وأخيرا دخلنا ريف جانبولاد ، وكان منظره بهيجا. كان الهواء يهب على البساط الأخضر فيتموج سطحه كما يتموج أمام هبات النسيم. وكان الزهر يتخلل الخضرة بين أحمر وأبيض وأصفر، ومن فوقه ترفرف الفراشات متنقلة متقلبة تتواثب كأنها تلاعب الزهرات فوق أعوادها وتضحك منها إذ هي لا تستطيع أن تثب وراءها. فملأني المنظر مرحا واهتزت نفسي بعواطف نقلتني إلى عالم من الأحلام، فنسيت الفارس وحديثه، وانطويت على نفسي أتأمل ما طبع فيها من الصور البديعة، وتصورت علية ابنة علاء الدين وقلت في نفسي: «أين أنت الآن يا ملاك السماء؟ وأين انتهى بك المطاف الذي شردك إليه تيمور؟» فما صحوت من تأملي إلا على وكزة في صدري، فإذا بصاحبي يدفعني بمفصل مرفقه دفعا مؤلما. فقلت له وأنا أكظم غيظي: «ماذا تريد مني؟»
فقال لي في حنق: «ألا تسمع؟ أقول لك انزل. انزل وأحضر اثنتين من هذه.»
فلم أفهم وقلت له مستفهما: «اثنتين من أي شيء؟»
فأدار وجهه نحوي وقال: «نعم. اثنتين من هذه ...» وأشار برأسه إلى حقل مزروع بالكرنب. ما كان أعجب صاحبي هذا في تقلب نزواته!
وكان الحقل يانع الخضرة يغطيه كرنب كبير تفتحت أوراقه الخضراء عن قلب أبيض صاف، فقلت مترددا: «بكم؟»
فوكزني مرة أخرى وقال: «انزل. هات اثنتين. ألا تفهم؟»
فلم أجد مهربا من وكزه إلا بأن أتحرك وأهم بالنزول، وكان لا يزال واضعا قدميه في الركاب يهزهما والجواد سائر به قدما. فصحت به: «قف الفرس.»
فشد اللجام ورفع قدمه اليسرى من الركاب، ثم ساعدني على النزول. ولست أدري ماذا فعلت؛ فقد وقعت عن ظهر الجواد وتشبثت بالفارس حتى كدت أوقعه معي، لولا أنه دفعني فوقعت على الأرض وحدي، وقمت أنفض التراب عن ثيابي، ثم اعتدلت وفي وجهي شيء من التحدي، فصاح بي غاضبا: «أسرع ثم الحق بي.» وهمز الجواد وسار في طريقه، فلم أجد بدا من الطاعة، وتلفت حولي فلم أجد أحدا، فملت إلى طرف الحقل ونزعت منه كرنبة قريبة، وما كدت أفعل حتى سمعت صوتا يصيح بي: «ماذا تفعل؟»
ثم خرج رجل من عريش في أقصى الحقل وجاء يجري نحوي. فنظرت نحو الفارس فوجدته بعد عني ولا يزال يهز رجليه فوق الفرس، فوضعت الكرنبة على الأرض وأسرعت لألحق به. ولكن صاحب الحقل لم يدعني، وجرى ورائي وهو يصيح ويهدد ويشتم، حتى أدركني وأخذ بتلابيبي. وسمع الفارس الصوت فالتفت ووقف الفرس، ثم لوى عنانه وأقبل نحونا مسرعا. وكان الرجل يدفعني في صدري ويكيل لي السباب كيلا، ثم رفع هراوة في يده وكاد يهوي بها على رأسي، لولا أن الفارس همز جواده وأدركني. فلما رآه الرجل أرخى يده وأنزل هراوته وأطلقني من قبضته، وقال في خوف وهو ينظر نحوه: «هل هذا معك؟»
ثم قال للفارس في خشوع: «هل هو معك يا جندي؟» فأقبل عليه صاحبي وأخذ يقتص منه بما شتمني به، ورفع يده بالسوط. فصاح الرجل: «لم أعرف أنه معك.» ثم جرى نحو الحقل فرفع الكرنبة التي قطعتها وقلع معها ثلاثا أخرى وجاء يحمل كل اثنتين في يد من يديه الغليظتين، حتى قدمها إلي؛ أربع كرنبات عظيمة منفوشة.
Page inconnue