Albert Camus : Essai Sur Sa Pensée Philosophique
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Genres
ولقد نبه كامي بنفسه إلى المكانة الممتازة التي تحتلها النظرية الإستطيقية (الجمالية الفنية) في فكرة الفلسفي؛ فهو يرى أن الفن بدوره حركة تثني وتنفي، وترحب وترفض في آن واحد. إن نيتشه يقول في عبارة مشهورة: «ما من فنان يحتمل الواقع.» هذا الرأي صحيح، ولكن ينبغي أن نضيف إليه أنه ما من فنان يستطيع أن يستغني عن الواقع. إن الإبداع الفني نشدان للوحدة ورفض للعالم في وقت واحد، ولكنه يرفض العالم بسبب ما يحس فيه من نقص وباسم ما يكون عليه هذا العالم في بعض الأحيان. ما من فن يمكن أن يوجد على أساس من الرفض الشامل؛ فالفنان الذي يريد أن يبدع الجمال مضطر إلى أن يرفض الواقع اضطراره في الوقت نفسه إلى تمجيد بعض جوانب هذا الواقع نفسه، فالفن إذن ينازع في قيمة الواقع أو يلغيه في بعض الأحيان، ولكنه لا ينسلخ عنه أبدا.
101
وإذا كان كامي يؤكد أن الإبداع الفني نشدان للوحدة ورفض للعالم في آن واحد، فهو بهذا التأكيد لا يقتصر على أن يقدم لنا التعريف الملائم للتمرد، وأن يبصرنا ببنائه الديالكتيكي فحسب، بل إنه يقدم لنا كذلك مفتاح فهم تفكيره الفلسفي على المستوى الجمالي والمستوى التاريخي معا. ونستطيع إن نقول إن مطلب التمرد للوحدة هو في الوقت نفسه مطلب جمالي وفني. هذا السعي إلى الوحدة، وهذا الرفض للعالم والموافقة عليه في آن واحد يجعلنا نتعرف على طبيعة التمرد والإبداع الفني معا.
وإذا كان التمرد بدون علاقته بالمحال لا معنى له (فالتمرد دائما تمرد على المحال كما قدمنا) فإن الإبداع والخلق في العمل الفني (وهو بحسب ماهيته عمل محال) هما في الوقت نفسه إبداع وخلق في التمرد. ونستطيع أن نذهب إلى القول بأن الفن يقرب الإنسان من الوعي الناصع بمصيره أكثر مما تصنع الفلسفة: «إنني أطالب العمل الفني المحال بما أطالب به الفكر؛ التمرد، والحرية، والتنوع.»
102
كان كل هم الإنسان في تجربة المحال منصبا على وصف العالم بكل ما فيه من تنوع الألوان والأصوات والمشاعر، دون أن يضيف إليها شيئا من عنده: «الوصف: ذلك هو آخر ما يطمح إليه الفكر المحال.»
103
وفي هذا الوصف الظاهري المحض، وفي غمرة اللحظة المباشرة التي يتم فيها هذا الخلق المحال لا يوجد ثمة حد فاصل بين المظهر والوجود. هذه النظرة الجمالية (الإستطيقا) في مرحلة المحال كانت ملائمة لأخلاق الكم الفردية المتعلقة بالأنا وحدها والتي كان شعارها يقول: «عش كما لو ...» ولكن التجربة حين اتسعت أبعادها بالتمرد اتسع معها المنهج وتغيرت معها الألفاظ، دون أن يؤدي ذلك إلى التعارض الصريح بين تفكير التمرد وبين تفكير المحال في إجماله؛ فالعالم لم يعد غريبا لا سبيل إلى تغييره (على الأقل من الناحية التاريخية لا الطبيعية) ولكنه أصبح قابلا للتغيير، لا بل لإعادة خلقه من جديد. والتمرد طاقة خلاقة تعيد خلق العالم في كل لحظة من جديد كما تبدع قيما جديدة على الدوام، وليست كالمحال نفسه مجرد تكرار عقيم لا نهاية له ولا أمل في الخلاص منه. وفي مرحلتي المحال والتمرد يبقى مطلب الإنسان للوحدة في أساسه على ما هو عليه، ولكنه لا يطلبها الآن لكي يعاند محالية العالم ويستنفد جهده في التحدي وحده، بل لكي يشكل هذا العالم من جديد على صورة القيمة التي اكتسبها عن طريق التمرد. ويبقى الدافع إلى طلب الوحدة في الحالين واحدا لا يتغير، ونعني به المحافظة على كرامة الإنسان والإبقاء على «عزته الميتافيزيقية». وليس الفن إلا الشهادة التي تنطق بهذه الكرامة والعزة الإنسانية، اللتين تتكشفان في التمرد على المصير المحال وفي الإصرار على مواصلة الجهد العقيم.
إن وصف كامي للإنسان وسعيه الدائب إلى الوحدة وراء التعدد، والحقيقة وراء المظهر، وحديثه عن العالم بما فيه من شقاق وغرابة وانفصال لم يتغير في جوهره في «إستطيقا» التمرد عنه في إستطيقيا المحال. ولعل الفارق الأساسي بين المرحلتين الفكريتين المتلازمتين هو في أن الإنسان في تجربة المحال لم يكن مطالبا بأن يخلق عالما موحدا خلقا جديدا على أساس قيم جديدة؛ فلقد كان الإنسان محكوما عليه بأن يموت مع متناقضاته، مع حقيقته الوحيدة (المحال) بعد أن يصل إلى الوعي الناصع بمصيره. أما في التمرد فالإنسان مطالب - على الرغم من الموت - بأن يبدع قيمة تمكنه من أن يشكل العالم من جديد.
104
Page inconnue