وما كدت أنطق بهذه الكلمة حتى خجلت خجلا شديدا؛ لأن لفظي خانني. كنت حقا شديد الجوع، ولكن ما كان ينبغي لي أن أدعو نفسي إلى طعامه. وكأنه قد لحظ خجلي فقال لي مترفقا: ستذوق طعامي وستحكم على مهارتي.
فسرى عني وقلت مبتسما : أشكرك، إنك رجل كريم. فنظر إلي مسرورا، وهز رأسه مرتاحا إلى مديحي، وكشف غطاء القدر وجعل يقلب ما فيها بخنجره وهو يمص شفتيه، ولا أكتم أن رائحتها كانت تنفذ إلى أعماق صدري طيبة شهية، وأخرج قطعة لحم فجسها بظفره ثم أعادها إلى القدر، وتحرك في مجلسه وفرك يديه مسرورا وقال: «سيكون عشاء عظيما.» ثم قام يهيئ السفرة، فقمت معه لأساعده، وما هو إلا قليل حتى كنا نتسابق في التقام الطعام.
ولم يقم الفارس عن طعامه حتى شرب أكثر زقه وتركه على الأرض مفشوشا، وكنت قد أمتعت نفسي بالطيبات وأثنيت على طعمها ورائحتها، وكان القمر لا يزال في كبد السماء، فقمت لأصلي ما فاتني من الأوقات. وجلسنا بعد ذلك نتسامر، حتى طالت ظلال الأشجار تحت القمر المنحدر، واشتد برد الليل فتلففت في ثيابي، واضطجعت فوق كومة من الحشيش الجاف وتغطيت بشيء منه، وعمد صاحبي إلى كومة أخرى ففعل كما فعلت.
الفصل الثاني عشر
قمت في الصباح فتوضأت وصليت. وكانت الصلاة إلى جانب الغابة قرة عين؛ فهناك كنت أتمثل قدرة الله في خلق هذا الكون البديع، وكنت أصلي بقلبي وعقلي ولساني. ثم أخذ الفارس يستعد للسير بعد أن أصاب شيئا من الزاد وأشركني فيه ونحن على عجل، وأقبل على فرسه يمسحه ويخدمه وأنا أنظر إليه متعجبا وأسائل نفسي عما جمعني به. فسرحت أفكاري فيما رأيته الليلة السابقة من نضال بين الأحياء، حتى كدت أعتقد أن الحياة الإنسانية ليست إلا جزءا من حياة الغابة. وكدت أنكر ما توهمته من فضل امتاز به الإنسان على سائر الحيوان؛ إذ أقام لنفسه نظاما وسن من القوانين ما يحمي الضعيف من القوي، ويكفل الحياة للصغير والبطيء. كدت أنكر كل هذا، بل لقد خطر لي أن الحيوان في الغابة أسلم وآمن فيما بينه وبين نفسه؛ لأن النضال إنما يكون بين صنوف مختلفة منه؛ فالأسود لا يفترس بعضها بعضا، ولا يتخذ بعضها البعض خدما، ولا تفرق بين أنفسها بحدود، ولا تجعل في جنسها أمما يحتقر بعضها بعضا أو تتقاتل وتتفانى فيما بينها. وهي لا تتناكر ولا تتشاحن؛ لأن الله لم يصبها بذلك المصاب الوبيل؛ تحريك اللسان بنطق اللغات. وليس فيها من يميز نفسه على سواه بعلامة مصطلح عليها، فلونها واحد وأنيابها متشابهة، وذيولها سواء في طولها، ولم يمتحنها الله بمحنة الملابس التي يتخذها الإنسان وسيلة للتفريق والتمييز بين بعض وبعض؛ فكل فرد في الغابة مساو لكل فرد آخر من جنسه. جعلت أفكر في هذا حتى بلغ بي الأمر أن تمردت على الإنسانية، وجعلت أشتد في تعنيفها واتهمتها بأنها تداري سيئاتها تحت ستار خداع استعانت به على إخفاء الحقائق عن نفسها.
لقد بدا لي عند ذلك أنني أسير وراء الفارس كما يسير فرسه من تحته، لا أملك أن أتحول عنه كما لا يملك الفرس أن يتحول عنه، وأنه إنما يخدعني إذ يترفق بي أو يبسم في وجهي؛ فإن جوهر الأمر كله أنه أخضع إرادتي لإرادته، وليس بعد هذا مرتبة أبلغ في القسر والعدوان.
وساقتني هذه الأفكار بدفعها حتى تصورت الإنسان أحمق الكائنات وأبشعها وأقساها، تمثلته عند ذلك عبدا للألفاظ التي كان يحلو له منذ القدم أن يخدع نفسه بها. كان في العصور السالفة ينحت قطعة من الحجر ويسميها بلفظ جميل، فإذا هي عنده إله مقدس يعبده ويتقرب إليه، ويقوم عليه السدنة والكهنة يتجرون باسمه الجميل. ثم ها هو ذا اليوم يجعل من الجرائم فضائل ويسميها أسماء جميلة؛ يسميها «الحرب» و«المجد» و«العظمة» وما هي إلا جرائم قتل ونهب وتدمير. هذا «تيمور» وما أحراه أن يكون في أعين الناس أشد المجرمين خطرا، وما أجدر الناس بأن يقيدوه في السلاسل ويجعلوه في مأمن لا يستطيع الهروب. ولكنه أفلح في أن يسمي جرائمه أسماء جميلة، فاستطاع أن يفوز بالسلطان الأعظم في الأرض.
ومر الوقت سريعا وأنا أنظر إلى صاحبي وأناجي هذه الخواطر المضطربة، ثم رأيته قام وركب وأشار إلي أن أسير وراءه، فقمت خاشعا ومضى في سبيله يهز رجليه ويغني على عادته. ولو واتتني خفة النفس لغنيت مثله، ولكن أفكاري أبعدت عني الألحان جميعا، فسرت مطرقا حتى سمعته بعد حين يناديني، فرفعت رأسي فرأيته يومئ إلي أن أقترب منه. ثم سألني هل أحب الركوب وراءه؟ فدار رأسي ولم أدر بم أجيب. فظن الرجل أنني أتردد لأني لا أعرف الركوب، فتحرك وجعل يبين لي الطريقة المثلى لمن أراد أن يعلو ظهر الخيل، وعلمني كيف أضع رجلي اليسرى في الركاب، وكيف أتحامل عليه وأثب على ظهر الفرس، ثم مد يده لكي يساعدني حتى علوته من ورائه. وخشيت أن يرانا أحد على هذه الحال فيسخر منا، فتلفت حولي فلم أجد أحدا، فسكنت وراءه وأمسكت بردائه، ووجدت بعد قليل راحة في الركوب بعد السير الذي هد قواي في اليوم السابق.
واتصل الحديث بيننا، وكنت أجد بعض المشقة في فهم أقواله؛ فقد كانت لكنته الأعجمية تخفي ألفاظه، ويزيدها فسادا أنه كان أهتم لا يحسن النطق بالحروف. ولكني مع هذا كنت أفهم مجمل قوله تخمينا، ولم تكن الحاجة تدعو إلى فهم كل كلامه؛ فكان إذا أراد مخاطبتي لفت رأسه نحوي فأرى صفحة وجهه كأنها صورة رسمها طفل في ورقة يعبث فيها، وإذا أردت أنا مخاطبته أخرجت رأسي من ورائه حتى يراني. ولست أدري كيف يرى صفحة وجهي، ولكنه كان بين حين وآخر يضحك إذا وقعت عينه على عيني حتى يبدي أسنانه السوداء المنثورة في فمه. فكنت أرد عليه بضحكة مثلها تخرج من ثنايا قلبي. وكان أكثر ما قاله لي لا يزيد على وصف مغامراته في الحروب مع تيمور، ويمكن الإنسان في سهولة أن يلخص ذلك كله في بضع كلمات: إنه شارك في سفك دماء الكثيرين من بني آدم.
وكنت أحيانا أضيق بحديثه، وأهم بأن أقذف نفسي من ورائه لولا أن الجواد كان يسير. فكنت أحاول أن أصرف حديثه إلى معنى لا يثير في خيالي مناظر الدماء، واستطعت بعد لأي أن أستدرجه إلى التحدث عن نفسه وعن أولاده، فوجدت ذلك الحديث أكثر إيناسا لأنه دلني على أن الرجل كان آخر الأمر إنسانا يعرف معنى المحبة.
Page inconnue