وهنا كست وجه العجوز تكشيرة طيبة فيها يأس، وتهدل حاجباه فوق عينيه في عتاب صامت، وكانت يداه لا تزالان مدلاتين خلفه، ولكن الدقات همدت حدتها وتباعدت، وأصبحت كدقات قلب المشرف على الموت؛ تسكت طويلا ثم تبرق فجأة وكأنها تقاوم الفناء. وبين الحين والحين يلقي الرجل نظرة على القراريط التي باعها وآلاف القراريط التي لم يبعها، ثم يتمتم من بين شفتين ترتجفان بالبرد: يا كريم سترك.
وظل الرجل واقفا هكذا وكأنما ينتظر شيئا ما؛ معجزة تحدث وتفرغ الإبريق وتملأ جيبه. ثم خفت القدم، وخطا الكوبري عله يرزق، ولم يرزق، ووقف على جانب يحدق في الأرض والسماء والأضواء البعيدة والقريبة، ولا شيء يحدث ولا معجزة تهبط.
وهبط عليه يأس كامل، فارتفع حاجباه المتهدلان، ومضت التكشيرة إلى غير رجعة، وانبسطت ملامحه، وبدأت الدقات المتباعدة تتقارب وتتآلف، ولكنها اتخذت طابعا غريبا، فلم يكن لها ضجة الهدير المتتالي الذي يشبه صراخ الأوزة المذعورة. تآلفت الدقات وصنعت نغمة أخرى، نغمة خافتة راقصة حزينة. ظل الرجل يدق بيديه دون وعي، وتخرج النغمة دون وعي أيضا، وتخرج هامسة تتستر بالظلام ولا أحد يسمعها، حتى فطن الرجل إلى ما تحدثه أصابعه، فأنصت برهة وابتسم، ورفع حاجبيه وكأنما أعجبته النغمة وجاءته على الوجع فأوغل فيها، ومضى يضبطها ويحسنها وهو الخبير بدق الصاجات، حتى استحالت إلى همسات فيها بحة تخلع القلب وترهف الأنفاس. وأطربته النغمة إلى الدرجة التي راح يهز رأسه هزات خفيفة وقورة على وقعها، ثم ما لبث الاهتزاز أن وصل إلى شعيرات ذقنه، فأخذت تتأود وتتراقص.
وقف طويلا يرمق الناس والدنيا بلا مبالاة تامة، ويده اليمنى تهمس بالنحاس إلى النحاس، والطرب قد وصل إلى الإبريق وبوزه، فأخذ يرتعش هو الآخر ويتمايل، ولا أحد يسمع سواه، وهو منتش؛ لأن أحدا لا يسمع سواه، ولا أحد يلتفت إليه، والنغم يخرج حنونا دامعا حلوا في سكون المساء.
ظل واقفا إلى أن أحاله الظلام المتكاثر إلى شبح من الأشباح.
ثم بدأ الرجل يتحرك مروحا في اتجاه شبرا البلد.
تحرك بطيئا يائسا مثنيا إلى الوراء، ويداه خلفه، والصاجات تدق وهو يتحرك على وقع نغمتها الهامسة. كل خطوة بهمسة؛ همسة موجوعة ثكلى. وكل خطوة بدقة؛ دقة ناعمة فيها شجن. ويذوب شبحه في الليل حتى يختفي تماما، ولا تعود الأذن تسمع سوى همس النحاس إلى النحاس، وهو ينخفض ويشف وينخفض.
والدنيا كبيرة كبيرة، والظلام كثير كثير.
ليلة صيف
العشاء ولى، والتبن بارد وكومته عالية، والدنيا ليل؛ ليل مفضض؛ فهناك قمر عليه سحابات كمناديل الحبايب البيض تعافيه بالعافية، وتمضي وبلدتنا راقدة، قريبة منا، كقنفذ له أشواك وأحزان وأشجار. وكنا نحن جالسين نتحدث - لا نفعل كالكبار ونخوض في متاعب النهار - كنا نتحدث عن أنفسنا. كنا قد بدأنا نحس بشيء جارف عارم يتدفق في أجسامنا ويغيرها، ونحس بالتغيير يحدث كل يوم، وكان ذلك يسعدنا ويدهشنا، ونردد ونحن فرحانين: إحنا بلغنا.
Page inconnue