كنا لا نخوض في حديث المتاعب مع كثرة متاعبنا في النهار، كنا نشقى كالرجال تماما، بل في العادة أكثر من الرجال؛ فالكبار دائما كسالى يعشقون الظل ويتركون لنا الشمس، يرجوننا أحيانا وأحيانا أخرى يأمرون، ونحن في كلتا الحالتين سعداء؛ فالعمل رجولة ونحن ظامئون إلى الرجولة، وأن نكلف به معناه أننا قد أصبحنا كبارا يعتمد علينا وأننا شباب، وأن لنا غدا لا بد قريبا نتزوج فيه ونخش، ويكون لنا زفة وليلة حنة. كنا نعمل طوال اليوم كالنحل النشيط، ونأكل كثيرا، نأكل كل ما نعثر عليه في الغيط أو في البيت، وأمهاتنا سعيدات يدركن بغريزتهن أننا نكبر، وأننا في الطريق إلى النضج، فيدسسن لنا قطع الجبن والبيض واللحم من وراء آبائنا وإخوتنا وكأننا بط يزغطنه أو أوز. وكانت أجسامنا تستجيب وتشتعل، وتنفض عنها صفرة طفولة طالت، وشحوب السنين العجاف وما فيها من قصر، وتنمو؛ تنمو بسرع وكأنما تعوض في أيام كل ما فاتها من سنين، وكانت وجوهنا هي الأخرى تتغير، وتستدير، وتأخذ لون الأرض الخصبة ذات الطمي، وتمتلئ سيقاننا، وتبرز حناجرنا، وتغلظ منا الأصوات.
كنا جالسين فوق كومة التبن نغمغم ونحكي ونتحدث، والليل يقشعر بأصواتنا وبما فيها من رجولة وافدة جديدة، وأجسامنا تنتفض بقوى لا تجعلنا نستقر، ولا تجعلنا نحلم كما يفعل الصغار، أو نكبتها في حكمة كما يكبت الكبار.
كنا نجلس، وفي الحقيقة لم نكن نجلس، كنا ندفن أنفسنا في كومة التبن وكأنما نود أن تلمسنا الدنيا ونلمسها، ويضغط التبن علينا فنستعذب ضغطاته.
وكنا نتحدث، كنا نفرغ تلك الحمى المتأججة في كلامنا، وكنا نختار مجلسنا بعيدا عن البلدة، وبعيدا عن الناس، وكأننا نحس بما يدور في خلدنا، ونعتبره شيئا قبيحا لا يصح، فنختار للخوض فيه مكانا بعيدا.
ولم يكن حديثنا مرتبا ولا منمقا، كان يبدأ دون أن نعرف، ونستمر فيه ساعات ونحن لا ندري عن أي شيء نحكي. كنا نتكلم والليل وحده يسمعنا، بل لولاه ما تكلمنا. كنا نحب أن يشهد الليل حديثنا، بل نكاد ونحن نتكلم نوجه إليه حديثنا. ونحب الليل؛ نحبه وكأننا نرى في سواده وهدوئه وحنانه امرأة جميلة ذات نسمات ودم خفيف وسمرة أبنوسية تهيج كامن أعماقنا. ونكره النهار؛ نكرهه وكأنه رجل خشن غليظ القلب والقول لا يرحمنا ولا يسمح لألسنتنا أن تدور.
كان الحديث يبدأ بالطول، كل منا يحاول أن يثبت للآخر أنه أطول منه. وتقوم بيننا المراهنات، ويدعي الخاسر أن في أعلى فخده ورما وألما ويريه للباقين، فيطمنه الباقون؛ فالورم معناه طول جديد وعليه ألا يحزن. ثم ندلف إلى الأحلام ونتفنن في رواية كيف حدثت، ثم نقارن بين الأصوات، ويمد كل منا يده ويتحسس حنجرته ويرى مقدار ما حدث فيها من بروز.
ثم يحوم الحديث حول النساء. وكانت نساء بلدنا كبيوتها سودا لا أرداف لهن ولا صدور أو شرفات. كن كالرجال أو هن أقرب. كانت نساء البيوت البيضاء هن من يملأن علينا الحديث. وفي القرى بيوت سوداء كثيرة، وقليل من البيوت لها طلاء أبيض. ولا بد في كل بيت أبيض امرأة حلوة سهلة، وإلا لماذا خلقت دون النساء حلوة؟
وكان التبن يضج بحديثنا، ونهيج أحيانا ونقذف بعضنا بأحفنته ونثير العواصف، وينطلق منا من يعوي كالذئاب ويقول: روحوا يا ولاد!
ويخرسه الباقون لئلا يعثر علينا أحد، ونحن لا نريد أن يطردنا من مجلسنا خفير أو كبير؛ إذ إننا نتفرق بعدها إلى بيوتنا، ويرقد الواحد منا فوق ظهر فرن، أو في «بحراية»، ويكظم وحدته وحيرته وضيقه بالعفاريت التي تكهرب جسده وتحرمه النوم. هنا فقط - ونحن جماعة - يخيل إلينا أن العفاريت تسكن، وأننا حين نتحدث نرتاح، والحديث عذب حلو يا هوه، نريده ونطلبه وليس لنا سواه.
وما كان لجماعتنا قيمة بغير محمد. كان أكبر منا وحائرا مثلنا، ولكنه كان أكثر منا خبرة. كان قد خرج من بلدنا وذهب إلى البندر، ويعمل فيه، وله قصص ومغامرات. وكانت له بالنساء معرفة، وما من أحد فينا كان قد اطلع على النساء. كنا نراهن من بعيد ونخشاهن، ونتمناهن ويتملكنا خجل قاتل إذا انفردنا بهن. وكان محمد عزاءنا؛ يقص علينا مغامراته بالتفاصيل ونرتشف ما يقوله رشفا. وكنا نحبه، ونحب شاربه الخفيف الحديث، وكان في استطاعته أن يربي شعره؛ فآباؤنا كانت تجتث شعورنا أولا بأول ولا حق لنا بعد نمرة تلاتة. وكان لمحمد «قصة» صفراء يطليها أحيانا بالفازلين الذي يشحته من ناظر المحطة، وإن لم يجد فبالزبدة، وكانت بقية رأسه قصيرة الشعر. وكان يحلو له أن يلبس الطاقية الصوف ويرجعها إلى الخلف، فتظهر «قصته» ناعمة لامعة مسبسبة، ويحسب الرائي أن شعره كله لا بد ناعم لامع مسبسب. وكان بشفته العليا شق يجعل الإنسان يعتقد أنه شرس ويكرهه، ولكنه لم يكن شرسا. كان يضحك كثيرا، ولا يغضب منا، ويطير وراءنا إذا ضحكنا عليه. وكان قمحيا لم تسوده شمس الغيطان. كان يزرع، وذهب إلى البندر مرة، وما إن تذوق عيشه وطعميته حتى أقسم ألا يعود إلى المحراث أبدا. وكان يخيل إلينا ونحن جالسون معه أنه ليس من بلدنا، وأنه واحد من سكان المدينة المتنورين اللئام الناصحين الذين نرهبهم ونخشى أذاهم.
Page inconnue