ولم تشرق الشمس من غد حتى كان صاحبنا وزيرا، ولم يرتفع الضحى من اليوم نفسه حتى كان صاحبنا لا يخاف شيئا كما يخاف الهدهد، ولا يبغض شيئا كما يبغض الهدهد، ولم يكن بالأمس يأنس إلى شيء كما كان يأنس إلى الهدهد، ولم يكن بالأمس يحب شيئا كما كان يحب الهدهد، ولكن صدق الهدهد قد أقر في نفسه أيضا أن الهدهد لا يستطيع أن يأتيه بعد الوزارة بنبأ يسر أو يروق؛ فمن يدري إن أقبل الهدهد إليه يحمل نبأ استقالة الوزارة؟ وليس الهدهد صديقا له وحده من دون الناس يحمل إليه وحده الأنباء السارة، فقد يكون للهدهد أصدقاء آخرون يمكن أن يحمل إليهم أنباء سارة صادقة، ويمكن أن يكون من هذه الأنباء نبأ استقالة الوزارة والدعوة إلى الاشتراك في الحكم.
قل إن هذا منطق سخيف، وأؤكد لك أني أرى هذا منطقا سخيفا، ولكني أؤكد لك أيضا أن للحوادث منطقا غير منطق الناس، وإن التفاؤل والتشاؤم يعبثان بعقول الناس، فيفسدان منطقهم في رأي أرسطاطليس وفي رأي الأستاذ لطفي السيد، ولكنهما يقربان بين هذا المنطق وبين منطق الحوادث أحيانا، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن صاحبنا قد تطير بالهدهد طيرة شديدة كما كان يتفاءل به من قبل تفاؤلا شديدا، وأنه لم يسع قط إلى غرفة استقباله إلا وفي نفسه إشفاق شديد أن يرى الهدهد قائما على البيانو في مكانه ذاك، ولو استطاع لتقدم إلى أهله في أن تغلق نوافذ الدار ما أشرق النهار، وفي ألا تفتح إلا حين تنام الطير، والشيء الذي لا شك فيه أيضا هو أن استحى أن يتقدم في ذلك إلى أهله مخافة أن يظنوا به الظنون، ولكنه تقدم إلى أعوانه في الوزارة ألا تفتح نوافذ مكتبه، وزعم لهم أنه يكره أن يأتيه منها الضجيج والعجيج ويشفق من تيارات الهواء ويؤثر الضوء الرفيق على الضوء العنيف.
وحياة الوزراء حافلة بخطوب السياسة وأحداثها، فهم يرضون إذا أصبحوا، ويغضبون إذا ارتفع الضحى، ويعودون إلى الرضا حين ينتصف النهار، ويردون إلى السخط حين يجلسون إلى الغداء كل ساعة من ساعات الليل والنهار تحمل إليهم في دقائقها ألوانا من الرضا والسخط، ومن الأمن والخوف، ومن القلق والهدوء، فكان صاحبنا كلما حدث حادث مغضب أو مقلق وكلما نشر خبر مسخط أو مثير للخوف لم يذكر إلا الهدهد ولم ير أمامه إلا الهدهد، فقد كان الهدهد رسول النعمة إليه قبل أن يرقى إلى الحكم، فأصبح الهدهد نذير النقمة إليه بعد أن ارتقى إلى الحكم.
ولكل أجل كتاب، ولكل وزارة آخر، وقد أقبل صاحبنا مع الضحى ذات يوم على مكتبه، ولكنه لم يكد يدخل حتى رأى حبيبه أمس وعدوه اليوم قائما بشكله الجميل البشع على حافة النافذة وقد نسي الخدم إغلاقها لأمر ما، ولست أصف لك ثورة الوزير الظاهرة فقد تعرفها وهي لا تعنيني، وإن كان خادم مكتبه قد سمع ما لا يرضي وقضى ساعة منكرة، وإنما أصف لك تشاؤم الوزير فيما بينه وبين نفسه؛ فقد أظلم قلبه واربدت نفسه وساء خلقه وقبح لقاؤه للموظفين والزائرين جميعا، وعاد إلى أهله غضبان أسفا لا يكاد ينطق، وجلس إلى الغداء فلم يكد يصيب منه شيئا حتى قالت زوجه: إنك لمحزون منذ اليوم، هل من جديد؟ قال وهو يتكلف الابتسام: ما أدري ولكن رأيت الهدهد البغيض. قالت وقد كادت العبرة تخنق صوتها: لقد أصبح الهدهد بغيضا الآن وما أكثر ما كان يملأ قلوبنا غبطة وسرورا! ثم خلت إلى أبنائها فضحكت وضحكوا.
ولكن المساء لم يقبل في ذلك اليوم حتى كان صاحبنا يستأنف القراءة في كتاب مكسيم جوركي من حيث تركها، وحتى كانت زوجه تعزف على البيانو شيئا من ألحان موزار، أما هو فكان محزونا يلعن الهدهد، وأما هي فكانت راضية تثني على الهدهد ثناء كثيرا، وأما الناس فكان منهم الراضي المستبشر وكان منهم من مزق الغيظ قلبه تمزيقا.
يأس
لم يكد يرفع قدح الشاي إلى فمه حتى رده إلى المائدة متعجلا حذرا، فقد أحس رعدة خفيفة تصعد في جسمه وتنتشر وتوشك أن تبلغ ذراعه، فتضطرب يده بهذا القدح الممتلئ الذي كانت ترفعه، ويحدث هذا الاضطراب - وإن خف - حدثا على هذه المائدة الأنيقة التي لا ينبغي أن يفسد جمالها قدح يميل إلى يمين أو إلى شمال ويتخفف من بعض ما يحتويه، ولم يسأل نفسه عن مصدر هذه الرعدة التي جعلت تسعى في جسمه كما يسعى النمل، فقد كان وقته أضيق من السؤال والجواب ومن البحث والاستقصاء، وقد كان هو عالما في دخيلة نفسه بمصدر هذه الرعدة، فلم يكن من الممكن أن تعرض له إلا إذا أقبلت عليه ربة الدار عامدة إليه كأنما تريد أن تختصه ببعض الحديث، ومن أجل هذا تعجل وضع القدح على المائدة، ورفع رأسه، وعدل قامته وتهيأ للنهوض.
وما هي إلا لحظة أو لحظتان حتى رآها تقبل مشرقة الوجه مبسوطة الأسارير قد رسمت على ثغرها الجميل ابتسامة حلوة غامضة، فلما تبين أنها عامدة إليه نهض، ولكنها أشارت إليه ألا يفعل، ثم قالت له في صوت خافت يوشك أن يكون همسا ولكن فيه شيئا من غضب: هل تعلم يا سيدي أن صمتك اليوم يسوءني؟ قال: وهل سرك قط منطقي يا سيدتي؟ قالت وقد اتسعت ابتسامتها: هذا حساب سنستوفيه إذا خلت لنا الجنة بعد حين. قال وهو يدافع غيظا يريد أن ينفجر: تريدين أن تقولي إذا خلا لنا الجحيم بعد حين. هنالك انصرفت عنه رفيقة رشيقة بعد أن ألقت إليه نظرة ذهبت بقلبه كل مذهب وسلكت بعقله كل سبيل، وقد ظل واجما في مكانه لحظات ثم أقبل على ما كان أمامه، فأكل قليلا وشرب كثيرا، وترك مجلسه بعد ذلك وجعل يتنقل في الحديقة بأحاديثه وتحياته وابتساماته فرحا مرحا منطلق اللسان خفيف الحركة حتى قال بعض الزائرين لبعض: لقد عرفت ربة الدار كيف ترد إليه الحياة، وتشجع فيه النشاط، وتنقله من جمود وخمود إلى نشاط يوشك أن يخلو من الوقار. أما هي فقد مضت في تحية الزائرين كأن لم يكن شيء، وجعلت توزع بينهم بالقسط حينا وبغير القسط أحيانا سحر اللحظ واللفظ، تقف إلى هذا فتطيل الوقوف، وتلقي إلى هذا كلمة سريعة عابرة، وإلى هذا نظرة كأنما تختلسها اختلاسا، وتشرف مع هذا كله أو رغم هذا كله على حركة الخدم الذين كانوا يسعون بألوان الطعام والشراب على الزائرين حتى كأنها لم تكن ذات نفس واحدة، وإنما كانت ذات نفوس كثيرة يعنى بعضها بالزائرين ويعنى بعضها الآخر بالخدم، يعنى بعضها بتوزيع الخبز ويعنى بعضها الآخر بتوزيع الدعاية، وعيون الزائرين على كثرتهم ترمقها في إعجاب وإكبار أحيانا، وترشقها في غيظ وحسد أحيانا أخرى، وربما تعلقت بعض العيون بوجهها المشرق الجميل، وربما تعلقت عيون أخرى بهذا الفن أو ذاك من فنون زينتها الرائعة البارعة، وربما اجترأت بعض العيون الوقحة فتزلقت على شخصها كلها من رأسها إلى قدميها تعرب بذلك عن عواطف فيها كثير من الكلف والفتون.
ولو خير الزائرون لاختاروا ولأطالوا المقام في هذه الحديقة الجميلة، وفي هذا الاجتماع الحلو، وحول هذه الغادة الفاتنة حتى يتقدم الليل، ولكن للحياة الاجتماعية أوضاعها وتقاليدها، وساعات الشاي محدودة يقاس طولها وقصرها بما للزائرين عند أصحاب الدار من مكانة. هؤلاء يلمون إلمامة قصيرة ثم ينصرفون، وهؤلاء يقيمون ساعة أو بعض ساعة ثم يمضون، وهؤلاء يمدون الإقامة حتى يخلو لهم وجه صاحبة الدار لحظات قصارا أو طوالا، والمقربون المقربون من الخاصة يتخلفون وينظرون إلى المنصرفين في شيء من الإشفاق والازدراء أو التعجل، حتى إذا انصرفت كثرة الزائرين أحاطوا بصاحبة الدار مهنئين لها مترفقين بها، متندرين بقوم كانوا يترضونهم ويتملقونهم منذ حين، وكان صاحبنا ذلك من أخص الخاصة وأقرب المقربين، وهو من أجل ذلك قد تخلف مع المتخلفين، فلم ينصرف حين انصرفت الكثرة، ولم ينصرف حين انصرفت القلة، وما كان له أن ينصرف وبينه وبين صاحبة الدار حساب سيستوفيانه إذا خلت لهما الجنة كما قالت، أو إذا خلا لهما الجحيم كما قال .
وفي الحق أن هذه الحديقة التي مدت فيها موائد الشاي كانت جنة وجحيما في وقت واحد، كانت جنة بهذه الأشجار الباسقة الملتفة المتكاثفة وبهذا الزهر الباسم عن ألوان مختلفة من الجمال، وبهذه البسط الخضر الرائعة التي كست أرضها ونشرت فيها رائحة ودعة ولذة للجسم والنفس جميعا، وبهذه النجوم التي كانت ترسل بين حين وحين أشعتها الضئيلة النحيلة كأنما تبحث بها عن شيء في أفناء هذه البسط أو في أحناء هذا الشجر، ثم بضوء القمر هذا الرفيق الذي نشر على شجرها وزهرها وعشبها أردية دقاقا تريد أن تصفو كل الصفاء، ولكن ظلمة الليل تشوبها بعض الشيء، فتشيع فيها ما يملأ النفس رضا يريد أن يصفو لولا هذا القلق اليسير الذي يتردد في جنباته بين حين وحين.
Page inconnue