرى أنوشروان والصبية. (84) حكاية السقاء وزوجة الصائغ. (85) حكاية خسرو وشيرين والصياد. (86) حكاية يحيى بن خالد والفقير. (87) حكاية جعفر بن موسى ومحمد الأمين. (88) حكاية سعيد بن سالم وأبناء يحيى بن خالد. (89) حكاية مكيدة امرأة مع زوجها. (90) حكاية مكائد النساء. (91) حكاية الإسرائيلية والشيخين. (92) حكاية جعفر البرمكي والشيخ. (93) حكاية عمر بن الخطاب والشاب الحسن. (94) حكاية المأمون والأهرام. (95) حكاية اللص وتاجر القماش. (96) حكاية مسرور السياف وابن القاربي. (97) حكاية هارون الرشيد وابنه. (98) حكاية الفقيه الذي أحب عن طريق السمع. (99) حكاية الفقيه الأحمق. (100) حكاية الفقيه الذي لا يعرف الخط ولا القراءة. (101) حكاية ملك خرج متخفيا. (102) حكاية عبد الرحمن المغربي وفرخ الرخ. (103) حكاية عدي بن زيد والأميرة هند. (104) حكاية دعبل الخزاعي والجارية وابن الوليد. (105) حكاية إسحاق الموصلي والمغنية. (106) حكاية ثلاثة عشاق حزانى. (107) حكاية عشاق بني طي. (108) حكاية العاشق المجنون. (109) حكاية إسلام الراهب. (110) حكاية أبي عيسى وعشقه لقرة العين. (111) حكاية الأمين وعمه إبراهيم بن المهدي. (112) حكاية المتوكل والفتح بن خاقان. (113) حكاية محاسن اختلاف الأجناس. (114) حكاية أبي سويد والعجوز الصبيحة. (115) حكاية علي بن طاهر والجارية مؤنس. (116) حكاية أبي العيناء عن امرأتين عاشقتين. (117) حكاية علي المصري والتاجر من بغداد. (118) حكاية رجل من الحجاج وامرأة عجوز. (119) حكاية الجارية تودد. (120) حكاية الملك المغرور وملك الموت. (121) حكاية الملك الغني وملك الموت. (122) حكاية ملك إسرائيلي جبار وملك الموت. (123) حكاية إسكندر ذي القرنين. (124) حكاية أنوشروان وتظاهره بالمرض. (125) حكاية القاضي الإسرائيلي وزوجته. (126) حكاية امرأة مسافرة إلى الحج وابنها. (127) حكاية العبد الأول المتعبد. (128) حكاية المتعبد الإسرائيلي وزوجته. (129) حكاية الحجاج بن يوسف والسجين المتعبد. (130) حكاية الحداد الذي يدخل يده في النار فلا تعدو عليه. (131) حكاية رجل إسرائيلي وسحابة. (132) حكاية المسلم الجريء والنصراني. (133) حكاية بنت الملك والطبيب. (134) حكاية النبي والفارس. (135) حكاية الملاح والشيخ. (136) حكاية إسرائيلي وملك الجزيرة. (137) حكاية أبي الحسن الدراج وأبي جعفر المجذوم. (138) حكاية ملكة الحيات. (أ)
مغامرات بلوقيا.
حكاية جانشاه. (139) حكاية السندباد البحري. (أ)
الرحلة الأولى. (ب)
الرحلة الثانية. (ج)
الرحلة الثالثة. (د)
الرحلة الرابعة. (ه)
الرحلة الخامسة. (و)
الرحلة السادسة. (ز)
الرحلة السابعة. (140) حكاية مدينة النحاس. (141) حكاية تتضمن مكر النساء وأن كيدهن عظيم (حكاية الملك وولده والجارية والوزراء السبعة). (أ)
حكاية الملك وزوجة وزيره. (ب)
حكاية التاجر وزوجته والدرة. (ج)
حكاية القصار وولده. (د)
حكاية اتهام غير عادل في زوجته. (ه)
حكاية التاجر البخيل والخبز. (و)
حكاية امرأة مع العاشقين. (ز)
حكاية ابن الملك والجارية الشنيعة المنظر. (ح)
حكاية قطرة العسل. (ط)
حكاية امرأة والدرهم الضائع. (ي)
حكاية عين الماء المسحورة. (ك)
حكاية ولد الوزير وزوجة الحمامي. (ل)
حكاية امرأة جميلة والشاب والعجوز. (م)
حكاية الصائغ والمغنية. (ن)
حكاية الرجل الحزين. (س)
حكاية التاجر الغيور وابن الملك. (ع)
حكاية الغلام ولغة الطير. (ف)
حكاية امرأة والمعجبين الخمس. (ص)
حكاية الدعوات الثلاث. (ق)
حكاية العقد المسروق. (ر)
حكاية الحمامتين. (ش)
حكاية الأمير بهرام وجارية الملك الدتما. (ت)
حكاية ابن التاجر والدار الحسنة المليحة.
حكاية ابن الملك والجارية والعفريت.
حكاية اللبن المسموم.
حكاية تاجر خشب الصندل والمكارين.
حكاية الأعمى وابن ثلاث وخمس سنين.
حكاية كيس النقود المسروق.
حكاية الثعلب والناس. (142) حكاية جودر الصياد وأخويه. (143) حكاية عجيب وغريب. (144) حكاية عتبة وريا. (145) حكاية طلاق هند بنت النعمان. (146) حكاية خزيمة بن بشر وعكرمة الفياض. (147) حكاية يونس الكاتب والوليد بن سهل. (148) حكاية هارون الرشيد والبنت البدوية. (149) حكاية الأصمعي والبنات الثلاث. (150) حكاية إبراهيم الموصلي وإبليس. (151) حكاية عاشقين من بني عذرة. (152) حكاية الأعرابي وزوجته الوفية. (153) حكاية عاشقين من البصرة. (154) حكاية إسحاق الموصلي وإبليس. (155) حكاية عاشقين من أهل المدينة. (156) حكاية الملك الناصر ووزيره. (157) حكاية دليلة المحتالة. (158) حكاية علي الزيبق المصري. (159) حكاية الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقاني والولاة الستة عشر. (أ)
حكاية الوالي الأول. (ب)
حكاية الوالي الثاني. (ج)
حكاية الوالي الثالث. (د)
حكاية الوالي الرابع. (ه)
حكاية الوالي الخامس. (و)
حكاية الوالي السادس. (ز)
حكاية الوالي السابع. (ح)
حكاية الوالي الثامن.
حكاية اللص. (ط)
حكاية الوالي التاسع. (ي)
حكاية الوالي العاشر. (ك)
حكاية الوالي الحادي عشر. (ل)
حكاية الوالي الثاني عشر. (م)
حكاية الوالي الثالث عشر. (ن)
حكاية الوالي الرابع عشر.
حكاية اللص الماكر.
حكاية المختلس العجوز. (س)
حكاية الوالي الخامس عشر . (ع)
حكاية الوالي السادس عشر. (160) حكاية أردشير وحياة النفوس. (161) حكاية جلنار وبدر باسم. (162) حكاية الأختين اللتين حسدتا أختهما الصغرى. (163) حكاية الملك محمد بن سبايك مع التاجر حسن. (أ)
حكاية سيف الملوك وبديعة الجمال. (164) حكاية حسن البصري الصايغ. (165) حكاية مسرور وزين المواصف. (166) حكاية على نور الدين ومريم الزنارية. (167) حكاية الأمير شجاع الدين والمرأة الإفرنجية. (168) حكاية الفتى البغدادي والجارية. (169) حكاية الملك جليعاد والشماس. (أ)
حكاية السنور والفأر. (ب)
حكاية الناسك المدفوق عن رأسه السمن. (ج)
حكاية السمك في غدير الماء. (د)
حكاية الغراب والحية. (ه)
حكاية حمار الوحش والثعلب. (و)
حكاية ابن الملك السائح. (ز)
حكاية الغراب. (ح)
حكاية الحاوي وأولاده وزوجته وأهل بيته. (ط)
حكاية العنكبوت والريح. (ي)
حكاية الملكين. (ك)
حكاية الأعمى والمقعد. (ل)
حكاية صياد السمك. (م)
حكاية الفتى واللصوص. (ن)
حكاية الرجل وزوجته. (س)
حكاية التاجر واللصوص.
حكاية الثعلب والذئب. (ع)
حكاية الراعي واللص. (ف)
حكاية الدراج مع السحالف. (170) حكاية أبي قير وأبي صير. (171) حكاية عبد الله البحري وعبد الله البري. (172) حكاية زين الأصنام. (173) حكاية مغامرات الخليفة الليلية. (أ)
حكاية الأعمى بابا عبد الله. (ب)
حكاية سيدي نعمان. (ج)
حكاية الخواجة حسن الحبال. (174) حكاية خوداداد وإخوته. (أ)
حكاية الأميرة داريابار. (175) حكاية علي كوجيا وتاجر بغداد. (176) حكاية هارون الرشيد وأبو الحسن العماني. (177) حكاية إبراهيم وجميلة. (178) حكاية أبي الحسن الخراساني. (179) حكاية قمر الزمان وزوجة الجوهري. (180) حكاية عبد الله فاضل وأخويه. (181) حكاية معروف الإسكافي. - ختام القصة الإطار.
وبالنظر إلى ما ذكرناه من المجال الواسع لتلك الحكايات والقصص، التي نجد بعضها في مجموعات ولا نجدها في مجموعات أخرى بالعربية، فقد ظهر الرأى الذي ذكرناه سابقا بالعمل على إصدار طبعة «شاملة» لجميع تلك القصص، تعتمد مخطوطات عربية حيثما وجدت، حتى لا يفاجأ القارئ العربي بعدم وجود قصص مشهورة - كقصص علي بابا أو علاء الدين أو النائم اليقظان - في المجموعات التي لديه. وستعم الفائدة لو أمكن ترجمة مجموع التعليقات والأبحاث والحواشي التي واكبت ترجمات لين وبيرتون وغيرهما، التي ستلقي أضواء مفيدة لقارئ الحكايات بالعربية ، ويبين مدى الاهتمام الذي أولاه هؤلاء المترجمون لنصوص كتاب ألف ليلة وليلة.
القصة الإطار
«... فلما سمعت ابنة الوزير مقالة أبيها قالت له: لا بد من ذلك. فجهزها وطلع إلى الملك شهريار. وكانت قد أوصت أختها الصغيرة وقالت لها: إذا توجهت إلى الملك سأرسل في طلبك، فإذا جئت عندى ورأيت الملك قضى حاجته مني فقولي: يا أختي، حدثيني حديثا غريبا نقطع به السهر، وأنا أحدثك حديثا يكون فيه الخلاص إن شاء الله. ثم إن أباها الوزير طلع بها إلى الملك فلما رآه فرح وقال: أتيت بحاجتي؟ فقال: نعم. فلما أراد أن يدخل عليها بكت، فقال لها: مالك؟ فقالت: أيها الملك إن لي أختا صغيرة أريد أن أودعها. فأرسل الملك إليها فجاءت إلى أختها وعانقتها، وجلست تحت السرير. فقام الملك وأخذ بكارة شهرزاد ثم جلسوا يتحدثون. فقالت لها أختها الصغيرة: بالله عليك يا أختي حدثينا حديثا نقطع به سهر ليلتنا. فقالت: حبا وكرامة إن أذن لي هذا الملك المهذب. فلما سمع الملك هذا الكلام وكان به قلق، فرح بسماع الحديث.»
الملك شهريار وأخوه الملك شاه زمان «... فقال المفسر: اعلم أيها الملك أنه يظهر منك غلام يكون وارثا للملك عنك بعد طول حياتك ولكنه لا يسير في الرعية بسيرك بل يخالف رسومك ويجور على رعيتك ويصيبه ما أصاب الفأر مع السنور، فاستعاذ بالله تعالى وقال وما حكاية السنور والفأر؟ فقال المفسر ...»
حكاية الملك جليعاد والشماس •••
هكذا تبدأ القصة الإطار في كتاب «ألف ليلة وليلة»، حين تبدأ شهرزاد أول حكاياتها التي ترويها للملك شهريار وأختها دنيازاد، وهي الوسيلة التي اتخذتها تعلة كيما يؤجل الملك قتلها كعادته مع الفتيات الأخريات. وهو يؤجل قتل شهرزاد حتى يستمتع بسماع تكملة القصص العجيبة التي تقصها شهرزاد وتحرص على ملئها بكل عوامل التشويق والترقب.
ومعظم القراء يعرفون طبعا أساس هذا الإطار الذي ابتدعه أول مؤلف أو بالأحرى أول راو لهذا السفر الفريد من نوعه: ألف ليلة وليلة. ونقول ملخصين لمن لا يعلم إن الملك شهريار، أحد ملوك الشرق الأسطوريين ، يكتشف بالمصادفة أن زوجته تخونه مع أحد الخدم العبيد بقصره فيقتلها. وتؤدي به الصدمة إلى فقدان الثقة بكل النساء وخوفه من أي خيانات أخرى منهن، فيعمد إلى الزواج كل ليلة من إحدى العذارى ثم يأمر بقتلها في الصباح التالي. وبعد أن قضى الملك بهذه الطريقة على الكثير من فتيات مملكته، تتطوع ابنة وزيره واسمها شهرزاد بأن تصبح العروس التالية. وحين تقابل الملك، ترجوه أن يسمح لأختها الأصغر دنيازاد بصحبتها، وكانت قد اتفقت مع أختها على أن تطلب منها تلك أن تحكي لها إحدى القصص. ولما يوافق الملك على سماع قصة، تبدأ شهرزاد لياليها بحكاية التاجر والعفريت. وتعمدت الراوية أن تنهي كل ليلة بموقف شائق مثير، كان يضطر الملك معه إلى أن يؤجل قتلها حتى يسمع بقية الحكاية. وظل الأمر على هذا المنوال حتى أتمت شهرزاد - كما تجرى به الأقوال - ألف ليلة وليلة من الحكايات. وبعدها، كان شهريار قد تملكه الحب لزوجته والإعجاب بها وبتفانيها في إرضائه؛ وكانت قد أنجبت منه في تلك الأعوام ثلاثة أطفال، فيعفو عنها ويعيش معها ومع أولاده في سعادة وطمأنينة.
وينطبق الأسلوب الذي ينتهجه «مؤلف» ألف ليلة أو رواتها بمعنى أصح للدخول إلى صلب الحكايات الأصلية، مع الاصطلاح الروائي الحديث الذي أطلق عليه «القصة الإطار». ومعظم حكايات ألف ليلة وليلة تروى بأسلوب «القصة الإطار» أو بأسلوب «القصة داخل القصة». ومن أمثلة القصة الإطار المشهورة، حكاية سيف الملوك وبديعة الجمال، فالقصة التي تحمل هذا الاسم - والتي تتعلق بأحد ملوك مصر وابنه الذي يبحث عن بديعة الجمال بعد أن رأى رسما لها - تأتي في ثنايا قصة إطارية لا علاقة لها بالحكاية الأصلية التي يحكيها أحد القصاصين على ملك العجم في خراسان. وعلى نفس المنوال، يمكن اعتبار القصص التي يرويها الصعاليك والأخوة الثلاثة قصصا ضمن إطار حكاية «الحمال مع البنات».
ومن القصص الإطارية الطويلة في ألف ليلة «حكاية الملك وولده والوزراء السبعة» وقد ذكرناها في فصل القصة داخل القصة، فالأسلوبان يتداخلان في كثير من الأحيان. وسنذكر هنا قصة أخرى تصلح هنا وهناك، وهي «حكاية الملك جليعاد والشماس»، فهي تشكل إطارا تتوالى فيه قصص كثيرة يحكيها الشماس للملك جليعاد بشأن تولية الملك إلى ابنه، ثم بعد ذلك نرى حكايتين أخريين يحكيهما الشماس للغلام ابن الملك جليعاد - من ناحية - وإحدى نسائه من ناحية أخرى، وكل منهما يسعى إلى إقناع الملك برأيه. ففي تلك الحكاية تتوالى القصص التالية على التوالي: حكاية السنور والفأر، حكاية الناسك المدفوق على رأسه السمن، حكاية السمك في غدير الماء، حكاية الغراب والحية، حكاية حمار الوحش والثعلب، حكاية ابن الملك السائح، حكاية الغراب، حكاية الحاوي وأولاده وزوجته وأهل بيته، حكاية العنكبوت والريح، حكاية الملكين، حكاية الأعمى والمقعد، حكاية الأسد والصياد، حكاية الثعلب والذئب، حكاية الراعي واللص. وبعد كل تلك الحكايات، تعود الأحداث إلى القصة الأصل الواردة في الإطار، وهي سيرة الملك الغلام في رعيته كما وردت في الحلم الذي رآه أبوه في البداية وأثار حكايات كبير وزرائه الشماس .
وهذا الأسلوب قد ظهر بهذا الشكل الواضح - فيما نعرف - مع ألف ليلة وليلة، وتأثر به الكثير من القصاص الذين نهجوا منهج هذا الأسلوب الشرقي. وثمة مثالان أساسيان لأثرين أدبيين شهيرين قد اقتفيا منهاج ألف ليلة في القصة الإطار وحتى في نوعية القصص، هما «الديكاميرون» للإيطالي «جيوفاني بوكاتشيو» و«حكايات كانتربري» للإنجليزي «يوفري تشوسر». واللافت للنظر أن بوكاتشيو وتشوسر قد عاشا في نفس العصر تقريبا: أواسط القرن الرابع عشر الميلادي، بل إن هناك من يجزم بأنهما قد التقيا إبان بعض الأسفار التي قاما بها. وتأثرهما بطريقة قص حكايات ألف ليلة وليلة يشير إلى توفر تلك الحكايات بشكل ما في معظم أنحاء أوروبا في العصر الوسيط، إما مكتوبة باللغة اللاتينية، أو باللغات المحلية التي كانت قد بدأن تتفرع وتبزغ من عباءة اللاتينية والجرمانية والأنجلوسكسونية؛ أو عن طريق الرواية والتناقل الشفوي بتلك اللغة واللهجات المحلية، وهو الأمر الذي كان شائعا في ذلك الوقت. وكان ذلك الانتشار - كما ذكرنا في المقدمة - عن طريق إسبانيا وصقلية العربيتين، وما امتد منهما إلى فرنسا في البروفانس ولانجدوك ، وإلى إيطاليا، ومنها إلى إنجلترا؛ وكذلك عن طريق الحجاج المسيحيين الذين كانوا يذهبون لزيارة الأراضي المقدسة في فلسطين، وأيضا عن طريق المشاركين في الحملات الصليبية بعد عودتهم وقد احتكوا أشد الاحتكاك بالمسلمين والعرب وتعرفوا على عاداتهم وثقافتهم، بما في ذلك القصص والحكايات الشعبية.
وقد عاش بوكاتشيو (1313-1375م) بين فلورنسا ونابولي، وإن كانت الروايات تقول إنه قد ولد في فرنسا لأب إيطالي. وقد عمل الأب جاهدا كيما يخلفه ابنه في أعمال المصارف والمال التي كان يقوم بها، ولكن اهتمامات بوكاتشيو الابن كانت متجهة إلى مجال الأدب والكتابة، يشجعه على ذلك صداقته للشاعر الإيطالي الشهير «بترارك». وقد نظم بوكاتشيو كثيرا من المقطوعات الشعرية الغنائية قبل أن يعكف على وضع كتابه الذي اشتهر به: الديكاميرون. والكلمة أصلها يوناني ومعناها «عمل عشرة أيام». ويحكي الكتاب عن مجموعة من الشباب، سبع نساء وثلاثة رجال، يهربون من فلورنسا خوفا من وباء الطاعون الذي اجتاحها عام 1348م ، ويتجهون إلى الريف في منطقة غنية يقضون فيها أسبوعين؛ وفي كل يوم يتزعم الجماعة واحد منهم، يصبح ملكا أو ملكة، ويتعين على الآخرين طاعته فيما يقومون به من ألعاب ومراح ومزاح يقطعون به الوقت ويسلون به أنفسهم. وكان من أهم مظاهر النشاط الذي يقومون به، أن يقص كل واحد منهم حكاية من الحكايات. ويستغرق قص الحكايات كلها عشرة أيام (ومن هنا عنوان الكتاب)، يحكي فيها كل واحد قصة عن موضوع يحدده الملك أو الملكة، فيصبح مجموع حكايات الكتاب بذلك مائة حكاية. وينتهي كل يوم من الأيام العشرة بأغنية راقصة يلقيها أحد الرواة، وتضم أجمل أشعار بوكاتشيو الغنائية (قارن ذلك بالأشعار التي تتخلل قصص ألف ليلة وليلة).
وتذكر دائرة المعارف البريطانية النص التالي: «وإن بوكاتشيو، باختياره إطارا من هذا النوع لحكاياته، إنما كان يتبع تقليدا مألوفا في الأدب الشرقي في العصور الوسطى.»
ولا يقتصر تأثر بوكاتشيو بألف ليلة وليلة على شكل القصة الإطار، ولا على شبح الموت الذي يخيم على القاص والمستمع في كلا الكتابين (الحكم بموت الراوية على يد شهريار في ألف ليلة، والموت بالطاعون المنتشر في فلورنسا في الديكاميرون)، بل إن موضوع القصص التي يحكيها المجتمعون العشرة فيها أصداء كثيرة من حكايات ألف ليلة وغيرها من القصص العربية والشرقية التي كانت متداولة في أوروبا في ذلك الوقت، وهو ما يراه القارئ في فصل الجذور الأولى من هذا الكتاب.
وثمة عمل كلاسيكي إيطالي آخر يستخدم القصة الإطارية ذاتها الموجودة في ألف ليلة وليلة، هو «أورلاندو الغاضب»
ORLANDO FURIOSO
لأريوستو (1474-1533م)، الذي يعتبره النقاد علامة هامة في أدب النهضة الأوروبية. ففي الأنشودة 28 من ذلك الكتاب، يقص صاحب الخان على صديقه رودولفو قصة الملك جوكوندو، الذي يخرج مرتحلا مع أخيه أستولفو إلى مملكة الأخير، بيد أنه يعود إلى بيته ليأخذ شيئا نسيه هناك فيجد زوجته الحبيبة في أحضان وصيف وضيع المنزلة. ولكنه يضبط أعصابه بصعوبة ويخرج مكملا الرحلة مع أخيه. وفي بلاط الأخ، يكتشف جوكوندو أن زوجة أخيه تخونه هي الأخرى مع قزم قبيح الخلقة، فيعرف أنه وأخاه سواء ويطلع الأخ على ما يحدث. ويخرج الأخوان كيما يستكشفان أنه لا توجد امرأة مخلصة أبدا. ثم تتفرع قصة أورلاندو إلى أحداث أخرى. ويبدو أن المؤلف الإيطالي قد أعجب بالقصة الإطارية العربية فدسها بين ثنايا كتابه.
فإذا انتقلنا إلى الأثر الكبير الآخر في القرن الخامس عشر، وهو «حكايات كانتربري»، فإننا نجد فيه نفس أسلوب القصة الإطار. فالكتاب يبدأ على لسان أحد الحجاج المتجهين لزيارة مثوى القديس توماس بيكيت في بلدة كانتربري، في مقاطعة «كنت». وينزل الراوي في خان «الرداء الفضفاض» بمدينة «شذرك»، ويجد بالخان زمرة من تسعة وعشرين شخصا آخرين في طريقهم إلى الحج نفسه. ويفيض صاحب الخان بكرمه على نزلائه، ويقدم لهم ما لذ وطاب من طعام وشراب على العشاء، ثم يتقدم إليهم باقتراحه الجميل: «أيها السادة، انصتوا إلى الكلام المفيد، وأرجو ألا تزدروا ما سأقوله لكم، وإليكم ما أتصوره بما قل ودل من الكلام. على كل واحد منكم، لكي يجعل الطريق يبدو قصيرا، أن يروي قصتين أثناء الرحلة، وأقصد أن أول قصتين في الطريق إلى كانتربري وقصتين أخريين في طريق العودة، وأن تتناول هذه القصص حوادث وقعت في الماضي، ومن استطاع منكم أن يأتي بخير قصة، وأعني بذلك من يستطيع أن يجمع في قصته بين المغزى الأسمى والتسلية العظمى، فجزاؤه أن يتناول عشاءه على نفقتي الخاصة هنا في هذا المكان وجالسا بجوار هذا العمود، بعد عودتنا من كانتربري». (ترجمة مجدي وهبة وعبد الحميد يونس).
وهكذا تتحدد قصة الإطار بما سيقصه كل واحد من هؤلاء الحجيج، وكانوا مجموعة متباينة من الناس، لا ندرى كيف تواءموا مع بعضهم البعض. وبعضهم يحكي قصصا مخزية عن أصحاب مهنة من المهن، كالنجار في حكاية الطحان، والتي رد عليها ناظر الضيعة بحكاية شائنة أخرى عن أحد الطحانين، نكاية في الراوي الطحان. ثم هناك التنابز بين الراهب الجوال والمحضر الكنسي، اللذين روى كل منهما حكايات تطعن في مهنة الآخر.
وكما في قصص الديكاميرون، تحتوي قصص «حكايات كانتربري» على الكثير من قصص خدع النساء ومكرهن، واحتيالهن بكل الطرق إلى وصال عشاقهن، وهذه «التيمة» هي من التيمات الرئيسية في ألف ليلة وليلة، ووردت في الكثير من حكاياتها (بالإضافة إلى القصة الإطارية الأساسية التي تتعلق بخيانة زوجتي الملكين شهريار وشاه زمان)، لعل أهمها قصة ابن الملك محمود صاحب الجزائر السود، الذي كانت زوجته - وهي ابنة عمه في نفس الوقت - تخونه مع عبد أسود، ثم تسحر زوجها حين كشف خيانتها بأن جعلت نصفه حجرا ونصفه بشرا. وسيرد هذا الموضوع في فصول أخرى من هذا الكتاب.
كذلك تضم حكايات كانتربري الكثير من القصص التي تفضح نفاق بعض رجال الدين الذين يتظاهرون بالورع والتقوى كي يقضوا حاجاتهم الشخصية وشهواتهم، مثل قصص الراهب الجوال وبائع صكوك الغفران. وثمة حكايات في هذا الكتاب تماثل تماما حكايات موجودة في ألف ليلة وليلة، مثل حكاية الفارس الذي يروي قصة شابين يحبان نفس الأميرة ويقتتلان على الفوز بالزواج منها. كذلك قصة الغراب الذي ينم لسيده عن خيانة زوجته له، وهي قصة ترددت مرتين في ألف ليلة. وبعض القصص في حكايات كانتربري ينتهي بموعظة وعبرة، مثل عبرة قصة ناظر الضيعة حين يقول في نهاية قصته: وعلى ذلك ينطبق المثل القائل «من يبذر الشر لا ينبغي أن يجني ثمرة الخير، والمخادع لا بد أن يخدع.» وكثيرا ما يعلق صاحب الخان على القصص التي يحكيها الحجاج بعبارات تشرح مفادها وتبين العبرة والدرس منها. قارن هذا بالعبارة التي تتردد دوما في ألف ليلة «... حكايتك حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر.» وهناك أيضا ما جاء في خاتمة قصة «حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وابنته فتنة» هكذا: «فلما أصبح الصباح أمر الخليفة أن يؤرخ جميع ما جرى لغانم من أوله إلى آخره وأن يدون في السجلات لأجل أن يطلع عليه من يأتي بعده فيتعجب من تصرفات الأقدار ويفوض الأمر إلى خالق الليل والنهار.» ويمكن أيضا مقارنة نهاية حكايات كانتربري بنهاية معظم حكايات ألف ليلة. فبعد أن يقص رجل القانون حكايته في كتاب تشوسر، يقول: «وهكذا عاشوا جميعا في أعمال البر والفضيلة ولم يقترفوا إثما، حتى جاء الموت وفرق بينهم وبين الحياة.» وطبعا هذه العبارة هي صدى للعبارة المشهورة في ألف ليلة بتنويعاتها المختلفة مثل «ولم يزالوا في أرغد عيش إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.»
ومن العجيب أن هذه الروايات الإنسكلوبيدية الثلاث قد لاقت من الرقابة نفس المصير. فقد تجاهل الأدب العربي الرصين «كتاب ألف ليلة وليلة» طوال قرون بوصفه عملا شعبيا عاميا وضع لتسلية الجماهير، وذلك حتى اكتشفت أوروبا قصص الكتاب تدريجيا ووضعته في المكان اللائق به. وحتى بعد ذلك، طالبت بعض الأصوات في مصر في عام 1985م بمصادرة كتاب ألف ليلة وليلة بزعم إباحيته، بل وجرت مصادرة بعض نسخه بالفعل، قبل أن ينصت القوم لرأي الأدباء والمثقفين الذين دافعوا عن الكتاب بوصفه تراثا أدبيا. وكان مصير الترجمات الكاملة الأولى لألف ليلة وليلة - كترجمة «بين» و«يرتون» - نفس المصير في أواخر القرن التاسع عشر في إنجلترا؛ فقد اضطر بيرتون إلى انتحال اسم دار نشر هندية كيما يمرر ترجمته الجامعة للكتاب، وهي في 17 جزءا، وخصصها للمشتركين فقط وذلك تهربا من قانون المطبوعات الصارم الذي كان سائدا هناك أيامها.
وقد لقي الديكاميرون مصيرا أكثر ظلاما، إذ تم إدراجه عند ظهوره في قائمة الكتب المحرمة من قبل الفاتيكان عام 1559م إبان بابوية بول الرابع، بسبب تصويره بعض القساوسة والرهبان تصويرا ماجنا. ولم يتم نشر الكتاب إلا في طبعات منقحة حذفت منها أي إشارة تستهجن رجال الدين وكل عبارة إباحية. وقد استمرت المكتبات في إنجلترا وأمريكا في استبعاد الكتاب الكامل من مجموعاتها حتى بدايات القرن العشرين.
وبالنسبة لكتاب «حكايات كانتربري» لتشوسر، عمد الناشرون في الولايات المتحدة إلى إصدار طبعات «مهذبة» منه حتى لا يصدموا القراء بما احتواه من مواقف إباحية وعبارات فاحشة. ومن الطريف أن الرقابة على هذا الكتاب قد ظهرت ثانية في الثمانينيات من القرن العشرين، حين أقام أحد رجال الدين في ولاية فلوريدا دعوى قضائية أمام المحاكم ضد المدرسة التي تتلقى ابنته تعليمها فيها، لأن أحد المقررات الدراسية كان يتضمن «قصة الطحان» من «حكايات كانتربري». وأوردت القضية اعتراض الأب على القصة بسبب «صراحتها الجنسية» و«لغتها المبتذلة» و«ترويجها لحرية المرأة». ولما حكمت المحكمة ضد رجل الدين، حمل الأخير قضيته إلى المحكمة الفيدرالية العليا. بيد أن خطأ إجرائيا حال دون وصول القضية إلى المحكمة العليا، وانتهت المسألة عند هذا الحد.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن السينما قد جمعت بين هذه الكتب القصصية الثلاثة أيضا، حين اختار المخرج الإيطالي المشهور «بيير باولو بازوليني» أن يصوغ فيلما فنيا من كل منها، وجمع النقاد الأفلام الثلاثة تحت عنوان «ثلاثية الحياة». ولما كان بازوليني من أصحاب المذاهب الحديثة في الفن السينمائي وقتها، فقد جاءت أفلامه غريبة وعجيبة، تماثل في ذلك طبيعة القصص التي تضمها تلك الكتب، وإن أجمع النقاد على تميزها الفني.
ولم يقتصر تأثير تقنية قصة الإطار في ألف ليلة وليلة على هذين الكتابين، بل ظهرت روايات كثيرة اتخذت هذا الشكل في بنيتها، وإن كان ذلك في أساليب كثيرة متباينة. فرواية «دون كيشوت» لسرفانتس ورواية «مخطوط سرقسطة» للبولندي «بوتوكي»، يمكن اعتبارهما من روايات قصص الإطار، وسنتحدث عنهما في الفصل الخاص بالقصة داخل القصة، وفي أبواب أخرى أيضا من هذا الكتاب. ومن الأعمال الإطارية القصصية الشعرية المتأثرة بألف ليلة وليلة «لا لا روخ» (1812م) من تأليف الكاتب الأيرلندي المشهور توماس مور (1779-1852م)، وهي ملحمة شعرية تسبقها قصة إطارية نثرية عن الملك أورانجزيب الذي يرسل ابنته من دلهي إلى كشمير للزواج هناك من ابن ملك بخارى. وفي الطريق، يسليها أحد الشعراء الشبان ويدعى «فيرامورز» بقصص متتالية على نسق ألف ليلة وليلة. وتتسبب تلك القصص في وقوع الأميرة في غرام الشاعر، الذي يتضح - عند الوصول إلى بخارى - أنه هو نفسه الأمير الذي ستتزوجه. وتضم القصص المتضمنة في القصة الإطارية عناوين حكايات مثل «رسول خراسان المقنع» و«الفردوس والحورية» و«نور الحرم» وهكذا. وكانت هذه الملحمة من الكتب التي تأثر بها الروائي الأمريكي هرمان ملفيل - الذي استخدم هو الآخر أسلوب القصة الإطار في بعض رواياته - في كتاباته ذات الطابع الشرقي.
ومن ناحية أخرى، يمكن أن نتناول هنا التقنية السردية التي ذكرتها الباحثة الألمانية «ميا جيرهارت» في كتابها الهام «فن رواية القصص: دراسة أدبية لألف ليلة وليلة»، وهي التقنية التي أسمتها «العرض غير المباشر»
OBLIQUE NARRATION ، حيث يتم تقديم قصة من القصص تقديما «غير مباشر» عن طريق إحدى الشخصيات الأخرى فيها، وتعطى تلك الشخصية وظيفة «الشاهد» على الأحداث بغرض توثيقها وتأكيدها. غير أن ذلك الشاهد يمكن في بعض الأحوال أن يتطور إلى أكثر من مجرد راو أو موثق للقصة. وتعطى جيرهارت مثالا على ذلك بقصة «عاشقان من بني عذرة» في ألف ليلة وليلة، وفيها يقص جميل بن معمر العذري على الخليفة هارون الرشيد ما حدث له يوما حين أراد التوجه إلى محبوبته فلقي في الطريق ابن عم له يهوى ابنة عمه التي زوجها أبوها من غيره، وكانا يتلاقيان كل ليلة للحديث وبث الجوى ونيران الهوى، إلى أن افترسها أسد ذات ليلة عند مسيرها لملاقاة حبيبها، فقتل ابن العم الأسد وأمضه الحزن وأبلى بدنه حتى مات أسفا بعد أن أوصى جميلا أن يقوم بدفنه إلى جوار عظام محبوبته. وهذه القصة من أمتع قصص ألف ليلة سردا وشكلا لا مضمونا، فالحكاية معروفة، ولكنها تصبح أكثر تشويقا حين تروى بعيني جميل الذي شهد أحداثها بل وشارك في صنع تلك الأحداث، ويقصها مقرونة بتعليقاته عليها. فالمشاركة العاطفية للراوي مع شخصيات القصة تجعل من القصة لا مجرد حكاية العاشقين فحسب بل وأيضا حكاية العاشقين «كما خبرها الراوي». ومثل هذا العرض غير المباشر عن طريق راو شارك في الأحداث قد ظهر في عدد من روايات «جوزيف كونراد» و«ه. ج. ويلز»، وهما مثالان فقط لا للحصر. وقد كتب «روبرت هامبسون» ما يؤكد تأثر كونراد وويلز بألف ليلة وحكاياتها؛ ففي العصر الذي عاش فيه هذان الكاتبان، بلغ رواج ذلك الكتاب العربي الأصل مدى واسعا، إذ يتضمن كتالوج المكتبة البريطانية ثلاثين طبعة مختلفة لألف ليلة وليلة نشرت ما بين عامي 1850م و1890م، وبالتالي قدمت للروائيين الإنجليز في ذلك الوقت نبعا لا ينضب من الصور والموضوعات ومجمعا هائلا من التقنيات السردية المتنوعة.
فجوزيف كونراد قد استخدم أسلوب القصة الإطار وأسلوب العرض غير المباشر في كثير من رواياته مثل «الشباب» و«لورد جيم» و«قلب الظلمات» و«الصدفة». ففي روايته القصيرة «الشباب»، يراوح المؤلف بين حياة شخصيته الرئيسية المتكررة «مارلو» إبان شبابه وفي فترة منتصف العمر، كيما يقارن بين فكرة الشباب والكهولة وكي يصور مدى الحنين إلى أيام الشباب. وهو يبدأ في هذه الرواية التفاعل بين القصة الإطار وبين الإطار ذاته. ففي النهاية، يسأل مارلو مستمعيه عما إذا لم تكن فترة شبابهم التي قضوها في البحر هي أفضل سنوات حياتهم، فيرد جميعهم بإيماءة الموافقة.
وفي رواية «قلب الظلمات»، نتعرف على خمسة من الأصدقاء وقد اجتمعوا على ظهر السفينة «نيللي» الراسية على نهر التيمز بلندن، حيث يقوم الراوي بوصف اللقاء وظروفه، ممهدا الطريق للشخصية الرئيسية «مارلو» كي يقص ما جرى له في رحلة عمل عبر فيها نهر الكونغو في ظروف قاسية مخيفة. وبهذا تتحدد صفات العرض غير المباشر للأحداث التي وقعت لمارلو في قلب الظلمات، كما يرويها هو شاهدا عليها، وبوصفه واحدا ممن شاركوا فيها. وتنتقل الرواية ما بين نهر الكونغو ومارلو يروي ما حدث له هناك، وبين لندن على نهر التيمز حيث جماعة الأصدقاء يستمعون إلى مارلو، بينما الراوي يعلق بعبارات قصيرة هنا وهناك بين الفينة والفينة. قارن هذا بما يحدث في ألف ليلة وليلة، حين تتراجع جميع أحداث القصص والحكايات المثيرة كيما تعود إلى قصر الملك شهريار حين يطلع النهار على شهرزاد فتسكت عن الكلام المباح، لتواصله في الليلة التالية، بينما أختها دنيازاد تعلق متعجبة مما ذكرته من حكايات. ولا أدل على وجود ألف ليلة وليلة في ذهن كونراد وهو يكتب «قلب الظلمات» من أنه كتب إلى صديقه «فورد مادوكس فورد» في أثناء كتابته الرواية، واصفا إياها بأنها تنمو «كالجني الذي خرج من القمقم».
أما ه. ج. ويلز فقد استخدم القصة الإطار في روايته المشهورة «آلة الزمن». وهي - مثلها مثل «قلب الظلمات» - تبدأ براو مجهول الاسم، يمكن أن يكون المؤلف كما نعرف في النهاية، يحكي عن مجموعة من الأشخاص اجتمعوا في منزل صديق لهم تطلق عليه الرواية اسم «المسافر عبر الزمن» أو «عابر الزمن». ويخبر عابر الزمن ذاك أصدقاءه أنه قد اخترع آلة يمكنها السفر زمنيا إلى الماضي وإلى المستقبل. وفي لقاء بعد ذلك، يحكي عابر الزمن مغامرته مع الآلة التي اخترعها بينما أصدقاؤه يستمعون إلى ما يقول. ومعظم الرواية هي على لسان عابر الزمن، وقليلا ما كان الراوي الأصلي يتدخل بتعليق. وفي النهاية، يعود الراوي ليقص كيف انتهى الأمر بعابر الزمن إلى تكرار رحلته التي لم يعد منها هذه المرة. ونعرف من السياق أن هذه الأحداث التي يقصها الراوي قد حدثت منذ سبع سنوات.
وفي الروايتين السابق ذكرهما - قلب الظلمات وآلة الزمن - تقدم الشخصيات وفقا لمهنها ونادرا باسمها، فنحن نتعرف على «مدير الشركات» و«المحامي» و«المحاسب» في رواية كونراد؛ وعلى «العالم النفساني» و«العمدة الإقليمي» و«رجل الطب» في رواية ويلز. وهذا وارد أيضا في الديكاميرون وحكايات كانتربري . وهذا ما يحدث أيضا في ألف ليلة وليلة، فكثير من حكاياتها يذكر اسم أبطالها حين يكونون من الذين اشتهروا في الواقع، مثل أحمد الدنف وهند بنت النعمان، أو أشخاصا تاريخيين كهارون الرشيد وحاشيته، ولكن يحف بهؤلاء وأولئك عدد هائل من الشخصيات التي لا نعرفها إلا عن طريق مهنتها فحسب، فنحن نقرأ عن الحمال وعن الطبيب وعن الخياط وعن التاجر .. وغيرهم، دون أن يذكر الكتاب أي اسم لهم. وهذا تقليد ابتدعته ألف ليلة وليلة في الرواية الشفوية العربية واقتفى أثره العديد من الكتاب. وسوف نعود إلى كونراد وويلز مرات أخرى في سياق هذه الدراسة حين نتناول سمات روائية أخرى من سمات ألف ليلة وليلة.
القصة داخل القصة
«... فقال العفريت: افتح حتى أحسن إليك. فقال له الصياد: تعذب يا ملعون، إنما مثلي ومثلك مثل وزير الملك يونان والحكيم دوبان. فقال العفريت: وما شأن وزير الملك يونان والحكيم دوبان وما قصتهما؟ فقال الصياد: اعلم أيها العفريت أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان.»
حكاية وزير الملك يونان والحكيم دوبان «... ثم حكى الأمجد والأسعد جميع ما جرى لهما فقال لهما: يا سيدي تجهزا للسفر وأنا أسافر بكما؛ ففرحا بذلك وبإسلامه وبكيا بكاء شديدا، فقال لهما بهرام: يا سيدي لا تبكيا فمصيركما تجتمعان كما اجتمع نعمة ونعم. فقالا له: وما جرى لنعمة ونعم؟ ...»
حكاية نعمة ونعم «... فلما كان اليوم الثالث، دخلت الجارية على الملك وقبلت الأرض بين يديه وقالت له: أيها الملك خذ لي حقي من ولدك، ولا تركن إلى قول وزرائك؛ فإن وزراءك اليوم لا خير فيهم، ولا تكن كالملك الذي ركن إلى وزير السوء من وزرائه. فقال لها: وكيف كان ذلك؟ فقالت: بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد ...»
حكاية الملك وولده والجارية والوزراء السبعة •••
أسلوب القصة داخل القصة، أي الحكاية أو الحكايات التي تتفرع عن القصة الأصلية، قديم قدم الأنواع الأولى من فن القص، خاصة في الرومانسات والملاحم والقصص الشعرية التي اعتمدت على الرواية الشفوية قبل أن تعرف طريقها إلى الورق . وألف ليلة وليلة تزخر بالقصص الفرعية، بل والقصص المتفرعة من فروع القصص. وهي منذ بداية قصتها الإطار تعرف هذا النوع من الشكل السردي، حين حاورت شهرزاد أباها الوزير حين كان يحاول إثناءها عن عزمها تقديم نفسها للملك شهريار كي يتزوج منها ويقتلها في اليوم التالي كعادته، وأخذت تضرب لأبيها الأمثال تعزيزا لرأيها وهو يقص عليها أمثالا أخرى يعزز بها رأيه.
ويدخل ضمن هذه التقنية الأسلوبية صورة الحكي، حين تطلب جماعة من الناس أو رهط من المعارف أو الأصدقاء، من واحد فيهم أن يحكي لهم عن قصته وما لاقى في سفراته أو حياته بعامة. وقد تكرر ذلك كثيرا في الجزء الأول من ألف ليلة وليلة خصوصا، حين يتخذ الحكي مظهرا من مظاهر إنقاذ الحياة، تماما كما يحدث مع شهرزاد نفسها، التي تشتري حياتها بما تقص من قصص كل ليلة على زوجها شهريار . ففي حكاية الحمال والثلاث بنات، أوشكت البنات أن يقتلن ضيوفهن لما أبدوه من فضول ممنوع، لولا أن الصبية صاحبة البيت رضيت أن تعفو عن كل واحد منهم بشرط أن يحكي قصته، ومن هنا تتالت قصص الصعاليك الثلاثة، ثم قصص البنتين أمينة وزبيدة، اللتين أجبرهما هارون الرشيد على أن يحكيا بدورهما قصتيهما. وبعد ذلك، تقص شهرزاد على الملك شهريار ما قصه جعفر البرمكي لهارون الرشيد، من حكاية العزيز نور الدين مع شمس الدين وأخيه. وقد قص جعفر هذه القصة بشرط أن يعتق الخليفة عبدا لجعفر من القتل، وفي هذا تواصل لتيمة القص مقابل الحياة.
ولعل أوضح مثال في قصص ألف ليلة وليلة على تفرع الحكايات من حكاية واحدة، حديث الملك شهرمان، الذي تفرع إلى قصة ابنه قمر الزمان والملكة بدور ابنة الملك الغيور، إلى قصة مرزوان أخي بدور من الرضاع ورحلته بحثا عن قمر الزمان، ثم مغامرات قمر الزمان في مدينة المجوس، وحكاية الملكة بدور مع الملك أرمانوس وبنته حياة النفوس. وحين انتهى الأمر بلقاء قمر الزمان والملكة بدور وزواجه منها ومن حياة النفوس آخر الأمر، تبدأ حكاية الولدين اللذين أنجبهما منهما، وهما الملك الأمجد والملك الأسعد، اللذين تفضي قصتاهما إلى الخازندار الذي كلف بقتلهما، ووقوع الملك الأسعد في يد المجوسي بهرام عابد النار، بينما يبدأ الملك الأمجد قصة تنتهي بتوليه الوزارة في المدينة التي يحتجز فيها المجوسي أخاه دون أن يعلم. وحين يكتشف أمر بهرام ويعلن إسلامه، يقص على الجميع قصة جديدة هي حكاية نعمة ونعم وهي قصة منفصلة لا صلة لها بشخصيات القصة الأصلية، ولكن الأحداث تعود بعدها لتحل كل عقدة وردت منذ بدء القصة الأصلية في عبارات محددة مقتضبة: «... وردوا مرجانة إلى بلادها بعد أن زوجوها للأسعد .. ثم زوجوا الأمجد بستان بنت بهرام وسافروا كلهم إلى مدينة الأبنوس. وخلا قمر الزمان بصهره وأعلمه بجميع ما جرى له وكيف اجتمع بأولاده، ففرح وهنأه بالسلامة. ثم دخل الملك الغيور أبو الملكة بدور على بنته وسلم عليها وبل شوقه منها وقعدوا في مدينة الأبنوس شهرا كاملا، ثم سافر الملك الغيور بابنته إلى بلده .. وأخذ الأمجد معهم، فلما استقر على مملكته أجلس الأمجد يحكم مكان جده. وأما قمر الزمان فإنه أجلس ابنه الأسعد يحكم مكانه في مدينة جده أرمانوس ورضي به جده. ثم تجهز قمر الزمان وسافر مع أبيه الملك شهرمان إلى أن وصل إلى جزائر خالدان، فزينت له المدينة واستمرت البشائر تدق شهرا كاملا، وجلس قمر الزمان يحكم مكان أبيه إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.»
ونحن نجد نفس القصص المتداخلة، كالصندوق الصيني أو العروس الخشبية الروسية، في حكاية «مغامرات حاسب كريم الدين» ففيها تبدأ الحكاية بقصة حاسب كريم الدين، ومنها إلى قصة ملكة الحيات، ثم قصة بلوقيا وعفان، فقصة الملك صخر وأعوانه. ثم تتفرع عن الحكاية قصة قائمة بذاتها عن الملك طيغموس وولده جانشاه، وفيها قصة تشبه قصص بحيرة البجع، وذلك قبل أن تعود الحكاية تدريجيا إلى القصة الأصلية لبلوقيا ثم لحاسب كريم الدين.
ومن أشهر من تأثر بهذا الأسلوب من الحكايات المتداخلة في قالب إطار روائي واحد، ميجيل دي سرفانتس في روايته الشهيرة دون كيشوت. فبالإضافة إلى الدلالات العديدة على التأثير العربي في هذه الرواية والإشارات إلى موضوعات معينة فيها تأثرت بالروايات الشفوية العربية، تمتلئ الرواية بالحكايات والقصص التي تتفرع من الحادثة الرئيسية، وهي خروج دون كيشوت فارسا جوالا بحثا عن المغامرات ودفاعا عن الضعفاء والمساكين وتحقيقا للعدالة ورفع الظلم. ففي وسط الأحداث التي يمر بها دون كيشوت، يصادف بعض الرعاة، ويقص أحدهم عن مقتل صبي يدعى خريسوستو بيد حبيبته مرزيلا. وهنا يطلب دون كيشوت من الراعي - واسمه بودو - أن يقص عليهم حكاية هذين العاشقين، وهو ما استغرق فصلا كاملا من الرواية، تبعه بعد ذلك فصلان آخران عن دفن الحبيب وتلاوة القصيدة التي كتبها عن غرامه، ثم دفاع حبيبته مرزيلا التي اتهمت بقتله.
وهناك أيضا قصة «كردونيو» الفارس الذي جن هياما بلوسيندا، ولكن أحد أصدقائه ويدعى فرناندو خانه وطلبها لنفسه من أبيها، فيهيم كردونيو على وجهه في قفار جبال الشارات (سييرا مورينا)، ولا يعلم أن لوسيندا أعلنت في حفل خطبتها لفرناندو أنها تحب كردونيو ولذلك لا تستطيع إتمام الزواج بفرناندو. وترتبط هذه القصة بقصة الفتاة التي خدعها فرناندو وسلبها عفافها ثم هجرها إلى لوسيندا، فتهيم هي الأخرى على وجهها في جبال الشارات. وهناك تلتقي بكردونيو، ويعرفان أحدهما من الآخر ما حدث لفرناندو ولوسيندا، وأن بوسع الجميع الآن أن يضعوا خاتمة سعيدة لغرامهم.
وتأتي بعد ذلك قصة منفصلة وجدوها مخطوطة لدى صاحب الفندق الذي نزلت الجماعة فيه، ويقرؤها عليهم القسيس، وهي تدور حول زوج يدعى أنسلمو يصر على اختبار عفة وإخلاص زوجته كاميلا دون أن يكون هناك أي داع لذلك؛ فيوعز إلى أحد أصدقائه - لوتريو - بأن يحاول إغواء الزوجة. ورغم اعتراض الصديق على ذلك، فإنه يخضع بعد إلحاح الزوج عليه. وحين يقوم الصديق بتمثيل دور العاشق، يقع في حب الزوجة بالفعل، وتستجيب الزوجة له بدافع حرارة حبه لها. وحين يكتشف الزوج الأمر، يدبر العاشقان تمثيلية أمام الزوج تقنعه ببراءة زوجته. بيد أن الأمر ينتهي بفاجعة حين تخشى الزوجة من افتضاح سرها آخر المطاف، فتهرب مع لوتريو حاملة معها كل أموال الزوج، الذي يشعر أخيرا بالندم والأسف على الرغبة الحمقاء التي تملكته والتي أدت إلى هدم بيته وسعادته. وهذه القصة تقع أحداثها في فلورنسا بإيطاليا، وحبكتها تماثل حبكة قصص الديكاميرون وحكايات مكر النساء، وهي كلها من أصل قصص عربية كانت متداولة في إسبانيا وجنوب فرنسا في بدايات القرون الوسطى، وتظهر في حكايات ألف ليلة بصور متعددة.
وهكذا تتوالى القصص المتداخلة في رواية سرفانتس الخالدة. وجدير بالذكر أن تلك القصص تختلف عن قصص المغامرات العجيبة التي يصادفها دون كيشوت في ترحالاته، ويقوم هو فيها بالأحداث، والتي تشكل جزءا من عقدة الرواية الأصلية، وتدخل في صلب المغامرات التي يتعرض لها مع تابعه سانشو بانزا. وتلك القصص داخل القصة الأصلية غالبا ما تأتي عن طريق الحكي أو التلاوة. فإذا كان ثمة شك في تأثر سرفانتس بالحكايات العربية التي كانت شائعة في زمانه - سواء شفوية أو مكتوبة باللغات المحلية - فلنذكر أنه قد قضى خمس سنوات طوال في الجزائر، أسيرا لدى العرب إلى أن افتدته جمعية خيرية دينية في إسبانيا. وفي تلك السنوات الخمس، نعلم أنه كان يمضي وقته في تعليم الجزائريين العرب العلوم والحساب، بينما كانوا هم يعلمونه اللغة العربية؛ ولا بد أنهم كانوا يقصون عليه الكثير من حكاياهم ونوادرهم وأساطيرهم، فقد كان هؤلاء الجزائريون يتقنون العربية والتركية والقشتالية (الإسبانية) من جراء احتكاكهم بمن يلقونه بالقرب من سواحلهم ومن واقعهم كأمة عربية وولاية تابعة لتركيا. ومن النقاد من يذهب إلى أن سرفانتس قد جاءته أفكار الكثير من قصصه ورواياته ومسرحياته إبان سنوات أسره الطويلة المليئة بالفراغ والضجر، وأحد أدلة ذلك أنه في خلال السنة الأولى لتحرره من الأسر، قدم عدة مسرحيات وقصص دفعة واحدة، ولا يمكن أن يكون قد كتبها كلها في هذه الفترة القصيرة. كذلك تزخر روايته الأساسية دون كيشوت بالإشارات والإيحاءات العربية، ويكفي ذكر أنه أرجع الكتاب كله إلى مخطوطة من تأليف أحد العرب.
وهناك رواية أخرى لم تنل من الشهرة ما هي جديرة به في هذا المجال من الكتابات المتأثرة بالخيال العربي، وعنوانها الحرفي «المخطوط الذي عثر عليه في سرقسطة» (مخطوط سرقسطة) من تأليف البولندي «جان بوتوكي» الذي كتبها بالفرنسية. وقصة حياة المؤلف تصلح بذاتها أن تكون رواية غريبة، فقد ولد في بولندا عام 1761م من عائلة أرستقراطية، وتلقى تعليمه في جنيف ولوزان بسويسرا، حيث أتقن اللغة الفرنسية. وكان طوال حياته رحالة لا يكل من السفر، فزار بلدان الشرق الأوسط والبلقان والقوزاق والصين. وكان عالما بالآثار المصرية القديمة، ورائدا في علم السلالات، وخدم في الجيش مرتين. وقد تزوج مرتين، وأنجب خمسة أطفال، وأحاطت بزيجتيه شائعات وفضائح غريبة. وقد استقر في ضيعته في بولندا عام 1812م من جراء تدهور صحته، وأصيب بالاكتئاب واليأس، مما دفعه إلى الانتحار عام 1815م. ويقال إنه أطلق على رأسه رصاصة صنعها بنفسه من آنية أثرية من الفضة!
وروايته «مخطوط سرقسطة» أشبه بليالي ألف ليلة وليلة من حيث موضوعاتها وتقسيماتها وطريقة سردها. فهي تبدأ على لسان ضابط فرنسي ضمن الحملة التي جردها نابليون بونابرت لغزو إسبانيا، يجد نفسه في مدينة سرقسطة بعد سقوطها في يد الفرنسيين، ويرى منزلا كبيرا مهجورا فيدخله حيث يعثر على مخطوط قديم مكتوب بالإسبانية. ورغم أنه لا يعرف اللغة الإسبانية، فإنه يدرك من الرسوم الغريبة التي يراها بالمخطوط أنه يحكي عن عصابات وأشباح وأسرار دينية، مما أثار اهتمامه فحمل المخطوط معه. ويضطر الجيش الفرنسي إلى الخروج من سرقسطة، ويقع الضابط أسيرا في يد القوات الأهلية الإسبانية، وحينها يطلب من القائد الإسباني أن يسمح له بالاحتفاظ بالمخطوط، فيقلب ذاك في المخطوط ويشكر الضابط الفرنسي لاكتشافه المخطوط إذ إنه يحكي عن أسلاف القائد الإسباني القدماء. ويبقي القائد الإسباني الضابط الفرنسي في معيته، ويطلب الأخير من الأول أن يترجم له ما في المخطوط إلى الفرنسية، وطفق يكتب ما يمليه عليه القائد الإسباني، وهو ما يشكل صلب الرواية ذاتها، التي تنقسم إلى «أيام»، من اليوم الأول حتى اليوم السادس والستين، تتبعها خاتمة للرواية من نفس المخطوط؛ إذ لا يسمع القارئ بعد ذلك شيئا عن الضابط الفرنسي الراوي ولا عن القائد الإسباني الذي أسره.
وتقص الرواية - المخطوط - عن ضابط إسباني يدعى «ألفونس» يعمل في خدمة ملك إسبانيا فيليب الخامس (1700-1746م)، حين كان عائدا من مهمة في جنوب البلاد - الأندلس - إلى العاصمة مدريد. ويصادف هذا الضابط مغامرات غريبة كثيرة في رحلته تلك، أغرب من مغامرات عوليس أو السندباد. وتبدأ هذه السلسلة من المغامرات القصصية - إن صح هذا التعبير - حين يتوجه في رحلته إلى فندق - يدعى فندق كيمادا - فيجده مهجورا إلا من فتاتين مسلمتين - أمينة وزبيدة - وخدمهما. وتخبره الفتاتان أنهما من أسرة «جوميليز» الغرناطية المسلمة التي بقيت في إسبانيا بعد ضم الإسبان لغرناطة عام 1492م وأخفت حقيقة دينها الأصلي، وهي أصلا من سلالة «بنو سراج» المشهورين. وتقص عليه أمينة وزبيدة قصة حياتهما، وكيف أنهما كانتا بانتظاره حيث إنه ينتمي إلى أسرتهما، إذ هو ابن عم لهما دون أن يدري بذلك. ويقضي ألفونس ليلته محاطا بالرعاية وحسن الضيافة وألوان الطعام والشراب، ولكنه يستيقظ ليجد نفسه في البرية إلى جوار جثتي قاطعي طريق - الأخوان زوتو - معلقين في المشنقة والطيور الجارحة تنهش فيهما. وسوف يتكرر هذا المشهد كثيرا طوال الرواية، حيث يصحو ألفونس بعد ليلة من لياليه المريحة ليجد نفسه في البرية إلى جوار المشنقة، في نفس المكان الذي بدأ فيه رحلته إلى مدريد. ويتضمن اليوم التالي من الرواية، قصة داخل القصة، حين يلتقي ألفونس بناسك في دير صغير أشبه بالصومعة، يقوم على خدمته شاب مشوه الوجه يدعى «باتشيكو»، الذي يقوم بحكاية قصته على مسامع ألفونس. ثم يقص ألفونس ذاته حكايته للناسك؛ وما إن يحاول مواصلة رحلته بعد ذلك حتى يلتقي برجال محاكم التفتيش الذين يلقون القبض عليه بتهمة علاقته بالفتاتين المسلمتين اللتين اعتقلتا أيضا. ويهجم الأخوان زوتو (والمفروض أنهما قد شنقا) مع جماعتهما على رجال محاكم التفتيش وينقذون ألفونس وأمينة وزبيدة منهم. ويجيء الدور على زوتو ليحكي قصة حياته، فنعرف أنه إيطالي الأصل، وأنه وشقيقه في خدمة أسرة جوميليز. ويقضي ألفونس ليلته مع الأختين كأنهما زوجتاه، ويفاجئهما الشيخ جوميليز نفسه فيعنف ألفونس ويضطره إلى تناول قدح من الشراب يغيب بعده عن الوعي. وحين يستيقظ يجد نفسه - كالعادة - وسط الأخوين زوتو المعلقين في المشنقة وسط البرية التي بدأ منها رحلته. وحين ينهض، يقابل أحد معتنقي «الكابالا»، وهي نوع من الصوفية اليهودية، ويعود معه مضطرا إلى خان «كيمادا».
وهكذا تمضي الرواية، قصة تقود إلى أخرى، وقصاص يحكي عن قصاص آخر عن قصاص ثالث، في جو فانتازي مليء بالسحر والأرواح والخوارق، وسط شخصيات من كل البلدان واللغات والأديان، وفتيات جميلات يغرمن بالبطل ألفونس، وكتب بمختلف اللغات، وقصص إغريقية ومسيحية وإسلامية ويهودية، وجماعة من الغجر تعمل أيضا في خدمة الشيخ جوميليز المسلم. وكما في ألف ليلة وليلة، تمتد قصة إحدى الشخصيات أحيانا لتغطي أكثر من فصل في الرواية، الذي يسمى «يوما» بدلا من فصل، ويختتم كل «يوم» بشيء يقطع على الراوي قصته، كيما يكملها في بداية اليوم التالي. وتتقاطع حكايات الرواية بعضها مع بعض، فرئيس الغجر يقص حكايته حينا، ثم يأتي «اليهودي التائه» ليقص قصته، لنعود مرة أخرى مع رئيس الغجر، ثم بدرو دي فيلاسكيز، ثم اليهودي التائه ثانية، وهكذا. ويرفد كل هذه القصص شخصية ألفونس ورحلته الطويلة العجيبة إلى مدريد. ويظهر المؤلف معرفة شاملة بالشرق وبمصر القديمة وديانتها، والمؤلفات العديدة التي ظهرت أيامه فيما يتعلق بتلك البلدان والموضوعات. وهو بلا شك كان يضع كتاب ألف ليلة وليلة وحكاياتها في ذهنه وهو يكتب روايته هذه، وحاول أن يخرج بكتاب يضاهيها في قصصها وخيالها وتشويقها. وينتهي كتاب مخطوط سرقسطة بحكاية الشيخ المسلم جوميليز الذي يفسر أحداث الرواية، وكيف بذلت قبيلته المسلمة جهودا جبارة للإبقاء على الإسلام في إسبانيا بعد سقوط غرناطة، وأن هدف الشيخ المسلم كان زواج ألفونس بأمينة وزبيدة، وقد أنجب منهما ولدا وبنتا. (وقد خانت بوتوكي معلوماته الدينية في موضوع زواج ألفونس من أختين، وغاب عنه أن الإسلام يحرم الجمع بين الأختين). ويعود ألفونس إلى مدريد حيث يعمل في خدمة الملك الجديد، الذي يعينه حاكما لسرقسطة، التي يودع فيها مخطوطه الذي يشكل قصة الكتاب.
وقد أصبحت تقنية «القصة داخل القصة » من الأساليب السردية المألوفة، منذ بداية عصر الرواية بشكلها الحديث، حتى عصرنا الحالي. وقد تناول الكاتب الفرنسي «تودوروف» موضوع ألف ليلة وليلة وتقنية القصص المتداخلة في كتابه «نظريات النثر»، حيث أطلق على تلك التقنية اسم «التعشيق» وهي ترجمتي لمصطلح
EMBEDDING ، وأعني به تعشيق قصة في داخل قصة في داخل قصة ثالثة، وهكذا. وهو يمتدح ذلك الأسلوب في قصص ألف ليلة، لأن كل قصة فرعية إنما يتم تقديمها لدعم وجهة نظر معينة، فمثلا، في حكاية الصياد والعفريت، يبرر الصياد قسوته على العفريت بقصة الحكيم دوبان، وفي قصة الحكيم دوبان ذاتها، يبرر الملك موقفه من دوبان بقصة الزوج الغيور والببغاء (الدرة)، بينما يبرر الوزير الحسود موقفه بقصة الأمير والغول. وهكذا لا تجيء القصص الداخلية اعتباطا، بل لها دور في صلب القصة الأساسية. ويضرب تودوروف مثلا على القصص داخل القصص بعبارة ألمانية تقول «كل من يرشد عن الشخص الذي اقتلع العمود الموضوع على الجسر المؤدي إلى بلدة «ورمز» له مكافأة.» فهنا، يعتمد موضوع كل جملة على شيء آخر، ومثاله في ألف ليلة وليلة كالآتي:
شهرزاد تحكي أن:
جعفر البرمكي يقول:
إن الخياط يقص بأن:
الحلاق يذكر أن:
أن أخاه يحكي أن ...
وهكذا. فإذا علمنا أن الحلاق له ستة إخوة، وهو يقص حكاية كل واحد منهم، لأدركنا مدى البؤرة العميقة التي تقودنا فيها القصص المتداخلة. ويقابل تودوروف بين هذا الأسلوب وأسلوب روايات أوروبية أخرى، يركز فيه على رواية «مخطوط سرقسطة» التي تناولناها هنا.
الحب العذري الرومانسي
«... وكان بالعراق ملك يسمى عبد القادر، وكانت له بنت كالقمر الطالع وكانت تسمى حياة النفوس، وكانت تبغض الرجال فلا يكاد أحد يذكر الرجال بحضرتها .. فسمع أردشير ابن الملك بذكرها فأعلم والده بذلك، فنظر إلى حاله ورق له وصار كل يوم يوعده بزواجها ...»
حكاية أردشير وحياة النفوس «... فقال في نفسه: يا ترى أي شيء في هذه البقجة التي أهداها لنا الملك من التحف؟ فأخذها وأخذ الشمعة ونزل من فوق التخت وترك ساعدا نائما ودخل الخزانة وفتح البقجة فرأى فيها قباء من شغل الجان، ففتح القباء وفرده فوجد على البطانة التي من الداخل في جهة ظهر القباء صورة بنت منقوشة بالذهب، ولكن جمالها شيء عجيب. فلما رأى هذه الصورة طار عقله من رأسه وصار مجنونا بعشق تلك الصورة ووقع على الأرض مغشيا عليه وصار يبكي وينتحب ويلطم على وجهه وصدره ويقبلها ...»
حكاية سيف الملوك وبديعة الجمال «... ومما يحكى أيضا أيها الملك السعيد، أن الخصيب صاحب مصر كان له ولد ولم يكن هناك أحسن منه، وكان من خوفه عليه لا يمكنه من الخروج إلا لصلاة الجمعة، فمر وهو خارج من صلاة الجمعة على رجل كبير وعنده كتب كثيرة، فنزل عن فرسه وجلس عنده وقلب في الكتب وتأملها فرأى فيها صورة لامرأة تكاد أن تنطق، لم ير أحسن منها على وجه الأرض، فسلبت عقله وأدهشت لبه فقال له: يا شيخ، بكم تبيعني هذه الصورة؟ فقبل الأرض بين يديه ثم قال: يا سيدي، بغير ثمن. فدفع له مائة دينار وأخذ الكتاب الذي فيه هذه الصورة، فصار ينظر إليها ويبكي ليله ونهاره وامتنع عن الطعام والشراب والمنام وقال في نفسه: لو سألت الكتبي عن صانع هذه الصورة من هو لربما أخبرني؛ فإن كانت صاحبتها في الحياة توصلت إليها وإن كانت صورة مطلقة تركت التولع بها ولا أعذب نفسي بشيء لا حقيقة له ...»
حكاية إبراهيم وجميلة •••
تزخر قصص ألف ليلة وليلة بحكايات الحب والعشق والغرام التي تأخذ أشكالا متنوعة ومختلفة. فهناك قصص الحب العادية البسيطة، وقصص أخرى مطولة ومعقدة، تأخذ أبطالها في رحلات وتقلبات قد تمتد سنوات كثيرة وتغطي بلادا عديدة بل وقارات مختلفة أيضا. ويجد القارئ في كتاب ألف ليلة وليلة - بصورته الكاملة - نماذج لكل أنواع الحب والغرام: الحب العذري الرومانسي (الذي ينتهي إما بالوصال السعيد أو بالبعاد والجنون والموت) - الحب بالسماع أو برؤية رسم المحبوب فحسب - الحب من أول نظرة - الحب الحسي - الإيروسية - الجنس الصريح - الخيانات الزوجية. كما يغطى الجنس في الكتاب بأنواعه المختلفة، كما سيأتي فيما بعد.
وقد ذكرت الباحثة «ميا جيرهارت» أن قصص الحب التي تقوم على السماع بأوصاف المحبوب دون معرفة المحبوب شخصيا هي قصص ذات أصل فارسي. وتعتمد تلك القصص على هيام البطل - وهو عادة ما يكون أميرا أو ابن ملك من الملوك - بفتاة قصية اعتمادا على ما سمعه من أوصافها الجميلة أو إعجابا باسمها أو رسمها، ثم يشرع بعد ذلك في التحايل إلى الوصول إليها، ويخوض مغامرات عجيبة وأهوالا رهيبة تنتهي عادة ببلوغ مراده والفوز بالحبيبة والعيش معها في هناء حتى يأتيهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.
والاقتباس الأول من هذا الفصل هو من حكاية أردشير وحياة النفوس. وفيها يعشق أردشير - ابن ملك العراق عبد القادر - حياة النفوس ابنة ملك شيراز، من مجرد سماع أوصافها والتغني بحسنها، رغم أنها كانت كارهة للرجال ولم تقبل الزواج من أي من الملوك والأكاسرة الذين تقدموا إليها. ويرسل أبو أردشير لخطبة حياة النفوس لابنه فترفض كعادتها؛ ويتم كل هذا سماعا فحسب دون لقاء الخطيب والفتاة. ويشرع أردشير في رحلة طويلة وخطة معقدة للوصول إلى حبيبته واستمالتها إليه؛ فيتنكر في ثياب التجار ويصطحب وزير أبيه معه ويتوجهان إلى بلاد الملك عبد القادر أبي الحبيبة حياة النفوس. ويفتتح أردشير هناك «دكانا» فخما مليئا بالسلع الغالية الجذابة. وتأتي له يوما مربية الأميرة حياة النفوس، فيرحب بها ويهديها ما تريد شراءه ويغدق عليها الدنانير الذهبية، ثم يفضي إليها بسره في طلب وصال ابنة الملك، غير أنه يكتم عنها أنه هو الآخر ابن ملك شيراز. وتقوم المربية العجوز بدور الوسيط بين أردشير وحياة النفوس عن طريق رسائل من الشعر الذي يدبجه أردشير ويعبر فيه عن حبه، بينما ردود الأميرة تردعه وتهدده بالعقاب، والعجوز تحاول تليين قلبها إذ هي تقبل هدايا أردشير الثمينة. وبعد طول مرواح ومجيء، يحتال وزير أردشير على الدخول إلى بستان ابنة الملك ويغدق على الحارس حتى يسمح له بترميم القصر والجدار الذي يحيط بالبستان. ونعرف أن حياة النفوس تعاني من عقدة نفسية بسبب حلم رأته أقنعها بغدر الرجال وخيانتهم، فيحتال الوزير برسم مناظر ومشاهد على جدار البستان تخلص الأميرة من هذه العقدة. وسيأتي ذكر ذلك تفصيليا في الفصل الخاص بالحكاية السيكلوجية في هذا الكتاب. ونكتفي هنا بذكر لقاء أردشير وحياة النفوس آخر الأمر بالبستان، وهيام الواحد منهما بالآخر. ولكن الوشاة يتدخلون لدى الملك عبد القادر فيغضب على ابنته وحبيبها ويأمر بقتلهما. وقبل التنفيذ، يصل والد أردشير بحثا عن ابنه ومعه جيش جرار، وينتهي الأمر بالعفو عن الحبيبين بعد أن يعلم الجميع أن أردشير ابن ملك هو الآخر، ويتزوجان ويعيشان في سعادة وهناء. وكالعادة في قصص ألف ليلة وليلة، تقول شهرزاد عنهما: «وأقاموا في ألذ عيش وأهناه، وأرغده وأحلاه، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات ومخرب القصور ومعمر القبور.»
وهناك أيضا مثال آخر للعشق عن طريق السماع في حكاية «جلنار وبدر باسم»، حين يسمع الملك بدر خاله «صالح» يتحدث عن جلنار ابنة ملك البحار ويصف محاسنها لأخته التي هي خالة بدر، فعندها «صار في قلبه من أجلها لهيب النار وغرق في بحر لا يدرك له ساحل ولا قرار.» ويعترف بدر لخاله أنه سمعه يتحدث بأوصاف جلنار وأنه عشقها على السماع.
والاقتباس الثاني عاليه من حكاية تماثل الأولى في منشأ الحب والهيام، وإن كان في هذه المرة مرئيا برسم للمحبوبة وليس سماعا بأوصافها، وترد في حكاية سيف الملوك وبديعة الجمال. وما يهمنا من تلك القصة هنا أن أحد ملوك مصر ويدعى عاصم بن صفوان، وله وزير يدعى فارس بن صالح، وكانا بدون ذرية، مما كان يسبب هما كبيرا للملك. وسمعا عن شيخ صالح قادر على فعل المعجزات، فبعث له الملك بواسطة الوزير بهدية عظيمة، طالبا عونه في سؤال الرب أن ينعم عليه وعلى وزيره بذرية ترث الملك والوزارة من بعدهما. ويقول الشيخ الصالح للوزير إنه والملك لن يبلغا مرادهما حتى يؤمنا وقومهما بالله الواحد القهار ويخلصوا له العبادة، ومنحه سيفا وخاتما وبقجة فيها رداءان مرصعان بالجواهر، وقال للوزير أن يعطي لابن الملك وابنه - المنتظرين - تلك الهدايا عندما يكبران. وبالفعل، ينجب الملك والوزير ابنا لكل منهما، بعد أن فعلا ما نصح به الشيخ. ويكبر الولدان في ظل محبة أبيهما، ويصبحان من ألصق الأصدقاء. وحين يبلغان مبلغ الشباب، يأخذ سيف الملوك الخاتم والبقجة ويأخذ ابن الوزير «ساعد» السيف. وحين يفتح سيف الملوك البقجة، يجد فيها قباء من صنع الجان، ويفتح القباء ويفرده فيجد في بطانته صورة بنت منقوشة بالذهب، ولكن جمالها شيء عجيب. «فلما رأى هذه الصورة، طار عقله من رأسه وصار مجنونا بعشق تلك الصورة ووقع على الأرض مغشيا عليه، وصار يبكي وينتحب ويلطم على وجهه وصدره ويقبلها.»
وتمثل هذه القصة نموذجا فريدا في العشق من النظر، وهو صورة من صور الحب الذي أفرخ بعد ذلك نماذج متنوعة من صور الحب الرومانسي بأشكاله المتعددة في كل العصور.
ثم هناك قصص الحب العذري الواقعي، حيث يعرف الحبيب محبوبه ويلاقيه، ولكنه يصادف العقبات التي لا يمكن تذليلها، فينتهي نهاية فاجعة بموت أحد الحبيبين أو كليهما عشقا. ورغم قولنا عن هذا الحب إنه عذري، فمن الملاحظ أن الحبيب يسعى دائما إلى وصال محبوبه، ولا يكتفي بمجرد النظر والتفكير. ومعظم تلك الحكايات مبنية على قصص حقيقية، كعشق قيس بن الملوح ابنة عمه ليلى العامرية، وحب جميل لبثينة. ولكن ألف ليلة لا تحكي عن قيس وجميل، ربما لأن قصتيهما كانتا ذائعتين معروفتين للجميع، ولكن حكايات ألف ليلة الغرامية تتناول قصصا أقل شهرة، وإن كان لبعضها أصل تاريخي أيضا، مثل حكايات عدي بن زيد، والمتلمس، والخليفتين معاوية وعبد الملك بن مروان. وهناك حكايات مؤثرة عن الحب العذري وإن لم يكن لها أصل تاريخي، مثل «عاشقان من بني عذرة» و«طيء» و«عتبة وريا». وهناك حكاية العاشق المتيم (الليلة 348) التي نثبتها هنا لقصرها ودلالتها: «ومما يحكى أنه كان في بني عذرة رجل ظريف وكان لا يخلو من العشق يوما واحدا. فاتفق له أن أحب امرأة جميلة من الحي، فراسلها أياما وهي لا تزال تجفوه وتصد عنه إلى أن أضر به الغرام والوجد والهيام، فمرض مرضا شديدا ولزم الوساد وجفا الرقاد وظهر للناس أمره واشتهر بالعشق ذكره .. وازداد سقمه وعظم ألمه حتى كاد أن يموت. ولم يزل أهله وأهلها يسألونها أن تزوره وهي تأبى إلى أن أشرف على الموت فأخبروها بذلك، فرقت له وأنعمت عليه بالزيارة. فلما نظرها تحدرت عيناه بالدموع وأنشد عن قلب مصدوع:
بعيشك إن مرت عليك جنازتي
وقد رفعت من فوق أعناق أربع
أما تتبعين النعش حتى تسلمي
على قبر ميت في الحفيرة مودع
فلما سمعت كلامه بكت بكاء شديدا وقالت له: والله ما كنت أظن أنه بلغ بك الغرام إلى أن يلقيك بين أيدي الحمام، ولو علمت بذلك لساعدتك على حالك وتمتعت بوصالك. فلما سمع كلامها صارت دموعه كالسحاب الماطر وأنشد قول الشاعر:
دنت حين حال الموت بيني وبينها
وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
ثم شهق شهقة فمات. فوقعت عليه تلثمه وتبكي. ولم تزل تبكي حتى وقعت عنده مغشيا عليها، فلما أفاقت أوصت أهلها أنهم يدفنونها في قبره إذا ماتت. ثم أجرت دمع العين وأنشدت هاتين البيتين:
كنا على ظهرها والعيش في رغد
والحي يزهو بنا والدار والوطن
ففرق الدهر والتصريف ألفتنا
وصار يجمعنا في بطنها الكفن
فلما فرغت من شعرها بكت بكاء شديدا، ولم تزل تبكي حتى وقعت مغشيا عليها. واستمرت في غشيتها ثلاثة أيام، وماتت ودفنت في قبره. وهذا من عجيب الاتفاق في المحبة.»
وعلى نفس النسق تجيء حكاية «عتبة وريا»، وفيها يحكي عبد الله بن معمر القيسي عن قصة حضرها إبان الحج، إذ رأى غلاما ينشد أشعارا في الهوى العذري ويبكي بحرقة، فلما سأله عن حاله أجاب الفتى: «أنا عتبة الأنصاري، عدوت إلى مسجد الأحزاب فبقيت راكعا وساجدا ثم اعتزلت أتعبد وإذا بنسوة يتهادين كالأقمار وفي وسطهن جارية بديعة الجمال كاملة الملاحة فوقفت علي وقالت: يا عتبة، ما تقول في وصل من يطلب وصلك؟ ثم تركتني وذهبت فلم أسمع لها خبرا ولا وقعت لها على أثر وها أنا حيران أنتقل من مكان إلى مكان بحثا عنها. ويظل القيسي يواسيه حتى أقبلت كوكبة من النسوة وليست صاحبته بينهن، فسأل عنها فقلن إنها ريا بنت الغطريف السليمي. ويصطحب القيسي الفتى عتبة وأشراف قومهما إلى منازل أهل حبيبته طالبا يدها، إلا أن أبيها يقول: أقسمت لا أزوجنك بها أبدا بعد أن نمى إلي حديثك عنها. وبعد توسط الأشراف لدى عتبة وأبيها يوافقان على زواج الحبيبين. إلا أنه في طريق العودة إلى المدينة المنورة، خرجت على القوم غارة حمل عليها عتبة وقتل منها عدة رجال ولكنه أصيب بطعنة قضت عليه. وتبكيه ريا حتى تقضي نحبها معه. ويقول القيسي في روايته: «فحفرنا لهما قبرا واحدا وواريناهما في التراب ورجعت إلى ديار قومي وأقمت سبع سنين ثم عدت إلى الحجاز ودخلت المدينة المنورة للزيارة، فقلت والله لأعودن قبر عتبة، فأتيت إليه فإذا هو عليه شجرة عالية عليها عصائب حمر وصفر وخضر، فقلت لأرباب المنزل: ما يقال لهذه الشجرة؟ فقالوا: شجرة العروسين.»
ثم هناك «حكاية على بن بكار مع شمس النهار» وهي كلها عبارة عن وصف تباريح الهوى وعذابات الحب بين بطلها ابن أحد ملوك العجم الذي كان مقيما ببغداد، ويلتقي مصادفة بالجارية شمس النهار محظية الخليفة هارون الرشيد. ويتمكن الحب بين الاثنين ويلتقيان في ظل خطر اكتشاف الخليفة لسرهما، وفي كل لقاء يغشى عليهما من فرط الود والجوى دون أمل في الوصال، وهو ما يضني علي بن بكار ويهلكه في النهاية هو والجارية من فرط العشق والجوى. وتتميز تلك القصة بذكر تباريح العشق وامتلائها بأخبار المرض والسقم من فرط الحب، وتكرار أن نتيجة العشق الحقيقي إما الوصال وإما الموت.
وقد أثارت مسألة أصول ومصادر الحب العذري الرومانسي، الذي اصطلح على تسميته بالإنكليزية
COURTLY LOVE
وبالفرنسية
AMOUR COURTOIS ، معارك بحثية عديدة حول طبيعة ونشأة هذا النوع من الحب الذي لم يكن معروفا في أوروبا في بداية العصور الوسطى، ثم ظهر فجأة في الكثير من المؤلفات القصصية والرومانسات والشعر والأغاني. وكانت بدايته الأوروبية في جنوب فرنسا، ثم انتقل إلى الشمال، وفي إيطاليا، وإنجلترا وأيرلندا. وقد حاول عدد من المستشرقين على مر الأعوام نفي الأثر العربي الأندلسي في نشأة تلك القصص والرومانسات الأوروبية التي تحكي عن ذلك النوع من الحب، وخاصة الأشعار التي كان يتغنى بها التروبادور والتروفير في فرنسا. وعلى نفس النحو، كان الباحثون والمستشرقون القدامى غافلين عن أي أثر تكون الثقافة العربية والإسلامية قد تركته في الرومانسات والملاحم والقصص التي ظهرت مع ظهور اللغات المحلية التي تفرعت عن اللغة اللاتينية في أوروبا. وحتى مع ظهور كتاب ألف ليلة وليلة في الغرب بدءا من عام 1704م، واعتراف الكثير من الأدباء والشعراء الغربيين بتأثرهم به، لم يركز مؤرخو الأدب ولا الباحثون على دراسة ذلك التأثير فيما أنتجه أولئك الأدباء والشعراء من أعمال. وتجدر الإشارة هنا على أن «الأثر العربي» لا يقتصر على ألف ليلة وليلة فحسب، بل يمتد إلى أعمال عربية كثيرة كانت متداولة في الغرب، مروية أو مكتوبة، مثل كليلة ودمنة وملاحم عنترة بن شداد وقصص حيل النساء، والكتابات الأخرى التي ذكرناها في مقدمة هذا الكتاب.
وكانت نقطة «الانفراج» في هذا الموقف القائم على التحيز والنعرات القومية، على يد المستشرقين الإسبان، متمثلا في الخطاب الذي ألقاه الباحث والمستشرق الإسباني الشهير «ميجيل آسين بالاسيوس» بمناسبة انضمامه إلى الأكاديمية الملكية الإسبانية في 26 يناير 1919م، وأعلن فيه لأول مرة أنه قد توصل بعد طول بحث وتدقيق إلى أن دانتي في ملحمته «الكوميديا الإلهية» قد تأثر بأعمال إسلامية في الإطار الذي رسمه لملحمته، وفي تفاصيل وصفه للجحيم والفردوس، بل والمطهر (وهو الأعراف في الإسلام)، بما ورد في الكتب العربية الإسلامية في الشروح والتفسيرات لآيات الإسراء في القرآن الكريم، وبرسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وكتب الصوفي الأندلسي الأشهر محيي الدين بن عربي.
وكان أثر ذلك الخطاب الذي نشره بالاسيوس بعد ذلك، أشبه بوقع القنبلة، كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه «دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي»، الذي اعتمدت عليه فيما يخص هذا القسم الذي يتناول دانتي. ونشط المستشرقون المتعصبون للاعتراض على ما ذكره آسين بالاسيوس، خاصة الإيطاليين الذين دافعوا عن أصالة شاعرهم «القومي»، أن يكون قد تأثر «إسلاميا» في عمله العظيم، ونسوا أن ليس هناك من إبداع يأتي من فراغ، وأن التأثيرات العربية والإسلامية كانت هي العملة الرائجة في ذلك العصر. وفي حين اعترف الغرب من زمن بأثر العرب والمسلمين في المجالات العلمية كالهندسة والبصريات والطب والزراعة والفلك والجبر وغيرها، بل والمجالات الفلسفية أيضا من تطويرات وتجديدات للفكر اليوناني، في كتب ابن رشد والغزالي والفارابي وغيرهم كثيرين، كانوا يغضون النظر عن التأثيرات الأدبية والفنية، مع أن هذا ليس من المنطق في شيء إذ إن الأمور تؤخذ برمتها؛ فإذا كان الغرب قد اطلع على ما كتبه وتناقله العرب والمسلمون من علم وفلسفة، بل وأيضا من تاريخ وجغرافيا وخرائط؛ فماذا يمنع من اطلاعه على ما تناقلوه وكتبوه من فن وأدب وموسيقى؟ ويبدو أن عدم وجود الصلة الواضحة المباشرة من ترجمات ومخطوطات عن تلك الأعمال هو ما أدى بالباحثين والمستشرقين إلى إنكارهم ذلك التأثير، وفاتهم أن الأعمال الأدبية العربية والإسلامية كانت في أكثرها في ذلك الوقت تلقى شفاهة ورواية وإنشادا وغناء من أفواه الشعراء والرواة والمغنين ومنشدي الملاحم والقصص الشعبية والأساطير والرومانسات. كذلك أغفلوا واقع أن الكثير من المخطوطات والرسائل والكتب العربية قد تعرضت للتدمير بعد حركة الاسترداد الإسبانية إثر الحمية القومية والدينية التي اجتاحت إسبانيا بعد سقوط غرناطة عام 1492م، ثم بعد طرد العرب والمسلمين كلية من أراضيها عام 1609م. وقد تكفلت جهود محاكم التفتيش بإتلاف أو إخفاء أي أثر للكتابات العربية في تلك الأراضي. ويذكر المستشرق «نيكل» نقلا عن «ألتاميرا» أن كبير أساقفة طليطلة «خيمينيز دي سيزنيروس» كان يجمع أكواما من الكتب والمخطوطات العربية ويحرقها في ميدان «تل الرملة» بغرناطة. كما أصدر سيزنيروس عام 1511م مرسوما يأمر كل من بقي من العرب والمسلمين الذين أجبروا على اعتناق الكاثوليكية وأصبحوا يعرفون باسم الموريسكيين
MORISCOS
أن يسلموا جميع ما لديهم من كتب ومخطوطات إلى السلطات لفحصها، مما أجبر بعض هؤلاء إلى إخفاء ما لديهم منها بعيدا عن أعين رقابة محاكم التفتيش.
ومن المنطقي أنه ما دام الإسبان والصقليون قد ترجموا أمهات الكتب العلمية والفلسفية العربية إلى اللاتينية أو اللغات المحلية التي انبثقت عنها، فلا بد أنهم قد ترجموا أيضا ما وجدوا من كتابات قصصية وملحمية، من مثل قصص ألف ليلة وليلة التي كانت تروى شفاهة، وكليلة ودمنة، ورومانسيات عنترة، وكذلك الأشعار الأندلسية العذبة التي ابتدع مؤلفوها أنماطا جديدة من الشعر العربي لم تكن معروفة خارج الأندلس. وكما ذكرنا في فصل سابق، كانت اللغة العربية قد أصبحت لغة دولية
LINGUA FRANCA ، وأصبح تعلمها واستخدامها دليلا على الثقافة والرقي. وتجيء هنا الفقرة المشهورة على لسان «بول ألفارو» عن تعلم الشباب من المسيحيين الإسبان اللغة العربية وآدابها، وقد أوردناها كاملة في فصل «الجذور الأولى»، وأحب هنا أن ألفت النظر بخاصة إلى الموضع الذي يذكر فيه أن بوسع عدد كبير من هؤلاء الشباب أن يعرض أساليب اللغة العربية ببراعة فائقة، ويزينون الفقرات الأخيرة من أشعارهم بأناقة تفوق أناقة العرب أنفسهم، وكذلك الولع بقراءة «الأشعار» و«القصص» العربية.
بيد أن الثورة التي قوبل بها آسين بالاسيوس لم تفت في عضده، بل واصل أبحاثه وأصدر عام 1943م - قبيل وفاته عام 1944م - طبعة ثانية مزيدة لكتابه، رد فيها على نقاده بالأدلة والبراهين. غير أنه كان يعوزه الدليل المادي المباشر على وجود ترجمات لاتينية عن قصص «الأخرويات» الإسلامية تكون قد تدوولت في العصر الذي عاش فيه دانتي. وبدأت تلك الأدلة المادية في الظهور منذ عام 1949م، حين نشر الإيطالي «إنريكو تشيرولي» ترجمتين لاتينية وفرنسية لكتاب عربي هو «معراج محمد» كان قد تمت ترجمته إلى القشتالية (الإسبانية الأولى) ومنها إلى اللاتينية والفرنسية حوالي عام 1246م، نشرها الباحث الإيطالي، عن مخطوطات موجودة بالفعل في مكتبة «بودلي» بأكسفورد والمكتبة القومية في باريس. كذلك نشر الباحث الإسباني «كونيوز سندينو» - مستقلا عن تشيرولي - ترجمات إسبانية ولاتينية وفرنسية لنفس الكتاب. ويورد الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه سالف الذكر شواهد كثيرة على انتشار ذلك الكتاب بترجماته المتعددة في كل أنحاء أوروبا قبل مولد دانتي مباشرة، ثم يورد مقاطع وصورا بلاغية توازن بين ما جاء في الكوميديا الإلهية وبين ما جاء في ذلك الكتاب الإسلامي، بما لا يدع مجالا للشك في معرفة دانتي الوثيقة به.
والنص اللاتيني لكتاب «معراج محمد» به تصدير لمترجمه الإيطالي المسمى «بونافنتورا دي سيينا»، سكرتير الملك ألفونسو ملك قشتالة، يذكر فيه أن إبراهام الطبيب اليهودي للملك العظيم ألفونسو ملك قشتالة وطليطلة وليون وجليقية وإشبيلية وقرطبة ومرسية وجيان والجرف، قد قام - بناء على أوامر الملك - بترجمة هذا الكتاب من اللغة العربية إلى الإسبانية بهدف «التعرف على حياة محمد وحكمته»، وأنه قام بتقسيم الكتاب إلى فصول كيما ييسر الاطلاع عليه. ويضيف بونافنتورا أنه يقوم بدوره - بناء على أمر الملك ذاته - بترجمة الكتاب من الإسبانية إلى اللاتينية. ونفهم من كلام المترجم الأخير أن تلك الترجمة كانت بغرض تبيان حقائق الديانة المسيحية في مقابل الدين الإسلامي، رغم أنه قد اقتصر على ترجمة النص ولم يلحق به أية تعليقات أو إضافات ، وقد ذكر الأب فرانك جيلي (في محاضرة سنذكرها توا) بأنه يظن أن بونافنتورا قد أضاف ذلك لإرضاء السلطات الكنسية ومحاكم التفتيش في ذلك الوقت.
وقد آذن ذلك الاكتشاف ببعض الانفتاح على الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على الآداب والفنون الأوروبية في العصور الوسطى. وأصبح لنظرية التأثر العربي والإسلامي لدانتي مناصرون أكثر من معارضين. وفي محاضرة ألقاها الأب «فرانك جيلي» في «جاليري الكوفة» بلندن في نوفمبر 2002م، وعرضها الباحث إبراهيم درويش، قدم استعراضا مشوقا لتردد الباحثين في الاعتراف بذلك الأثر، نظرا لأن دانتي «هو الأب المؤسس للأدب الإيطالي، وغالبا ما يشار إليه باسم الأب دانتي. وتقليديا لا ينظر إلى دانتي باعتباره شاعرا بين الشعراء ولكنه: الشاعر .. وهو المعادل الإيطالي للشاعر اليوناني هومر والإنجليزي شكسبير والألماني جوته.» ويتردد الأب جيلي في محاضرته بين الاعتراف بالتأثير العربي وإنكاره، وإن كان الاعتراف أقوى، حين يبين أن أخذ شكسبير لموضوعات مسرحياته من مصادر أخرى لم تنتقص قيد شعرة من قدر مؤلفاته ومن مكانته.
أما فيما يختص بالشعر الأندلسي، فبرغم إنكار عدد من الباحثين لأي أثر عربي إسلامي في أشعار وأغاني التروبادور، منهم الباحث الألماني «فردريك ديز» والفرنسي «جانروا» وغيرهما، بدأ بعض الباحثين الموضوعيين في التخلص من النعرات القومية والدينية والاعتراف بظهور الأدب البروفنسالي من عباءة الأدب الأندلسي. وقد وقع عبء تأصيل هذا التأثير - في معظمه - على عاتق مجموعة من المستشرقين والباحثين الإسبان، منهم آسين بالاسيوس الذي سبق ذكره، وجونزالز فالنسيا، ومنندث بيدال، وجرسيه جومث الذي أصدر كتابه الأساسي الهام «الشعر الأندلسي»، الذي ألقاه في صيغته الأولى في المعهد المصري بمدريد عام 1950م وصدر عن مطبوعات المعهد، قبل صدوره بعد ذلك في طبعات عديدة وترجمات عديدة. وأتبعه - بعد تحقيقات ضافية - بديوان ابن قزمان الذي أثبت مدى الشبه بين الموشحات والأزجال الأندلسية وبين قصائد التروبادور. وهناك أيضا الكتاب الفريد لمؤلفه الفرنسي «روبير بريفو» المعنون «التروبادور» الصادر عام 1965م، الذي أوفى فيه العرب والمسلمين حقهم في ريادة الشعر الغزلي في إسبانيا وفرنسا، والذي انتقل بعد ذلك إلى إيطاليا وإنجلترا وأيرلندا. (1) نظرة مجملة في أصل الحب العذري وأشعار التروبادور
أبدأ بالإشارة إلى صعوبة ترجمة الاصطلاح الذي صكه الفرنسي «جاستون باري» في عام 1883م وهو
AMOUR COURTOIS
وبالإنجليزية
COURTLY LOVE ، والذي يعني به الحب الذي ساد أوروبا في القرن الثاني عشر وظهر في أدب الملاحم والقصص وفي أشعار التروبادور أو الشعر البروفنسالي بوجه عام. ذلك أن التعبير العربي الحب العذري، أو الحب الرومانسي لا يؤديان المعنى المطلوب تماما، كما أن اقتراحات تسميته بالحب الرفيع لا تفي بالغرض. فإذا لجأنا إلى الترجمة الحرفية وقلنا «حب البلاط» أثار ذلك سخرية القراء العرب! وعلى هذا، وحتى نتفق على تسمية عربية جامعة للمصطلح، لا مفر من تسميته هنا مؤقتا «الحب الغزلي»، ولذلك فليعتبر القراء أننا نذكر فيما يلي هذا الاصطلاح العربي معنيا به المصطلح الإفرنجي سالف الذكر.
وقد عرف «باري» وغيره مفهوم الحب الغزلي بأنه الحب الذي يخاف الحبيب فيه دوما أن يقوم بأي شيء يغضب حبيبته أو يجعله غير جدير بحبها؛ ومركز الحبيب هو مركز أدنى من حبيبته، فحتى أعتى الفرسان والمحاربين يرتجف حبا في حضور حبيبته. أما من ناحيتها، فهي تعمل دائما على جعل حبيبها غير واثق أو مطمئن تماما من عاطفتها نحوه، عن طريق سلوك نزق متعال. والحب هنا مصدر شجاعة وسمو، وإن لا يكون عفيفا بالضرورة، فكثيرا ما تكون الحبيبة متزوجة. وتعمل قسوة الحبيبة الظاهرية على اختبار شجاعة الحبيب وصبره وقوة احتماله. والحب الغزلي، مثله مثل الفروسية، هو فن له قواعده الخاصة به. والحب الغزلي في معظمه حب نزوي، يائس، ويكون طرفه حبيبة قصية المنال، محجوبة، أو متزوجة. وقد ظهرت تعريفات هذا الحب وغيره عند ابن حزم (994-1064م) في كتابه المشهور «طوق الحمامة» الذي ترك أثرا بالغا في صور الحب ومفاهيمه في الأندلس وأوروبا منذ تأليفه.
ورغم أن مصطلح الحب الغزلي في أواخر القرن التاسع عشر فحسب، فإن الجدل الأكاديمي حول أصول ذلك النوع من الحب، وأصول الشعر البروفنسالي قد بدأت منذ عصر النهضة الأوروبية، حيث ساد الاعتقاد بين الباحثين بأن الشعر الأوروبي «الجديد» قد بدأ في بروفانس في القرن الثاني عشر، وأن مفهوم الحب كما تبدى في أشعار التروبادور مغاير تماما للمفهوم الذي عبر عنه الشعراء اليونانيون والرومانيون قديما. وقد عدد «روجيه بواز» في كتابه الهام «مصادر الحب الغزلي ومعناه» (1977م) أصول شعر التروبادور والحب الغزلي التي أشار إليها الباحثون والنقاد على مر القرون، وحصرها في سبعة مصادر محتملة هي: (1) العربي الأندلسي (2) تقاليد الفروسية (3) ديانة «الكاثار» المسيحية (4) الأفلاطونية الجديدة (5) تبجيل السيدة مريم العذراء (6) طقوس الربيع الفولكلورية (7) التقاليد الإقطاعية.
وهو يذكر أن أكثر الفرضيات احتمالا وقبولا، هي نظرية الأصل العربي للحب الغزلي ولشعر التروبادور وموسيقاهم وأغانيهم، بيد أنها لقيت - وما تزال تلقى - معارضة من عدد من الباحثين الغربيين. ويرجع المؤلف ذلك إلى النعرات القومية، والاعتقاد بأن الحضارة الغربية قد ورثت مقوماتها من الثقافة الهيلينية والرومانية القديمة. وبرغم التسليم العام بفضل العرب والمسلمين في الحفاظ على الفلسفة اليونانية والإضافة إليها، والإبداع في علوم الطب والفيزياء والكيمياء والهندسة والفلك وغيرها، فإن فكرة الأثر الذي تركه الأدب العربي الإسلامي في الآداب الأوروبية، تلقى صدا لا معنى له.
وكان الباحث الإيطالي «جياماريا باربيري» (1519-1575م) هو أول من دافع عن النظرية القائلة بأن العلاقات مع إسبانيا العربية قد ساهمت في نشأة شعر التروبادور البروفنسالي في القرن الثاني عشر. وهو يقول إن العرب قد ابتكروا في القرنين السادس والسابع الشعر المقفى، وأن البروفانس قد تعلمت ذلك الفن من إسبانيا أيام الحكم العربي فيها. ويضيف - بتحديد غريب - أن هذه النقلة الأدبية قد حدثت عام 1112م، حين تولى «رامون برنجر» كونت برشلونة، كونتية إقليم بروفانس، مما أدى إلى توحد المقاطعتين ثقافيا وحضاريا. ورغم أن بحث بربيري ذاك لم ينشر إلا عام 1790م، فهو كان معروفا ومتداولا بين الباحثين ومؤرخي الأدب في إيطاليا منذ وضعه في القرن السادس عشر.
ثم شهد القرن الثامن عشر مدافعين آخرين عن الأصل العربي للحب الغزلي والشعر البروفنسالي، منهم الإسباني «خوان أندريس» (1740-1817م) والألماني «فردريك بوترفرك»، وقد اعتمدا في أبحاثهما على المرجع الشامل الذي نشره «ميجيل كاسيري» خلال الأعوام 1760-1770م بعنوان
Biblioteca Arabico-Hispana Escorialensis ، وهو عبارة عن كتالوج بالمخطوطات العربية في مكتبة الإسكوريال الإسبانية الشهيرة. وقد مثل هذا المرجع أساسا هاما اعتمد عليه الباحثون لإثبات الأصول العربية لكثير من الموضوعات والأفكار، من عناوين المخطوطات والكتب التي وردت في الكتالوج. وقد خلص خوان أندريس إلى أن أنواع الشعر البروفنسالي توازي مثيلاتها عند العرب، وأن المدارس الشعرية في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا قد أقيمت على طرز المؤسسات الشعرية العربية. وأشار أندريس إلى التقاليد الشعرية العربية العريقة التي ترجع إلى عهود «سوق عكاظ»، وإلى تفوق العرب في فنون الموسيقى خصوصا في الأندلس، مما يتبدى في الأصل العربي لأسماء كثير من الآلات الموسيقية المستخدمة أيامه. وينتهي إلى القول صراحة بأن العرب قد أورثوا أوروبا شعرهم ومبادئ الموسيقى الحديثة.
وهناك الباحث القطلوني (نسبة إلى إقليم قطالونية في الشمال الشرقي لإسبانيا، وله لغته الخاصة به المتفرعة أيضا عن اللاتينية) «خافيير لامبياس» (1731-1810م) الذي أبرز نظرية اللغوي القطلوني «أنطونيو باستيرو» بأن اللغتين القطلونية والبروفنسالية كانتا في الأصل متطابقتين؛ فالقطلونية التي دخلت جنوب فرنسا منذ القرن التاسع عن طريق كونتات برشلونة، أصبحت هي اللغة الأدبية لإقليم البروفانس.
ومع أن القرن التاسع عشر قد شهد أبحاثا عدة تناهض فكرة الأثر العربي في شعر التروبادور وموسيقاهم، فقد شهد أيضا متحمسين لهذه الفكرة، منهم سيموند دي سيسموندي (1773-1842م)، بأقوال مثل : «إن القصص العربية هي مصدر تلك الرقة والرهافة في المشاعر تجاه المرأة التي سادت عصور الفروسية الأوروبية. والفروسية - التي كانت روح الأدب الجديد أيامها - هي مستورد عربي لم يرتبط في بادئ الأمر بالنظام الإقطاعي. فقد أدخل رايموند برنجر ومن تبعه إلى بروفانس روح الحرية والفروسية مع العلوم العربية التي وفدت إلينا.» أما الباحث «ديبيكليز» فيقول عام 1846م إن النظرة إلى المرأة بوصفها رمزا مقدسا قد انتقلت من الشعر العذري والشعر الصوفي العربي والإسلامي، عبر إسبانيا وعن طريق الصلات التي حدثت إبان الحروب الصليبية، إلى أوروبا. كما تناول المستشرق الألماني المعروف «فون هامر-بيرجستال» (أحد باحثي ومترجمي ألف ليلة وليلة) موضوع الأصل العربي للفروسية الأوروبية ، فلاحظ أن الشعر العربي الذي انتشر في الأندلس في القرن التاسع يتبدى فيه ذلك التقديس الرفيع السامي للمرأة، وهو ما أصبح بعد ذلك من الصفات الأساسية لنظام الفروسية الأوروبي ولشعراء التروبادور.
وفي مسار القرن العشرين، اكتسبت نظرية الأصل العربي لشعر التروبادور والحب الغزلي زخما جديدا بفضل جهود عدد من المستشرقين الذين توفروا على دعمها وإثباتها باستخدام أساليب نقدية جديدة في مجالات علوم الاجتماع والأنثروبولوجي وعلم النفس والأدب المقارن واللغويات والنقد النصي. وقد أكد «خوان ريبيرا» (1858-1934م) ما ذكره خوان أندريس سابقا من خروج شعر التروبادور وموسيقاهم من عباءة الزجل الأندلسي والغناء العربي في الأندلس. ودعم ذلك الموقف المستشرقون «كونراد بورداخ» في ألمانيا، و«جورج ماسينيون» في فرنسا و«كارولينا ميخائيليس» في البرتغال و«منندث بيدال» في إسبانيا. وقد بين بورداخ أن النموذج الأنثوي في نظرية الشعر البروفنسالي والحب الغزلي يتناقض مع النموذج المسيحي الكنسي، وأنه ليست هناك سوابق في الأدب اليوناني أو الروماني يمكن أن تكون أساسا له.
وفي مقابل ذلك، قدم «جون ولكوكس» و«ك. س. لويس» تعريفا دقيقا للحب الغزلي وعناصره تمثلت في: تعبد الحبيب في محراب حبيبته، ومشاعر الحب الحر، ثم التسامي بها عن طريق أنشطة الفروسية ومخاطراتها. وقد تم تفسير الحب الحر بأنه التعبير العفوي التلقائي للرغبة المتبادلة التي تبرز في وجه الضغوط الاجتماعية والدينية والاقتصادية. (وهذا هو تماما ما كان يحدث في الحب العذري العربي، بإضافة تقاليد القبيلة والأسرة - قارن قيس وليلى وجميل وبثينة وقصص الحب العذري الأخرى الواردة في ألف ليلة وليلة).
وقد كان الحب الغزلي نبتا غريبا في وسط المجتمع الأوروبي عند ظهوره. ففي الوقت الذي بزغ فيه، كانت كنيسة العصور الوسطى لا تشجع فكرة السمو بالمرأة ووضعها موضع التقديس في العاطفة الغرامية. ولم تكن الرغبات الحسية - مهما بلغت درجة صدقها ومشروعيتها - تعتبر من العواطف النبيلة. ولم تكن الكنيسة تشجع عواطف الحب العارم حتى ضمن نطاق الزواج، بل نظرت إليه نظرة غير أخلاقية، فالزواج كان هدفه الحفاظ على النسل وحسب. وقد شملت تلك النظرة الحب الغزلي والشعر التروبادوري كذلك. وقد أكد «كريستوفر دوسون» في كتابه «أصول الأعراف الرومانسية» (1935م) على أن المقاييس الأخلاقية للمجتمع البروفنسالي في القرن الثاني عشر لم تكن نفس المقاييس الدينية، وأن الملاحم الوطنية التي نشأت في الشمال الفرنسي وما وراءه لم تتبد فيها ملامح المثل العليا الجديدة للفروسية والحب الغزلي إلى أن انتقلت إليها تلك المثل بعد ذلك من الجنوب.
ثم طلع «رامون منندث بيدال» عام 1938م بكتابه الهام «الشعر العربي والشعر الأوروبي»، الذي نادى فيه بأن الزجل الذي كان يوضع بالعربية والإسبانية المبكرة، إضافة إلى الموشحات الأندلسية، هي نتاج انصهار الرومانس والثقافة العربية في شبه الجزيرة الأيبيرية، وأن هذا النظم المقطعي قد انتقل إلى شمال إسبانيا ومنها إلى المناطق الأوروبية الأخرى. وقد كتب في الموضوع كل من المستشرقين أ. ر. نيكل وبيير بلييرون وهنري بيريز. وأوضح الأخير أن مخاطبة الحبيبة باسم المذكر، وإخفاء شخصية الحبيب، ودور الرقيب، والعذول، ومساعي الوسيط بين المحبين، كل ذلك بصمات عربية خالصة.
وقد جاء اكتشاف «صمويل ستيرن» عام 1948م لموشحات بها «خرجات» (أى مقاطع ختامية) مكتوبة بلهجات إسبانية كانت شائعة أيام الحكم العربي لإسبانيا، ليفجر من جديد جدل الأثر العربي في شعر التروبادور. وظهرت أبحاث معارضة وأبحاث مؤيدة؛ ودخل في تلك الأبحاث أثر ابن سينا (رسالة في العشق) وابن رشد وابن حزم في تطور مفاهيم الحب في عصورهم. وظهر نقاد يفرقون بين الحب الغزلي والحب الفروسي (رينيه نيلي، 1963م)، ونقاد يحللون الحب الغزلي في أضواء فرويدية (ريتشارد كوينزبرج، 1967م) يتحدثون فيها عن السادية والماسوشية! ومن بين كل تلك النظريات والاتجاهات، ما تزال نظرية الأصل العربي والأندلسي للحب الغزلي وشعر التروبادور وموسيقاهم وأغانيهم هي النظرية ذات الأصل المنطقي حتى وقتنا الحاضر.
الجنس والإيروسية
«... وكان في قصر الملك شبابيك تطل على بستان أخيه. فنظر، وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه عشرون جارية وعشرون عبدا وامرأة أخيه تمشي بينهم وهي في غاية الحسن والجمال، حتى وصلوا إلى فسقية وخلعوا ثيابهم وجلسوا مع بعضهم. وإذا بامرأة الملك قالت: يا مسعود، فجاءها عبد أسود فعانقها وعانقته.»
حكاية الملك شهريار وأخيه شاه زمان «... فتبسمت وأطلعته معها على السرير وقالت له: لا ترى بعد هذه الليلة من نكير، ومالت عليه بالتقبيل والعناق والتفاف ساق على ساق ثم قالت له: مد يدك إلى فخذي .. فبكى وقال إني لا أحسن شيئا من ذلك. فقالت بحياتي أن تفعل ما أمرتك به مما هنالك. فمد يده وفؤاده في زفير فوجد فخذها ألين من الزبد وأنعم من الحرير، فاستلذ بلمسها وجال بيده في جميع الجهات .. فقال في نفسه: لعل هذا الملك خنثى وليس بذكر ولا أنثى. ثم قال: أيها الملك .. ما حملك على هذه الفعال؟ فضحكت الملكة بدور حتى استلقت على قفاها وقالت له: يا حبيبي ما أسرع ما نسيت ليالي بتناها، وعرفته بنفسها. فعرف أنها زوجته الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور، فاحتضنها واحتضنته وقبلها وقبلته ثم اضطجعا على فراش الوصال ...»
حكاية قمر الزمان مع الملكة بدور «... ثم إنها نزعت ما عليها من ثياب ولبست أفخر ما عندها من ملابس النساء فعلمت أنها أنثى. ثم أنها أحضرت خمرا وشربت منه وسقت القرد، ثم واقعها القرد نحو عشر مرات حتى غشي عليها. وبعد ذلك نشر القرد عليها ملاءة من حرير وراح محله.»
حكاية بنت السلطان والقرد «... قالت والله كنت قبل محبتي هذا الغلام في غاية الدلال بهيئة الجمال والكمال ولقد فتنت جميع ملوك البصرة حتى افتتن بي هذا الغلام. قلت: يا هذه، وما فرق بينكما؟ قالت: نوائب الدهر ولحديثي وحديثه شأن عجيب، وذلك أني قعدت في يوم نيروز ودعوت عدة من جواري البصرة، وفي تلك الجواري جارية سيران، وكان ثمنها ثمانين ألف درهم، وكانت لي محبة وبي مولعة، فلما دخلت رمت نفسها وكادت تقطعني قرضا وعضا، ثم خلونا نتنعم بالشراب إلى أن يتهيأ طعامنا ويتكامل سرورنا وكانت تلاعبني وألاعبها فتارة أنا فوقها وتارة هي فوقي، فحملها السكر إلى أن ضربت يدها إلى دكتي فحلتها من غير ريبة كانت بيننا ونزل سروالي بالمداعبة . فبينما نحن كذلك إذ دخل هو على حين غفلة، فرأى ذلك فاغتاظ وانصرف عني انصراف المهرة العربية إذا سمعت صلاصل لجامها، فولى خارجا ...»
حكاية ضمرة بن المغيرة التي حكاها حسين الخليع لهارون الرشيد «... ثم مشت والصبية تابعة لها وابن التاجر تابع للصبية إلى أن أقبلت على مصبغة وكان بها واحد معلم يسمى الحاج محمد وكان مثل سكين القلاقسي يقطع الذكر والأنثى يحب أكل التين والرمان ...»
حكاية دليلة المحتالة وبنتها زينب النصابة •••
يحتوى كتاب ألف ليلة وليلة على صور للحب والجنس في جميع أشكالهما، فقد سمح التنوع الشامل للقصص التي وردت على لسان شهرزاد، والزمان والمكان الواسعي النطاق مما تغطيه تلك الحكايات، بتبيان صور متعددة للحالات الغرامية والجنسية من كل ما عرفته النوازع الإنسانية.
فإذا نظرنا إلى الحكايات التي تتناول موضوعات الإيروسية والجنس، وقد أوردنا عاليه بعض الاقتباسات التي توضحها، لوجدنا أن القصص قد تناولت كثيرا موضوع الخيانة الزوجية، خاصة من جهة النساء، كما يبين من حادثتي زوجتي شهريار وشاه زمان، بالإضافة إلى القصص التي سيرد ذكرها في الفصل الخاص بحيل النساء ومكرهن.
وقد صورت بعض الحكايات الحب المثلي، كما في النوادر المحكية عن أبي نواس والغلمان المردة. وكذلك يبين اقتباس حسين الخليع نوعا من المثلية النسائية التي يدعوها العرب بالسحاق، وقد ورد ذكره في الأدب العربي القديم على نحو أقل بكثير من التغزل بالذكور. ويرد في قصة قمر الزمان والملكة بدور ذلك الموقف الفاحش الذي تخدع فيه الملكة زوجها وهي متنكرة في زى الرجال فيظنها من الرجال المثليين. كما لم تفت حكايات ألف ليلة ذكر مزدوجي الهوى الجنسي
BI-SEXUAL ، في شخصية الرجل «الذي يقطع الأنثى والذكر» ويحب التين كما يحب الرمان!
أما جنس المحارم فقد ورد في حكاية الصعلوك الأول المتفرعة من قصة الحمال والبنات، حين يحكي عن ابن عمه الذي حبس نفسه مع أخته في قبو بعد أن هام بها وهامت به، وكانت النتيجة أن «صارا فحما أسود وهما متعانقان كأنما ألقيا في جب نار.» ويشرح الأب ما حدث بقوله : «يا ابن أخي، ولدي هذا كان من صغره مولعا بحب أخته وكنت أنهاه عنها وأقول في نفسي: إنهما صغيران، فلما كبرا وقع بينهما القبيح وسمعت بذلك ولم أصدق، ولكني زجرته زجرا بليغا وقلت له: احذر من هذه الأفعال القبيحة التي لم يفعلها أحد قبلك ولا يفعلها أحد بعدك وإلا نبقى بين الملوك بالعار والنقصان إلى الممات، وتشيع أخبارنا مع الركبان. وإياك أن تصدر منك هذه الفعال فإني أسخط عليك وأقتلك، ثم حجبته عنها وحجبتها عنه. وكانت الخبيثة تحبه محبة عظيمة وقد تمكن الشيطان فيهما. فلما رآني حجبته، فعمل هذا المكان الذي تحت الأرض خفية ونقل إليه المأكول كما تراه واستغفلني لما خرجت إلى الصيد وأتى هذا المكان، فغار عليه وعليها الحق سبحانه وتعالى وأحرقهما، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.»
وثمة حكاية أخرى بها ذلك النوع من الحب المحرم، في قصة قمر الزمان والملكة بدور، في شطرها الثاني، حين يتعلق فؤاد الملكة بدور بابن زوجها من الملكة حياة النفوس؛ الملك الأسعد، ويتعلق فؤاد الملكة حياة النفوس بابن زوجها من الملكة بدور؛ الملك الأمجد. وتنتهي تلك العواطف غير الطبيعية كالعادة نهايات مأساوية.
ويمثل اقتباس القرد، وثمة حكاية أخرى مع دب، ما يسمى بالجنس مع الحيوانات
BESTIALITY . ومن الجدير بالذكر أن كل أنواع هذه الأنشطة والمواقف الجنسية قد شاعت في الكتب الإيروسية في كل العصور، وخاصة في عصور ما بعد النهضة. وزادت الإيروسية الغربية أنواعا أخرى كالسادية والماسوشية، التي نراها في كثير من القصص والروايات الغربية التي ظهرت بعد ذلك. •••
وحين قام المستشرق الفرنسي «أنطوان جالان» بترجمة المخطوطات التي حصل عليها من قصص ألف ليلة وليلة، كان ذلك عام 1704م، في عصر الملك لويس الرابع عشر الذي يلقب بالملك الشمس، والذي بلغت فرنسا في عهده أوج ازدهارها الثقافي والحضاري. ورغم الحرية النسبية - من الناحية الأخلاقية - التي كان يعيش فيها الفرنسيون آنذاك، خاصة طبقة الأمراء والنبلاء، فلم يكن مسموحا بطبع شيء يتنافى مع الأخلاق والدين والعرف السائد أيامها. ولذلك فقد عمد جالان في ترجمته إلى حذف أو تغيير كل ما اعتبره خادشا للحياء أو خارجا عن حدود الأدب؛ أي كل شيء جنسي أو إيروسي. وهكذا، مثلا، نراه يتجنب وصف مشهد خيانة زوجة الملك شهريار الأولى مع العبد مسعود، ويكتفي بقول: «ولا يسمح لنا الحياء أن نقص كل ما حدث بين هؤلاء النسوة وأولئك العبيد، وهذا من التفاصيل التي لا حاجة لنا بها.» ويمضي جالان بنفس هذا الأسلوب التنقيحي في ترجمته، فنحن لا نجد فيها تفاصيل ما وقع بين الحمال والبنات الثلاث من أشعار ومداعبات وملاعبات إيروسية صرف وكلمات مكشوفة. وكان جالان يتدخل في السياق كما رأينا ليعلق على النصوص، ويحذف ما يتراءى له أنه غير مسموح به في المطبوعات التي تجاز للنشر في تلك الأيام.
وقد شاع بناء على ذلك الاعتقاد بأن ألف ليلة وليلة التي ترجمها جالان ثم ترجمت عنه إلى لغات أوروبية أخرى، ليست الترجمة الكاملة للكتاب، وقد زاد من ذلك الاعتقاد الصحيح قيام جالان بحذف الأشعار الكثيرة التي تتخلل حكايات ألف ليلة في نصها العربي. وحين قام المستشرق المعروف «إدوارد لين» بترجمته الجديدة للكتاب إلى الإنجليزية، سار على ذلك النهج من الرقابة الذاتية، فعمد إلى تهذيب وتنقيح كل ما رآه غير صالح لقراءة أبناء العصر الفكتوري الذي اشتهر بتزمته الشديد. ولذلك، حين بدأ المترجم والشاعر الإنجليزي «روبرت بين» في ترجمة ألف ليلة، أعلن أنها أول مرة يتم فيها تقديم ترجمة كاملة أمينة لجميع حكايات الكتاب العربي. وبالفعل، لم يحذف «بين» العبارات والألفاظ والمواقف الجنسية والإيروسية، ولكنه عمد إلى تغليفها في لغة إنجليزية قديمة وأسلوب عتيق، جعل فهمها صعبا؛ وصاغ الكلمات المكشوفة في أسماء وعبارات رمزية، حتى إن قارئ الإنجليزية في عصرنا الراهن لن تصدمه هذه الكلمات والعبارات، هذا إن فهمها أصلا. ولكن كل ذلك لم يعف «بين» من حذر الرقابة الصارمة التي كانت سائدة أيامه، فلجأ إلى الحيلة، بأن جعل توزيع وبيع نسخ ترجمته - التي جاءت في تسعة مجلدات - يقتصر على الاشتراكات الخاصة، وأصدرها عن دار نشر وهمية أطلق عليها اسم «جمعية فيون ». وقد أصدر «بين» ترجمته في 500 نسخة فقط، مع التعهد بعدم إعادة طبعها مرة أخرى إبان حياته، رغم أن عدد «الاشتراكات» التي تلقاها طلبا لترجمته بلغ الألفين.
وقد استغل «ريتشارد بيرتون» - الرحالة والمغامر والمستشرق الشهير - إقبال المشتركين على ترجمة «بين» فأصدر ترجمته هو - التي اعتمد في معظمها على ترجمة «بين» نفسها - في عام 1885م في عشرة أجزاء، أتبعها بسبعة أجزاء أخرى خلال الأعوام 1886-1888م - تحت عنوان «الليالي التكميلية». وقد ترجم بيرتون ألف ليلة وليلة كاملة، بما فيها الألفاظ والمواقف الإيروسية، ولكنه سار على نهج «بين» في ذلك أيضا، فصاغ تلك الألفاظ في لغة قديمة مهجورة قد لا يفهمها القارئ الإنجليزى، وإن كانت طبيعة بيرتون المتحررة جعلته أحيانا أصرح من «بين» في اختيار بعض الكلمات. وقد أصدر بيرتون طبعته على هيئة اشتراكات خاصة كذلك إفلاتا من الرقابة، وعن دار نشر مزعومة اختار لها اسما هنديا هو «جمعية كاماشسترا»، بينما هي في الحقيقة قد طبعت ونشرت في لندن ذاتها. وقد باع بيرتون جميع النسخ الألفين من ترجمته في طبعتها الأولى وحقق من وراء ذلك ربحا هائلا.
غير أن الإشارات الإيروسية والشروحات الجنسية عند بيرتون تتبدى أكثر ما تتبدى في الحواشي والتعليقات التي أضافها على المتن. وقد صب بيرتون في تلك الحواشي خلاصة أبحاثه وآرائه الشخصية حول العادات والتقاليد العربية والإسلامية، ودراساته الأنثروبولوجية والإثنوجرافية التي جمعها خلال سياحاته العديدة في البلدان العربية والإسلامية وغيرها، والتي كان يكتبها قبل أن يشرع في ترجمة ألف ليلة. ومما يؤخذ على بيرتون أنه كان يعمد أحيانا إلى الإضافة في النص كيما يضع فيه شيئا يتيح له التعليق عليه، فيتخذ ذلك تعلة لإظهار معلوماته الغزيرة حول موضوع ما. ومن أمثلة ذلك ما حدث في ترجمته لحكاية «البطل المسلم والصبية المسيحية»، ففيها جملة وردت هكذا في الأصل: «وعندها شرح لها الدين الإسلامي، فقبلت الإسلام دينا، وبعد ذلك توضأت وعلمها أداء الصلاة الإسلامية.» وقد ترجم بيرتون النص كالآتي: «وعندها شرح لها عقائد الدين الإسلامي، فأصبحت مسلمة، وبعد ذلك جرى اختتانها وعلمها أداء الصلاة.» وقد أقحم بيرتون مسألة الاختتان كيما يضع حاشية مسهبة يعلق فيها على موضوع ختان الإناث. ويقول في حاشيته: «يعتبر المسلمون، مثلهم في ذلك مثل الأقدمين (أرسطو وغيره) البظر مركزا للشهوة .. وهو يبرز من بين اللابيا. ويمثل قص رأس البظر عملية الختان الأنثوي. ويفترض المسلمون أن هذه الشعيرة قد ابتدعتها سارة التي شوهت هاجر نتيجة غيرتها منها، ثم أمرها الله بعد ذلك بالاختتان في نفس الوقت مع إبراهيم. والختان الآن (أو يجب أن يكون) عاما في الإسلام، ولا يتزوج عربي من فتاة لم «تتطهر» على ذلك النحو.»
ومن الواضح أن كلام بيرتون غير صحيح وتعوزه الدقة، وأنه يورد هذه المسائل لما تحمله من صفات إكزوتيكية وإيروسية أكثر منها معلومات علمية وتاريخية. وقد علق أيضا على حكاية خيانة زوجتي شاه زمان وشهريار مع العبيد السود بقوله: «تفضل النسوة الداعرات الزنوج على أساس حجم أعضائهم.» ويتبع هذه العبارة بمقاييس يقول إنه أجراها بنفسه في أنحاء متفرقة من العالم، وعلى جنسيات وإثنيات عديدة خلال ترحالاته. ويستطرد بيرتون في مثل هذه التعليقات الغريبة، التي يبدو أنه قد أضافها كمتبلات لترجمته. ويبدو أن بيرتون قد استقى بعض معلوماته القاصرة - مثل شرحه لطريقة ختان الإناث في قبائل أعالي النيل - من مشاهداته وتجاربه مع البغايا في أواسط القرن التاسع عشر!
وقد تبعت تلكما الترجمتين الضخمتين ل «بين» وبيرتون، ترجمة إلى الفرنسية قام بها «ماردروس»، ركز فيها كثيرا على النواحي الإيروسية في القصص، بل وكان يضيف من عندياته كيما يتوسع في تلك النواحي بصفة خاصة. وقد أصبحت تلك الترجمة مشهورة بإيروسيتها، رغم أنها صدرت في أوائل القرن العشرين، ولكن قوانين الرقابة الفرنسية كانت أكثر تسامحا عنها في الدول الأخرى، مما أدى إلى صدور العديد من كتب الأدب المكشوف - أو التي كان يشتبه في أنها من الأدب المكشوف كعوليس لجيمس جويس - في فرنسا أولا قبل صدورها بعد ذلك في الدول الغربية الأخرى. ومن الجدير بالملاحظة أنه حين كان التعتيم على النواحي الجنسية والألفاظ الصريحة والمشاهد الإيروسية في ألف ليلة وليلة قائما في ترجماتها الأوروبية، كانت النصوص العربية للكتاب يتم تداولها كاملة في حرية دون حرج أو رقابة. وقد ظل هذا قائما حتى الربع الأخير من القرن العشرين، فانقلبت الآية، إذ أصبحت الترجمات الغربية كاملة صريحة، بينما جرى مصادرة طبعات من ألف ليلة وليلة بالعربية في القاهرة، إلى أن عاد الكتاب إلى التداول بعد احتجاج المثقفين المصريين والعرب، وتم نشر طبعات جديدة للكتاب الكامل بوصفه من عيون التراث العربي.
أما الانفراج في حرية الترجمة إلى اللغات الأوروبية لألف ليلة وليلة الكاملة، فقد واكبت قوانين حرية النشر الأدبي والفني، بعد معارك قانونية وقضائية مريرة في بعض البلدان، قامت أولا في الولايات المتحدة، بمناسبة نشر رائعة جيمس جويس «عوليس» عام 1934م، وفي بريطانيا بعد ذلك للسماح بنشر نفس ذلك الكتاب، ولرواية د. ه. لورانس «عشيق الليدي تشاترلي» التي ترافع فيها كوكبة من الأدباء البريطانيين المشهورين، وعلى رأسهم إ. م. فورستر.
وفي عام 1968م، قام «رينيه الخوام» بنشر ترجمته الفرنسية الكاملة لألف ليلة وليلة، حيث مارس حرية كاملة في نقل ألفاظ ومشاهد الحكايات، وأشعارها الإيروسية، بصراحة تامة. كذلك أصدر الباحث «حسين حداوي» مجلدين من حكايات ألف ليلة وليلة بالإنجليزية، أورد فيهما لأول مرة تقريبا تلك الألفاظ الإنجليزية الشائعة اليوم، التي يطلق عليها كلمات الحروف الأربعة، دون حاجة إلى اللجوء إلى الألفاظ الإنجليزية المهجورة، أو إلى التعتيم والتورية، كما في الترجمات السابقة.
وتذكر الباحثة «ميا جيرهارت» أن الشهرة الإيروسية قد أضرت بسمعة كتاب ألف ليلة وليلة في الغرب نتيجة أساسا للترجمات التي ركزت على تلك العناصر الجنسية وأضافت إليها. وتفرق الباحثة بين تلك العناصر، فتقول إن الكتاب يحتوي على عدة مقاطع من حكايات يكون العامل الإيروسي فيها مقصودا في حد ذاته، بيد أن هناك عددا أكبر من الحكايات والمقاطع والأوصاف التي ترد بصورة طبيعية في النص بلا تصنع أو تكلف، وهي وإن كانت غير مقبولة أو مستساغة في أوساط المجتمع الأوروبي في السابق - ولم تقبل إلا حديثا - فإنها لم تكن تثير حرجا على الإطلاق لدى الشعوب الشرقية. ومن المفارقات العجيبة أن هذا الموقف الذي تشير إليه جيرهارت قد انعكس تماما في عصرنا الحاضر؛ إذ أصبح المجتمع الأوروبي يقبل ويسمح بكتابات تصور العواطف الجنسية والإيروسية (بل والبورنوغرافية)، بينما أصبحت المجتمعات الشرقية، والعربية خاصة، ترصد وتطارد أي كتاب به ذكر أو تلميح جنسي أو إيروسي مكشوف. وكما ذكرنا، لم يسلم كتاب ألف ليلة وليلة من هجوم «المتشددين الجدد» الذين صادروها في مصر قلب الأمة العربية في أواخر القرن العشرين، بينما كنا نشتري مجلداتها الأربعة الكاملة من على سور الأزبكية بالقاهرة في الخمسينيات بقروش زهيدة!
والواقع يقول إن الألفاظ والمواقف «المكشوفة» التي ترد في حكايات ألف ليلة دون داع سوى الإثارة، يمكن حصرها في تصانيف محددة، هي - كما تذكر «ميا جيرهارت» أيضا: (1)
موقف التعرف بين قمر الزمان وبدور التي كانت متنكرة في زي رجل، والذي يتكرر في قصة علي شار، وما جاء في هذا المشهد من قصائد إباحية. (2)
مشهد الملاعبات الصاخبة بين الحمال والثلاث بنات. (3)
القصيدة الإباحية الواردة في حكاية «أبو الحسن العماني».
ومن اليسير التعامل مع تلك النقاط القليلة الصريحة بما يتيح عدم تعرض الكتاب للمصادرة أو التشويه في المجتمعات المحافظة. وقد لاحظ بعض الباحثين أن مثل هذه المواقف والألفاظ الجنسية ربما تكون قد أضيفت في الطور الشفوي للحكايات، نتيجة قيام الرواة بإدراجها ضمن حكاياتهم، درا لإعجاب السامعين الذين كانوا كلهم من الرجال . وكان الرواة «يتبلون» حكاياتهم بمثل تلك المشاهد المثيرة، لإرضاء السامعين وتشويقهم؛ وعادة ما كان يقصد من تلك «المتبلات» إثارة الضحك والسرور أكثر منها للإثارة الجنسية.
وقد ارتبط الجنس والمشاهد الحسية في ألف ليلة وليلة بالحواس؛ خاصة حواس الشم والذوق والسمع. فقصص الكتاب تتفنن في وصف العطور والبخور وأصنافها؛ كذلك الألحان والأغاني التي تصاحب مجالس الحب والغرام. أما الذوق فهو هنا يعود إلى الطعام والشراب في كل أصنافهما. ففي مشهد الحمال والبنات الثلاث، مثلا، نجد البنت تتسوق أصنافا وأصنافا من مواد الغذاء والفاكهة، كي يستخدموها بعد ذلك في إعداد موائد حافلة بالطعام والشراب ، حيث يتزامن الأكل مع الملاعبات والمطارحات مع الحمال. ويتكرر هذا المشهد في كثير من «مجالس الأنس» التي تحفل بها حكايات ألف ليلة، خاصة في مجالس الأمراء والملوك، وكذلك كبار التجار وأغنيائهم.
وقد خصص الدكتور جابر عصفور مقالا في مجلة العربي الكويتية (سبتمبر 2004م) عن أوجه العلاقة بين الجنس والطعام، حلل فيه ببراعة ودقة ما أشرنا إليه هنا، ويقول فيه «... ولذلك امتلأت حكايات ألف ليلة وليلة بمشاهد الطعام التي تجمع ما بين الحبيبين، أو مآدب الطعام التي تعدها حبيبات مشتاقات أو طامعات في وصال الرجال الذين أصبحوا مناط الرغبة لأسباب عديدة.» وقد عاد الدكتور عصفور في مقاله إلى معلقة «طرفة بن العبد» كيما يدلل على التلازم بين لوازم الطعام (الشراب) والجنس، في الأبيات:
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف محنبا
كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الخباء المعمد
ويعلق بأنها تؤكد التلازم بين الطعام (الشراب) والجنس (البهكنة)، مع دلالات القوة الجسدية، والتعلق بالمرأة الممتلئة الجسم، بما يرمز إليه ذلك من حب الطعام، وبما يجعلها كذلك «شهية للأكل»!
ويعود الباحث إلى ألف ليلة وليلة، مبينا أن ثمة مشاهد فجة من العلاقة بين الجنس والطعام في بعض حكاياتها، ولكن «... كثير من مشاهد ألف ليلة وليلة تؤدي فيها دلالات الاقتران بين الطعام والجنس معاني الحب الذي يعلو على معنى الغريزة البهيمي ويدخل بنا في أفق روض ماطر من حضور الرغبة ...» وقد أنهى الدكتور عصفور مقاله بتركيز كامل على ألف ليلة وليلة، فيذكر أن الكتاب يعلي في بعض مشاهده من وضع المرأة وصفتها، وأن شهرزاد قد «قرأت ودرست معارف الأولين والآخرين، وهي صفات تنقلها من باب وعاء تفريغ الشهوة إلى وعاء الحكمة .. استطاعت شهرزاد ترويض الجانب الحيواني من شهريار، ساعية إلى تغليب الجانب الإنساني في حضوره، فاستبدلت فيه بالحيوان الفحل، الذي لا عقل له، الإنسان المناضل في مغزى الحكايات المتكررة ، والمتنوعة، والمراوغة، والتعليمية في الوقت نفسه. وليلة بعد أخرى، تتسرب الدلالات إلى صورته الإنسية، ويتحول الفحل الحيواني إلى عقل يستبدل بنهم الغريزة الصرف، نهم المعرفة التي تكمل المعنوي بالحسي، وتمزج الجسدي بالروحي، فيرتقي الوعي، ويبتعد الموت المشرع في سيف السياف، ويقهر الحب - في الحكايات - الموت الذي جاءت به الخيانة.»
وقد ظهرت أدلة ما ذكره الدكتور عصفور في كثير من حكايات ألف ليلة وليلة، غير قصة الحمال والبنات الثلاث، ربما أبرزها ما جاء في حكاية «جلنار البحرية وبدر باسم». ذلك أن الملك بدرا يسيح في الأرض بعد رفض الملك السمندل زواجه من ابنته جوهرة، فيصل إلى بلد كل أهله من السحرة، ومنهم الملكة لاب التي تهيم غراما ببدر باسم وتعتزم إغواءه. وبالفعل تدعوه إلى قصرها، وعندها تستعين بالطعام والشراب والموسيقى والعطور في جذب قلب وحس بدر إليها: «فجلست الملكة في شباك يشرف على البستان وهي على سرير من العاج وفوق السرير فرش عال، وجلس الملك بدر باسم إلى جانبها فقبلته وضمته إلى صدرها ثم أمرت الجواري بإحضار مائدة. فحضرت مائدة من الذهب الأحمر مرصعة بالدر والجوهر وفيها من سائر الأطعمة، فأكلا حتى اكتفيا وغسلا أيديهما. ثم أحضرت الجواري أواني الذهب والفضة والبلور وأحضرت أيضا جميع أجناس الأزهار وأطباق النقل. ثم إنها أمرت بإحضار مغنيات، فحضر عشر جوار كأنهن الأقمار وبأيديهن سائر آلات الملاهي. ثم إن الملكة ملأت قدحا وشربته وملأت آخر وناولته الملك بدر باسم فأخذه وشربه، ولم يزالا كذلك يشربان حتى اكتفيا. ثم أمرت الجواري أن يغنين، فغنين بسائر الألحان وتخيل الملك بدر باسم أنه يرقص به القصر طربا، فطاش عقله وانشرح صدره ونسي الغربة وقال: إن هذه الملكة شابة مليحة ما بقيت أروح من عندها أبدا لأن ملكها أوسع من ملكي وهي أحسن من الملكة جوهرة. ولم يزل يشرب معها إلى أن أمسى المساء وأوقدت القناديل والشموع وأطلقوا البخور، ولم يزالا يشربان إلى أن سكرا والمغنيات يغنين. فلما سكرت الملكة لاب، قامت من موضعها ونامت على سرير وأمرت الجواري بالانصراف، ثم أمرت الملك بدر باسم بالنوم إلى جانبها، فنام معها في أطيب عيش إلى أن أصبح الصباح.» (1) لمحة عن تاريخ الإيروسية العربية
في كتاب للأديب الأردني الكبير عيسى الناعوري عن ذكرياته في إيطاليا وعن الأدب الإيطالي الذي ترجم منه الكثير إلى اللغة العربية، يذكر أنه تعرف إلى الروائي الإيطالي المشهور ألبرتو مورافيا، وناقشه في أعماله، وذكر من ضمنها أن روايات مورافيا يصعب نقلها إلى العربية بصورتها الكاملة لما تحويه من أدب مكشوف. وقد أبدى مورافيا دهشته من ذلك ورد على الناعوري بقوله: إن العرب هم أصحاب ألف ليلة وليلة، وأنه تلميذ في مدرستها، ومهما كتب لا يقارن بما فيها من جنس مكشوف!
ولقد عرفت اللغة العربية التعابير الإيروسية منذ القدم، في الأشعار وغيرها من أشكال التعبير الأدبي والفني. ومن ناحية القصص، لم تكن ألف ليلة وليلة هي الكتاب العربي القصصي الوحيد الذي احتوى على حكايات وألفاظ جنسية، فهناك مثلا كتاب «الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة» الذي وضع حوالي القرن العاشر الميلادي. وقد حقق المستشرق الألماني «هانز فير» هذا الكتاب وصدر بالعربية. وهو يحتوي على قصص شبيهة بقصص ألف ليلة وإن لم ينل شهرتها.
والتعبير الإيروسي والجنسي، على وجه العموم، قديم قدم وجود الإنسان على الأرض. فثمة رسوم بدائية تم العثور عليها منذ أقدم العصور تصور العلاقات الجنسية. وفي الحضارة الفرعونية الكثير من تلك الرسوم والتماثيل، وإن كانت لا تعرض على عامة الجمهور. كذلك عرف الأدب المصري القديم قصصا وأساطير بها وصف الجنس، وإن كان مغلفا بالتوريات أحيانا، كما في قصة الأخوين والزوجة الخائنة. وقس على ذلك كل الحضارات التي تلت مصر القديمة؛ يونانية ورومانية وعربية وأوروبية ... إلخ.
وبالنسبة إلى اللغة العربية، نعود إلى أقدم النصوص التي بين أيدينا اليوم، فنجد في معلقة امرئ القيس (ت عام 80 قبل الهجرة/565 ميلادية) صورا إيروسية خالصة، رائعة في تصويرها، مثل الأبيات التالية:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فقلت لها سيرى وأرخى زمامه
ولا تبعدينى من جناك المعلل
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
بشق وتحتي شقها لم يحول
وأيضا:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فقالت يمين الله ما لك حيلة
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
خرجت بها تمشي تجر وراءنا
على إثرينا ذيل مرط مرحل
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل •••
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا
تضل العقاص في مثنى ومرسل
وكشح لطيف كالجديل مخصر
وساق كأنبوب السقي المذلل
وكما تخفى الناشرون المحدثون وراء هذه المفردات القديمة الثقيلة الوقع لنشر هذه القصيدة ذات المشاهد التصويرية البديعة للجمال الأنثوي، والمغامرات الغرامية، سأفعل نفس الشيء بعدم شرحها، وعلى من يريد المعنى الرجوع إلى شرح القصيدة!
ومن الشعر الجاهلى أيضا، هناك هذه الأبيات الطريفة من قصيدة «المنخل اليشكري» التي اشتهر منها البيت الأخير:
ولقد دخلت على الفتاة
الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء ترفل
في الدمقس وفي الحرير
ودفعتها فتدافعت
مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست
كتنفس الظبي الغرير
فترت وقالت يا منخل
هل بجسمك من حرور؟
ما مس جسمي غير جسمك
فاهدئي عني وسيري
ولقد شربت من المدامة
بالصغير وبالكبير
فإذا انتشيت فإنني
رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني
رب الشويهة والبعير
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
ولا يظهر الأدب الإيروسي بعد ذلك إلا في العصر الأموي في بعض أشعار عمر بن أبي ربيعة، وبعضها منحول، مثل قوله:
وناهدة الثديين قلت لها اتكي
على الرمل من جبانة لم توسد
فقالت على اسم الله أمرك طاعة
وإن كنت قد كلفت ما لم أعود
فما زلت في ليل طويل ملثما
لذيذ رضاب المسك كالمتشهد
فلما دنا الإصباح قالت فضحتني
فقم غير مطرود وإن شئت فازدد
فما ازددت منها غير مص لثاتها
وتقبيل فيها والحديث المردد
تزودت منها واتشحت بمرطها
وقلت لعيني اسفحا الدمع من غد
فقامت تعفي بالرداء مكانها
وتطلب شذرا من جمان مبدد
وأيضا:
ممكورة الساق مقصوم خلاخلها
فمشبع نشب منها ومنكسر
هيفاء لفاء مصقول عوارضها
تكاد من ثقل الأرداف تنبتر
وفي العصر العباسي، بلغت الحضارة العربية الإسلامية أوج ازدهارها، وصحب ذلك نوع من الترف انعكس على أدب تلك الفترة. وترجع بدايات قصص ألف ليلة وليلة إلى ذلك العصر، نقلا عن مصادر فارسية وهندية، ثم تم صبها في قوالب عربية إسلامية. وقد عكست الكثير من تلك الحكايات الجو العباسي الصرف، من الترف والفراغ والموسيقى والأغاني، والخمريات، والمجون، والتواصل مع العالم الخارجي عن طريق ازدهار التجارة وكثرة الرحلات، وغير ذلك. بيد أنه تجدر الإشارة إلى أن كل ذلك قد واكب نهضة علمية شامخة؛ إذ أقام العرب صرحا هائلا من العلوم الدينية والدنيوية؛ في الهندسة والجبر والكيمياء والطبيعة والطب والنبات، والعلوم الفلسفية والجغرافية والتاريخية، التي نهل منها الغرب بعد ذلك وأقام على أساسها حضارته الحالية. ويجب ألا تؤخذ الشخصيات التاريخية المذكورة في ألف ليلة على النحو الذي اقتصرت به على تصويرها، فهي حكايات قصصية خيالية أولا وأخيرا. فهارون الرشيد الذي تصوره ألف ليلة وليلة لاهيا، هو الرشيد الذي كان يرعى العلوم والفلسفة والأدب في عصره ، ويشارك في مجالس العلم والأدب والفن، حينما كان شارلمان - أكبر ملوك أوروبا وقتها - يجاهد كيما يتمكن من كتابة اسمه وحسب.
وقد بينت الاقتباسات التي أوردناها في صدر هذا الفصل من قصص ألف ليلة وليلة نماذج متنوعة من النشاط الجنسي، كما ذكرنا في صدر هذا الفصل، فهي تحوي قصص الخيانة الزوجية والجنس المثلي والجنس مع الحيوانات والسحاق، والمزاوجة الجنسية. وهناك أيضا حادثة أخرى من حوادث الزواج بالمحارم، في قصة «الملك عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان» حيث يتزوج الأمير شركان من أخته غير الشقيقة نزهة الزمان دون أن يعرف مسبقا، ثم يزوجها من أحد حجابه بعد أن أنجب منها ابنا. غير أن ورود كل تلك الأمور في الكتاب لا يعني أن هذه الممارسات كانت شائعة في تلك العصور، بل هو مجرد تصوير قصصي لنماذج قصصية تشد انتباه السامعين؛ كما أنها تبين مدى احتواء الكتاب على صور كاملة لكل أوجه العواطف والنشاط الإنساني بصفة عامة.
وفي نفس العصر العباسي، كتب الحسن بن هانئ - أبو نواس - أشعاره الفاحشة في التغزل بالذكور، كما كانت بعض أشعار الهجاء تشتد وتغالي في هجوها فتنحو إلى الإقذاع في التعبير بألفاظ فاحشة، كقصيدة المتنبي في هجاء «ضبة»، وهي التي تسببت في مقتل الشاعر العظيم في آخر الأمر.
ويذكر الباحث «صقر أبو فخر» في كتاب «الجنس عند العرب» عرضا سريعا لمظاهر الحياة الجنسية منذ عصر ما قبل الإسلام إلى العصر العباسي، يبين فيه أن الجنس كان دائما جزءا من الحياة العربية ونشاطا أساسيا فيها لا يدعو إلى الإخفاء أو الحياء منه.
وكان الأدباء العرب في تلك العصور أدباء موسوعيين؛ فنحن نجدهم يتناولون في كتبهم موضوعات عديدة، وكان منها ما يتعلق بالحب والجنس. وكانوا يكتبون بحرية تامة، ويناقشون مسائل الجنس في صراحة وبلا حرج. غير أنه قد جرى استغلال ذلك الأمر، وطرحت عدة كتب جنسية تحت أسماء كتاب كبار معروفين، وهم منها براء.
ومن الكتب العربية الإيروسية «الكلاسيكية» - إن صح هذا التعبير - ذاع صيت كتاب «الروض العاطر في نزهة الخاطر » من تأليف محمد النفزاوي؛ و«نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب» لشهاب الدين التيفاشي؛ والكتاب الأشهر «رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه» لأحمد بن سلمان.
وقد انتشرت مثل تلك المؤلفات في عهد انحطاط الثقافة العربية، بعد أن أغلقت أبواب التجديد والاجتهاد. ومع اليقظة الحضارية في أوائل القرن العشرين، بدأ الأدب ينهض من جديد، وعادت إلى اللغة العربية نصاعتها وقوة تعبيرها بعد قرون من التصنع البلاغي الذي انحط إلى درك الركاكة الغثة. بيد أن هذه اليقظة قد واكبها نوع من الرقابة على النقاط الحساسة، وهي الدين والسياسة والجنس. ولذلك كان من الطبيعي الابتعاد عن الموضوعات الجنسية في الكتابات الأدبية. وشمل ذلك الترجمة عن اللغات الأجنبية، فلم يكن مسموحا بنقل الكتب والروايات التي تشتط في ذكر ووصف العلاقات الجنسية بصورة مباشرة. وحتى في لبنان الذي تمتع بقدر من الحرية الثقافية النسبية، جرى في الستينيات مصادرة مجموعة قصصية لليلى بعلبكي بعنوان «سفينة حنان إلى القمر»، وملاحقتها قضائيا، نتيجة اشتمالها على عبارتين هما: «تمدد على ظهره. وغاصت يده تحت الشرشف تنشل يدي وترميها على صدره. ثم تذهب في رحلة حول البطن.» وعبارة: «لحوس أذني، ثم شفتي وحام فوقي ثم ارتمى وهمس أنه ملتذ، وإنني طرية ناعمة مخيفة، وأنه افتقدني كثيرا.» وقد حققت الشرطة ثم النيابة اللبنانية مع المؤلفة، ثم تم تقديمها إلى المحاكمة بتهمة «كتابة كتاب يتضمن عبارات منافية للأخلاق والآداب العامة». وبعد المرافعات والبحث، أصدرت المحكمة حكمها ببراءة المؤلفة ورفع قرار المصادرة وإعادة الكتب المضبوطة إلى أصحابها.
وقد كان لبنان، ولا يزال، الأكثر انفتاحا بين الدول العربية من ناحية حرية النشر، منذ أن انتقل إليها مركز نشر الكتب والمطبوعات من مصر في الخمسينيات. وقد ظهرت فيه ترجمات كاملة لروايات مثل «لوليتا» لنابوكوف، وروايات «هنري ميلر» عميد الأدب المكشوف. وقد جاءت بعض ترجمات كتب ميلر في بدايات القرن الحادي والعشرين محتوية على عبارات وألفاظ جنسية صريحة تماثل الأصل الإنجليزي، خاصة في ثلاثيته المعنونة «الصليب الوردي»: بليكسوس، سكسوس، نكسوس
NEXUS .
ولكن الموقف لم يكن كذلك في معظم الدول العربية، إذ تحول «المتشددون الجدد» إلى رقباء على ما يصدر من إبداعات فنية وأدبية - ناهيك بالفكرية والدينية والفلسفية - وحرصوا على مطاردة أي كتب يشتم منها الخروج على التقاليد والأعراف الأخلاقية. ومن حين لآخر، تثار زوبعات عنيفة - خاصة في مصر - ضد أعمال أدبية لاحتوائها على بعض الأوصاف أو التعابير الإيروسية. وعبر استعراض عام للكثير من الروايات التي كتبها من أصبحوا يدعون «جيل الستينيات» في مصر، لا يغفل القارئ عن ملاحظة «تيمة» متكررة في الكثير منها: وهي المشكلة الجنسية التي تسيطر على الشبان في فترة المراهقة وما بعدها ، وطرق الخلاص من الكبت العاطفي والجنسي. وكان ذلك انعكاسا للبيئة والظروف التي نشأ في ظلها أفراد ذلك الجيل، حيث صاحبتهم نهضة حضارية جاءت مع ثورة يوليو، وحرية شخصية نسبية تمثلت في انفتاح اجتماعي يسمح باختلاط الجنسين في حدود، وإن كان لا يحل مشكلة الجنس المستعصية أمام الشباب. (2) لمحة عن تاريخ الإيروسية الغربية
وفي الغرب، انتشرت الكتابات الإيروسية والجنسية منذ العصرين اليوناني والروماني. ففي اليونان القديمة، اختلفت القيم الأخلاقية عن مقاييس العصور التالية أو عصرنا الحالي، فكان الجنس يعتبر نشاطا طبيعيا كالأكل والشرب، ولهذا كان من المسموح للكتاب آنذاك تناوله بهامش كبير من الحرية والتسامح. وثمة إشارات جنسية في الكتابات الملحمية اليونانية القديمة، كالإلياذة والأوديسة؛ بيد أن الإيروسية الصريحة جاءت في المسرحيات الإغريقية، خاصة الملهاة. ويعتبر «أريستوفانيس» من المسرحيين الذين مارسوا حريتهم كاملة في تناول الأمور الإيروسية في كوميدياته، خاصة مسرحيته «ليسستراتا». وموضوع المسرحية يفرض مثل هذا التناول الصريح، فهي تتناول الحرب طويلة الأجل التي نشبت بين أثينا، موطن أريستوفانيس، وإسبرطة، حين تتخذ نساء أثينا بزعامة ليسستراتا قرارا بهجر أزواجهن في الفراش إلى أن تنتهي الحرب ويعم السلام مع إسبرطة. وفي نفس الوقت، تتعهد إحدى نساء إسبرطة بأن تقوم بنفس الشيء في بلدها. وتمتلئ المسرحية، التي قدمت لأول مرة في أثينا عام 411 قبل الميلاد، بالمواقف الكوميدية التي تتعرض للجنس والمواقف الجنسية والعلاقات الزوجية الحميمة. ولم يكن الجمهور اليوناني يجد غضاضة أو حرجا في ذلك. وحين ترجمت المسرحية بعد قرون إلى الإنجليزية، كان على المترجم التصرف في النص كيما يتجنب الكلمات والتعبيرات التي اعتبرت «خارجة» بعد ذلك.
أما في ظل الحضارة الرومانية، فقد ازدهر الأدب، بما في ذلك الكتابات التي تناولت الحب والجنس. وكان على رأس هؤلاء الكتاب «الإيروسيين» أوفيد (43ق.م-18 ميلادية)، صاحب كتاب «فن الحب» الذي يمكن اعتباره «دليلا» للحب والجنس للرجال والنساء على حد سواء. ولأوفيد كتابات إيروسية أخرى تناقلها القراء وتسببت في النهاية في نفيه عن وطنه، وإن كان يقال إن سبب نفيه سياسي وليس بسبب كتاباته الصريحة .
ومن الروايات الرومانية التي اصطبغت بصبغة يونانية، اشتهرت رواية «ساتيريكون» لبوترونيوس، ورواية «الحمار الذهبي» لأبوليوس. وقد ترجمت الرواية الثانية عدة مرات إلى العربية، صدرت آخرها عن الدار العربية للعلوم بترجمة الدكتور الجزائري أبو العيد دودو.
ومع انتشار المسيحية ثم اتخاذها كديانة رسمية في كثير من الدول، سيطرت النزعة الأخلاقية الجديدة المرتبط بها على كل مناحي الحياة، ومنها الأدب، فلم يعد من المستحسن أو المسموح به التعبير عن الجنس بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وأصبحت البابوية تنشر فهرسا بالكتب الممنوع قراءتها، عنوانه باللاتينية
INDEX LIBRORUM
وكان فيه الكثير من الكتب التي تعد خروجا على الأخلاق العامة، وإن كان أغلبها كتابات هرطوقية وضد الدين والكنيسة. وقد حد ذلك من ظهور الكتب الإيروسية خلال العصور الوسطى. ومن بين المؤلفين الذين أدرجت أسماؤهم في فهرس الكتب الممنوعة، أبيلارد وبوكاتشيو ورابيليه، وقد وصل عدد الكتب التي وردت فيه إلى أكثر من أربعة آلاف كتاب، قبل أن يتم إلغاؤه عام 1966م.
ومع ظهور الطباعة في ألمانيا ثم انتشار المطابع في العديد من المدن الأوروبية، واقتران ذلك بعصر النهضة، تكاثرت المؤلفات والمطبوعات، ومن بينها الكتب الإيروسية، فبدأت تظهر كتب الإيروتيكا الخالصة، إلى جانب كتب المذكرات وسير الحياة الذاتية التي كان الجنس يشغل فيها حيزا كبيرا. ومن تلك المؤلفات، كتب الإنجليزي «صمويل بيبس» (1633-1703م) يومياته في مجلدات عديدة، وهي تحتوي على اعترافات جنسية صريحة، ولذلك كان يندر العثور على طبعتها الكاملة، واقتصر الأمر على تداول طبعة مهذبة لها، فيها مختارات منتقاة، درسناها في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة في أواخر الخمسينيات، دون أن ندري ما وراءها من كتابات أخرى صريحة احتوتها اليوميات.
ثم جاءت مذكرات الإيطالي كازانوفا (1725-1798م)، التي كتبها بالفرنسية تحمل هي الأخرى أخبار مغامراته النسائية وعشقه الصريح لعديد من النساء اللاتي التقى بهن في حياته.
بيد أن «كلاسيكيات» الأدب الإيروسي الغربي بدأت مع رواية «فاني هيل» للإنجليزي جون كليفلاند التي صدرت عام 1750م، وروايات المركيز دي ساد (1740-1814م) تلك الشخصية العجيبة التي خلعت اسمها على «السادية» أي التلذذ الجنسي من إنزال الألم بالآخرين.
وفي أواخر القرن التاسع عشر، ظهر في سوق الإيروسية الإنجليزية كتاب ضخم، من أحد عشر مجلدا، مجهول المؤلف، بعنوان «حياتي السرية»، طبعه مؤلفه المجهول طبعة «سرية» من ست نسخ فحسب لمكتبته الخاصة. ولكن نسخا أخرى من الكتاب تسربت إلى سوق هواة اقتناء تلك الكتب، وأصبح من أشهر كتب الإيروتيكا. ولم تصدر له طبعة عامة إلا في عام 1966م. كذلك ظهر كتاب «حياتي وغرامياتي» لفرانك هاريس في أربعة مجلدات عام 1927م وأصبح من فوره على رأس كتب الإيروتيكا الكلاسيكية.
ومنذ أن ضعف شأن الرقابة الأخلاقية على الأدب في أوروبا، بداية من محاكمة «جوستاف فلوبير» على روايته «مدام بوفاري»، تعددت التحديات الإبداعية للرقابة، فتعددت الانتصارات القضائية في حق أعمال هامة مثل عوليس لجويس وعشيق الليدي تشاترلي للورانس. كذلك جاءت حيثيات حكم القاضي الأمريكي ولزلي بالتصريح بنشر عوليس في أمريكا كوثيقة هامة تعضد الحرية الإبداعية للكاتب، وتفرق بين توظيف العناصر الإيروسية في عمل أدبي جدي، وبين الأعمال البورنوغرافية التي لا تمثل أي قيمة فنية.
وقد أدى ذلك كله إلى أن أصبح وصف الجنس بكل مواقفه ومشاهده، والتعابير الإيروسية، عاديا في الأعمال الفنية الغربية الآن، وقلما تخلو رواية من مثل تلك الأوصاف. وإلى جانب الروايات العادية، أصبح للروايات الإيروسية الصرف مكان، وكثيرا ما يجد زائر أي مكتبة كبيرة في أوروبا والولايات المتحدة، ركنا مخصوصا يضم الكتب الإيروسية - تحت العنوان اللاتيني العالمي «إيروتيكا». وحتى في إسبانيا التي كانت في عهد الجنرال فرانكو من الدول التي لا تسمح بالمطبوعات والمواد الإيروسية، إلى حد أن سكانها كانوا يضطرون إلى العبور إلى فرنسا لمشاهدة فيلم «التانجو الأخير في باريس»، أصبحت الآن تزخر بالروايات الإيروسية بل والبورنوغرافية المحلية، والتي يمكن شراؤها من المكتبات العادية في إسبانيا.
قصص الشطار والعيارين
«... وكان في البلدة عجوز تسمى دليلة المحتالة ولها بنت تسمى زينب النصابة، فسمعتا المناداة بذلك فقالت زينب لأمها دليلة: انظري يا أمي، هذا أحمد الدنف جاء من مصر مطرودا ولعب مناصف (احتيال) في بغداد إلى أن تقرب عند الخليفة وبقي مقدم الميمنة، وهذا الولد الأقرع شومان صار مقدم الميسرة وله سماط في الغداة وسماط في العشي، ولهما جوامك (مخصصات) لكل واحد منهما ألف دينار في كل شهر، ونحن قاعدون معطلون في هذا البيت لا مقام لنا ولا حرمة وليس لنا من يسأل عنا .. فقالت الأم وحياتك يا بنتي لألعب في بغداد مناصف أقوى من مناصف أحمد الدنف وحسن شومان ...»
حكاية دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة «... أما ما كان من أمر علي الزيبق المصري فإنه كان شاطرا بمصر في زمن رجل يسمى صلاح المصري مقدم ديوان مصر، وكان له أربعون تابعا. وكان أتباع صلاح المصري يعملون مكائد للشاطر علي ويظنون أنه يقع فيها فيفتشون عليه فيجدونه قد هرب كما يهرب الزيبق، فمن أجل ذلك لقبوه بالزيبق المصري ...»
حكاية علي الزيبق المصري •••
ربما كان موضوع الشطار واللصوص والعيارين هو واحد من أهم التأثيرات العربية في الرواية الغربية، إذ إنها قدمت نوعا قصصيا فريدا نال ذيوعا واسعا وشهرة كبيرة، وتواصل إنتاجه ونماذجه إلى يومنا هذا. وهذا النوع من الروايات هو ما عرف في الغرب باسم البيكارسك
وهو اسم مشتق من الكلمة الإسبانية
اسم الفاعل من الكلمة الأولى، وتدل على بطل هذه الروايات، وهي تعني ما تدل عليه كلمات: صعلوك - دجال - محتال - شحاذ، بالعربية. ويدخل تحت هذا التصنيف كل أنواع البخلاء أيضا. وهذا في حد ذاته يفسر ماهية هذا النوع القصصي، إذ هو يتناول بالوصف حياة ومغامرات الفتية الصعاليك الذين يجوبون الآفاق وراء إشباع رغباتهم ويقضون حياتهم يوما بيوم سابحين مع التيار حيثما يلقي بهم. وتصف هذه القصص الأجواء التي يعيش فيها هؤلاء الصعاليك، وهي تختلف باختلاف أقدار الواحد منهم، فهو أحيانا يعاشر أحط الناس وأفقرهم، وأحيانا ترفعه عجلة الحظ إلى الأدوار العليا فيعيش عيشة الأغنياء الموسرين، وهكذا. وهو في حياة الصعلكة تلك، يلجأ إلى كل أنواع الاحتيال ليكسب قوته، ولا يصبح لديه أية شكوك أو هواجس أخلاقية، فهو يكذب ويسرق وينصب في سبيل الحصول على ما يريد. وأحيانا ما ينتهي الأمر بفتى منهم أن يستقر في النهاية وقد جمع ثروة تغنيه فيما تبقى له من العمر، أو يكتشف أنه سليل أسرة نبيلة يلتحق بها وينسى ماضيه الملوث.
وكانت إسبانيا هي التي قدمت هذا النوع من القصص والروايات إلى العالم الأوروبي، في نماذج فريدة من نوعها. وقد استمدت إسبانيا هذا النوع من القصص من عدة مصادر عربية مجتمعة. وقد ظهرت أول رواية بيكارسكية في إسبانيا عام 1554م، حين صدرت في «برغش» و«أمبيريز» و«قلعة إينارس» (قلعة عبد السلام العربية) ثلاث طبعات في نفس الوقت تقريبا من رواية مجهولة المؤلف بعنوان «لاثارييو دي تورميس»
LAZARILLO DE TORMES . وتحكي الرواية على لسان بطلها لاثارييو قصة نشأته في منزل أمه وعشيقها بعد وفاة أبيه، ثم خروجه إلى معترك الحياة صبيا لأحد الشحاذين المكفوفين، وكيف كان يحتال عليه لإشباع جوعه وعطشه، ويسخر من استغلاله الدين والصلاح لابتزاز نقود المحسنين الأتقياء، ثم فراره منه في النهاية بعد أن لقنه درسا قاسيا تركه بين الحياة والموت. وتنقل لاثارييو بعد ذلك خادما لعدة أسياد، لم يكونوا بأفضل من الشحاذ الأعمى، فهم إما فقراء مدقعون، أو بخلاء مقترون، أو محتالون أفاقون. ويضطر إلى مجاراتهم في هذا النوع من الحياة أو ذاك، والتعلم من فنون مكرهم وحيلهم، وشحذ قريحته حتى يستطيع أن يستخلص منهم ما يتبلغ به ويبقي عليه الحياة. وهو في هذا يمر بتجارب مريرة مضحكة، مغرقة في الواقعية التي تقارب المأساة، إلا أنها تنتزع من القارئ الضحك والابتسام لغرابتها وطرافتها. ويستقر لاثارييو في النهاية مع أحد وجهاء الريف الذي يغدق عليه من خيراته مقابل قبول الفتى الزواج من خادمته التي كانت تعمل عنده، ولا يهتم لاثارييو بغمزات الناس عليه لهذا الاتفاق المهين، ما دام قد وجد مستقرا يضمن له العيش الهانئ والرغد في الحياة.
وقد عمل نجاح هذه الرواية، برغم عاصفة الاحتجاج الديني الذي أثارته واقعيتها وسخريتها من التدين المزيف، على صدور أعمال أخرى في إسبانيا وفي خارجها لها نفس سمات هذا النوع القصصي. ومن بين ما صدر في إسبانيا منه بعد ذلك تتميز روايتان هامتان: الأولى بعنوان «عثمان الفراجي» تأليف «ماتيو أليمان»؛ والثانية باسم «السيد بابلو النصاب» تأليف «كيبيدو». وسنتلو في ما يلي ذكرا عن هاتين الروايتين لرسم فكرة أوضح عن مضمون ذلك النوع من القصص. فعثمان الفراجي تحكي عن حياة بطلها الذي يحمل هذا الاسم. فقد ولد عثمان في إشبيلية بالأندلس، نتيجة علاقة غير شرعية ما لبثت أن قننت بالزواج بين الوالدين. ولكن الابن يضطر إلى الخروج إلى الدنيا ليكسب عيشه فيها ولم يكد يكمل عامه الثاني عشر، فيتوجه إلى جنوة حيث يعمل في خان يعيش فيه على الكفاف. ثم يبدأ تجواله وتشرده في أنحاء كثيرة من أوروبا، ويقبض عليه مرات عديدة، ويسرقه أصدقاؤه ولا يتركون معه دانقا. ويعود إلى إسبانيا ليتفرغ فيها لعدة مغامرات غرامية تنتهي بالفشل، فيلتحق بفرقة من الجند المرتزقة متجهة إلى روما. ولكنه يغير من هيئته ويهرب منهم، ويمضي متسولا يحتال على رجال الدين مستغلا طيبة قلوبهم. وفي القسم الثاني من القصة، يتنقل في خدمة عدد من كبار القوم، ويجوب البلاد الإيطالية مستخدما حيلته وذكاءه في كسب المال. ثم يعود إلى برشلونة حيث يعمل بالتجارة، ويتزوج ويرث ثروة من زوجته المتوفاة، ثم يلتحق بجامعة «قلعة إينارس» ليدرس اللاهوت! غير أنه يهجر الدراسة قبل تخرجه بقليل ليتزوج مرة أخرى. ويفقد ثروته، فيرغم زوجته على ممارسة الدعارة مقابل النقود، ولكنها تهرب منه. ويعمل عثمان مديرا لأعمال إحدى السيدات الثريات، ولكنه يسرقها فيحكم عليه بالأشغال الشاقة على السفن الملكية. وحين يكتشف مؤامرة يدبرها البحارة للقيام بتمرد على السفينة، يفتن عليهم فيكافأ بالبراءة مقابل ذلك.
أما الرواية الأخرى، «السيد بابلو»، فقد كتبها كيبيدو، أحد شوامخ الأدب الإسباني في القرن السابع عشر، وعنوانها الكامل هو «قصة النصاب السيد بابلو، مثال المتشردين ومرآة البخلاء»، ونشرت عام 1626م. وكان مؤلفها كذلك أحد المستشرقين الأوائل الذين أجادوا اللغة العربية وقرءوا فيها الكثير من الكتب، ولم يكن العهد قد طال بعد بخروج العرب من إسبانيا. وتدور القصة حول بابلو، ابن حلاق لص، وأم تعمل بالسحر والشعوذة، الذي يلتحق بخدمة الفتى الثري «دييجو كورونيل»، ويدرسان معا في مدرسة داخلية لدى مدرس خاص كاد أن يميتهما من الجوع لبخله وتقتيره الشديدين. ويلتحقان معا بعد ذلك بجامعة «قلعة إينارس»، حيث يتعرض بابلو لأسوأ الدعابات والمزح من الطلاب القدامى بالجامعة على عادة ذلك العصر. وحين يبلغ مسمعه نبأ موت أبيه على حبل المشنقة، يعود إلى بلدته كي يتسلم إرثه ويرحل إلى مدريد، حيث يعيش حياة عاصفة متنقلة مع أصدقاء له من الشطار، وينتهي به الأمر إلى السجن. وبعد أن يقضي فترة العقوبة، يحاول الزواج ولكنه يفشل فشلا ذريعا. ويعمل بعد ذلك مهرجا في فرقة هزلية في مدينة طليطلة. وينتهي بابلو من سرد قصته بالإشارة إلى اعتزامه السفر إلى أمريكا الجنوبية حتى يعمل على تحسين أوضاعه المالية هناك.
وبعد هذا العرض للنماذج الرئيسية الإسبانية لقصص الشطار، نورد هنا جانبا من المصادر العربية - عدا بعض قصص ألف ليلة وليلة - التي تبدت من هذا النوع القصصي. فبادئ ذي بدء، أعلن الكثير من محققي ومؤرخي الأدب المقارن، أن لفظة بيكارو
إن هي إلا تحريف واشتقاق من لفظة فقير العربية (والإسبان يبدلون أحيانا الفاء إلى باء وبالعكس في كلماتهم). وفي هذا اللفظ دلالة على صفة بطل القصة الذي تدور حياته حول الفقر والعوز والحاجة، بما يدفعه إلى حياة الصعلكة والتشرد.
ومصادر تلك الروايات في الأدب العربي الذي كان متداولا أيام الوجود العربي في الأندلس، عديدة. فالصفات الرئيسية في هذه الروايات وهي قيام البطل بسرد روايته ومغامراته بنفسه، وحياة البطل التي تتميز بالتنقل المستمر والتطواف وجوب الآفاق، بالإضافة إلى لب هذا النوع من الحكايات وهو استخدام الدهاء والمكر والاحتيال، تظهر كلها في بعض قصص ألف ليلة، كما تظهر أكثر في فن المقامات الذي ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي، وكان أبرز نتاجه مقامات بديع الزمان الهمذاني (968-1007م) ومقامات الحريري (1055-1122م). وقد عمل الهمذاني على خلق شخصية من صعاليك المجتمع هو أبو الفتح السكندري، وهو أحد شخصيات مقاماته - جمع فيها نفس السمات التي ظهرت بعد ذلك في البيكارو الإسباني، من الحياة الوضيعة والاحتيال على التكسب، والاستهتار بالقيم والتقاليد والناس، وما إلى ذلك. أما الحريري، فإن بطله أبا زيد السروجي هو الذي نبه بعض المستشرقين إلى الشبه الشديد بينه وبين الصعلوك الإسباني. فأبو زيد هذا متسول ذكي، بائس، طريد المجتمع، رزق موهبة أدبية وجلاء فكريا استغلهما في اكتساب قوته ورزقه. وتستبين في مقامات الحريري سمات أساسية ظهرت فيما بعد في روايات الشطار الإسبانية، مثل استغلال الدين والتظاهر بالتدين والصلاح في سبيل الحصول على المال، وتنكر البطل في هيئات مختلفة كيما يهرب من مطارديه ودائنيه أو للاحتيال على الآخرين، وتصوير أولئك القوم الذين يعيشون من تعب غيرهم وكدهم، ويهيمون بأطايب الطعام والجيد من النبيذ والشراب. ذكر الدكتور غنيمي هلال عن أبي زيد في كتابه عن الأدب المقارن: «وهو في كل ما يأتي محتال لا تنفد حيله، ومرة ثالثة يقف على قبر ميت غير مكتف بالموقف في استدرار عطف الناس عليه، يبدو معصوب الذراع، ويتنكر في زي امرأة مع أطفالها. ويبلغ استهتاره أقصاه حين يزعم حاجته إلى مال ليجهز ابنة له، وليست هي سوى ابنة الكرم، الخمر.» أما تلك النهاية السعيدة التي تنتهي بها قصص الشطار في العادة، فهي أيضا قد وجدت أولا في مقامات الحريري، كيما توفر اللمسة الأخلاقية الإضافية في مثل هذه القصص؛ إذ نجد أن بطله الشهير أبا زيد، بعد طول التجوال والتطواف على هيئته تلك وأفعاله التي أشرنا إليها، يتوب في النهاية توبة نصوحا، ويعود إلى الحياة الصالحة والنهج القويم.
ومما هو ثابت أن مقامات الحريري قد ترجمت إلى اللغة العبرية إثر تأليفها، وظهرت في إسبانيا بالذات محاكاة لها من الكتاب العبرانيين الذين عاشوا بين ظهراني العرب في الأندلس. وتشير قرائن عديدة إلى ذيوع قصص المقامات بين الأوساط الأدبية الإسلامية والمسيحية في إسبانيا. وكانت طريقة صياغتها الفريدة، ذات الجمل الموزونة المشطورة، التي تنتهي بنفس القافية وتسير على نمط واحد، من بين الأشكال الأدبية التي استعارها الأوروبيون لتظهر بعد ذلك في كتاباتهم القصصية المبكرة، ومنها ملحمة السيد القمبيطور الإسبانية. بالاضافة إلى أن الكثير من الكتب القصصية التي أشرنا إليها هنا، مسطرة بنفس الطريقة البلاغية.
وثمة كاتب عربي مشهور تردد اسمه كثيرا في سياق مصادر روايات الشطار والصعاليك، هو أديبنا المعروف أبو عثمان الجاحظ. فهو قد أفرد عددا من مؤلفاته - وإن لم يصل معظمها إلينا - للحديث عن هذه الطبقة البائسة الفقيرة وطرق احتيالها على العيش. وقد انعكست بعض صفات البخل والتقتير التي وردت في كتابه عن البخلاء، واحتيالهم على التهرب من الإنفاق ومن القيام بواجبات الضيافة، في روايات البيكارسك الإسبانية، خاصة الأولى منها. فالجاحظ قد قدم لنا في كتابه قصصا عديدة تبين دقائق حياة البخلاء وتفصيلاتها؛ وهو - كما يقول الأستاذ فاروق سعد في كتابه «مع البخلاء»: «يتابع بخلاءه في حلهم وترحالهم، ولا يتردد في أن يدخل بنا مساكنهم لنقف على أكلهم ومواكلتهم وممتلكاتهم، وعلى همومهم ومشاكلهم وهواجسهم.» والكتاب يزخر هو الآخر بأخبار الفقراء والمتسولين والصعاليك. وكان الجاحظ يلمس عن قرب آثار الفقر والبؤس في مجتمعه الذي حفل بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية الخطيرة التي تركت أثرها العميق على حياة الناس وأمنهم وثرواتهم. والفقر والتسول يؤديان إلى الغربة والتجوال والتشرد، وإلى شحذ القريحة وادعاء ما ليس في المرء من أجل التكسب. كما أشار الأستاذ سعد ببراعة إلى حقيقة هامة وردت في وصف أحد المتسولين في كتاب الجاحظ ممن يترك التسول أحيانا وينصرف إلى ممارسة رواية القصص، ويقول في ذلك: «أنا لو ذهب مالي جلست قاصا.» وهذا إرهاص بما حدث من ورود قصص الشطار كلها على لسان أصحابها بعد انتهائهم من حياة الصعلكة التي انتهجوها. كما يشير الأستاذ سعد كذلك إلى تردد وصايا خالد بن زيد لابنه في كتاب البخلاء، ووصايا أبي زيد السروجي لابنه في مقامات الحريري، ترددها في روايات الشطار، ومنها وصية يتلوها الشحاذ الأعمى إلى لاثارييو، يدعوه فيها إلى الحرص والحذر، والاحتراس من الدنيا ومن الناس.
ولا يقتصر إسهام الجاحظ في هذا الميدان القصصي عن الشطار على كتاب البخلاء، وبعض أقسام كتابه «المحاسن والأضداد »، وإنما له كتاب آخر مفقود يتحدث عنه مؤرخو الأدب، بعنوان «حيل المكدين» أي الشحاذين الصعاليك. ومن يدري، فلربما يكشف النقاب يوما ما عن مخطوط لذلك الكتاب فنجد فيه ما يلقي الضوء على ما ورد عن الشطار في الكتب الأوروبية الأولى. (هذا الجزء مأخوذ من مقالي «المصادر العربية في القصص الأوروبي» المنشور في «رواة وروائيون من الشرق والغرب» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت عام 2001م).
وقصص ألف ليلة حافلة بأخبار ونوادر الشطار والمحتالين، وأبرزها متجمع في الحكاية التي أخذنا الاقتباس الأول منها، حكاية أحمد الدنف وحسن شومان مع دليلة المحتالة وبنتها زينب النصابة، وهي كلها صور من الاحتيال والنصب والمقالب، يقوم بها شطار ومحتالون ولصوص وسحرة. ونظرة إلى الأسماء الغريبة والكنى العجيبة لبعض الشخصيات، التي جادت بها قريحة راوي أو مؤلف الحكايات تعطي فكرة لطيفة عن تلك الشخصيات، مثل: علي كتف الجمل - علي زيبق - أحمد اللقيط - زريق السماك - المعلم عذرة اليهودي - حسن شر الطريق، بالإضافة طبعا إلى الأبطال الرئيسيين: دليلة المحتالة - زينب النصابة - أحمد الدنف - حسن شومان. ويلاحظ أن هذه القصة تسير على نسق معايير قصص الشطار، حيث ينتهي الأمر بأبطالها نهاية سعيدة، حين تدخل دليلة المحتالة وزينب النصابة في خدمة الدولة والخليفة، ويرتب لهما معاشا شهريا مقابل التزامهما بحفظ النظام، وهو ما سرى قبلا على الشطار حسن شومان وأحمد الدنف ثم علي الزيبق.
ولم يقتصر الإبداع في روايات الشطار على إسبانيا وحدها، بل إن هذا النموذج القصصي ما لبث أن انتقل من إسبانيا إلى الأقطار الغربية، بعد أن ترجمت تلك الروايات البيكارسك الإسبانية إلى اللغات الأوروبية الأخرى. ففي فرنسا، حاكى بعض المؤلفين مثالي «لاثارييو دي تورميس» و«عثمان الفراجي» اللتين انتشرتا بسرعة هناك، فظهرت أشهر رواية شطار فرنسية عام 1715م باسم «حياة جيل بلاس»، وإن كان بعض الباحثين يؤكدون أنها مجرد ترجمة لرواية إسبانية مجهولة وليست إبداعا فرنسيا خالصا. وبعد ذلك، تأثر بقصص الشطار عدد كبير من الكتاب الفرنسيين منهم فولتير في رواية «كانديد» (1759م) و«ديدرو» في «جاك القدرى» (1796م) و«تندال» في روايته الشهيرة «الأحمر والأسود» (1831م).
وفي ألمانيا، ترجمت لاثارييو دي تورميس إلى الألمانية عام 1614م، وعثمان الفراجي في 1615م وبابلو النصاب في 1671م. وفي عام 1669م، ظهرت رواية شهيرة في الأدب الألماني تنتسب لهذا النوع، هي رواية «المغامر»، من تأليف «جيرمان شلايفهايم» (1621-1676م).
أما في إنجلترا، فقد بلغت روايات الشطار شأوا عاليا من الشهرة والرواج، بدأت عام 1594م برواية «المسافر سيئ الحظ» تأليف «توماس ناش»، ثم الرواية التي كتبها دانييل ديفو (مؤلف روبنسون كروزو) المسماة «مغامرات مول فلاندرز» عام 1722م، التي جاءت أقرب روايات الشطار الإنجليزية من الروح الإسبانية لهذا النوع من القصص، ومن ناحية الصفات الأساسية للشخصية التي تلعب دور البطولة وفي تطور حياتها وتقلبها بين الرذيلة والفضيلة. ثم جاءت روايتا هنري فيلدنج «جوزيف أندروز» (1742م) و«حياة توم جونز اللقيط» (1749م) فرسختا أقدام الرواية البيكارسكية الإنجليزية بما ضمتاه من صفات مميزة للبيكارو الإنجليزي، وبما أضافه فيلدنج من سخرية من العاطفية الرخيصة والفضائل المزيفة التي أسبغها على أبطال روايتيه. وقد التقط تشارلز ديكنز الخيط بعد ذلك في رواياته التي تنحو إلى نفس النهج، ومنها أوليفر تويست، ودافيد كوبرفيلد، وآمال كبار، وغيرها.
وثمة رواية إنجليزية استوحاها مؤلفها من ألف ليلة وليلة قدم فيها شخصية «شطارية» من الطراز الأول هو حاجي بابا الأصفهاني. والمؤلف هو الدبلوماسي والكاتب الإنجليزي جيمس موريير (1780-1849م) وأصدرها في ثلاثة مجلدات عام 1824م، مستخدما فيها معلوماته عن الشرق، خاصة إيران وتركيا حيث أقام وعمل مدة طويلة، تعرف فيها على أحوال أهل البلاد وقرأ كتبهم وتأثر بقصصهم. ورواية موريير تحكي قصصا فارسية حول بطلها حاجي بابا، الذي هو أشبه بالشطار الذين يجوبون الآفاق بحثا عن المغامرة والتربح. وهو في تطوافه ذاك يلاقي من الأحداث والشخصيات ما يملأ الكثير من القصص المشابهة لحكايات ألف ليلة وليلة. ومن الواضح أن مؤلفها قد كتبها تقليدا للكتاب العربي وطلبا للنجاح الذي كانت تلاقيه القصص العربية والشرقية في أوروبا. وفيها يسير المؤلف على النسق الطبيعي لقصص الشطار ، فيبدأ بوصف مولد حاجي بابا حين تلده أمه وهي في طريقها إلى العتبات الدينية المقدسة للشيعة، فيلتصق به لقب الحاج منذ صغره. ويتعلم من أبيه صنعة الحلاقة، في نفس الوقت الذي يتلقى طرفا من العلوم الدينية واللغات التي كان يتعلمها من التجار الوافدين إلى أصفهان من جميع أنحاء العالم. وسرعان ما يقرر الترحال حالما يشب عن الطوق، فيلتحق بخدمة تاجر ثري ويسافر معه في قافلة يتهددها التركمان فيقع أسيرا في أيديهم.
ويقوم جاجي بابا بالتعاون مع التركمان وخدمتهم في غزواتهم، إلى أن يتمكن من الهرب والعودة إلى بلده حيث يمتهن عدة مهن يستخدم فيها الحيلة والشطارة. ويتعرف على بعض الدراويش الذين يستغلون وضعهم في التكسب، فيتعلم منهم طرق الاحتيال باسم التدين. ويعلمه واحد منهم حكاية القصص والطرق التي يتبعها لاستخراج النقود من جيوب المستمعين. وهنا نجد مرة أخرى التصاق «الشطار» بقص الحكايات والقيام بدور الراوي، وهي التي بدأت عند أبي زيد السروجي في المقامات العربية.
ويسوق المؤلف موريير بطله حاجي بابا في أحداث ومغامرات وقصص داخل قصص طوال المجلدات الثلاثة التي تستغرقها الرواية، مما يجعلها من بين روايات الشطار النموذجية، التي كتبها مؤلفها أصلا بإلهام من قراءاته في ألف ليلة وليلة وغيرها من القصص الشرقية.
ولم تنقطع روايات الشطار عن الظهور في عالم الأدب المعاصر، وإن كان ذلك في شكل مختلف تماما ويتمشى مع العصر الذي كتب فيه، وينطوي على دلالات فنية ومضمون غير الذي ظهر في الروايات الأولى لهذا النوع القصصي. فنحن نجد صدى لها في روايات ألمانية مثل «فيلكس كروس» (1954م) لتوماس مان، ورواية «الطبلة الصفيح » (1959م) لجونتر جراس؛ وفي إنجلترا في رواية كنجزلي أميس «جيم المحظوظ»، ورواية إيريس مردوخ «تحت الشبكة»، وفي الرواية الأمريكية «الحارس في الحقول» (1954م) لسالينجر، و«مغامرات أوجي مارش» (1954م) لصول بيلو.
الخوارق والعجائبية والواقعية السحرية
«... كان تاجر من التجار كثير المال والمعاملات في البلاد، قد ركب يوما وخرج يطالب في بعض البلاد فاشتد عليه الحر، فجلس تحت شجرة وحط يده في خرجه وأكل كسرة كانت معه وتمرة، فلما فرغ من أكل التمرة رمى النواة، وإذا هو بعفريت طويل القامة وبيده سيف. دنا من ذلك التاجر وقال له: قم حتى أقتلك مثل ما قتلت ولدي، فقال له التاجر: كيف قتلت ولدك؟ قال له: لما أكلت التمرة ورميت نواتها جاءت النواة في صدر ولدي، فقضي عليه ومات من ساعته ...»
حكاية التاجر مع العفريت «... هذه الغزالة هي بنت عمي ومن لحمي ودمي، وكنت تزوجت بها وهي صغيرة السن وأقمت معها نحو ثلاثين سنة فلم أرزق منها بولد، فأخذت لي سرية فرزقت منها بولد ذكر كأنه البدر .. وكبر شيئا فشيئا إلى أن صار ابن خمس عشرة سنة فطرأت لي سفرة إلى بعض المدائن فسافرت بمتجر عظيم. وكانت بنت عمي هذه الغزالة تعلمت السحر والكهانة من صغرها فسحرت ذلك الولد عجلا وسحرت الجارية أمه بقرة ...»
حكاية الشيخ الأول «... وإذا بالحكيم دخل الديوان ووقف قدام الملك ومعه كتاب عتيق ومكحلة فيها ذرور وجلس وقال: ائتوني بطبق. فأتوه بطبق وكب فيه الذرور وفرشه وقال: أيها الملك، خذ هذا الكتاب ولا تعمل به حتى تقطع رأسي، فإذا قطعته فاجعله في ذلك الطبق وأمر بكبسه على ذلك الذرور، فإذا فعلت ذلك فإن دمه ينقطع، ثم افتح الكتاب. ففتحه الملك فوجده ملصوقا فحط أصبعه في فمه وبله بريقه وفتح أول ورقة والثانية والثالثة، والورق ما ينفتح إلا بجهد. ففتح الملك ست ورقات ونظر فيها فلم يجد فيها كتابة، فقال الملك: أيها الحكيم ما فيه شيء مكتوب. فقال الحكيم: قلب زيادة على ذلك. فقلب فيه زيادة، فلم يكن إلا قليل من الزمان حتى سرى فيه السم لوقته وساعته، فإن الكتاب كان مسموما. فعند ذلك تزحزح الملك وصاح وقال: لقد سرى السم. فأنشد الحكيم دوبان يقول:
تحكموا فاستطالوا في حكومتهم
وعن قليل كأن الحكم لم يكن
لو أنصفوا أنصفوا لكن بغوا فبغى
عليهم الدهر بالآفات والمحن
وأصبحوا ولسان الحال ينشدهم
هذا بذاك فلا عتب على الزمن
فلما فرغ دوبان الحكيم من كلامه، سقط الملك ميتا من وقته ...»
حكاية وزير الملك يونان والحكيم دوبان «... وفي غد نصل إلى جبل من حجر أسود يسمى حجر المغناطيس وتجرنا المياه غصبا إلى جهته، فتتمزق المراكب ويروح كل مسمار في المركب إلى الجبل ويلتصق به. لأن الله وضع في حجر المغناطيس سرا وهو أن جميع الحديد يذهب إليه. وفي ذلك الجبل حديد كثير لا يعلمه إلا الله تعالى حتى أنه تكسر من قديم الزمان مراكب كثيرة بسبب ذلك الجبل. ويلي ذلك البحر قبة من النحاس الأصفر معقودة على عشرة أعمدة، وفوق القبة فارس على فرس من نحاس، وفي يد ذلك الفارس رمح من نحاس ومعلق في صدر الفارس لوح من رصاص منقوش عليه أسماء وطلاسم فيها، أيها الملك، مادام هذا الفارس راكبا على هذه الفرس تنكسر المراكب التي تفوت من تحته ويهلك ركابها جميعا، ويلتصق جميع الحديد الذي في المركب بالجبل، وما الخلاص إلا إذا وقع هذا الفارس من فوق تلك الفرس.»
حكاية الصعلوك الثالث «... وكان والدنا قد علمنا حل الرموز وفتح الكنوز والسحر، وصرنا نعالج حتى خدمتنا مردة الجن والعفاريت. ونحن أربعة إخوة ووالدنا اسمه عبد الودود، ومات أبونا وخلف لنا شيئا كثيرا فقسمنا الذخائر والأموال والأرصاد حتى وصلنا إلى الكتب فقسمناها، فوقع بيننا اختلاف في كتاب اسمه أساطير الأولين ليس له مثيل ولا يقدر له على ثمن ولا يعادل بجواهر، لأنه مذكور فيه سائر الكنوز وحل الرموز. وكان أبونا يعمل به ونحن نحفظ منه شيئا قليلا، وكل منا غرضه أن يملكه حتى يطلع على ما فيه. فلما وقع الخلاف بيننا حضر مجلسنا شيخ أبينا الذي كان رباه وعلمه السحر والكهانة، وكان اسمه الكهين الأبطن. فقال لنا: هاتوا الكتاب فأعطيناه الكتاب. فقال أنتم أولاد ولدي ولا يمكن أن أظلم منكم أحدا، فليذهب من أراد أن يأخذ هذا الكتاب إلى معالجة فتح كنز الشمردل ويأتني بدائرة الفلك والمكحلة والخاتم والسيف. فإن الخاتم له مارد يخدمه اسمه الرعد القاصف، ومن ملك هذا الخاتم لا يقدر عليه ملك ولا سلطان، وإن أراد أن يملك الأرض بالطول والعرض يقدر على ذلك. فأما السيف فإنه لو جرد على جيش وهزه حامله لهزم الجيش؛ وإن قال له وقت هزه: اقتل هذا الجيش فإنه يخرج من ذلك السيف برق من نار فيقتل جميع الجيش. وأما دائرة الفلك فإن من يملكها إن شاء أن ينظر جميع البلاد من المشرق إلى المغرب فإنه ينظرها ويتفرج عليها وهو جالس، فأي جهة أرادها يوجه الدائرة إليها وينظر في الدائرة فإنه يرى تلك الجهة وأهلها كأن الجميع بين يديه؛ وإذا غضب على مدينة ووجه الدائرة إلى قرص الشمس وأراد احتراق تلك المدينة فإنها تحترق. وأما المكحلة فإن كل من اكتحل منها يرى كنوز الأرض ...»
حكاية جودر الصياد وأخويه «... ومازالوا سائرين حتى وصلوا إلى جبل، ثم إنه دخل بهم إلى المغارة وبكى وتحسر ونزلت الأمراء والوزراء وتمشوا وراء حاسب حتى وصلوا إلى البئر التي طلع منها. ثم تقدم الوزير وجلس وأطلق البخور وأقسم وتلا العزائم ونفث وهمهم. فإنه كان ساحرا ماكرا كاهنا يعرف علم الروحاني وغيره. ولما فرغ من عزيمته الأولى قرأ عزيمة ثانية وعزيمة ثالثة، وكلما فرغ البخور وضع غيره على النار. ثم قال: اخرجي يا ملكة الحيات ...»
حكاية مغامرات حاسب كريم الدين •••
تغطي أحداث الخوارق بكل مشتملاتها وأنماطها جانبا كبيرا من قصص ألف ليلة وليلة، فلا عجب أنها قد أذكت الخيال لدى كل من قرأها بما فيها من الحكايات التي تحمل الإنسان إلى ما وراء واقعه المحدود المليء بالمشاغل والهموم والأمور الدنيوية.
وأول الخوارق التي يصادفها القارئ في كتاب ألف ليلة هي أمور الجن والعفاريت، فحين يخرج شهريار وأخوه شاه زمان على وجهيهما بعد اكتشاف خيانة زوجتيهما، يصادفان أول الأمور الغرائبية: «جني طويل القامة عريض الهامة، واسع الصدر والقامة، على رأسه صندوق، فطلع إلى البر وأتى الشجرة التي هما فوقها وجلس تحتها، وفتح الصندوق وأخرج منه علبة، ثم فتحها فخرجت منه صبية غراء بهية كأنها شمس مضيئة.» ثم يتكرر ظهور الجن بعد ذلك كثيرا، حتى إن أول حكاية تقصها شهرزاد في سلسلة حكاياتها الكثيرة تتعلق بالتاجر الذي ظهر له عفريت يريد قتله لأن نواة التمرة التي كان يأكلها التاجر قتلت ابن العفريت. وسرعان ما يظهر الموضوع ذاته في قصة الصياد الذي يصطاد قمقما به أحد عفاريت الملك سليمان.
ولا تكاد تخلو قصة من حكايات شهرزاد من وجود الجان، بدرجات متفاوتة، فنحن نجدهم في حكاية الصعلوك الثاني، حيث العفريت جرجريس ابن رجموس ابن إبليس يخطف ابنة ملك جزيرة الأبنوس؛ وفي حكاية البنت الثانية أمينة (قصة الحمال والبنات أيضا) هناك جني وجنية يتخذان شكل الثعبان والحية. أما أكثر أدوار الجن فهي تلك التي يتفق فيها جني وجنية على مساعدة عاشقين من الإنس في الحب والوصال، وقد جاء ذلك في «حكاية نور الدين مع أخيه شمس الدين» إذ يحتال الجني والجنية على إتمام نية زواج ابن نور الدين من ابنة عمه شمس الدين بعد الكثير من المغامرات والأمور المدهشة. ويتم ذلك أيضا وبتفصيل أكثر في حكاية «قمر الزمان مع الملكة بدور»، وهي الأخرى من أكثر الحكايات وصفا لأحوال الجن وطريقة حياتهم والتعامل فيما بينهم. وفي تلك الحكاية، يغضب أحد الملوك على ابنه لرفضه الزواج، فيعاقبه بالحبس حينا في أحد الأبراج، حيث تراه جنية ساكنة فيه اسمها «ميمونة ابنة الدمرياط»، أحد ملوك الجان المشهورين، وتقص الحكاية عنها أنها «طلعت تلك العفريتة من البئر الروماني وقصدت السماء لاستراق السمع. فلما صارت في أعلى البئر رأت نورا مضيئا في البرج على خلاف العادة. وكانت تلك العفريتة مقيمة في ذلك المكان مدة مديدة من السنين ...» وتتعجب العفريتة ميمونة من جمال قمر الزمان حين تراه، وبعدها «مالت عليه وقبلته بين عينيه، وبعد ذلك أرخت الملاءة على وجهه وغطته بها وفتحت أجنحتها وطارت ناحية السماء وطلعت من دور تلك القاعة وصعدت، ولم تزل صاعدة في الجو إلى أن قربت من سماء الدنيا، وإذا بها سمعت خفق أجنحة طائرة في الهواء فقصدت ناحية تلك الأجنحة، فلما قربت من صاحبها وجدته عفريتا يقال له: دهنش، فانقضت عليه انقضاض الباشق. فلما أحس بها دهنش وعرف أنها ميمونة بنت ملك الجن، خاف منها وارتعدت فرائصه واستجار بها وقال لها: أقسم عليك بالاسم الأعظم والطلسم الأكرم المنقوش على خاتم سليمان أن ترفقي بي ولا تؤذيني.»
ومن كل هذا يتبين القارئ أن وصف الجن وعوالمه في ألف ليلة وليلة إنما يتبع أساسا التفسيرات الإسلامية العديدة التي وردت في الكلام عن الجن كما جاء في عدد من الآيات القرآنية، ومن أبرزها تقسيم الجان إلى جان مسلمين وجان غير مؤمنين، مع كل الشروح والإضافات التي أوردها المفسرون منذ نزول القرآن الكريم، مع كل ما دخل تلك الشروح من القصص والتعليقات التي استمدها أصحابها من الكتب السابقة، ومن بينها الإسرائيليات. وقد أدى ذلك إلى أن أصبحت حكايات الجن في ألف ليلة وليلة عالما قائما بذاته لا يشبه عالم الجنيات الذي امتلأت به القصص والأساطير الغربية والشرقية الأخرى غير الإسلامية. ومن هنا يحق القول بأن حكايات ألف ليلة هي نبع عربي إسلامي، ويدحض مزاعم المحدثين الذين يدعون أن قصصها يمكن أن تكون من خيال المترجمين الأوائل، فمهما كان من الحذق الذي توخاه هؤلاء المترجمون، فإن تلك الروح العربية الإسلامية، وتلك المسحة الخيالية التي تتنفس تراثا وعوالم عربية إسلامية، لا يمكن إلا أن تتبدى في كل عبارة ومشهد من قصص ألف ليلة وليلة، خصوصا في تلك الحكايات التي تعتمد تراثا عربيا وإسلاميا لا يمكن إغفاله.
وتمضي قصة قمر الزمان والملكة بدور في إطار من التنافس بين الجنية ميمونة والعفريت دهنش على جمال قمر الزمان وبدور، وعلى أيهما أكثر فضيلة من الآخر، ويستخدمان قدراتهما الجنية في التنقل بالحبيبين من مكان إلى آخر في لمح البصر، وفي تدبير الأمور والتدخل في خطط بني الإنسان كيما يحققان في النهاية اللقاء بين قمر الزمان والملكة بدور بعد الكثير من المغامرات وتقلبات الدهر.
وقد امتلأت حكايات ألف ليلة بعلاقة الجن بالملك سليمان، وهذا له أصله أيضا في القرآن الكريم. وتنبني حكاية «مدينة النحاس» على سليمان والجن وحبسه إياهم في القماقم. ففي تلك الحكاية، يتذاكر مجلس الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أخبار «سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام وما أعطاه الله تعالى من الملك والحكم في الإنس والجن والطير والوحش وغير ذلك .. وأنه وصل إلى شيء لم يصل إليه أحد حتى أنه كان يسجن الجن والمردة والشياطين في قماقم من النحاس ويسبك عليهم بالرصاص ويختم عليهم بخاتمه.» ويحكي أحدهم في المجلس قصصا عن وجود مثل تلك القماقم وعن الغرائب التي تحدث عند فض أختامها وخروج العفاريت منها طالبين التوبة من النبي سليمان. ويتعجب الخليفة الأموي من تلك الأحاديث، ويبدي شوقه إلى رؤية شيء من هذه القماقم، فينصحه أحد أصحابه بأن يبعث في طلب ذلك من موسى بن نصير عامله في الغرب. فيستحسن الخليفة ذلك ويرسل صاحب ذلك الاقتراح في بعثة إلى موسى بن نصير طلبا لأحد تلك القماقم السليمانية. وهناك في صعيد مصر (؟)، يتخذ مطلب الخليفة دروبا قصصية أسطورية، كعادة حكايات ألف ليلة وليلة، إذ يلجأ القوم إلى «الشيخ عبد الصمد بن عبد القدوس الصمودي» العارف بالأسرار، كيما يدلهم على حاجتهم. ويخرج القوم في بعثة جاء في أحد مخطوطات القصة أنها كانت من ألفي رجل، وعبروا صحراء القيروان (؟)، حيث قادهم الشيخ عبد الصمد إلى بلاد قصية يرون فيها العجائب، ومنها قصر معطل به لوحات مكتوبة بألسنة مختلفة تزهد في أمور الدنيا، ويجد موسى بن نصير مائدة من المرمر فلم يأخذ من كنوز القصر المهجور غيرها (قارن أخبار مائدة الملك سليمان في أخبار فتح العرب للأندلس). ويصل القوم إلى تمثال لفارس من النحاس تدلهم كتابة على رمحه إلى «مدينة النحاس» فيسيرون إليها. وفي الطريق يصادفون عمودا من الحجر الأسود «فيه شخص غائص في الأرض إلى إبطيه وله جناحان عظيمان وأربع أياد؛ يدان منها كأيدى الآدميين ويدان كأيدي السباع فيهما مخالب وله شعر في رأسه كأنه أذناب الخيل وله عينان كأنهما جمرتان وله عين ثالثة في جبهته كعين الفهد يلوح منها شرار النار وهو أسود طويل وينادي سبحان رب حكم علي بهذا البلاء العظيم والعذاب الأليم إلى يوم القيامة.» ويقص عليهم هذا المارد قصته وأنه عفريت من الجن اسمه داهش بن الأعمش، ويحكي لهم قصة غلبة الملك سليمان للملك الذي كان داهش في خدمته، ويدلهم إلى طريق مدينة النحاس.
وحين يصل الرهط إلى المدينة بحثا عن القماقم السليمانية، يجدونها محاطة بسور مهول لا يستطيعون النفاذ منه، فيصنعون سلما هائلا، يصعد عليه واحد تلو الآخر للاستطلاع، إلا أنهم بعد أن يصلوا إلى القمة، يلقون بأنفسهم من حالق فيلقون حتفهم. ويصعد الشيخ عبد الصمد بنفسه بعد أن تسلح بالآيات التي تحفظه من الشر، ويرى ما تراءى لمن صعدوا قبله من الغيد الحسان اللاتي يدعونه إلى القفز إليهن فيما تراءى أنه بحيرة، فيستعصم إلى أن يزول عنه السحر، فيهبط ويفتح أبواب المدينة لرفاقه الباقين. وتجد بعثة الخليفة المدينة يسكنها أناس كلهم موتى من جراء ما ضرب بلادهم من قحط وجدب في قديم الزمن، وإنما كانوا جميعا يرفلون في الذهب والحرير والأحجار الكريمة وأنواع العاج واللؤلؤ والياقوت. وفي أحد قصور المدينة، يرون «على السرير جارية كأنها الشمس الضاحية لم ير الراءون أحسن منها وعليها ثوب من اللؤلؤ الرطب وعلى رأسها تاج من الذهب الأحمر وعصابة من الجوهر، وفي عنقها عقد من الجوهر وفي وسطه جواهر مشرقة، وعلى جوانبها جوهرتان نورهما كنور الشمس وهي كأنها ناظرة إليهم تتأملهم.» ويرون أن تلك الجارية ميتة أيضا وإن كانت عيناها تبدو فيهما الحياة. وكان إلى جانبي الجارية عبدان يحرسانها، وبين يديهما لوح من ذهب فيه كتابة على لسان الجارية تقول فيها إنها «ترمزين» بنت أحد الملوك العماليق الأقدمين، وتحكي قصة المدينة التي كانت تحكم عليها ، وما بها من كنوز وجواهر ومعادن ثمينة، ثم ما أصابها من قحط وجدب بعد أن تواتر عليها سبع سنين لم ينزل علينا ماء من السماء ولا نبت لنا عشب على وجه الأرض فأكلنا ما كان عندنا من القوت ثم عطفنا على المواشي من الدواب فأكلناها ولم يبق شيء، فحينئذ أحضرت المال واكتلته بمكيال وبعثته مع الثقات من الرجال فطافوا به جميع الأقطار ولم يتركوا مصرا من الأمصار في طلب شيء من القوت فلم يجدوه ثم عادوا إلينا بالمال بعد طول غيبة فحينئذ أظهرنا أموالنا وذخائرنا وأغلقنا أبواب الحصون التي بمدينتنا وسلمنا الحكم لربنا وفوضنا أمرنا لمالكنا فمتنا جميعا كما ترانا وتركنا ما عمرنا وما ادخرنا فهذا هو الخير وما بعد العين إلا الأثر.»
ويترك القوم مدينة النحاس، ويسرون بمحاذاة الساحل إلى أن يأتوا إلى جبل عال به مغارات كثيرة فيها أناس من السودان، يدلهم الشيخ عبد الصمد إلى أنهم الذين يعرفون القماقم السليمانية. وتقدم ملك السودان (وكان يعرف العربية!) وتحدث إلى موسى بن نصير وشرح له أنهم من أولاد حام بن نوح، وقد هداهم أبو العباس الخضر إلى دين الإسلام. واستضافهم ملك السودان، وأمر الغواصين أن يخرجوا من البحر شيئا من القماقم السليمانية فأخرجوا لهم اثني عشر قمقما فرح الأمير موسى بها والشيخ عبد الصمد والعساكر لأجل قضاء حاجة أمير المؤمنين. ويعود القوم إلى دمشق ويقدمون القماقم إلى الخليفة، الذي أخذ يفتح قمقما بعد قمقم، والشياطين يخرجون منها ويقولون التوبة يا نبي الله وما نعود إلى مثل ذلك أبدا، إذ يعتقدون أنهم مازالوا في عصر النبي سليمان بن داود عليهما السلام.
ويستبين في هذه الحكاية المتكاملة عناصر عدة ظهرت في الكثير من القصص والأساطير بعد ذلك، ومدينة النحاس نفسها تماثل الجزر السوداء التي جاءت حكايتها في قصة الصياد والعفريت، كما أن عنصر الجدب الذي يصيب المدينة قد ظهر قبل ذلك في سنوات القحط التي أصابت مصر في عهد النبي يوسف، وعددها سبع سنين أيضا، كما ظهر بعد ذلك في عدد من القصص الأسطورية في قصص الملك آرثر، حيث مملكة الملك الصياد يصيبها مثل ذلك القحط.
ومن أبرز صور الخوارق العجيبة في قصص ألف ليلة: السحر؛ وهو موضوع قديم قدم أول الأنشطة التعبيرية لدى البشر، وظهر منذ ظهور الإنسان البدائي، لتفسير الظواهر الكونية ومحاولة التأثير فيها، عن طريق رجال الكهانة والدين في العصور السحيقة. وقد ظهر السحر في أوائل الأعمال الأدبية الشفوية والمكتوبة، في ثقافات بلاد بين النهرين، ولكن على وجه الخصوص في الحضارة المصرية الفرعونية.
ومعظم حكايات ألف ليلة وليلة فيها عنصر من عناصر السحر، كما هو الحال مع الجن والجنيات، وبعض ذلك السحر من عمل الجن والعفاريت بطبيعة الحال. ويلاحظ أن عددا كبيرا من أعمال السحر في القصص يتعلق بالتحولات، أو المسخ، أي تحويل إنسان إلى حيوان أو طير، ويكون ذلك عقابا أو هروبا من انتقام ذلك الشخص. وموضوع التحولات قديم أيضا ويظهر في الأدب الفرعوني، ويبرز أكثر في القصص الإغريقية، خاصة قصة «الحمار الذهبي» لأبولونيوس.
وأول أعمال السحر التي تصادف القارئ في كتاب ألف ليلة وليلة هي قصص الشيوخ الثلاثة في «حكاية التاجر والعفريت»، وكلها من نوعية سحر «التحولات». فالشيخ الأول يحكي أن ابنة عمه «تعلمت السحر والكهانة من صغرها»، فلما اتخذ لنفسه جارية عليها كي ينجب منها، سحرت ابنه عجلا وأمه بقرة، فلما علم ما فعلته جعل أخرى تسحر الزوجة غزالة كان يسحبها معه. والشيخ الثاني قامت زوجته الجنية بسحر أخويه الشريرين إلى كلبين كانا معه أيضا. أما الشيخ الثالث فكانت معه بغلة هي زوجته التي ضبطها تخونه مع عبد أسود فلما خشيت انتقامه سحرته في صورة كلب، ولكن فتاة تعلمت السحر تعيده إلى صورته الإنسانية وتعطيه ماء مسحورا يرشه على الزوجة الخائنة فتتحول إلى البغلة التي كانت معه.
وفي الحكاية الثالثة «حكاية الصياد والعفريت»، ترد قصة داخل القصة، التي أوردنا منها اقتباسا في بداية هذا الفصل، وهي قصة الملك يونان والحكيم دوبان. ودوبان هذا حكيم ماهر تفيض مهارته إلى مرتبة السحر والكهانة والأفعال العجيبة، وهو إن كان يستخدم سحره في الخير ونفع الآخرين، كشفاء الملك يونان من البرص الذي ضرب جسده، فهو يستخدمه أيضا للانتقام من نكران الجميل الذي لاقاه من الملك حين أمر بقتله، فيستعين دوبان بسحره على جعل رأسه يحيا ويتكلم بعد ضرب عنقه، ويستخدم حكمته ودهاءه للانتقام من الملك بدس السم له في ورق كتاب ملتصق الصفحات يضطر معه الملك إلى بل أصابعه ليقلب أوراقه إلى أن يسري السم في جسده ويموت. وقد ظهرت تيمة الكتب والمخطوطات المسمومة بعد ذلك في كثير من القصص والروايات الغربية، أشهرها حديثا رواية «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو التي ذاع صيتها بعد أن استحالت فيلما شهيرا.
أما الإسهام الكبير في حكايات ألف ليلة وليلة السحرية بعد ذلك فيتمثل في «الجزر السوداء»، في نفس حكاية الصياد والعفريت. فالعفريت في نهاية الأمر يكافئ الصياد بأن يدله على مكان بحيرة مسحورة يصطاد منها سمكا مسحورا ذا ألوان مختلفة، يهديها إلى الخليفة فيجزل له العطاء. بيد أن السمك مسحور، ولا تستطيع جواري الخليفة طهوه، إذ ينشق الحائط عن صبية تخاطب السمك ويرد عليها ثم يتفحم قبل طهوه. وبعد إصرار الخليفة على معرفة السر، يقوده ذلك إلى اكتشاف بلد كامل وقد تحول إلى حجارة، وفيه بركة كبيرة فيها تلك الأسماك الملونة. ويجد الخليفة ملك ذلك البلد متحجرا نصفه الأسفل، ويحكي له كيف غدرت به زوجته حين ضبطها مع عشيقها فسحرته وبلده إلى تلك الحالة المتحجرة، وسحرت شعبه إلى تلك الأسماك، وكل لون يشير إلى ديانة صاحبه. وتنتهي القصة بأن يساعد الخليفة ملك الجزر السوداء على قتل الزوجة وعشيقها بعد أن تفك السحر عن البلدة وسكانها. وكما رأينا من قبل، كانت هذه القصة، مع قصة مدينة النحاس، صورة من الصور الأسطورية للجدب الروحي والمادي الذي يصيب الأرض والبشر، الذي تحدث عنه فريزر في «الغصن الذهبي»، والذي ترددت أصداؤه في الأساطير الكلتية عن الملك الصياد، والذي استخدمه إليوت في تصوير الأرض الخراب. وقد ترددت تيمة التحجر الذي يأتي من أو يؤدي إلى الجدب والموت في الحياة، والحياة في موت، التي وردت هنا وفي حكايات أخرى في ألف ليلة وليلة في بعض القصص العربية الحديثة، كما في مجموعة القصص القصيرة - التي يمكن أن تأخذ وضع الرواية نظرا لترابط موضوعاتها ارتباطا عضويا - المعنونة «خريف الأزهار الحجرية» لماهر شفيق فريد؛ فقصصها كلها تصور عقم وجدب العلاقات الإنسانية في العصر الحديث، والشلل «التحجري» الذي يصيب أبطال قصصه في مواجهة أي موقف يتعين عليهم فيه التحرك والعمل، وتسري تيمة «التحجر» في كل مواقف القصص. ومن الأمور ذات الدلالة أن المؤلف أكبر متخصص عربي في شعر إليوت وأدبه، وهذا مثال على تداخل المؤثرات العربية والأجنبية لدى الأدباء العرب على وجه العموم، حتى لو كان ذلك التأثر كامنا في اللاوعي ويظهر فحسب عند الموازنة بين الأعمال الأدبية والفنية، دون حاجة إلى التمسح في مقولة هارولد بلوم عن قلق التأثير!
ويرتبط السحر في قصص ألف ليلة وليلة بكلمات أو عبارات معينة تقوم مقام «التعاويذ السحرية»، فالساحر أو الساحرة ينطق بكلمات معينة - قد تكون مصحوبة برش مياه مسحورة - تقوم بالفعل السحري الذي يريده. كذلك يستبين هذا في قصة علي بابا، حيث لا ينفتح الكهف السحري إلا بالنطق بالعبارة الشهيرة «افتح يا سمسم»، أما إذا تغير حرف واحد فيها فإن الأثر المطلوب لا يتحقق. وقد استعارت قصص السحر الأوروبية تلك التيمة عن قصص ألف ليلة وليلة، وأصبحت الطلسمات والتعاويذ سمة رئيسية لقصص السحر فيها.
وقد استمرت قصص الجان والسحر والخوارق في الظهور في القصص العربي إلى عصرنا الحديث. ونحن نرى كيف تحدثت روايات وكتب الدكتور طه حسين «شجرة البؤس» و«دعاء الكروان» و«الأيام» عن شيوع خرافات الجن والسحر والأرواح في الريف المصري. وفي «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي والثلاثية لنجيب محفوظ، تصوير لشيوع الخرافات حتى في المدينة. ومن العجيب أن الإيمان بالسحر وقوى الجان واستخراج الكنوز المدفونة وتحضير الأرواح قد عاد ثانية إلى الظهور، وراجت معه الكتب التي تتحدث عن تلك الأمور، حتى إنها أصبحت من أكثر الكتب رواجا ومبيعا، فكأنما قد عدنا ثانية في القرن الحادي والعشرين إلى عالم ألف ليلة وليلة ومجتمعها!
أما في أوروبا، فقد تتابعت القصص والروايات التي تعتمد عنصر السحر فيها، إلا أنها كادت تقتصر على قصص الأطفال والناشئة بغرض حث صفة التخيل فيهم. ومن الواضح أن الكثير فيها يماثل ما جاء في القصص العربية. وقد أوضحت الباحثة المصرية ميرفت عبد الناصر - التي تعمل أستاذة للطب النفسي بجامعة كنجز بلندن - حديثا الصلة التي تستبين في قصص هاري بوتر من تأليف الكاتبة البريطانية ج. ك. رولنج وبين الكتابات الفرعونية عن السحر والأساطير المصرية القديمة. وأضيف هنا أن رولنج قد تأثرت أيضا في رواياتها عن هاري بوتر بحكايات السحر والسحرة في ألف ليلة وليلة، وهو الكتاب الأقرب إلى التناول بالنسبة للأطفال والنشء في جميع البلدان، خاصة في أوروبا وأمريكا، ولا بد أن الكاتبة البريطانية قد تعرفت إلى قصصه المترجمة إلى لغتها في العديد من النسخ التي شاعت هناك.
ويرتبط عالم الجن وعالم السحر في ألف ليلة وليلة بالبحث عن الكنوز والأموال المرصودة؛ والمرصودة هنا تعني المخصصة لشخص معين هو القادر على حل طلاسمها واجتياز المصاعب التي تكتنفها من أجل الحصول عليها في نهاية الأمر. وبهذا يدخل أيضا إلى الصورة فكرة القدر والمصير المحتوم. وقد شهدنا المثل الأفضل لكل ذلك في حكاية «الصياد جودر وأخويه» التي لم تنل نصيبها من الشهرة رغم كونها من أفضل الحكايات صياغة وخيالا. كذلك نجد في حكاية علاء الدين والمصباح السحري، الساحر الذي يبحث في أقطار العالم كلها عن الشخص المكتوب له أن يعثر على المصباح السحري المرصود، ولا يجده إلا في الصين في شخص الصبي علاء الدين.
وثمة حكاية أخرى من حكايات ألف ليلة وليلة تعمر بذكر الجان والسحر والسحرة، وهي حكاية «جلنار وبدر باسم»، وتدور حول الملك شهرمان الذي يتزوج من جارية يتضح أنها جلنار البحرية، ابنة أحد ملوك البحر. وهي تصف قومها الذين يعيشون داخل البحر بقولها: «... إنا نسير في البحر وعيوننا مفتوحة وننظر ما فيه وننظر الشمس والقمر والنجوم والسماء كأنها على وجه الأرض ولا يضرنا ذلك، واعلم أيضا أن في البحر طوائف كثيرة وأشكالا مختلفة من سائر الأجناس التي في البر، وأن جميع ما في البر بالنسبة لما في البحر شيء قليل جدا.» ثم تقوم جلنار بأعمال سحرية تستدعي بها أخاها وأمها وأهلها حتى يتعرف عليهم زوجها الملك شهلان. وتمضي الحكاية بعد ذلك لتنتقل إلى الابن الذي أنجبه الملك من جلنار البحرية وهو بدر باسم، وغرامه عن طريق السماع بجوهرة، ابنة الملك السمندل، وهو أحد ملوك الجان الذي يرفض زواج ابنته من بدر باسم، مما يلقي ذلك الأخير في خضم مغامرات مهولة، يذهب في إحداها إلى مدينة كل أهلها من السحرة، وعلى رأسهم الملكة «لاب» التي تسحر محبيها المارقين في هيئة طيور وحيوانات. ويتصارع أصحاب السحر الأسود الشرير مع شيخ مؤمن له في السحر الحميد، وهو ينجي بدر باسم من يد الملكة لاب ويعيده إلى بلاده حيث يتزوج من جوهرة آخر الأمر.
ثم يأتى بعد ذلك - في مجال الخوارق التي تحتوي عليها قصص ألف ليلة وليلة - غرائب الخيال العلمي الذي عالجناه في الفصل الخاص بذلك، ومنه البساط السحري، والفرس الطائر، والمنظار السحري، والتفاحة التي تشفي كل الأمراض، وغير ذلك.
وتمثل الرحلات التي يقوم بها أبطال الحكايات صورة أخرى من صور الغرائبية في الكتاب، ذلك أنهم يشاهدون في رحلاتهم جزرا وأراضي وبلادا غريبة، ويصادفون أشياء خارقة للواقع، لكنها تعبر عن خيال مدهش، هو الذي يجذب القراء إلى تلك الحكايات في المقام الأول مغامرات. ومن الحكايات التي تمتلئ بتلك الأشياء الخيالية العجيبة «حكاية حاسب كريم الدين». وقد جمعت هذه الحكاية جميع عناصر الخوارق والغرائب، تبدأ القصة بدانيال الذي يترك لابنه حاسب أوراق حكمة سرية قبل موته، ثم يعمل حاسب مع جماعة من الحطابين، ويكتشف كهفا مليئا بالعسل، ويعمل زملاؤه في نقل العسل إلى المدينة بينما هو يحرس الكهف أياما عدة، وفي النهاية يغلقون عليه الكهف كيما يتخلصوا منه. وينجح حاسب في الخروج إلى واد به بحيرة وتل عليه تخت مرصع بالجواهر واللؤلؤ. وينام حاسب هناك وحين يصحو يجد المكان عامرا بالحيات، تقودهم ملكة ضخمة الحجم، تكلم حاسب وتحكي له قصتها، التي تبدأ بذكر بلوقيا الذي خرج من بلاده سعيا وراء ملاقاة نبي الإسلام عند مبعثه، ويزور في سفرته عدة جزر يرى فيها الكثير من الغرائب، إلى أن يصل إلى الجزيرة التي بها ملكة الحيات تلك، وبعدها يتوجه إلى بيت المقدس حيث يصادف أحد الحكماء ويدعى عفان، وهو عليم بأسرار الملك سليمان، ويبحث عن أعشاب الخلود كيما يبقى حيا عند مبعث نبي الإسلام. ويذهب بلوقيا وعفان إلى ملكة الحيات كيما تدلهما على تلك الأعشاب، ويأسرانها ويطوفان معها على الأعشاب المختلفة، حيث ينطق كل عشب بخواصه، فيأخذان أعشاب المشي فوق المياه، ويفوتهما أخذ أعشاب الخلود! وحين يصلان إلى عرش الملك سليمان، يحاول عفان أن يحصل على الخاتم فيحترق ويصبح كوما من الرماد. ويعاود بلوقيا ترحاله عبر عدد من الجزر التي يرى فيها العجائب، ومنها النص التالي: «أقبل على جزيرة صغيرة أرضها وجبالها مثل البلور، وفيها عروق الذهب وفيها أشجار غريبة لم ير مثلها، أزهارها كلون الذهب. فطلع إلى الجزيرة وساح فيها حتى المساء، فصارت أزهار الأشجار مضيئة فتعجب لذلك أشد العجب ثم نام حتى الصباح، وعند طلوع الشمس دهن قدميه ونزل البحر السادس وسار فيه حتى أقبل على جزيرة، طلع عليها فرأى جبلين وعليهما أشجار كثيرة وثمارها كرءوس الآدميين وهي معلقة من شعورهم. ورأى أشجارا أخرى ثمارها طيور خضراء معلقة من أرجلها، وأشجار تتوقد مثل النار ولها فواكه مثل الصبر، وكل من سقطت عليه نقطة من تلك الفواكه احترق بها. ورأى فواكه تبكي وأخرى تضحك، وسار حتى رأى شجرة عظيمة فجلس تحتها إلى العشاء وعندئذ طلع فوق الشجرة، فبينما هو على حاله إذا بالبحر قد اختبط وطلع منه بنات البحر وفي يد كل منهن جوهرة تضيء، وسرن حتى أتين تحت الشجرة وجلسن وتسامرن وبلوقيا يتفرج عليهن حتى الصباح فنزلن إلى البحر ...»
هذه صورة من صور العجائب التي يزخر بها كتاب ألف ليلة وليلة، التي أخذت بمجامع قلوب الأوروبيين حين قرءوها فوجدوا فيها خيالا لم يعهدوه من قبل في أي من كتاباتهم. ولا غرو، فمن يقرأ الوصف السابق عن الجزر التي زارها بلوقيا وما رآه فيها، يدرك على الفور الطبيعة الفريدة للعجائب والغرائب التي أتت بها هذه الحكايات وعرضتها أمام القارئ المتلهف على التطواف مع تلك الأخيلة الخارقة للطبيعة.
وقد احتوت تلك الحكاية على روايات عن الكون وغرائبه، وعن خلق الجان والفرق بينهم وبين الشياطين، حين يحكي الملك صخر - أحد ملوك الجان ممن يلتقيه بلوقيا في سعيه - عنها فيقول: «يا بلوقيا، إن الله تعالى خلق النار سبع طبقات بعضها فوق بعض، وبين كل طبقة وطبقة مسيرة ألف عام. وجعل اسم الطبقة الأولى جهنم، وأعدها لعصاة المؤمنين الذين يموتون من غير توبة. واسم الطبقة الثانية لظى، وأعدها للكفار. واسم الطبقة الثالثة الجحيم، وأعدها ليأجوج ومأجوج. واسم الرابعة السعير، وأعدها لقوم إبليس. واسم الخامسة سقر، وأعدها لتارك الصلاة. واسم السادسة الحطمة، وأعدها لليهود والنصارى. واسم السابعة الهاوية، وأعدها للمنافقين. فهذه السبع طبقات. فقال له بلوقيا: لعل جهنم أهون عذابا من الجميع لأنها من الطبقة الفوقانية. فقال الملك صخر: نعم. أهون الجميع عذابا ومع ذلك فيها ألف جبل من النار، وفي كل جبل سبعون ألف واد من النار، وفي كل واد سبعون ألف مدينة من النار، وفي كل مدينة سبعون ألف قلعة من النار، وفي كل قلعة سبعون ألف بيت من النار، وفي كل بيت سبعون ألف تخت من النار، وفي كل تخت سبعون ألف نوع من العذاب. وما في جميع طبقات النار يا بلوقيا أهون عذابا من عذابها لأنها هي الطبقة الأولى، وأما الباقى فلا يعلم عدد ما فيه من أنواع العذاب إلا الله تعالى .. وأما نحن فقد خلقنا الله تعالى من النار وأول ما خلق الله المخلوقات في جهنم خلق شخصين من جنوده: أحدهما اسمه خليت والآخر اسمه مليت. وجعل خليت على صورة أسد ومليت على صورة ذئب. وكان ذنب مليت على صورة الأنثى ولونها أبلق، وذنب خليت على صورة ذكر وهو في هيئة حية. وذنب مليت في هيئة سلحفاة وطول ذنب خليت مسيرة عشرين سنة. ثم أمر الله تعالى ذنبيهما أن يجتمعا مع بعضهما فتوالد منهما حيات وعقارب ومسكنها في النار ليعذب الله بها من يدخلها. ثم إن تلك الحيات والعقارب تناسلت وتكاثرت. ثم بعد ذلك أمر الله تعالى ذنبي خليت ومليت أن يجتمعا ثاني مرة، فاجتمعا فحمل ذنب مليت من ذنب خليت. فلما وضعت ولدت سبعة ذكور وسبع إناث، فتربوا حتى كبروا. فلما كبروا تزوج الإناث بالذكور وأطاعوا والدهم إلا واحدا منهم عصى والده فصار دودة. وتلك الدودة هي إبليس لعنه الله تعالى. وكان من المقربين، فإنه عبد الله تعالى حتى ارتفع إلى السماء وتقرب من الرحمن وصار رئيس المقربين .. ولما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أمر إبليس بالسجود له فامتنع من ذلك، فطرده الله تعالى ولعنه. فلما تناسل جاءت منه الشياطين. وأما السته الذكور الذين قبله فهم الجان المؤمنون ونحن من نسلهم وهذا أصلنا يا بلوقيا ...»
كذلك امتلأت حكايات السندباد البحري في رحلاته السبع بالعجائب والخوارق التي تخرج عن المألوف. ففي الرحلة الأولى، هناك الجزيرة التي استراح المسافرون عليها، فيكتشفون في النهاية أنها سمكة بحرية هائلة الحجم، تتحرك حين تشعر بهم فوق ظهرها. وفي السفرة الثانية، يظهر الرخ وبيضته، ويربط السندباد نفسه بقدم الرخ فيطير إلى وادي الألماس واليواقيت. وفي السفرات الأخرى، ثمة عجائب وغرائب، منها جبل القرود، والقوم الذين يدفنون القرين مع من يموت أولا من زوج وزوجة، وحكاية شيخ البحر العجيبة. ولقد كانت قصص السندباد البحري من أهم الحكايات التي اهتم بها القراء الغربيون ونشطت بها خيالاتهم على نحو فاق ما فعلته الإلياذة والأوديسة، رغم المشابهات بين الأوديسة وبعض حكايات السندباد.
ومن النقاد المشهورين الذين حللوا العنصر العجائبي في الرواية، «تريستان تودوروف» ناقد البنيوية المعروف. ففي كتابه المعنون «مقدمة إلى أدب الفانتاستيك» الصادر بباريس في عام 1970م، يحدد اصطلاح الفانتاستيك في القصص بأنه «التردد الذي يستشعره امرؤ لا يعرف سوى النواميس الطبيعية حين يواجه حدثا خارقا للطبيعة.» وهو يتناول بالتحليل في كتابه ذاك عدة مؤلفات تجلو نظريته، منها كتاب جاك كازوت «غراميات الشيطان» ورواية «مخطوط سرقسطة» وأعمال كافكا وبلزاك وإدجار ألان بو وجيرار دي نرفال، وعلى رأس كل هؤلاء ألف ليلة وليلة. وقد تناول بالتحليل التفصيلي حكايات السندباد البحري، وقمر الزمان، والصعلوكين الثاني والثالث، مع إشارات إلى قصص علي بابا وعلاء الدين والأمير أحمد، وكلها من الحكايات التي تتخللها الخوارق والأعاجيب، وتدخل في موضوع كتابه، الفانتاستيك. وهو يرى أن فعل الخوارق في القصص هو التدخل لإصلاح وضع يتبدى فيه عدم توازن من نوع ما في موقف متوازن، أو التدخل لكسر توازن من أجل تقديم حبكة قصصية؛ فالخوارق في الروايات تعمل على تقدم الحدث والحبكة وقيام القصة.
وتلهم حكايات ألف ليلة وليلة تودوروف تقسيم أنواع الفانتاستيك فيها إلى ما يلي: (1)
عجائبيات المبالغة: مثل الأوصاف التي يقدمها السندباد البحري لسامعيه عما شاهده في رحلاته، كالسمك الذي يبلغ طول الواحدة منه مئات الأمتار، والحيات الضخمة التي يمكنها ابتلاع فيل بسهولة. وهي من قبيل المبالغات في القول، التي لا تصدم السامع بوصفها من التهاويل. (2)
العجائبيات الغريبة: وهي أحداث خارقة للطبيعة، يجري سردها بوصفها أحداثا طبيعية عادية. ولما كان القارئ لا يعرف الأماكن القصية - الخيالية أحيانا - التي تقع فيها تلك الأحداث، فليس هناك ما يحمله على الشك فيما يقرؤه، ومثال ذلك طائر الرخ الذي يصفه السندباد بأنه يغطي وجه الشمس وله ساق بحجم جذع شجرة هائلة الحجم. وبالطبع، لا يوجد مثل ذلك الطائر في نطاق علوم الحيوان، بيد أن من يستمعون إلى السندباد وهو يحكي عليهم ما حدث له في رحلاته، لا يشكون لحظة في وجود مثل تلك الخوارق التي يقصها، بل أن أنطوان جالان - أول مترجم لألف ليلة وليلة - يعلق على أحداث طائر الرخ بأن ماركو بولو في كتاب رحلاته والأب مارتيني في كتابه «تاريخ الصين»، يتحدثان عن ذلك الطائر بوصفه طائرا حقيقيا وموجودا بالفعل! (3)
العجائبي الفعال: وهي القصص والأحداث التي تتضمن أدوات أو مخترعات ذات فائدة عملية لشخصيات الحكاية، وهي بهذا محتملة الوجود. ومن أمثلة ذلك ما ورد في حكاية الأمير أحمد عن البساط السحري والمنظار الراصد والتفاحة التي تشفي الأمراض. ويندرج تحت هذه الفئة أيضا الحصان الأبنوسي وطاقية الإخفاء وغيرهما. وقد تطور هذا النوع بعد ذلك إلى ما أصبح يعرف بالعجائبية العلمية، وهي قصص وروايات الخيال العلمي.
وقد تأثرت الآداب الأوروبية بالخوارق والعجائب من قبل القصص الشرقية والعربية، بيد أن ظهور ألف ليلة وليلة في أوائل القرن الثامن عشر، أنتج بعدها نمطا مماثلا لما ورد في حكاياتها من الأحداث فوق الواقعية، مثل روايتي «مخطوط سرقسطة» و«الواثق» اللتين نتحدث عنهما في فصول أخرى. ويبقى أن نذكر هنا جاك كازوت (1719-1792م) وروايته التي سبقت الإشارة إليها «غراميات الشيطان» والتي جاءت بإلهام مباشر من قصص العجائب والجان في ألف ليلة وليلة. فمؤلفها شارك في وضع وتحرير كتاب «تكملة حكايات ألف ليلة وليلة» مع أحد العرب المقيمين في فرنسا واسمه «ديونيسيوس شاوي»، المعروف باسمه الفرنسي
DOM CHAVIS ، والذي كان لديه مخطوط عربي به قصص أخرى عربية، فكان يقدمها لكازوت في ترجمة بدائية، فيصوغها كازوت في أسلوب قصصي منمق وفرنسية سليمة. ويقول المحقق محسن مهدي عن شاويش «وذلك لأن شاويش كان قليل البضاعة في اللغة العربية وفي تاريخ الحضارة العربية، وكان قد وضع بين يدي كازوت أصلا، قال الذين أرخوا لحياة كازوت إنه كان ترجمة حرفية غير مفهومة وبلغة ضعيفة امتزجت فيها الإيطالية والفرنسية. ولا نعرف الكثير عن حياة هذا الكاهن الذي كان أول من نشر الخرافات عن أصول كتاب ألف ليلة وليلة في أوروبا.»
ورواية «غراميات الشيطان» (1772م) تقع - كعادة القصص ذات الإلهامات العربية - في إسبانيا، وتحكي عن «ألفارو» الذي يتعاطى العلوم الخفية فيستحضر الشيطان الذي يظهر له على هيئة حيوان جملي ويقول له العبارة السحرية:
CHE VUOI? (ماذا تطلب؟) وهي المقابل للعبارة الألف ليلية «شبيك لبيك عبدك ما بين يديك.» ويطلب منه ألفارو كالعادة أيضا أن يهيئ لضيوفه أطيب الأطعمة والمشروبات، بعد أن يتحول إلى هيئة وصيف وسيم مهندم يقوم على خدمتهم. وتتتابع طلبات السيد المطاع، فيأمر بأشهر المغنيات، والخدم، والعربات، بينما أصدقاؤه في دهشة من كل هذا النعيم الذي هبط عليه. وبعد ذلك ينقلب الوصيف إلى فتاة تعترف لألفارو بحبها له، وأنها من الحوريات التي تحت إمرة الشياطين، ولكنها تضحي بوضعها من أجل هذا العشق. ولكن ألفارو يرفض ذلك، ويكتفي بأن تكون وصيفه ، الذي يسميه تارة بيوندتو وتارة بيوندتا، حيث إنه كان يتقلب بين كونه وصيفا بينما هو امرأة. وتصحبه الحورية إلى فينيسيا هربا من تهمة ممارسة السحر، وهناك ينغمس ألفارو في اللهو والمقامرة والنساء. وتكتشف إحدى عشيقات ألفارو أن وصيفه إنما هو فتاة فتغار منها وتحاول قتلها. وتنجو بيوندتا بصعوبة، ويتحول قلب ألفارو إلى حبها في فترة مرضها، ويطلب منها أن تعطيه ما وعدته من سلطة وقوة ومعرفة، فتطلب منه أولا أن يهبها نفسه وحبه بلا حدود. ولكن ألفارو يتحير في أمره، ولا يعرف حقيقة حبيبته، أهي بشر أم الشيطان متجسدا.
والقصة تعيد إلى الأذهان كلا من قصة فاوست، والكثير من حكايات ألف ليلة وليلة، خاصة الحكايات التي يعشق فيها الجان بني الإنسان. وثمة فقرة تكاد تكون منقولة من قصة النائم اليقظان، حين لا يدري ألفارو أهو في واقع أو خيال، ويتردد بين كونه يحلم وبين أنه يعايش ما يحدث حقيقة: «كيف يمكنني أن أفسر مغامرتي؟ إن الأمر يبدو كله حلما من الأحلام، ولكن .. ما الحياة الإنسانية غير هذا؟ إني أحلم بصورة أغزر وأبهى من البشر الآخرين، هذا كل ما في الأمر.»
ويتقلب ألفارو وبيوندتا في أحداث متعددة تنتهي بعودة الأخيرة إلى حالتها الشيطانية بعد أن تغوي ألفارو، الذي يعود بعد ذلك بدوره إلى حياته الطبيعية بعد لقائه مع أمه في إسبانيا.
وقد استمرت قصص الخوارق في الظهور نتيجة إقبال القراء عليها، خاصة النشء والأطفال، وأصبحت نوعا أدبيا موازيا لروايات الخيال العلمي التي تزخر أيضا بالخوارق. ولم يكن من الطبيعي أن تحتوي الروايات الواقعية على أي أحداث تفوق الواقع، وذلك إلى أن ظهرت روايات مثل التي كتبها كافكا، ثم الروايات السيريالية التي جمعت بين الأحداث الخارقة للطبيعة والأحداث الواقعية. وقد مهد ذلك لما أصبح يطلق عليه الواقعية السحرية. (1) الواقعية السحرية
ارتبط مصطلح الواقعية السحرية
MAGICAL REALISM
بروايات أمريكا اللاتينية في الفترة المسماة «الرواج»
BOOM
في الستينيات من القرن العشرين. وكان هذا الأسلوب رد فعل للروايات الواقعية والطبيعية - المتأثرة بروايات إميل زولا الفرنسية - التي تفاعلت مع الواقع الاجتماعي والإنساني في بلاد أمريكا اللاتينية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فقد حاولت الرواية في ذلك الوقت توثيق الواقعية توثيقا حرفيا لكشف العلل الاجتماعية التي تفشت في المجتمع آنذاك، وأهمها قسوة الظروف الطبيعية، وضراوة استغلال الطبقات الثرية للطبقات الضعيفة المهمشة، من الفقراء والمرضى والسكان الهنود الأصليين. وقد أدى ذلك إلى ظهور روايات تبسط الواقع وتقدم شخصيات مسطحة، إما بيضاء ناصعة أو سوداء، فالأثرياء والإقطاعيون قساة فاسدون، والفلاحون الأجراء والفقراء ضحايا أبرياء.
بيد أن تيار الرواية الجديدة التي ظهرت مع بدايات القرن العشرين جابهت فرضيات الواقعية التقليدية وأسسها الاجتماعية بالشكوك الميتافيزيقية التي ظهرت في ذلك الوقت في أوروبا. فقد أدت أزمة إيمان الإنسان الحديث تجاه القيم التقليدية إلى نبذ النظرية الغربية المتوطدة في الدين والأخلاق والخير العام والتي تنظر إلى الحياة بوصفها وحدة منتظمة تقوم على مبادئ محددة عن الخير والشر، فإذا الروائي الحديث يدرك زيف الواقعية الحرفية، وأن محاولة تصوير الواقع لا يمكن أن تتحقق عن طريق التقسيم الاعتسافي الأخلاقي الذي كان متبعا من قبل، وأن الوجود الإنساني والشخصية البشرية أعقد من أن يجرى تصويرهما بتلك الطرق السطحية. ولهذا، كان على الفن القصصي الحديث أن يهجر نظرية المحاكاة العتيدة والتصوير الحرفي، وأن يتبع تقنيات مركبة كيما يعبر عن واقعية مركبة. ومن هنا ظهرت أساليب المونولوج الداخلي، واختفاء الراوي، وتيار الوعي واللاوعي، ووجهات النظر المتعددة، وتشظي الزمن، والتركيبات المعقدة المتشابكة، والرمزية المتعددة الأوجه .. وغيرها من أساليب الفن الروائي الحديث. وقد ارتبطت هذه التجديدات الروائية والشعرية أولا بالسيريالية الأوروبية التي ظهرت بشكل أوضح في الرسم والتصوير. وقد اتخذت تلك التجديدات زخما مغايرا إلى حد ما في قصص أمريكا اللاتينية بالذات، كيما تساير الواقع المحلي في تلك البلدان. فالواقعية السحرية التي أطلقت على أعمال جابرييل جرسيه ماركيز وماريو فارجاس يوسا وغيرهما، ارتكزت على فكرة أن واقع أمريكا اللاتينية مختلف عن واقع البلدان الأخرى، فهو قد تحدد على نحو غير عادي، مزيج من الفانتازيا والعجائبية، نتيجة للتاريخ المعقد المتشابك الغريب الذي مرت به بلدانها، ونتيجة التنوع الإثني الواسع فيها.
وقد ارتبطت الواقعية السحرية ارتباطا عفويا بالروائي الكولومبي ماركيز منذ صدور روايته «مائة عام من العزلة». وقد احتوت هذه الرواية بالفعل على أحداث خارقة للعادة، ولكنها جاءت في سياق واقعي شعبي في حياة أشخاصها، مثل صعود «ريميديوس» إلى السماء، والفراشات الصفراء التي كانت تحوم على الدوام حول «ماوريسيو بابيلونيا». وقد ذكر ماركيز في مقابلاته الصحفية أن كل الأحداث التي تبدو خارقة في الرواية، لها أصل في الواقع، وأنه يعرف أناسا ريفيين بسطاء قرءوا «مائة سنة من العزلة» بسرور وتفهم عظيمين دون أي استغراب من أحداثها، لأنه لا يقص فيها أي شيء غريب عن الحياة التي يعيشونها بالفعل.
والحقيقة أن ربط الواقعية السحرية بماركيز أمر تعسفي؛ إذ إن ذلك الأسلوب قد ظهر - بصورة أو بأخرى - في أعمال أدباء آخرين في أمريكا اللاتينية، منهم ميجيل أنخل أستورياس في «السيد الرئيس» و«رجال الذرة» وغيرهما، وخوان رولفو في روايته القصيرة البديعة «بدرو بارامو»، وفي معظم قصص خورخي لويس بورخيس.
وهناك من النقاد من يرون في روايات «فرانز كافكا» نوعا مبكرا من الواقع السحري، وهو من الروائيين الذين تأثر بهم ماركيز، وقال إن قراءته لرواية «المسخ» هي التي أقنعته بأن في وسعه أن يصبح كاتبا هو الآخر. بيد أن النقاد يغفلون - في المحصلة الأخيرة - عن حقيقة أن أول الحكايات التي ظهرت فيها الواقعية السحرية، هي قصص ألف ليلة وليلة، وهي من الكتب التي قرأها وتأثر بها كل أدباء أمريكا اللاتينية المذكورين آنفا، وعلى رأسهم بورخيس وماركيز، على نحو ما ذكرناه في فصل آخر من هذا الكتاب. وكان «الأستاذ»، نجيب محفوظ، من الروائيين الذين أشاروا - في أحاديثه مع محمد سلماوي - إلى أسبقية الرواية الأم، أو أم الروايات، إلى معالجة أسلوب الواقعية السحرية، قبل أن يظهر ذلك المصطلح إلى الوجود - بالطبع - بقرون عديدة.
وحديثا، ذكر الأستاذ أحمد الخميسي في مقالة له بأخبار الأدب عن الواقعية السحرية، إلى جوار ألف ليلة وليلة والكتاب المذكورين سابقا، رواية الروسي العبقري ميخائيل بلجاكوف «المعلم ومرجريتا» الصادرة عام 1930م، وقصة الفرنسي جي دي موباسان القصيرة «من يدري» (1890م) في المجموعة التي نشرتها سحر سمير يوسف للمشروع القومي للترجمة، ورواية «طفل شقي اسمه عنتر» لمحمد توفيق، كأمثلة على قصص فيها لمسات الواقعية السحرية.
ويتمثل الأساس في أسلوب الواقعية السحرية في سرد أحداث ووقائع غير عادية أو خارقة للمألوف في ثنايا أحداث طبيعية مغرقة في الواقعية وفي التفاصيل العادية بحيث تبدو وكأنها جزء لا يتجزأ من الواقع اليومي المعاش للشخصيات. وقد وردت مثل تلك الوقائع في الكثير من قصص ألف ليلة وليلة، عدا الأحداث الخارقة الصرف التي ذكرناها سابقا. ومن الأمثلة الطيبة على ذلك، ما حدث في مقدمة حكايات السندباد البحري، حيث نجد شخصية حمال فقير، يتفق وصفه مع حرفته وحالته، ويتفق الحدث، الذي يمثله متعبا فيميل إلى مصطبة أمام قصر أحد التجار الأثرياء ليستريح، مع المنطق السردي. ولكن، في وسط هذا المنظر الواقعي الذي يمكن أن يراه المرء من حوله في أي زمان ومكان، يفاجأ القارئ بعبارة «وسمع أيضا أصوات طيور تتناغى وتسبح الله تعالى باختلاف الأصوات وسائر اللغات.» وذلك من حديقة القصر، ويستمر بعدها الوصف المنطقي العادي للأحداث التي تتداعى حتى دعوة صاحب الدار للسندباد الحمال للدخول إلى قصره لاستضافته. وقد تفوت القارئ في خضم القصة صورة الطيور التي تسبح لله تعالى بلغات مختلفة، ولكنها مثال على دس أشياء عجائبية وسط سرد طبيعي عقلاني، مما يخلق مشهدا من المشاهد التي يمكن أن يطلق عليها «واقعية سحرية». وتجدر الإشارة إلى أن مثل هذه الوقائع العجيبة، كانت تلاقي تصديقا من عدد كبير من الجمهور الذي يسمعها من الحكائين في بدايات تدبيج تلك القصص، فهم متعودون على أن الحمام واليمام إنما تسبح بأصواتها بذكر الله. كما أن السندباد وهو يحكي عن رحلاته، نفهم من السياق أن سامعيه لا يشكون لحظة في صدق ما يرويه لهم، حتى من الخوارق غير الطبيعية. كما نشير أيضا إلى أن الاعتقاد في ظهور الجان وتجسد إبليس - كما سنرى فيما يلي - والعثور على الكنوز المرصودة وغير ذلك مما يرد في قصص ألف ليلة وليلة، ما زال مستمرا في الكثير من بلاد العالم الثالث، وما منا ببعيد ما يحدث في مصر اليوم من بعث لكتب تحضير الجان والعفاريت، والنصب عن طريق تحويل المعادن إلى ذهب، وتوليد الدولارات والجنيهات، والحفر في باطن البيوت بحثا عن كنوز مخفية من قديم الزمن! فإذا كان ذلك يحدث في القرن الحادي والعشرين، يمكننا تصور ما كان يعتقد فيه من يستمعون إلى أحداث القصص في الأزمان القديمة.
وتتكرر مثل هذه المشاهد الواقعية السحرية في مختلف حكايات ألف ليلة، وهي تختلف عن مشاهد الخوارق الخالصة التي يتم تقديمها بهذه الصفة حتى ممن يقصونها، كفزع الآدميين من ظهور الجان والعفاريت، أو الحيوانات التي تتكلم فيما بينها ومع الإنسان، والسحرة الذين يحولون الإنسان إلى حيوان أو طير. ونحن إذا نظرنا إلى وقائع أخرى في رحلات السندباد البحري التي يحكيها للحمال وللآخرين، نجدها مليئة بالعجائب التي تخرج عن نطاق الواقعية السحرية إلى نطاق العجائبية والخوارق، مثل جبل القرود والعملاق الأسود وشيخ البحر.
ومن الغريب أن بعض المؤلفين الأوروبيين قد ساروا شوطا في تأصيل بعض خوارق حكايات ألف ليلة وليلة الخرافية الصرف، مثل طائر الرخ الهائل الحجم، وجبل قاف الذي يحيط بالأرض، وبلاد واق الواق، ودبجوا فيها الأبحاث والاستنتاجات شبه العلمية!
ومن الوسائل التي تجمع الواقعية بالخيال في الكتاب العربي، التفاصيل الدقيقة والأشعار وذكر الشخصيات التاريخية المعروفة. ويستبين هذا في حكاية إبراهيم الموصلي وإبليس؛ وفيها نرى المغني والموسيقار البغدادي الشهير وقد اعتكف في منزله وأغلق على نفسه الأبواب، «فإذا بشيخ ذي هيبة وجمال وعليه ثياب بيض وقميص ناعم وعلى رأسه طيلسان وفي يده عكاز من فضة وروايح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار والرواق.» يظهر أمامه ويطلب سماع أغانيه، فاستجاب له الموصلي على غيظ منه. ثم طلب الغريب أن يسمعه الموسيقار، وغنى له ثلاثة أدوار في شعر عربي فصيح. فذكر الموصلي «فوالله لقد ظننت أن الأبواب والحيطان وكل ما في البيت تجيبه وتغني معه من حسن صوته، حتى خلت والله أني أسمع أعضائى وثيابي تجيبه. وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لما خالط قلبي.» وبعد ذلك يختفي الغريب كما جاء، فيفزع الموصلي ويسأل أهل الدار فيقولون إنهم سمعوا غناء لم يسمعوا بمثله من قبل، ويسأل البوابين فيقولون إنه ما دخل الدار أحد؛ وعندها يناديه الغريب صائحا أنه «أبو مرة»، وهو من ألقاب إبليس. فهنا، نجد حدثا خارقا للطبيعة، هو ظهور الشيطان وتلبسه بمظهر بشري ومنافسته لإمام مغني عصره. وهو يدخل ويرحل دون أن يراه الموصلي، مما يؤكد صفة الخوارق فيه. ولكن الحكاية تروى في سياق من تفاصيل واقعية، وبطلها إسحاق الموصلي المغني المعروف، والشعر الذي يتغنى به إبليس فيه أبيات معروفة مألوفة للقارئ. وتنتهي الحكاية بأن يهرع الموصلي إلى الخليفة هارون الرشيد ليقص له تلك النادرة الغريبة، فيطلب منه الرشيد غناء ما سمعه، «فأخذت العود وضربت فإذا هي راسخة في صدري، فطرب بها الرشيد .. وقال: ليته متعنا بنفسه يوما واحدا كما متعك. ثم أمر لي بصلة فأخذتها وانصرفت.» وهذه الحكاية على النحو الذي تجيء به هكذا، تدخل في باب القصص التي يصدق القارئ حدوثها ما دامت قد تم توثيقها على ذلك النحو الواقعي!
ومن وسائل الإيهام الواقعي في حكايات ألف ليلة وليلة، تحديد الأماكن والأزمنة، وإيراد شخصيات وأحداث تاريخية مألوفة، فهارون الرشيد يظهر دائما ومعه جعفر البرمكي ومسرور السياف، وتظهر أحيانا زوجته السيدة زبيدة. وفيها أيضا المأمون وزيارته لمصر وحكايته مع أهرامات الجيزة. وثمة أوصاف دقيقة لأسواق بغداد والبصرة والقاهرة. ويظهر أيضا العشاق المشهورون، والمغنون المعروفون، وكل هذا يضفي على أكثر القصص خيالا وأحداثا عجائبية، مسحة من التصديق والإقناع، ولكنه تصديق وإقناع وهمي في آخر الأمر.
حكايات حيل النساء ومكرهن
«... وأخرجت لهما من جيبها كيسا أخرجت منه عقدا فيه خمسمائة وسبعون خاتما، فقالت لهما: أتدرون ما هذه؟ فقالا لها لا ندري. فقالت لهما أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت، فأعطياني خاتميكما أنتما الاثنان الآخران. فأعطياها من يديهما خاتمين. فقالت لهما إن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي، ثم إنه وضعني في علبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، ولم يعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمرا لم يغلبها شيء كما قال بعضهم:
لا تأمنن إلى النساء
ولا تثق بعهودهن
فرضاؤهن وسخطهن
معلق بفروجهن
يبدين ودا كاذبا
والغدر حشو ثيابهن
بحديث يوسف فاعتبر
متحذرا من كيدهن
أو ما ترى إبليس أخ
رج آدما من أجلهن»
حكايات الملك شهريار وأخيه الملك شاه زمان «... وأما ما كان من أمر الجوهري فإن النار اشتعلت في قلبه وقال في نفسه أنا أروح أنظر زوجتي فإن كانت في البيت تكون هذه الجارية شبيهتها وجل من ليس له شبيه وإن لم تكن زوجتي في البيت تكون هي من غير شك، ثم أنه قام يجري إلى أن دخل البيت فرآها قاعدة بملبسها وزينتها التي رآها بها في الدكان فضرب يدا على يد وقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فقالت له: يا راجل هل حصل لك جنون؟ أو ما خبرك؟ فما هذه عادتك؛ لا بد أن يكون لك أمر من الأمور، فقال لها: إذا كان مرادك أن أخبرك فلا تغتمي، فقالت: قل. فقال لها: إن التاجر صاحبنا قد اشترى جارية قدها مثل قدك وطولها مثل طولك واسمها مثل اسمك وملبسها مثل ملبسك، وهي تشبهك في جميع صفاتك وفي إصبعها خواتم مثل خواتمك ومصاغها مثل مصاغك، فلما فرجني عليها ظننت أنها أنت وقد تحيرت في ليلتنا، ليتنا ما رأينا هذا التاجر ولا صحبناه ولا جاء من بلاده ولا عرفناه فإنه كدر عيشتي بعد الصفاء وكان سببا في الجفاء بعد الوفاء وأدخل الشك في قلبي، فقالت له تأمل في وجهي لعلي أكون أنا التي كنت معه والتاجر صاحبي وقد لبست بصفة جارية واتفقت معه على أن يفرجك علي حتى يكيدك، فقال: أي شيء هذا الكلام؟ أنا ما أظن بك أن تفعلي مثل هذه الفعال. وكان ذلك الجوهري مغفلا عن مكايدة النساء وما يفعلن مع الرجال ...»
حكاية قمر الزمان وزوجة الجوهري «... فقال له الملك شهرمان: اعلم يا ولدي أني أريد أن أزوجك وأفرح بك في حياتي وأسلطنك في مملكتي قبل مماتي. فلما سمع قمر الزمان من أبيه هذا الكلام أطرق رأسه ساعة، وبعد ذلك رفع رأسه وقال: يا أبت هذا شيء لا أفعله أبدا ولو سقيت كأس الردى. وأنا أعلم أن الله فرض علي طاعتك، فبحق الله عليك لا تكلفني أمر الزواج ولا تظن أني أتزوج طول عمري، لأني قرأت في كتب المتقدمين والمتأخرين، وعرفت ما جرى لهم من المصائب والآفات بسبب فتن النساء ومكرهن غير المتناهي وما يحدث عنهن من الدواهي ...»
حكاية قمر الزمان مع الملكة بدور •••
تعود قصص وحكايات وأساطير الحيل التي تلجأ إليها بعض النساء للتوصل إلى إنفاذ رغباتهن والتغلب على أي قيود تفرض عليهن، إلى عهود سحيقة في القدم. ويكفي أن نشير إلى آدم وحواء، والمتواتر عن تسبب حواء في خيانة العهد فأدت بالبشرية كلها إلى الهبوط إلى الأرض والمرور بالتجربة الدنيوية بما فيها من شقاء ونعيم. وبالمثل، نجد في أقدم النصوص الأدبية والأسطورية التي وصلت إلينا بشكل أو بآخر، الدور الذي تلعبه النساء في تدبير الحيل والمكائد. ويحتوي الأدب الفرعوني على قصة فريدة من نوعها في هذا المضمار، هي قصة الأخوين. وهي تحكي عن أخ أكبر يدعى أنوبيس، يعيش مع زوجته ومع أخيه الأصغر «باتا». وكان باتا يعتبر أخاه بمثابة الأب له، وزوجته بمثابة الأم. ولكن الزوجة أعجبت ذات يوم بقوة باتا وشبابه، فترغب فيه كرجل، وتمسك به وتطلب اليه أن يقضي ساعة معها. ويثور باتا ويرفض طلبها بعنف، ولكنه يقول إنه لن يذكر شيئا لأخيه مما بدر من زوجته. بيد أن الزوجة الماكرة تخاف رغم ذلك، فتبادر بالشكوى إلى زوجها بأن أخاه الأصغر قد حاول إغواءها، وعمدت إلى تلطيخ نفسها بالدهن والشحم كيما تبين لزوجها ما فعله باتا بها. ويثور الأخ الأكبر ويعتزم قتل أخيه عند عودته. ولكن رتل الأبقار التي يرعاها باتا تخبره عما يعتزم أخوه أنوبيس أن يفعل به، فيهرب بعيدا؛ وتعمد الآلهة إلى تفجير نهر يفصل بين الأخوين وتصطرع فيه التماسيح المتوحشة. ويهتف باتا بأخيه عبر النهر أنه مظلوم، وأن الزوجة هي التي أرادت إغواءه ولكنه رفض، ويعبر عن صدق ما يقوله بأن يبتر ذكره ويلقيه طعاما للتماسيح. وعندها يندم الأخ الأكبر على ظلمه لأخيه، ويدرك أن زوجته هي الخائنة، فيعود إلى منزله ويقتلها.
وهذه هي القصة كما يعرفها معظم القراء الآن، ولكن بقيتها أكثر تشويقا وإن كانت أكثر تعقيدا، وهي تستمر في الضرب على وتر خيانة المرأة وضعفها ومكرها. ذلك أن باتا يذهب بعد ذلك ويعيش في البرية على صيد الحيوانات. وتعطف عليه الآلهة، فتهبه فتاة هي أجمل امرأة على الأرض. وعاشت الفتاة معه، ويطلب منها ألا تذهب إلى الخارج كيلا يختطفها البحر، فهو لا يقدر على حمايتها منه، كما يحكي لها ما وقع له مع أخيه الأكبر وزوجته. بيد أن الفتاة لا تمتثل لنصيحته وتخرج، فيسمع فرعون مصر بجمالها الفائق فيأمر بإحضارها إليه. ولكن باتا يصرع كل الرجال الذين حضروا لأخذها. ويبعث الفرعون بامرأة معها أجمل أنواع الحلي فتبهر فتاة باتا بها وتذهب معها طوعا إلى الفرعون الذي يجعلها السيدة الأولى في البلاد. ويحتال الفرعون حتى تخبره الفتاة بقصة زوجها باتا، وعندها تخونه الفتاة وتفشي للفرعون السر الذي يمكن به أن يصرع باتا (قارن شمشون ودليلة)، وهو أن يقتلعوا برعم شجرة من أشجار الأرز عليها قلب باتا. وحين يفعلون ذلك، يموت باتا من فوره. وحين يعلم الأخ الأكبر أنوبيس بموت باتا، يقوم بشتى أنواع المراسم والتعاويذ والطقوس حتى يعيد القلب إلى جسد أخيه فتعود له الحياة. ويعتزم باتا الانتقام من زوجته، فيغير هيئته ويتحول إلى ثور مهيب الطلعة ذي لون عجيب، ويطلب من أخيه أن يقتاده ويقدمه هدية إلى الفرعون. ويعجب الفرعون بالثور ويغدق الهدايا على الأخ الأكبر دون أن يعرف هويته. وبعدها، يتحدث الثور، باتا، إلى زوجته حين تكون وحدها ويخبرها أنه زوجها باتا وأنه يعرف أنها خانته وأفشت سره للفرعون، فينتابها الذعر، وتمكر مكرها السيئ مرة أخرى، وتعمد إلى ما عمدت إليه «سالومي» فيما بعد، إذ إنها تنتزع من الملك الفرعون وعدا بأن يجيبها إلى أي شيء تطلبه منه، وحين يوافق، تطلب إليه أن يذبح الثور. ويوافق الملك مرغما، ولكن نقطتين من دماء الثور المسفوح تسقطان على مدخل قصر الفرعون، وتتحولان في ليلة واحدة إلى شجرتين وارفتين. وتهمس إحدى الشجرتين مرة أخرى للزوجة الخائنة، أنها هي باتا وأنه يعلم بخيانتها. وتكرر الزوجة حيلتها مع الفرعون وتطلب إليه تلك المرة أن يأمر بقطع الشجرتين. ولكن، عند قطع الشجرتين، تطير شظية من جذع إحداهما وتستقر داخل جوف الزوجة الخائنة فتصير حبلى بطفل يفرح به الفرعون ويعلنه وريثا لعرشه. وبعد أن يموت الفرعون، يتولى ذلك الابن الملك، ويأمر بجمع كل أمراء ووزراء وقادة مملكته، ويعلن لهم أنه هو باتا نفسه، ويخبرهم بكل ما جرى له، ويحكم على الزوجة الخائنة بالإدانة، ويوافقه الجميع على ذلك. ثم يعيش باتا بعدها مع أخيه الأكبر في سلام وهدوء.
هذه القصة الشيقة هي من أقدم ما وصلنا من نصوص تحكي عن خيانة النساء ومكرهن، وقد أوردتها هنا نقلا عن النص الذي نشرته بالإنجليزية «ميريام ليشتهاير» في الجزء الثاني من كتابها «الأدب المصري القديم». والقصة مكتوبة على بردية محفوظة في المتحف البريطاني الآن، وتعود إلى نهاية الأسرة التاسعة عشرة (حوالي 1305-1195 قبل الميلاد).
فإذا انتقلنا إلى أدب اليونان وروما القديمة، نجد أن هذا الموضوع قد ورد - وإن على نحو سلبي - في إلياذة هوميروس وأوديسته، حين تستسلم هيلين زوجة مينلاوس ملك طروادة، لإغواء باريس ابن ملك إسبرطة وتهرب معه إلى بلاده تاركة زوجها وبلادها وراءها، فتشعل بذلك حربا ضروسا بين طروادة وإسبرطة دامت سنين وانتهت بهزيمة إسبرطة بحيلة الحصان المشهور، وعودة هيلين إلى زوجها. بيد أن تكملة القصة في الأوديسة تقدم لنا الوجه الآخر للنساء، الزوجة الوفية لزوجها ولعهودها وإخلاصها له، ممثلة في «بينولبي» زوجة عوليس الذي غاب عنها عشر سنوات في حرب طروادة وما تلاها من حوادث وقعت له في طريق العودة إلى بلده إيثاكا، بعد أن ظن الجميع أنه قد مات، ويتجمع الرجال على زوجته طالبين منها اختيار واحد منهم زوجا، ولكنها تحتال بحيلة الثوب الذي تنسجه في النهار وتحله في الليل، حتى يعود عوليس أخيرا ويهزم أعداءه ويفوز بزوجته الوفية التي استخدمت ذكاء المرأة ومكرها - تلك المرة - إخلاصا لزوجها وحبها.
وفي الأدب الروماني، نجد أن أوفيد قد حكى الكثير من نوادر النساء وقصص غرامياتهن، خاصة في كتابه «فن الحب». ولأوفيد كتب أخرى عالج فيها العلاقات الغرامية والجنسية، وأسدى فيها النصح للمحبين والمحبات عن طرق التحايل على الأزواج الغيورين!
أما في الأدب العربي، فقد شاعت نوادر الحيل التي تلجأ إليها النساء لتحقيق أغراضهن منذ القدم. وقد استخدمت نواة قصة يوسف وامرأة العزيز، التي وردت أيضا بصور مختلفة في التوراة والقرآن الكريم، لصياغة الكثير من القصص والحكايات التي تتخذ من هذه القصة أساسا لها. وقد ذاعت تلك القصص في الأندلس العربية، وانتقلت بذلك إلى رصيد القصص والرومانسات الأوروبية في بدء ظهور اللغات المحلية المتفرعة من اللاتينية والجرمانية والأنجلوسكسونية. وقد وصلت إلينا عدة طبعات لكتاب يسمى «قصيدة يوسف»
EL POEMA DE YUSUF
تحكي قصة مكر امرأة العزيز، وقد تحدثنا عن ذلك الكتاب في فصل «الجذور الأولى».
وفي تلك الأثناء، كان الكثير من كتب القصص والأمثولات والحكايات الشعبية العربية قد ذاعت في أوروبا وتناقلها الرواة والحكواتية، ثم صدرت مكتوبة بعد ذلك، على النحو المذكور في فصول أخرى من الكتاب.
وما إن نصل إلى الديكاميرون وحكايات كانتربري، حتى نرى الكم الهائل من قصص مكائد النساء وأحابيلهن التي ترد في قصص هذين الكتابين. فالديكاميرون معظمه قصص عن خداع النساء واحتيالهن على نيل أوطارهن، وكثير من حكاياته عربي النكهة والمنشأ، ونفس الشيء ينطبق على «حكايات كانتربري»، وقد ذكرنا ذلك في مكان آخر من هذا الكتاب.
وثمة قصة وردت في حكايات ألف ليلة وليلة انتقلت برمتها إلى الأدب الأوروبي في العصور الوسطى، وهي قصة «حكاية الملك وولده والجارية والوزراء السبعة». وهي تحكي عن ملك يرزق بعد جهد بولد ليرث عرشه، فيعمل على تنشئته وإعداده إعدادا صالحا على يد رجل حكيم من حاشيته يسمى «السندباد»، الذي يعلم الولد الحكمة والآداب إلى أن يصير بلا نظير في علمه وأدبه وفهمه. ويستطلع الحكيم النجوم فيرى في طالع الأمير أن ثمة أسبوعا كاملا إذا تكلم فيه الولد كلمة واحدة يصير هلاكه، فيتفق مع أبيه الملك على تسليمه إلى أخص جوارى الملك وأفضلهن ليمكث عندها حتى تنتهي تلك الأيام السبعة المشئومة. وهناك، ترى الجارية - محظية الملك المفضلة - الابن فتعشقه من أول نظرة، وتريد وصاله، فيتأبى الولد وينذرها بأنه سوف يخبر أبيه بمراودتها له عن نفسه بعد انقضاء الأيام السبعة. فخافت الجارية من مغبة ذلك وفعلت ما فعلته زوجة الأخ الأكبر في قصة الأخوين الفرعونية، فتوجهت إلى الملك شاكية باكية، وقالت له: يا مولاي، إن سيدي قد راودني عن نفسي وأراد قتلي على ذلك فمنعته وهربت منه. ويثور الملك غاضبا ويحضر وزراءه ويأمرهم بقتل ابنه جزاء على فعلته. ولكن الوزراء يتفقون على أن يدبروا ما يمنع الملك من قتل ابنه، إلى أن تمضي الأيام السبعة ويتمكن الابن من الكلام مدافعا عن نفسه. ويذهب أول وزير إلى الملك ويحذره من قتل ولده بناء على شكاية جارية «إما أن تكون صادقة أو كاذبة، ولعل هذه مكيدة منها لولدك.» ويقول الملك: «وهل بلغك شيء من كيدهن أيها الوزير؟ قال نعم.»
وهكذا تتوالى قصص الوزراء السبعة، يحكون فيها للملك قصصا تتضمن ألوانا من دهاء النساء ومكرهن، وقد ذكرنا طرفا من تلك القصص من قبل. والطريف في تلك الحكايات أن الجارية المخادعة تقص هي الأخرى للملك قصصا عن خداع الرجال ومكرهم كيما يقتنع بحججها، ولكن يلاحظ أن الكثير من قصصها يتضمن خداعا رهيبا تقوم به النساء كذلك، وإنما هي تحكي القصة لتبرز دور الرجل، بينما دور المرأة أكبر وأوضح بكثير. ومن أعجب قصص تلك الحكاية وأطرفها قصة الزوجة التي احتالت - في سعيها للإفراج عن معشوقها الشاب - على الوالي والقاضي والوزير والملك، وأيضا على نجار أوصته بصنع خزانة ضخمة - أي دولاب - من الخشب ذي خمس طبقات. وبعد أن واعدت الجميع على لقائهم في نفس الليلة، احتالت على حبس كل واحد منهم في طبقة من طبقات الخزانة، إلى أن يكتشفوا - بعد أن اختفت المرأة - مدى الغفلة التي تعرضوا لها على يد تلك الماكرة. كذلك تحتوي تلك المجموعة على أول قصة في ألف ليلة وليلة بها دور العجوز الماكرة التي تقوم بدور الواسطة بين العاشق ومن يهواها من النساء، حتى لو كانت متزوجة. وتقوم العجوز في القصة بدس حلية على هيئة قناع تحت وسادة المرأة التي يطلبها العاشق، فيطلقها الزوج. وخلال عشرة أيام، تجمع العجوز بين المرأة والشاب الذي يهواها. وبعد أن نال طلبه منها، تحتال العجوز لإقناع الزوج أنها هي التي نسيت القناع الحلية في بيته، فيندم الزوج ويراجع زوجته ويعيدها إلى عصمته. وهذه العجوز، وأمثالها في قصص أخرى، هي النبتة العربية التي أنتجت بعد ذلك شخصية «سلستينا» الإسبانية، وهي العجوز التي تقوم بدور الوسيط بين المحبين، وإن كان المؤلف الإسباني فرناندو دي روخاس لم يخف طبيعة عملها بذلك العنوان الفرعي لمسرحيته، الذي أصبح يعني صراحة «القوادة»!
وهناك حكاية أخرى في ألف ليلة تماثل حكاية الجارية والوزراء، هي حكاية الملك جليعاد والشماس، وفيها يعهد الملك جليعاد بالملك لابنه بعد وفاته، فيسير في البداية على سيرة أبيه من العدل والصلاح، وبمشورة كبير وزرائه الشماس ومعاونيه، إلى أن يستمع لنصيحة نسائه بأن يتخلص من وزرائه ومستشاريه لأنهم يضمرون له الشر. ويحكين له قصصا عن شرور الرجال والوزراء. ويحس الشماس بتغير الملك الغلام، فيحكي له أمثلة وقصصا عن شرور بعض النساء ومكرهن. وهكذا يتوالى الصراع بين المرأة والمستشارين الوزراء، عن طريق الحكايات والقصص، إلى أن يتغلب دهاء المرأة في نهاية الأمر ويتخلص الملك من معاونيه، فيكون في ذلك هلاكه وسوء المصير، ويدرك خديعة النساء بعد فوات الأوان، إلى أن ينقذه من غزو الأعداء ابن الشماس كبير الوزراء الذي ينقذ البلاد فيعينه الملك مكان أبيه وينتقم من نسائه اللاتي قدمن له نصائح باطنها المكر والاحتيال. بيد أنه تجدر الإشارة إلى أن تلك الحكاية لا تعفي الرجال من الخضوع لمكر النساء، بل تحمل عليهم كذلك لضعفهم وانقيادهم لنزوات المرأة دون تدبر للعواقب. ففيها يقول ابن الشماس: «اعلم أيها الملك، أن الذنب ليس للنساء وحدهن لأنهن مثل بضاعة مستحسنة تميل إليها شهوات الناظرين، فمن اشتهى واشترى باعوه ومن لم يشتر لم يجبره أحد على الشراء ولكن الذنب لمن اشترى وخصوصا إذا كان عارفا بمضرة تلك البضاعة، وقد حذرتك ووالدي من قبلي كان يحذرك ولم تقبل منه نصيحة.»
أما الحكاية التي تعرض كيد النساء بصورة فريدة لم يسبق لها مثيل فهي حكاية قمر الزمان وزوجة الجوهري، التي أوردنا في المبدأ اقتباسا منها. فزوجة الجوهري الطيب تحتال على معماري ماهر بالمال حتى عمل لها سردابا خفيا يصل ما بين بيتها وبيت قمر الزمان، وصارت تلاقيه كلما نام زوجها. ثم تكيد المرأة بأن توهم زوجها أن قمر الزمان قد اشترى جارية هي صورة طبق الأصل منها، وأخذت تظهر له في بيت قمر الزمان، وتعود عن طريق السرداب بعد ذلك إلى بيتها فيجدها الزوج كما رأى جارية قمر الزمان، حتى كاد يغيب عقله. وانتهى الأمر بها إلى هجران زوجها والفرار مع حبيبها.
وقد اختلف النقاد في الهدف من وراء كثرة قصص النساء ومكائدهن في ألف ليلة وليلة، وما يحمله ذلك من دلائل ذكورية أو نسوية، ونشط المنادون بحقوق النساء وبالنسوية في التعليق على ذلك الاتجاه في القصص، إما بالشجب أو بالتعليل والتبرير. فالباحثة «رنا قباني» في كتابها «الأساطير الأوروبية عن الشرق» (1986م)، تذكر أن قصص ألف ليلة وليلة مخصصة لجماهير ذكورية، وأن المرأة في تلك القصص تنقسم إلى نوعين: فئة الزانيات والساحرات والبغايا، وفئة الحكيمات الواعيات الفضليات. ونفهم من قولها أن القصص كانت رائجة في الأوساط الدنيا من المستمعين في مقاهي القاهرة وغيرها من الحواضر العربية بسبب الأنماط المعادية للمرأة التي تمتلئ بها الحكايات، وبما توحيه من الوضعية الأدنى للمرأة مقارنة بالرجل. وفي المقابل، تتخذ الكاتبة «لالي هولبك» في كتابها «نسوية شهرزاد» (1927م)، موقفا مناقضا، إذ تذكر أن مؤلف الكتاب نسوي صميم، وهو يقدم بطلته شهرزاد بوصفها تعلم عن طريق القصص التي تحكيها، وما تحكيه يرفع من شأن المرأة ويمجد فضائلها. ويعقب «روبرت إروين» قائلا إن كلا الاتجاهين - من رنا قباني ولالي هولبك - قاصران، وأن الحجم الهائل لقصص كتاب ألف ليلة وليلة لا يبرر أيا من الرأيين المعتسفين.
ولا تقتصر قصص حيل النساء وخداعهن في اللغة العربية على ألف ليلة وليلة، فكتاب «الحكايات العجيبة والأخبار الغريبة» الذي سبق ذكره في فصل الجنس والإيروسية، والذي يعود إلى القرن العاشر، به الكثير من قصص مكر النساء، وقد وردت به قصص أشبه بقصص ألف ليلة وليلة، ومنها قصص فيها كذلك مثل حكاية أبي محمد الكسلان، وبعض قصص هارون الرشيد.
والقصة التي دارت حول مكر المرأة في ذلك الكتاب هي بعنوان «حديث عروس العرائس وما عملت من حيل وما تم فيه من عجائب البحار والجزائر». وقد قدمت تلك القصة شخصية عروس العرائس الداهية الشريرة الساحرة، التي تسببت في الكثير من الكوارث والمصائب منذ مولدها ومنذ تنبأ المنجمون لأبيها الملك بشؤم طالعها، فلم يصدقهم وأمر بقتلهم جميعا. ولكن عروس العرائس تتقلب بها الأحداث فتتفنن في الإيقاع بمن حولها كيما تحقق ما تريد. وانتهى بها الأمر أن أصبحت رفيقة جني رهيب تفعل به ما فعلت الأميرة بالجني في أوائل حكايات ألف ليلة وليلة. ولا تنتهي شرور عروس العرائس بمقتلها، بل تتعداه إلى ما بعد ذلك، حين أعطت الوزير ماء ليسكبه على جثتها، فإذا هو كبريت مسحور يحرق الجميع بناره.
وتناولت الكتب «الكلاسيكية» الجنسية أمور النساء أيضا، فنرى في كتاب «الروض العاطر في نزهة الخاطر» للنفزاوي، فصلا بعنوان «في مكائد النساء»، ترد فيه قصص عن ذلك الموضوع، أولها الحكاية الواردة في ألف ليلة وليلة وكتب أخرى عن العجوز التي احتالت على الزوجة الجميلة في وصالها بمعشوقها عن طريقة إيهامها بأنها إذا لم تستجب لعشقه يصيبها ما أصاب كلبة أرتها لها، وإنما في هذه القصة أنها جعلت الكلبة إنسانة في الأصل تحولت إلى كلبة عندما لم تستجب لدواعي العشق والغرام. وقد وردت هذه القصة في عدد من كتب القصص الأوروبية الأولى، منقولة عن العربية. وفيه قصة أخرى تحايلت فيها إحدى الزوجات كي تأخذ مكان صديقة لها في الفراش مع زوج تلك الصديقة دون أن يشعر أحد بذلك، وهي القصة التي وردت بعد ذلك أيضا في الديكاميرون لبوكاتشيو.
وفي كتاب «نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب» للتيفاشي، وهو مرشد وديل جنسي إيروسي، يورد المؤلف أوصافا عديدة لأنواع النساء المتبذلات، ويروي طرفا من النوادر في السبل التي يقمن بها للتوصل إلى ما يردن. أما الكتاب الأشهر «رجوع الشيخ إلى صباه»، فقد تضمن الباب العشرون منه، حكايات عن النساء، وهي كلها تعنى بغلبة الشهوة عندهن، وكيف يستمتعن بالجنس ويحتلن عليه، وهو ما يدخل في إطار الموضوع العام للكتاب. وهناك كتاب آخر غير مشهور من تأليف «علي البغدادي» عنوانه «كتاب الزهر الأنيق في البوس والتعنيق» ويرجع تأليفه إلى أوائل القرن الرابع عشر، وهو يتضمن خمسة وعشرين فصلا تدور حول مكائد النساء وحيلهن في خداع كل من الأزواج والعشاق على حد سواء. وفي الكتاب قصص مأخوذة من ألف ليلة وليلة، منها تلك التي تدور حول احتيال إحدى العاهرات على نائب والي البهنسا وإخراجه عاريا إلى الطريق، وهي مأخوذة من إحدى قصص حكاية المقدم الثالث، من حكايات الظاهر بيبرس الواردة في طبعة برسلاو من ألف ليلة وليلة.
وتتراوح قصص كيد النساء في كتاب ألف ليلة وليلة ما بين سحر الساحرات، وبين حيل المرأة للظفر بمن تحب في غفلة من الزوج أو الأب والأم، وما يقع بين هذين الموضوعين من مكر النساء في معترك الحياة، كحكاية دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة، أو في معترك الحروب والسياسة، مثل الألاعيب الغريبة التي قامت بها ذات الدواهي في الحروب بين العرب وبيزنطة.
وقد انتقلت الحكايات العربية عن حيل النساء ومكرهن عن طريق إسبانيا أيام الحكم العربي فيها. ولا يزال بين أيدينا كتاب مترجم عن العربية، عنوانه بإسبانية العصور الوسطى
LIBRO DE LOS ENGANOS E LOS ASAYAMIENTOS DE LAS MUGERES ، أي «كتاب حيل النساء وخداعهن». وتذكر مقدمة الكتاب أنه قد ترجم إلى القشتالية من العربية بأمر الأمير «فدريك» ابن الملك فرناندو والملكة بياتريس عام 1253م. والكتاب عبارة عن حكاية الملك وابنه والوزراء السبعة، كما وردت في ألف ليلة وليلة. وهذا دليل مادي على دور الكتب القصصية المترجمة في إسبانيا عن العربية في نشر تلك القصص والحكايات إلى بلدان أوروبا منذ العصور الوسطى. وقد انتقلت تلك القصص من ذلك الكتاب ومن غيره - ومعظمها حكايات في ألف ليلة وليلة - إلى كتاب الكونت لوقانور السابق ذكره، وغيره من الكتب التي كتبت في العصور الوسطى، إما باللاتينية أو باللغات المحلية التي تفرعت عنها.
قصص الخيال العلمي
«ومما يحكى أنه كان في قديم الزمان ملك عظيم ذو خطر جسيم وكان له ثلاث بنات مثل البدور السافرة والرياض الزاهرة وولد ذكر كأنه القمر، فبينما الملك جالس على كرسي مملكته يوما من الأيام إذ دخل عليه ثلاثة من الحكماء مع أحدهم طاووس من ذهب ومع الثاني بوق من نحاس ومع الثالث فرس من عاج وأبنوس، فقال لهم الملك: ما هذه الأشياء؟ وما منفعتها؟ فقال صاحب الطاووس: إن منفعة هذا الطاووس أنه كلما مضت ساعة من ليل أو نهار يصفق بأجنحته ويزعق. وقال صاحب البوق: إنه إذا وضع هذا البوق على باب المدينة يكون كالمحافظ عليها، فإذا دخل في تلك المدينة عدو يزعق عليه هذا البوق فيعرف ويمسك باليد. وقال صاحب الفرس: يا مولاي إن منفعة هذه الفرس أنه إذا ركبها إنسان توصله إلى أي بلاد أراد.»
حكاية الحكماء الثلاثة «... بلغني أيها الملك السعيد أن الحكيم عرف ابن الملك لولب الصعود وقال له: افرك هذا اللولب ففركه ابن الملك، فإذا بالفرس قد تحرك وطار بابن الملك إلى عنان السماء، ولم يزل طائرا حتى غاب عن الأعين، فعند ذلك احتار ابن الملك .. ثم إنه جعل يتأمل في جميع أعضاء الفرس فبينما هو يتأمل فيها إذ نظر كشيء مثل رأس الديك على كتف الفرس الأيمن ، وكذلك الأيسر، فقال ابن الملك: ما أرى فيه أثرا غير هذين الزرين، ففرك الزر الذي على الكتف الأيمن فازدادت به الفرس طيرا طالعة إلى الجو، فتركه ثم نظر إلى الكتف الأيسر فرأى ذلك الزر ففركه فتناقصت حركات الفرس من الصعود إلى الهبوط ولم تزل هابطة به إلى الأرض قليلا قليلا وهو محترس على نفسه ...»
حكاية الحكماء الثلاثة «... فوجد ولدين صغيرين من أولاد السحرة والكهان وبين أيديهما قضيب من النحاس منقوش بالطلاسم، وبجانب القضيب طاقية من الأدم بثلاثة تروك منقوش عليها بالبولاد أسماء وخواتم، والقضيب والطاقية مرميان على الأرض والولدان يختصمان ويتضاربان عليهما حتى سال الدم بينهما. وهذا يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا. والآخر يقول: ما يأخذ القضيب إلا أنا. فدخل حسن بينهما وخلصهما من بعضهما وقال لهما: ما سبب هذه المخاصمة؟ فقالا له: يا عم، احكم بيننا فإن الله تعالى ساقك إلينا لتقضي بيننا بالحق. فقال: قصا علي حكايتكما وأنا أحكم بينكما. فقالا له: نحن الاثنان أخوان شقيقان، وكان أبونا من السحرة الكبار، وكان مقيما في مغارة في هذا الجبل، ثم مات وخلف لنا هذه الطاقية وهذا القضيب. وأخي يقول ما يأخذ القضيب إلا أنا، وأنا أقول ما يأخذه إلا أنا. فاحكم بيننا وخلصنا من بعضنا. فلما سمع حسن كلامهما قال لهما: ما الفرق بين القضيب والطاقية؟ وما مقدارهما؟ فإن القضيب بحسب الظاهر يساوي ستة جدد والطاقية تساوي ثلاثة جدد. فقالا له: أنت ما تعرف فضلهما .. ففي كل منهما سر عجيب، وهو أن القضيب يساوي خراج جزائر واق بأقطارها، والطاقية كذلك .. لأن أبانا عاش مائة وخمسة وثلاثين سنة يعالج تدبيرهما حتى أحكمهما غاية الإحكام وركب فيهما السر المكنون واستخدمهما الاستخدامات الغريبة ونقشهما على مثل الفلك الداني وحل بهما جميع الطلسمات. وعندما فرغ من تدبيرهما أدركه الموت الذي لا بد لكل أحد منه. فأما الطاقية فإن سرها أن كل من وضعها على رأسه اختفى عن أعين الناس جميعا فلا ينظره أحد ما دامت على رأسه. وأما القضيب فإن سره أن كل من ملكه يحكم على سبع طوائف من الجن والجميع يخدمون ذلك القضيب، فكلهم تحت أمره وحكمه، وكل من ملكه وصار في يده إذا ضرب به الأرض خضعت له ملوكها وتكون جميع الجن في خدمته.»
حكاية حسن البصري «... وإذا ظفرنا بملكة الحيات نحطها في قفص ونروح بها إلى الأعشاب التي في الجبال، وكل عشب جزنا عليه وهي معنا ينطق ويخبر بمنفعته بقدرة الله تعالى. فإني قد وجدت عندي في الكتب أن في الأعشاب عشبا كل من أخذه ودقه وأخذ ماءه ودهن به قدميه ومشى على أي بحر خلقه الله تعالى، لم يبتل له قدم ...» «... فقالت له: اعلم أن عفان وبلوقيا لما فارقاني وسارا، دهنا أقدامهما من ماء ذلك العشب ومشيا على وجه البحر، وصارا يتفرجان على عجائب البحر. وما زالا سائرين من بحر إلى بحر حتى عديا سبعة أبحر ...»
حكاية مغامرات حاسب كريم الدين •••
من الواضح أن الاختراعات المذكورة في قصة الحكماء الثلاثة هي من قبيل الحكايات المستقبلية؛ فقد جرى بعد ذلك بقرون اختراع الآلة التي تعين الوقت كل ساعة بخروج التماثيل الخشبية الصغيرة ودخولها. أما الفرس الأبنوسي فهو أول ذكر لآلة تحمل الإنسان وتطير به في الجو ناقلة إياه من مكان إلى مكان، وعلى نحو يستطيع التحكم فيه. أما الفارس الذي يرصد أي عدو يدخل البلاد فهو أقدم شكل بدائي للرادار الذي يرصد دخول أجسام غريبة إلى منطقة معينة. وفي بعض نسخ هذه القصة، يزيد الراوي بأن يجعل ذلك الفارس يرسل بالصواعق على الغريب العادي فيقضي عليه، ويرون فيها أيضا أول تصوير لأشعة نووية أو أشعة الليزر في صورتها الحربية التي تمحق العدو وتزيل أثره من الوجود.
وقد تناقل القراء أيضا على مر العصور قصة البساط السحري الذي يطير بمن عليه من مكان إلى آخر، وهو أيضا من أحلام البشر في كل العصور، أي إمكانية الانتقال السريع من مكان إلى آخر، خاصة عبر الجو، وهو ما تحقق بعد ذلك عن طريق الطائرات، ثم الطائرات الأسرع من الصوت. ولا يزال المستقبل يحمل في طياته تحقيق المزيد من سرعة الانتقال والاتصال، بما يحقق أحلام الفرس الطائر والبساط السحري. وقد وردت حكايات الطيران في الجو في عدة مواضع من قصص ألف ليلة وليلة، يبين الاقتباس أعلاه إحداها. وقد ورد ذكر البساط الطائر في حكاية الأمير أحمد والأميرة باري بانو، وفيها يتنافس ثلاثة من الأمراء أولاد أحد السلاطين العظام على الزواج من ابنة عمهم نور النهار، فيعقد أبوهم السلطان مسابقة بينهم؛ أيهم يأتي بأعجب الأشياء فهو الفائز. ويتوجه أكبرهم، الأمير حسين إلى مملكة بسناجار على الساحل الهندي بحثا عن شيء عجيب يجلبه، فيرى فيها أحد التجار يعرض بساطا للبيع بثمن باهظ، ولما يسأل عن السبب يجيبه البائع بأن أي شخص يجلس على ذلك البساط يمكنه الانتقال في غمضة عين إلى أي مكان يشاء، لا يعوقه في ذلك عائق! كذلك يرد ذكر الانتقال الجوي في قصص أخرى من حكايات ألف ليلة.
وكثيرا ما يقترن الطيران والطائرة في ذهن الكتاب بقصة البساط السحري كما وردت في ألف ليلة. فالكاتب ه. ج. ويلز، في سيرته الذاتية يحكي عن رحلته الجوية إلى موسكو قائلا: «... حتى عام 1900م، لم تكن تشكل رحلة مثل هذه إلا أعجوبة كأعجوبة بساط الأمير حسين.»
وتجدر الإشارة إلى أن القصة السابق ذكرها، «حكاية الأمير أحمد والأميرة باري بانو» تضم ذكر اختراعات عجيبة أخرى، كالتي عثر عليها الأمير الثاني علي الذي توجه إلى مدينة شيراز ببلاد فارس وجلب من هناك منظارا سحريا يرى الناظر في أي طرف منه أي شيء يود أن يراه! أما الأمير الأصغر أحمد، فهو يجلب من سمرقند تفاحة سحرية يمكنها أن تشفي أي مريض من أي علة كانت! وقد توصل علم اليوم إلى بعض من هذه الخواص، متمثلا في التليسكوب، والأدوية الناجعة التي توصلت إليها الأبحاث الطبية الآن، ولكن ما نزال نفتقد الخواص الأخرى لتلك الأشياء العجيبة.
أما حكاية طاقية الإخفاء فهي تتحدث عن نفسها، ويرى القارئ في تكملة القصة كيف استغل حسن البصري تلك الطاقية في هزيمة أعدائه والتوصل إلى زوجته التي كان يبحث عنها وتحقيق كل أحلامه. ورغم أن العلم الحديث لم يتوصل - بعد - إلى اختراع مثل هذا الشيء الذي يجعل الإنسان مختفيا عن أعين الآخرين، فما يزال الذهن البشرى يتطلع إلى تحقيق مثل هذا الاختراع العجيب. كذلك لم يتوصل العلم الحديث إلى اختراع شيء يمكن الإنسان من السير على المياه، وإن كان يمكن الآن الجري عليها كما يفعل رياضيو الانزلاق على الماء، وإن كان ذلك يتم بمعونة أشياء خارجية، كالقوارب أو الزحافات الآلية، أو التي يسحبها الشراع.
وقد حفلت ألف ليلة وليلة بقصص الخوارق والعجائب والسحر والجن، وقد ذكرناها في مواضعها؛ إذ إن ذلك يختلف عن عناصر قصص الخيال العلمي، التي يتعين أن تكون نابعة من اختراعات بشرية لا تدخل فيها عناصر ما فوق الطبيعة أو خوارق المردة والشياطين. ولهذا لم نتعرض هنا لحكاية القضيب المسحور الذي وجده حسن البصري مع طاقية الإخفاء؛ إذ إنه يتصل بالجن وليس من قبيل الصنعة البشرية. وينطبق مثل هذا القول على قصة علاء الدين والمصباح السحري، والصياد والعفريت، وغيرهما. أما قصة علي بابا والأربعين حرامي، فإن فيها شيئا يماثل استخدام العلم للصوت الإنساني لتحريك الجماد وتفعيله، وإن كان ذلك على نحو بدائي طبعا. ومن المؤسف أن حكواتي القصص لم يتطرق خياله إلى اختراع بصمة الصوت، إذن لكان أراح العصابة من الدخلاء على الكنز، فلم تكن المغارة تنفتح إلا بصوت أناس معينين، كما تنفتح خزانة البنوك السويسرية الآن لبصمة صوت صاحبها وحده فحسب!
وفي «حكاية جودر الصياد وأخويه» ذكر لعدد من الطلاسم السحرية تلقي ظلالا على المخترعات الحديثة أيضا. ففي تلك القصة من قصص ألف ليلة وليلة، يجري ذكر كنز يسمى «كنز الشمردل» ويحتوي على خاتم وسيف ودائرة فلك ومكحلة، وكلها أدوات سحرية تكون في خدمة من يملكها. والطريف منها هو دائرة الفلك، وهي تذكر في الحكاية على النحو التالي: «وأما دائرة الفلك فإن من يملكها إن شاء أن ينظر جميع البلاد من المشرق إلى المغرب فإنه ينظرها ويتفرج عليها وهو جالس ، فأي جهة أرادها يوجه الدائرة إليها وينظر في الدائرة فإنه يرى تلك الجهة وأهلها كأن الجميع بين يديه؛ وإذا غضب على مدينة ووجه الدائرة إلى قرص الشمس وأراد احتراق تلك المدينة فإنها تحترق.» ويمكن للقارئ أن يفسر عمل تلك الدائرة على المستوى المعاصر كما يحلو له، فهي تقوم مقام التلفزيون الحديث، الذي يمكن المشاهد - عن طريق الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية و«الكابل» و«الدش» من توجيه محطته إلى أي بلد يشاء ويرى فيه برامج تلك البلد أو الجهة؛ كما يمكن تفسيرها أيضا بالرادار الذي يستطلع تحركات الجيوش والطيران، ويمكن القادة من تدمير وإحراق أي طائرات مغيرة، كما تذكر الحكاية عن توجيه قرص الشمس إلى أي مدينة مغضوب عليها فتحترق!
وقصص الخيال العلمي هو - كما تعرفه الموسوعة البريطانية في آخر طبعاتها المختصرة - «شكل قصصي ظهر في القرن العشرين ويتناول أساسا أثر العلم المتخيل على المجتمع أو الأفراد. ويستخدم المصطلح على نحو أعم للإشارة إلى أي فانتازيا أدبية تتضمن عاملا علميا.»
وقد انتشر هذا النوع من القصص والروايات عشية وغداة الوثبة العلمية الكبرى التي حققها الغرب بعد امتصاصه واستيعابه النهضة العلمية التي حققتها الحضارات السابقة عليه وأهمها الحضارة العربية الإسلامية. وقد بدأت الاختراعات العلمية في الظهور في القرن التاسع عشر، بما أصبح يدعى الانقلاب الصناعي. ثم توالت الاختراعات التي لم تخطر على بال الإنسان إلا في كتابات المستقبليين وعلى رأسهم ماري شيللي وجول فيرن وه. ج. ويلز وستيفنسون. أما كتابات وقصص الخيال العلمي المعاصرة فهي تصدر بغزارة فائقة وتلقى رواجا كبيرا بين القراء، ومن أبرز من اشتهروا بها في أواخر القرن العشرين الكاتب الأمريكي - الروسي المولد - إسحاق عظيموف (1920-1992م).
وأول رواة الخيال العلمي على نحو دءوب هو الفرنسي جول فيرن (1828-1905م)، فهو قد خصص معظم أعماله لأدب الخيال العلمي. وقد انطلق من شعاره الذي يقول: «إن كل ما بوسع الإنسان أن يتخيله، سيقوم أناس آخرون بتحقيقه.» فتخيل طيران الإنسان في المناطيد، والرحلة إلى القمر، والوصول إلى باطن الأرض، والدوران حول العالم في أدنى مدة: وهذه كلها «خيالات» حققها العلم بعد ذلك بل وتعداها. ويذكر لجول فيرن أنه أول من بشر - في العصور الحديثة - باختراع الغواصة والطائرة والتليفزيون، وغزو الفضاء. وروايته «من الأرض إلى القمر» نموذجية في كيفية اتحاد الخيال مع الدرس العلمي في تحقيق عمل مستقبلي بديع. ونقتبس هنا ما كتبه محرر شهرية «كتاب» المعروفة عن تلك القصة ومؤلفها: «وفي قصته المشهورة هذه: «من الأرض إلى القمر»، كانت حساباته وتقديراته كلها صحيحة ودقيقة، لأنه اعتمد على قوانين الطبيعة وطبقها في تصوراته وتخيلاته، واعتمد كذلك على النظريات الفلكية القديمة .. بل لقد أمدت التكنولوجيا الحديثة سفينة الفضاء «أبوللو 11» بالقوة اللازمة للهروب من جاذبية الأرض تماما كما تخيلها «فيرن» عندما فرت كبسولته من الجاذبية الأرضية وهي مندفعة من الأرض بقوة عظيمة .. ولعل الأغرب أن «فيرن» صوب كبسولته نحو القمر بنفس الطريقة التي صوبت بها هيئة «ناسا
NASA » مركبة أبوللو 11 نحو النقطة التي حددت لها على القمر ...» وقد احتفلت مدينة إميان التي استقر فيها جول فيرن بشمال فرنسا، برحلة أبوللو إلى القمر بأن منحت ملاحي الفضاء الثلاثة «أرمسترونج» و«ولنز» و«ألدرين» حق المواطنة فيها، تكريما لهم ولجول فيرن في الوقت ذاته!
كذلك كتبت فيكي حبيب في جريدة الحياة بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لوفاة فيرن عن مقال كتبه «جاك لون دوان» في مقال في الملحق الذي أصدرته جريدة لي موند عن جول فيرن: «وإذ يسأل دوان في بداية مقاله عما إذا كان مخترع الغواصات والأسلحة والفاكس استشعر سلطة الصالات السينمائية المذهلة قبل الأخوين لوميير فإنه يجيب: «في كل الأحوال نحن مدينون لجول فيرن بتخيله جهازا افتراضيا تبث عبره صورة ثابتة لامرأة كانت اختفت باستخدامه شعاعا ضوئيا شديد القوة، ومرآة وألواحا زجاجية منحنية، ما أدى إلى تصوير انبعاث المرأة من جديد إلى الحياة.» وكان هذا قبل ولادة فن السينما بسنوات طويلة، مما يعني مواربة أن جول فيرن ساهم، أيضا، وحتى من دون أن يدري، في اكتشاف فن السينما.»
أما أوجه الموازنة بين فيرن وألف ليلة فتتبدى في مجال عوالم البحار. ورغم أن ألف ليلة تزخر بقصص البحار وعوالم البحار، فإن القصة التي تصور تصويرا كاملا حياة مستقلة تحت البحر هي «حكاية عبد الله البري وعبد الله البحري». وفي تلك القصة، نرى صيادا فقيرا يدعى عبد الله يعول أسرة من سبعة أولاد وأمهم، ولا يكاد يجد ما يقيم أودهم. ويمضي عليه عدة أيام بلا صيد حتى أنه يستدين خبزه بالأجل، إلى أن كان يوم وجد شبكته ثقيلة جدا، ولكن بدلا من السمك الوفير، يجد فيها رجلا آدميا. ويفزع الصياد منه، ويظنه من جن الملك سليمان، ولكن الرجل يطمئنه ويذكر له أنه آدمي مثله، ولكنه من «أولاد البحر»، وأن الشبكة قد أحاطت به وقيدته، ولولا أنه يخاف الله لقطع الشبكة وحرر نفسه، ولكنه لم يرد أن يضيع الوسيلة التي يسترزق منها الصياد. ويتصادق رجل البر ورجل البحر، ويتعاهدان على الالتقاء من حين لآخر، ليتبادلا الأشياء التي يفتقر إليها كل منهما، فيحمل عبد الله البري إلى صاحبه عبد الله البحري أصناف الفاكهة المتوفرة بكثرة على الأرض ولكنها لا توجد في البحر، كالعنب والبطيخ والرمان والخوخ والتين، بينما يحضر عبد الله البحري لصاحبه أصناف الجواهر العديدة التي يزخر بها البحر ولا يهتم بها الناس هناك، من مرجان وياقوت وزمرد ولؤلؤ وزبرجد. وفي يوم، يدعو عبد الله البحري عبد الله البري لزيارته في البحر، كي يصحبه في جولة يريه فيها الحياة والناس هناك؛ ويقدم له دهانا يدهن به جسمه كله فيصبح قادرا على الحياة بسهولة في قاع البحار. ويرى هناك عالما كاملا داخل جوف البحر، ويزور مدائن متعددة، يفرجه زميله البحري على ثمانين منها، ويرى في كل مدينة أناسا لا يشبهون الناس التي في غيرها من المدن. ويذكر له عبد الله البحري أنه «لو أراه ألف مدينة كل يوم لمدة ألف عام لما رأى قيراطا من أربعة وعشرين قيراطا من مدائن البحر وعجائبه!» ولكن ما يلفت نظر عبد الله البري في حياة البحر هو أن كل شيء فيها قائم على السمك، وجميع أهل البحر لا يتعاملون مع بعضهم البعض إلا بالسمك، وليس هناك من طعام إلا الأسماك.
وهذه الحياة الكاملة في قاع البحار هي نفس موضوع رواية جول فيرن المعنونة «20 ألف فرسخ تحت الماء»، وإن كانت أكثر تطورا وحبكة بطبيعة الحال. وفيها نرى الراوي، بيير أروناكس، ويعمل أستاذا في المتحف الطبيعي بباريس، يذهب في مهمة علمية على ظهر السفينة الأمريكية إبراهام لنكولن، المجهزة تجهيزا خاصا لاستكشاف «الوحش البحري» الذي يتسبب في كوارث بحرية في أعالي البحار، ولم يستطع أحد تحديد هويته.
وتمضي السفينة لتبلغ بحر الصين، وبعد أن يئس الجميع من العثور على الوحش هناك، يظهر لهم فجأة ويصطدم بالسفينة الأمريكية، ويجد الباحث الفرنسي نفسه مع تابعه «كونس» وبحار كندي آخر أنفسهم في وسط البحر. ويصلون آخر الأمر إلى جسم الوحش، فيفاجئون بأنه جسم من الصلب وليس مخلوقا بحريا. ويظهر رجال ملثمون منه ويحملونهم إلى جوف ذلك «الغول الحديدي». ويكتشفون أنهم في جوف غواصة هائلة، يمتلكها الكابتن «نيمو» الذي اعتزل الدنيا وما فيها وشيد لنفسه عالما مستقلا في تلك الغواصة، زوده بكل ما يحتاج إليه، وأصبحت حياته كلها من البحر وإليه، ويتفق عالمه مع ما جاء في حكاية ألف ليلة وليلة من أن جميع طعام وشراب أهل الغواصة هو من البحر وكائناته. ويقول الكابتن نيمو عن البحر: «أجل، إني أحبه. البحر هو كل شيء. إنه يغطي سبعة أعشار الكرة الأرضية. ونسمته نقية وصحية. إنه صحراء لا حدود لها، حيث الإنسان لا يبقى وحيدا أبدا، فهو يشعر بالحركة في كل شيء. البحر هو تجسيد لوجود فوق الطبيعة رائع؛ وما هو إلا حب وعاطفة.» وطبعا تمضي رواية «فيرن» في أحداث عجيبة كثيفة بعد ذلك، وتدخل إلى عالم من التنبؤات العلمية التي تميز ذلك الكاتب الفرنسي بها.
وجدير بالذكر أن ذكر حياة البحار في ألف ليلة وليلة لم يقتصر على حكاية عبد الله البري وعبد الله البحري، ففي حكاية «جلنار البحرية وبدر باسم» قصة أخرى لقوم يحيون داخل البحار. ففيها يتزوج ملك ساسان من جارية يتضح أنها ابنة أحد ملوك البحار ممن يعيشون داخلها. وفيها أيضا وصف تفصيلي لكيفية عيشهم داخل البحر وحياتهم فيه.
أما ه. ج. ويلز فقد اكتسب عن حق لقب «رسول المستقبل» بما كتب من قصص وروايات من الخيال العلمي. وكانت أولى رواياته في هذا الخصوص «آلة الزمن» التي ذكرناها في فصل آخر من هذا الكتاب، وقد أتبعها برواية «جزيرة الدكتور مورو» عام 1896م، ثم «الرجل الخفي» في 1897م، التي كانت محاولة حديثة لابتعاث طاقية الإخفاء التي وردت في ألف ليلة. بيد أن معظم روايات ويلز العلمية تعلقت بغزو الفضاء والحرب بين الكواكب، وهو ما نراه الآن من تطوير لأسلحة الدمار من كل لون وصنف. بيد أن تأثر ويلز بألف ليلة وليلة يتبدى في موضوعات أخرى ذكرنا طرفا منها فيما سبق من فصول.
الرواية البوليسية
«... ثم إنه جذب الخيط وجر الشبكة إليه فطلع في الشبكة صندوق مقفول ثقيل الوزن فلما نظر الخليفة وجده ثقيلا فأعطى الصياد مائة دينار وانصرف وحمل مسرور هو وجعفر الصندوق وطلعا به مع الخليفة إلى القصر، وأوقد الشموع والصندوق بين يدي الخليفة فتقدم حعفر ومسرور وكسروا الصندوق فوجدوا فيه قفة خوص مخيطة بصوف أحمر فقطعوا الخياطة فرأوا فيها قطعة بساط فرفعوها فوجدوا تحتها أزرارا فرفعوا الأزرار فوجدوا تحتها صبية كأنها سبيكة، مقتولة ومقطوعة. فلما نظرها الخليفة جرت دموعه على خده والتفت إلى جعفر وقال: يا كلب الوزراء، أتقتل القتلى في زمني ويرمون في البحر ويصيرون متعلقين بذمتي؟! والله لا بد أن أقتص لهذه الصبية ممن قتلها وأقتله ...»
حكاية التفاحات الثلاث
وبعد أن أغلق صاحب المحل دكانه، جاء إلى البازار لص حاذق متنكرا في هيئة صاحب المحل ذاك، وأخرج عدة مفاتيح من جيبه وصاح بحارس السوق: أشعل لي هذه الشمعة، ودخل إلى المحل وجلس فيه وفتح الدفاتر وتظاهر بإجراء الحسابات. وبعد وقت صاح بالحارس: ابحث لي عن سائق جمال يحمل لي بعض البضائع. وبعد أن أحضر الحارس صاحب الجمل، أخذ اللص أربع بالات من البضائع وأعطاها لصاحب الجمل الذي حملها فوقه. وأعطى اللص الحارس درهمين حلوانا له ورحل مع البضائع. كل هذا والحارس يظن أنه صاحب المحل المذكور.
حكاية اللص والتاجر (من نسخة ريتشارد بيرتون، الجزء الخامس)
أعد «علي كوجيا» كل ما يحتاج إليه في السفر، ولم يبق عليه إلا أن يتصرف في ألف دينار من الذهب فاضت عن حاجة سفره. وتحير علي كوجيا فلم يعرف أين يضعها حتى لا يسرقها أحد من اللصوص في غيابه. ثم افتكر فكرة جميلة، وهي أن يضعها أمانة عند صديق له من التجار اسمه التاجر حسن. فأحضر علي كوجيا جرة كبيرة من الفخار وضع فيها ذلك المال، ولما فرغ من وضعه، أكملها بحبات من زيتون، ثم سد الجرة وحملها إلى صديقه التاجر حسن طالبا منه أن يحفظها لديه حتى يعود من أداء فريضة الحج. فيوافق التاجر حسن على ذلك، ويعطي علي كوجيا مفتاح مخزنه قائلا: ها هو المفتاح؛ فاذهب إلى المخزن وضع الجرة في أي مكان يعجبك، ولن يمسها أحد حتى تعود من سفرك وتأخذها من المكان الذي وضعتها فيه.
حكاية علي كوجيا (عن «قصص من ألف ليلة» لكامل كيلاني) ... وانطلق الأمراء الثلاثة ينشدون سلطان السلاطين الذي كان أحد التابعين لأبيهم، كيما يحكم بينهم في خصومتهم. وفي وسط الطريق، مروا بأحد المروج الواسعة المليئة بالخضرة والمياه، فجلسوا هناك فترة التماسا للراحة ولتناول طعامهم. وبينما هم جالسون على العشب، صاح أحدهم: «وايم الله، لقد مر من هنا لتوه جمل يحمل بضاعة نصفها حلو ونصفها مر.» فقال الثاني: «وهذا الجمل لا بد أنه أعور لا يبصر بإحدى عينيه.» وقال الثالث: «وهذا الجمل أزعر قد فقد ذيله.»
حكاية أمير اليمن وأبناؤه الثلاثة (عن نسخة ريتشارد بيرتون، الجزء الخامس عشر) •••
تعرض المقتبسات الواردة أعلاه من حكايات ألف ليلة وليلة نماذج لما يدعى اليوم الرواية أو القصة البوليسية
DETECTIVE STORY . ففي القصة الأولى، التفاحات الثلاث، نجد نفسنا أمام الصفة الغالبة في القصة البوليسية كما وجدت منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهي صفة الشكل الذي يتخذالزمن المعكوس
INVERTED CHRONOLOGY . فالقصة البوليسية عادة تبدأ باكتشاف جريمة قتل بشعة، يتبعها تشكيل تدريجي للأحداث التي سبقت وقوع الجريمة، كيما يستبين كيفية حدوثها ومن وراءها. وقصة التفاحات الثلاث تبدو وكأنها قصة بوليسية كتبت في عصرنا الراهن. فالقصة تبدأ باكتشاف جريمة قتل، ويكلف الخليفة هارون الرشيد وزيره جعفرا بالبحث عن القاتل. غير أنه لا يمكن مقارنة الوزير بمفتشي الشرطة والمخبرين الخصوصيين الذين اشتهروا بحل ألغاز الجرائم، كشرلوك هولمز أو هركيول بوارو، فالوزير لا يفعل أي شيء ويتهيأ لتقبل عقاب الخليفة له لفشله فيما كلفه به. وحين يهم الخليفة بإنزال عقابه بجعفر، يتقدم أحد الشبان ليعترف بأنه هو الذي قتل الفتاة. وحين يهم جعفر بالقبض على الشاب، يتقدم شيخ إليهما ويقول إنه هو الذي قتل الفتاة وليس الشاب. ويعرض الوزير الأمر على الخليفة، فيقص الشاب على الجميع القصة كاملة: فهو زوج الفتاة المقتولة، وهي ابنة عمه، والشيخ هو أبو الصبية وعم الشاب. وكان الشاب يعيش في وفاق مع زوجته وأنجب منها ثلاثة أبناء ذكور. وتمرض الزوجة يوما مرضا شديدا، وخلال معاناتها من حمى المرض، تمنت على زوجها أن يحضر لها تفاحة تهفو نفسها إلى أكلها، وكان الموسم غير موسم التفاح، فلم يجد الشاب تلك الفاكهة إلا في بستان أمير المؤمنين بالبصرة عند خولي يدخرها للخليفة. فسافر الشاب إلى هناك وجلب لزوجته ثلاث تفاحات اشتراها من خولي البستان بثمن غال. ولما عاد كانت الزوجة في شدة معاناة المرض، فلم تأكل أيا منها. ولما تعافت الزوجة، خرج الزوج إلى دكانه لمباشرة تجارته. وإذا به يرى عبدا أسود يمر أمامه وفي يده تفاحة، فسأله من أين حصل عليها فيجيبه العبد أنه أخذها من حبيبته التي كان عندها ثلاث تفاحات والتي ذكرت له أن زوجها الديوث قد سافر إلى البصرة من أجل إحضارها لها وأنه اشترى كل تفاحة بدينار كامل. فلما سمع الزوج كلام العبد اسودت الدنيا في وجهه وأيقن بخيانة زوجته له مع ذلك العبد. وجرى إلى البيت فلم يجد عند الزوجة سوى تفاحتين فقط، وقالت له: لا أعرف أين ذهبت التفاحة الثالثة . فتحقق الزوج من صحة كلام العبد الأسود، فقتل زوجته وقطع جسدها ووضعها في صندوق حمله على بغلته ورماه في نهر دجلة. وحين عاد إلى بيته وجد ابنه الكبير يبكي مع أنه لم يعلم بمقتل أمه، فلما سأله الأب عن سبب بكائه، رد بأنه أخذ تفاحة من تفاحات أمه الثلاث ونزل بها إلى الحارة ليلعب مع إخوانه، وإذا بعبد أسود يخطفها منه ويقول له من أين حصلت على هذه التفاحة، فرد الابن أن أباه قد سافر إلى البصرة وجاء من هناك بثلاث تفاحات ثمنها ثلاثة دنانير من أجل أمي المريضة، فضربه العبد وأخذ التفاحة ومضى بها، وكان الابن يبكي خوفا من غضب أمه لو علمت بسرقة التفاحة. ولما سمع الأب كلام ابنه، تبين له أن العبد قد افترى على زوجته كذبا، وأنه قد تسرع بقتل زوجته ظلما دون تحقق أو ترو، فجلس يبكي على ما اقترفت يداه. ولما حضر عمه الشيخ أبو زوجته، أخبره بما كان، وبكيا سويا. وفي نهاية قصته، يطلب الزوج من الخليفة أن يعجل بقتله قصاصا على ما فعله ظلما بزوجته.
ويقرر الخليفة أن العبد هو المسئول عن الجريمة، ويأمر جعفرا بالبحث عنه والقبض عليه. ولكن الوزير، مجددا، لا يقوم بما يجب أن يقوم به المحقق في القصص البوليسية، بل لا يقوم بأي شيء، ربما لأن الأمر كان يجب أن يذهب إلى رئيس الشرطة وليس إلى الوزير الأول، وهو قد جاء ذكره في القصة فحسب بوصفه من الشخصيات المشهورة التي ارتبطت بهارون الرشيد قبل غضبته عليه وفتكه به وبعشيرته. ويتوصل الوزير جعفر إلى المجرم المطلوب بمحض الصدفة، إذ كان يودع ابنته الصغيرة قبل التوجه إلى الخليفة ليلقى عقابه على فشله في العثور على العبد، حين يرى في يدها تفاحة تقول له إن عبدهم «ريحان» باعها لها منذ أربعة أيام بدينارين. فلما سمع جعفر ذلك عرف أن عبده ريحان هي المذنب المطلوب، فأحضره. وعندها يقوم بدور المحقق آخر الأمر، ويحمل ريحانا على أن يعترف بكل ما قام به من خطف التفاحة من ابن التاجر بعد أن قص عليه قصته.
وفي نهاية هذه القصة يتبدى ملمح هام من ملامح الرواية البوليسية الحديثة، وهو أن المجرم الحقيقي غالبا ما يكون من أقرب الأشخاص إلى محققي الجريمة وإن كان لا يكشف عن ذلك إلا في النهاية، مما يزيد من عناصر الغموض والتشويق لدى القارئ.
وفي الحكاية الثانية، اللص والتاجر، يحافظ الراوي على الترتيب الزمني للجريمة. فنحن نرى اللص يسرق بالات من القماش من أحد المحلات منتحلا شخصية التاجر صاحب المحل، موهما حارس السوق بذلك، ومستعينا بصاحب جمل يحمل عليه البضاعة المسروقة. وبعدها نرى صاحب المحل الحقيقي يدخل دكانه في اليوم التالي فيلاحظ ما حدث من السرقة على الفور، فيعمد إلى التحرك سريعا ببراعة فائقة. وهو يقوم بدور المحقق في القصص الحديثة، إذ يستجوب - واحدا وراء آخر - كل شخص كانت له علاقة بنقل البالات: حارس البازار، الذي يحكي له ما حدث في الليلة الماضية، فيطلب إليه أن يحضر له صاحب الجمال ويستجوبه بنفسه عن الجهة التي طلب منه اللص الذهاب إليها مع البضائع. ويقوده صاحب الجمال إلى أحد المراكبية الذين حملوا البضاعة للص، فيستجوبه التاجر أيضا، فيقرر أنه حمل البضاعة إلى سائق جمال آخر دله على مكانه. فيذهب صاحب المحل في طلبه، ويستجوبه كأي محقق بارع، في تتبع مسار جسم الجريمة وهي المسروقات. ويدله صاحب الجمل إلى المكان الذي قاد إليه اللص والبضائع، في أحد الخانات. وهناك يجد صاحب المحل مكانا مملوكا للص، ولما يفتحه بمعرفته، يجد البالات الأربع المسروقة منه فيه، فيستردها من اللص ويعود بها إلى محله. أما أفضل معلومة مثيرة في الحكاية كلها فهي اكتشاف القارئ أن هذا التاجر نفسه إن هو إلا لص تائب، وهذا هو ما مكنه من معرفة أساليب اللصوص وحيلهم، وأتاح له في النهاية معرفة السارق واسترداد بضائعه المسروقة.
وتأتي بعد ذلك حكاية «علي كوجيا» (وأحيانا يطلق عليه علي خواجة) التي تصور طرق الاستدلال العقلي في التوصل إلى حل جريمة ارتكبت في حق أحد التجار. وتقع أحداث القصة في بغداد في زمن الخليفة هارون الرشيد، حيث كان يعيش تاجر ميسور الحال يدعى «علي كوجيا». ويرى في منامه ثلاث مرات متتالية أحد الشيوخ يحثه على أداء فريضة الحج، فيرى في ذلك إلهاما سماويا ويعتزم الذهاب إلى مكة المكرمة للحج. وقبل سفره، يضع ألف دينار من الذهب فاضت لديه في جرة فخارية، ويغطيها بشيء من حبات الزيتون للتمويه، ويذهب بالجرة إلى صديق له من التجار واسمه «حسن» طالبا منه أن يحتفظ بها لديه كأمانة إلى حين عودته.
وبعد أن يتم كوجيا مراسم الحج، يطوف بعدد من البلاد الإسلامية للتجارة، فيذهب إلى القاهرة ودمشق وبيت المقدس، مما يستغرق منه سبع سنوات طويلة. وفي تلك الأثناء، يظن صديقه حسن أنه لن يعود، ويغريه ذلك بفتح الجرة الأمانة كي يحضر منها بعض الزيتون لزوجته، رغم تحذير الزوجة لزوجها بعدم خيانة الأمانه وأن الزيتون لا بد وأن يكون قد فسد بطول الزمن. ولكن الصديق التاجر يفتح الجرة رغم ذلك ويعثر في النهاية على الدنانير الذهبية فيستولي عليها لنفسه، ويعيد ملء الجرة كلها بالزيتون ويغلقها بحيث تبدو على نفس الهيئة التي تركها عليها علي كوجيا ووضعها في نفس المكان الذي اختاره علي كوجيا لها في مخزن التاجر حسن.
ويعود علي كوجيا آخر الأمر بعد كل هذه السنوات ويذهب إلى صديقه حسن ليسترد الأمانه. ويرحب به حسن، ويقوده إلى مخزنه حيث يريه الجرة في نفس المكان الذي تركها علي كوجيا فيه، مؤكدا له أن أحدا لم يمسها منذ رحيله للحج ولم تتحرك من المكان الذي تركها فيه. وحين يفتح علي كوجيا الجرة، يجدها كلها زيتونا ولا أثر هناك للذهب الذي كان قد أودعه فيها. ويعود إلى صديقه ليشرح له الأمر، ولكن الصديق ينكر أنه قد مس الجرة، ويلج في الإنكار، مركزا على أن علي كوجيا قد استرد الجرة كما كان قد تركها بالضبط. ويضطر علي كوجيا إلى رفع شكايته إلى القاضي. ويستجوب القاضي التاجرين، ويطلب من علي كوجيا أدلة تؤيد زعمه بوجود الذهب في الجرة، فلا يجد ما يمكن أن يقدمه له كدليل. ولما يحلف التاجر حسن على صحة ما يقوله بعدم استيلائه على أي مال كان بالجرة، يضطر القاضي إلى الحكم ببراءة حسن.
وتنتشر قصة التاجرين الصديقين في كل بغداد، وتتناقلها الألسن والأسماع، وأصبحت حديث السمار. وكان علي كوجيا قد صمم على رفع مظلمته إلى الخليفة هارون الرشيد كي يقضي فيها بنفسه، فانتظره في طريق عودته من صلاة الجمعة، وأعطاه ملتمسه بالتحقيق في قضية صديقه الذي خان الأمانه وسرق أمواله. وكان من عادة الخليفة النظر في المظالم - كنوع يقوم مقام قضايا الاستئناف الحديث حين لا يرضى طرف من أطراف الخصومة بالحكم «الابتدائي» الذي يصدره قاضي البلدة. وعشية اليوم الذي حدده الخليفة للنظر في قضية علي كوجيا والتاجر حسن، يخرج هارون الرشيد كعادته في بعض الليالي متنكرا مع وزيره جعفر وخادمه مسرور، ليستطلع أحوال الرعية. وإذا به يرى جماعة من الصبية يلعبون، فوقف يراقبهم من حيث لا يرونه. وكان الصبية قد أقاموا تمثيلية يقومون فيها بتقليد قصة علي كوجيا مع صديقه التاجر. وقام أحد الصبية بتمثيل دور القاضي الذي يفصل بين المتنازعين؛ وأشار في تحقيقاته إلى ضرورة فحص الزيتون الذي بالجرة ومعرفة تاريخه وزمنه، فإذا كان الزيتون قديما قد مرت عليه سنوات، فقد كذب خواجة وصدق حسن، أما إذا كان الزيتون حديثا، فقد كذب حسن وصدق علي كوجيا. وقام صبيان آخران بتمثيل الخبراء في تجارة الزيتون، وفحصا الزيتون الذي بالجرة، وحكما بأنه حديث لم يمر عليه شهور، فحكم القاضي - الصبي الممثل - لصالح علي كوجيا وبعقاب التاجر حسن لخيانته الأمانة. وانتهت التمثيلية بالضحكات طبعا، فقد كان الأمر كله تمثيلا في تمثيل. بيد أن الخليفة الذي رأى كل شيء، ينتابه الإعجاب بذكاء الصبي الذي مثل دور القاضي، ويشير إلى وزيره جعفر بضرورة إحضار ذلك الصبي في الغد لحضور جلسة القضية التي سيحقق فيها الخليفة للفصل بين التاجرين.
وفي اليوم التالي، يحضر الجميع. ويعرض كل من علي كوجيا والتاجر حسن قضيتهما. ويطلب الخليفة من الصبي أن يكرر ما فعله في الليلة الماضية. فيطلب الصبي تذوق الزيتون، فيتذوقه الخليفة ويرى أنه زيتون حديث. بيد أنه لا يكتفي بنفسه، بل سار على نهج ما فعله الصبي بالأمس، فطلب من بعض الثقات في تجارة الزيتون وأصنافه الحكم على تاريخ الزيتون الذي بالجرة، فيحكمون جميعا أنه من حصاد العام الذي هم فيه. ومن هنا يتبين صدق علي كوجيا وكذب صديقه الذي خان الأمانة. وينزل الخليفة عقابا صارما بالتاجر حسن بعد أن يعيد الذهب الذي سرقه إلى علي كوجيا. ويهب الخليفة مائة دينار مكافأة للصبي الذكي، ويطلب من القاضي الذي سبق له الحكم في القضية دون تحقيق بأن يأخذ العبرة من الوسائل التي استخدمها الصبي الصغير للتوصل إلى الحقيقة في القضايا التي يتنازع الأطراف فيها دون أن تكون هناك أدلة للحكم فيها.
أما حكاية أمير اليمن وأبنائه الثلاثة، فهي مثال طيب لقوة الاستدلال والخروج بأدلة من أشياء معينة تحيط بحدث من الأحداث، وهو ما يميز المحقق البوليسي الماهر. فهذه القصة تحكي عن ثلاثة من الأمراء، قسم أبوهم الملك إرثه عليهم قبل موته، فأوصى لأكبرهم بالملك من بعده، ولأوسطهم بالأموال والمجوهرات، وللأصغر الثروة الحيوانية من كل نوع. ولكنهم يتنازعون بعد وفاة الأب، فالكل ينشد السلطان والحكم، فيتفقون مع وزراء المملكة على الذهاب لأحد السلاطين الذين كانوا تابعين لأبيهم، كي يحكم بينهم فيما فيه يختلفون. وفي الطريق يمرون بمرج أخضر يستريحون فيه، ويدلون بالملاحظات الموجودة في الفقرة المقتبسة ص295 عن أوصاف أحد الجمال. ولكن، ما إن يسمع صاحب الجمل المذكور ما قالوه عن جمله حتى يمسك بخناقهم متهما إياهم أنهم هم الذين سرقوا جمله، فقد تبين أن الجمل قد ضل عن صاحبه، ولما وجد الجمال هؤلاء الثلاثة يدلون بأوصاف واقعية يتميز بها جمله، تأكد أنهم هم سارقوه. وينفي الأمراء بالطبع أي شأن لهم بسرقة الجمل، ولكن صاحب الجمل يلاحقهم ويذهب معهم إلى السلطان كي يقتص له منهم أيضا.
وحين يصل الجميع إلى السلطان، ويسألهم عن شكاية صاحب الجمل، وكيف عرفوا أوصاف الجمل بهذه الدقة إن لم يكونوا قد رأوه، يجيبون كالآتي: أما الأمير الأول فقد قال إنه قد لاحظ الذباب وقد تجمع في جانب واحد من المكان الذي برك فيه الجمل بينما كان يتجنب الاقتراب من الجانب الآخر، فاستنتج أن الجمل كان يحمل سكرا على ذلك الجانب ويحمل حامضيات على جانبه الآخر. وقال الأمير الثاني إنه قد لاحظ أن العشب في المرج مأكول من ناحية واحدة فقط بينما قد ترك ناميا في الجانب الآخر، فاستدل على أن الجمل أعور لم ير العشب إلا بعين واحدة في الجانب الذي أكله. وقال الأمير الثالث إنه لاحظ أن روث الجمل قد تكوم كله مكببا فوق بعضه، فاستنتج أن الجمل لم يكن لديه ذيل، فالجمال عادة تهز الروث بذيلها وتنثره هنا وهناك.
وعند ذلك أبدى سلطان السلاطين إعجابه بدقة ملاحظة هؤلاء الأمراء، وفراستهم البارعة، وصرف الجمال، وأبدى دهشته أنهم - وهم على ذلك القدر من الذكاء - يلجئون إليه طلبا للمشورة دون أن يكون بوسعهم حل مشاكلهم بنفسهم. وعندها يشعر الأمراء بالخجل، ويعودون إلى مملكتهم بعد أن يتفقوا على اتباع وصية أبيهم.
وثمة صورة من الدهاء في حكاية علي بابا والأربعين لصا، حين تطلب زوجة علي بابا من زوجة قاسم مكيالا كي تكيل به الذهب الذي أحضره زوجها من الكهف السحري، فتطلي زوجة قاسم قاع المكيال بشيء لاصق كيما تعرف ماذا يكيلون، وتنجح في ذلك إذ تلتصق قطعة ذهبية في المكيال حين تعيده زوجة علي بابا إلى صاحبته. وقد رأينا مثل هذا الدهاء الفطري يظهر بعد ذلك في قصص بوليسية حديثة بنفس الطريقة التي استخدمتها زوجة قاسم منذ مئات السنين!
وهذه القصص، رغم بساطتها، تمثل نماذج توازي تركيبة أنواع القصص البوليسية التي ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر، ثم انتشرت ونمت نموا كبيرا حتى يومنا هذا، كما سنرى في السطور التالية. (1) الرواية البوليسية الحديثة
في عام 1941م، احتفلت القصة البوليسية بعيدها المئوي بوصفها شكلا أدبيا مميزا. فهي قد ولدت على يد الأديب الأمريكي المشهور «إدجار ألان بو» (1809-1849م) حين نشر قصته القصيرة «جرائم شارع مورج» عام 1841م في مجلة «جراهام ماجازين» بفيلادلفيا. ثم ظهر لها تابع بعنوان «لغز ماري روجيه» في مجلة بنيويورك عام 1842م. ثم قام «بو» بنشر آخر قصصه البوليسية الخالصة عام 1845م بعنوان «الهدية». وبعد ذلك، صدرت القصص الثلاث في كتاب واحد باسم «حكايات»، وهو الذي يعتبره النقاد أول وأهم كتاب في القصة البوليسية الحديثة. وفي كل من تلك القصص، تظهر شخصية الشيفالييه «س. أوغسط ديبان»، وهو أول مخبر تحقيقات
DETECTIVE
قصصي؛ ذلك أن هذه المهنة كانت جديدة ولم يكن من الممكن الكتابة عنها قبل أن توجد في عالم الواقع.
ويذكر النقاد أن إدجار ألان بو قد تأثر في حكاياته البوليسية بأحد الشخصيات الفرنسية الغريبة، هو «فرانسوا يوجين فيدوك»، اللص التائب الذي افتتح أول مكتب للمخبرين السريين عام 1817م في باريس، ثم نشر مذكراته عام 1828م، التي احتوت على وقائع بوليسية حقيقية وليست من نسج الخيال. ولا بد أن بو قد قرأ ذلك الكتاب وتأثر به، لدرجة أن بعض حكايات بو يغلب عليها الجو الفرنسي والأسماء الفرنسية، وتحدث وقائعها في باريس في العصر الذي عاش فيه فيدوك. بيد أن المخبر «ديبان» كان من وحي خيال «بو» الخصيب، مرهصا بما جاء بعد ذلك من الشخصيات الفريدة في عالم المخبرين الذين نالوا شهرة كبيرة، كهولمز وميجريه وبوارو. ولا أحد يعرف لماذا توقف إدجار ألان بو عن كتابة القصص البوليسية بعد ذلك، ولكن المؤكد أن قصصه تلك كانت البداية لهذا النوع الذي لقي رواجا واسعا لدى القراء، وتبعها سيل من القصص والروايات من نفس هذا النوع الأدبي الشائق. وقد اشتهر الكثير من الأسماء من مؤلفي تلك القصص، ومنهم روائيون معروفون، على رأسهم الروائي الإنجليزي «ويلكي كولنز» في روايتيه المعروفتين «ذات الرداء الأبيض» و «الماسة الصفراء»، وإن كانت تلكما الروايتان أقرب إلى روايات الغموض والأسرار
MYSTERY NOVEL
منها إلى الروايات البوليسية. ورغم أن تشارلز ديكنز قد حاول تجنب الكتابة في هذا النوع البوليسي، فقد استسلم لإغرائه في آخر رواياته التي لم يمهله العمر لإتمامها وهي «لغز إدوين درود».
غير أن مشاهير مؤلفي الرواية البوليسية الحديثة الذائعي الصيت قد بدءوا بالكاتب الإنجليزي المعروف «آرثر كونان دويل». وكان دويل طبيبا من أصل اسكتلندي-أيرلندي، وأسهم في ميادين عديدة من الأنشطة المتنوعة. ونشر دويل أول قصصه التي ابتدع فيها شخصية شرلوك هولمز عام 1887م في رواية «دراسة في اللون القرمزي» ثم أعقبها برواية «علامة الأربعة». بيد أن شرلوك هولمز لم يشتهر إلا عام 1891م مع رواية «فضيحة في بوهيميا»، وهي أول حلقة من الروايات القصار التي يضمها كتاب «مغامرات شرلوك هولمز»، الذي يشتمل على 22 قصة. وقد ابتكر آرثر كونان دويل شخصية مصاحبة للمحقق البوليسي هي شخصية الدكتور واطسون، التي يستخدمها المؤلف للتعليق على الأحداث وتوضيحها، عن طريق محادثاته ونقاشه مع شرلوك هولمز صديقه الحميم، وهو كذلك يضفي بشخصية واطسون الفكهة لمسة من «التخفيف الكوميدي» على أحداث الرواية التي تمتلئ بالجرائم والأسرار.
أما المجموعة التالية التي كتبها دويل فقد جمعت تحت عنوان «مذكرات شرلوك هولمز»، وتشمل 11 قصة. وقد نالت هذه القصص رواجا كبيرا وشهرة عريضة، إلى درجة ضاق المؤلف ذاته بها، إذ إنها غطت على أنشطته الأخرى وكتبه الأخرى ذات القيمة التاريخية. ولذلك عمد دويل في رواية من رواياته إلى التخلص من شرلوك هولمز بأن جعله يلقى مصرعه! بيد أن قراءه ثاروا عليه وطالبوه بالعودة إلى الكتابة عنه وبعثه من جديد، حتى اضطر إلى ذلك برواية «عودة شرلوك هولمز». ويعتبر شرلوك هولمز اليوم من أشهر أبطال الروايات البوليسية في تحقيق الجرائم الغامضة، وقد شكل مع صديقه واطسون ثنائيا رائعا يذكرنا - وإن على نحو مخالف - بالثنائي دون كيشوت وسانشو بانزا.
وتتابع بعد ذلك عدد من المخبرين المشهورين، على رأسهم «هركيول بوارو» الذي ابتدعته قريحة «أجاثا كريستي» (1890-1976م)، ملكة الرواية البوليسية ذات الحبكة المتقنة. وقد كتبت كريستي عددا من أبدع روايات الجرائم الملغزة التي أمتعت وما تزال تمتع قراءها إلى اليوم، وأشهرها «عشرة هنود صغار» التي ترجمت إلى العربية بالعنوان ذي الدلالة «عدالة مجنون». وهناك أيضا رواياتها المشهورة «جريمة على النيل» و«قطار الشرق السريع» و«روجر أكرويد». وإذا أخذ القارئ روايتها الشهيرة «جريمة قطار الشرق السريع»، فإنه سيرى حبكتها الرئيسية، وهي تعاقب أشخاص مختلفين على قتل أحد الأشخاص، بحيث يظن كل واحد منهم أنه هو قاتله، موجودة بقضها وقضيضها في حكاية الأحدب والخياط، حين ظنت امرأة الخياط أنها قتلت الأحدب، فيتركانه عند الطبيب اليهودي الذي يعتقد أنه قد قتله، فيلقيه لدى أحد مموني الخليفة (وتلقبه القصة بالاسم الغريب: المباشر) الذي يظنه لصا فيضربه فإذا هو ميت بين يديه، فيتم إلقاء القبض عليه، ويأتي الآخرون ليعترفوا أنهم هم من قتلوا الأحدب، إلى أن تتضح حقيقة الأمر للجميع بعد التحقق مما حدث منذ بادئ الأمر. ولا خلاف على ألفة أجاثا كريستي بألف ليلة وليلة، وهي التي قضت شطرا من حياتها في بغداد، وزارت مصر وغيرها من الأقطار العربية والإسلامية، ولها قصص بوليسية تقع حوادثها في تلك البلاد، لعل أشهرها قاطبة «جريمة في وادي النيل» وهو الاسم الذي ترجم به العنوان الأصلي
DEATH ON THE NILE .
كذلك اشتهر المفتش «ميجريه» للكاتب البلجيكي «جورج سيمنون» (1903-1989م) الذي ظهر في عشرات من رواياته. وفي فرنسا، قدم الكاتب «موريس لبلان» (1864-1941م) شخصيته الشهيرة «أرسين لوبين». وعلى العكس من بوارو وميجريه وهولمز، كان لوبين لصا، ولكنه لص عادل وظريف وحاذق، يبذل جهده لرد الحقوق إلى أصحابها، وإقامة العدل، فكأنما هو نوع حديث من شخصية «روبين هود».
وقد بلغ من شهرة تلك الشخصيات القصصية الخيالية أن اعتقد بعض القراء أنها شخصيات حقيقية، وأرسلوا الخطابات إلى شرلوك هولمز على عنوان مسكنه في «بيكر ستريت» بلندن. ومن ناحية أخرى، افتتحت مدينة «إترتا» بشمال فرنسا متحفا لشخصية أرسين لوبين. وتلك المدينة كانت مسرحا لأحد أشهر روايات موريس لبلان وأرسين لوبين وهي رواية «المسلة الجوفاء».
وقد كان تأثير تلك الروايات البوليسية كبيرا على القارئ العربي، منذ ظهرت ترجماتها في الثلاثينيات من القرن العشرين، خاصة في سلسلة «روايات الجيب»، نظرا لأحداثها المشوقة ومغامراتها المتنوعة التي تغري النشء على القراءة. وقد راجت تلك الترجمات رواجا كبيرا في تلك الأيام - خاصة في مصر - إلى الحد الذي زعم معه البعض بأن بعض المترجمين العرب كانوا يؤلفون القصص من خيالهم ثم ينسبونها إلى موريس لبلان وأجاثا كريستي وكونان دويل! وتتضح كثرة القصص التي صدرت بالعربية لهؤلاء المؤلفين للروايات البوليسية بالرجوع إلى «الثبت الببليوجرافي للكتب المترجمة للغة العربية في مصر» (الصادر عام 2002م عن دار الكتب والوثائق القومية بمصر) ورؤية الكم الهائل لروايات أرسين لوبين وشرلوك هولمز وغيرهما التي صدرت في مصر، ناهيك عما صدر منها في الأقطار العربية الأخرى! وكان من فضل تلك الروايات التشويقية أن حببت ذلك الجيل في القراءة عموما، وانتقل بعدها إلى القراءة الأدبية في عالم الأدب الواسع المتنوع. ومن عجب أن الأدب العربي الحديث لم ينجب شخصيات بوليسية مماثلة، ولكن لنا في ذلك عوض فيما عرضنا من حبكات بوليسية وتحقيقية في قصص ألف ليلة وليلة، وكذلك في بعض العناصر من مقامات الحريري الذي يقوم بطلها أبو زيد السروجي بمغامرات في التخفي والتنكر تحيل إلى بعض ملامح القص البوليسي.
كذلك كان الحال في الغرب من الإقبال الشديد على الروايات البوليسية لما تقدمه إلى القراء من تسلية وتشويق. وبعد أن شهد الخطاب الروائي الغربي نماذج متعددة من التجديد التجريبي في طرق السرد على يد جيمس جويس ومارسيل بروست وفرجينيا وولف، ومع كتابات همنجواي وفوكنر وشتاينبك، اعتبرت الرواية البوليسية في مستوى أدنى من حيث القيمة الأدبية. بيد أن الأمر قد تغير اليوم، فقد عادت الرواية الغربية - خاصة الأمريكية - تبحث عن عناصر التشويق
SUSPENSE
والإثارة
THRILL
والغموض، الذي يطلبه القارئ العادي. وبعد الكثير من الروايات الرمزية والحداثية، أصبح الروائيون يحرصون على تضمين رواياتهم دائما «عنصرا بوليسيا» وألغازا تشويقية، مما يضفي على الحبكة نوعا من الغموض الذي يشد القارئ ويحمله على مطالعة الرواية حتى آخرها. ونحن نجد ذلك واضحا عند «نورمان ميلر» و«بول أوستير» (خاصة في ثلاثيته عن مانهاتن) و«فيليب روث» و«ديفيد لودج» و«كارول أوتس» وغيرهم كثيرون. كما ظهر جيل جديد من كتاب الرواية البوليسية (في صورة متجددة) في أمريكا، تظل كتبهم في خانة أعلى المبيعات التي تنشرها جريدة النيويورك تايمز كل أسبوع في ملحقها الأدبي، ومنهم: جون جريشام، سدني شلدون، جيمس باترسون، نورا روبرتس، دين كونتز، توم كلانسي، وكثير غيرهم.
لمحات فرويدية في ألف ليلة وليلة
«... لكن يا أمي ما سبب كون الملكة تبغض الرجال؟ فقالت يا ولدي، اعلم أن لها بستانا مليحا ما على وجه الأرض أحسن منه، فاتفق أنها كانت نائمة فيه ذات ليلة من الليالي فبينما هي في لذيذ النوم إذ رأت في المنام أنها نزلت في البستان فرأت صيادا قد نصب شركا ونثر حوله قمحا وقعد على بعد منه ينظر ما يقع فيه من الصيد، فلم يكن إلا مقدار ساعة وقد اجتمعت الطيور لتلتقط القمح فوقع طير ذكر في الشرك وصار يتخبط فيه فنفرت الطيور عنه وأنثاه من جملتها، فلم تغب عنه غير ساعة لطيفة ثم عادت إليه وتقدمت إلى الشرك وحاولت العين التي في رجل طيرها ولم تزل تعالج فيها بمنقارها حتى قرضتها وخلصت طيرها، كل هذا والصياد قاعد ينعس. فلما أفاق نظر إلى الشرك فرآه قد انفسد، فأصلحه وجدد نثر القمح وقعد على بعد من الشرك. فبعد ساعة وإذا بالطيور قد اجتمعت عليه ومن جملتها الأنثى والذكر، فتقدمت الطيور لتلتقط الحب وإذا بالأنثى قد وقعت في الشرك وصارت تختبط فيه، فطار الحمام جميعه عنها وطيرها الذي خلصته من جملة الطيور، ولم يعد إليها، وكان الصياد غلب عليه النوم ولم يفق إلا بعد مدة مديدة. فلما أفاق من نومه وجد الطيرة وهي في الشرك، فقام وتقدم إليها وخلص رجليها من الشرك وذبحها. فانتبهت بنت الملك وهي مرعوبة وقالت: هكذا تفعل الرجال مع النساء، فالمرأة تشفق على الرجل وترمي روحها عليه وهو في المشقة وبعد ذلك إذا قضى عليها المولى ووقعت في مشقة فإنه يفوتها ولم يخلصها وضاع ما فعلته معه من معروف، فلعن الله من يثق في الرجال فإنهم ينكرون المعروف الذي تفعله معهم النساء. ثم إنها بغضت الرجال من ذلك اليوم.»
حكاية أردشير وحياة النفوس «... ثم ادخل إلى الباب السابع واطرقه فتخرج لك أمك، وتقول لك: مرحبا يا ابني، قدم حتى أسلم عليك. فقل لها: خليكي بعيدة عني واخلعي ثيابك. فتقول لك: يا ابني أنا أمك ولي عليك حق الرضاعة والتربية، كيف تعريني؟ فقل لها: إن لم تخلعي ثيابك قتلتك. وانظر جهة يمينك تجد سيفا معلقا في الحائط، فخذه واسحبه عليها، وقل لها اخلعي، تصير تخادعك وتتواضع إليك، فلا تشفق عليها، فكلما تخلع لك شيئا قل لها اخلعي الباقي. ولم تزل تهددها بالقتل حتى تخلع لك جميع ما عليها وتسقط. وحينئذ تكون قد حللت الرموز وأبطلت الأرصاد. وحين أبدى جودر الجزع من هذه الأهوال العظيمة قال له المغربي: يا جودر لا تخف، إنهم أشباح من غير أرواح ...»
حكاية جودر الصياد «... وكانت شهرزاد في هذه المدة قد خلفت من الملك ثلاثة أولاد ذكور. فلما فرغت من هذه الحكاية قامت على قدميها وقبلت الأرض بين يدي الملك وقالت له: يا ملك الزمان وفريد العصر والأوان، إني أنا جاريتك ولي ألف ليلة وليلة وأنا أحدثك بحديث السابقين ومواعظ المتقدمين، فهل لي في جنابك من طمع حتى أتمنى عليك أمنية؟ فقال لها الملك: تمني تعطي يا شهرزاد. فصاحت على الدادات والطواشية وقالت لهم: هاتوا أولادي! فجاءوا لها بهم مسرعين وهم ثلاثة أولاد ذكور: واحد منهم يمشي، وواحد يحبي، وواحد يرضع. فلما جاءوا بهم أخذتهم ووضعتهم قدام الملك وقبلت الأرض وقالت: يا ملك الزمان، هؤلاء أولادك وقد تمنيت عليك أن تعتقني من القتل إكراما لهؤلاء الأطفال، فإنك إن قتلتني يصر هؤلاء الأطفال من غير أم ولا يجدون من يحسن تربيتهم من النساء. وعند ذلك بكى الملك وضم أولاده إلى صدره وقال: يا شهرزاد، والله إني قد عفوت عنك من قبل مجيء هؤلاء الأولاد لكوني رأيتك عفيفة نقية حرة تقية، بارك الله فيك وفي أبيك وأمك وأصلك وفرعك، وأشهد الله على أني قد عفوت عنك من كل شيء يضرك. فقبلت يديه وقدميه وفرحت فرحا زائدا وقالت له: أطال الله عمرك وزادك هيبة ووقارا. وشاع السرور في سراية الملك حتى انتشر في المدينة، وكانت ليلة لا تعد من الأعمار ولونها أبيض من وجه النهار. وأصبح الملك مسرورا وبالخير مغمورا، فأرسل إلى جميع العسكر فحضروا وخلع على وزيره أبي شهرزاد خلعة سنية جليلة وقال له: سترك الله حيث زوجتني ابنتك الكريمة التي كانت سببا لتوبتي عن قتل بنات الناس، وقد رأيتها حرة نقية عفيفة زكية ورزقني الله منها بثلاثة أولاد ذكور، والحمد لله على هذه النعمة الجزيلة. ثم خلع على كامل الوزراء وأرباب الدولة، وأمر بزينة المدينة ثلاثين يوما ولم يكلف أحدا من أهل المدينة شيئا من ماله، بل كامل الكلفة والمصاريف من خزانة الملك. فزينوا المدينة زينة عظيمة لم يسبق مثلها، ودقت الطبول وزمرت الزمور، ولعبت كامل أرباب الملاعب، وأجزل لهم الملك العطايا والمواهب وتصدق على الفقراء والمساكين وعم بإكرامه سائر رعيته وأهل مملكته ...»
الخاتمة •••
لم يكن علم النفس، على النحو الذي ظهر على يد فرويد وأتباعه، معروفا أيام ألف ليلة وليلة بطبيعة الحال، بيد أن من يتأمل في القصة التي أخذنا منها الاقتباس الأول يعجب من التماثل الغريب بين الواقعة التي تتضمنها تلك الحكاية، وبين أصول التحليل والعلاج النفسيين على نحو ما نعرفه اليوم. فنحن هنا أمام عقدة نفسية مركبة، لم تنشأ عن واقعة حقيقية، بل عن حلم تراه إحدى الأميرات ابنة أحد الملوك فيصيبها بتلك العقدة النفسية الدفينة. ويتمثل الحلم في غدر طير ذكر بأنثاه، رغم أن الأنثى كان قد سبق لها أن أنقذت زوجها ذكر الطير من شرك أي فخ نصبه صائد للطيور. إلا أن الذكر لم يفعل مع أنثاه نفس الشيء حين وقعت هي في الفخ ذاته، وتركها تلقى مصيرها بالذبح على يد الصياد. وقد انعكست هذه العقدة النفسية في شكل كراهية الأميرة للرجال على وجه العموم، لما رأته من غدر وخسة وخيانة ذكر الطير الذي يرمز لديها للذكور جميعا.
وتأتي هذه العقدة في سياق حكاية نمطية من حكايات ألف ليلة وليلة، حيث يسمع أردشير ابن ملك شيراز عن جمال حياة النفوس ابنة الملك عبد القادر ملك العراق، فيعقد العزم على وصالها، ويخرج من بلاده بحثا عنها والفوز بها - على السماع - (كما يحدث في غرام دون كيشوت بدولسينيا). ويصل أردشير بصحبة وزير أبيه إلى العراق، ويفتتح محلا للتجارة الثمينة، ويشتهر بجوده وكرمه. وتزوره مربية حياة النفوس فيبوح لها بسره، ويحملها رسائل حب وغرام إلى سيدتها الأميرة بنت الملك. وترد الأميرة على رسائله برسائل تطلب منه الكف عن حبها وتهدد بقتله إذا واصل مكاتبتها. وتبوح المربية العجوز لأردشير عن «العقدة النفسية» التي سببت كراهية الأميرة لصنف الرجال. فماذا يفعل أردشير؟ عندئذ يهب الوزير لمساعدته، ففكر في حيلة جعلته يقوم بما يمكن أن يقوم به أرقى المعالجين النفسيين المحدثين، ولكن على نحو فعلي وليس نظريا، دونما جلسات استماع أو علاج بالأدوية أو الصدمات الكهربائية!
فقد علم أردشير والوزير من المربية أن حياة النفوس لها بستان عظيم، تخرج للفرجة عليه والتنزه فيه مرة في السنة، فيحتال الوزير على حارس البستان العجوز الفقير ليسمح له برسم «جدارية» كاملة على جدران البستان المهملة. وأتى الوزير بالعمال والبنائين، وطلب منهم رسم الجدارية على شكل لوحات على الوجه التالي: صياد ينصب فخا للطيور وينثر فيه قمحا. تجتمع عليه الطيور فيقع ذكر طير في الشرك. تهرب جميع الطيور ومنهم أنثى الذكر. تعود الأنثى وتقرض حبال الشرك حتى تخلص ذكرها بينما الصياد نائم. يصحو الصياد وينصب الشرك مرة أخرى وبه القمح. تنشبك أنثى الطير في الفخ ويطير عنها الطيور ومنهم ذكرها. حين يطير الذكر يلتقطه نسر جارح ويلتهمه. لهذا لم يعد الذكر لإنقاذ أنثاه، التي يذبحها الصياد.
ويشرح الوزير لأردشير سبب ذلك الرسم بقوله: «أنا الذي فعلت ذلك الأمر وأمرت الدهانين بتصوير المنام وأن يجعلوا الطير الذكر في مخالب النسر الجارح وقد ذبحه وشرب من دمه وأكل لحمه. حتى إذا نزلت بنت الملك ونظرت إلى هذا الدهان ترى صورة هذا المنام وتنظر إلى الطير وقد ذبحه النسر الجارح فتعذره وترجع عن بغضها للرجال.»
وهكذا يمضي العلاج الفعال. تذهب الأميرة لزيارة بستانها، فتلاحظ من الخارج أنه جرى تجديد الجدران، وحين تدخل ينتابها العجب مما تراه، وتهتف بمربيتها: «تعالي انظري شيئا عجيبا .. ادخلي صدر الإيوان وانظري!» وكانت المربية مطلعة على الحيلة، وكأنها مساعدة الطبيب النفسي أو ممرضة عنده، فهي تتأمل الجدارية متعجبة، ثم تقول لها شارحة: «إن هذا هو صورة البستان والصياد والشرك وجميع ما رأيته في المنام، وما منع الذكر، لما طار، من أن يعود إلى أنثاه ويخلصها من شرك الصياد إلا مانع عظيم، فإني نظرته تحت مخالب النسر الجارح وقد ذبحه وشرب دمه ومزق لحمه وأكله، وهذا يا سيدتي سبب تأخيره عن العودة إليها وتخليصها من الشرك ...» فقالت بنت الملك «... هذا الطير جرى عليه القضاء والقدر ونحن قد ظلمناه.» وتفيض المربية في الدفاع عن ذكر الطير وعن الرجال عموما حتى زال كل ما في قلب الأميرة بنت الملك من بغض للرجال!
وتمضي القصة بعد ذلك في مجراها وأحداثها الجسام ما بين مد وجزر، وتنتهي إلى زواج أردشير وحياة النفوس بعد الكثير من المغامرات والملابسات العجيبة.
أما الاقتباس الثاني من قصة جودر الصياد فيشير بوضوح إلى عقدة أوديب ومتعلقاتها. وقد وجد المعلقون الكثير من الأصداء الأسطورية في تلك الحكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، والحبكة التي تعنينا من تلك الحكاية الكثيرة الأحداث تتعلق بكنز مرصود يسمى كنز الشمردل، ولا يمكن الوصول إليه وفتحه إلا عن طريق أداء طقوس معينة في زمن معين، والحرص على عدم التهاون في أداء تلك الطقوس والمراسم - قيد أنملة - رغم المصاعب والأهوال، وإلا بطل السحر وتعين الانتظار إلى نفس الوقت من العام الذي يليه. وكل هذه الأمور ترجع إلى عهود بدائية وأساطير يجمعها اللاوعي الجماعي الذي صوره «جيمس فريزر» في «الغصن الذهبي» و«مود بودكين» في كتابها «النماذج العليا في الشعر». ويوصي الساحر المغربي جودر بما يجب عمله للعبور سليما من تلك المحاذير والوصول إلى الكنز، ومن بين تلك المحاذير مقابلة تجري لجودر مع أمه في الباب السابع من أبواب الكنز المرصود، وهي في قاع نهر يتعين على جودر ولوجها بعد أن قام الساحر بتجفيف مياه ذلك النهر للوصول إلى الأبواب. وينفذ جودر تعاليم الساحر المغربي، حتى إذا وصل إلى لقاء الأم، تتفاعل العقدة الأوديبية في نفس جودر، ويعجز عن استيعاب ما ذكره له الساحر من أن الأم هنا شبح فحسب، فلما تلح عليه بألا يفضحها بخلع آخر ما تبقى عليها من ثياب تغطي العورة، يخالف الأمر ويسمح لها بالإبقاء على ما يسترها، وهو ما يبطل السحر، إذ لما يقول لها ذلك «صاحت وقالت: قد غلط فاضربوه، فنزل عليه ضرب مثل قطر المطر واجتمعت عليه خدام الكنز فضربوه علقة لم ينسها في عمره ودفعوه فرموه خارج باب الكنز وانغلقت أبواب الكنز كما كانت؛ فلما رموه خارج الباب أخذه المغربي في الحال وجرت المياه في النهر كما كانت.»
وحين يحكي جودر للمغربي الساحر ما حدث، يقول له ذاك: «أما قلت لك لا تخالف؟ لقد أسأتني وأسأت نفسك.» ويتعين عليهما الانتظار إلى نفس الوقت في السنة التالية، حيث يقوم جودر والساحر بنفس الطقوس، ويذكره الساحر قائلا «لا تظن أن المرأة أمك وإنما هي رصد في صورة أمك ومرادها أن تغلطك.» وفي هذه المرة، يصمم على أن تخلع الأم كل ما عليها من ثياب، وحين تفعل ذلك، صارت شبحا من غير روح. ويعلق الدكتور شكري عياد في كتابه القيم «البطل في الأدب والأساطير» على ذلك الموقف خير تعليق بقوله: «بهذا الوضوح الرائع يصور القصص الشعبي، الذي احتفظ بقدر كبير من موضوعية الأسطورة وتعبيرها المركز المباشر، عقدة أوديب. يصورها تعلقا بوهم الطفولة عن الأم، ذلك الوهم الذي لم يعد يلتئم مع ما عرفه الشباب أنه وهم قاتل، أخطر من خوف الموت نفسه، لأن الإنسان لا يدرك خوف الموت إلا فرعا من خوف أقدم وآصل، وهو خوف الحرمان من الأم. ولا يقتل البطل هذا الوهم إلا بسيف الإصرار. ولكن ليست الشجاعة وحدها هي عدة البطل في القصة الشعبية، فقبلها ذلك الساحر العليم بالكنوز، والذي يوجهه إلى ما ينبغي أن يفعل (كما هو شأن الكبار في طقوس العبور والآلهة العالمين بالخفايا في الأساطير والملاحم). على البطل إذا أن يواجه هذا الغول الخطر ذا المظهر الحبيب، هذا الانحراف المدمر لحاجات الحاضر نحو لذات الماضي. وعندما يواجه الوهم بالتصميم على المعرفة، يسقط الوهم «شبحا بلا روح» وتنفتح للبطل كنوز الحياة.»
وثمة لمحة فرويدية أخرى في حكاية مسرور وزين المواصف. وفي القصة، تعيش زين المواصف مع رجل يهودي اختطفها وادعى أنها زوجته، ولكن قلبها يهوى التاجر مسرور، وهي تحتال على لقائه كلما كان الزوج المزيف مرتحلا عنها. وحتى حين يأتي الزوج إلى زين المواصف، يظل قلبها مشغولا بمسرور، ويبدو ذلك الانشغال في اللاوعي وهي نائمة، فتلهج في منامها باسم حبيبها: «... وأما زين المواصف فإنها لم تنم بل صار قلبها مشغولا بمسرور، واستمر ذلك الأمر إلى ثاني ليلة وثالث ليلة، ففهم اليهودي أمرها ونقد عليها وهي مشغولة البال فأنكر عليها. وفي رابع ليلة انتبه من منامه نصف الليل فسمع زوجته تلهج في منامها بذكر مسرور وهي نائمة في حضنه ...» وهذا الأمر معروف أيضا في علم النفس الحديث بعثرات اللسان، حين يكون لاوعي المرء مشغولا بشخص ما، فيطلق اسمه في غفلة على شخص آخر يكون معه. وفي تلك الحكاية، هو اللاوعي يمارس سطوته على العقل الواعي فيظهر عليه حين يكون المرء مستغرقا في نومه؛ وهذا وارد تماما في نظرية فرويد عن اللاوعي.
ويتناول الباحث «برونو بتلهايم» في كتابه «معنى حكايات الجنيات وأهميتها» (1976م) التفسيرات السيكلوجية لحكايات الجنيات، ويعالج بعض قصص ألف ليلة وليلة من هذا المنظور، فهو يفسر «حكاية عبد الله البحري وعبد الله البري» تفسيرا فرويديا، فيعتبر أن الرجلين يمثلان طرفين متضادين في النفس الإنسانية الواحدة، فعبد الله البري يمثل الأنا
THE EGO ، بينما يمثل عبد الله البحري الهو
THE ID ، وتصور مغامرات عبد الله البحري - على نحو ما - تهاويم وفانتازيات عبد الله البري.
أما الاقتباس الثالث الوارد في صدر هذا الفصل، فهو علة وجود حكايات ألف ليلة ذاتها. إذ إن شهرزاد قد توسلت بالحيلة إلى صرف نظر الملك شهريار - زوجها - عن عادته في قتل العروس التي يتزوجها في الصباح، وما الحيلة التي لجأت إليها شهرزاد إلا قص الحكايات المشوقة عليه. وقد انعكست آية التحليل النفسي هنا، فبدلا من أن يجلس المريض النفسي (ولا شك أن شهريار واحد من هؤلاء المرضى) أمام الطبيب النفسي ويحكي له همومه وهواجسه ومسار حياته، إذ به يجلس أمام الطبيبة النفسية - شهرزاد - التي تعالجه بتقديم حكايات وقصص تفصيلية تجسم أمامه كل مظاهر الحياة الإنسانية ومنها العقد النفسية التي يعاني منها خاصة، وأهمها غدر النساء. حقيقة أن الكثير من قصص شهرزاد يزخر بمكائد النساء وحيلهن وخيانتهن (انظر الفصل الخاص بذلك من هذا الكتاب) إلا أن هذا يضع المريض النفسي في مواجهة الواقع، وينبهه إلى واقع الحياة، ليدرك أن النساء - كما الإنسان عموما - فيهن الصالح والطالح، وكما أن هناك نساء خائنات، هناك الكثير من النساء الوفيات لأزواجهن، وهي واحدة منهن، فهي تعالج زوجها بالقصص، وبالحب، وبالعشرة الطيبة؛ إذ إنها قد أنجبت منه خلال الألف ليلة وليلة، ثلاثة من الأبناء! وجدير بالذكر أن الباحث «برونو بتلهايم» سالف الذكر يتبنى هذا الرأى كذلك.
وقد نعى الكثير من النقاد على شهرزاد امتثالها الخانع لزوجها، وأثارت الكاتبات النسويات
FEMENISTS
هذا الموضوع مرارا وتكرارا، غير أني هنا أراها بمثابة المرأة الذكية التي احتالت بمعرفتها وذكائها للأخذ بيد ذلك الزوج الذي ترسبت عنده «عقدة نفسية» عميقة ضد خيانة المرأة، وقادته عبر مسالك كثيفة من حبكات القصص التي تمزج الخيال بالواقع، وتقدم له الواقع بحلوه ومره، بخيانة المرأة ووفائها، وجمالها وقبحها، حتى تنجح في النهاية في علاج زوجها، مما يؤدي إلى أن تنتهي تلك الحكايات هذه النهاية السعيدة التي قرنت الهناء بالشفاء.
وفي الطرف المقابل، تجدر الإشارة إلى اهتمام سيجموند فرويد نفسه بحكايات ألف ليلة وليلة، التي ذكرها في معرض تحليله لحالات نفسية معينة عند مرضاه، مثل حالة «الرجل الفأر» التي ذكر فيها القرد ذا العين الواحدة في الليالي العربية. وقد أشار فرويد إلى القصص المروية في حكاية الحمال والبنات ، خاصة حكاية الصعلوك الثاني التي يقص فيها كيف تحول إلى قرد، ولاحظ أن الصعاليك الثلاثة قد فقدوا عينا نتيجة ظروف ذات طابع جنسي. ويذكر البروفيسور بيتر كراكشيولو في حواشي كتابه الذي رجعنا إليه سابقا، أنه بحلول عام 1914م، نما اهتمام فرويد بالتفسيرات العربية والشرقية للأحلام، وأن الاهتمام بألف ليلة وليلة وحكاياتها كان قويا في «فيينا» في الوقت الذي كان فرويد مقيما فيها.
الأحلام
«... فاتفق أنه كان نائما في ليلة من الليالي فرأى في نومه أنه في روضة من أحسن الرياض وفيها أربعة طيور من جملتها حمامة بيضاء مثل الفضة المجلية، فأعجبته تلك الحمامة وصار في قلبه منها وجد عظيم، وبعد ذلك رأى أنه نزل عليه طائر عظيم خطف تلك الحمامة من يده فعظم ذلك عليه، ثم بعد ذلك انتبه من نومه فلم يجد الحمامة فصار يعالج أشواقه إلى الصباح فقال في نفسه لا بد أن أروح اليوم إلى من يفسر لي هذا المنام ...»
حكاية مسرور التاجر مع معشوقته زين المواصف «... ومما يحكى أن رجلا من بغداد كان صاحب نعمة وافرة ومال كثير، فنفد ماله وتغير حاله وصار لا يملك شيئا ولا ينال قوته إلا بجهد جهيد. فنام ذات ليلة وهو مغمور مقهور فرأى في منامه قائلا يقول له: إن رزقك بمصر فاتبعه وتوجه إليه. فسافر إلى مصر، فلما وصل إليها وأدركه المساء نام في مسجد. وكان بجوار المسجد بيت، فقدر الله تعالى أن جماعة من اللصوص دخلوا المسجد وتوصلوا منه إلى ذلك البيت، فانتبه أهل البيت على حركة اللصوص وقاموا بالصياح. فأغاثهم الوالي بأتباعه فهرب اللصوص. ودخل الوالي المسجد فوجد الرجل البغدادي نائما في المسجد فقبض عليه وضربه بالمقارع ضربا مؤلما حتى أشرف على الهلاك وسجنه. فمكث ثلاثة أيام في السجن ثم أحضره الوالي وقال له: من أي البلاد أنت ؟ قال: من بغداد. قال له: وما حاجتك التي هي سبب في مجيئك إلى مصر؟ قال: إني رأيت في منامي قائلا يقول لي إن رزقك بمصر فتوجه إليه، فلما جئت إلى مصر وجدت الرزق الذي أخبرني به، تلك المقارع التي نلتها منك. فضحك الوالي حتى بدت نواجذه وقال له: يا قليل العقل، أنا رأيت ثلاث مرات في منامي قائلا يقول لى: إن بيتا في بغداد بخط كذا وصفة كذا بحوشه جنينة تحتها فسقية بها مال له جرم عظيم فتوجه إليه وخذه، فلم أتوجه. وأنت من قلة عقلك سافرت من بلدة إلى بلدة من أجل رؤيا رأيتها وهي أضغاث أحلام. ثم أعطاه دراهم وقال له: استعن بها على عودتك إلى بلدك .. فأخذها وعاد إلى بغداد. وكان البيت الذي وصفه الوالي في بغداد هو بيت ذلك الرجل. فلما وصل إلى منزله حفر تحت الفسقية فرأى مالا كثيرا ووسع الله عليه ورزقه. وهذا اتفاق عجيب.»
حكاية إفلاس رجل من بغداد «... فجاءه ذلك الأعرابي بالقصيدة على عادته، فلما جاء وجد جعفر مصلوبا، فجاء إلى المحل الذي هو مصلوب به وأناخ راحلته وبكى بكاء شديدا وحزن حزنا عظيما وأنشد القصيدة ونام. فرأى جعفر البرمكي في المنام يقول له: إنك أتعبت نفسك وجئتنا فوجدتنا على ما رأيت، ولكن توجه إلى البصرة واسأل عن رجل اسمه كذا وكذا من تجار البصرة وقل له: إن جعفر البرمكي يقرئك السلام ويقول لك اعطني ألف دينار بأمارة الفولة. فلما انتبه الأعرابي من نومه توجه إلى البصرة فسأل عن ذلك التاجر واجتمع به وبلغه ما قال جعفر في المنام، فبكى التاجر بكاء شديدا حتى كاد أن يفارق الدنيا، ثم إنه كرم الأعرابي وأجلسه عنده وأحسن مثواه ومكث عنده ثلاثة أيام مكرما. ولما أراد الانصراف أعطاه ألفا وخمسمائة دينار وقال له: الألف هي المأمور لك بها والخمسمائة إكرام مني إليك، ولك في كل سنة ألف دينار ...»
حكاية جعفر البرمكي والفوال «... وقالوا لي: أتعرف منزل أبي حسان الزيادي؟ فقلت لهم: هو أنا. قالوا: أجب أمير المؤمنين. فسرت معهم حتى دخلت على المأمون فقال لي: من أنت؟ قلت: رجل من أصحاب القاضي أبي يوسف، من الفقهاء وأصحاب الحديث. فقال: بأي شيء تكنى؟ قلت: بأبي حسان الزيادي. قال اشرح لي قصتك. فشرحت له خبري، فبكى بكاء شديدا وقال: ويحك، ما تركني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنام في هذه الليلة بسببك. فإني لما نمت أول الليل قال لي: ويحك، أغث أبا حسان الزيادي. فانتبهت ولم أعرفك. ثم نمت فأتاني وقال لي: ويحك، أغث أبا حسان الزيادي. فانتبهت ولم أعرفك. ثم نمت فأتاني وقال لي: ويحك، أغث أبا حسان الزيادي. فما تجاسرت على النوم بعد ذلك وسهرت الليل كله وقد أيقظت الناس وأرسلتهم في طلبك من كل جانب ...»
حكاية أبي حسان الزيادي والخراساني «... فلما سمع المتوكل كلامها، تعجب من هذه الأبيات ومن هذا الاتفاق الغريب حيث رأت محبوبة مناما موافقا لمنامه فدخل عليها في الحجرة. فلما دخل حجرتها وأحست به بادرت بالقيام إليه وانكبت على أقدامه وقبلتها وقالت: والله يا سيدي، لقد رأيت هذه الواقعة في منامي ليلة البارحة، فلما انتبهت من النوم نظمت هذه الأبيات. فقال لها المتوكل: والله إني رأيت مناما مثل ذلك. ثم إنهما تعانقا واصطلحا وأقام عندها سبعة أيام بلياليها ...»
حكاية المتوكل ومحبوبة «... وقال لها: يا بنتي، اعلمي أني رأيت في هذه الليلة رؤيا وأنا خائف عليك منها وخائف أن يصل لك من سفرك هذا هم طويل. فقالت له: لأي شيء يا أبت؟ وأي شيء رأيت في المنام؟ قال: رأيت كأني دخلت كنزا فرأيت فيه أموالا عظيمة وجواهر ويواقيت كثيرة وكأنه لم يعجبني من ذلك الكنز جميعه ولا من تلك الجواهر جميعها إلا سبع حبات وهي أحسن ما فيه. فاخترت من السبع جواهر واحدة وهي أصغرها وأحسنها وأعظمها نورا وكأني أخذتها في كفي لما أعجبني حسنها وخرجت بها من الكنز، فلما خرجت من بابه فتحت يدي وأنا فرحان وقلبت الجوهرة وإذا بطائر غريب قد أقبل من بلاد بعيدة ليس من طيور بلادنا قد انقض علي من السماء وخطف الجوهرة من يدي ورجع بها إلى المكان الذي أتيت بها منه، فلحقني الهم والحزن والضيق وفزعت فزعا عظيما أيقظني من المنام، فانتبهت وأنا حزين متأسف على تلك الجوهرة. فلما انتبهت من النوم دعوت المعبرين والمفسرين وقصصت عليهم منامي فقالوا لي: إن لك سبع بنات تفقد الصغيرة منهن وتؤخذ منك قهرا بغير رضاك ...»
حكاية حسن البصري الصايغ •••
ليس أقرب إلى الحدث القصصي من الأحلام، فمادة الحلم لا يمكن أن تكون مجردة؛ فكما قال سلامة موسى في كتابه أسرار النفس «ومما يلاحظ في الأحلام أن العقل الكامن يعبر فيها عن المعاني المجردة بأشياء مجسمة، فنحن لا نرى في الحلم الطول أو الجمال، ولكننا نرى رجلا طويلا أو امرأة جميلة أو قصرا شاهقا أو سارية عالية.» وقد تطورت القصة من تجسيد الأحداث إلى تجسيد الشخصيات، ثم تطور السرد بعد ذلك إلى وصف الأفكار والتهويمات المجردة المطلقة.
وفي بداية الفيلم الذي أعده المخرج الإيطالي بازوليني عن ألف ليلة وليلة، نرى على الشاشة اقتباسا يقول «العمل الفني يتكون لا من حلم واحد فحسب، بل من أحلام عديدة.» وهو لم يفعل ذلك عبثا، فالواقع أن الأحلام والرؤى تلعب دورا هاما في حكايات ألف ليلة وليلة، ويستبين ذلك من الاقتباسات العديدة التي أوردناها هنا من الحكايات التي تزخر بالأحلام في الكتاب. والواقع أن الكتاب ذاته، بحكم طبيعته وظروفه - باعتبار أن قصصه وحكاياته تسرد كلها ليلا - يشكل حلما طويلا متصلا، يزخر بكل أنواع النشاط الإنساني، ويمتلئ بالرغبات والشطحات والأماني والكوابيس المزعجة ومواقف الفرح والبهجة.
وإذا ألقينا نظرة فاحصة على شكل الأحلام في ألف ليلة ومضمونها، لتبدى لنا أن لها دورا سطحيا إلى حد ما، إذ هي رموز واضحة لما سيتلو بعدها من أحداث، أو هي دليل يهدي صاحب الحلم إلى حل لمشاكل يصادفها. ومن أمثال ذلك، حلم الأب ذي السبع بنات بطير غريب يخطف منه أحلى جوهرة يجدها في الكنز، وكذلك حكاية المتوكل مع محبوبة وحلمها، بيد أن هناك أحلاما «مركبة»، إن صح هذا التعبير، يلعب فيها الحلم دورا في حبكة القصة وسرديتها، مثل حكاية صاحب الكنز المدفون، الذي يدفعه حلمه إلى الترحال ثم العودة لاكتشاف الكنز، فهنا يلعب الحلم دورا أساسيا في تطور أحداث القصة. ومن الغريب أن استخدام الأحلام في التوصل إلى كنوز دفينة ما يزال مستمرا إلى عصرنا هذا. وقد تحدثت الصحف عن المصري الذي استخدم أحلامه في سبيل البحث عن مقبرة ابنة الملك خوفو؛ كما قام آخرون بالبحث عن قبر الإسكندر الأكبر في الإسكندرية وفي واحة سيوة بناء على أحلام ورؤى.
وهناك أيضا حكاية جعفر البرمكي والفوال، ونعرف من القصة الكاملة أن ذلك الفوال كان يشكو الفقر حين رآه جعفر البرمكي أيام عزه، فدعاه إليه واشترى ما كان معه من الفول بوزنه ذهبا، ولم يبق معه إلا فولة واحدة، فأخذها جعفر وفلقها نصفين وجعل جارية له تشتري نصفها بضعف الذهب المتجمع، واشترى جعفر الفلقة الثانية بقدر الجميع مرتين ذهبا. وهي قصة جميلة لا بد أنها انتشرت للإشادة بالبرامكة بعد نكبتهم.
وفي حكاية الملك جليعاد والشماس، يقوم الأساس على حلم يراه الملك جليعاد ويقصه على كبير وزرائه الشماس: «إني رأيت في ليلتي هذه مناما أهالني، وهو كأني أصب ماء في أصل شجرة، وحول تلك الشجرة أشجار كثيرة. فبينما أنا في هذه الحالة وإذا بنار قد خرجت من أصل تلك الشجرة وأحرقت جميع ما حولها من الأشجار، ففزعت من ذلك وأخذني الرعب. فانتبهت عند ذلك وأرسلت في دعوتك لكثرة معرفتك واتساع علمك وغزارة فكرك.» وينتهي تفسير الحلم بأن الملك سينجب غلاما لا يسير سيرة أبيه العادلة الحكيمة في الرعية. وينجب الملك غلاما بالفعل، ويعمل الجميع، خاصة الشماس ومعاونيه، على تنشئته تنشئة صالحة عليمة، وبالفعل حين يموت أبوه ويتولى الحكم، يسير في بداية الأمر على نحو عادل حكيم. ولكن الأحلام وتفسيرها في ألف ليلة وليلة كالقدر المرصود، إذ يستسلم الملك الابن لنصيحة إحدى نسائه ويفتك بكبير الوزراء ومستشاريه بزعم أنهم يتآمرون عليه، وتسوء سيرته بعد ذلك من دونهم، مما يحقق الحلم الذي رآه أبوه الملك من قبل، وذلك قبل أن تأخذ القصة مسارا آخر.
ومن أمثلة الأحلام السيكولوجية المعقدة، حلم حياة النفوس في حكايتها، وقد أوردنا تفصيلا لها في فصل «لمحات فرويدية»، حيث يتعلق الأمر بعقدة نفسية ترسبت لدى الأميرة حياة النفوس لدى رؤيتها حلما من الأحلام، ولا يشفيها إلا الطريقة الفرويدية الحديثة (راجع الفصل المذكور).
وقد نشأ الاهتمام بالأحلام منذ نشأة البشرية، ويرجع الأنثروبولوجيون إلى الأحلام بداية تقديس البشر للموتى، إذ يرونهم يعيشون ثانية في أحلامهم، وأدى ذلك أيضا إلى نشوء الأديان الوضعية والسحر والكهانة. وتمتلئ الأساطير الأولى للشعوب بالأحلام والرؤى، وكذلك الكتب المقدسة والملاحم القديمة. وقد وردت الأحلام في أقدم الآداب المعروفة، في ملحمة جلجامش، وفي القصص الفرعوني، وكذلك عند هوميروس، في كل من الإلياذة والأوديسة.
وقد وردت الأحلام على العرب منذ القدم، وتحدث عنها القرآن الكريم في أكثر من موضع، موحيا أن هناك ما هو أضغاث أحلام، ومنها ما هو رؤى. فقد رأى سيدنا إبراهيم في المنام أنه يذبح ابنه، وهي رؤيا بعثها الله سبحانه وتعالى إليه في صورة حلم، وقام بتنفيذها بما أدى إلى الشعيرة المعروفة وهي الهدف من وراء الرؤيا. وهناك بالطبع حلم حاكم مصر أيام النبي يوسف عليه السلام، وهي أكثر الآيات تفصيلا للأحلام والرؤى. واستمر الاهتمام العربي بالأحلام وطبيعتها ومادتها، وتمثل ذلك في تفسيرات آيات الأحلام والرؤى في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، والتعليق عليها. وقام «ابن سيرين» (توفي عام 728م) بوضع أول محاولة عربية لتفسير الأحلام. ويعكس دور الأحلام في ألف ليلة وليلة والقصص العربية الأخرى قدر الاهتمام الذي أولاه الأدب الشعبي والفولكلور للحلم والرؤى.
واستمر تناول الأحلام في كتب الأدب العربي. فرسالة الغفران لأبي العلاء المعري (937-1057م) تقدم على أنها رؤيا ترحالية في الفردوس والجحيم، تتابع فيها المشاهد والأشخاص في سرد حلمي مجسد. ومن قبلها، كتب ابن شهيد الأندلسي (922-1034م) رؤيا مشابهة في كتابه «رسالة التوابع والزوابع»، حيث يقتاده جني من بني عبقر اسمه زهير بن نمير إلى لقاء من أحب من نوابغ شعراء العرب السابقين عهده.
ثم ازدهرت كتابات الرؤى والأحلام الرؤيوية في مؤلفات علماء الصوفية، وعلى رأسهم ابن عربي، الذي تزخر كتبه برؤى لا يدرك مداها أو معناها إلا النفوس التي جربت تلك اللمحات النورانية بنفسها. وقد تركت تلك المؤلفات الصوفية أثرا بالغا في التصوف الغربي المسيحي وفي الكتابات القصصية الروحية الأخرى.
ويهمنا هنا أيضا التناول الأدبي والقصصي للأحلام؛ ذلك أن الكتابات الأدبية قد احتوت منذ القدم على مدخل الأحلام، ولا يزال هذا المدخل يتواجد في الكتابات المعاصرة. وقلما تخلو سيرة حياة أدبية، أو مذكرات ويوميات، من تسطير أحلام هامة رآها الكاتب وأراد أن يسطرها في كتاباته؛ وأحيانا أخرى تشكل الأحلام كتبا مستقلة بذاتها. ومن أوائل من سطر أحلامه في مذكراته أو يومياته الإنجليزي «صمويل بيبس» قديما، وحديثا - نوعا ما - فرانز كافكا، الذي احتوت مذكراته على أحلام كثيرة يوردها في ثنايا المذكرات، وهي ذات دلالة هامة في تتبع حياة الكاتب وهمومه وشواغله في الفترات التي كان يدون فيها تلك الأحلام.
ومن ناحية أخرى، هناك أعمال أدبية أوروبية تقوم على الأحلام في المقام الأول. فالكوميديا الإلهية يفترض أنها رؤيا من الرؤى لمؤلفها دانتي. وحديثا، صاغ جيمس جويس كتابه الأخير «فنجانز ويك» بوصفه حلما معقدا للبشرية كلها متمثلة في شخصية
HERE COMES EVERYBODY
الذي يرمز للبشر أجمعين. والكتاب كله حلم طويل، كما أن ألف ليلة وليلة تشبه الحلم المتواصل الحلقات.
وقد امتلأت أعمال الرومانسيين الأدبية بالأحلام وذكرها، فلدينا أهم مثل عليها في قصيدة كولردج «قبلاي خان» الذي يذكر أن سطورها قد جاءت له في المنام، وأنه أسرع بعد اليقظة بتدوينها بصورة تلقائية، إلى أن قطع عليه الوحي أحد الزوار، ولم يتمكن بعد ذلك من تذكر بقية الحلم. كذلك أورد «دي كوينسي» بعض أحلامه، وإن كانت تحت تأثير المخدر الذي كان يتعاطاه وكتب عنه في مؤلفه «مذكرات متعاطي الأفيون». ويذكر روبرت لويس ستيفنسون أن حبكة روايته الشهيرة «دكتور جيكل ومستر هايد» قد جاءته في أحد أحلامه حين كان في أمس الحاجة إلى الكتابة.
وثمة مثال أساسي نثبته هنا مفصلا نظرا لأهميته وصلته بالموضوع، هو الحلم الغريب الذي أثبته الشاعر الرومانسي وليام وردزورث في «المقدمة» وجمع فيه على نحو مثير بين العرب وسرفانتس ودون كيشوت، وهو الشاعر الذي تأثر كثيرا في طفولته وشبابه بحكايات ألف ليلة وليلة. والحلم ورد في الكتاب الخامس من المقدمة في صياغتها الأخيرة عام 1850م، حين يصف الكاتب غفوة انتابته بينما كان يقرأ دون كيشوت على شاطئ البحر ويحلم الحلم التالي:
رأيت منبسطا أمامي،
سهلا مترامي الأطراف.
من برية رملية،
ترين عليها الظلمة والفراغ.
وحين تطلعت حولي،
زحف فوقي شعور الحزن والخوف.
وعندها ظهر إلى جانبي،
إلى جواري القريب،
شكل غريب يمتطي جملا،
منتصبا عاليا.
كان يبدو عربيا من قبائل البدو،
يحمل رمحا.
وثمة حجر تحت إحدى ذراعيه،
ويحمل في اليد الأخرى
صدفة ذات وهج دفاق.
وابتهج فؤادي لمرآه؛
فقد وجدت فيه دليلا
يقودني للخروج من تيه الصحراء،
بمهارة لا شية فيها.
وفيما أنا أتطلع إليه،
وأحدق فيه نظراتي،
وأسأل نفسي
عن محتويات هذا الخرج
الذي يحمله الوافد الجديد تحت وسطه،
بادرني العربي يقول إن الحجر، (وأنا أستخدم هنا لغة الحلم)،
هو «مبادئ إقليدس»،
والآخر، قال لي:
هو شيء أكثر قيمة ومنزلة.
ومع قوله ذاك،
أبان أمامي الصدفة،
ذات الشكل الرائع،
والألوان البهية،
مع أمر بأن أضعها فوق أذني.
ففعلت ما أمرت.
وسمعت لحظتها لسانا أعجميا،
فهمت ما يقول برغم ذلك:
أصواتا فصيحة مبينة،
صيحة تحذير عالية ذات تساوق،
أنشودة،
تتردد منطوقة في انفعال زائد،
تتنبأ بهلاك بني الأرض،
بطوفان قريب.
وما إن انتهت الأنشودة،
حتى أعلن العربي،
بنظرة هادئة،
أن كل ماحذر منه الصوت،
آت لا محالة،
وأنه ذاهب الآن،
كيما يواري هذين الكتابين الثرى.
الكتاب الأول الخبير بالنجوم،
الذي يوفق بين النفس وقرينها،
بوشيجة العقل، الطاهرة الصافية،
لا يزعجه مكان ولا زمان،
والثاني هو إله،
أجل، آلهة كثيرة،
لها أصوات أكثر من أصوات الرياح جميعا،
وقوة تفعم الروح بالنشوة،
وتضفي هدوءا على فؤاد الإنسان،
بكل أنواع الصفاء.
وفيما كان العربي ينطق تلك العبارات
التي تبدو غاية في العجب،
لم أكن أشعر أنا بأي غرابة،
رغم أني كنت أرى الأول حجرا،
والثاني صدفة،
ولكني لم أشك لحظة
أنهما كتابان،
وكلي ثقة في صدق كل ما مر بي.
وتزايدت شوقا،
في أن ألتحق بركب ذلك الرجل،
ولكن ...
حين رجوته أن أشاركه رحلته،
أسرع مبتعدا،
دون أن يعيرني اهتماما،
بيد أني تبعته،
وكان يراني؛
إذ إنه كان يلتفت وراءه
بين الحين والحين،
وهو يقبض على كنزه المزدوج.
وركب يخب خافضا رمحه،
وأنا من ورائه أسعى،
وفجأة ...
تحول في مخيلتي،
إلى الفارس الذي يحكي سرفانتس قصته.
بيد أنه لم يكن الفارس،
بل عربي، ومن الصحراء أيضا.
وهو لم يكن أيا من هذين،
وكان كليهما في الوقت ذاته.
وفي ذلك الحين،
زحف المزيد من القلق والخوف،
على ملامح طلعته.
ونظرت ورائي إلي حيث كان ينظر،
فرأت عيناي مهدا من نور يتلألأ،
فوق نصف البرية المنبسطة.
سألته عن السبب،
قال: إنها مياه الخضم،
تتجمع فوقنا.
وطفق يحث دابته الرعناء،
على إسراع الخطى.
تركني ...
وناديت عليه بأعلى صوتي،
بيد أنه لم يأبه بي،
بل أسرع يخب فوق العماء اللامتناهي،
أمامي وتحت بصري،
وحمله المزدوج ما يزال في قبضته،
بينما تطارده المياه الجارفة التي تغرق الدنيا.
وعندها ...
صحوت يغمرني الرعب،
ورأيت البحر أمامي،
وإلى جواري،
الكتاب الذي كنت أقرأ فيه.
وهذا المثال من أجمل أمثلة الأحلام في الأعمال الشعرية التي بين يدينا.
وكانت الأحلام مادة خصبة في ميادين التفكير والفلسفة والأدب والفن، وكثر فيها التنظير والبحث والكتابة، إلى أن طلع سيجموند فرويد بكتابه العمدة عن تفسير الأحلام، وجمع فيه خلاصة أبحاثه عن هذا الموضوع وأورد فيه عددا هائلا من أحلام مرضاه وأحلامه هو نفسه، فوضع أساسا علميا لهذا النشاط الغامض الذي عرفه البشر منذ وجودهم، وكانت نظريته عن دور اللاوعي في الأحلام فتحا في عالم علم النفس انعكست فيما بعد في الفن والأدب خاصة في تقنين عامل تيار اللاشعور ودور الأحلام في الأعمال الفنية. وتجدر الإشارة إلى أن مؤلف فرويد ذاك، رغم أنه لا يشير إلى ألف ليلة وليلة بطريقة مباشرة، قد أورد في تعليقاته قصة «الرغبات الثلاث» المتضمنة في حكاياتها، وإن كانت الصيغة الفرويدية قد غيرت المضمون إلى وضع أقل صراحة عما جاءت به القصة في ألف ليلة؛ برغم أن القصة بصورتها الأصلية كانت تتناسب مع نظريات فرويد الأخرى بصورة أكبر.
فإذا انتقلنا إلى الأعمال الموازية لموضوعنا، فإننا نجد أن هناك أديبين كبيرين أصدرا كتبا موضوعها الوحيد أحلامهما، أولهما «الأستاذ»، أديبنا الكبير نجيب محفوظ، الذي ينشر منذ سنوات شذرات قصيرة عبارة عن الأحلام التي يراها. وهذه الأحلام تمثل في غالبيتها قصصا قصيرة جدا غاية في التكثيف، وربما يكون هذا نتيجة لإدخال الأستاذ بعض اللمسات الإضافية على الحلم الأصلي؛ ولكن النتيجة تجيء باهرة من الناحية القصصية المحضة. والآخر هو الروائي البريطاني جراهام جرين.
وقد خصص جرين كتابا صغيرا - صدر بعد وفاته - عن الأحلام التي كان يسطرها في كراسات، والتي بلغ عدد صفحاتها 800 صفحة؛ ولكنه اختار منها عددا صغيرا للنشر. وكان هو الذي اختار عنوان كتاب الأحلام ليكون «عالمي الخاص»، مقابل العالم المشترك، عالم حياة اليقظة الطبيعي. وقد اهتم جرين بالأحلام طوال حياته ككاتب، وكان يعدها جزءا من مهنته الأدبية. وكان يعمد إلى قراءة ما كتبه في يومه قبل أن يأوي إلى الفراش، ويترك لاوعيه يعمل في كتابه طوال الليل! وثمة أحلام أعانته على التغلب على فترات التوقف
BLOCKAGE
العارضة التي يمر بها كل الكتاب، كما أن أحلاما أخرى أمدته بموضوعات لقصصه ومنها «القنصل الفخري». وقد بلغ من امتزاج عالمه بالأحلام أنه كان أحيانا يحلم بأحلام شخصيات رواياته، مثلما يذكر أنه حدث حين كان يكتب رواية «مسألة منتهية». ويتفق جرين مع ما جاء في كتاب ج. و. دان «تجربة مع الزمن» من أن الأحلام تتضمن شذرات من المستقبل مثلما تتضمن شذرات من الماضي؛ ويتذكر في هذا الخصوص كيف أنه - حين كان في السابعة من عمره - حلم بباخرة ضخمة تغرق عشية غرق الباخرة المشهورة تيتانيك عام 1912!
فإذا تناولنا نصوص كتاب جراهام جرين نجد أنه قد قسمها بحسب موضوعات عامة، مثل: الكتاب المشهورون الذين قابلهم (في الحلم بالطبع)، ومنهم هنري جيمس وروبرت جريفز وجان كوكتو وت. س. إليوت ود. ه. لورانس وسارتر؛ وأحلام عن خدمته في المخابرات البريطانية؛ ومقابلاته مع ساسة معروفين منهم ديجول وخروشوف وكاسترو وكرومويل. وثمة أحلام عن الكتابة، والقراءات، وعن المسرح والسينما والرحلات. وفي الكتاب أقسام لا تحتوي إلا على حلم واحد، وأخرى تشمل أحلاما عديدة. وقد خرجت من قراءة الكتاب بمدى الخسارة التي نشأت حتى الآن من عدم نشر كل الأحلام التي سطرها «جرين»، ونرجو أن تكون ما زالت هناك فرصة لنشرها أو لأن يطلع عليها الباحثون في أدبه.
وهذا ما يقودنا إلى أهمية الأحلام التي يوالي نجيب محفوظ نشرها بين حين وآخر. ورغم أن الأستاذ صرح أنه غالبا ما يقوم بإضفاء لمسات إلى الأحلام التي يراها بالفعل، فإنها تتيح للقارئ - وللباحث على وجه الخصوص - النفاذ إلى صور من صور اللاوعي القصصي عند أكبر روائيينا العرب. ورغم أن الأحلام لم تنشر بالعربية بعد في كتاب يجمعها (قرأت اليوم فقط - الخميس 24 مارس 2005 - عن صدور الطبعة العربية للأحلام)، وأن هناك تفاوتا في أرقام الأحلام التي تتيسر للقارئ العربي من نشرها في عدة مجلات وصحف، فإن تلك الأحلام تقدم لنا - في صورة مقطرة - لمحات قصصية في غاية الإبداع. وأذكر هنا - فيما يتفق مع موضوع هذا الكتاب - الحلم رقم 79، عن فاتنة درب قرمز التي تظهر في كارتة (عربة) يجرها جواد مجنح، والجواد يطير فوق الأسطح إلى أن يصل إلى قمة الهرم الأكبر!
ويبدو أن اختيارات تتدخل في اختيار الأستاذ لأحلامه التي تنشر، فالشخصيات التي تترى على أحلامه المنشورة - فيما أتيح لي الاطلاع عليه منها حتى الآن - تقتصر على شخصيات عامة مثل سعد زغلول ومصطفى عبد الرازق، ثم شخصيات فنية هي سيد درويش وزكريا أحمد وجريتا جاربو. وثمة تيمة مفزعة ترددت أكثر من مرة في الأحلام المحفوظية، هي صدور حكم بالإعدام عليه دون أن يكون له أي دخل في الجرائم أو المحاكم التي تصدر الحكم.
موازنات ومقارنات
منذ صدور الترجمة الفرنسية لألف ليلة وليلة على يدي أنطوان جالان بدءا من عام 1704م، وترجماتها إلى اللغات الأخرى بعد قليل من نشرها، لاقت رواجا هائلا لا بين أوساط القراء العاديين فحسب، بل وأيضا بين كبار الأدباء. فقد رأينا من الكتاب الذي حرره البروفيسور «بيتر كراكشيولو» عن أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي، كيف «هام» بهذه القصص أدباء مثل كولردج وديكنز ووردزورث، وكيف تأثر بها على نحو كبير جوزيف كونراد وه. ج. ويلز وجيمس جويس ووليام بتلر ييتس، بل وت. س. إليوت.
وقد ترتب على النجاح الشعبي والأدبي الذي لاقاه الكتاب على كل المستويات في أوروبا وأمريكا، أن ظهر الكثير من القصص والروايات والكتب والأشعار التي تسير على خطاه وتقلد حكاياته، وقد دخل الكثير من تلك المؤلفات في عماد الأدب الغربي ووصل بعضه إلى مصاف الكلاسيات الأدبية. وسوف أقتصر هنا على عدد من الأعمال المعينة التي يستبين فيها بصورة أوضح حجم التأثر الذي تركه الكتاب العربي في العمل الأوروبي. (1) الحياة حلم
تعود هذه الحبكة القصصية التي ظهرت في أكثر من عمل أوروبي، إلى قصة «النائم اليقظان» التي وردت في ترجمة جالان الأولى وفي نسخة برسلاو، رغم أنها غير موجودة في معظم الطبعات العربية الكاملة المتداولة حاليا.
وقصة النائم اليقظان هي من أحلى قصص ألف ليلة، وهي تشكل في جزء منها عمقا في تصوير الشخصية قلما نجده في القصص الأخرى، وذلك حين يتحير «أبو الحسن» ويتوه في حيرته، أهو نائم أو مستيقظ، حين تتراوح حياته بين كونه تاجرا متوسط الحال، وبين كونه الخليفة أمير المؤمنين هارون الرشيد.
وتحكي القصة عن الشاب أبي الحسن الذي يرث تجارة أبيه وثروته، فيقرر أن يقسم ممتلكاته وأمواله إلى قسمين: الأول منهما ينفقه على مسراته، والثاني يبقيه للمستقبل ولا يمسه أبدا. ويعيش أبو الحسن في بادئ الأمر حياة لاهية، فيستضيف كل ليلة مجموعة من أصدقائه الحميمين، ويستمتعون بأطايب الطعام والشراب، والموسيقى والرقص والغناء. ويمضي الحال على ذلك المنوال، حتى يصحو أبو الحسن يوما فيجد أنه قد أنفق كل المال الذي خصصه للهو ولم يبق منه شيء؛ ولما يصارح أصدقاءه بذلك ينفضون من حوله الواحد تلو الآخر. وحين يفكر في طلب قرض من أولئك الأصدقاء، يرفضون، بل ويزعم البعض أنهم لا يعرفونه أصلا. عندها يشعر أبو الحسن بغدر الأصدقاء، ولم يعد يؤمن بالصداقة ولا الوفاء بين الخلان، ويحمد الله أنه قد اقتطع جانبا من ثروته الموروثة كيما ينفق منها على نفسه وعلى أمه التي تعيش معه.
ويصمم أبو الحسن ألا يقيم أواصر صداقة دائمة مع أحد، بيد أنه طلبا للمنادمة، كان يقصد جسر بغداد وينتقي أحد الغرباء عن المدينة فيدعوه إلى العشاء، ويمضيان السهرة في الحديث والطعام، ولا يعود أبو الحسن يرى ضيفه بعد ذلك أبدا. وفي أمسية من تلك الأمسيات، تقع قرعة أبي الحسن على الخليفة هارون الرشيد، الذي كان متنكرا كعادته وهو يطوف أنحاء المدينة متفقدا أحوالها وناسها. وكان الخليفة قد تنكر في هيئة تاجر قادم من الموصل ومعه أحد خدمه. ويستضيف أبو الحسن الخليفة بوصفه تاجرا غريبا عن بغداد، ويتعشيان سويا، ثم يتنادمان ويتساقيان. ويحكي أبو الحسن لضيفه قصته، وعن جحود أصدقائه وتنكرهم له، فيسأل الخليفة التاجر أبا الحسن عن أي شيء يطلبه ردا للكرم الذي أسبغه عليه واحتفائه به بهذا الشكل. ويضحك أبو الحسن، ويقول إن له أمنية واحدة، ولكنها عصية على التحقيق؛ فهو يتمنى أن يصبح الخليفة هارون الرشيد لمدة يوم واحد، كيما ينتقم من إمام المسجد الذي يقع في جيرته، لأنه شيخ منافق يجمع حوله جماعة سوء مثله ويقومون بأعمال النميمة والفساد في كل الجوار. ويضع الخليفة مخدرا في كأس أبي الحسن، فينام، ويحمله خادم الخليفة إلى القصر. وهناك، يطلب هارون الرشيد من حاشيته ووزرائه وخدمه معاملة أبي الحسن حين يفيق في الصباح على أنه أمير المؤمنين هارون الرشيد الخليفة العباسي.
وتمضي الحكاية لتصور دهشة أبي الحسن حين يفيق من أثر المخدر ليجد نفسه في قصر يحيط به الخدم والحشم، والوزراء والأمراء، والقهرمانات والقيان الحسان من كل صنف ولون. ويدخل أبو الحسن في متاهة من التردد بين التصديق والتكذيب، وهذا التردد هو أجمل ما في القصة وأبرعها تصويرا: «وصفق بيديه أمام عينيه، وخفض رأسه وقال لنفسه: «ما معنى كل هذا؟ أين أنا؟ ولمن هذا القصر؟ وما معنى كل هؤلاء الخدم والضباط والسيدات الجميلات والموسيقيين؟ كيف يمكنني أن أميز إذا ما كنت بكامل حواسي أم أنني في حلم؟» كل هذا والخليفة الحقيقي مختبئ من وراء ستار يستمتع بالموقف ويضحك في صمت من ردود فعل أبي الحسن.
ويطلب أبو الحسن من السيدة التي تقف على مقربة منه أن تعض أصبعه كيما يتأكد أهو نائم أم مستيقظ. وحين يشعر بألم العضة يصرخ ويدرك أنه في كامل يقظته. وحين تؤكد له السيدة أنه الخليفة هارون الرشيد، يقول عبارته الشهيرة «آه أيتها المخادعة! إني أعرف تماما من أنا».» وشطرها الثاني هو نفس ما قاله دون كيشوت في خرجة من خرجاته، وأصبح من أشهر الأقوال في الأدب الإسباني، إذ كان جميع من حول دون كيشوت يعرفون حق المعرفة من هو، ما عدا دون كيشوت نفسه الذي كان يتخيل أنه فارس الفرسان وحامي حمى المستضعفين.
وبالطبع، يصدق أبو الحسن آخر الأمر أنه الخليفة، فيأمر وينهى، ويأمر بعقاب إمام الجامع وزمرته الشريرة كما كان يتمنى، وبإرسال ألف دينار ذهبي إلى أمه. وحين يخدره الخليفة الحقيقي آخر الليل ويعيده إلى منزله ثانية، يتراوح موقفه بين التسليم بأنه أبو الحسن وبين أنه الخليفة، وكلما هدأت نفسه واستسلم لكونه التاجر أبا الحسن، يظهر ما يعيده إلى التردد والشك في حقيقة الأمور، مثلما حدث حين تخبره أمه بما حدث لإمام الجامع من عقاب وتجريس، ثم مبلغ الألف دينار الذي جاء الوزير جعفر بنفسه إلى الأم ليعطيه لها هدية من هارون الرشيد. وقد جاء ذلك بتدريج وتراوح جعل من ذلك الموقف بين الأم والابن مشهدا يجسم براعة قصصية وسردية من الدرجة الأولى. ولزم الأمر بعدها أن يمكث أبو الحسن فترة في مستشفى المجانين (ويبدو أنها كانت في ذلك العصر النهضوي أفضل من أي مستشفى للأمراض العقلية في عصرنا هذا!) إلى أن يهدأ نفسيا ويقتنع أنه ليس سوى التاجر أبي الحسن. وتمضي حوادث القصة بأن يتكرر لقاء أبي الحسن مع الخليفة المتنكر مرة أخرى، وتتكرر المنادمة والطعام والشراب، والتخدير، وحمل أبي الحسن مرة أخرى ليصبح في اليوم التالي الخليفة هارون الرشيد. وعندها، تبلغ الدراما السيكلوجية في نفسية أبي الحسن مداها، ولا يدرى حقا أهو في حلم أم يقظة، وتتداخل الأمور تداخلا متشابكا لا يدري معه أبو الحسن ما هي الحقيقة وما هو الوهم وما هو الحلم، حتى يتداركه الخليفة الحقيقي ويكشف حقيقة الأمر. وتمضي القصة بعد ذلك في مجال آخر يرد فيه أبو الحسن الخداع للخليفة على نحو مماثل لا يدخل في مجال بحثنا هذا.
وليس هناك من شك في اطلاع المسرحي الإسباني المشهور «كالديرون دي لا باركا» (1600-1681م) على هذه الحبكة القصصية العربية عند كتابته مسرحيته المشهورة «الحياة حلم»، بل إن لا باركا كان بالضرورة عارفا بحكايات ألف ليلة وليلة، شفاهة أو كتابة، فمسرحيته تبدأ بنفس بداية عدد كبير من حكايات الكتاب العربي. ذلك أن العرافين والمنجمين في بلاط أحد الملوك يتنبئون بأن ابنه سيكون ملكا فاسدا من بعده، قاسيا لا يعرف فؤاده الرحمة حتى تجاه أبيه نفسه. ويتحقق الملك من النذر السيئة لمجيء ابنه حين تموت زوجته الملكة وهي تضع الابن، فيتثبت من قول العرافين من هذا الطالع المشئوم، ويأمر بإلقاء الابن في غيابة سجن انفرادي «تفاديا للمصير الرهيب الذي ينتظره، مضحيا في سبيل ذلك بحريته».
ثم يقرر الملك فيما بعد أن يقوم بتجربة تماثل التجربة التي قام بها هارون الرشيد مع التاجر أبي الحسن، وإن اختلف الهدف منها، بأن يسلم ولده بعد أن شب عن الطوق مقاليد الحكم في المملكة، موهما إياه أنه في حلم عن طريق التخدير، ويراقب أفعاله كيما يرى كيف سيقوم بإدارة البلاد وحكم الرعية. ويتم تنفيذ التجربة في الفصل الثاني من المسرحية، فنرى الابن «سيخسموندو» مبهورا في البداية بمظاهر الملك والجلال، ثم مندفعا بعد ذلك في قسوته ونزعاته البدائية لتحطيم كل ما حوله. وعلى ذلك، يعيده الملك الأب إلى سجنه موهما إياه أن كل ما مر به هو مجرد حلم. وتتطور الحبكة بعد ذلك على نحو «كالديروني» مستقل، حين يفرض الشعب الابن خليفة لأبيه بدلا من الغرباء الذين أراد الأب أن يخلفوه في الحكم، فيحارب الابن أباه وينتصر عليه، ولكنه يكرم الأب بدلا من أن يهينه أو ينتقم منه، ويعمل على حكم الرعية بمنطق العدل والرحمة، فيثبت بذلك كذب النبوءات وقراءات الطالع!
وهناك حكاية أخرى في ألف ليلة وليلة بها ملامح من «الحياة حلم» هي «حكاية الملك جليعاد والشماس»، فهي تدور حول ملك في بلاد الهند يرى حلما يفسره العلماء له بأنه «يظهر منك غلام يكون وارثا للملك عنك بعد طول حياتك ولكنه لا يسير في الرعية بسيرك بل يخالف رسومك ويجور على رعيتك.» وهذه هي نفس بداية مسرحية كالديرون.
من هنا نرى كيف يتفق كالديرون مع هذه الحبكات القصصية التي وردت في ألف ليلة، بيد أنه يتناولها في صياغة درامية حصيفة، فيقدم عملا مسرحيا متكاملا يبين تطور الشخصية والعوامل النفسية التي تتجاذبها، ويقدم حبكات جانبية تسهم في تطور الأحداث والشخصيات، مما جعل من مسرحيته خلقا فنيا رائعا لا ينتقص منه استخدام المؤلف لحبكة حكاية أخرى، مادام قد استخدم تلك الحبكة على نحو فني مستقل، ووظفها لخلق عمل جديد.
وقل نفس الشيء في مسرحية شكسبير «ترويض النمرة» (وكل حبكات مسرحيات شكسبير مأخوذة من أعمال أخرى تاريخية وأدبية). ففي تلك المسرحية، نجد أيضا نفس قصة النائم الذي استيقظ، بل وفي قصة إطارية أيضا كما يحدث في ألف ليلة وليلة. ففي «ترويض النمرة»، يصادف أحد النبلاء، عند عودته من رحلة صيد، أحد الصعاليك ثملا في الغابة، فيجعل حاشيته يحملونه إلى قصره ويوهمونه أنه سيد ذلك القصر بمن وبما فيه، وأنه كان مريضا منذ فترة طويلة، وقد استرد عافيته وقدراته، وأنهم كلهم في خدمته. وتصل فرقة من الممثلين الجوالين، ويمثلون أمام النبيل المزيف إحدى مسرحياتهم لتسليته والترفيه عنه. وبعد ذلك نرى وقائع مسرحية ترويض النمرة ذاتها مشهدا وراء آخر وفصلا تلو فصل، حتى تنتهي دون أن يعود المؤلف إلى القصة الإطار ليحكي ماذا حدث للنبيل والصعلوك. ويبدو أن شكسبير قد نسي القصة الإطار، وركز على حبكة النمرة التي يراد ترويضها، إذ تنتهي المسرحية بترويض النمرة، ولا يدري المشاهد أو القارئ ماذا كان من أمر الصعلوك المتشرد الذي أوهموه أنه نبيل ثري، كما أوهموا أبا الحسن أنه الخليفة هارون الرشيد. (2) الواثق
يعتبر النقاد هذه الرواية أول قصة تتخذ النمط الشرقي أساسا لها وتكون لها قيمة أدبية حقيقية. ومؤلف الرواية، وعنوانها الأصلي
VATHEQ ، هو وليام بكفورد (1760-1844م) كان ابنا لأحد أغنى تجار إنجلترا ممن انخرطوا كذلك في العمل السياسي، وأراد أن يسير ابنه على خطاه في كلا المجالين. بيد أن الابن كانت له اهتمامات مغايرة، ويعيش في عالم خاص به وحده، إذ أبدى شغفا منذ صغره بكتب الخيال الشرقي التي كانت ذائعة أيامه، وخاصة كتاب ألف ليلة وليلة الذي تكاثرت نسخه المترجمة إلى الإنجليزية منذ صدور الطبعة الفرنسية لها عام 1704م. كذلك اهتم بكفورد باقتناء الرسوم الهندية والفارسية التي تجسم تلك القصص والحكايات الشرقية والعربية خاصة. وحاول والده أن يقصيه عن تلك الاهتمامات التي كانت تشكل شخصيته في مهدها، إلا أن وفاة والديه المبكرة تركت لويليام بكفورد حرية التصرف في حياته كيفما يشاء، تحت إشراف المربين الذين كانوا ينفذون له كل رغباته. وكان الاحتفال الذي أقامه بمناسبة عيد ميلاده الحادي والعشرين مضرب المثل في غرابته، إذ جمع ما بين تهاويل ألف ليلة والأحلام المشرقية كما يتصورها الغربيون، بكل ما فيها من بذخ وإسراف ومبالغات.
ويزعم بكفورد أنه كتب روايته «الواثق» في ثلاثة أيام وليلتين فحسب؛ وحتى إذا كان ذلك صحيحا، فهو قد قضى وقتا أطول في تنقيحها وإعدادها للنشر. وليس هناك من شك في أنه قد تأثر في كتابتها بألف ليلة وليلة، فهو قد كتبها أولا بالفرنسية؛ اللغة التي ظهرت بها ألف ليلة لأول مرة في الغرب، كما أن تنقيح الرواية قد تزامن مع تعاون بكفورد مع أحد الأتراك ويدعى «سمير» في إعداد ترجمة حرة إلى الفرنسية لمخطوط مجهول به بعض قصص ألف ليلة وليلة، كان قد جلبه إلى إنجلترا الرحالة والمستشرق «إدوارد وورتلي مونتاج». ولم يتم نشر تلك الترجمة التي تحتوي على «قصة الحاسد والمحسود» و«أنس الوجود» إلا عام 1992م في باريس.
وقد تسببت فضيحة أخلاقية في مغادرة بكفورد إنجلترا إلى الخارج حتى عام 1796م، حين عاد وأقام في ضيعته قصرا مهيبا على شكل الصليب، يخفيه عن الأنظار جدار طوله 12 ميلا بارتفاع 12 قدما. وعاش بكفورد في هذا القصر الأسطوري كما يعيش الأباطرة والخلفاء الذين كتب عنهم!
وقد كتب بكفورد رواية «الواثق» حوالي عام 1782م ونشرت لأول مرة بالإنجليزية عام 1786م وأضحت من فورها عملا كلاسيكيا في الأدب الإنجليزي. وهي تحكي قصة «خيالية» عن ملك يدعى الواثق، يقع تحت تأثير أمه التي تتعاطى السحر وتدعى «كارازيس»، فلا يصبح له هم إلا إرضاء رغباته، فيعقد اتفاقا مع مندوب إبليس - على نفس النحو الذي يفعله فاوست - الذي يعرض عليه أن يعطيه كنوز السلاطين الغابرين شريطة أن يقوم الواثق أولا بقتل خمسين طفلا، وهو عمل يضمن للواثق نار جهنم الأبدية. وينطلق الواثق في رحلة ينشد فيها أطلال مدينة «إيستاكار» حيث الكنوز الموعودة، ويلتقي في طريقه بالأمير فخر الدين، أحد أتباعه المخلصين، فيغوي الواثق ابنته «نور النهار» (لاحظ الأسماء الألف ليلية!) ويفر معها إلى غايتهما المنشودة. ويهبط الملك مع نور النهار إلى «قصر النيران المخبوءة»، حيث يجدان هناك بالفعل كنوز السلاطين الغابرين، مكومة تلالا تلالا، ويمر في وسطها جمهرة من الرجال يضعون أيديهم فوق صدورهم وتعلو وجوههم صفرة الموت. وبعد ثلاثة أيام، يمثل الواثق ونور النهار أمام إبليس، الذي يحكم عليهما بالتجوال في أنحاء تلك الأبهاء إلى الأبد وقلباهما يتأججان بشعلات النيران!
ويقول «كراكشيولو» عن رواية الواثق إنها «بغض النظر عن كتاب «راسيلاس»، لم ينجز عمل ذو عمق أدبي في إطار الأنواع الشرقية الأدبية إلى أن نشرت رواية الواثق. وقد استخدم بكفورد ألف ليلة وليلة، ومعرفته الوثيقة بمواد شرقية أخرى، كيما يخلق فانتازيا لم تظهر من قبل في أي من القصص التي سارت على نهج الحكايات الشرقية، من حيث قوتها وغرابتها وحسيتها القاسية.» ولم تفت الرواية النقاد العرب، فقد كتبت أستاذتنا الدكتورة فاطمة موسى بحثا عنوانه «بكفورد والواثق والقصة المشرقية»، وكتب الدكتور محمود المنزلاوي عن «الانتحال الشرقي في مرحلة انتقال: عصر الواثق»، ونشر البحثان باللغة الإنجليزية عام 1960م بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على صدور الرواية.
ورواية «الواثق» - كما الأمر في رواية «مخطوط سرقسطة» التي ذكرناها في فصل آخر من هذا الكتاب - قد ساهمت في خلق ما أصبح يدعى «الرواية القوطية»
GOTHIC NOVEL . ويقول هوراس والبول (1717-1797م) نجم الرواية القوطية، مدافعا عن كتاب ألف ليلة وليلة في خطاب أرسله إلى «ماري بيري»، «اقرئي رحلات السندباد البحري وسوف تلقين مؤلف إينياس جانبا.» أما إليزابث جاسكل (1810-1865م)، فقد لعبت ألف ليلة دورا كبيرا في ثقافتها وفي صياغتها للروايات التي كتبتها والتي تزخر بالإشارات إلى الليالي وحكاياتها المشهورة. أما عن علاقة أدباء العصر الفيكتوري الإنجليزي بألف ليلة وليلة، فقد أوردناها كاملة في مقدمة هذا الكتاب. (3) البحث عن الزمن الضائع
ربما يثير إدراج هذا العمل الملحمي للروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست ضمن الأعمال التي تأثرت بألف ليلة وليلة دهشة القارئ. ولذلك أبادر بالقول بأن قصص ألف ليلة كانت من أوائل الحكايات التي استمع إليها بروست وهو طفل من والدته وهي تتلوها عليه قبل النوم، خاصة قصص «علي بابا والأربعون حرامي» و«مصباح علاء الدين السحري» و«النائم اليقظان». وبعد ذلك، بعد أن شب بروست عن الطوق، عاودته الرغبة في قراءة الكتاب كله، فأرسلت له والدته نسخا من الترجمتين المعروفتين أيامها بالفرنسية: ترجمة «جالان» المهذبة، وترجمة «ماردريس» الكاملة، رغم تحفظ الأم الواضح تجاه الحرية التي اتخذها الدكتور ماردروس في ترجمة الكتاب.
وهكذا كانت «ألف ليلة وليلة» أحد كتابين تركا في نفس بروست أبلغ الأثر، والكتاب الثاني هو رواية الكاتبة الإنجليزية «جورج إليوت» المشهورة «طاحونة نهر فلوص»
THE MILL ON THE FLOSS . ويذكر عن بروست أنه ما كان يطالع رواية جورج إليوت إلا وتطفر الدموع من عينيه تأثرا بالتصوير العاطفي البارع لشخصية «ماجي توليفر» في الرواية. وقد ذكر بروست أنه قد قرر أن يؤلف كتابا في ضخامة ألف ليلة وليلة وأهميتها، على أن يستعيض عن الأحداث والمغامرات المتوالية في حكاياتها بالتحليل والتفاصيل الدقيقة للشخصيات التي سيخلقها على نحو ما فعلت جورج إليوت في روايتها.
وفي الخواطر الأولى لذكريات بطل رواية «البحث عن الزمن الضائع»، تعود إلى ذاكرته أيام طفولته في «كومبريه»، مع العمة «ليوني» التي لا تعرف شيئا عن مغامرات «شارل سوان» الغرامية ولا عن صلاته بالشخصيات الأرستقراطية المعاصرة، وذلك حين كانوا يدعونه إلى العشاء في منزلهم الذي كان يجاور ضيعتهم بالبلدة؛ ويقول الراوي إن العمة لو علمت حياة سوان الحقيقية فسوف تؤمن بأنها إنما تدعو «علي بابا» إلى العشاء، بكل ما سيحمله معه من الكنوز التي يجلبها من كهفه المسحور! وكانت الأسرة أليفة بحكايات ألف ليلة، فلديها أطباق وصحائف لتقديم الطعام والحلوى مزينة بصور مرسومة لبعض مشاهد علي بابا وعلاء الدين والمصباح السحري والسندباد البحري، وكلها حكايات انتشرت منذ صدور ترجمة أنطوان جالان عام 1704م في طول البلاد وعرضها. وذكريات ألف ليلة وليلة هي من العوامل التي تساعد الراوي في ملحمة بروست - وهو المؤلف نفسه - على استعادة ماضيه؛ فهي تشكل جزءا من حياته، وهي تعمل على بعث ذلك الماضي حيا في وعيه كيما يسطره على الورق، تماما كما فعلت قطعة حلوى المادلين المغموسة في الشاي.
ويقول «هوارد موس» في كتابه الصغير النفيس «فانوس مارسيل بروست السحري»: «هناك كتابان يستبين عنوانهما أكثر شيء في رواية «البحث عن الزمن الضائع»، أولهما ألف ليلة وليلة، والآخر «مذكرات سان سيمون» عن حياة البلاط في عصر لويس الرابع عشر في فرساي.» ويأخذنا عنوان كتاب «موس» إلى الصفحات الأولى من رواية بروست، حين يتذكر الراوي في شطحات أفكاره أنه كان قد تلقى في صباه هدية عبارة عن «فانوس سحري» كان ينظر فيه إلى شرائح تصور حكايات ومشاهد من الرومانسات والأساطير الفرنسية القديمة، وهو نفس الفانوس السحري الذي يستخدمه لجلاء بصره فيما يتعلق بذكرياته وماضيه الضائع الذي يحاول استعادته عن طريق كتابته بالتفصيل الدقيق، فما أشبهه في هذا بمصباح علاء الدين السحري، الذي يحكه فيظهر له الجني المارد ويقدم له كل ما يشتهيه. وهكذا يفعل مارسيل الراوي بفانوسه السحري، فهو يضع فيه شريحة مصورة تبعث في نفسه ماضيه وذكرياته وأحلامه وأفكاره، فتظهر جلية واضحة للقارئ الذي يطالع روايته.
ويجاهد المؤلف - الراوي - كيما تتم استعادة الماضي بأكمله قبل أن يطويه الموت، ونحن نقرأ في آخر مجلد من ملحمة البحث عن الزمن الضائع السطور التالية: «فإذا شرعت في الكتابة، لا يكون ذلك إلا في الليل. بيد أن الأمر سيحتاج مني إلى ليال كثيرة، مائة ليلة ربما، بل وحتى ألف. ولا بد أن أحيا وسط القلق الذي يتمثل في عدم معرفتي ما إذا كان السيد الذي يحمل في يده مصيري سيكون أقل تسامحا من السلطان شهريار، وما إذا كان سيوافق - حين يطلع الصباح ويتعين علي أن أقطع قصتي - على منحي مهلة أخرى ويسمح لي بمواصلة حكايتي في الأمسية التالية.»
وهكذا كان بروست يكتب ملحمته وأنظاره مثبتة على ملحمة شهريار وشهرزاد، فهو يكتب روايته في مواجهة الموت الذي قد يأتيه في أي لحظة، تماما كشهرزاد التي كانت تروي حكاياتها ولا تعرف ما إذا كان شهريار سيبقي عليها ليلة وراء ليلة أم لا.
وفيما بين أول مجلد من مجلدات البحث عن الزمن الضائع إذ الراوي يحكي ذكريات طفولته وصباه، وحتى آخر مجلد إذ هو يصارع الموت كيما ينهي الحكاية التي بدأها، تمتلئ الفصول والأحداث بالإشارات إلى ألف ليلة وليلة وحكاياتها وشخصياتها المعروفة؛ فمثلا يذكر بروست أن الأميرة «دي جيرمانت» تشبه الأميرة «بدر البدور» في أبهتها. وكذلك، حين يتجول الراوي في طرقات فينيسيا الضيقة وقد ضل طريقه فيها ليلا، يشبه نفسه بشخصية من شخصيات ألف ليلة التي يهيم معظمها ضاربين في آفاق الأرض طولا وعرضا، ويضلون الطريق عبر بحار وجزائر قصية مجهولة! وفي الجزء الأخير من رواية بروست، «الزمن المستعاد»، تبدو باريس إبان الحرب العالمية الأولى وقد امتلأت بالجنود السنغاليين وسائقي التاكسي من بلاد الشرق ، كأنما هي بغداد أيام هارون الرشيد. وبالعكس من ذلك، تصبح مدينة «البصرة» كما تتبدى في ألف ليلة وليلة، هي نفس المدينة التي تباشر منها القوات الإنجليزية عملياتها الحربية ضد الأتراك العثمانيين الذين تحالفوا مع ألمانيا ضد إنجلترا وفرنسا. وبنفس هذه النبرات «التناصية»، يقارن الراوي مشاهدته للبارون «دي شارلي» وهو يجلد في أحد مواخير باريس، بما جاء في حكاية الحمال والثلاث بنات من عملية الجلد التي تتعرض لها الكلبة بالسياط بعد أن تحولت بفعل السحر عن صفتها البشرية.
ويقال إن بروست كان ينفي دائما أنه قصد أن يقدم كتابا يضارع به كتاب ألف ليلة وليلة، بيد أنه يذكر في آخر روايته أنه «ليس بوسع المرء أن يخلق صورة جديدة مما يحب إلا عن طريق نبذه جانبا؛ ولهذا فإن كتابي، مع أنه في طول وضخامة كتاب ألف ليلة وليلة، حري أن يكون مختلفا تماما عنه.» ويضيف «روبرت إروين»، الذي اعتمدت عليه في هذا القسم «البروستي»: «إن الراوي في «البحث عن الزمن الضائع»، بنبذه الروايات المحببة إليه في طفولته من أجل التوصل إلى الحقيقة، قد كتب بالفعل (ويا للمفارقة العجيبة!) كتاب ألف ليلة وليلة جديدا يناسب الزمان الذي عاش فيه.» (4) إدجار ألان بو
أسهم إدجار ألان بو (1809-1849م) في معظم الأنواع الأدبية، فقد كتب في مجالات الشعر والقصة القصيرة والرواية والنقد الأدبي والمقالة الصحفية، كما أن الجميع يجمع على أنه أول من كتب الرواية البوليسية الحديثة، وله أيضا إسهامات في قصص الخيال العلمي وقصص الأشباح والرعب. وقد سار بو في طفولته وصباه المسار نفسه لمعظم الناس في الغرب من قراءة حكايات ألف ليلة وليلة ضمن الكتب التي كانت قراءة شائعة منذ صدور ترجماتها الفرنسية والإنجليزية في أوائل القرن الثامن عشر. ولا عجب بعد ذلك أن يكون له بعض الإسهام فيما يتعلق بألف ليلة وليلة، فله قصة ذات شأن بعنوان «الحكاية الثانية بعد الألف لشهرزاد». وتدل القصة على مدى ألفة بو بألف ليلة وليلة وتأثيرها عليه. وقبل ذلك، أصدر بو مجموعة قصصية عنوانها «حكايات الغرائب والأرابيسك»، ورغم عنوانها، فليس فيها شيء عربي، وربما قصد المؤلف من ذلك العنوان أنه قد صاغ القصة في تصميم دقيق يماثل تصميم الزخارف العربية المدعوة في الغرب بالأرابيسك. وقصته عن ألف ليلة فيها ذلك الجهد في الصياغة الدقيقة ذات الدلالة، فهي تبدأ بداية خيالية أدبية مألوفة، بقول المؤلف إنه قد عثر على كتاب مجهول اسمه «إيزيتورنوت» يحتوي على خاتمة مختلفة لكتاب ألف ليلة وليلة كما نعرفها. وقبل أن يذكر النهاية التي وردت في ذلك الكتاب الشرقي المجهول، يعرض لحكاية الإطار بين شهرزاد وشهريار والوزير، بطريقة مبتكرة ساخرة. ثم يمضي فيذكر أنه بعد أن عفا السلطان عن شهرزاد وعاشا في تبات ونبات، خطر لشهرزاد أن تبين أنها قد أخطأت في حق حكاياتها إذ اختصرت رحلات السندباد البحري، ولم تذكر بقية رحلات عجيبة قام بها. ثم تتطوع، في الليلة الثانية بعد الألف، كي تصلح ذلك الخطأ، وتبدأ حكاية جديدة على لسان السندباد، عن رحلة جديدة يقوم بها. وفي تلك الرحلة، يتوجه السندباد إلى شاطئ البحر مع تابع له من الحمالين في انتظار سفينة تحمله إلى مكان آخر، فيفاجآن بجسم حديدي ضخم يقترب منهما، وإذا هو أشبه بوحش خرافي، تضطرم النيران داخله ودمه مجبول من النار، وهم من صنع شيطان رجيم يسلطه على الناس، وجعل فوقه مخلوقات جرثومية لها شكل الآدميين تنخسه وتؤلمه على الدوام فلا يهدأ ولا ينام حتى يؤدي المهام الشريرة التي أوكلها له الشيطان. وخرجت تلك المخلوقات الجرثومية إلى الشاطئ وأسرت السندباد وقيدته وحملته فوق جسد الوحش البحري، بينما هرب خادمه بعيدا. ويحاول السندباد التفاهم مع تلك المخلوقات، إذ هم يبحرون في عرض البحر، ويتعلم منهم بعض كلماتهم ويعلمهم بعض كلماته، مما أوجد بعض الألفة فيما بينهم.
وتمضي شهرزاد في وصف الرحلة على لسان السندباد، وحين تنحرف القصة كي تذكر أشياء خرافية غير معقولة، يبدأ السلطان في الهمهمة والتعجب، وهذا من سخرية المؤلف ألان بو، فما يحدث في الرحلة الجديدة ليس بأعجب مما حدث في رحلات السندباد السبع السابقة، ولكن بو يجمع في عجائبه كل الغرائب الحديثة، بل ويتنبأ بأشياء من الخيال العلمي تم اختراعها بعد ذلك، كالغواصة والآلة الحاسبة ولاعب الشطرنج الآلي وآلة التصوير البدائية. ويرى القارئ ثورة السلطان تتصاعد رويدا رويدا بينما شهرزاد تتدفق بوقائع زيارة السندباد على ظهر الوحش البحري وبرفقة المخلوقات الغريبة لعوالم مختلفة، من غابات أشجار حجرية، وبحيرة في قاع المحيط تنمو بداخلها أشجار دائمة الخضرة، وممالك غريبة تعمل فيها النحلات والطيور عمل رجال الهندسة والحساب والرياضيات، وأخرى فيها أسراب طيور يبلغ طولها مئات الأميال، وقارة بحالها مترامية الأطراف ولكنها تقوم على قرون بقرة زرقاء اللون لها أربعمائة قرن. ويعبر الوحش البحري وعلى ظهره السندباد والمخلوقات الجرثومية القارة من بين سيقان تلك البقرة إلى بلاد صديقه الجرثومي الآدمي، فيجد أنها تعمر بالسحرة التي تنخر الديدان دوما في عقول أهلها فتحفزهم بذلك على العمل والاختراع على الدوام دون كلل، فاخترع واحد منهم شيئا أشبه بالروبوت الآلي الذي يلعب الشطرنج بمهارة تمكنه من أن يغلب أي شخص في العالم، عدا الخليفة العظيم هارون الرشيد! واخترع آخر مخلوقا يمكنه إجراء العمليات الحسابية المعقدة في لحظة واحدة (الآلة الحاسبة والكمبيوتر)، وآخر بإمكانه طباعة آلاف النسخ من الكتاب الواحد في لحظات (آلات النسخ). ولا يستطيع الخليفة في النهاية صبرا على سماع ذلك، فيأمر شهرزاد بالصمت، وأن تذهب للقاء حتفها خنقا. وتذهب شهرزاد إلى قضائها في استسلام، ولا يشغل بالها وهي تحت آلة الخنق إلا الخسارة العظيمة التي حاقت بزوجها المتوحش؛ إذ حرم نفسه من بقية الحكايات التي كانت ستقصها على مسامعه عن الرحلات الأخرى للسندباد!
والطريف في قصة ألان بو هو تناول المؤلف لقصته، فهو، إلى جانب النواحي الغرائبية فيها، يقدمها على أساس من السخرية والتفكه، فهو يعلق في حواش على ما يرد في القصة تعليقات تشبه الحواشي الأكاديمية، مثلما يفعل عند ذكر غابات الأشجار الحجرية، حين يذكر بكل جدية وجود أبحاث تؤكد وجود مثل تلك الغابات، وأشهرها في مدينة السويس القريبة من القاهرة في مصر! وقمة الطرافة هي ضيق شهريار من مبالغات حكاية سندباد الإضافية، رغم أن رحلاته السابقة بها ما هو أغرب وأعجب، ونالت استحسان السلطان وقتها، بينما هو يصيح في نهاية قصة بو قائلا: «أتظنين أنني أبله؟» أي كي يصدق تلك الأحداث! ولا عجب أن مصنفي قصص إدجار ألان بو يضعون هذه القصة الآن في باب تحت عنوان «قصص الفكاهة والسخرية» عند إدراجها ضمن قصص الشرق أو الأرابيسك أو القصص الخيالية. (5) موضوعات أخرى
بحيرة البجع
تقص حكاية حسن الصائغ البصري مغامرات صائغ يعيش في البصرة بالعراق، يتعرف عليه أحد السحرة المجوس فيتحايل عليه حتى يأخذه بالقوة إلى جبل في أرض قصية ويستغله في الصعود إلى قمة الجبل كي يلقي له من هناك نباتات معينة يستخدمها في تحويل النحاس إلى ذهب. ولما يلقي حسن بالنباتات للمجوسي يتركه لمصيره ويتخلى عنه، فيضطر حسن إلى أن يلقي بنفسه إلى البحر ولكنه ينجو بالوصول إلى جزيرة مجهولة يجد فيها قصرا تسكنه سبع بنات شقيقات يعترفن له أنهن بنات ملك من ملوك الجن العظام. وتستضيف البنات حسن البصري ويعتبرنه أخا لهن. وحين كان مرة وحيدا في القصر، يدفعه الفضول إلى فتح باب كن قد طلبن منه ألا يفتحه أبدا، وهنا تبدأ قصة «بحيرة البجع» على النسق الألف ليلى:
حين يفتح حسن البصري الباب المحرم، يرى سلما فيصعد عليه إلى سطح القصر ويهبط من الجانب الآخر، فإذا به وسط مزارع وبساتين وأشجار وأطيار ووحوش وحيوانات من كل نوع. وفي الوسط يجد قصرا آخر فيه بحيرة وعلى جانبها سرير مصنوع من خشب الند مرصع بالدر والجوهر ومشبك بالذهب، وحوله أطيار تغرد بلغات مختلفة. وفيما حسن البصري جالس يتعجب من كل ما يراه، إذ هو بعشرة طيور قد أقبلوا من جهة البر وهم يقصدون ذلك القصر وتلك البحيرة، فظن حسن أنهم جاءوا ليشربوا من ماء البحيرة فاختفى منهم كيلا يخافوا من رؤيته.
وتهبط الأطيار إلى شجرة عظيمة، وتدور حولها، ويرى حسن من بينهم طيرا مليحا هو أفضلهم والجميع يحيطونه بكل مظاهر التبجيل والتعظيم، فيعلم أنها ملكة هؤلاء الطير.«ثم إنهم جلسوا على السرير وشق كل طير منهم جلده بمخالبه وخرج منه، فإذا هو ثوب من ريش. وخرج من الثياب عشر بنات أبكار يفضحن بحسنهن بهجة الأقمار. فلما تعرين من ثيابهن نزلن كلهن في البحيرة واغتسلن، وصرن يلعبن ويتمازحن، وصارت ملكتهن ترميهن وتغطسهن .. فشغف حسن بها حبا لما رأى من حسنها وجمالها وقدها واعتدالها وهي في لعب ومزاح ومراشة بالماء.»
وتخرج البنات بعد ذلك من البحيرة، وتلبس كل واحدة منهن ثيابها وحليها، أما الرئيسة منهن فقد لبست حلة خضراء «ففاقت بجمالها ملامح الآفاق وزهت ببهجة وجهها على بدور الإشراق، وفاقت على العصور بحسن التثني، وأذهلت العقول بوهم التمني.»
وتمضي القصة بعد ذلك في مغامرات عجيبة كثيرة، يسرق فيها حسن ريش حبيبته المسحورة ويتزوج بها ويعود معها إلى بلده، حيث تقع له حوادث ومغامرات أعجب شأنا. ولكن ما يهمنا هنا هي هذه الحبكة التي هي نفس الحبكة الأساسية في «بحيرة البجع» الباليه المشهور الذي زاده شهرة موسيقى تشايكوفسكي الرائعة التي جعلت منه أشهر باليه عالمي.
ومن العجيب أن الكتب تذكر أنه من غير المعروف على وجه التحديد أصل القصة التي يدور حولها الباليه المشهور، ولا كيفية التوصل إلى وضع حبكته بالشكل الذي هي عليه الآن. ويذكر الكاتب «سيريل بومون» في كتابه «الباليه المسمى بحيرة البجع»، أن أسطورة الصبية - البجعة - هي من أقدم الأساطير وأكثرها جمالا، وهي تظهر في أشكال مختلفة في آداب جميع الأمم تقريبا، غربها وشرقها. ولكن «اللبريتو» الذي عمل عليه تشايكوفسكي هو من وضع روسيين هما «فلاديمير بيجيشي» و«فازيلي جلتسر». وكان جلتسر هو الذي عهد إلى تشايكوفسكي عام 1875 بوضع الموسيقى للقصة، وهو العمل الذي تم تقديمه لأول مرة عام 1877م على مسرح البولشوي بموسكو.
وتجدر الإشارة إلى أن «هانز كريستيان أندرسن»، وهو من أشهر كتاب القصص الخيالية للأطفال، كتب هو الآخر قصة بحيرة البجع وإن كان على نحو مختلف؛ إذ جعل البجع المسحور أحد عشر أميرا شابا عمدت زوجة أبيهم الملك إلى تحويلهم إلى طيور كل ليلة. وتنجح أخت لهم في اكتشاف السحر وتعيدهم إلى حالتهم الطبيعية بعد أن تضحي بنفسها من أجلهم. وقد ذكرنا هنا حالة أندرسن بعينها لأن هناك من يربط بين أندرسن وحكاياته وبين قصص ألف ليلة وليلة، بيد أن ذلك الموضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة مسهبة.
ألف ليلة وليلة في الفنون الأخرى
لم يقتصر أثر ألف ليلة وليلة على مجال القصص والرواية والشعر، بل تعداه إلى أشكال الفنون الأخرى، حتى تلك التي نشأت في العصر الحديث، كالفن السينمائي.
فمنذ اختراع السينما في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر، اهتم المنتجون بإخراج أفلام المغامرات والحركة والأساطير، وكان مما جذبهم الموضوعات الشرقية وعلى رأسها الحكايات الممتعة التي حفلت بها ألف ليلة وليلة. وهكذا أنتجت فرنسا عام 1900م فيلم «ألف ليلة وليلة» بعد سنوات قليلة من اختراع السينما بإخراج جورج ميلييه. ثم توالى إخراج الأفلام المأخوذة عن قصص ألف ليلة المشهورة منذ عهد السينما الصامتة، فظهر فيلم «علاء الدين والمصباح السحري» عام 1917م بإخراج ديف فلايشر، وفيلم «لص بغداد» لراءول ولش عام 1924م من تمثيل دوجلاس فيربانكس، ثم تم إخراجه من جديد في عصر الصوت واللون عام 1940م بإخراج ستة مخرجين ومن تمثيل «سابو». وجرى إخراج عدة أفلام عن قصة علاء الدين والمصباح السحري وحدها، منذ عام 1952م وحتى عام 1983م، علاوة على فيلم للرسوم المتحركة من إنتاج والت ديزني للقصة نفسها. ومن الأفلام المشهورة الأخرى: «علي بابا والأربعون لصا» (1943م)؛ «ألف ليلة وليلة» تمثيل ماريا مونتيز (1945م)؛ «رحلة السندباد السابعة» (1958م)؛ «رحلة السندباد الذهبية» (1973م) وسندباد وعين النمر (1977م). وقد شاهدنا مؤخرا إنتاجا تلفزيونيا أمريكيا لألف ليلة وليلة عام 2000م، ثم أنتجت استديوهات «دريموركس» فيلما بالرسوم المتحركة عن «سندباد وأسطورة البحار السبعة» بصوت «براد بيت» و«كاثرين زيتا جونز»، مما يدل على استمرار السينما الأجنبية في الاهتمام بهذا الكتاب الخيالي العالمي.
وقد أخرجت فرنسا أيضا فيلما عن علي بابا عام 1954م قام فيه الكوميدي المشهور فرنانديل بدور البطولة، وفيلم عن شهرزاد عام 1963م بطولة أنأ كارينا. وفي إيطاليا مثل فيتوريو دي سيكا فيلما عن ألف ليلة وليلة عام 1961م، ولكن النقاد يعتبرون الفيلم الإيطالي الذي أخرجه بيير باولو بازوليني بعنوان «ألف ليلة وليلة» هو الأفضل من الناحية الفنية بالنسبة لكل الأفلام، وإن كانت المشاهد العارية فيه قد حدت من انتشاره.
كذلك اهتمت السينما العربية بألف ليلة وليلة، فتعددت الأفلام المأخوذة عنها. ويمكن إحصاء الأفلام التالية: «ألف ليلة وليلة» إخراج توجو مزراحي (1941م)، «علي بابا والأربعين حرامي» لتوجو مزراحي (1942م)، «بحبح في بغداد» لحسين فوزي (1942م)، «شهرزاد» لفؤاد الجزايرلي (1946م)، «معروف الإسكافي» لفؤاد الجزايرلي (1947م)، «خاتم سليمان» لحسن رمزي (1947م)، «عفريتة هانم» لبركات (1949م)، وبها قصة خاتم سليمان، «الفانوس السحري» لفطين عبد الوهاب (1960م)، «ألف ليلة وليلة» لحسن الإمام (1964م)، وهي أفلام كلها مصرية. وهناك أيضا «ليالي شهرزاد الجميلة» لتاضير صابيروف (1990م) لبناني، و«البحث عن ألف ليلة» لناصر خمير (1991م) تونسي.
وفي مجال الرسم والتصوير، تنافس عدد من كبار الرسامين الغربيين في تزيين الطبعات المختلفة لترجمات ألف ليلة وليلة بالرسوم التوضيحية الجميلة. وقد ساعدهم في الإبداع، الخيال الرحيب الذي أتاحته القصص العجيبة أمامهم. وقد اعترف الكثير من الناس والأدباء الذين قرءوا الكتاب في ترجماته المختلفة، أنهم تأثروا في بادئ الأمر باللوحات الساحرة الجميلة التي احتواها الكتاب، مما جذبهم أكثر إلى قراءته والتأثر به.
وقد بدأت الرسومات الملونة الفخيمة في الظهور مع الطبعات المتتالية للترجمة الفرنسية لأنطوان جالان، والمشهور منها الآن طبعة عام 1818م الصادرة عن دار «لادانتيه» برسومات «إيو»
HUOT
التي بلغت 63 لوحة حازت نجاحا كبيرا بين القراء. ومن المصورين الفرنسيين الآخرين لألف ليلة وليلة، يبرز «ليون كاريه» الذي أبدع رسومات خالدة زينت ترجمة ماردروس الشهيرة، وصدرت عن دار بيازا الفرنسية عام 1918م. وما زالت رسومات كاريه تتراءى في طبعات مختلفة في لغات عديدة، منها الطبعة العربية عن دار صادر التي أوردت اللوحات في طباعة أنيقة فاخرة.
وقد اشتملت ترجمتا «بين» و«بيرتون» على رسومات رائعة، وإن كانت غير ملونة. وتصدر ترجمة بيرتون رسم زخرفي بديع، أشبه بالأرابسك، ومن يتمعن فيه يرى أنه يتصمن عنوان ألف ليلة وليلة مكتوبا بطريقة المكعبات. وقد ذكرت ترجمة بيرتون أن التصميم والرسومات من عمل يعقوب أرتين باشا، الذي كان يشغل منصبا رفيعا في وزارة المعارف المصرية في زمن صدور الترجمة، بمعونة الشيخ محمد مؤنس.
ومن أشهر رسامي ألف ليلة وليلة الآخرين «إدمون ديلاك» وهو فرنسي انتقل إلى إنجلترا وتوفي فيها عام 1953م. وقد أمد ديلاك طبعات عديدة في كل من فرنسا وإنجلترا برسوماته المعبرة. وقد قرأ ديلاك نص الكتاب بعناية، وبرع في اقتفاء جو الحكايات وتصويرها بألوان أخاذة، مستخدما أفكار الفن الحديث التي كانت منتشرة في أوروبا في ذلك الوقت، مع الخيال الذي تبثه قصص ألف ليلة وليلة، فأخرج الكثير من اللوحات التي ما زالت تثير إعجاب كل من يراها.
ومن الرسامين الذين اشتهروا أيضا في هذا المجال، جوستاف دوريه، الذي حول الكثير من كتب الأدب إلى لوحات معبرة، فرسم لدون كيشوت والكوميديا الإلهية وقصائد كولردج وإدجار ألان بو، وبالطبع، كانت ألف ليلة وليلة من الكتب التي اختارها لرسوماته.
ومن الرسامين الذين اشتهروا برسومات ألف ليلة أيضا: «إريك بيب، إيرل جودناو، هاري ثيكر، أنتوني جروفز. وهناك خاصة الرسام الإنجليزي المشهور «سميرك».»
أما في الولايات المتحدة، فقد قام الرسام الشهير «ماكسفيلد باريش» بتزويد طبعات أمريكية بعدد رائع من رسوماته الرومانسية للقصص المحببة لدى القراء الأمريكيين في ألف ليلة وليلة، كالسندباد البحري، والصياد والعفريت، وعلاء الدين والمصباح السحري.
وقد نال الأطفال والنشء نصيبا كبيرا من اهتمام الرسامين بإخراج قصص ألف ليلة وليلة في رسوم متتابعة مصورة
BANDES DESSINEES
وكرتونية. وثمة إسهامات عربية أيضا في ذلك المجال. وتجدر الإشارة هنا إلى استخدام أسماء الشخصيات الألف ليلية المعروفة عناوين لمجلات الأطفال العربية. وما زال جيلي يذكر مجلتي «علي بابا»، و«السندباد»، اللتين رعتا قراءاتنا وغذتا خيالنا في سنوات القراءة الأولى. وهناك الآن مجلة علاء الدين.
وثمة منحوتات متفرقة تمثل حكايات ألف ليلة وأبطالها، خاصة في عاصمة الرشيد بغداد. وقد ذكرت جريدة الحياة اللندنية مؤخرا خبرا عن تمثال «أبو نواس» الذي نحته الراحل إسماعيل فتاح، وتمثال «شهرزاد وشهريار» للنحات محمد غني، حيث «تجد من يقف أمامهما أو بقربهما .. يكلم أبا نواس الشاعر بأبيات من شعره أو بكلمات تشبه الكلمات التي يتبادلها صديقان أو جليسا سمر. في حين تجد من يجلس قرب التمثال الآخر هادئا، متكلما بصوت خافت، مناجيا شهرزاد، لا ليسمع حكاية من حكاياتها، بل ليسمعها حكايته هو - وغالبا ما تكون حكاية عاطفية!» وهكذا أصبحت شهرزاد لا المحللة النفسية لشهريار فحسب، بل لكل من له مشاكل خاصة أيضا!
وفي مجال الموسيقى، تبرز إلى الذهن على الفور رائعة الموسيقار الروسي رمسكي كورساكوف (1844-1905م)، شهرزاد، وهي تحمل رقم 35 من مجمل أعماله، وتشمل خمس متتابعات موسيقية تصل إلى حوالي الساعة. وقد تناولت خمس موتيفات مأخوذة من حكايات الكتاب هي: (1)
البحر وسفينة السندباد. (2)
حكاية الأمير قلندار. (3)
الأمير والأميرة الشابة. (4)
مهرجان بغداد. (5)
جبل المغناطيس يجذب مسامير السفينة.
ويتخلل هذه المتابعات نغمة غلابة
LEITMOTIF
تتردد فيها كلها ويمكن أن تفسر بأنها شهرزاد وهي تقص حكاياتها على مسامع شهريار وأختها دنيازاد.
والمعزوفة الموسيقية تنجح في نقل جو الشرق وأجواء ألف ليلة وليلة بطريقة مذهلة، جعلت منها أصلا ثابتا في كثير من الأعمال الفنية المسموعة المأخوذة عن ألف ليلة وليلة. وما زلنا نذكر المسلسل العظيم للإذاعة المصرية في الخمسينيات من القرن العشرين الذي قدم قصص ألف ليلة وليلة بإخراج وتمثيل وحكي رائع، مرفود بموسيقى كورساكوف التي نبهت عقولنا إلى الموسيقى الكلاسيكية على وجه العموم. ثم زاد ذلك الشغف تأصيلا بتحليلات الدكتور حسين فوزي لها في برنامجه المشهور عن الموسيقى الكلاسيكية.
وقد قامت فرقة الباليه الروسي التي اشتهرت في أوائل القرن العشرين برئيسها دياجليف وراقصها الأول نجنسكي بتقديم باليه كامل عن شهرزاد أساسه موسيقى كورساكوف. بيد أن الباليه اقتصرت قصته على القصة الأساسية الأولى من ألف ليلة وليلة، وهي قصة شهريار وأخيه شاه زمان وخيانة زوجة شهريار له مع العبد مسعود، وكتب ليبريتو الباليه الفرنسي «ألكساندر بينوا». وقد قدمت أول حفلة لهذا الباليه في عام 1910م في أوبرا باريس، وتألق في رقص مشاهده فاسلاف نجنسكي في دور العبد مسعود، وإيدا روبنشتاين في دور زوجة شهريار التي دعوها زبيدة، ربما تأسيا باسم زوجة هارون الرشيد.
ومن الغريب أن الموسيقار الفرنسي العالمي «موريس رافيل» قد وضع هو الآخر مقطوعة عن شهرزاد. وقد جاء ذلك نتيجة شغف الموسيقار بحكايات ألف ليلة وليلة، فقرر وضع أوبرا كاملة عنها مستقاة من ترجمة أنطوان جالان الفرنسية. بيد أنه للأسف لم يتم منها إلا الافتتاحية، التي استخدمها مصمم الباليهات الشهير جورج بالانشاين في إخراج باليه عنها تم تقديمه لأول مرة في نيويورك عام 1975م. بيد أن الموسيقى والباليه لم يلاقيا النجاح الذي لاقته موسيقى كورساكوف والباليه المصمم لها.
وهناك عمل «ألف ليلي» موسيقي آخر من تأليف كورساكوف، هو أوبرا «الديك الذهبي» التي اشتهرت باسمها الفرنسي
LE COQ D’OR . وهي آخر عمل فني قام به كورساكوف قبل وفاته، غير أن الرقيب الروسي لم يأذن وقتها بعرضها لما فيها من إسقاطات على النظام القيصري في أيامه. والأوبرا مأخوذه عن قصيدة شعرية للشاعر الروسي المشهور بوشكين بنفس العنوان. وقد صاغ بوشكين القصيدة من حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة، عن العراف الساحر الذي يقدم لأحد الملوك اختراعا سحريا يمكنه التنبؤ بأي أعداء يقومون بشن هجوم على أراضي الملك، مما يتيح له الاستعداد لهم والقضاء عليهم. والاختراع في قصة ألف ليلة وليلة كان تمثالا لفارس من البرونز، أما عند بوشكين فهو يصبح ديكا ذهبيا. وقد تعرف بوشكين على الحكاية العربية عن طريق الكاتب الأمريكي واشنطن إرفنج الذي أوردها في كتابه «حكايات قصر الحمراء»، وقد ذكرناها تحت عنوانها الأصلي «المنجم العربي» في فصل سابق.
أما أوبرا كورساكوف فهي تنقسم إلى ثلاثة فصول، وفيها شخصيات الملك دودون، والعراف الذي يقدم له الديك السحري، وامرأة جميلة يغنمها الملك في حروبه ويعشقها. بيد أن العراف يطلب مكافأته عن اختراعه السحري بأن يهبه الملك تلك المرأة، وحين يرفض الملك ذلك ويقتل العراف، يطير الديك السحري إلى الملك ويقتله نقرا بمنقاره. وتنتهي الأوبرا بابتعاث العراف، الذي يعلن أن القصة كلها خيالية، وأن مملكة دودون ما هي إلا من قصص الجنيات، حيث لا يوجد بشر فيها إلا هو والمرأة الجميلة.
وقد تناول كورساكوف قصة بوشكين، ذات الأصل العربي ، لما فيها من إسقاطات وسخرية مقنعة من الحكم الإمبراطوري المتعسف في روسيا القيصرية أيامها، فكانت شخصية الملك دودون رمزا للقيصر نيقولا الثاني المتربع على العرش القيصري. وهذا كان السبب في منع الرقيب للأوبرا إلى ما بعد وفاة كورساكوف. ويقال إن الموسيقار قد عجلت موته الحسرة التي شعر بها من جراء ذلك الجور على عبقريته الموسيقية.
ونشير هنا أيضا إلى أن النقاد عادة ما يدرجون أوبرا «حلاق إشبيلية» لروسيني وأوبرا «اختطاف من قصر الحريم» لموزار ضمن الأعمال المستوحاة من قصص عربية، خاصة أن أحداث العملين بهما شخصيات إسبانية، وحبكتاهما تماثلان حكايات واردة في ألف ليلة وليلة.
وقد نال المجال المسرحي نصيبا من ألف ليلة وليلة، وإن لم يكن بالقدر المتوقع له. ففي اللغة العربية، هناك مسرحية توفيق الحكيم «شهرزاد» ومسرحية عزيز أباظة الشعرية «شهريار» ومسرحية علي أحمد باكثير «شهرزاد» ومسرحية ألفريد فرج «حلاق بغداد» وهناك أيضا مسرحية لسعد الله ونوس بعنوان «الملك هو الملك» تلعب على شكل القصة في ألف ليلة وليلة.
أما في الغرب، فهناك مسرحية غنائية فرنسية عن «علي بابا» بيد أن برودواي ما تزال في حاجة إلى مسرحية - بل مسرحيات غنائية - تحيي موضوعات ألف ليلة وليلة، وهي تبدو مناسبة تماما وقابلة للنجاح على المستوى الذي يتم به إخراج تلك الأعمال المبهرة في الوقت الحاضر.
وقد استلهم المعمار الغربي الكثير من أساليب العمارة العربية والإسلامية، خاصة الأندلسية منها. وقد صمم الكثير من الغربيين ديارا على النسق الأندلسي الذي يدور حول الفناء الذي يتوسط الدار وبه النافورة التقليدية. وقد ساهمت قصص ألف ليلة وليلة في إذكاء خيال الفنانين والأدباء لتجسيد ما قرءوه فيها في تصميم بيوتهم، كما فعل الأديب الفرنسي «بيير لوتي» في التصميمات الداخلية لداره، التي تحولت متحفا بعد وفاته. ولكن أغرب المتأثرين بحكايات ألف ليلة وليلة من المعماريين المشهورين هو الإسباني «أنطونيو جاودي» (1852-1926م)، الذي كان ظاهرة فريدة في تاريخ الفن المعماري بصفة عامة. وقد صمم جاودي بنايات سحرية غريبة، على أساس الموزاييك والأرابيسك، بيد أنها تتبدى كبنايات أسطورية خرجت لتوها من حكايات ألف ليلة وليلة الأسطورية. ومن مبانيه تلك «متنزه جويي» الذي يدخله الزائر فكأنما دخل حديقة قصر الأميرات والملوك التي يرد وصفها في الكتاب العربي، فهو يمتلئ بالممرات الملتوية، والزخارف العجيبة، وصممت حدائقه على النسق السحري ذاته. وإن الزائر لمدينة برشلونة، التي عاش فيها جاودي وابتنى فيها معظم أعماله، يفاجأ في سيره وسط طرق المدينة الفسيحة، إذ ينظر إلى المباني العادية الكلاسيكية على جانبي الطريق، بمبنى في الوسط لا يكاد الرائي يصدق عينيه عند رؤيته، فهو يظهر بين مبنيين تقليديين كأنما نبع من الوهم أو الخيال، بما يبدو عليه من نمط شرقي متعرج، بألوان أخاذة ومقرنصات وأبراج غريبة. وإن الوصف ليقصر عن تجسيد تلك الأعمال للقارئ، ولا بد له من رؤيتها في الواقع أو مصورة كيما يشعر بسطوة الخيال الشرقي الذي أثر على جاودي عند إبداعه ذلك المعمار الفريد.
ونضيف ختاما أنه بالإضافة إلى كل هذا، تحولت ألف ليلة وليلة في الغرب إلى ما يشبه الصناعة التجارية
COMMERCIAL INDUSTRY ، فهناك منتجات كثيرة تستغل ألف ليلة وحكاياتها المشهورة في التسويق التجاري والهوايات الفنية. فهناك مجموعات البطاقات الفنية التي تدبج صورا شهيرة من تلك الحكايات، ويجمعها الهواة، وقد وصل ثمن بعض تلك البطاقات النادرة إلى مئات الدولارات. وهناك عرائس ألف ليلة وليلة، على نسق عرائس باربي؛ وحلي ومجوهرات، وملابس شرقية تحمل أسماء شهرزاد ودنيازاد وورد الأكمام وغيرها. وظهرت في الآونة الأخيرة ألعاب كمبيوتر عديدة تستغل حكايات ألف ليلة في إخراج برامج للأطفال والكبار، تعمل على تنشيط الخيال والتفكير. وما أحرى بلاد ألف ليلة وليلة في القيام باستغلال تلك الأفكار في ابتداع مثل تلك الأنشطة التي تعود بالنفع الأدبي والمادي في نفس الوقت على أهلها.
ومازال مسلسل ألف ليلة وليلة مستمرا
ومع احتفال الأوساط الأدبية بعد أربع سنوات من بداية القرن الحادي والعشرين بمرور ثلاثة قرون على صدور أول طبعات ألف ليلة وليلة في ترجمتها الفرنسية لأنطوان جالان، ما زالت الأقلام تسطر قصصا جديدة تقتفي أثرها وتتحدث عنها.
ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، شكلت حكايات ألف ليلة وليلة مصدر إلهام للأدباء والفنانين العالميين. واستمر ذلك التأثير في العقود الأولى للقرن العشرين، كما رأينا عند بروست وجويس وبورخيس. ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين، خف تواجد الليالي وأثرها، وإن لم ينعدم، بل وجدناها لدى الكثير من المحدثين. وحتى اليوم الذي أسطر فيه هذا الفصل، يناير 2005م، قرأت لتوي عن صدور رواية أمريكية تتخذ من ألف ليلة وليلة إلهاما لها، وهو ما يدل على «لازمنية» الكتاب وعلى لانهائيته!
ومن الروايات الأساسية الألف ليلية المحدثة، الرواية القصيرة التي كتبها الأمريكي «جون بارت» بعنوان «دنيازادياد» عام 1972م وصدرت ضمن مجموعة قصص بعنوان
CHIMERA . والقصة غريبة في نوعها، وهي تنويع على القصة الإطارية المحورية في كتاب ألف ليلة؛ ويضفي عليها بارت عمقا في الشكل والمحتوى على السواء، رغم أنه لم ينج من المواقف والألفاظ «المستملحة» التي ينتظرها القارئ الغربي في كل رواية الآن، ويبدو أن الناشرين يطلبون من المؤلفين وجودها في كتبهم، كما اعترف «بول بولز» مرة بذلك!
وتدور الرواية القصيرة (النوفيلا) على لسان دنيازاد أخت شهرزاد، كحديث موجه إلى شاه زمان أخي شهريار الذي شاركه الفجيعة في خيانة زوجتيهما. وهي تسرد في البداية ما حدث في القصة الإطارية، ثم ينتقل حديثها المونولوجي إلى زمان قبل أن تفكر شهرزاد في حيلة القصص من أجل إنقاذ عذارى المملكة من فتك السلطان بهن. وهي تتحاور مع دنيازاد في الوسيلة التي يمكن أن تقوم بها، فتفكر في مجال دراساتها: العلوم السياسية، كتغيير نظام الحكم في المملكة، أو القيام بانقلاب، أو اغتيال شهريار، ولكن ذلك ليس ممكنا. ثم تفكر في الحلول السيكلوجية، وتثبت عدم صلاحيتها كذلك. ولم يبق أمامها غير الحل القصصي. ويرى القارئ أن المؤلف بارت يقدم قصة تناصية؛ إذ يخلع على جميع الشخصيات فيها صورة حديثة، وهو أسلوب من أساليب التهكم الساخر والتورية الذي ساد الرواية الغربية الحديثة ؛ فشهرزاد هي شيري، ودنيازاد: «دودي»، وشهرزاد تدعو أباها «دادي»، وهكذا .. وشهرزاد مرآة للفتاة المثقفة، فهي قد قرأت ألف كتاب في التاريخ والأدب والعلوم ، وهي متفوقة في دراستها إلى الحد الذي تتسابق فيه جامعات الشرق على تقديم المنح الدراسية لها كي تلتحق بها. بيد أن شهرزاد تترك دراستها من أجل التفرغ لحل مشكلة إنقاذ بنات جنسها من طغيان السلطان.
وبينما شهرزاد تفكر مع أختها فيما يجب عمله، يتجسد أمامهما فجأة جني آدمي، آتيا من القرن العشرين، ونفهم أنه أحد الكتاب المشهورين في زمانه، وقد جفت ينابيع إلهامه بعد أن كسد عالم الكتاب والقراءة أمام زحف الإعلام السمعي والمرئي. ويتناقش الجني - وهو صورة من المؤلف ذاته بالطبع - مع شهرزاد في أصول الفن القصصي والإلهام، ويحكي كيف أنه من أشد المعجبين بها وبحكاياتها والكتاب الذي خلفته للقراء في كل زمان ومكان. وتندهش شهرزاد من حديث الجني، فهي لم تقص بعد أي حكاية، ولم تبدأ خطتها بعد. بيد أن الجني الآدمي المؤلف يحكي لها كيف أنه اكتشف كتابها العظيم ألف ليلة وليلة حين كان يعمل في مكتبة الجامعة، وكيف أنه عشقها من طول قراءته لقصصها وبحث عنها في كل من عرفهم من النساء في حياته. وأخيرا، حين تدرك شهرزاد ويدرك الجني حقيقة موقف كل منهما ومكانه وزمانه، من أنها ما تزال تعيش في الزمن السابق على زواجها من شهريار، بينما الجني يعيش بعد قرون من صدور الحكايات وتداولها في شتى البلدان واللغات، يتفقان على أن يقوم الجني بمساعدة شهرزاد بأن يزودها بالحكايات كما يعرفها كي تقوم هي بدورها بقصها على السلطان!
وتمضي القصة قدما، فتتزوج شهرزاد من شهريار، وتبدأ في قص حكاياتها بالاتفاق مع أختها دنيازاد، ويقع السلطان في أسر التشويق القصصي فيؤجل نهاية شهرزاد يوما وراء يوم. وتقضي شهرزاد الليل مع السلطان، يمارسون الحب أولا، ثم تحكي حكاياتها؛ وفي النهار، تقابل الجني - المؤلف الذي يمدها كل يوم بحكايات الليلة. وتدخل شهرزاد مع الجني في مناقشات مطولة متعمقة عن الفن القصصي والأساليب السردية، وعلاقة البناء القصصي بفعل ممارسة الحب، من المقدمة، والتعقيد، فالانفراج والخاتمة. وهما يقيمان صلة هكذا بين الفن والجنس. وتذكر شهرزاد للجني كتاب «محيط من القصص» وهي أطول رواية في الوجود، التي يحكيها الإله «سيفا» لزوجته «بارفاتي»؛ ويحكي لها الجني عن كتب مماثلة، كالأوديسة، والديكاميرون (التي يقول لها إن بعض قصصه مأخوذ عنها هي، شهرزاد!) وتمضي الأحوال كما نعرفها في حكايات ألف ليلة التي بين أيدينا الآن، فتسرد قصة بارت الواردة على لسان دنيازاد، أنه في الليلة 308 من الألف ليلة وليلة، أنجبت شهرزاد ابنها «علي شار»، وفي الليلة 624 «غريب» وأخيرا «جميلة» في الليلة 959. وفي تلك الأثناء أيضا، تنحل عقدة الجني المؤلف، ويجد إلهاما جديدا من لقاءاته اليومية بشهرزاد وأختها دنيازاد، ويخبرهما أنه بصدد كتابة قصة بعنوان دنيازاد، تحكي فيها وقائع ما حدث من وجهة نظرها، ويغير فيها المؤلف من الخاتمة التقليدية للكتاب. ويقص الجني تنويعاته على القصة الأصلية على مسامع الفتاتين، فهو يجعل شاه زمان - أخا شهريار - يسير نفس سيرة أخيه في سمرقند، فيتزوج بكرا كل ليلة كيما يقتلها في الصباح. بيد أنه لا يجد أحدا مثل شهرزاد، فيواصل مسيرة الزواج والقتل طوال الألف ليلة وليلة التي كان شهريار يستمع فيها إلى حكايات شهرزاد. وحين تختتم شهرزاد حكاياتها على النحو الذي يلقنها إياه الجني، بعد الانتهاء من حكاية معروف الإسكافي، تعرض أولادها على السلطان، الذي يعفو عنها وتقام الأفراح في المملكة لهذه الخاتمة السعيدة. بيد أن الجني يزيد في نهاية القصة، فيجعل شهريار يزوج أخاه شاه زمان من دنيازاد، كي يسير سيرته.
وتنقلب تتمة الرواية على يد الجني - المؤلف - بارت إلى شيء أشبه بالقضايا النسوية، فنعرف أن شهرزاد قد اتفقت مع أختها دنيازاد أن ينتقما من كل ذلك الإذلال الذي لاقته فتيات المملكتين على يدي شهريار وشاه زمان، بأن يقوما بقتل الملكين في ليلة العرس. وتنهي دنيازاد مونولوجها الموجه منذ بداية القصة إلى شاه زمان، بأن تخبره بما تنتوي فعله بعد أن قيدته كنوع من الألعاب الإيروسية، وتشهر في وجهه شفرة حادة كيما تذبحه بها، وتقول له إن شهرزاد تفعل الآن نفس الشيء مع شهريار.
ويحاول شاه زمان أن يقنعها بالعدول عما انتوته، وأنه يحبها ويريد أن يقضي بقية عمره معها، ولكنها ترفض في عناد. وعندها يخبرها شاه زمان أن بوسعه نداء حراسه في غمضة عين؛ ويصدر صفيرا بفمه فيدخل عدد من الحرس ويمسكون بدنيازاد موثقين إياها. ويقول الزوج إنه صادق فيما قاله لها عن حبه، ولذلك يأمر الحرس بالخروج فيخرجون ويدعونهما وحدهما، وما يزال شاه زمان مقيدا وزوجته تشهر الموسى في وجهه. ويعيد الزوج على مسامعها حبه لها وثقته فيها، فتنهار دنيازاد باكية وهي لا تدري ما تصنع. ويطلب منها شاه زمان أن تستمع لما سيقصه عليها كما استمع هو من قبل لما قالته. ويحكي لها عن حياته وما حدث من خيانة زوجته الأولى له، واتفاقه مع أخيه شهريار على الانتقام بقتل العذارى كل يوم. ويعترف لها شاه زمان أنه لم يكن يقتل أيا من العذارى اللاتي كان يتزوج منهن كل ليلة في سمرقند، فبعد أن تزوج من أول عذراء - وكانت ابنة وزيره أيضا - أشفق عليها من القتل، ووجد أن الحل الأمثل أن يبعث بها إلى مكان قريب من سمرقند أخبرته هي بوجوده، حيث مملكة تعيش فيها النساء وحدهن. ويقوم بذلك سرا بعلم وزيره، بينما الجميع يعتقدون أنه يقتل العذارى صبيحة الزواج. ومضى على هذا المنوال إلى أن وصله إخطار أخيه شهريار بنبأ الإبقاء على حياة شهرزاد ودعوته إلى حضور الاحتفالات المقامة بمناسبة العفو عنها. ويقول شاه زمان لدنيازاد: «عندها تمنيت أن يكون لشهرزاد أخت، وعندها لن أطلب شيئا منها، لا حكايات، لا اشتراطات، بل سأضع حياتي بين يديها، وأحكي لها قصة الألفي ليلة وليلتين التي قادتني إليها، وأطلب منها أن تضع نهاية لها حسبما يتراءى لها: إما مساء خير أخيرة، وإما صباح خير واضحة منعشة.»
وكانت دنيازاد تستمع إليه في دهشة وهي لا تصدق ما يقول، بينما هو يحاول إقناعها بصحة حكايته. ويضيف أن أخاه شهريار لا بد وأنه قد أنقذ نفسه من خطة شهرزاد بنفس الحب والصراحة، ويهتف بها: «فلننه تلك الليلة المظلمة، وكل ذلك العداء بين الرجل والمرأة، وكل تلك الفوضى عن عدم المساواة والاختلافات بين الجنسين. فلننعم بالحب والعناق يا دنيازاد.» ويتطاول النقاش بينهما، ولا ندري كيف ينتهي الموقف معهما، إلا أنه حين تقول دنيازاد: «لقد تكلمنا طوال الليل؛ إني أرى الصبح يطلع.» يرد شاه زمان: صباح الخير إذن، صباح الخير! وهي إشارة تفاؤل بالنظر إلى ما سبق ذكره من مساء الخير أو صباح الخير.
ورواية بارت القصيرة ساخرة، تستخدم أساليب القص الحديث من تناص وتداخل الزمن والمكان، كما أنها زاخرة بالعناصر الإيروسية التي لا تخلو منها رواية غربية اليوم، وهي تصور النزعات النسوية الحديثة، والصراع بين الجنسين طلبا للمساواة الكاملة في كل شيء، وقد لقيت نجاحا كبيرا من القراء عند صدورها. (1) ليالي ألف ليلة
لم يلتفت النقاد العرب كثيرا إلى رواية نجيب محفوظ التي تحمل هذا العنوان رغم صدورها عام 1988م، ونشرها بالإنجليزية في مطلع عام 1995م، رغم أنه قد صدرت دراسة مسهبة عنها بقلم الدكتورة وفاء إبراهيم تناولتها بتحليل فلسفي رائع.
والرواية في اعتباري واحدة من أهم روايات الأستاذ، إذ يتمثل فيها جماع ما دأب على تصويره في معظم رواياته وقصصه. فقد تناول المؤلف كتاب ألف ليلة وليلة واختار منه حكايات بعينها جعلها تقوم بمثابة «تناص» لما يقدمه هو من حكايات جديدة، تنويعا عليها. وقد قال «الأستاذ» في أحاديثه مع محمد سلماوي:«لقد قرأت ألف ليلة وليلة عدة مرات وفتنتني قصصها، ولقد أردت أن أصنع منها رواية متكاملة.»
وقد تناول محفوظ في روايته قصة ألف ليلة بدءا من نهايتها في الكتاب الأصلي، حين يعفو شهريار عن شهرزاد. ولكننا نعرف أن شهرزاد غير راضية في نهاية الأمر، فقد تحملت فوق طاقتها كي توقف شلال الدماء وترحم العذارى البريئات من قسوة شهريار. ثم يقدم المؤلف «لوحات قصصية» تحمل كل منها اسما من الأسماء المشهورة في حكايات ألف ليلة، ولكن بتصوير جديد؛ بينما يحلق فوق كل الشخصيات، الشخصية المحببة لدى نجيب محفوظ: شخصية الدرويش الصوفي، وهو هنا الشيخ عبد الله البلخي الذي يهيمن على أحداث الرواية وحياة شخصياتها من بعيد أو قريب. ويضارع المؤلف الكتاب الأصلي في عجائبه وغرائبه، فهناك عفريتان، قمقام وسنجام، يتسلط كل واحد منهما على أحد البشر. فقمقام يأمر التاجر صنعان الجمالي بقتل الحاكم علي السلولي ليتخلص من سحره الأسود، بينما سنجام يأمر جمصة البلطي كبير الشرطة بقتل الحاكم الجديد كي يخلص الناس من ظلمه. ويضطر جمصة إلى قتل الحاكم، ويقبض عليه ويعدم، بيد أنه يبقى على قيد الحياة بعد أن يفصل السياف رأسه عن جسده، ويراقب كل ما يجري من أحداث بعد أن يتحول إلى شخص آخر يتمثل في جسد «عبد حبشي مفلفل الشعر خفيف اللحية ممشوق القوام»، واشتغل حمالا وتسمى باسم عبد الله الحمال.
وهكذا تتوالى الشخصيات التي تحمل أسماء شخصيات معروفة في ألف ليلة، فنحن نجد بعد الحمال، نور الدين ودنيازاد، حيث يضيف نجيب محفوظ في روايته حكاية لدنيازاد أخت شهرزاد، فهي كان دورها هامشيا في الكتاب الأصلي بعد أن أدت دورها كطالبة للقصص ومستمعة لها مع شهريار، وحان دورها لتدخل في قصة من قصص الكتاب، يلعب فيها الجنيان قمقام وسنجام دورا مهما في مواجهة جني وجنية شريرين هما سخربوط وزرمباحة، اللذين يمثلان الكفر والشر في عالم الجن، فهما يعيثان فسادا في حياة دنيازاد، إذ يزوجانها بنور الدين ليلة واحدة ثم يفرقان بينهما، فلا يدري أي منهما أكان الزواج واقعا أم خيالا، إلى أن تحمل دنيازاد فتتيقن من الأمر وتقص حكايتها على أختها شهرزاد، ويتبادلان الحديث التالي ذا الدلالة العميقة: - « أي عقل يقبل قصتك؟ - هذا ما أحدث نفسي، إنها قصة شبيهة بقصصك العجيبة. - قصصي مستوحاة من عالم آخر يا دنيازاد.»
وهكذا تتداخل القصص، ويتداخل الخيال مع الخيال، ويدخل الملك شهريار في تلك الحكاية، فينتاب شهرزاد القلق من أن تعود إليه وقائع خيانة النساء، رغم امتلاء حكايات شهرزاد بها، ولكنه - كما تقول الأم: «قد تعجبه الحكايات وهي بعيدة، أما أن تقتحم داره وتتعامل معه فشيء آخر، قد تعاوده وساوسه.» ولكن القصة تنتهي على خير بفضل تدخل جمصة البلطي الذي تحول إلى عبد الله الحمال ثم إلى مجذوب صوفي تنسب له المعجزات. وتتوالى قصص ليالي ألف ليلة، أنيس الجليس، وعلاء الدين أبو الشامات، ومعروف الإسكافي، بنظرات جديدة، وفي إطار مستمر من صعود الحكام وأصحاب السلطة وهبوطهم، وتجوالات السلطان شهريار مع وزيره دندان؛ فكأن نجيب محفوظ قد نقل السلطنة من مكانها الأصلي في فارس، إلى بغداد، حيث يقوم شهريار ودندان بما كان يقوم به هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي. بل إن أحداثا معينة تقع في ألف ليلة وليلة الأصلية في محضر الخليفة العباسي ووزيره البرمكي وسيافه مسرور، تقع في كتاب محفوظ في محضر شهريار ووزيره دندان وسيافه الخاص. ويلعب شهريار دورا أكبر في رواية محفوظ، إذ هو يصادف السندباد في الواقع، الذي يحكي للسلطان في لوحات متتابعة رحلاته المتعددة والحكمة التي خرج بها من كل رحلة منها، وهي تبدو في شكل نصائح مقدمة إلى الملك، مثلما فعل بيدبا الفيلسوف مع دبشليم ملك الهند في كليلة ودمنة. وينتهي الأمر بشهريار إلى إدراك مدى الإثم الذي اقترفه حين كان يقتل الفتيات ليلة وراء ليلة بعد زواجه منهن، ويعبر عن ندمه ورغبته في التوبة، لدرجة أن يرق له قلب شهرزاد وتشعر أنها قد بدأت تحبه أخيرا حبا صادقا وليس عن خوف أو رهبة.
ولكن الأمور تتطور، ويهجر شهريار العرش والجاه والمرأة والولد (قارن رواية الشحاذ أيضا) ويخرج ملتمسا تربية جديدة لروحه وعقله، في سياحة توازي سياحة السندباد. وفي البرية، يجد نفسه في حضرة قوم يسمون «البكاءون». ويتضح أنهم مجموعة من الناس منهم من يعرفه، يمضون ليلهم على ذلك الحال، قبل أن يعودوا مع الصباح إلى دار العذاب، أي حياتهم اليومية. وتقوده قدماه بعد رحيلهم إلى مكان مسحور، يجد به بركة صافية يستحم فيها فيعود شابا من جديد، وإذا هو في مدينة ليست من صنع البشر، كأنها الفردوس، أو المدينة الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة. ويتزوج شهريار من ملكة المدينة التي كانت وشعبها في انتظاره، ويخرج معهم من قبضة الزمن؛ فما يبدو لشهريار أياما معدودة هو مائة عام. وتنتهي الرواية بنصيحة الملكة الفردوسية لشهريار : «ستعرف السعادة الحقيقية عندما تنسى الماضي تماما.» (ويا لها من نصيحة تتناقض تماما مع مسعى مارسيل بروست في استعادة الماضي على نحو تفصيلي!)
وقد نجح محفوظ في تناول مادة ألف ليلة وليلة ليصور بها موضوعا أثيرا لديه، هو الصراع بين الخير والشر، بين الروح ومتطلباتها والجسد ومتطلباته. ونرى الحكام والولاة وأصحاب الشرطة ومواليهم يمرون مرور الكرام، في صعود وهبوط، حافين بالأحداث والشخصيات، على نحو يجعل القارئ يخرج في النهاية برؤيا عن مدى هشاشة الحياة الإنسانية، وتداخل عوامل الخير والشر فيها بصورة يصعب معها التمييز الصحيح، ويخرج القارئ كذلك بفكرة أنه لا جديد تحت الشمس، حتى مع كل هذه الأحداث والغرائب، وأن الخير والشر قوتان موجودتان في الكون والخلائق، وتوازنهما معا يصنع الحياة يوما وراء يوم. وبذلك أحال نجيب محفوظ ألف ليلة وليلة من كتاب حكايات إلى رواية عن الوجود وأسراره.
ومن ناحية أخرى، اعتمد نجيب محفوظ على بعض شخصيات وروح العمل الأصلي لألف ليلة وليلة لإذكاء حياة جديدة مختلفة فيها. فرغم أن رواية محفوظ تحدث وقائعها في مدينة إسلامية في العصور الوسطى، فسيجد القارئ فيها أشياء معاصرة للغاية. فهي تصور بلدا ينخر فيه الفساد، وصاحب الشرطة مشغول دوما بالأنشطة السرية لمن يدعون «الخوارج» وألقاب أخرى، الذين يسعون إلى تغيير نظام الحكم (قارن بالجماعات السرية الحالية في بلدان كثيرة وفي أماكن مختلفة من العالم). كل هذا وشهريار وشهرزاد ودنيازاد (والوزير دندان) يدخلون إلى مسرح الأحداث الفعلية في القصة، وليسوا مجرد مستمعين لها كما في العمل الأصلي.
وهكذا وفرت تركيبة كتاب ألف ليلة لمحفوظ وسيلة قيمة لتقديم القضايا الأخلاقية والسياسية لعصره، منتقدا عيوب المجتمع الذي يعيش فيه بكل ما يتضمن من صور النفاق والفساد والتسلق الاجتماعي والاقتصادي. وقد ترددت في جنبات الرواية أصداء لروايات أخرى محفوظية، منها الشحاذ والطريق، حيث أبطالهما ينشدون الحقيقة والتوبة كما ينشدهما شهريار ، والحرافيش، التي يتوالى فيها الفتوات الذين يحاولون تحسين الأوضاع فتنتهي الأوضاع بإفسادهم والتهامهم، وكذلك العمل الملحمي «أولاد حارتنا» حيث الشر دائما يصارع الخير، بأمل الخروج أخيرا إلى يوتوبيا يسود فيها الخير والرفاه والعدل للجميع، والتي لن تتحقق إلا بتحقيق التوازن في كل منحى من مناحي الحياة. (2) ألف ليلة وليلتان
وهو عنوان رواية الأديب السوري هاني الراهب الصادرة عن دار الآداب عام 1988م. ومن المناسب البدء باقتباس الملاحظة التي قدم بها المؤلف روايته: «إن اختلاط الأزمنة في الرواية مقصود به الإشارة إلى استمرار عالم ألف ليلة وليلة العربي خلال ألف سنة وسنة، وإن هذا الاستمرار بلغ ذروته عام 1967م عبر هزيمة حضارية أزاحت العرب عن طرف الزمن ووضعتهم في الليلة الثانية بعد الألف: وهذا الزمن الجديد الذي تنتهي الرواية ببدايته سيكون سدة رواية قادمة.» وقد أحسن المؤلف بالتنبيه إلى ذلك، فأحداث الرواية تتابع دونما فصل بين المواقف والشخصيات، في تدفق طبيعي يظهر تطور الأحداث وتفاعل شخصيات الرواية معها.
وبعكس رواية نجيب محفوظ التي صورت ألف ليلة وليلة القديمة بأحداث مختلفة، تدور رواية هاني الراهب في دمشق في الفترة السابقة لحرب 1967م، وتنتهي بوقوع الهزيمة ونتائجها في الاستعداد «لإزالة آثار العدوان». فالرواية تقدم عددا كبيرا من الشخصيات التي تتفاعل مع نفسها ومع بعضها البعض؛ فهناك عباس - محافظ إحدى المدن - زوج عايدة، الذي يقيم علاقات نسائية مع أكثر من واحدة خارج نطاق الزواج، ومع غادة زوجة الإقطاعي طلعت. وهناك أمية زوجة الطيار الضابط السابق نزار الذي يشك فيها على الدوام برغم مغامراته النسائية المتكررة هو نفسه، مما يضطرها في نهاية الأمر إلى إقامة علاقة مع سليمان، فنى الإلكترونيات. وتقدم الرواية عالم الصحافة والكتاب، وعالم المدرسين، والكل يتحدث عن المثل والثورية والاشتراكية، في ظلال من التفسخ الأخلاقي، والذي يبلغ مداه في هزيمة يونيو 1967م. وهنا يبين هدف المؤلف من عنوان روايته ومن دس بعض الإشارات عن المجتمع العربي القديم وهارون الرشيد، فيدرك القارئ أن هاني الراهب قد قصد تصوير العالم العربي في ذلك الوقت - ممثلا هنا بدمشق عاصمة الأمويين - على أنه يعيش في العالم الذي تقدمه قصص ألف ليلة وليلة؛ العالم الذي تحكمه سلطة الخليفة التي لا تحدها حدود، ودنيا الغناء والجنس وعلاقات الحب والغرام، والذي تكتسي فيه الأفعال طبقة شفافة من الأحلام والرؤى التي لا تستبين إلا عن خيالات وأوهام. يكتب أحد شخصيات القصة، وهو الكاتب المسمى «الملك» والمفروض أنه رمز لمؤلف الرواية ذاته، قائلا: «والعالم الثالث هيولى لم يتشيأ بعد. وهذا هو سر أحلامه ومآسيه. يمتلك حياة لا حدود لها، وبالتالي فوضى لا حدود لها، ومن الواضح أنه سيمتلك التاريخ بعد حين. تمر به الأيام كلمى هزيمة، ووجهه وضاح وثغره باسم. ليس لديه من مقومات الحياة سوى أنه يحبها - الأشياء الأخرى تثوي بين الحلم والإمكان. ليس لديه فعل، وإنما ردود فعل - ردود فقاعية. فيه ملايين تموت جوعا، وملايين أخرى تتضور جوعا، وملايين أكثر من الجائعين. وفيه الناس عبيد إلا ضمن دائرة قطرها نصف متر: عبيد للإمبريالية، للحياة اليومية، للطقس الحار، للانفعالات الأولية الذاهبة جفاء كزبد البحر. وفيه الاستغلال المزجج والرشوة الجميلة والسرقة الحلال، والجريمة الصلعاء. فيه المتسولون والحفاة والمشوهون جسديا وجنسيا، المزدوجون والمثلثون والمربعون والمعشرون. بعبارة واحدة: إنه عالم ألف ليلة وليلة.»
وحتى عباس، الذي يتردد ما بين أحلامه المثالية بإقامة مجتمع فاضل بينما هو غارق في علاقات نسائية، يعود إلى ثيمة من ثيمات ألف ليلة وليلة حين يجول بخاطره: «لكم تمنى لو قيض له فانوس سحري، أو خاتم أسطوري. إذن لأسبغ على كل مريض ثوب الصحة والقوة. ولأعطى كل إنسان بيتا جميلا مجهزا بكل ما يوفر له الدفء والهناء والأمان. ولوهب الناس مالا غزيرا ينفقونه بلا حساب. ولأتاح للجميع فرصة العيش مع الحبيب الغالي في الربيع الزاهر والصيف المثمر والنعيم المقيم. ولأبعد عن البشر الحزن والعذاب والإثم والجوع. خاصة الجوع، هذه الخاصية الأعظم لبني البشر. لو قيض له مثل هذا الخاتم لخلق عالما جديدا زاخرا بالعدل والمساواة والشبع.»
بيد أن كل أحلام تلك الشخصيات وتمنياتها ما هي إلا فانتازيا تماثل فانتازيات القصص الخرافية التي تقصها شهرزاد، فهي أمنيات لا تخرج إلى عالم الواقع العملي، وتعيش في ظل المظاهر المثالية التي تخفي وراءها عالما من الانتهازية والانفصام والزيف والانحلال، وهو ما يؤدي إلى النهاية الكارثية الطبيعية.
كذلك تمتلئ الرواية بالخلط بين الحكايات الواقعية والقصص الخيالي القديم، كما حدث حين كان الراوي يتحدث عن حياة أبي خلف في فلسطين، ثم ينتقل إلى قصة السيد القاسي وعبده الضعيف الفقير، الذي يعثر على خابيتين مسحورتين في الغابة، واللتين تخرج منهما يد تنهال ضربا على السيد لقسوته. وتنتهي الحكاية بالقول ذاته من ألف ليلة: «وهكذا يا سادة يا كرام حمل العبد خابيتيه منتصرا على السيد وترك القصر فعاش مع عائلته في نعيم مقيم حتى أتاه هادم اللذات ومفرق الجماعات.» وتتكرر هذه التيمات الألف ليلية في ثنايا الرواية، مما يضفي عليها غلالة حلمية تعكس عنوانها وتؤكد المعنى الذي قصده هاني الراهب من السطور التي قدم بها الرواية. •••
ونختم هذا الفصل من الكتاب بخاتمة للكتاب ذاته، بترجمة كاملة لقصة ألف ليلية طريفة كتبتها البريطانية «بينيلوب لا يفلي»، الحائزة لأهم الجوائز القصصية في بريطانيا، والتي ولدت في القاهرة عام 1933م وقضت فيها فترة طفولتها. وسيجد القارئ رنة ساخرة لا تخفى، ولكنه سيجد أيضا اعترافا صريحا بأن كتاب ألف ليلة وليلة هو العباءة التي خرج منها فن الرواية بكل أساليبه وطرقه، من الواقعية والطبيعية والغرائبية إلى الواقعية السحرية. كما لن يغيب على القارئ نبرة النسوية التي تتبدى من خلال هذه القصة القصيرة والنزاع الدائر حول الأدب النسائي ودوره في الفن القصصي. (3) خمسة آلاف ليلة وليلة
لا بد أنك تساءلت عما وقع من أحداث بعد أن تزوجت شهرزاد من السلطان. هل يا ترى عاشا بعد ذلك في تبات ونبات؟ حسنا .. بالطبع لا، فهذا لا يحدث إلا في القصص، وشهرزاد ما كانت إلا متعهدة توريد قصص؛ بل كانت هي القصة بالفعل. أما الحلول القصصية فما كانت لها. ولا للسلطان. ذلك المسكين. مسكين؟ مع كل ما كان تحت إمرته؟ ولكنه كان قد أصبح شخصية «مستصلحة». روضته الحكايات. نزع عنه نابه، وخمدت نيرانه. لقد غير رأيه في النساء. أصبح يحب زوجته، وغمره اهتمام حميد بأولاده. ولم يقطع رقبة أحد خلال سنوات. وكان وزنه آخذا في الزيادة، فلم يعد يشبه عمر الشريف كما كان في أيام عزه. أصبح مسرفا في شرب القهوة، ويشاهد الكثير من أفلام الفيديو، ولا يبدي إلا اهتماما عابرا بشئون تجارة البترول التي تتعهدها الأسرة. وأحيانا ما كان يرافق أمه العجوز وأخواته إلى لندن أو باريس في مواسم الشراء. لم تكن بالحياة السيئة، كلا وألف كلا. حقا هي حياة مفرطة في الهدوء، مما يجعله يشعر بين حين وآخر بالذنب إذ يحن إلى الأيام الخالية؛ بيد أن الأمور كانت على ما يرام. كان زوجا لأجمل امرأة في العالم الشرقي وأكثرهن موهبة. أليس ذلك حقا؟
ولكن كانت هناك مشكلة واحدة.
إن شهرزاد، كما تذكر، كانت شابة كاملة الأوصاف حتى قبل لقائها المصيري مع السلطان. كانت حاصلة على درجات علمية في الفلسفة والطب والفنون الجميلة، أضافت إليها الآن درجتي دكتوراه في الأدب المقارن وفقه اللغة. وكانت تقوم بتدريس الكتابة الإبداعية، وتدير حضانات للأطفال وعيادات لتنظيم الأسرة، كما أنها تعمل مستشارة للحكومات بشأن موضوعات المرأة. كانت وقد بلغت الثانية والأربعين من عمرها لا تزال في أوج جمالها السابق، إن لم تكن أجمل. ولما كانت زوجة وفية، فهي لم تسمح لالتزاماتها أن تبعدها عن السلطان. ليلة أو اثنتين بين حين وآخر لا أكثر. إن زواجها، على أية حال، له تقاليده الخاصة به، تركيبته الداخلية، قصته الذاتية التي لا يمكن لأحد أن يعيق مسيرتها.
ذلك أن شهرزاد قد واصلت حكاياتها، فبعد الألف ليلة الأولى، جاءت الألف الثانية، ثم الثالثة، فالرابعة. ولم يكن لدى السلطان أي فكرة عن المرحلة التي هما فيها الآن، ولا يعرف إلا أنه يخطو حثيثا نحو الشيخوخة ولا يزال صوت شهرزاد الرقيق الذي لا يقاوم يتلو عليه القصص عبر الوسادة، ليلة وراء ليلة وراء ليلة. وكانت هناك أحيانا نبرة توبيخ في صوتها تقطع المسار الساحر ، إذ لم يكن مسموحا للسلطان أن يغفو في أثناء السرد، فكان يهب مستيقظا ليجد عيني شهرزاد تتطلعان إليه في جمود عبر ملاءات الساتان المطرزة المشتراة من محلات هارودز، بينما إصبعها الرشيقة تدق في غيظ على كم بيجامته، فيقول «آسف يا عزيزتي. لا بد أنني غفوت لحظة. لا دخل لك في هذا. قصصك رائعة، كالعادة. مشوقة. إنما ...»
فتتساءل شهرزاد في برود: إنما ماذا؟
فيعتذر السلطان قائلا: إنما أتوه في السياق أحيانا. إنك تستحدثين كلمات غامضة نوعا ما هذه الأيام. ما معنى الإحساس؟ كما أن الأماكن تربكني. أين تقع ديفونشير؟
وألقت إليه شهرزاد نظرة باردة، وقالت: حين تتوقف عن التثاؤب، سأواصل كلامي.
كانت المشكلة أن الحكايات أصبحت تتزايد طولا كل حين، وتقل إثارة؛ كما أصبحت خلفيتها أكثر غرابة، والإيقاع - في رأيه - أبطأ فأبطأ. وكانت الشخصيات تحيره: كل هؤلاء النسوة المدعوات إلزا وجين وكاثرين، يتحدثن ويتحدثن ولا شيء يحدث إلا حين تكون هناك مناسبة اجتماعية محدودة أو شخص يتزوج. لقد كان يتساءل بينه وبين نفسه إذا ما كانت شهرزاد تفقد صلتها بالواقع. لقد كان على ثقة أنه لا يد له في المشكلة، فلقد كان دائما رجلا مولعا بالحكايات الشيقة. ففوق كل شيء: أي شيء جذبه نحوها في المقام الأول؟ هذا طبعا عدا محاسنها الجسدية التي لا تزال في أفضل أحوالها، فلا شكوى لديه من تلك الناحية. إنما .. حسنا، الروح راغبة ولكن الجسد ليس كالعهد به في أيام العنفوان.
وتنهد السلطان وتأهب للسماع. وسردت شهرزاد: «إن من الحقائق المسلم بها عالميا أن الرجل الأعزب الذي يمتلك ثروة كبيرة لا بد وأن يكون في حاجة إلى زوجة. وكف عن التثاؤب!»
ومر الوقت. واستمرت الحكايات. وكان السلطان لا يجرؤ على الشكوى من جديد خوفا من زوجته. كان يكره الشقاق العائلي (قد يبدو هذا غريبا بالنظر إلى ماضيه، ولكن تذكر أننا نعالج هنا مثالا مدهشا من التغير في الشخصية). وعلى أي حال أيضا، فهو لم يكن يريد للحكايات أن تتوقف.
كان يفكر في كل تلك الأمور في أصيل يوم من الأيام حين زارته دينارزاد. وأنت تتذكر أن دينارزاد هي أخت شهرزاد الصغرى التي لعبت والحق يقال دورا مهما في أحداث ليلة الزفاف. بيد أن الأختين قد ابتعدتا عن بعضهما البعض لاحقا. ذلك أن دينارزاد، التي كانت تدرس العلوم الاجتماعية في الجامعة، انضمت إلى إحدى الجماعات الأصولية.
وجلست دينارزاد على كومة من الوسائد بمحاذاة مرفق السلطان وطفقت تثرثر حول حفلة حضرتها بينما هي تمد يدها بين حين وآخر إلى علبة من قطع الملبن. كانت تضارع أختها جاذبية، غير أنها تختلف عنها تماما في مظهرها. كانت دينارزاد ترتدي الملابس التي تتفق مع ما تعتقده (أو التي تتفق مع شيء على أية حال). كانت ترتدي الشادور، وعلى وجهها حجاب؛ فكانت عيناها اللامعتان هي كل ما يراه السلطان من وجهها .. وكان جسدها أيضا مغطى. بيد أن الانطباع العام لم يكن انطباعا بالحشمة والتستر النسائي والورع الديني. كان ثوبها الذي يصل إلى كاحليها مصنوعا من الساتان الثمين، وقدماها الجميلتان تبرزان من تحته في شبشب حريري ذي كعب عال ولون بمبي. وكان حجابها يتلألأ بالترتر وكريات الفضة. وكانت ترتدي قفازا من الدنتلا بلون الليلك. وكان قسم كبير من صدرها مكشوفا، ذلك أن الصدر في العرف التقليدي ليس بمنطقة جذب جنسي، بل الشعر واليدان هي كل ما يشعل الرغبة. ولكن السلطان كان يرى أن صدور النساء مغرية مثلها مثل أي جزء آخر، ومن هنا لم يكن يعرف هل هو المنحرف أم أن الحكمة التقليدية هي التي على خطأ.
وأشاح ببصره عن صدر دينارزاد الفخيم ثم تنهد. ولم تكن للنهدة في الواقع أي علاقة برغبة السلطان المحبطة بل بأكثر ما كان يشغل باله في ذلك الوقت.
قالت دينارزاد: ما الأمر؟ إنك تبدو مهموما.
واعترف السلطان: إني أشعر ببعض الاكتئاب.
فقالت دينارزاد ملاطفة: يا مسكين! إني أعرف ما تحتاج إليه - صدر دافئ.
واقتربت بمجلسها من السلطان.
قال السلطان وهو يتنهد من جديد: هذا ظرف منك يا عزيزتي. ولكن، تصوري أنني لم أعد أهتم بتلك الأمور هذه الأيام.
فتساءلت دينارزاد في عطف: ألم تعد قادرا؟
فتجهم السلطان. لا من نفسه بل من أخت زوجته. كان «دقة قديمة» فيما يتعلق بالنساء (حسنا، نحن نعرف تاريخه، أليس كذلك؟) ولا يحب أن يسمع مثل هذا الكلام من فتاة رقيقة.
قال بوقار: ليست هذه المشكلة. إن الأمر إرهاق روحي. وبصراحة، إنها تلك الحكايات. إن أختك .. حسنا، في رأيي أنها تعدت الحدود. إنها تنحو إلى التجريب أكثر فأكثر. لم يعد هناك جن ولا غول أو ابن في مقتبل العمر أو صياد فقير. إني لا أعرف ما يخبئ لنا الغد. ولقد أصبحت القصص طويلة جدا. والشخصيات ضحلة. كل هؤلاء الفتيات يعتصرهن القلق من جراء حالتهن النفسية. - أليس فيها حبكة غرامية؟
فاعترف السلطان: هناك عادة حبكة غرامية. ولكن الأمر كله بعيد عن التصديق حتى أنه لا يمكن فهم أي شيء. هناك حكاية استمرت أسابيع طويلة عن أناس يتصايحون في مكان يدعى يوركشير حيث يسود أسوأ طقس في العالم. وما كدنا ننتهي منها حتى دخلنا في قصة شابة مزعجة للغاية تتزوج رجلا أكبر سنا منها بكثير ثم تهجره. لقد كاد صبري ينفد. سوف أصاب بانهيار عصبي قبل أن تنتهي السنة.
قالت دينارزاد وهي تقضم قطعة من الملبن: يا للعار .. لقد كان بإمكانها دوما أن تقص رومانسيات بديعة.
فقال السلطان بازدراء: أوه، رومانسيات .. إنني لا أفتقد الرومانسيات. إن ما لا أجده هذه الأيام هو «الأكشن». أريد شيئا من الأكشن. مغامرات، أعمال خارقة. البطولة والتحمل. جريمة. جنس. عنف.
قالت دينارزاد: أتريد أن تعرف رأيي؟ لماذا لا تأخذ دورا في ذلك الأمر؟
وتحول السلطان إلى ناحيتها وتطلع إليها في دهشة. ثم ضحك قائلا: أنا؟ أنا؟ يا لها من فكرة غريبة! أنا لا أستطيع القيام بذلك النوع من العمل. أعني أنه عمل النساء .. حسنا، نحن لنا استعدادات مختلفة. هه، قص الحكايات!
قالت دينارزاد: حسنا، إذا كنت لا تقدر على ذلك ...
فصعر السلطان خده قائلا: أعتقد أنه في استطاعتي أن أقدر على ذلك. فقط، لم يخطر على بالي أن أحاول .
وعند ذلك دخلت شهرزاد الغرفة، فأسرع السلطان بتناول الجريدة وبدأ يفحص أسعار البترول. ونظرت زوجته إلى أختها بامتعاض وقالت: ما معنى هذا الرداء السخيف الذي ترتدينه يا دينارزاد؟
وكانت شهرزاد ترتدي جاكيت صوفيا ماركة «أرماني» وجيبة قصيرة تبرز جمال ساقيها. وكان شعرها الأسود يتناثر في موجات لامعة فوق كتفيها. وجلست وخلعت حذاءها «الكورت جايجر» ثم أخرجت نظارتها من حقيبتها ولبستها. كانت متعودة أن ترتدي نظارات كبيرة الحجم ذات إطار من الصدف الأخضر، رغم أنها، على حد علم السلطان، لم تكن تشكو من ضعف بصرها. كانت النظارة تلائمها تماما، وإن كانت تخلع عليها مهابة أيضا. وأحس السلطان بالمهابة آنذاك، فتناول آلة حاسبة وتجهم وجهه وهو يطالع أسعار البترول. وسأل زوجته: كيف كان يومك يا عزيزتي؟
قالت شهرزاد: جميل. وأعتقد أنه كان مثمرا في نهاية الأمر. إني أعمل في المراحل الأولية لخطة طموح لإقامة فصول للكتابة الإبداعية في الصحراء. إنه شيء مثير جدا. ولكن ثمة صعوبات مبدئية من ناحية القراءة والكتابة يجب أن نتغلب عليها. وأنت، ماذا كنت تفعل؟
قال السلطان بهمة: أعمل.
كان بالطبع قد رفض اقتراح دينارزاد المضحك. وحقا إذا كان ذلك الاقتراح قد صدر عن شخص آخر لكان قد شعر أن رجولته قد أهينت ولكان قد اتخذ الخطوات المناسبة لتلك الحالة. ولكن دينارزاد .. كان مسموحا دائما لتلك الفتاة ببعض التجاوزات.
ثم تتابعت الأحداث. فقد بدأت شهرزاد قصة جديدة تلك الليلة. قالت: الليلة نبدأ شيئا خاصا نوعا ما. إنها حكاية تتناول الحياة الداخلية لامرأة. إنها ليست بالمرأة النموذج ولكن بوسعنا أن نعتبرها جوهرا للمرأة، أو للإنسان. إن اسمها مسز دالواي. قد تجد في البداية أن الجو والتقديم غريبان عليك بعض الشيء، ولهذا يجب أن تنتبه لما أقول بوجه خاص. وأرجوك .. لقد تعودت على التحرك دون داع. لا تفعل ذلك. إن هذا النوع من القصص عقلي للغاية وأنا في حاجة إلى التركيز حتى أوفيه حقه. هل أنت مستعد؟
وبعد ثلاث ليال أصبح فؤاد السلطان متحطما. وتحقق أنه لم يعد بوسعه أن يحتمل أكثر من ذلك. عليه أن يقوم بشيء ما. وكان ذلك هو الوقت الذي عاد إلى التفكير في اقتراح دينارزاد. حسنا، ربما ...
وطوال ذلك اليوم، أخذ يذرع حدائق القصر جيئة وذهابا بمفرده، عاقدا حاجبيه، بارقا عينيه. وكانت شفتاه تتحركان من وقت لآخر. وأحيانا، كان يرقد على الحشائش ويتطلع إلى السماء. وحين جاء الليل، عرض اقتراحه على زوجته. بكل هيبة وثبات.
وصعقت شهرزاد. وانعقد لسانها. كانت أول مرة فيما يذكر السلطان يراها فيها في هذه الحيرة الكاملة. ثم أخذت تضحك في النهاية. - دورك؟ حسنا. بكل سرور. إذا كان هذا ما تريد .. ولكن .. اسمح لي.
وغلب عليها الضحك فترة ثم واصلت كلامها. - إن هذا غير معقول بالمرة .. ولكن بالطبع، يجب عليك ذلك .. إذن فلتمض قدما!
وأسندت شهرزاد رأسها إلى مرفقها ونظرت إلى السلطان في تطلع وتسلية.
وبعد ساعتين، أنهى السلطان حكايته. وتطلع إلى زوجته في قلق.
وكتمت شهرزاد تثاؤبها وقالت: ليست بالرديئة. أظن أن لها مزاياها، إذا كنت تحب هذا النوع. بها سرد قصصي جيد. شخصياتها جامدة نوعا ما، وبها أكثر مما يلزم من اندفاعات الفرسان والتلويح بالسيوف.
واحتج السلطان قائلا: هذا هو المقصود بعينه. إنها قصة حربية. - تمام. لا تشغل بالك.
وطبعت زوجته قبلة على خده، واستدارت لتنام.
وثابر السلطان على عزمه. والحق أن المثابرة لم تكن مطلوبة، ذلك أنه وقد بدأ بالفعل، انطلق في طريقه. إن هذا الأمر ينطوي على أكثر مما يظن المرء، إذ بالإمكان أن يصبح هوسا كاملا. لم يكن يعرف هو نفسه ماذا سيحدث في الغد. فقد كانت هناك طرق كثيرة لقوله. وتكلم بأساليب كثيرة، ليلة وراء ليلة. ... كان مسدس الكولت عيار 45 ميلليمترا يبدو كاللعبة في يديه. وقال في هدوء: لا أحد يتحرك! ضعوا كل شيء على الطاولة!
وتأوهت شهرزاد. وتوقف السلطان عن الكلام. - ما الأمر؟ - قصة أخرى من نفس النوع .. أعترف أن بها شيئا من الزخارف الأسلوبية .. ولكن، ما القصد منها؟ - هناك امرؤ سوف يقتل. - أجل يا عزيزي، أعرف ذلك. - وبعدها يجب أن نعرف من ارتكب الجريمة ولماذا. - وما أهمية ذلك كله؟
فتجاهلها السلطان، وأخذ يصغي إلى صوته في شغف: وطرحني الهندي أرضا، ورفع في وجهي مقصا. كان قد سيطر علي تماما. وتسللت يداه نحو عنقي .
كان يجرب. واتسع مجاله وموضوعاته.
تساءلت شهرزاد ذات ليلة وهي تتنهد: ماذا تعني البندقية الإشعاعية؟ ولماذا هم يتجهون إلى تلك المجرة؟ - إنهم في مركبة فضائية. وأرجوك ألا تقاطعيني. - معذرة. ولكن، مرة أخرى، ما معنى ذلك كله؟
قال السلطان وقد هبط عليه وحي مفاجئ: إنها حكاية رمزية.
وابتسم مزهوا بنفسه. وأسقط في يد شهرزاد ورشقته بنظراتها عبر الوسادة. واستمر السلطان: طاخ، طيخ، طوخ. وأغلقت شهرزاد عينيها في إعياء.
وبدأ السلطان حياة جديدة. وملأه شعور بهدف يسعى إليه. وشعر بنفسه أكثر شبابا وحيوية. وشكر للسماء أن تحقق من إمكاناته في الوقت المناسب، فلن يكون هناك بعد أي تبديد لمواهبه في أمور التجارة والأموال التي لا غاية من ورائها. أي أحمق بوسعه أن يقوم بتلك الأعمال. واتبع رجيما في الأكل، واعتنى بقص شاربه وصقله. وألقى بحلله وارتدى ثيابا فضفاضة رأى أنها تعبر عن طبعه الفني بصورة أفضل.
وسألته دينارزاد: كيف الحال؟ وبالمناسبة، إني معجبة بذلك الرداء. جذاب للغاية. إنك فيه تشبه كلارك جيبل.
وفتل السلطان شاربه قائلا: بوسعي أن أقول دون تكلف أو تواضع لا داعي له: إن الأمور تسير في خير حال. إني أسير في الدرب الصحيح. لقد أتقنت أساسيات العمل. - ومن هي التي أوحت لك بهذه الفكرة؟
بيد أن السلطان لم يكن ليعترف بهذا الفضل لأهله. - إن السر في الأمر كله هو الأكشن. ضع الأكشن في موضعه السليم يستقم لك كل شيء. أتعلمين؛ صيد الطيور ومصارعة الثيران واصطياد الأسماك الضخمة والإفراط في الشراب والتصرف بدون اكتراث عند الإصابة بالجراح المميتة. عندي منها بعض الأفكار الرائعة. مادة هائلة. لا يمكن أن تفشل. - عظيم. أما هناك من قصة حب؟ - بالطبع. حب فاشل بطبيعة الحال. أصدقك القول. إن ذلك يجلب الدموع إلى مقلتي. - وما رأيها هي في ذلك؟ - إن أختك لا ترى إلا في اتجاه واحد. إني أنتج أروع القصص، وأشدها تشويقا وإثارة، وكل ما تفعله هي هو أن تتساءل عن المضمون والعلاقات. إني أقول إن بها مضمونا، ففيها أحداث، أليس كذلك؟ كما أن شخصياتي لها الكثير من العلاقات الشائقة؛ فهم يقتلون بعضهم البعض وينقذ الواحد منهم الآخر من أشد المصائر سوادا ويتعاطون الغراميات الجامحة. إن ما لا يفعلونه هو الانهماك في أحاديث لا تنتهي.
ورغم ذلك، كان السلطان متأثرا بالنقد الذي توجهه شهرزاد لقصصه. حسنا، أهي تريد مضمونا وعلاقات؟ وتريد عمقا. حسنا، سيكون لها ما تريد.
واندفع السلطان في التيار، وترك نفسه وراء إلهاماته وطفق القصص ينساب منه. كان يقص الحكايات كأنما هو إنسان أصابه مس. حكى قصصا طويلة تزخر بالفقر والظلم الاجتماعي وتعج بالشخصيات الحية، وتنضح بصخب وعجيج لندن في القرن التاسع عشر. ألم تكن تريد شخوصا؟ وجوا؟ .. بيد أن التعب انتابه من كل ذلك، فمال إلى قصص العاطفة والقوة والخيانة وسط الحقول ومذاود البقر. وغلب عليه التدفق الوهاج، فلم يعد يشعر بمن يصغي إليه. وفي مرة أو مرتين، حين توقف لالتقاط أنفاسه، لاحظ أن شهرزاد تنصت الآن وقد تبدت نظرة مختلفة في عينيها. فقال: صنف جيد. أليس كذلك؟ - لو كنت مكانك لما جربت وراء هذه الجدران القصة التي يعرض فيها الزوج زوجته في المزاد. لسوف ينقض عليك النقاد قذفا وتجريحا.
فعدل السلطان خططه مرة أخرى، وغاص في أعماق النفس الإنسانية الغامضة، وأصبح رجاله ونساؤه يفورون ويتعاركون ويشرحون.
وتساءلت شهرزاد: جنس مثلي؟ هذا شيء جديد علي.
ووافقها السلطان: وعلي كذلك. بيد أنه ملغز. ألا تعتقدين ذلك؟
وأصبح يشق البحار في السفن، ويجوب أقصى بقاع الأرض. وأصبح يحكي عن الحب والحرب والجريمة والعقاب. كان الأمر كما لو أن ثمة قوة قاهرة تدفعه. وحين يتطلع من وقت لآخر إلى زوجته كان يرى في وجهها النظرة الضارعة التي كان يعلم أنها ارتسمت ذات مرة في عينيه هو نفسه. ولكن لم يكن بمقدوره أن يتوقف. لم تكن ثمة رحمة لأي منهما، وكان عازما أن يمضي فيما يفعل إلى الأبد. وعندئذ، في فجر يوم من الأيام، دلف الأطفال مندفعين إلى الحجرة وتجمعوا عند طرف السرير. وقطع السلطان كلامه. وتصايح الأطفال، وهتف أحدهم كما يفعل الأطفال عادة: احكي لنا حكاية!
ونظر السلطان إلى شهرزاد. كان ثمة شعاع غريب يتراءى في عينيها. قالت: حسنا. اجلسوا في هدوء وسوف أبدأ.
وجلس الأطفال. واعتدل السلطان في مجلسه على الوسائد.
قالت شهرزاد: يحكى أنه كان هناك صياد فقير ...
المراجع المستخدمة في الكتاب
(1) نسخ ألف ليلة وليلة
ألف ليلة وليلة، طبعة أصلية وكاملة، جزءان، دار صادر، بيروت، 1996م.
ألف ليلة وليلة، المكتبة الثقافية، بيروت، 4 أجزاء، الطبعة الثالثة، 1981م.
ألف ليلة وليلة، من المبتدا إلى المنتهى، طبعة مصورة عن طبعة برسلاو (1837م) بتصحيح مكسيميليانوس هابخط، الطبعة الثالثة، 12 جزءا، مطبعة دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة، 2003م.
ألف ليلة وليلة، مقابلة وتصحيح الشيخ محمد قطة العدوي، 4 أجزاء، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2001م.
ألف ليلة وليلة، طبعة مختصرة منقحة، المكتب العربي الحديث، القاهرة، 4 أجزاء، د. ت.
The Arabian Nights, tr. Edward Forster, Second Edition, London, 1810, 5 volumes.
The Arabian Nights, tr. Edward William Lane, Tudor Publishing Co., New York, 1927.
The Book Of The Thousand Nights And One Night, tr. John Payne, London, 1901, 15 Volumes.
The Book Of The Thousand Nights And A Night, tr. Richard Burton, The Easton Press, 1994, 17 Volumes.
The Arabian Nights, tr. Husain Haddawy, W. W. Norton & Company, Vols. I and II.
The Arabian Nights, Illustrated By Maxfield
Tales From The Thousand And One Nights, tr. N. J. Dawood, Penguin Books, 1973.
Les Mille Et Une Nuits, tr. Antoine Galland, G. F. Flammarion, Paris, 1965, 3 Vol.
Le Livre De Les Mille Et Une Nuits, tr. J. C. Mardrus, Cercle Du Livre Precieux/Tchou, Paris, 1965, 9 Vol.
Les Mille Et Une Nuits, tr. René R. Khawam, Editions Phebus, Paris, 1987, 4 Vol.
Las Mil y Una Noches, tr, Juan Vernet, Editorial Planeta, Barcelona, 1999, 2 Vol. (2) مراجع عربية (ركزت في قائمة المراجع على الكتب النقدية والتاريخية، واستبعدت النصوص الإبداعية، عدا التي احتوت على مقدمات أو حواش ذات صلة. مع حفظ الألقاب. وقد رجعت إلى كل الكتب المذكورة في قائمة المراجع واستفدت منها في هذا الكتاب.)
إبراهيم، وفاء: الفلسفة والأدب عند نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997م.
أرنولد، توماس: الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين وإسماعيل النحراوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1970م.
أبو حمد، حامد: في الواقعية السحرية، دار سندباد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2002م.
بالنثيا، آنخل جونثالث: تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، د. ت.
بايرون، لورد: دون جوان، ترجمة محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2004م.
بدران، إبراهيم وسلوى الخماش: دراسات في العقلية العربية، الخرافة، دار الحقيقة، بيروت، 1979م.
بدوي، عبد الرحمن: دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي، دار الآداب، بيروت، 1965م.
البطوطي، ماهر: رواة وروائيون من الشرق والغرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001م.
بن شروين ، مرزبان بن رستم: قصص الأمير مرزبان على لسان الحيوان، ترجمة يوسف عبد الفتاح فرج، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2000م.
تشوسر، جيفري: حكايات كانتربري، ترجمة مجدي وهبة وعبد الحميد يونس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1983م.
الثعالبي، أبو إسحاق النيسابوري: قصص الأنبياء، مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، د. ت.
جيتة: الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م.
حسين، طه - (تحرير): دراسات في الأدب الأمريكي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، د. ت.
حقي، يحيى: فجر القصة المصرية، المكتبة الثقافية، القاهرة، د. ت.
الخربوطلي، علي حسني: المسعودي، دار المعارف بالقاهرة، 1980م.
خورشيد، فاروق: أدب الأسطورة عند العرب، عالم المعرفة، الكويت، 2002م.
خورشيد، فاروق: الرواية العربية، عصر التجميع، دار الشروق، الطبعة الثانية 1975م.
خورشيد، فاروق: عالم الأدب الشعبي العجيب، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997م.
الشوباشي، محمد مفيد: القصة العربية القديمة، المكتبة الثقافية، القاهرة، 1964م.
عبد البديع، لطفي: الإسلام في إسبانيا، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1969م.
عبد الحكيم، شوقي: أساطير وفولكلور العالم العربي، كتاب روز اليوسف، القاهرة، 1974م.
العقاد، عباس: جميل بثينة، سلسلة اقرأ، القاهرة، د. ت.
عوض، لويس: في الأدب الإنجليزي الحديث، مكتبة الأنجلو، القاهرة، 1950م.
عياد، شكري: البطل في الأدب والأساطير، دار المعرفة، القاهرة، 1959م.
عياد، شكري: الحضارة العربية، المكتبة الثقافية، القاهرة، 1967م.
غالب، مصطفى: ابن طفيل، دار مكتبة الهلال، بيروت، 1982م.
فضل، صلاح: من الرومانث الإسباني، المكتبة الثقافية، القاهرة، 1974م.
القلماوي، سهير: ألف ليلة وليلة، طبعة مكتبة الأسرة، القاهرة، 1997م.
القلماوي، سهير: ثم غربت الشمس، سلسلة اقرأ، دار المعارف، القاهرة، 1965م.
قميحة، مفيد: شرح المعلقات السبع، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1994م.
كحيلة، عبادة: القطوف الدواني في التاريخ الإسباني، القاهرة، 1998م.
كحيلة، عبادة: صقر قريش عبد الرحمن الداخل، سلسلة أعلام العرب، القاهرة، 1968م.
الكعاك، عثمان: الحضارة العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1965م.
كيليطو، عبد الفتاح: العين والإبرة، دراسة في ألف ليلة وليلة، ترجمة مصطفى النحال، دار شرقيات، القاهرة، 1995م.
لاباركا، كالديرون دي: الحياة حلم، ترجمة وتقديم صلاح فضل ومراجعة محمود على مكي، سلسلة من المسرح العالمي، الكويت، 1976م.
ماجدولين، شرف الدين: بيان شهرزاد، التشكيلات النوعية لصور الليالي، المركز الثقافي العربي، الدر البيضاء، المغرب، 2001م.
مكي، الطاهر: ملحمة السيد، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1983م.
مكي، الطاهر: طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي، ضبط وتحقيق وتعليق، دار المعارف، القاهرة، 1975م.
الملاح، عبد الغني: رحلة في ألف ليلة وليلة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981م.
مهدي، محسن: كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى، المجلد الأول، المتن، شركة أ. ي. بريل للنشر، ليدن 1984م.
مهدي، محسن: كتاب ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى، المجلد الثاني: عدة النقد، النسخ الخطية.
الموسوي، محسن جاسم: ألف ليلة وليلة في نظرية الأدب الانكليزي، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986م.
هلال، محمد غنيمي: الموقف الأدبي، دار العودة، بيروت، 1977م.
هيل، دوناد ر: العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية، ترجمة أحمد فؤاد باشا، عالم المعرفة، الكويت، 2004م.
يونس، محمد عبد الرحمن: الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة، الانتشار العربي، بيروت، 1998م.
يونس، محمد عبد الرحمن، وعبد الكريم شعبان ومنذر رديف العاني ورجاء إبراهيم: تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح العربي المعاصر والحديث، الكنوز الأدبية، بيروت، 1995م. (3) مراجع أجنبية
Ahmed, Leila: Edward W. Lane, a Study of His Life and Work, Longman, 1978.
Akehurst, F. R. P. and Judith M. Davis (editors): Handbook of the Troubadours, University of California
Arnold, Thomas (et al): The Legacy of Islam, Oxford University Press, 1931.
Bettelheim, Bruno: The Uses of Enchantment, the Meaning and Importance of Fairy Tales, Vintage Books, New York, 1977.
Bloom, Jonathan M.: Paper Before Print, Yale University Press, 2001.
Boase, Roger: The Origin and Meaning of Courtly Love, Manchester University Press, 1977.
Borges, Jorge Luis: Seven Nights, tr. Eliot Weinberger, A New Directions Book, 1984.
Bouhdiba, Abdelwahab: Sexuality in Islam, tr. from French by Alan Sheridan, Saqi Books, London, 1998.
Briffault, Robert S.: The Troubadours, translated from the French by the author, Indiana University
Brinner, William M. (tr.): An Elegant Composition Concerning Relief After Adversity, Translated from Arabic, Yale University Press, 1977.
Campbell, Joseph: Myths to Live By, The Viking
Caracciolo, Peter L. (editor): The Arabian Nights in the English Literature, St. Martin’s Press, New York, 1988.
Chew, Samuel C.: The Crescent and the Rose, Octagon Books, New York, 1965.
Clissold, Stephen: In Search of the Cid, Barnes and Noble, New York, 1994.
Clouston, W. A.: Popular Tales and Fictions, Blackwood and Sons, 1887. The 2000 Edition by ABC Clio.
Conant, Martha Pike: The Oriental Tale in England in the Eighteenth Century, Octagon Books, New York, 1966.
Conner, Patrick: Oriental Architecture in the West, Thomas and Hudson, London, 1979.
Derouard, Jacques: Maurice Leblanc, Librairie Séguier, 1989.
Doody, Margaret Anne: The True Story of the Novel, Rutgers University Press, New Jersey, 1997.
Edwards, Michael: East-West Passage, the Travel of Ideas, Arts and Inventions between Asia and the Western World, Taplinger Publishing Company, New York, 1971.
Eschenbach, Wolfram von: Parzival, translated by Helen Mustard and Charles Passage, Vintage Books, New York, 1961.
Faris, Nabih Amin: The Arab Heritage, Princeton University Press, 1944.
Finkelstein, Dorothee Metlitsky: Melville’s Orienda, Octagon Books, New York, 1971.
Fogg, WM. Perry: The Land of the Arabian Nights, Belford, Clarke and Company, Chicago and New York, 1875.
Frazer, J. G.: The Golden Bough, MacMillan, London, 1955, 13 Vols.
Gall, Michel: Le Secret des Mille et Une Nuits,
Garcés, María Antonia: Cervantes in Algiers, Vanderbilt University Press, Nashville, 2002.
García-Gómez, Emilio: Poemas Arabigoandaluces, 5 edición, Espasa-Calpe, Madrid, 1971.
García-Gómez, Emilio: Un Texto Arabe Occidental de la Leyenda de Alejandro, Instituto de Valencia de Don Juan, Madrid, 1929.
García-Gómez, Emilio: El Mejor Ben Quzman en 40 Zéjeles, Alianza Editorial, Madrid, 1981.
García-Gómez, Emilio: Las Jarchas Romances de la Serie Arabe en su Marco, Sociedad de Estudios y Publicaciones, Madrid, 1965.
Gerhardt, Mia I.: The Art of Story-Telling, a Literary Study of the Thousand and One Nights, Leiden, E. J. Brill, 1963.
Ghazoul, Ferial J.: Nocturnal Poetics: The Arabian Nights in Comparative Contexts, The American University in Cairo Press, 1996.
Greene, Naomi: Pier Paolo Pasolini, Cinema as Heresy, Princeton University Press, 1990.
Grunebaum, G. E. von, Islam, Essays in the Nature and Growth of a Cultural Tradition, Routledge and Kegan
Gutas, Dimitri, Greek Thought, Arabic Culture, Routledge, 1998.
Heath, Peter: The Thirsty Sword-Sirat Antar and the Arabic Popular Epic, University of Utah Press, 1996.
Hermes, Eberhard (Edited and translated by): The 'Disciplina Clericalis’ of Petrus Alfonsi, Routledge & Kegan Paul, London, 1977.
Hess, Catherine (editor): The Arts of Fire-Islamic Influence on Glass and Ceramics of the Italian Renaissance, The J. Paul Getty Museum, Los Angeles, 2004.
Hovannisian, Richard and Georges Sabagh (editors): The Thousand and One Nights in Arabic Literature and Society, Cambridge University Press, 1997.
Irwin, Robert: The Arabian Nights, a Companion,
Juan Manuel, Infante Don: El Conde Lucanor, Editorial Magisterio Español, 1971.
Kabbani, Rana: Europe’s Myths of Orient, Indiana University Press, 1986.
Kaplan, Justin: Walt Whitman - A life, Simon and Schuster, New York, 1980.
Karolides, Nicholas J., Margaret Bald and Dawn B. Sova: 100 Banned Books, Checkmark books, New York, 1999.
Kean, P. M.: The Pearl, An Interpretation, Routledge & Kegan Paul, London, 1967.
Kelly, Douglas: Medieval French Romance, Twaynee Publishers, New York, 1993.
Lane, Edward William: Arab Society in the Time of the Thousand and One nights, Dover Publications, 2004.
Lasatyer, Alice E.: Spain to England, University Press of Mississippi, 1974.
Letts, Malcolm (tr.): Mandeville’s Travels, The Hakluyt Society, London, 1953, 3 Vols.
Lichtheim, Miriam: Ancient Egyptian Literature, Vol. I - III, University of California Press, 1976.
Liu, Benjamin M. and James T. Monroe: Ten Hispano Arabic Strophic Songs in the Modern Oral Tradition, University of California Press, 1989.
Loomis, Roger Sherman: The Development of Arthurian Romance, Hutchinson University Library, London, 1963.
López-Baralt, Luce: Huellas del Islam en la Literatura Española de Juan Ruiz a Juan Goytisolo, Libros Hiperión, Madrid, 1989.
Lyons, M. C.: The Arabian Epic, Heroic and Oral Story-Telling, Cambridge University Press, 1995.
Mahdi, Muhsin: The Thousand and One Nights, E. J. Brill, Leiden, 1995.
Mahfouz, Naguib: Arabian Nights and Days, tr. Denys Johnson-Davies, Doubleday, 1995.
Menocal, María Rosa: The Arabic Role in Medieval Literary History, The University of Pennsylvania Press, 1987.
Menocal, María Rosa: (editor, with Raymond P. Scheindlin and Michael Sells): The Literature of Al-Andalus, Cambridge University Press, 2000.
Merwin, W. S.: Sir Gawain and the Green Knight, Alfred A. Knopf, New York, 2002.
Mitchell, Donald G.: About Old Story-Tellers, Charles Scribner’s Sons, New York, 1877.
Monroe, James T.: The Art of Badi az-Zaman al-Hamadhani, American University in Beirut, 1983.
Murch, A. E.: The Development of the Detective Novel, Greenwood Press, New York, 1968.
Murray, Margaret Alice: The Witchcult in Western Europe- A Study in Anthropology, Oxford, 1921.
Naddaff, Sandra: Arabesque: Narrative Structure and the Aesthetics of Repetition in the 1001 Nights, Northwestern University Press, Illinois, 1991.
Nicholson, R. A.: A Literary History of the Arabs, Cambridge University Press, Reprint 1988.
Nykl, A. R.: A Compendium of Aljamiado Literature, New York, 1929. ...: Hispano-Arabic Poetry and its Relations with the Old Provencal Troubadours, Baltimore, 1946.
O’Leary, De Lacy: Arabic Thought and its Place in History, Dover, 2003. First published in 1922.
Espasa-Calpe Argentina, 3 Vol., 1946.
Viejos, Espasa-Calpe, Madrid, 17 edición, 1969.
Islam, Espasa-Calpe, Madrid, 1969.
Madrid, 5 edición, 1963.
Epica, Espasa-Calpe, Madrid, 2 edición, 1968.
Arabian Nights, E. J. Brill, Leiden, 1992.
Ranelagh E. L.: The Past We Share, Quartet Books, 1979.
Reiman, Donald H.: Percy Bysshe Shelley, ST. Martins Press, 1969.
Reynolds, Dwight Fletcher: Heroic Poets, Poetic Heroes: The Ethnography of Performance in an Arabic Oral Epic Tradition, Cornell University Press, 1995.
Ricoeur, Paul: Temps et Récit, éditions du Seuil, 1983.
Riley, E. C. Cervantes’s Theory of the novel, Oxford, 1962.
Salden, Douglas: Oriental Cairo-The City of the Arabian Nights, Hurst and Blackett, London, 1911.
Salomon, Roger B.: Desperate Storytelling, The University of Georgia Press, 1987.
Sánchez-Albornoz, Claudio: El Islam de España y el Occidente, Espasa-Calpe, Madrid, 1965.
Shamy, Hasan M. El: Folktales of Egypt, The University of Chicago press, 1980.
Shelley, Mary: The Journal of, John Hopkins University Press, 1987.
Spence, Lewis: Legends and Romances of Spain, Farrar and Rinehart, New York, n. d.
Swan, Charles (tr.): Gesta Romanorum, London, 1824, 2 Vols.
Swanson, Philip (editor): Landmarks in Modern Latin American Fiction, Routledge, 1990.
Tannhill, Reay: Sex in History, Stein and Day, New York, 1980.
Tatar, Maria: The Hard Facts of the Grimm’s Fairy Tales, Princeton University Press, 2003.
Thackeray, W. M.: A Journey from Cornhill to Cairo, London, 1846.
Todorov, Tzvetan: Introduction à la Littérature Fantastique, Editions du Seuil, Paris, 1970.
Todorov, Tzvetan: La Poétique de la Prose, Editions du Seuil,
Tolani, John: Petrus Alfonsi and His Medieval Readers, University Press of Florida, 1993.
Voltaire: Zadig, Classiques Bordas, 1995.
Watt, Ian: The Rise of the Novel, University of California Press, 1984.
Watt, W. M.: The Influence of Islam on Medieval Europe, Edinburgh University Press, 1972.
Wells, H. G.: Experiment in Autobiography, Little, Brown and Company, Boston, 1962.
Williamson, Edwin: Borges, a Life, Viking, 2004.
Page inconnue