قال: وحياة الشمسة الحرة؟
قلنا: وحياة الشمسة الحرة.
قال: كنت مرة رايح المنصورة في طلب.
قلنا: أنت كداب، أنت عمرك رحت المنصورة؟
قال: وحياة المصحف الشريف رحت.
وصدقنا ولم نملك أنفسنا ووحوحنا. الحكاية ستحدث في المنصورة؟ والمنصورة كانت لا تبعد عن بلدنا كثيرا. كان القليل منا هو الذي رآها وهو صغير، وكلنا سمعنا عنها، وكلها أسماع محمومة براقة تغشي وتذهل.
وكانت في نظرنا لا بد شيئا كبيرا كالجنة، وفيها خواجات لا يحصى لهم عدد، وبنات كاللبن الحليب، ونساء أفرنج لهن ملايات لف حريرية تلمع وتلعلط، وقصب براقعهن لا بد صغير دقيق مثل عقلة الإصبع، وأنوفهن لا بد كحبة الفول، وأجسامهن لا بد مصنوعة من لحم طري وليس فيها عظام، وإنما هي كالملبن تجذبه فينجذب معك، وتلحسه فيسيل لعابك من حلاوته، والرجال هناك طريون لا يشبعون نساءهم، والنساء يمضغن اللبان فيطرقع في أفواههن الحلوة الضيقة، ويطلبن الرجال؛ رجال مثلنا فلاحون خناشير كفحول الجاموس.
وقلنا لمحمد مبهورين: وبعدين؟
ومضى محمد يحكي. قال إنه نزل من القطار وقضى طلبه، وبقيت لديه ساعات على موعد القطار التالي، فاشترى رغيفا خاصا، وأكله ومضى يتفسح في شارع المحطة. وكان الشارع ممتلئا ببيوت كبيرة لها بلكونات، وكانت الدنيا في العصر الضيق، وكانت البلكونات ممتلئة بالستات؛ ستات لو وزعن على رجال بلدنا لناب كل واحد طورة وفردة خربة. ومر ببلكونة كانت واحدة واقفة فيها ترتدي «روبا» أحمر.
واستخرجنا أنفسنا من التبن وسألناه: ما هو الروب الأحمر؟ فقال إنه شيء كالعباءة. وتشككنا في صحة كلامه؛ فقد كنا نسمع له كالقضاة نتأرجح بين التصديق والتكذيب. كنا نخاف دائما أن يكون ما يقوله مجرد حكاية يخترعها ليضحك بها علينا؛ ولهذا كان الشك يغلبنا ونرجح في الغالب كفة الاتهام.
Page inconnue