بعد الصيف
بين كأسين
صريع الحب والبغض
فجاءة فاجعة
الذوق
من عمل الشيطان
الفأل
يأس
ربع مية
من وحي الريف
رحلة
في الثقافة
ذات القفاز الأخضر
سن جولييت
مدام خمسة عشر
بعد الصيف
بين كأسين
صريع الحب والبغض
فجاءة فاجعة
الذوق
من عمل الشيطان
الفأل
يأس
ربع مية
من وحي الريف
رحلة
في الثقافة
ذات القفاز الأخضر
سن جولييت
مدام خمسة عشر
أحاديث
أحاديث
تأليف
طه حسين
بعد الصيف
ربوة تلقى حين ترقى إليها جهدا عظيما؛ لأنها لم ترتفع في الجو رويدا رويدا، ولم تدبر صعودها فيه تدبيرا، وإنما وثبت إليه وثوبا مفاجئا، فقامت أمامك كما يقوم الجدار، فأنت لا تصعد فيها تصعيدا هينا لينا، وإنما تصعد تصعيدا شاقا عسيرا، فإذا انتهيت إلى قمتها وجدت الأرض قد انبسطت لك واستوت، فليس فيها عوج ولا التواء، وأحسست كأنك ارتفعت فوق هذه الحياة المضطربة المختلة التي يجري نهرها في القرية تحت قدميك، يملؤها الكدر والغثاء، وأحسست كأن الشركة بينك وبين هذه الأحياء التي يزدحم بها النهر قد انقطعت، وكأنك من جوهر مصفى لا يشارك هذه الجواهر الكدرة في شيء، ثم أحسست كأن ضغط الهواء قد خف وكأن في نفسك وجسمك ميلا شديدا إلى الارتفاع والعلو، وكأنك تريد - لو خلي بينك وبين ما تريد - أن تطير في الجو، وتعيش مع هذه الأحياء الأخرى التي تتخذ الهواء ميدانا لما تأتي من حركة وما تنفق من حياة.
ثم تنظر فإذا صدق لا ترف فيه ولا تأنق، قد قام في ناحية من هذه الربوة، يدعوك إلى الراحة والحياة المطمئنة، حين تود لو تظفر بالراحة والحياة المطمئنة، بعد أن تشارك هذه الطبيعة القوية فيما هي فيه من حياة ونشاط، وقد انبسطت أمام هذا الفندق مروج لا تكاد تنتهي، وقامت في هذه المروج هنا وهناك أشجار تنفرد حينا وتجتمع حينا آخر، وتختلف فيما بينها اختلافا غير قليل؛ فمنها ما يثمر للإنسان ألوان الفاكهة، ومنها ما يمنحه الظل والجمال. وقد انتشرت في الجو المرتفع لهذه المروج ضروب من الطير مختلفة الأصوات والنغم، متباينة الألوان والأحجام، ولكنها تشترك كلها في الغناء والنشاط، وانتشرت في الجو المنخفض لهذه المروج ضروب من الحشرات الصغار الدقاق، تريد أن ترتفع فلا تواتيها القوة، فتظل قريبة من هذه الأرض الخضراء، واستخفت بين هذه الأعشاب الكثيفة الصفيقة حشرات أخرى مختلفة متباينة لا تكاد ترى ولا تكاد تحس، لولا أنها تستلذ الحياة في هذه المخابئ الوثيرة، وتستلذ ما يصل إليها من هذا النسيم الخفيف الأرج، وتستلذ حياتها الضئيلة اليسيرة كلها، فتندفع إلى غناء مختلف مؤتلف، ولكنه متصل على كل حال، وقد نجمت من بين هذه الأعشاب الكثيفة الصفيقة، وحول هذه الأشجار القائمة الشاهقة في الجو، نجوم تحمل ألوانا مختلفة من الزهر، وتنشر ضروبا متباينة من الورق النضر، ثم غمر هذا كله عرف لذيذ حلو حاد يبعث في الأنف لذة وفي النفس نشوة، وفي الجسم قوة ونشاطا، واستزادة من الحياة.
وهذا كله يختلف من حين إلى حين، حين تبسم له الشمس، فتلقي عليه أشعتها الحارة الهادئة، وحين تعرض عنه الشمس، فتنشر بينها وبينه سحابا رقيقا، وحين تغضب منه الشمس، فتحتجب عنه احتجابا، وتنشر بينها وبينه سحبا كثافا، وحين تسخط عليه الشمس، فتقطع ما بينها وبينه من صلات المودة والحب، وتخلي بينه وبين هذه السحب الكثاف، فإذا هي تصب عليه الماء صبا، أو تحصبه بالبرد حصبا، وأنت تشهد هذا كله مستمتعا به منغمسا فيه حين ترضى الشمس، ومتحفظا حين تسخط، ومترددا بين هذا وذاك حين تعرض إعراضا يسيرا أو عسيرا، فأنت تحيا في المرج حينا منقطعا له، ممتزجا به، أو منصرفا عنه بعض الانصراف إلى حديث عذب، أو كتاب ممتع، وأنت تهيم في المرج حينا آخر صارفا نفسك مرة إلى السماء من فوقك، ومرة إلى هذه الأرض الخضراء تحت قدميك، ومرة إلى ما بينهما من الشجر والزهر، تمتع بهذا كله نفسك وحسك وقلبك وعقلك، وتستمتع بهذا كله استمتاع الرجل الذي قد استكمل الحياة، فلم يجد فيها نقصا ولا ضعفا، حتى إذا أدركك المساء وتقدم بك الليل وعرفت أن هذه المروج لن تحسن ضيافتك ولا مؤانستك، وأن هذه القرية التي تضطرب في الحضيض بما يملؤها من سخف الحياة وباطلها لن تقدم إليك ما تقدمه إليك المدن من هذا اللهو الراقي الممتاز الذي هيأته الحضارة للمتحضرين؛ آويت إلى غرفتك وسمرت فيها مع كتاب ممتع من هذه الكتب، التي يحول العمل بينك وبينها أثناء العام، ولا تستطيع أن تفرغ لها إلا في الصيف، وما تزال في ذلك حتى تحس الحاجة إلى النوم، فتأوي إلى مضجعك وتستسلم فيه لراحة هادئة حلوة مطمئنة، حتى يوقظك غناء الطير، فتستأنف الحياة كما بدأتها أمس، وكما ستستأنفها غدا وبعد غد، حتى تدعوك ضرورة الحياة إلى أن تهبط من هذه الربوة وتخرج من هذه العزلة وتنغمس في هذا النهر الكدر الذي نسميه حياتنا اليومية.
على هذا النحو قضيت الصيف بعد أن أنفقت في مصر أعواما لم أذق فيها للراحة طعما، ولم أعرف فيها للهدوء والطمأنينة ذوقا، وكم كنت قد دبرت من خطة، وهيأت من عمل لهذا الصيف، وقد كنت أحدث نفسي بأني سأستريح بعد جهد وجد، وسأخلص من هذه المشاغل السخيفة التي تملأ الحياة في مصر، وسأوفق بين راحة الجسم ونشاط العقل، وبين التروض والإنتاج، فأكتب الرسائل وأفرغ للدرس، وقد أتم كتابا ما زال ينتظر أن يتم، وقد أعود إلى مصر وقد أخذت من القوة أعظم حظ ممكن، وجنيت من هذه المروج والرياض زهرات أنسقها تنسيقا، ثم أقدمها إلى الناس في كتاب أو كتب.
نعم، وكم فكرت فيما يمكن أن أكتب، وكم فكرت فيما يمكن أن أدرس، ولكني أعود إلى القاهرة بعد هذه الرحلة الطويلة، بعد هذه الأشهر الثلاثة التي أنفقتها على تلك الربوة، وفي تلك المروج، أو على ربوة ومروج تشبهها من قريب أو بعيد، أعود ولم أكتب فصلا، ولم أتم كتابا كان ينتظر أن يتم، ولم أبدأ كتابا كنت أحب أن آخذ فيه.
أعود فارغ اليدين كما سافرت فارغ اليدين، والغريب أني لا أحس حزنا ولا ألما ولا أسفا، ولا ألوم نفسي على شيء، ولا أكره ما قد يتحدث به إلي الشيطان من أني قد أضعت الوقت في هذه الأشهر الطوال.
ذلك أن إضاعة الوقت شيء إضافي يختلف باختلاف الظروف وباختلاف التقدير، فلعلي أضعت الوقت بالقياس إلى الصحف التي كانت تريدني على أن أكتب لها الرسائل، وبالقياس إلى الناشرين الذين كانوا يريدونني على أن أتم لهم كتابا، أو أبدأ لهم كتابا، وبالقياس إلى بعض القراء القليلين الذين كانوا يحبون أن يقرءوني من حين إلى حين.
لعلي قد أضعت الوقت بالقياس إلى هؤلاء، ولكني واثق بأني لم أضع الوقت بالقياس إلى نفسي، فقد حييت في هذه الأشهر الحياة التي أرضاها: حياة الراحة النقية والقراءة الخصبة المتصلة المختلفة، ولو أني خيرت لما عدلت بهذه الحياة حياة أخرى، مهما تكن ظروفها، ومهما تكن ألوان الإغراء بها والترغيب فيها، بل من يدري؟ لعلي لم أضع الوقت على هؤلاء، فقد أنفقت أربعة أعوام لا تكاد تنقطع فيها كتابتي إلى الصحف وأحاديثي إلى القراء، فمن يدري؟ لعل الصحف كانت في حاجة إلى أن أريحها، ولعل القراء كانوا في حاجة إلى أن أرفه عليهم، فقد يكون من حق الكاتب نفسه أن يستريح، ولكن من حق الكاتب على نفسه أن يريح أيضا، وقد أرحت القراء وأرحت نفسي أشهرا من هذه الثرثرة المتصلة الفارغة، ولكن الصيف قد انقضى مع الأسف الشديد وعدت إلى مصر مع العائدين، واستأنفت العمل مع المستأنفين، ولا بد من استئناف الكتابة والحديث فيما أستأنف من الأعمال.
ولست أدري أيستقبل القراء كتابتي وأحاديثي باسمين راضين، أم مبتسمين ساخرين، أم عابسين ساخطين؟ أما أنا فأعلم حق العلم أني لا أستقبل الكتابة باسما ولا راضيا، وأني قد أكتب ساخرا من نفسي ومما أكتب، وقد أكتب خطا على نفسي وعلى ما أكتب، ولو خيرت لما اخترت كتابة ولا حديثا، ولكن من للكاتب بهذه الحياة التي لا يكتب فيها، فهو مدفوع إلى الكتابة بطبعه، فإن أدركه الملل أو التقصير أو القصور، دفعه الذين يريدون الكتابة إلى أن يكتب، دفعه أصحاب الصحف الذين يريدون أن يملئوا صحفهم ، والناشرون الذين يريدون أن يملئوا مكاتبهم، والقراء الذين يريدون أن يملئوا أوقات الفراغ، وما أكثر أوقات الفراغ في مصر! وما أطولها على المصريين!
وقد تسألني لم أكره الكتابة أو أضيق بها؟ ولم أزهد في الحديث أو أنفر منه؟ فانظر حولك تجد الجواب؛ فليس مما يرضي ولا مما يلذ أن تكتب فإذا أنت مضطر إلى النقد المتصل واللوم المستمر، وأن تتحدث فإذا أنت مكره على أن تسجل في حديثك ما يحزنك أو يسوء، فقد يجد الإنسان في النقد لذة أحيانا، ولكن النقد إذا اتصل ثقل على الناقدين أنفسهم، فكيف إذا لم يجد منه الكاتب بدا، ولم يجد عنه منصرفا؟! ولست أدري في حقيقة الأمر كيف يستطيع الكاتب الأمين أن يكتب فيرضى ويرضي القراء، وكيف يستطيع المتحدث النزيه أن يتحدث فيرضى ويرضي المستمعين له، وليس في مصر ما يرضي أحدا، وليس بين المصريين من يرضى عن شيء، وإنما كل شيء في مصر يحزن ويسوء، وكل إنسان من المصريين ساخط محزون.
ما أعظم الفرق بين تلك الربى الباسمة المشرقة التي قضيت فيها الصيف، وبين هذه الوهاد العابسة المظلمة التي أستقبل فيها الشتاء! ومع ذلك فما زالت سماء مصر مشرقة ونجومها متألقة، وما زال جوها صحوا وماؤها صفوا، وما زال النيل يشق طريقه فيها، يحمل إليها الخصب والأمن والدعة والخلود، ولكن اعتدال الطبيعة وحدها ليس يكفي فيما يظهر لاستقامة الأمور، واعتدال الحياة، وإنما يجب مع ذلك أن تعتدل أمزجة الناس وتستقيم أخلاقهم، وما أبعد الأمل بيننا وبين اعتدال الأمزجة واستقامة الأخلاق! فإلى أن يتم الوفاق بين الطبيعة المصرية والشعب المصري، وإلى أن يعتدل الناس كما اعتدلت الطبيعة، لا بد للمصري المستنير الذي يحسن الحس والشعور والتقدير من أن يألم ويحتمل المكروه ويستقبل الصبح إذا أصبح والليل إذا جن بكذب الأماني وخيبة الآمال، وهو قد يعلن ألمه هذا من حين إلى حين فيكون ناقدا، ولكنه إذا أعلن ألمه هذا إعلانا متصلا كان شاكيا، وقليل من الناس يحب أن يشكو، وقليل منهم يحب أن يسمع الشكاة .
لا تستكثر إذن على الكاتب المصري أن ينفق الصيف من حين إلى حين على ربوة باسمة، وأن ينصرف عن النقد والشكوى إلى الامتزاج بالطبيعة وتنقية نفسه من أوضار الحياة.
نوفمبر 1935
بين كأسين
مدت إلى القدح يدا مترددة فتناولته على كره، ورفعته في بطء، ثم لم تبلغ به فمها الصغير، وإنما أمسكته في الفضاء لحظة كأنما كانت تدعو ما بقي لها من قوة وتجمع ما ند عنها من صواب.
ثم أدنت القدح من شفتيها الورديتين الرقيقتين فمنحته قبلة طويلة لم تبق فيه راحا ولا روحا، ثم ردته مسرعة حازمة إلى موضعه من المائدة كأنها قد أعرضت عنه ونفرت منه وضاقت به ولم يبق لها فيه أرب، فهي تنبذه نبذا وتلقيه إلقاء.
وكانت - فيما علمت - أهوى الناس للهو وأصباهم إلى اللذة وأنشطهم للشراب، وكانت - فيما علمت - إذا صحت أحرص الناس على الصمت وألزمهم للهدوء، وإذا انتشت أرغب الناس في الحركة وأقدرهم على الكلام، وكانت تصحو ما رأت الشمس، فإذا أقبلت ظلمة الليل فزعت إلى الشراب تلتمس عنده الأمن والأنس وتفر إليه من نفسها ومن الناس، كأنما كانت شمس النهار تؤنسها وتبعث فيها الدعة والطمأنينة فلا تشفق من شيء ولا تخاف شيئا، فإذا انحدرت الشمس إلى مبيتها وبسط الليل رداءه المظلم، أحست وحشة لا تزيلها إلا هذه الشمس التي تصب من الزجاجة في الكئوس والأقداح والتي لا تكاد تبلغ الشفاه حتى تجري مع الدم وتسري إلى النفس، فإذا كل شيء نور ودعة وأمن واطمئنان.
ولم يكن القدح الأول قادرا على أن يخرجها من هذه الوحشة التي تلم بها مع الليل، وإنما كان يعدها للخروج منها إعدادا، ويهيئها للمرح تهيئة، كان يحل عقدة لسانها ولكنه لا يطلق هذا اللسان، وكان يلقي على وجهها رداء رقيقا ولكنه قوي من الحياة والنشاط، وكان يبعث في نظراتها قوة وسحرا، وكان الناظر إليها يحس كأن قوة حلوة ولكنها عنيفة تريد أن تنبعث من هذا الوجه الجميل ومن هاتين العينين الساحرتين ومن هذا الفم العذب، ولكنها في حاجة إلى حركة رشيقة يسيرة أشبه بحركة الأصبع حين تمس زرا من أزرار الكهرباء فتبعث الحرارة والضوء، ولم تكن هذه الحركة الرشيقة إلا أن تمتد يدها اللطيفة إلى القدح الثاني وقد هيأه لها الساقي فترفعه إلى شفتيها وتحسو منه حسوة واحدة.
هنالك يلقى الستار، وهنالك تتجلى نفسها من ورائه كأكمل ما تكون قوة ونشاطا وجمالا.
وكانت قوتها منذ هذه الحسوة الأولى من القدح الثاني حرية كلها: حرية في اللحظ واللفظ، حرية في هذه الخواطر الشاذة الجامحة التي لم تكن تعلن نفسها في صراحة أول الأمر، وإنما كانت ترتسم على وجهها صورا متعاقبة مسرعة يراها الناظرون إليها فتثير في نفوسهم شكوكا وأوهاما وأحلاما أيضا.
حرية في حركاتها التي تظهر وقد تجاوزت نفسها إلى جسمها كله، فإذا هي تلتفت إلى جلسائها عن يمين وعن شمال، ترمق هذا بنظرة وتلقي إلى هذا جملة، وإذا يدها بل يداها تمتدان عن يمين وشمال وإلى أمام تمسان هذا وتداعبان هذا، وإذا هذه الحركة تنبعث في جسمها كله، وإذا هي تنهض متهيئة للرقص، ترقص وحدها وتدعو من أحبت ليراقصها، حتى إذا أعيتها الحركة وأجهدها الاضطراب عادت إلى مكانها وأسرعت إلى قدحها فاحتست منه ما شاءت أن تحتسي، واستعارت من روحه روحا ومن قوته قوة ومن حياته حياة.
ولم يكن هذا الجمال الذي يرفع عنه الستار أقل انبعاثا في نفسها وجسمها من تلك القوة وهذا النشاط، ولكنه كان جمالا حرا كتلك القوة الحرة، جمالا سهلا سمحا لا يتحرج ولا يلتزم حدا ولا قيدا، جمالا كريما جوادا لا يحتشم ولا يحب البخل، وإنما هو دعاء إلى الفرح والمرح ودعاء إلى اللذة والبهجة والنعيم.
دعاء ينبعث من عينيها المتوقدتين اللتين تنفذان إلى أعماق القلوب فتضعان فيها جذوة ضئيلة لا تلبث أن تلتهب وتضطرم.
دعاء من هذين الخدين المتوردين اللذين يكادان يفيضان الحياة، واللذين لا تقع عليهما الأعين إلا أغرت بهما الشفاه.
دعاء من هذا الفم الضيق الجميل الذي يسحر الآذان بما يساقط من لؤلؤ الحديث كما يقول الشعراء، ويسحر العيون بما يحيط به من هذا الإطار الوردي الخلاب. والذي يمتزج فيه هذا الجمال الذي يبلغ النفس من طريق السمع، وهذا الجمال الذي يبلغ النفس من طريق العين، فإذا هو ينبوع لا يرقى إليه الوصف، ينبوع تصدر عنه موسيقى عذبة سهلة معقدة مع ذلك تسحر الأذن والعين والقلب والنفس جميعا.
دعاء من هذا الصدر المشرق، دعاء من هاتين الذراعين الرخصتين الممتلئتين، دعاء من هذا القد الرشيق، دعاء إلى كل شيء، دعاء إلى غير شيء، دعاء إلى هذا الهيام الذي يستبي النفوس، ويصرف عنها ما أبقى الشراب لها من رشد وصواب.
ولم ينته صاحبي من هذا الوصف الجميل المغري حتى كان قد بلغ منه الإعياء، وأخذه الذهول، كأنه تمثلها أمامه منصرفة إلى قدحها تأخذه في رفق وترده في عنف، ماضية في عبثها، مغرقة في دعابتها، مندفعة في مرحها الذي لا حد له.
تراها نفسه فتغريه بالمشاركة في اللهو والاندفاع إلى اللذة، ويفقدها طرفه فيرده إلى الأناة ويضطره إلى الاحتشام.
وظل كذلك مضطربا بين نفسه وطرفه حينا، وأنا أريد أن أسأله عن أمره فلا أجد إلى ذلك سبيلا، فلما طال بي ذهوله وشرود نفسه أقبلت عليه أسأله عن صاحبته هذه ما اسمها ومن عسى أن تكون؟ ولست أخفي أني رددت عليه السؤال مرات، وعرضته عليه في ألوان من الكلام أرفق به مرة وأعنف عليه مرة أخرى، وما أشك في أن إلحاحي عليه هو الذي اضطره إلى أن يجيبني، وأخرجه من ذهوله الذي كان يكلف به ويحرص أشد الحرص على الإمعان فيه.
فلما أطلت عليه في القول وألححت عليه في السؤال قال: ما أنت وذاك؟! وما تعرضك لما لا تحسن؟! وما سؤالك عما ليس بينك وبينه سبب؟! لو أنك شربت بالكأس التي أشرب بها، وأحسست النشوة التي أحسها لاستطعت أن تعرف هذه الصورة الرائعة الخالدة من الجمال، ولكان الحديث بينك وبيني ميسورا. قلت: وما هذه الكأس التي تشرب بها أنت ولا أشرب بها أنا؟ قال: هون عليك فليست كأسا محظورة، وليست كأسا فيها لغو أو تأثيم ، وإنما هي كأس مباحة، ولكنها لا تتاح إلا للمصطفين الأخيار، هي كأس الشعر يا سيدي، ثم انصرف عني حينا وعاد إلى ذهوله وتركني واجما لا أفهم عنه أو لا أكاد أفهم عنه.
ثم عاد إلي بعد صمت طويل كأنه كان قد أنسي مكاني منه ثم ذكره بعد لأي، عاد إلي فقال في صوت كان يأتي من بعيد، كأنما كان يحدث عن نفسه الشاردة النائية: تسألني عن اسمها، فإن أسماءها لا تحصى، وتسألني عن شخصها، فإن شخصها لا يدرك ولا يكاد يبلغه الوصف، هي هيلانة هوميروس، وهي نعم عمر بن أبي ربيعة، وهي بثينة جميل، وهي عزة كثير، وهي ليلى قيس، وهي ألفير لمارتين، وهي شارلوت غوت، وهي رآي موسيه، وهي هذه التي عنت المحبين وأذاقتهم لذع الألم أثناء النهار، ومرارة الألم أثناء الليل، وهي التي أسعدت المحبين فجعلت حياتهم نعيما كلها وجمالا كلها، ثم ردتهم إلى الشقاء فجعلت حياتهم بؤسا وجحيما، وهي التي ألهمت الشعراء فاستوحوا منها شعرهم الذي غنوا فيه اللذة والألم، والنعيم والبؤس، والسعادة والشقاء، وهي التي جعلت الإنسان المترف إنسانا مترفا، وجعلت الشاعر المجيد شاعرا مجيدا، وهي التي جعلت للحياة الإنسانية معنى يدركه الفلاسفة ويتفكرون فيه، فإذا هم بين رجل متفائل يرى الحياة ابتساما فيبتسم، وآخر متشائم يرى الحياة عبوسا فيعبس، وينشر على نفسه وعلى الناس والأشياء من حوله رداء قاتما من اليأس والقنوط.
وأعترف أني لم أكد أسمع هذا الكلام من صاحبي حتى أغرقت في الضحك، ومضيت أعبث به وأسخر منه، ورأيت أنه لا يتجاوز أن يكون قد خضع لهذه النوبة التي كانت تعرض له بين حين وحين من الجنون حين كانت تطول قراءته ويتصل عهده بدواوين الشعراء، ولكنه في هذه المرة كان هائما حقا قد اشتد عليه الهيام حتى أخرجه من طوره، وإذا هو يستأنف حديثه عن صاحبته هذه التي لا تحصى أسماؤها، ولا تحصر أوصافها، ولا يحد لها مكان من الأمكنة، ولا عصر من العصور، وإنما هي فكرة من الجمال المطلق تصور المثل الأعلى لهذه الأنوثة التي تغري بالسعادة وتدعو إليها، وتحبب اللذة إلى النفوس، وتسلط الألم والشوق على القلوب، وتطلق ألسنة الشعراء بالشعر، وتشكل أصوات المغنين بأشكال الغناء، وهو يستأنف الحديث عنها واصفا من شخصها ما لم يصف في حديثه الأول، يحلل من صوتها ومن حركاتها، ومن لحظها ومن خواطرها، ومن نشاطها ومن كسلها ما لم يخطر لي على بال، وأنا أسمع له معجبا بهذه الفصاحة التي لا تنضب، وبهذا البيان الذي لا يدركه عجز ولا قصور، وبهذا الخيال الذي أفلت منه عنانه فاندفع أمامه لا يعرف لنفسه حدا ينتهي إليه.
وقد استيأست من أن أرده إلى بعض الوقار، أو آخذ معه في شيء من حوار، أو أجاذبه أطرافا من حديث، فلم أر بدا من أن أخلي بينه وبين ما هو فيه من هيام، وأنا أستمع لحديثه الغرامي أو لغنائه هذا الذي كانت تملؤه الفتنة، وما لي أخفي الحق، ولا أقول إني كنت أجد في الاستماع له لذة ومتاعا كهذه اللذة التي أجدها حين أقرأ الشعراء، أو أسمع لهم؟! وهل كان صاحبي إلا شاعرا قد أرسل نفسه على سجيتها إرسالا فتغنت بخير ما فيها من حب الجمال والطموح إلى مثله الأعلى؟!
لم يكن صاحبي إلا شاعرا في ذلك الوقت، ولكني كنت أحب أن أعرف مصدر هذا الشعر الذي دفع إليه دفعا وهام به هياما، وقد عرفته آخر الأمر وبعد كثير من الجهد، فهو كان قد قرأ أول النهار مقالا لصديقنا الأستاذ محمد عوض في مجلة الهلال موضوعه مضايق البحار أو عنق الإمبراطورية البريطانية، ولست أشك في أنك ستغرق في الضحك حين تنتهي إلى هذا الموضع من هذا الفصل، كما أغرقت أنا في الضحك حين أخذ صاحبي يقص علي قصته بعد أن أفاق من هيامه الغريب، فأين مضايق البحار وعنق الإمبراطورية البريطانية من هذه الغادة الحسناء التي وصفها صاحبي فأبدع في وصفها ما شاء له الشعر، وهام بها صاحبي فأمعن في الهيام بها ما شاء له قلبه الرقيق، وشعوره الدقيق، وخياله الرشيق؟ وأين مضيق جبل طارق وقناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق سنغافورة من هيلانة هوميروس، ونعم ابن أبي ربيعة، وبثينة جميل، وليلى قيس؟!
نعم، أين مضايق البحار وتاريخ الاستعمار من هذه المثل العليا للجمال واستهوائها لأحلام الرجال؟ ولكن اقرأ مقال صديقنا الجغرافي الأديب وانته منه إلى آخره، فسترى أنه اعتدى على الشعر، وبغى على الفن، وأهان الجمال، وأساء إلى الخيال، وبعض هذا يكفي لإثارة شاعر رقيق القلب، دقيق الحس، ملتهب العاطفة كصاحبي هذا، فقد شرب صديقنا الأستاذ محمد عوض بكأس العلماء الجغرافيين قبل أن يكتب فصله هذا، فزعم أن الذي أثار الحرب بين اليونانيين والطرواديين لم يكن جمال هيلانة البارع، ولا لحظها الساحر، ولا طرفها الفاتر، ولا صوتها العذب، ولا حديثها الذي كان يحيي القلوب كما يحيا الزهر لقطرات الندى. لم يكن شيئا من هذا، وإنما كان الاستعمار وحب الاستيلاء على مضايق البحار، وحسد اليونانيين للطرواديين لأنهم كانوا يتسلطون على طريق من طرق التجارة. يا للهول! يا للإثم! يا لعدوان العلم على الفن! يا لطغيان العقل على الخيال! يا لجناية المادة على الروح! ماذا؟ وإذن فقد كان كل ما نظم هوميروس من الشعر، وكل ما نظم الشعراء قبل هوميروس وبعد هوميروس من القصص حول هيلانة وأحاديثها، وقد كان غناء اليونان كله، وقد كان كثير من تمثيل اليونان، وقد كان كثير من فن اليونان، وقد كان إيمان اليونان بهذا الجمال البارع الخالد؛ لغوا من اللغو، وعبثا من العبث، وأسطورة من الأساطير، وكان الأمر ينتهي عند البحث والتحقيق، وعند التمحيص والتدقيق، إلى هذا الشيء التافه الحقير الغليظ الفج الذي يسمونه المال والتجارة والربح، وتريد بعد هذا أن يكون العلم محسنا إلى الناس لا مسيئا، ومسعدا للناس لا مشقيا، ومنعما على الناس لا ممتحنا لهم بألوان البؤس والضراء؟
كلا، لقد عذرت صاحبي حين أثاره ما قرأ في مقال الأستاذ الدكتور عوض فأبغض العلم ونفر منه وكره العلماء، وضاق بهم، وأسرع إلى الشعر فغرق فيه إلى أذنيه، ثم خرج منه بهيلانته هذه التي رويت حديثها في أول هذا الفصل.
العجب لهؤلاء العلماء! يكبر العلم في نفوسهم فيفسد عليهم كل شيء، وإذا هم يزينون الباطل ثم يعرضونه على أنه الحق، وإذا هم يفتنون بما زينوا، ويفنون فيما اخترعوا، ويخدعون أنفسهم عن أنفسهم. يحدثنا اليونان جميعا أثناء العصور الطويلة والقرون المترامية وفي الآثار الأدبية والفنية الخالدة التي لا تكاد تحصى، بأن حرب طروادة إنما أثارها جمال هيلانة، فنأبى إلا أن يكون اليونان كاذبين مخدوعين مضللين، بفتح اللام وبكسرها، وإلا أن يكون مصدر الحرب حاجة الاستعمار إلى مضايق البحار. يجب أن يكون اليونان ساسة مهرة كالإنجليز، لماذا؟ لأن طروادة تقوم غير بعيد من مضيق الدردنيل، ويجمع الرومان على مثل ما أجمع عليه اليونان من قبلهم، وتجمع أوروبا المتحضرة أثناء القرون الوسطى على مثل ما أجمع عليه اليونان والرومان، ويجمع الأدباء والشعراء وأصحاب الفن في أوروبا الحديثة، وفيهم شكسبير وغوت، على مثل ما أجمع عليه الذين من قبلهم، يتفق هؤلاء جميعا على أن اليونان غضبوا لجمال هيلانة فأثاروا ما أثاروا من هذه الحرب، واحتملوا ما احتملوا من المحن، وخاضوا ما خاضوا من المكاره، وأنشئوا ما أنشئوا من الآثار الخالدة في الأدب والفن، ثم يأتي عالم من أصحاب الجغرافيا فيلقي نظرة سريعة على الخريطة، ويرى أطلال طروادة قريبة من الدردنيل فيهدم في أقصر لحظة وبأيسر حركة من عقله ويده هذا البناء الإنساني الشامخ الذي أقامته الأمم والأجيال، واشتركت فيه عبقريات الأدب والفن تمجيدا لجمال هيلانة، وتخليدا لحسنها الذي كان يسحر النفوس.
هذا كثير وأكثر منه أن العقل لا يستطيع أن يخلص من هذا الرق الذي يفرضه عليه العلماء، فهو مضطر إلى أن يرفض وحي الأدب والفن ويذعن لنتائج هذا البحث العلمي الجاف.
الآن، والآن فحسب، فهمت لماذا يتردد صديقنا عوض في ترجمة فوست الثاني بعد أن ترجم فوست الأول، فقد كان غوت يؤمن بهيلانة وبخلودها، وهو قد زوجها من فوست، ولم يكن يرى رأي الجغرافيين أن حرب طروادة كانت للاستعمار، فكيف بصديقنا الجغرافي أن يترجم هذا الأثر الأدبي الخالد الذي ينقض علمه نقضا ويرفضه رفضا؟ آمنت بأن صاحبي لم يكن مخطئا ولا غاليا حين طلب إلي أن أشرب بكأس الشعر لأتعرف هيلانة، فإن هذه الكأس الأخرى التي يسقينا بها العلماء مرة المذاق، قصيرة المدى، ضيقة الأمد، لا تفتح للنفوس أملا، وإنما تقيم أمامها أسوارا شاهقة من اليأس والقنوط، وأين كأس الشعر التي تجلو لنا بهجة الجمال الخالد من كأس العلم التي تفرض علينا سماجة المال الوضيع؟!
ما أعظم الفرق بين هاتين الكأسين! وما أشد حاجتنا حين يلح علينا العلماء بكأسهم المرة إلى أن نسلي عن أنفسنا بهذه الكأس الحلوة الخالدة التي يديرها علينا الشعراء!
اللهم اشهد أني أنكر العقل، وأجحد العلم، وأرفض أن تكون حرب طروادة قد ثارت لشيء غير جمال هيلانة الخالدة!
فبراير 1936
صريع الحب والبغض
ضاق بالحياة فخرج منها، أو ضاقت به الحياة فنفته من جوها نفيا، وكان الذي بغض إليه الحياة وزهده فيها وأخرجه منها مخرجا عنيفا حبه للناس ورفقه بهم وعطفه عليهم، وكان الذي حبب إليه الموت وزينه في قلبه ودفعه إليه دفعا شديدا بغض الناس له، وحقدهم عليه، وإسرافهم في إيذاء نفسه، وإهانتهم إياه في ضميره وكرامته وشرفه الوطني.
نهض بواجبه شابا فجاهد ذائدا عن وطنه، متحملا في ذلك ما يحتمله المحاربون من ألوان البأس وفنون الشقاء، ثم أسره العدو فكلفه ضروبا من الجهد، وثبت هو لما كلفه العدو أبيا كريما ذائدا عن وطنه في سجن الإسار كما كان يذود عنه في ميادين الحرب، ثم رد الناس إلى السلم واستقرت بهم علاقات الإلف والمودة، واستأنف المحاربون القدماء حياة العمل اليومي، كل ميسر لما خلق له، وكان هذا الرجل قد خلق للنضال السياسي فأقبل عليه وجد فيه وظفر بكثير من التوفيق، وإذا هو نائب اشتراكي، ثم وزير اشتراكي، وإذا هو ينهض بأعباء الحكم ويحتمل أثقال الإدارة في وزارة الداخلية الفرنسية، وإذا هو يصل الليل بالنهار عاملا في ديوانه، وعاملا في بيته، وعاملا في حزبه، وعاملا في مجلس البرلمان، وعاملا في مجلس الوزراء، ووسيطا بين العمل ورأس المال، ومتنقلا بخطبه في مدن فرنسا وقراها لا يستريح ولا يحب الراحة، ولا يطمئن ولا يميل إلى الاطمئنان، قد امتلأ قلبه بحب المستضعفين وامتلأت نفسه بمذهبه السياسي؛ فأنفق ما يملك وما لا يملك من القوة والجهد في تقوية الضعفاء حتى ينتصف لهم من الأقوياء، وفي الذود عن مذهبه السياسي الاشتراكي حتى يحقق من أغراضه أقصى ما يستطيع تحقيقه في غير ثورة ولا عنف ولا تغيير أساسي للنظام الديمقراطي المستقر.
وإنه لفي ذلك يمضي أمامه مضاء السهم لا يبطئ ولا يني ولا يحجم ولا يتردد، وإذا خصومه السياسيون يرمونه بسهم مسموم يتلقاه الرجل أول الأمر فيثبت له ويمتنع عليه، ولكن السهام يتلو بعضها بعضا، وكلها مسمومة مهلكة، والرجل يثبت لها ويقاومها ما استطاع، يردها عن نفسه بماضيه النقي، ويردها عن نفسه ببلائه الحسن في الحرب، ويردها عن نفسه بسيرته الكريمة في الإيثار، ثم ينهض لمعونته وزير الدفاع فيعلن إلى الناس جادا جاهدا ومصمما ملحا أنه كان محاربا كريما وأسيرا كريما، وأنه قد أدى واجبه الوطني في أيام المحنة الوطنية الكبرى كأحسن ما تؤدى الواجبات، ولكن مقاومة الرجل لا تغني عنه شيئا، ومعونة وزير الدفاع لا تغني عنه شيئا، واجتماع قلوب العمال والضعفاء حوله لا يغني عنه شيئا، فهذه السهام المسمومة ترسل إليه مجتمعة متصلة لا تفتر ولا تني ولا تحيد.
وإذا هو قد استيأس من قدرته على المقاومة، واستيأس من قدرة أعوانه على الدفاع عنه، واستيأس من قدرة هذا الحب الشعبي الذي كان يحوطه ويكلؤه على أن يحميه من هذا البغض السياسي الذي كان يصب عليه الشر متصلا في غير رفق ولا أناة.
وقد أنهك الجهد قوته الجسمية وأنهك الحزن قوته المعنوية، وإذا هو ينظر فلا يرى إلا ضميره قد أفعمته الحياة واستأثرت به الكرامة والغضب للشرف، فهو يثور في غير جدوى، وهو يضطرب في غير غناء، وهو يدمى مصبحا ويدمى ممسيا، وهو يدمى عاملا ويدمى مطمئنا، وهو لا يجني من وراء هذا كله إلا اتصال هذه السهام التي ترسل إليه إرسالا لا يعرف المهل ولا الريث، وإذا نفسه تمتلئ باحتقار الناس والحياة، وتمتلئ باحتقار هؤلاء الذين يقذفونه ويكذبون عليه مستمسكين بأهداب الباطل، معرضين عن أسباب الحق، مستجيبين لداعي الشهوة، معرضين عن داعي الإنصاف، يريدون أن يسوءوه وأن يسوءوا أنصاره فيه، لا يسألون أنفسهم أيسوءون معه الحق والفضيلة والعدل والإنصاف.
نعم، وتمتلئ نفسه بهذا الاحتقار الرفيق الذي تملؤه الرأفة، وتشيع فيه الرحمة لهؤلاء الذين يحبونه فلا يغني عنه حبهم شيئا، ولهؤلاء الذين يدافعون عنه فلا يغني عنه دفاعهم شيئا.
نعم، وتمتلئ نفسه احتقارا لهذه الحياة التي تجمع بين أولئك وهؤلاء، ولا تميز بين الجور والعدل، ولا بين الخير والشر، وإنما تدور على غير بصيرة ولا هدى فتمد للطغاة أسباب الطغيان، وتقصر بأهل الخير حتى عن حماية أنفسهم، تمتلئ نفسه بالاحتقار للحياة والأحياء، وبالزهد في الحياة والأحياء، فلا يرى لنفسه مخرجا إلا الموت فيقبل عليه مسرعا إليه، ثم يكتب إلى ذوي قرباه قبل أن يخطو خطوته الأخيرة إلى القبر أنه جاهد ما استطاع الجهاد، ولكنه انهزم فآثر الموت، وأن الذي دفعه إلى الموت إنما هو ما ألح عليه من تعب جسمه وتعب نفسه.
وكذلك قضى هذا الوزير الفرنسي صريع حبه للناس وبغض الناس له، فكان موته عبرة تدعو إلى كثير من التدبر والتفكير، وما أكثر العبر التي تدعونا إلى أن نتدبر ونتفكر! فالحياة تعرض علينا منها ألوانا مختلفة في كل يوم، ولكننا لاهون عنها بأنفسنا وهمومنا المتصلة ومنافعنا العاجلة، إلا أن تكون العبرة متصلة بشخص ممتاز أو بحادث فذ، هنالك نقف عندها قليلا ونفكر فيها قليلا ثم نستأنف ما كنا فيه من اشتغال بأنفسنا وهمومنا ومنافعنا، وكأن الحياة لم تدعنا إلى الاعتبار، وكأن الأيام لم تضطرنا إلى التفكير.
ذاد هذا الوزير عن وطنه في الحرب العظمى ذيادا كريما، ثم أسره العدو، فإذا خصومه يزعمون أن هذا الأسر لم يكن إلا فرارا، وإذا هم يعظمون أمر هذا الفرار ويسرفون في التشنيع به ويكبرون أن يصل الفار من ميدان القتال إلى أن يكون نائبا، ثم إلى أن يكون وزيرا، وقد كذب الرجل خصومه ونفى عن نفسه هذا الإثم، وأيدته وزارة الدفاع ما وجدت إلى تأييده سبيلا، فحققت واستوثقت وأعلنت إلى الناس أن الرجل لم يفر ولم يقض عليه ولم يؤخذ بظنة ولم تلحق به ريبة، ولكن خصومه لجوا في الخصومة وأبوا إلا أن يجادلوا ويمعنوا في الجدال، وأكبر الرجل نفسه وأكبر حرية الرأي وأكبر حق المعارضة في نقد الوزراء فلم يحاكم خصومه ولم يقف معهم أمام القضاء، وكانوا خليقين أن يقدروا هذا وأن يرعوا حرمة هذا الرجل الذي وسع عليهم وكان يستطيع التضييق، وأقصر عنهم وكان يستطيع أن يأخذهم بالبطش دون أن يخالف القانون أو يتجاوز حدوده ولكنهم لم يعرفوا لهذا الرجل حقا ولم يرعوا له حرمة، كما أنهم لم يعرفوا للعدل حقا ولم يراعوا له حرمة؛ لأنهم لا يخاصمون كما تعود الناس أن يخاصموا وإنما هم يخاصمون خصام المستميت، يحاربون بكل سلاح وينتفعون بكل وسيلة، ويأخذون على عدوهم كل طريق.
وكذلك انتهى الأمر إلى هذه المسألة التي ذهب فيها رجل ضحية حرية الرأي أو ضحية الإسراف في حرية الرأي أو ضحية العدوان على حرية الرأي، فليس عدو الحرية من ينصب لها الحرب ويفرض عليها الأغلال والقيود وحده، ولكن للحرية عدوا آخر ليس أقل شرا ولا أهون شأنا من هذا الطاغية المستبد، وهو هذا الذي يتجاوز بها الحدود ويخرجها عن طورها المعقول ويحولها أداة للشر وسبيلا إلى الفساد.
وكذلك تشهد أوروبا في هذه الأيام ويشهد العالم كله معها هذه الحرية البائسة يعذبها أعداؤها ألوانا من العذاب، أولئك يغلونها ويقيدونها ويقيمون الأسوار الصفيقة بينها وبين الملايين من الناس في شعوب كثيرة وأقطار مختلفة من الأرض، وهؤلاء يستغلونها ويسرفون في استغلالها، فيحررونها من كل قانون ويطلقونها من كل عقال ويشيعون فيها جنونا ينتهي بها إلى الإجرام واقتراف الآثام، أولئك يقتلون الناس لأنهم يحرمونهم الحرية ويقطعون بينها وبينهم الأسباب ويضطرونهم إلى هذا الصمت المهلك والكظم المضني، وهؤلاء يقتلون الناس لأنهم يسلطون عليهم الحرية الجامحة التي لا تعرف لجموحها حدا تقف عنده أو غاية تنتهي إليها، فهؤلاء الصرعى الذين يسقطون في أقطار أوروبا على اختلافها إنما هم ضحايا الحرية المعذبة بالسجن حينا وبالإطلاق حينا آخر.
وكذلك تشهد أوروبا ويشهد العالم معها هذا التطور الغريب الذي ينتهي بالإنسانية إما إلى الجنون وإما إلى المذلة والهوان، وكذلك تشهد أوروبا ويشهد العالم معها هذا التطور الذي ينتهي بالحضارة الحديثة إلى الكارثة تأتيها لأن أفرادا يضيقون بالحرية فيهدرونها، ولأن أفرادا آخرين يهيمون بالحرية فيذهبون بها إلى غير مدى.
والأمر لا يقف عند هذا الحد، فهذا كاتب فرنسي من كبار الكتاب يحرض على القتل ويستمع له أنصاره ويستجيبون له ويهمون بسفك الدماء، فيؤخذ هذا الكاتب ويقضى عليه بالسجن قضاء لا مرد له، ولكن الناس لا يعتبرون ولا يزدجرون وإنما تمضي الصحافة في إذاعة البغض وإثارة الحقد وإفساد ما بين الناس من صلات حتى تنتهي إلى هذه المأساة التي دفعت الوزير الفرنسي إلى الموت، فأيهما خير: نظام يغل الصحافة ويعقل الأقلام ويعقد الألسنة ويكبح المعارضة كبحا ويميت الناس غيظا بما يضطرب في صدورهم من الآراء وما يغلي في رءوسهم من الخواطر، أم نظام يرسل الصحافة على حريتها والأقلام على سجيتها والألسنة على طبيعتها فيكتب الناس في غير حساب، ويقول الناس في غير رعاية للحق والعدل؟ أيهما خير: نظام السلطان العنيف الذي يرد الناس إلى ذلة كانوا يظنون أن عصرها قد انقضى، أم نظام الحرية المطلقة الذي يرد الناس إلى فوضى كانوا يظنون أن عصرها قد انقضى أيضا؟
كلا النظامين شر من غير شك، وما أظن إلا أن الناس جميعا يعرفون ذلك، وما أظن إلا أن كل فرد واحد فيما بينه وبين نفسه يود لو استطاعت الإنسانية أن تصل إلى نظام وسط لا يلغي الحرية فيلغي معها كرامة الإنسان، ولا يطغي الحرية فيطغي معها الأهواء والشهوات، ولكن كيف تستطيع الإنسانية أن تصل إلى هذا النظام وقد فسد عليها أمرها واختل التوازن بين قواها المختلفة، وأفلت عنان النظام فيها من يد العقل، واستأثرت به الشهوة فهي تصرفه تصريفا لا حظ فيه للروية ولا للتدبير.
مهما يكن من شيء فهذه حرية الصحافة، أو قل هذا الإسراف في حرية الصحافة قد استحدث فنا جديدا من الإجرام، فن القتل المعنوي كما يسميه بول نور، هذا الذي يأتي من الإسراف في القذف وإذاعة السوء حتى يحمل الناس على أن يقتلوا أنفسهم، وهو يستحدث في الوقت نفسه فنا جديدا من العقاب، فهؤلاء الفرنسيون أو المفكرون من الفرنسيين يريدون الحكومة على أن تشرع القوانين لتردع مثل هذا النوع من الإجرام، ومهما يكن من شيء فهذه الديمقراطية الأوروبية تلقى حربين مختلفتين: حربا تأتيها من الخارج من هؤلاء الذين ينظمون السلطان العنيف، وحربا تأتيها من الداخل من هؤلاء الذين يستمتعون بالحرية الديمقراطية إلى غير حد، أفتراها تسلم من هاتين الحربين؟ أفترى تخرج ظافرة من هذا العداء المزدوج؟ لا أدري، ولكن هل يتاح لنا - نحن الشرقيين الناشئين في الديمقراطية - أن ننتفع بمحنة الديمقراطية الأوروبية وأن نسلك بديمقراطيتنا الجديدة طريقا وسطا آمنة تعصمها من الطغيان كما تعصمها من الفوضى، تعصمها من أولئك الذين يصبون العذاب على الناس لأنهم يريدون أن يكونوا أحرارا، وتعصمها من أولئك الذين يسرفون في حقهم من حرية القول فيدفعون الناس إلى اليأس ثم إلى الموت؟
ديسمبر 1936
فجاءة فاجعة
أشرقت الشمس بنور ربها فملأت الأرض بهجة وجمالا، وملأت النفوس قوة ويقينا، وبثت في الأجسام حياة ونشاطا، وغمرت قلب تلك الفتاة بنور من الأمل حلو حار مطمئن طموح معا، أرسل على وجهها الجميل دعة ولينا وأمنا وحنانا، وكانت قد أنفقت ليلة هادئة مطمئنة بعد أن أنفقت يوما هادئا مطمئنا. عملت بياض النهار وشطرا من الليل في تمريض هؤلاء البائسين الذين تضطرهم الآلام والأدواء والفقر إلى المستشفى، فيلقون فيه من عناية الأطباء ورفق الممرضات والممرضين ما يرد عنهم عوادي العلل، أو يسلك بهم طريقهم إلى آخر الحياة في لين ورفق وعزاء. وكانت هذه الفتاة حلوة الروح، كريمة النفس، رقيقة القلب، تقبل على عملها محبة له، مؤمنة به، موقوفة النشاط عليه، كأنما تؤدي حين تؤديه واجبا دينيا مقدسا قد امتلأ به قلب صادق الإيمان.
فكان ابتسامها وحديثها وحركاتها حين تذهب وتجيء، وعنايتها بهؤلاء المرضى حين تختصهم بعنايتها، كان هذا كله يقع من هؤلاء الضيوف البائسين في المستشفى موقع الرحمة على القلب الشقي، وموقع الماء من الظمآن الذي يحرقه الظمأ ويضنيه الصدى، وموقع العزاء من المكروب، والغنى من المحروب، وموقع الأمل من اليائس الذي اشتملت عليه ظلمات اليأس، والقانط الذي كاد يهلك نفسه القنوط. كانت حياتها في المستشفى نورا يذود عنه الظلمة، ونعيما يرد عنه البؤس، وبهجة لقوم قد استيأسوا من بهجة الحياة. وكانت تتنقل بين غرفات المستشفى وحجراته مشرقة الوجه، باسمة الثغر، مطمئنة النفس، محزونة القلب مع هذا كله لما تشهد من ألم وما ترى من شر، فلا تكاد تدخل غرفة أو حجرة إلا أدخلت معها الرحمة والحب، ولا تخرج من غرفة أو حجرة إلا تركت فيها قسطا من أمل وحظا من عزاء.
وكانت إذا أنفقت يومها هذا في توزيع العناية والرحمة والحنان على المرضى والبائسين آوت إلى مضجعها حين يتقدم الليل ناعمة النفس، رضية البال، مطمئنة القلب، والتمست هذه الراحة التي ترد إلى الجسم قوته وإلى العقل نشاطه، وإلى القلب ذكاءه وشجاعته وحبه للخير وحرصه على البر واحتماله للمكروه.
وكانت تنفق ليلها في نوم هادئ ربما روعته من حين إلى حين أحلام سود تمثل لها آلام المرضى وعواقب هذه الآلام، وربما ابتسمت فيه أحلام بيض تمثل لها شفاء بعض هؤلاء المرضى واستئنافهم لحياة حلوة باسمة، وربما أشرقت فيه أحلام أخرى لا تتصل بالمرض ولا بالمرضى ولا بأهل هذا المستشفى، وإنما تتصل بأسرتها المتواضعة النائية عن المدينة التي تنفق حياتها في كد وجد، وفي أمن وأمل، وفي حزن غير قليل مصدره أثقال الحياة، وبعد الولد، وضيق ذات اليد، أو تتصل بهذا الأخ الشاب الذي لم يكد يتجاوز العشرين، والذي يقيم في المدينة غير بعيد منها ولكنه لا يكاد يلقاها إلا مرة في الأسبوع، حين يتيح لها العمل ويتيح له الدرس ساعات يلتقيان فيها فيتحدثان، وربما خرجا للتروض إلى ضاحية من ضواحي المدينة سعيدين بهذا اللقاء ناعمين بهذه النزهة المشتركة، ثم عادا مع المساء فصحبها أخوها حتى يبلغها المستشفى ويودعها وقد ضربا موعدا للقاء بعد أسبوع.
ولعلها كانت ترى في بعض ما ترى أثناء هذا النوم الهادئ صورا أخرى من الأحلام لا تتصل بالمستشفى ولا تتصل بالأسرة النائية ولا تتصل بالأخ القريب، وإنما تصور زاوية من زوايا هذا القلب المتواضع الكبير لا يعرفها أحد غيرها، وقلما تفكر فيها يقظة وقلما تحلم بها نائمة، ولكنها تعرض لها من حين إلى حين، لحظات قصارا في اليقظة أو لحظات قصارا في النوم، تعرض لها لأسباب نادرة طارئة غير منتظرة ولا مقدرة، إنما هي نظرة إلى بعض الوجوه أو تأثر ببعض الأصوات أو ابتهاج لبعض الابتسامات، وإذا الستار يرفع عن هذه الزاوية المستورة في قلب كل فتاة، وإذا هذه الصور تسنح شاحبة حينا، ومشرقة حينا آخر، تمثل آمالا ضيقة طورا وواسعة طورا آخر ولكنها تملأ حياة الفتيات نعمة وثقة وإيمانا بالحياة. ولم تخل ليلتها هذه من أحلام مروعة بعض الروع وأخرى مهدئة بعض الهدوء، ولم تخل ليلتها من حزن وأمل معا فقد كثر الذين حملوا إلى المستشفى من جرحى الفتنة، وكثر حولهم نشاط الأطباء والممرضين، وعظم بفضلهم إيمان هذه الفتاة بعملها وحرص هذه الفتاة على أن تفيض من رحمتها وحنانها وبرها أكثر مما أفاضت إلى الآن.
فكرت في هذا كله قبل أن يغلبها النوم، وحلمت بهذا كله بعد أن اشتملها النوم، ثم أفاقت من نومها وانسلت من غرفتها وذهبت إلى رئيستها لعلها أن تكون في حاجة إلى بعض العون، ولكن الرئيسة لقيتها باسمة وردتها رفيقة وألحت عليها في حزم أن تستكمل حظها من الراحة ونصيبها من النوم، فعادت الفتاة إلى غرفتها وأوت إلى سريرها وأخذت تغالب هذا الأرق مستعينة على ذلك بالتفكير فيما يدخر لها الغد من ساعات حلوة تقضيها مع أخيها خارج المنزل في هذه الضاحية أو تلك، ومضت تتصور أخاها وتسمع حديثه وتلقي إليه حديثها وتقترح عليه ويقترح عليها، وتداعبه ويداعبها ، وتغاضبه ويغاضبها، ثم تراضيه ويراضيها حتى عاد إليها النوم فردها إلى كنفه مرة أخرى، ثم لم تفق حتى كانت الشمس قد أشرقت فملأت الأرض بهجة وجمالا وملأت النفوس قوة ويقينا، وبعثت في الأجسام حياة ونشاطا، وكانت نفسها أشد ما تكون قوة على احتمال الجهد وإيمانا بنفع هذا الجهد وحرصا على بذل المعونة الصادقة لمن يحتاج إلى المعونة الصادقة، وكانت حياتها قوية إلى غير حد، وكان نشاطها بعيدا إلى غير مدى، وكان وجهها كله ابتساما، وكان قلبها كله رحمة، وأنفقت صباحها في حركة متصلة لا تحس جهدا ولا نصبا ولا تشعر بإعياء، وإنما هي ينبوع من الرحمة والحنان والمواساة يجري في طرقات المستشفى ويفيض على ما يقوم في جوانبها من الغرفات والحجرات.
وإنها لفي ذلك وإذ هي تحس نبأة تراع لها أول الأمر، ثم تثبت لها بعد ذلك بقليل: لقد استؤنفت الفتنة مع الضحى، وكان لهذه الفتنة صرعى قد كثرت فيهم الجراحات، وها هم أولاء يحملون إلى المستشفى كثيرين، منهم من فقد الحركة والألم، ومنهم من لا يزال شاعرا يجد الألم ويصبر عليه، ومنهم من تجاوز الألم طوقه فأخرجه عن الصمت إلى الأنين أو إلى الصياح، كلهم في حاجة إلى العون وكلهم في حاجة إلى المواساة، وكلهم في حاجة إلى الرحمة والعزاء، فليتجدد النشاط إن كان قد فتر، وليضاعف النشاط إن كان لم يدركه الفتور، ولتدم القلوب في الصدور ليظهر برغم ذلك الابتسام على الثغور، ولتنطق الألسنة بهذه الكلمات التي تقع من الجرحى أحسن موقع وتقع من قائليها أشد المواقع ألما وإيذاء، وليكثر هذا الكذب الحلو البريء الذي يمنحه الأطباء والممرضون للمرضى والمنكوبين ليعينوهم به على الصبر واحتمال المكروه، وليمكنوهم به من مقاومة المرض ومقاومة الموت أيضا.
وهذه الفتاة قد سمعت هذه النبأة فارتاعت لها أول الأمر، ثم ثابت إليها نفسها، ثم وجدت هذا الكنز الذي خبأته في قلبها الكريم والذي لا ينفد ما فيه من العطف والبر ومن الحب والحنان، ثم ملكتها هذه الأريحية التي تملك النفس الكريمة فتدفعها إلى البذل من هذا الكنز من غير حساب، وإذا هي تندفع اندفاعا إلى حيث النشاط والحركة، وإذا هي قد تسلحت بالشجاعة والحب لتصارع المرض والموت وتستنقذ منهما هؤلاء البائسين المنكوبين.
أقبلي أقبلي أيتها الفتاة على هذا المصاب، امنحيه ما تملكين من عون، هبيه ما تستطيعين من عناية، ردي إليه بعض الحياة، ردي إليه بعض الحس فقد اشتد عليه الألم حتى ما يحس ألما، وتدنو الفتاة ذاهبة القلب باسمة الثغر، فلا تكاد تلقي نظرة على هذا الفتى الذي تدعى لإسعافه حتى تنفرج شفتاها عن صرخة يدوي لها المستشفى، ثم تضطرب يداها في الهواء ثم تسقط، وإذا هي في حاجة إلى الإسعاف، وإلى من يمنحها بعض هذا العون الذي كانت تريد أن تمنحه لهذا الفتى، وإلى من يرد عليها بعض هذا الحس الذي كانت تريد أن ترده على هذا الفتى، وإلى من يكذب عليها كما كانت تريد أن تكذب على هذا الفتى، وإلى من يواسيها كما كانت تريد أن تواسي هذا الفتى.
لم تنفرج شفتاها عن تلك الصرخة الداوية فرقا ولا خوفا؛ فقد تعودت أن ترى صرعى المرض وصرعى الموت، ولم تضطرب يداها في الهواء ضعفا ولا جبنا؛ فإن لها في صراع العلل والموت بلاء محمودا، ولم تسقط إلى الأرض خورا ولا تهالكا؛ فقد طالما ثبتت لأبشع ما يثبت له الممرضون والممرضات، ولكن عاطفة الأخوة فوق هذه الشجاعة المكتسبة وفوق هذا الجلد المصنوع وفوق هذا الصبر الذي يتعلم في المدارس ويأخذ الناس به أنفسهم أخذا.
رفقا بهذه الفتاة، ورحمة لهذه الفتاة، وعطفا على هذه الفتاة؛ فإنها لم تر مريضا ولا جريحا، وإنما رأت أخاها وقد اشتمله الموت، وكانت تقدر بل كانت تهيئ نفسها لتلقاه موفور القوة والنشاط وتقص عليه آخر النهار بلاءها في أوله.
ها هي هذه ترد إلى حياتها أو ترد إليها حياتها، وها هي هذه ترد إلى شجاعتها أو ترد إليها شجاعتها. لن تستطيع مواساة المرضى ولا معونة الجرحى في المستشفى لأن هناك في مكان بعيد عن هذه المدينة جريحين هما أحق بهذه المواساة وأجدر بهذا العون، فلتسرع إليهما ولتحمل إليهما نبأ الكارثة، ولتحمل إليهما مع هذا النبأ الأليم عزاء البنت البرة عن الابن الشهيد.
ديسمبر 1935
الذوق
لا أريد أن أكون مؤرخا أو ناقدا أو أديبا، فقد يعرض لي كما يعرض لك أن نسأم التاريخ والنقد والأدب، وأن نرغب في هذا الحديث الهادئ المطمئن الذي لا يثير خصومة ولا جدالا، وإنما يريح الناس ويعينهم على إنفاق الوقت إذا أخذوا فيه وتجاذبوا أطرافه كما يقولون.
وأنا أملي هذه الأسطر وقد تقدم الليل وهدأ من حولي كل شيء إلا هذه الصراصير التي تتغنى في الحديقة غناء متقطعا، والأصوات تصل إلي عن بعد فلا أكاد أسمعها إلا حين أصغي إليها، وإلا صرير القلم يمضي به صاحبي وهو يسمع ما أملي عليه ثم يقف إذا انتهى به إلى حيث انتهيت من الإملاء.
وقد أنفقت يوما طويلا ثقيلا تنقلت أثناءه بين ما أحب وما أكره من أعمال منها المنتج الخصب وفيها العقيم الجدب، وأشهد أن أحب شيء إلي وقد خرجت من هذا اليوم الثقيل الطويل ودخلت في هذا الليل الهادئ المطمئن أن أنسى - ولو إلى حين - يومي وما كان فيه، وأن أشغل نفسي عنه بما يلهي ويريح، ولي إلى ذلك سبيلان؛ فإما أن أقرأ وإما أن أستعرض ما قرأت، وقد كان بين ما قرأت في هذه الأيام الأخيرة قصتان تمثيليتان نشرتهما مجلة «الأليستراسيون» الفرنسية في أسبوعين متواليين أو متقاربين على أقل تقدير، وهاتان القصتان تختلفان في الموضوع وتختلفان في النتيجة وتختلفان في الأسلوب والقيمة الفنية، ولكنهما على اختلافهما في هذا كله تثيران نوعا واحدا من التفكير، ولعلهما تنتهيان آخر الأمر إلى نتيجة واحدة.
فأما إحداهما فتقص أمر امرأة زوجها أهلها من رجل لا تحبه، فأذعنت واستقبلت حياتها الجديدة عابسة ساخطة لا تفهم زوجها ولا تطمئن إليه، وسافرت معه كأنما تساق إلى السجن، ولكنها لقيت أثناء السفر شابا أعجبها وأعجبته، فأحبها وأحبته، وكانت لها وله صروف وخطوب، حتى إذا عادت إلى باريس وانغمست في حياتها المألوفة أحست فتورا في الحب، واستكشفت أن حبها لهذا الشاب لم يكن إلا تعلة ولهوا وسبيلا إلى إيقاظ قلبها النائم وإثارة عواطفها الراكدة، حتى إذا استيقظ هذا القلب وثارت هذه العواطف تبينت أنها تستطيع أن تحب هذا الزوج لولا أن هذا الشاب يحول بين هذا الحب وبين أن يزهر ويؤتي ثمره؛ فهي تبسم لزوجها وتعبس لحبيبها، وما تزال به تريد أن تصرفه فينصرف مضحيا بنفسه وقلبه وحبه.
وأما القصة الأخرى فتصور زوجين يحب كل منهما صاحبه أشد الحب ويؤثره على نفسه أشد الإيثار، ولكن أحدهما - وهو الرجل - مريض يخاف على نفسه الموت، وقد علم من امرأته أنها لن تحيا بعده وأنها جادة إن مات في اللحاق به، وهو يحبها ويحرص على أن تعيش عيشة كلها سعادة ولذة ونعمة، وهو يريد إذا مات أن تتعزى عنه امرأته وأن تحيا من جديد فتحب وتجني ثمار الحب، وهو مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل هذه الغاية، ولكنه يريد أن يتحقق آخرته قبل أن يقدم على هذه التضحية، فيعرض نفسه على كبار الأطباء ويقضي هؤلاء في أمره بما كان يخاف فينبئونه بأنه مرتحل عن هذه الحياة بعد قليل، وإذن فلا بد من التضحية، وهو لا يتردد بل يقدم عليها شجاعا جريئا فيتكلف عشق امرأة تتردد على داره ويظهر الهيام بهذه المرأة حتى يخدعها من جهة ويثير غيرة امرأته وسخطها من جهة أخرى، ويمضي في تكلف هذا العشق إلى أبعد حد، فيهجر داره ويقيم عند صاحبته ويأبى على امرأته كل عودة، ثم يتم عمله هذا القاسي العنيف بالسفر مع صاحبته إلى ما وراء البحر، ولم لا؟ أليس قد قضي عليه بالموت؟ فيجب أن تكرهه امرأته قبل أن يموت، حتى إذا مات لم تلحق به، بل تعزت عنه واستقبلت حياتها في أمل ونشاط، وقد وفق فامرأته منصرفة عنه، وإن لم تكن ميالة إلى استئناف الحياة الغرامية والزوجية، وهي على كل حال لا تريد أن تموت ولا أن تلحق بزوجها.
ولكنه أراد شيئا وأراد القضاء شيئا آخر، فما كاد يترك وطنه حتى كذب الأطباء وعادت إليه صحته وقوته ونشاطه وقوي مع هذا كله حبه لامرأته وحب صاحبته له، فيعود إلى فرنسا ولا يتردد في أن يضحي بهذه المرأة التي آمنت بحبه وأنقذته من الموت ليستأنف الحياة مع زوجه وقد عاد إليها موفور الصحة مستكمل القوة، وتقبل صاحبته هذه التضحية فتنصرف كما انصرف الفتى في القصة الماضية. فأنت ترى أن إحدى القصتين تضحي برجل والأخرى تضحي بامرأة، وكلتاهما تمثل الأثرة في الحب، وقد انتهت إلى أقصاها، وتتخذ من الأخلاق العامة المألوفة وسيلة إلى هذه الأثرة. تلك تضحي بصاحبها لتعود إلى زوجها فتعيش عيشة ترضاها الأخلاق والعرف ويرضاها الدين، وهذا يضحي بصاحبته، بل يتعمد خداعها ثم يضحي بها ليعود إلى امرأته ويحيا حياة ملائمة للخلق والعرف والدين، ومع ذلك فمن المحقق أن الكاتبين لم يتفقا على موضوع القصتين ولم يأخذ أحدهما عن صاحبه، ومن المحقق أيضا أن جمهور النظارة في باريس أحب القصتين وأعجب بهما وضمن لهما حظا غير قليل من الفوز والبقاء.
فتوارد الخواطر هذا وإعجاب الجمهور بنتيجته خليق أن يدعو إلى شيء من التفكير، ذلك أنه إذا كان من الحق أن لكل شيء سببا، وأن حادثة لا تقع إلا وقد سبقتها علة دعت إلى وقوعها؛ فلا بد من أن يكون هناك سبب دعا إلى هذا التوافق بين الكاتبين، وإلى أن يعجب الجمهور بقصتهما إعجابا متقاربا، وهذا السبب هو فيما أظن الذوق العام، وما يختلف عليه من ألوان التطور.
كثيرا ما نسأل أنفسنا: أيهما أشد تأثيرا في صاحبه؟ أهو صاحب الفن يبتكر من آياته الفنية ما يخلب الناس ويستهويهم؛ فتؤثر في حياتهم العقلية والشعرية، ويسيرهم كما يريد، أم هو الجمهور تؤثر فيه الظروف المختلفة فتكون مزاجه وذوقه تكوينا خاصا، ويقوى هذا الذوق وذلك المزاج حتى يتشخصا في الكاتب، أو الشاعر، أو المصور، أو المثال؛ فإذا هو ترجمان يعرب عن نفس هذا الجمهور ومرآه يعكس ذوقه ومزاجه؟
فأما حين يكون الكاتب مبتكرا يؤثر في الجمهور غالبا إياه على أمره، فإنما يعجب الجمهور به لأنه غريب قد ظهر قويا أقوى من الجمهور، فالجمهور يذعن له ويؤمن بقوته ويعجب بآثاره كما يعجب بآثار القوي بعد أن يجاهده ويصارعه ويمتنع عليه فلا يجد سبيلا إلى المقاومة، فيضطر إلى الإذعان والخضوع. وأما حين يكون الكاتب أو الشاعر ترجمان الجمهور ومرآته، فالجمهور لا يعجب بالكاتب أو الشاعر وإنما يعجب بنفسه، يعجب بصورته التي يراها في المرآة. ومن الواضح أن الكاتب أو الشاعر الذي يكره الجمهور على ما يريده ويغتصب إعجابه اغتصابا ويرسم له طريقه العقلية والشعورية هو الكاتب أو الشاعر الخليق بالبقاء حقا، ومن الواضح أن هذا الكاتب أو الشاعر لا يتاح للناس إلا قليلا في أوقات متقطعة، فإن وجد فهو ثقيل على الجمهور بغيض إليه وربما لم يظفر بحقه من الطاعة والرضا والإعجاب إلا بعد موته بزمن يقصر أو يطول، ومن الواضح أن الكاتب أو الشاعر الذي تكون آثاره الفنية صدى لنفس بيئته ليس غير هو الذي يستأثر بالرضا والإعجاب ويستمتع بلذتهما في حياته، ولكنه لا يكاد يدع هذه الحياة حتى ينساه الذين كانوا يكلفون به ويتهالكون عليه.
كل هذا حق فيما يظهر، وكل هذا واضح أيضا، ولكن المسألة التي لا تزال غامضة هي الصلة بين الكتاب والشعراء وبين الذين يقرءون آثارهم أو يسمعون لها، هذه الصلة التي تجعل بعضهم محببا إلى الناس وتجعل بعضهم الآخر بغيضا، وتطيل أمد هذا الحب والبغض أو تقصره، وهي الذوق فما هو؟ ومن أين يأتي؟ وإلى أي غاية ينتهي؟ وما المؤثرات المختلفة التي تكونه وتسلك به سبل التطور المختلفة المتباينة؟ أهو عقل خالص قوامه البحث والنقد والتقدير والحكم؟ كلا، فلو كان الذوق كله عقلا لضاعت آيات فنية خالدة، ولما استطاع هذا الجيل أن يعجب بكبار الشعراء والخالدين من أصحاب الفن، ومع ذلك فقد كان أفلاطون يمقت هوميروس وشعره ويحظر درس هذا الشعر في مدينته الفاضلة، ولكنه على ذلك كان يستشهد به ويستخلص منه حكما لا تفنى. أهو شعور خالص قوامه الحس والتأثر والانفعال الذاتي الذي لا روية فيه ولا اختيار؟ كلا، فلو كان كذلك لضاعت آثار كبار الشعراء والخالدين من أصحاب الفن، والمثل الذي قدمناه نفسه يدل على هذا أيضا، فلم يكن أفلاطون يصدر عن شعوره وانفعاله السريع الذي لا روية فيه حين كان يستشهد بأبيات هوميروس، وإنما كان يصدر عن عقله الفلسفي وعن حكمه وتقديره.
فليس الذوق إذن عقلا خالصا ولا شعورا خالصا وإنما هو مزاج من العقل والشعور، ولكن أي عقل وأي شعور هنا؟ يجب أن نلاحظ أن ليس للناس ذوق واحد ولكن لهم أذواقا مختلفة متباينة تختلف باختلاف بيئاتهم وظروف حياتهم، كما تختلف باختلاف حظوظهم من الثقافة وباختلاف حظوظهم من لين الحياة وشدتها ومن نزوع الحضارة بوجه عام، ولا بد من عودة إلى هذه الأذواق المختلفة إن أردنا استقصاءها، فلندعها الآن ولنقف عند هذا الذوق الذي يمكن الجمهور من أن يعجب بأثر فني أو يسخط عليه، فهذا الذوق يجب أن يكون مشتركا بين الناس ليدفع أيديهم إلى التصفيق إن أعجبوا، وأفواههم إلى الصفير إن سخطوا، وهو مشترك بالفعل ولكن الغريب من أمره أنك مهما تلاحظ من إجماع الناس على الإعجاب بأثر فني أو السخط عليه فلن توفق إذا طلبت إلى كل واحد منهم أن يرد إعجابه أو سخطه إلى تعليل يشتركون فيه.
هم يعجبون معا ويسخطون معا وكأنهم يعجبون أو يسخطون لسبب يشعرون به جميعا، ولكن سل كل واحد منهم عن هذا السبب فستجد بينهم اختلافا كثيرا، ذلك لأنهم يختلفون في حظوظهم من العقل والشعور والثقافة وظروف الحياة المختلفة، فيقدر كل واحد منهم الأشياء قدرا ملائما لحاله فلا يتفقون إذا حكموا فرادى، ولكنهم على كل حال يشتركون في مقدار ما من هذا العقل وهذا الشعور وظروف الحياة الأخرى، وكأن هذا المقدار الذي يشتركون فيه هو الذي يمكنهم من أن يتفقوا على السخط أو الإعجاب، هذا المقدار الضئيل هو الذي يشترك فيه أفراد الجماعة فيكون ذوقهم العام مختلفا في نفسه أيضا باختلاف الظروف التي تحيط به وتؤثر فيه، ولست أشير إلى اختلاف الأذواق العامة باختلاف الأجيال ، فقد كان الذوق العام منذ ثلاثين سنة في مصر شيئا غير الذوق العام الذي نشهده الآن، كان يعجب بشيء من الشعر والنثر نراه نحن سخيفا، ولو قد عرض عليه ما ينشئ كتابنا وينظم شعراؤنا لما ذاقه ولما أساغه، ويكفي أن تعرض على جماعاتنا الآن ما يكتب أو ينظم منذ ثلاثين سنة لترى نفورها منه وإنكارها له، لا أشير إلى اختلاف الذوق باختلاف الأجيال، ولا إلى اختلاف الذوق باختلاف البيئات، فهذا طبيعي يسير الفهم والتعليل، وإنما أشير إلى أن الذوق العام الواحد في جيل بعينه يختلف باختلاف الظروف الوقتية الطارئة التي تعرض له فتؤثر فيه، فلو قد مثلت القصتان اللتان أشرت إليهما آنفا في باريس منذ عشر سنين لما أعجب بهما النظارة، بل لسخطوا عليهما أشد السخط؛ ذلك لأن ظروف الحياة التي كانت تحيط بالباريسيين في ذلك الوقت كانت تدعو الجماعات إلى بغض الأثرة وحب الإيثار، وكيف لا وقد كانت الحرب قائمة والجهود كلها موجهة إلى التعاون على دفع العدو وإنقاذ الوطن.
فالأثرة لا تلائم التعاون والتوفيق بين الجهود المختلفة، ولو أعيد الآن تمثيل القصص التي أنتجتها ظروف الحرب وأعجب بها الباريسيون حينئذ لما أعجبوا بها الآن إلا متكلفين؛ لأنهم يكرهون أن يقال عنهم أو أن يقولوا هم عن أنفسهم إنهم قد نسوا الحرب وأهوالها، فترى أن جيلا واحدا يعجب ويسخط إعجابا وسخطا مختلفين باختلاف الظروف التي تؤثر في ذوقه العام.
ومعنى هذا كله أن هاتين القصتين يجب أن تكون كل واحدة منهما مرآة صادقة إلى حد ما لطبيعة الخلق الفرنسي في هذه الأيام لهذه الأثرة التي أنتجتها الحرب بما دعت إليه من جهاد وصراع بين هؤلاء الذين كانوا يتعاونون منذ سنين، كانوا يتعاونون لدفع العدو الطارئ، فلما خلصوا منه فرغ بعضهم لبعض، وكانوا قد لقوا في الحرب خطوبا وأهوالا وصنوفا من الحرمان والبؤس، فهم يريدون الآن أن يعوضوا ما فاتهم وأن يستمتعوا من اللذات بما يعدل ألوان البؤس والحرمان التي خضعوا لها من قبل، وإذن فهم أثرون، ويجب أن تكون الأثرة هي الطابع الذي يطبع أخلاقهم، وأعمالهم، وذوقهم، وآثارهم الفنية.
ومن المحقق أن هذا الطور من أطوار الحياة الفرنسية سيزول كما زال غيره من أطوارها السابقة، ويومئذ لا يطبع الذوق العام في فرنسا بطابع الأثرة هذا، ولا يعجب الفرنسيون بهاتين القصتين، ولا يتخذ الكتاب والممثلون الأخلاق والعرف وسيلة إلى إرضاء الأثرة وحب النفس.
ومثل هذا يمكن أن يقال في كل ذوق عام وفي كل جيل من أجيال الناس، وكم أحب أن أعرف الطابع الذي يطبع ذوقنا المصري العام في هذه الأيام التي نعيش فيها.
من عمل الشيطان
كان هذا من عمل الشيطان ليس في ذلك شك، لأنه مخالف لطبيعة الأشياء، ولأن السماء ترتفع عن العناية بهذه الصغائر، فالحب يسعى إلى القلوب من طريق العيون أو من طريق الآذان، من طريق الصورة التي تراها العين فتنقلها إلى النفس بما تحمل من دواعي الميل والنفور، أو من طريق الصوت الذي تحمله الأذن إلى القلب بما يشيع فيه من أسباب الحنان أو القسوة، فأما أن يصل الحب إلى القلوب وينتهي البغض إلى النفوس من طريق الأيدي التي تلطم والوجوه التي تتلقى اللطم فشيء غير مألوف لم تبتكره الأشياء، ولم تهبط به إرادة السماء، وإنما اخترعه عبث شيطان ماكر أو كيد عفريت من هذه العفاريت التي تلعب بقلوب الناس ونفوسهم وتصرف عواطفهم وأهواءهم كما تشتهي في كثير من الأحيان.
وهذا الحب الذي أتحدث عنه، وهذا البغض الذي جاء في أثره لم تنشئهما نظرة من هذه النظرات الحادة الفاترة التي يقول فيها الشاعر القديم:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
وهن أضعف خلق الله إنسانا
ولم يحدثهما صوت من هذه الأصوات التي يقول فيها الشاعر القديم أيضا:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وإنما أنشأتهما لطمتان إحداهما فتحت للعاشقين باب النعيم الذي لا يوصف، والأخرى فتحت لهما باب الجحيم الذي لا يطاق، ولو أن قصة هذين العاشقين كانت من هذه القصص التي يبتكرها خيال الكتاب لما تحدثت إليكم بها، ولأعرضت عنها إعراضا، ولرأيتها أثرا من آثار خيال مريض لا يحسن التحليق في أجواء الفن بمقدار ما يحس الإسفاف إلى الحقائق الواقعة، ولكنها قصة لم يخترعها الخيال وإنما اخترعتها ظروف الحياة، وهي إن صورت شيئا فإنما تصور سخف الإنسان وعبث الشيطان وائتلاف الحياة الإنسانية أحيانا من أشياء قليلة الغناء حقا.
كان ذلك في مدينة من مدن فرنسا تعرفونها جميعا حق المعرفة، وفي جنة من جنات هذه المدينة ليس منكم إلا من ألم بها مصبحا أو ممسيا ملتمسا للرياضة أو ساعيا إلى الجامعة، فكلكم قد درس في مونبلييه، وكلكم قد ألم بحديقتها المعروفة ... وأظنكم تذكرون أن كثيرا من الحفلات الشعبية تقام في هذه الحديقة، فقبيل حفلة من هذه الحفلات بدأت هذه القصة التي تضحك من أراد أن يضحك، وتحزن من أراد أن يحزن، وتصور سخف الحياة على كل حال. كل الناس يزدحمون على باب الحديقة ازدحاما شديدا ليشهدوا حفلا موسيقيا عسكريا قد خصص إيراده لإعانة الجرحى من أبناء المدينة في الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك في الساعة الثانية بعد الظهر حين فرغ الناس من غدائهم، وكان ذلك في آخر الربيع وأول الصيف حين يشتد في مونبلييه ذلك الحر الرطب الذي يصهر الأجسام والنفوس جميعا، ويخرج الناس عن أطوارهم ويهيئهم للغضب السريع. كان الناس يزدحمون ويتدافعون بالمناكب، وكان صاحبنا يزاحم مع المزاحمين ويدافع مع المدافعين، وإنه لفي ذلك يتقدم خطوة ويتأخر أخرى، وإذا وجهه يتلقى على إحدى صفحتيه لطمة لم يتلق مثلها قط، لطمة لفتته إلى نفسه ولفتت الناس إليه ولفتته إلى المصدر الذي يمكن أن يكون قد ساقها إليه، وملأت قلبه غضبا وحفيظة وموجدة، بل قد ملأت قلبه نخوة ومروءة وثورة للكرامة المهدرة والشرف المهان.
فقد كان صاحبنا عربيا من أهل الريف، فلم تكد اللطمة تبلغ وجهه حتى ثارت نفسه وهاجت عاطفته وغلى الدم في عروقه وصعد إلى وجهه الملطوم، واستيقن أن العروبة كلها قد أهينت في شخصه إهانة لا تردها لطمة كاللطمة التي تلقاها، ولا يغسلها إلا ذلك الدم الذي زعم المتنبي أنه وحده هو الذي يسلم الشرف الرفيع من الأذى حين يراق على جوانبه.
كان هذا كله في لحظة بل في أقصر من لحظة إن أمكن أن يكون هناك ما هو أقصر من اللحظة، وقد رفع صاحبنا رأسه وتهيأ للهجوم الساحق الماحق الذي لا يبقي ولا يذر، ولكنه لم يكد يرفع رأسه ويلتفت به إلى يمين حتى أطرق ولسانه يقول عن غير إرادة وفي صوت متهدج أضحك منه من حوله وأضحكه من نفسه فيما بعد: معذرة يا سيدتي! قالت السيدة التي لطمته: معذرة من ماذا؟ بل أنا التي تعتذر إليك، فقد ظننت أنك آذيتني بهذا الدفع المنكر، ولم تكد يدي تصيب وجهك حتى عرفت أنك بريء وأن الآثم شخص آخر ليس له حظ من أدب ولا من تربية، وكان هذا الشخص الآخر الذي ليس له حظ من أدب ولا تربية قد ذاب في أثناء هذا كله واستخفى، ومن يدري لعله لم يكن إلا شيطانا كاد كيده ثم ابتلعته الأرض أو اختطفته السماء، ولعله لم يكن إلا خيالا لعب برأس السيدة، والشيء المحقق هو أنها أحست أو ظنت أنها أحست دفعا غير كريم فلطمت وجه هذا الفتى، ثم لم تلبث أن عرفت براءته فاعتذرت إليه من لطمتها في نفس الوقت الذي كان هو يعتذر إليها فيه من هذا البطش الذي هم أن يبطشه بها، ومن هذا الغضب الذي هم أن يصبه عليها صبا، والشيء المحقق أيضا هو أن هذه اللطمة التي دعت إلى تبادل الاعتذار قد دعت إلى تبادل الابتسام ثم إلى تبادل الحديث، ثم إلى الاستمتاع بالموسيقى العسكرية التي خصص إيرادها للجرحى من أبناء المدينة في الحرب العالمية الأولى، والشيء المحقق أيضا هو أن الأسباب التي مدتها هذه اللطمة لم تنقطع بانتهاء الحفلة وإنما اتصلت وكانت مصدرا غريبا لحب غريب.
وما أظنكم تنتظرون أن أقص عليكم كيف خرج اللاطم والملطوم من الحديقة وكيف سعيا معا إلى قهوة فرنسا ، هناك قريبا من الاسبلاناد، وكيف تبردا فيها من حر الصيف ومن حر الحفلة بقدحين من أقداح الجعة، وكيف اتصل الحديث بينهما حلوا رائقا للنفوس حينا وحادا ممزقا للقلوب حينا آخر حتى فرق بينهما مقدم الليل فتفرقا ولكن على موعد للقاء ...
وكلكم يعرف إلام تنتهي هذه المواعيد حين تتصل، وقد انتهت مواعيد صاحبينا إلى حب هائج مضطرم لم يخفف من لوعته إلا الزواج، فصوروا لأنفسكم إن كنتم في حاجة إلى أن تصوروا لها هيام العاشقين أثناء هذه الخطبة التي اتصلت وقتا غير قصير، وصوروا لأنفسكم أثر هذا الهيام في حياة الفتى وفي طلبه للعلم وإقباله على الدرس، وأثره في أسرة الفتى المصرية في قرية من قرى الريف، وأثره كذلك في نفس الفتاة وفي أسرتها المحافظة، صوروا لأنفسكم هذا كله وقدروا أن الحب الذي أثارته هذه اللطمة قد قهر هذا كله وتغلب على ما فيه من صعاب وعقاب وانتهى إلى الزواج على رغم الدرس الذي أهمل، وعلى رغم المقاومة التي جاءت من الريف المصري، والمقاومة الأخرى التي جاءت من الريف الفرنسي، وصوروا لأنفسكم كذلك أن هذه اللطمة قد أذكت الحسرة في كثير من القلوب وأشبت الغيظ في كثير من القلوب أيضا: أذكت الحسرة في قلوب فتيات كن يفكرن في هذا الشاب، وأشبت الغيظ في قلوب شباب كانوا يفكرون في هذه الفتاة، ولكن الحب سيل جارف لا يمر بشيء إلا اكتسحه اكتساحا، وريح عاصفة لا تدع شيئا أتت عليه إلا جعلته كالرميم، والحب قاهر بطبعه: قاهر للناس وقاهر للأشياء وقاهر للأحداث والخطوب أيضا، وحب هذين العاشقين قد قهر كل شيء وقهر كل إنسان، ووقف العاشقان ذات صباح أمام العمدة في مدينة مونبلييه فألقى عليهما سؤالين وسمع منهما جوابين، وتلا عليهما طرفا من أطراف القانون المدني وأعلن بعد ذلك أنهما قد أصبحا زوجين، وانتهت تلك اللطمة إلى غايتها الأولى.
ففتح للعاشقين باب من أبواب النعيم الذي لم تر مثله عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر لأحد على بال، وكأنما كانت تلك اللطمة شيئا يشبه الطرق على الباب للاستئذان في الدخول، وكأنما كان الحب هو الذي اصطنع يد الفتاة فطرق بها على قلب الفتى بابه، ولم يكن باب هذا القلب عين الفتى ولا أذنه ولا فمه، وإنما كان صفحة وجهه الذي لم يكن رائعا ولا جميلا.
وقد استمتع العاشقان بهذا النعيم ما شاء الله أن يستمتعا به، ذاقا لذائذه في فرنسا وتنقلا بها بين إيطاليا وسويسرا، وعبرا بها البحر آخر الأمر إلى مصر واستقرا بها حيث تعلمون في مدينة من المدن المصرية سعيدين موفورين لا يعرفان من الحياة إلا وجهها الباسم الصبوح، ولكن وجه الحياة ليس باسما دائما بل قد يعتريه العبوس، وليس مشرقا دائما بل قد يغشاه الظلام أحيانا، وقد يصدر عبوس الحياة وإظلامها عن الناس حين يأتون بعض الأمر ويدعون بعضه، حين يقولون فيكون ما يقولونه مصدرا للشر، وحين يسكتون فيكون سكوتهم سبيلا إلى الريب، حين يعملون فيكون عملهم مثيرا للسخط، وحين يكسلون فيكون كسلهم وسيلة إلى الاتهام.
والواقع أن حياة الزوجين أظلمت ذات يوم، لا لأن أحدهما قال شيئا أو عمل شيئا، ولكن لأن ساعة من ساعات الصفو الحلو البريء أبت أن تنقضي دون أن تعقب كدرا ومرارة وشكا.
فقد فرغ الزوجان ذات يوم لمجلس من هذه المجالس الكريمة التي يسمر فيها الأصدقاء بعد الغداء أو بعد العشاء حين يفرغون من طعام أحسن إعداده وشراب أحسن اختياره، وحين يقبلون على الحديث أحيانا وعلى الموسيقى أحيانا أخرى وعلى الرقص في أثناء ذلك، وقد أخذ الأصدقاء في تلك الليلة بحظهم من نعيم الحياة وتفرقوا، وخلا الزوجان وأخذا يتحدثان عن وليمتهما وعما دار حولها من حديث، وعما كان بعدها من سمر، وكان الزوج متحمسا في استعراض هذا كله، وكانت امرأته تسمع له في غير نشاط أو لعلها كانت تسمع له بإحدى أذنيها لا بهما جميعا، لعلها كانت ذاهلة عنه بعض الذهول، وقد نبهها رفيقا بها فلم تتنبه، وقد نبهها مرة ثانية فلم يغن عنه التنبيه شيئا، وإنما مضى هو في حديثه المتحمس، ومضت هي في استماعها الذاهل حتى رابه من أمرها شيء.
وأيسر الريب بين العاشقين لا يخلو من خطر، فقلوبهم حساسة ونفوسهم أشبه شيء بالحطب الجذل لا تكاد تمسه النار حتى يصبح حريقا مضطربا يملأ ما حوله لهبا، وكأن نفس الفتى كانت معدة لشيء من هذا، فقد كان غيران لا يطيق الشك ولا يحتمل الريب، فلم ذهول امرأته عن حديثه وإمعانها في هذا الذهول؟! ضاقت نفسه ثم اشتد ضيقها ثم ثارت ثم خرجت عن طورها وإذا هو يقول أكثر مما كان يريد، وإذا هي تظن أكثر مما كان ينبغي، وإذا ألفاظ طائشة تلتقي ثم تصطدم، وإذا يد الفتى تمتد ثم تنقبض، وإذا اللطمة التي تلقاها في مونبلييه ففتحت باب النعيم للعاشقين قد ردت إلى صاحبتها في مدينة من المدن المصرية ففتحت باب الجحيم للبائسين.
وما أحب أن أصور لكم من أمرهما أكثر من ذلك، فما أريد أن أخرج من الإشارة إلى الدلالة، ولا من التلميح إلى التصريح، وإني على ما تعرفون من إمعاني في البغض حين أبغض، لأكره أن أتمنى لأشد الناس لي عداء أن يصير إلى مثل ما صار إليه الفتى وإلى مثل ما صارت إليه الفتاة. ألا ترون أن هذا الشر كله لا يمكن أن يكون إلا من عمل الشيطان؟ وهم القوم أن يجعلوا هذا الحديث موضوعا للجدال يعللون فيه ويئولون، وينكرون منه ويعرفون، ولكن أحدهم رفع صوته حتى اضطرهم إلى الصمت وقال في سخرية لاذعة: ما أكثر ما تفتح اللطمات أبوابا للنعيم ثم تفتح بعدها أبوابا للجحيم! ألم تسمعوا أن لطمة وثبت بفلان إلى مكان رفيع، وأن لطمة أخرى قد تهبط به قطعا إلى مكان سحيق؟!
قال صاحب الحديث: أما وقد أخذتم تخوضون في حديث الأشخاص، وتلمحون إلى أحداث السياسة، فليس لي بينكم مقام، وانصرف وأصحابه يدعونه إلى أن يعود وهم يقولون: أقبل فقد آمنا بأن قصتك من عمل الشيطان.
الفأل
كان ممعنا في القراءة حين سمع صوتا عذبا يدعوه، فلما رفع رأسه رأى زوجه قائمة أمامه وقد أشرقت من وجهها كله ابتسامة حلوة فيها كثير من الخفر وفيها شيء من خوف ضئيل وشيء من العجب أيضا. قالت له في صوت يريد أن يضحك، ولكنه يقاوم الارتياع: إن في حجرة الاستقبال ضيفا ينتظرك، وهم أن يسألها عن هذا الضيف، ولكنها أخذت يده في رفق، وأنهضته فاستجاب لها مداعبا مخفيا لبعض الوجل، فلم يكن أحب إليه من أن يمضي في قراءته لتلك القصة الرائعة التي يعرض فيها مكسيم جوركي حياته أثناء الصبا.
وقد سعت به زوجه سعيا رفيقا إلى حجرة الاستقبال، فلما بلغ باب الحجرة لم يجد أحدا، وإنما وجد هدهدا قد استقر على البيانو في هدوء واطمئنان، فلم يكد يراه حتى أغرق وأغرقت زوجه معه في ضحك متصل لم يكد يفرغ منه حتى تلا الآية الكريمة:
فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين
ثم داعب خد امرأته وقال لها في صوت حازم جازم: انتظري نبأ عظيما يبلغك اليوم أو غدا، فنظرت إليه كالحائرة المستفهمة، ولكنه قال لها في صوته الحازم الجازم: قد علمت أن الهدهد لا يكذب ولا يحب الكذب. ثم عاد إلى كتابه ولكنه لم ينظر فيه، وانتظرت هي أن ينصرف الهدهد عن البيانو، فلما انصرف أقبلت على الموسيقى، ولكنها لم تعزف، وإنما جعلت أصابعها تذهب وتجيء في غير انتظام، كان مشرد النفس أمام الكتاب، وكانت مشردة النفس أمام البيانو.
كان كل منهما بعيدا عن صاحبه ولكنهما كانا يفكران في شيء واحد، أو في أشياء مؤتلفة متقاربة، يتكون منها جزء قيم من نسيج الذكرى هذا الذي يعمر القلوب ويمتع العقول، ويضيء في النفوس حين تظلم الأحداث وتدلهم الخطوب، فقد كان للهدهد أثر عظيم الخطر في حياتهما الأولى، كان رسول البشر والغبطة والحبور إلى أبنائهما حين كانوا أطفالا لا يكادون يعقلون، كان الهدهد هو الذي يحمل إليهم ما تريد أمهم أن تمتعهم به من طرفة، وما يريد أبوهم أن يسرهم به من هدية، وكان الهدهد يستخفي بطرفه وهداياه ينثرها في حجرات البيت وغرفاته نثرا، وينشرها في أبهاء الدار ودهاليزها نشرا، وربما أخفاها إخفاء في أعشاب الحديقة وبين أشجارها ونجومها، وربما علقها في الأغصان أو تركها على حافات النوافذ.
ولم يكن يمضي يوم حتى يتصايح الأطفال في الصباح أو في المساء بأن الهدهد قد زار الدار وترك فيها شيئا، وكان الأطفال يحبون الهدهد أشد الحب، ويودون لو استطاعوا أن يؤنسوه ويحدثوه ويسمعوا منه، ولكنهم كانوا يرونه قد وقف منهم غير بعيد في هذا المكان أو ذاك من الحديقة، فإذا دعوه لم يستجب لهم كأنه لا يسمع منهم، وإذا سعوا إليه ارتفع في الجو ارتفاعا يسيرا، ثم انصرف عنهم دون أن يوئسهم من منظره، ودون أن يبخل عليهم بصوته هذا الذي لم يكن يخلو من التحدي، وكان الأطفال يسألون أمهم حينا وأباهم حينا آخر: ما بالهم لا يرون الهدهد حين يحمل إليهم طرفه وتحفه، وإنما يرونه دائما فارغا خاليا إلى نفسه، نافرا منهم منصرفا عنهم؟ فكانت أمهم تجيبهم، وكان أبوهم يجيبهم أيضا، بأن الهدهد حذر لبق ظريف يحب المداعبة، ويؤثر أن يفجأ أصدقاءه بما يترك لهم من الهدايا، وقد شب الأطفال وعقلوا واستبانوا الحقائق من أمر الهدهد، وما كان يحمل إليهم من الهدايا، ولكنهم مع ذلك خادعوا أبويهم حينا وخيلوا إليهما أنهم كانوا يصدقون ما يقصان عليهم من أمر الهدهد، ثم خادعوا أنفسهم حينا آخر وأرادوا أن يصدقوا ما كان يقص عليهم من أمر الهدهد، ثم لم يجدوا بدا من الإذعان لحكم العقل والانحراف عن قصة الهدهد، فجعلوا يتندرون بها في كثير من الحنان ساخرين من أنفسهم ومداعبين لأبويهم، ثم صرفوا إلى شئون الصبا والشباب عن شئون الطفولة، وشغلوا بالدرس والتحصيل عن هدايا الهدهد وطرفه.
كان صاحبنا يستعرض هذا كله وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى مما كتب فيه شيئا، وكانت زوجه تستعرض هذا كله وهي تجري أصابعها على البيانو دون أن تستخرج منه لحنا مستقيما، على أنها لم تلبث أن حزمت أمرها، وأقبلت على موسيقاها، فانغمست فيها انغماسا، أما هو فلم يستطع أن يحزم أمره ولا أن يعود إلى مكسيم جوركي، لأنه لم يكد يفرغ من استعراض طفولة أبنائه حتى استعرض طفولة نفسه.
فقد كانت الصلة بينه وبين الهدهد بعيدة جدا أبعد من الصلة بينه وبين زوجه وبنيه. كان يعرف الهدهد منذ طفولته الأولى، يراه فيعجب بشكله، ويسمعه فيحن إلى صوته، ويتمنى أن يتاح له هدهد يمسكه في الدار ويتخذه له رفيقا، وما زال يلح بهذا التمني على أبيه وإخوته وذوي معرفته حتى رفق به بعض أهل القرية فجاءه ذات صباح بقفص ظريف قد استقر فيه هدهد ظريف، وهو يذكر ابتهاجه بهذه التحفة وإسراعه إلى أمه راضيا مسرورا، يخرجه الرضا والسرور عن طوره، وهو يذكر كيف ابتسمت له أمه في رفق وكيف تقدمت إليه في ألا يعذب الهدهد ولا يرهقه من أمره عسرا، وكيف نهضت فأخذت منه القفص وعلقته إلى جدار من جدران الدار، ووضعت فيه إناءين صغيرين في أحدهما قليل من ماء وفي الآخر قليل من حب، وطرحت إلى جانب الجدار وسادة، وقالت لابنها وهي تمسح على رأسه: هذا مكانك من صديقك الهدهد، تستطيع أن تأوي إليه كلما أحببت أن تراه أو تسمع منه. وقد وفى الصبي لهدهده أياما طوالا فكان يسرع إليه كلما عاد من الكتاب وسط النهار وآخره فيتحدث إليه، ويسمع منه، ويطيل الحديث والاستماع.
ولكن الرجل الذي أهدى إليه الهدهد لم يحسن الفهم عنه فيما يظهر، كما أنه هو لم يحسن الفهم عن نفسه، فقد أقبل ذلك الرجل عليه في الضحى ذات يوم وأهدى إليه صقرا صغيرا لطيفا بعد أن قص من جناحيه، وفرح الصبي بصقره ذاك الجميل، وخيل إليه بل ألقي في نفسه أن هذا الصقر سيؤنس الهدهد في وحدته، وسيكون رفيقه حين يشغل هو بهذا الكتاب البغيض الذي كان يذهب إليه أول النهار ويعود منه لحظة للغداء ثم يرجع إليه مسرعا ولا يعود إلى صديقه الهدهد إلا آخر النهار. وكان الصبي يشفق على هدهده من هذه الوحدة المتصلة، فأي غرابة في أن يسعد بهذا الصديق الجديد الذي سيسلي الهدهد ما بعد عنه صاحبه، فإذا عاد لم يتحدث إلى الهدهد وحده وإنما تحدث إليه وإلى الصقر جميعا، وما هو إلا أن يدخل الصقر على الهدهد في قفصه وينصرف لبعض ما ينصرف إليه الصبية ثم يعود بعد ساعة قصيرة أو طويلة، فيرى، ويا هول ما يرى! يرى الهدهد ميتا قد نقر الصقر رأسه واستخرج ما فيه، إنه لم يكن يعرف أن الطير يعدو بعضها على بعض.
ويرى أمه حزينة تلومه وتعنف به في اللوم، وترسل إلى ذلك الفلاح الذي أهدى إليه الصقر شتما قبيحا، وقد أخذ صاحبنا وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى ما كتب فيه شيئا يستعرض هذه الذكرى، ويستعرض حزنه على الهدهد وحبه له من بعيد بعد تلك الكارثة واقتناعه بأن الخير له وللهدهد في أن يتراءيا ويتحدثا من بعيد، ثم ينتقل من هذا الاستعراض إلى ما عرف من أمر الهدهد حين حفظ القرآن واستظهر سورة النمل وعرف قصة سليمان وملكة سبأ. كل ذلك جعل يستعرضه وهو ينظر في كتابه دون أن يرى ما فيه، وقد استقر في نفسه أن لزيارة الهدهد لداره شأنا، وأنه قد جاء بالنبأ اليقين، وأن النهار لن ينقضي حتى يبلغه أمر ذو بال. والغريب الذي تستطيع أن تصدقه أو تكذبه - فلن يغير تصديقك ولا تكذيبك من الحق شيئا - هو أن النهار لم ينقض دون أن يأتيه النبأ العظيم.
والحق أن صاحبنا قد عاد في ذلك اليوم طفلا فعلق نفسه من بعض نواحيها بالتلفون، وعلقها من بعض نواحيها الأخرى بالجرس، وعلقها من ناحية ثالثة من نواحيها بساعي البريد، وتستطيع أن تقول إنه جلس في مكتبه واجما وخصص إحدى أذنيه للتلفون وإحداهما الأخرى للجرس، ومد عينيه أمامه إلى النافذة يرقب من يمكن أن يصعد سلم الدار من الزائرين، وقد طال به ذلك وشق عليه، ثم أقبلت عليه شئون الحياة اليومية فصرفته عن هذا السخف صرفا ظاهرا، ولكن قلبه ظل بقية النهار ينتظر شيئا غامضا، وقد دعاه التلفون حين أقبل الأصيل، فلما استمع إلى ما قيل له وأجاب بكلمات قصار أسرع إلى زوجه يقبلها ويقول مستبشرا: ألم أقل لك إن الهدهد قد جاء بالنبأ اليقين؟ قالت زوجه: وما ذاك؟ قال: استقالت الوزارة ودعيت إلى الاشتراك في الحكم.
ولم تشرق الشمس من غد حتى كان صاحبنا وزيرا، ولم يرتفع الضحى من اليوم نفسه حتى كان صاحبنا لا يخاف شيئا كما يخاف الهدهد، ولا يبغض شيئا كما يبغض الهدهد، ولم يكن بالأمس يأنس إلى شيء كما كان يأنس إلى الهدهد، ولم يكن بالأمس يحب شيئا كما كان يحب الهدهد، ولكن صدق الهدهد قد أقر في نفسه أيضا أن الهدهد لا يستطيع أن يأتيه بعد الوزارة بنبأ يسر أو يروق؛ فمن يدري إن أقبل الهدهد إليه يحمل نبأ استقالة الوزارة؟ وليس الهدهد صديقا له وحده من دون الناس يحمل إليه وحده الأنباء السارة، فقد يكون للهدهد أصدقاء آخرون يمكن أن يحمل إليهم أنباء سارة صادقة، ويمكن أن يكون من هذه الأنباء نبأ استقالة الوزارة والدعوة إلى الاشتراك في الحكم.
قل إن هذا منطق سخيف، وأؤكد لك أني أرى هذا منطقا سخيفا، ولكني أؤكد لك أيضا أن للحوادث منطقا غير منطق الناس، وإن التفاؤل والتشاؤم يعبثان بعقول الناس، فيفسدان منطقهم في رأي أرسطاطليس وفي رأي الأستاذ لطفي السيد، ولكنهما يقربان بين هذا المنطق وبين منطق الحوادث أحيانا، والشيء الذي ليس فيه شك هو أن صاحبنا قد تطير بالهدهد طيرة شديدة كما كان يتفاءل به من قبل تفاؤلا شديدا، وأنه لم يسع قط إلى غرفة استقباله إلا وفي نفسه إشفاق شديد أن يرى الهدهد قائما على البيانو في مكانه ذاك، ولو استطاع لتقدم إلى أهله في أن تغلق نوافذ الدار ما أشرق النهار، وفي ألا تفتح إلا حين تنام الطير، والشيء الذي لا شك فيه أيضا هو أن استحى أن يتقدم في ذلك إلى أهله مخافة أن يظنوا به الظنون، ولكنه تقدم إلى أعوانه في الوزارة ألا تفتح نوافذ مكتبه، وزعم لهم أنه يكره أن يأتيه منها الضجيج والعجيج ويشفق من تيارات الهواء ويؤثر الضوء الرفيق على الضوء العنيف.
وحياة الوزراء حافلة بخطوب السياسة وأحداثها، فهم يرضون إذا أصبحوا، ويغضبون إذا ارتفع الضحى، ويعودون إلى الرضا حين ينتصف النهار، ويردون إلى السخط حين يجلسون إلى الغداء كل ساعة من ساعات الليل والنهار تحمل إليهم في دقائقها ألوانا من الرضا والسخط، ومن الأمن والخوف، ومن القلق والهدوء، فكان صاحبنا كلما حدث حادث مغضب أو مقلق وكلما نشر خبر مسخط أو مثير للخوف لم يذكر إلا الهدهد ولم ير أمامه إلا الهدهد، فقد كان الهدهد رسول النعمة إليه قبل أن يرقى إلى الحكم، فأصبح الهدهد نذير النقمة إليه بعد أن ارتقى إلى الحكم.
ولكل أجل كتاب، ولكل وزارة آخر، وقد أقبل صاحبنا مع الضحى ذات يوم على مكتبه، ولكنه لم يكد يدخل حتى رأى حبيبه أمس وعدوه اليوم قائما بشكله الجميل البشع على حافة النافذة وقد نسي الخدم إغلاقها لأمر ما، ولست أصف لك ثورة الوزير الظاهرة فقد تعرفها وهي لا تعنيني، وإن كان خادم مكتبه قد سمع ما لا يرضي وقضى ساعة منكرة، وإنما أصف لك تشاؤم الوزير فيما بينه وبين نفسه؛ فقد أظلم قلبه واربدت نفسه وساء خلقه وقبح لقاؤه للموظفين والزائرين جميعا، وعاد إلى أهله غضبان أسفا لا يكاد ينطق، وجلس إلى الغداء فلم يكد يصيب منه شيئا حتى قالت زوجه: إنك لمحزون منذ اليوم، هل من جديد؟ قال وهو يتكلف الابتسام: ما أدري ولكن رأيت الهدهد البغيض. قالت وقد كادت العبرة تخنق صوتها: لقد أصبح الهدهد بغيضا الآن وما أكثر ما كان يملأ قلوبنا غبطة وسرورا! ثم خلت إلى أبنائها فضحكت وضحكوا.
ولكن المساء لم يقبل في ذلك اليوم حتى كان صاحبنا يستأنف القراءة في كتاب مكسيم جوركي من حيث تركها، وحتى كانت زوجه تعزف على البيانو شيئا من ألحان موزار، أما هو فكان محزونا يلعن الهدهد، وأما هي فكانت راضية تثني على الهدهد ثناء كثيرا، وأما الناس فكان منهم الراضي المستبشر وكان منهم من مزق الغيظ قلبه تمزيقا.
يأس
لم يكد يرفع قدح الشاي إلى فمه حتى رده إلى المائدة متعجلا حذرا، فقد أحس رعدة خفيفة تصعد في جسمه وتنتشر وتوشك أن تبلغ ذراعه، فتضطرب يده بهذا القدح الممتلئ الذي كانت ترفعه، ويحدث هذا الاضطراب - وإن خف - حدثا على هذه المائدة الأنيقة التي لا ينبغي أن يفسد جمالها قدح يميل إلى يمين أو إلى شمال ويتخفف من بعض ما يحتويه، ولم يسأل نفسه عن مصدر هذه الرعدة التي جعلت تسعى في جسمه كما يسعى النمل، فقد كان وقته أضيق من السؤال والجواب ومن البحث والاستقصاء، وقد كان هو عالما في دخيلة نفسه بمصدر هذه الرعدة، فلم يكن من الممكن أن تعرض له إلا إذا أقبلت عليه ربة الدار عامدة إليه كأنما تريد أن تختصه ببعض الحديث، ومن أجل هذا تعجل وضع القدح على المائدة، ورفع رأسه، وعدل قامته وتهيأ للنهوض.
وما هي إلا لحظة أو لحظتان حتى رآها تقبل مشرقة الوجه مبسوطة الأسارير قد رسمت على ثغرها الجميل ابتسامة حلوة غامضة، فلما تبين أنها عامدة إليه نهض، ولكنها أشارت إليه ألا يفعل، ثم قالت له في صوت خافت يوشك أن يكون همسا ولكن فيه شيئا من غضب: هل تعلم يا سيدي أن صمتك اليوم يسوءني؟ قال: وهل سرك قط منطقي يا سيدتي؟ قالت وقد اتسعت ابتسامتها: هذا حساب سنستوفيه إذا خلت لنا الجنة بعد حين. قال وهو يدافع غيظا يريد أن ينفجر: تريدين أن تقولي إذا خلا لنا الجحيم بعد حين. هنالك انصرفت عنه رفيقة رشيقة بعد أن ألقت إليه نظرة ذهبت بقلبه كل مذهب وسلكت بعقله كل سبيل، وقد ظل واجما في مكانه لحظات ثم أقبل على ما كان أمامه، فأكل قليلا وشرب كثيرا، وترك مجلسه بعد ذلك وجعل يتنقل في الحديقة بأحاديثه وتحياته وابتساماته فرحا مرحا منطلق اللسان خفيف الحركة حتى قال بعض الزائرين لبعض: لقد عرفت ربة الدار كيف ترد إليه الحياة، وتشجع فيه النشاط، وتنقله من جمود وخمود إلى نشاط يوشك أن يخلو من الوقار. أما هي فقد مضت في تحية الزائرين كأن لم يكن شيء، وجعلت توزع بينهم بالقسط حينا وبغير القسط أحيانا سحر اللحظ واللفظ، تقف إلى هذا فتطيل الوقوف، وتلقي إلى هذا كلمة سريعة عابرة، وإلى هذا نظرة كأنما تختلسها اختلاسا، وتشرف مع هذا كله أو رغم هذا كله على حركة الخدم الذين كانوا يسعون بألوان الطعام والشراب على الزائرين حتى كأنها لم تكن ذات نفس واحدة، وإنما كانت ذات نفوس كثيرة يعنى بعضها بالزائرين ويعنى بعضها الآخر بالخدم، يعنى بعضها بتوزيع الخبز ويعنى بعضها الآخر بتوزيع الدعاية، وعيون الزائرين على كثرتهم ترمقها في إعجاب وإكبار أحيانا، وترشقها في غيظ وحسد أحيانا أخرى، وربما تعلقت بعض العيون بوجهها المشرق الجميل، وربما تعلقت عيون أخرى بهذا الفن أو ذاك من فنون زينتها الرائعة البارعة، وربما اجترأت بعض العيون الوقحة فتزلقت على شخصها كلها من رأسها إلى قدميها تعرب بذلك عن عواطف فيها كثير من الكلف والفتون.
ولو خير الزائرون لاختاروا ولأطالوا المقام في هذه الحديقة الجميلة، وفي هذا الاجتماع الحلو، وحول هذه الغادة الفاتنة حتى يتقدم الليل، ولكن للحياة الاجتماعية أوضاعها وتقاليدها، وساعات الشاي محدودة يقاس طولها وقصرها بما للزائرين عند أصحاب الدار من مكانة. هؤلاء يلمون إلمامة قصيرة ثم ينصرفون، وهؤلاء يقيمون ساعة أو بعض ساعة ثم يمضون، وهؤلاء يمدون الإقامة حتى يخلو لهم وجه صاحبة الدار لحظات قصارا أو طوالا، والمقربون المقربون من الخاصة يتخلفون وينظرون إلى المنصرفين في شيء من الإشفاق والازدراء أو التعجل، حتى إذا انصرفت كثرة الزائرين أحاطوا بصاحبة الدار مهنئين لها مترفقين بها، متندرين بقوم كانوا يترضونهم ويتملقونهم منذ حين، وكان صاحبنا ذلك من أخص الخاصة وأقرب المقربين، وهو من أجل ذلك قد تخلف مع المتخلفين، فلم ينصرف حين انصرفت الكثرة، ولم ينصرف حين انصرفت القلة، وما كان له أن ينصرف وبينه وبين صاحبة الدار حساب سيستوفيانه إذا خلت لهما الجنة كما قالت، أو إذا خلا لهما الجحيم كما قال .
وفي الحق أن هذه الحديقة التي مدت فيها موائد الشاي كانت جنة وجحيما في وقت واحد، كانت جنة بهذه الأشجار الباسقة الملتفة المتكاثفة وبهذا الزهر الباسم عن ألوان مختلفة من الجمال، وبهذه البسط الخضر الرائعة التي كست أرضها ونشرت فيها رائحة ودعة ولذة للجسم والنفس جميعا، وبهذه النجوم التي كانت ترسل بين حين وحين أشعتها الضئيلة النحيلة كأنما تبحث بها عن شيء في أفناء هذه البسط أو في أحناء هذا الشجر، ثم بضوء القمر هذا الرفيق الذي نشر على شجرها وزهرها وعشبها أردية دقاقا تريد أن تصفو كل الصفاء، ولكن ظلمة الليل تشوبها بعض الشيء، فتشيع فيها ما يملأ النفس رضا يريد أن يصفو لولا هذا القلق اليسير الذي يتردد في جنباته بين حين وحين.
وكانت جحيما بالقياس إلى هذا الموله المفتون الذي يرى النعيم من حوله قريبا أشد القرب ولكنه بعيد أشد البعد؛ لأن في قلبه نارا تتأرجح وتتلظى وتمنعه من أن يبسط يده إلى شيء من هذا النعيم القريب. قد فتن بصاحبة الدار فتنة جامحة طغت على كل شيء كأنها السيل العنيف المندفع الذي لا يحفل بما يعترضه في طريقه من المصاعب والعقبات، فهذه الجنة الرائعة الشائقة تغريه بألوان من النعيم وتثير في نفسه ضروبا من الأماني وتخيل إليه أن كل ما يشتهي ميسر له، يكفي أن يريد ليبلغ ما يريد، ولكن هذه النار التي تتلظى في قلبه ترده عن هذا النعيم ردا، وتخيل إليه أنه لن يمس منه شيئا إلا أحرقه وجعله رمادا تذروه الرياح.
وكان يكفي أن يرى هذه الغادة الحسناء في هذه الروضة الفيحاء ليجن جنونه وليبلغ اليأس به أقصاه، فلم يكن يعرف شيئا أجمل ولا أروع ولا أشد ملاءمة لذوقه وطبعه وهواه من هذه الغادة حين تسعى في حديقتها الجميلة، ولم يكن يعرف شيئا أبعد منالا ولا أشد امتناعا من إرضاء ذوقه وطبعه وهواه، فقد كان حبه يائسا أو قل كان حبه هو اليأس نفسه، وكان هذا اليأس ثقيلا بغيضا؛ لأنه لم يستطع من جهة أن يريحه كما تعود اليأس أن يريح اليائسين، ولأنه لم يكن من جهة أخرى يعرف له أصلا ولا يتبين له مصدرا، فلم يكن منفردا بالحب من دون صاحبته، ولعل حظه من الكلف والهيام ألا يكون أقل من حظها منهما.
لم يكن يستطيع عن لقائها صبرا، ولم تكن تستطيع عن لقائه سلوا، وما أكثر ما امتحن هذا الحب فشغل نفسه عن صاحبته يومين أو أياما وأكره نفسه أحيانا على القطيعة، ولكنه كان ينعم دائما حين يستوثق من أنه لم يألم وحده لهذا الهجر، ولم يشق وحده بهذه القطيعة، وكان يسعد حين يتحقق أنه لم يكن وحده يلتمس الوسائل ويعمل الحيلة ويتكلف الممكن وغير الممكن ليصل ما انقطع من الود ويجدد ما رث من صلات الحب ويستأنف ما أهمل من اللقاء في كل يوم.
ولكن هذا اللقاء كان جدبا لا حظ له من خصب، كان أشبه بالصحراء المحرقة التي لا يجد الإنسان فيها روحا ولا أملا في الروح، وإنما هي الشمس المتوهجة والرملة المحترقة والعذاب الذي يأخذ الإنسان من كل مكان. كان هذا اللقاء شكاة متصلة تصدر عنه ورثاء متصلا يصدر عنها، ولكنه لم يكن يتجاوز الشكاة والرثاء، وإنما كان يقف عندهما كأنهما غاية الحب أن يألم العاشق ويرحم المعشوق، وربما كان أشد الأشياء تعذيبا لقلبه ومشقة على نفسه جهله بهذه المصادر الخفية التي تملأ حبه يأسا وقنوطا. كان يحب وكان محبوبا وكان مشوقا وكان مشوقا إليه. لم يكن يسعد وحده باللقاء حين يبتدئ، ولم يكن يشقى وحده باللقاء حين يتصل، ولم يكن يتعذب وحده بالفراق حين يأتي موعده، ولم يكن بينه وبين صاحبته من الفروق في الطبقة والمنزلة ما يحول بين هذا الحب الشقي وبين أن يستحيل إلى زواج سعيد، ولكنه لم يكن يذكر الزواج أو يشير إليه من بعيد حتى تثور الثائرة، وتفور الفائرة، وتعصف العواصف التي تفسد على الحبيبين من أمرهما كل شيء.
قالت له ذات يوم وقد شكا إليها حتى أملها وألح عليها حتى أبرمها واتهمها بالبغي عليه والتحكم فيه، وبأنها قد خدعته عن نفسه وأظهرت له من الحب ما أطمعه وأغراه، حتى إذا استوثقت من أنها قد ملكت عقله وسحرت لبه واستأثرت بقلبه واستيقنت أنه لن يجد عن حبها منصرفا ولا عن لقائها عزاء، تناءت عنه وتنكرت له وجعلت تنضجه على هذه النار الهادئة التي هي شر أنواع النار. قالت له ذات يوم وقد شق عليها بهذا كله: إنك لتعلم أني لا أضمر من حبك أقل مما تضمر من حبي، وأني لا أجد إلى السلو عنك سبيلا كما أنك لا تجد إلى السلو عني سبيلا، ولكن بينك وبيني فرقا عظيما وأمدا بعيدا من فهم الحب وتقديره؛ فحبي نقي ممعن في النقاء صاف مغرق في الصفاء يجد غايته في نفسه ولا يريد بعد هذه الغاية شيئا، فأنا أحبك وحسبي أني أحبك، وقد لا يوئسني أن أعرف أن في حبك لي ضعفا وفتورا وأنك تستطيع أن تلهو عني بما شئت من أسباب اللهو، وأما أنت فإن حبك لا يقنع بنفسه، وإنما يتجاوزها إلى أشياء لعل الاتصال بينها وبين الحب النقي البريء ليس من القوة بمقدار ما تظن، وإني لأمنحك خير ما عندي وأصفيك مودتي وأشغل بك عقلي وقلبي وضميري، وأرى أن هذه المنزلة هي أرفع منازل الحب وأرقاها وأدناها إلى الكمال، ولكنك لا تقنع مني بذلك، ولعلك لا تحفل بذلك بمقدار ما تحفل بما هو أقل منه خطرا وأهون منه شأنا وأسرع منه إلى الزوال والانحلال.
أصفيك حبا من شأنه البقاء والاتصال الذي يشبه الخلود، وتسألني حبا هينا رخيصا ينعم الإنسان به ساعة قصيرة ثم يشقى به ساعات طوالا، وإني لأكبر ما بيننا من الحب وأرتفع به عن هذه الصغائر التي تدنسه وتفسده، ولولا أن هذا شيء غير مألوف وأني أرفع نفسي عنه وأبرئها منه، لأبحت لكل واحد منا أن يلتمس متاعه ورضا جسمه حيث شاء، حتى إذا التقينا لم يكن بيننا إلا طهر لا تشوبه شائبة، ونقاء لا يعرض له الكدر بما تثير غرائز الجسم من هذه العواطف الآثمة الهوجاء. ولكنه سمع لها وفهم عنها، وأبى إلا أن يمضي في شكاته المتصلة وإلحاحه العنيف، وإلا أن يكرر ما كان يقوله دائما، وهو أن الحب واحد لا يتعدد، وكل لا يتجزأ، وهو لا يفرق بين رضا النفس والعقل والقلب وإرضاء العواطف الجامحة والأهواء الثائرة.
وكذلك كانت حياتهما ماضية على هذا النحو: إلحاح وامتناع، وشكاة ورثاء، ورضا وغضب، ورجاء وقنوط، حتى إذا كان المساء من ذلك اليوم أقبل على صاحبته فيمن أقبل لحفل دعت إليه فجأة ولغير علة واضحة ولا سبب معروف، وقد رأى نفسه في الحديقة ضيق الصدر مفرق النفس برما بما حوله من الأشياء وبمن حوله من الناس، ولو استطاع لعاد أدراجه ولرجع إلى صاحبته في أول الليل حين ينصرف عنها الزائرون، ولكنه لم يستطع، وقد علل بقاءه بأن الناس قد رأوا وعرفوا مكانه، وبأن انصرافه قد يثير الريبة ويغري به بعض الألسنة الطوال الحداد، وكان هذا التعليل حقا لا شك فيه ولا غبار عليه ولكنه لم يكن وحده هو الذي يفسر بقاءه، وإنما كانت هناك علة أخرى أو علل أخرى، فهو قد رأى صاحبته وكان يكفي أن يراها ليقيده منظرها في مكانه، ورأى الزائرين يقبلون عليها وكان يكفي أن يرى أحدا يدنو منها أو ينظر إليها لتضطرم في قلبه نار تجعل حياته جحيما كلها، ومن أجل ذلك أقام وأقام ساخطا برما عابس الوجه مغرقا في الصمت، حتى نبهته صاحبته إلى ما في هذا الصمت من إغراء للذين يلاحظون ثم لا يكتفون بالملاحظة وإنما يتندرون بما لاحظوا، وهي قد وعدته بأنهما سيستوفيان ما بينهما من حساب حين تخلو لهما الجنة بعد حين كما قالت أو حين يخلو لهما الجحيم بعد حين كما قال، وقد خلت لهما الحديقة آخر الأمر، ونظر صاحبنا، فإذا هو قائم من مصدر شقائه وسعادته غير بعيد كأنه الخادم ينتظر أن يصدر إليه مولاه أمرا.
وقد نظرت إليه فأطالت النظر ثم لم تملك أن تغرق في ضحك متصل طويل ملأه حفيظة وزاده اضطرابا إلى اضطراب، فلما كاد الضحك يسكت عنها، قالت له في صوت متقطع: وما يغيظك من هذا الضحك وإن مقامك هذا لمضحك حقا، ادن مني وخذ مجلسك الذي ألفته حين يخلص كل منا لصاحبه ولنبدأ في تمثيل القصة التي لا نمل تمثيلها، ولكني أريد في هذه الليلة ألا يطول التمثيل، فقد أتعبني هذا الاستقبال وأظنني في حاجة إلى شيء من راحة، وإن شئت فسأمنحك عشر دقائق تشكو فيها بثك وتفجر فيها غضبك ثم تغسل هذا الغضب بما تذرف من دموع، وسأمنح نفسي عشر دقائق أرد فيها على تجنيك وأزجر فيها غضبك الذي سيكون جامحا وقحا، وأمسح فيها دموعك التي ستكون غزارا، ثم أخصص عشر دقائق أخرى للتصافي بعد العتاب والتراضي بعد التغاضب والائتلاف بعد الاختلاف، فإذا بلغنا ذلك انتهى التمثيل وأسدل الستار، وانصرفت أنت إلى ما شئت أن تنفق فيه أول الليل من لقاء الأصدقاء أو الخلوة إلى الكتاب أو الخلوة إلى حبك هذا الذي يعذبك ويضنيك في غير طائل ولا غناء.
ولست أدري أأنفذ العاشقان برنامجهما كما رسمته الغادة الحسناء لم يتجاوز الخطة المرسومة بقصر أو طول، أم لم ينفذاه، وإنما أراهما حين تقدم الليل قد جلسا إلى مائدة الطعام يصيبان في دعة وهدوء مما يقدم إليهما من ألوان، وأراهما بعد ذلك يتصرفان في ألوان من الحديث الهادئ المطمئن كأنهما صديقان لم تكن بينهما ثورة ولا خصام، ثم أراهما وقد نهضا ليفترقا، وهي تبسم له ابتسامة فيها كثير من حزن، وهو يبسم لها ابتسامة فيها كثير من غيظ، حتى إذا بلغا باب الحجرة قالت له في صوت هادئ مكظوم: أما الليلة فإني قد أعددت لك مفاجأة لم تكن تقدر في يوم من الأيام أني سأعدها لك، وهم أن يسألها عن هذه المفاجأة، ولكنها لم تمهله وإنما وضعت يديها على كتفيه وأدنت جبهتها من فمه وهي تقول: سأمنحك الليلة قبلة، فإذا ظفرت بها فانصرف موفورا ولا تسألني غيرها.
ولست أدري أطالت هذه القبلة على الجبهة أم قصرت ولكني أعلم أن الفتى صدع بالأمر وانصرف موفورا سعيدا لم يسأل غيرها ولم يستجب للنوم أو لم يستجب له النوم حتى تجاوز الليل ثلثيه، ثم دخلت عليه خادمه مع الصبح تحمل إليه طعام الإفطار وتحمل إليه الصحف أيضا، ولكنها قدمت إليه غلافا لم يكد يأخذه حتى أحس من ورائه شيئا صلبا، ولم يكد ينظر فيه حتى عرف خط صاحبته، ولم يكد يفضه حتى وقعت في يده صورة، نظر فيها فأخذته رعدة عنيفة وسال على جسمه كله عرق بارد، وقد وقع في يده مع الصورة قرطاس صغير قد خطت عليه هذه الأسطر: لعلك عرفت صاحب هذه الصورة وتبينت ما بينك وبينه من شبه قريب، وفهمت مصدر اليأس الذي كتب على حبنا، وفهمت كذلك أن القبلة التي منحتك إياها كانت قبلة الوداع، فإن الحب والموت صديقان تفرق بينهما الحياة حينا ثم لا يلبثان أن يلتقيا ذات صباح أو ذات مساء، أما حبي وموتي فسيلتقيان قبل أن يسفر الصبح.
ربع مية
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقفت فيها أصيلا كي أسائلها
عيت جوابا وما بالربع من أحد
ولم يكن ربع مية بالعلياء فالسند، وإنما كان في صحن الأزهر، وعند القبلتين القديمة والجديدة، حيث كانت الحركة المتصلة في الليل والنهار، وحيث كان ذلك الدوي الغريب الذي لم يكن ينقطع إلا في أوقات الصلاة العامة، والذي كثيرا ما فكرت فيه وسألت نفسي عن هذه الأجزاء التي لا تحصى، والذرات التي لا تعد، والتي كانت تؤلف جوهره وتكون مزاجه، وتجعل منه وحدة لا يظهر فيها الاختلاف، ولا يحس فيها التباين، فإذا حللتها رأيت اختلافا لا حد له، وتباينا ليس له آخر؛ رأيت أصوات قوم يتحدثون في متاع الدنيا ولهوها، وأصوات قوم آخرين يتحدثون في جد الحياة وآلامها، وقوما يذكرون الله، وقوما يدرسون العلم، وقوما يتلون القرآن، وقوما يقرءون ما يخطر لهم وما لا يخطر لك على بال، وقوما يخوضون فيما تظن وفيما لا تظن من فنون الحديث، ومن هذه الأصوات كلها ينعقد صوت واحد قوي ضخم عميق عنيف متحد يملأ فضاء الأزهر منذ تدخله إلى حين تخرج منه، ويملأ فضاء الأزهر من أي باب ولجته، وإلى أي باب تجاوزته، ويملأ فضاء الأزهر في جميع أرجائه وأنحائه على كثرة ما فيها من الانحناء والالتواء والانعطاف.
نعم في هذا الربع الذي لم يكن يخلو في نهار ولا في ليل، ولم يكن يهدأ في شتاء ولا في صيف، ولم يكن يشعر بالحاجة إلى الحياة لأنه كان حياة كله، وكان حياة كأشد ما تكون الحياة قوة وحركة وإنتاجا، في هذا الربع وقفت كما وقف النابغة في ربع مية، ولكني لم أقف أصيلا، وإنما وقفت بعد صلاة العتمة ففهمت هذا النحو من شعر القدماء، أو قل أحسست هذا النحو من شعر القدماء، فما أكثر ما نفهم الشعر القديم والحديث دون أن نحسه كما يحسه قائلوه، ودون أن نتأثر به كما يتأثر به الشعراء.
وكان الأزهر كربع مية، خلا بعد عمران، وسكن بعد حركة، وأعيا عن جواب السؤال حين وجه إليه السؤال، وكان الأزهر كربع مية قد طال عليه الأمد وبعد به العهد، طال عليه الأمد أكثر مما طال على ربع مية، فما أظن أن ذلك الأمد الذي ذكره النابغة والذي طال على ربع مية كان طويلا مسرفا في الطول يكاد يبلغ ألف سنة كهذا الأمد الذي أذكره حين أتحدث عن الأزهر، والذي ذكرته حين تحدثت إلى الأزهر منذ أسبوعين، وكان الأمد بين الأزهر وبيني قد طال، فما أذكر أني دخلته منذ بضع عشرة سنة، وما أذكر أني طوفت فيه منذ أكثر من عشرين عاما، ولكني حملت في نفسي دائما للأزهر صورة حية قوية شديدة الحركة، عظيمة النشاط، رائعة الدوي، عسيرة التحليل، وكنت أسعى إلى الأزهر منذ أسبوعين، وإن قلبي ليخفق سعادة واغتباطا وحنينا إلى هذه الصورة التي صحبتني ربع قرن وطوفت معي في أقطار الأرض، واستقبلت معي ألوان الخطوب لم تضعف ولم تفتر ولم تتضاءل، والتي كنت أسعى بها إلى أصلها الأصيل في صحن الأزهر وعند القبلتين لتستمد قوة إلى قوتها وحياة إلى حياتها، فلما بلغت الربع - وليتني لم أبلغه - نظرت فإذا الصورة أقوى من الأصل، وإذا الأزهر الذي أحمله في قلبي أشد حركة وأعظم نشاطا وأقوى حياة من الأزهر القائم هناك في حي من أحياء القاهرة.
قال أصحابي وكلهم مثلي من أبناء الأزهر الذين بعد عهدهم به وطال فراقهم له: وما يمنعنا أن نختم رمضان بزيارة قصيرة للأزهر نحيي بها العهد القديم ونذكر بها أيام الشباب؟ قلت: وإني في ذلك لراغب، وإني إلى ذلك لمشوق. ومضينا إلى الأزهر ونحن نقدر أن سنجد فيه تلك الصورة التي ألفناها، وأن سنسمع فيه ذلك الدوي الذي عرفناه، وأن سنختلط به اختلاطا، ونمتزج به امتزاجا، ونقف فيه كما كنا نفعل أيام الشباب وقفات فيها الجد الخصب، وفيها هزل يشوبه الحب والعطف، نتنقل بين هذه الحلقات المنبثة في أرجائه نسمع لهذا الشيخ وهو يقرأ الحديث أو التفسير أو يقص قصص الوعاظ فيعجبنا صوته وإلقاؤه وفهمه وإفهامه فنعجب به ونبسم له، ونتجاوزه إلى ذلك الشيخ فيضحكنا صوته أو إلقاؤه أو لازمة من لوازمه أو بعض ما يدفع إليه من الخطأ في الفهم أو السخف في الإفهام فننصرف عنه ضاحكين متفكهين، حتى إذا قضينا من هذا كله أربا خرجنا وقد ذكرنا أنفسنا وسعدنا بلقاء تلك الأيام العذاب.
كنا نقدر هذا كله، فلما دخلنا الأزهر لم نر إلا وحشة ولم نحس إلا صمتا، لم نعرف شيئا ولا أحدا، ولم يعرفنا شيء ولا أحد، وإنما كنا أشبه شيء بالأشباح أو الأطياف تمضي في مكان خال موحش لا حياة فيه ولا عمران، وأشهد لقد لقينا خدم الأزهر باسمين لنا محتفين بنا، يسعون بين أيدينا ومن حولنا، كأنما نحن جماعة من السائحين الذين لا علم لهم بالأزهر ولا معرفة لهم بخفاياه، فهم يهدوننا ويدلوننا ويرفقون بنا في الحديث: ويحكم! فأنا أعلم منكم بالأزهر وأعرف بمعالمه، وإنا لم نأت لنلقى منكم هذا الرفق، وإنا لنفضل أن تلقونا بما كان يلقانا به أسلافكم من ذلك العنف الذي كانت تحبه نفوسنا وإن أظهرنا منه النفور. أين الجبلاوي وأعوان الجبلاوي؟ أين تلك العصي التي كانوا يهزونها فتسمع لها أصوات خفيفة ولكنها مخيفة؟ أين الغراب وأيام الغراب؟ أين رضوان وجنود رضوان؟ أين الجندي وأعوان الجندي؟ أين هؤلاء جميعا وما كان يحيط بهؤلاء جميعا من جلال كنا نزدريه وكنا نضيق به، وها نحن أولاء نذكره الآن فتذهب نفوسنا في أثره حسرات؟ ولست أدري من هذا الذي عرفنا فأسرع بأسمائنا إلى رجل كريم من أصحاب الفضيلة المفتشين، وإني لأطوف مع صاحبي في الأزهر يتحدث إلي وأتحدث إليه بهذا الصوت الهادئ الخافت الذي نصطنعه إذا خلا أحدنا إلى صاحبه، كأنما نحن في دار من الدور أو في بيعة من البيع التي يحسن فيها الهمس لا في الأزهر الذي لم يكن يحب إلا الجهر ورفع الصوت، وما راعنا إلا صاحب الفضيلة وقد أقبل علينا طلق الوجه باسم الثغر مبسوط الأسارير يحيينا تحية الرجل الكريم، ويدعونا إلى ضيافته ويلح علينا في أن نصعد معه إلى حيث يتلى القرآن ويشرب الشاي.
وكنا نود لو استطعنا أن نخلو إلى هذه العمد القائمة لنجدد عهدنا بها، ولنبثها ذكرى الأيام، ولنسألها عما ألم بها من الحوادث واختلف عليها من الخطوب منذ فارقناها، ونظفر منها بهذا الصمت الذي هو أفصح من الكلام وأبلغ منه أثرا في النفوس، ولكن الشيخ دعا فلم يكن بد من أن نستجيب، فمضينا مع الشيخ إلى حيث أراد، وصعدنا معه إلى غرفة من تلك الغرفات التي كنا نذكرها أيام الصبا فتمتلئ قلوبنا لذكرها مهابة وإجلالا ورهبة وإكبارا، في تلك الغرف كان يستقر شيخ الأزهر ومفتي الديار، وفي تلك الغرف كانت تدبر أمور الأزهر وتصرف شئون العلماء والطلاب، وحول تلك الغرف كانت تتطاير طائفة من الأحاديث والأساطير عن حياة الشيوخ وأقوالهم وأعمالهم، وكانت هذه الأحاديث تصل إلينا فنعجب بها ونبسم لها ونلتمس فيها العبرة والعظة والفكاهة، وكنا نتنقل بهذه الأحاديث إلى بلادنا في الريف فنقصها على آبائنا وإخواننا فيعجبون بها ويكبرون أصحابها ويتخذونها ذخرا لما يعقدون من مجالسهم إذا أشرق الصبح أو أقبل المساء.
صعدنا مع الشيخ إلى تلك الغرفات ونحن نسأله عن الأزهر ما خطبه، وعن هذا الصمت ما مصدره، والشيخ صامت كالأزهر لا يستطيع رجع الجواب، ثم انتهينا مع الشيخ إلى طائفة من أصحابه كرام مثله لقونا لقاء حسنا، وحيونا تحية حسنة، كما لقينا الشيخ وكما حيانا، ونسألهم عن الأزهر ما خطبه؟ وعن هذا الصمت ما مصدره؟ فإذا هم صامتون كالأزهر، وإذا هم صامتون كالشيخ، وإذا هم لا يستطيعون رجع الجواب.
ثم تدور علينا أكواب الشاي، ثم تتلى علينا آيات الله في صوت عذب ولهجة حلوة وقراءة صحيحة مستقيمة نقية تصل إلى أعماق القلوب، ولكن من القارئ؟ من أين جاء؟ ما شكله؟ وما زيه؟ إنه رجل مطربش قد اتخذ زيا غير زي الأزهر، لأنه ليس من أهل الأزهر وإنما هو من عمال العنابر. تبارك الله! رجل من غير الأزهريين يتلو القرآن بين الأزهريين! هذا خير، هذا خير كثير ولكنه غريب لم نكن نقدر أن نلقاه في أيامنا تلك، وكنا نحب أن نلقاه الآن والأزهر معمور يموج بالناس وترتفع فيه أصوات الشيوخ بقراءة القرآن، ولكن الأزهر ساكن صامت، وهذه الطائفة الكريمة من العلماء الواعظين قد استمعوا وأنصتوا لتلاوة القرآن الكريم تخرج من رأس عليه طربوش، هذا خير ما في ذلك شك، ولكن هذه الصورة ما زالت غريبة في أنفسنا، وما زال موقعها من قلوبنا شاذا قلقا، ومع ذلك فقد يقال إن الشيوخ محافظون، وإننا نحن من أصحاب التجديد.
ثم انصرفنا محزونين مستيئسين، جئنا نزور الأزهر فلم نر الأزهر، وإنما رأينا أطلاله ولم نستطع أن نطيل عندها الوقف. قلت لأصحابي: ولكن ما هذا الصمت وكيف انتهى الأزهر إليه؟ وأيكم كان يظن أن ذلك الصوت العظيم يقضى عليه في يوم من الأيام أو في ليلة من الليالي بهذا الخفوت المنكر المخيف؟ قال أصحابي: فإنك تنسى أن الأزهر قد كان جامعا فأصبح جامعة، وإنك تنسى أن الجامعة إن استيقظت في النهار فهي تنام في الليل، وإنك تنسى أن للجامعة نظاما يحد حظها من الحركة وحظها من النشاط، فاذكر هذا كله واذكر أنك تخطئ أشد الخطأ إن ظننت أن التجديد مقصور على الجامعة وأصحاب الجامعة، فالتجديد أقوى وأنشط وأوسع سلطانا مما تظن. انظر إليه كيف وصل إلى الأزهر فعلمه كيف يكون الكلام في النهار والصمت في الليل، وقد كان الأزهر متصل الكلام في الليل والنهار. قلت لأصحابي: يا بؤسى للتجديد إذا انتهى بالأزهر إلى هذه الحال! كم كنت أوثر أن يظل الأزهر جامعا وألا يمسخ جامعة!
من وحي الريف
مدت عينها إلى التمثال معجبة به، ثم ردت عينها عن التمثال منكرة له، ثم قالت وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة حائرة بين الرضا والسخط: إن وجهه لشديد العبوس!
قالت صاحبتها: ومع ذلك فقد رأيته حين تكشفت عنه الأرض، وقبل أن يحط عنه ما لصق به من الطين، فوقع في نفسي منه أثر الرضا وابتسام الثغر وإشراق الوجه، وكنت أقدر أنه سيزداد رضا وابتساما وإشراقا حين يقوم مقامه هذا في وسط هذا الفناء، وقد أزيلت عنه آثار الرقاد الطويل في هذا التراب الرطب القذر، وقد غرست من حوله شجرات الزيتون هذه التي كان يكبرها ويعظمها حتى نقش اسمها عليه في هذه التقدمة التي يتقرب بها إلى آلهته، وإني لأراه الآن كما ترينه: مظلما عابسا كأنه مغضب مغيظ.
قال أستاذ من أهل العلم بالآثار: نعم، هذا هو الأثر الذي تركه في نفسي حين نظرت إليه منذ اليوم، ولقد اتخذت له صورا فتوغرافية حين تكشفت عنه الأرض، ويخيل إلي أن صورته أدنى إلى الرضا والابتسام مما نراه الآن.
قال قائل من أهل المجلس لا يكره العبث بالعلماء: من يدري؟ لعله كان راضيا مستريحا إلى نومه المتصل في أعماق الأرض، فلما أزلتم عنه الحجب، وهتكتم عنه الأستار، وأبيتم إلا أن توقظوه في عنف، وأن تقيموه حيث لم يكن يحب أن يقوم، ضاق بكم وسخط عليكم، فاربد وجهه بعد إشراق، وهذا أيسر ما استطاع أن يقدم إليكم من أدلة السخط والاشمئزاز. وتضاحك الجالسون، وانتقلوا إلى غير هذا من الحديث، ونسوا هذا التمثال الذي كان بعضهم مع ذلك يرمقه بين حين وحين، وكان هذا التمثال قد استكشف منذ أيام، أو قل قد انتهت إليه فئوس بعض الفلاحين الذين كانوا يحتفرون بئرا، وكان هؤلاء الفلاحون أمناء، فأسرعوا إلى الشرطة فأنبئوها، وأسرعت الشرطة إلى رجال الآثار فدعتهم، فلما جاءوا نظروا وبحثوا وقرءوا، ثم قالوا: هذا تمثال من تماثيل فرعون العظيم، ذلك الذي كثرت تماثيله وتفرقت في أقطار الأرض، والذي عظم ذكره في تاريخ مصر، وحسن بلاؤه في تشييد مجدها وبسط سلطانها، وهو رمسيس الثاني، وكنت في ذلك الوقت أقيم في الريف، قريبا من المكان الذي استكشف فيه هذا التمثال، وكنت أقيم في دار من دور مصلحة الآثار هناك، وقد رأت مصلحة الآثار أن مكان التمثال أولى به، وأن نقله إلى المتحف في هذه الأيام ليس ميسورا ولا مفيدا، فأقامته في فناء تلك الدار، وجعل الذين سمعوا عنه يسعون إليه ليزوروه، منهم من يدفعه إلى ذلك حب الفن، ومنهم من يدفعه إلى ذلك حب الاستطلاع، ومنهم من يدفعه إلى ذلك شيء أقوى من الفن والاستطلاع، وهو الحنان إلى تاريخنا القديم.
ومع أن القوم الذين رويت حديثهم آنفا لم يكونوا في هذا الحديث إلا عابثين، فقد استقر في نفسي لأمر ما أن هذا العبث يمكن أن يكون جدا، وأن هذا اللغو يمكن أن يكون حقا، وأن من الجائز أن يكون تمثال الملك قد ظل مشرقا باسما هذه القرون الطوال، فلما أخرج من ظلمة الأرض إلى ضوء الشمس استحال إشراقه إلى ظلمة، وابتسامه إلى عبوس.
ولكني لم أعلل هذا التحول بما علله به ذلك العابث بعلماء الآثار من أن تمثال الملك كان مستريحا إلى نومه المتصل في أعماق الأرض، فأصبح ضيقا بقيامه المتصل في ضوء الشمس، وإنما عللته بشيء آخر رأيته أدنى إلى الحق وأقرب إلى الصواب، وتستطيع أن تبذل من جهد علمي وفلسفي ومن براعة في المنطق ومهارة في الإقناع، وتستطيع أن تسوق إلي ما شئت وما لم تشأ من الحجج والبراهين، لتقنعني بأني لست أقل عبثا ولا مزاحا ولا استرسالا مع الخيال من ذلك الصديق العابث بعلماء الآثار، ولكنك لن تبلغ مما تريد شيئا، ولن تحولني عما استقر في نفسي من الرأي.
فأنا لا أشك في أن القوم قد صدقوني حين أنبئوني بأن تمثال الملك كان باسما فأصبح عابسا، وبأن وجه الملك كان راضيا فأصبح ساخطا متجهما، ثم أنا أشك في أن مصدر هذا التحول إنما هو ما أوحى به الريف المصري إلى تمثال الملك المصري العظيم، ومن وحي الطبيعة ما يرضي ويملأ النفوس سرورا وابتهاجا، ومن وحي الطبيعة ما يسخط ويملأ القلوب سخطا واكتئابا، ومن وحي الطبيعة ما يمنح النفس جناحين تسابق بهما الخيال في أجواز الكون، وفي هذا الشيء الذي يفتن به الفلاسفة والشعراء ويسمونه اللانهاية، ومن وحي الطبيعة ما يثقل النفس ويبهظها ويضطرها إلى السكون بعد الحركة، وإلى الجمود والهمود بعد المرح والنشاط، ويلصقها بمكان من العالم لا تعدوه، ويحد من حولها الآفاق، ويضطرها إلى أن تنظر إلى أسفل بعد أن كانت تنظر إلى أعلى، وإلى أن تفكر في آلام الأرض وآثامها بعد أن كانت تفكر فيما تزدان به السماء، مما يبعث الفرح والابتهاج، ومما يثير الأمل والرجاء.
وقد جلس صديقي أحمد أمين ذات يوم أو ذات ليلة لا أذكر في طرف ما يسميه اللسان من رأس البر، ونظر إلى البحر وأمواجه، ثم أخذ طرفه يمتد قليلا قليلا، وإذا هو يهيم في هذه الطبيعة التي لا تنتهي هياما فلسفيا جميلا رائعا، وإذا هيامه هذا يوحي إليه بذلك المقال القيم الذي نشرته «الثقافة» منذ حين.
فقد استمتع الصديق بجمال البحر وبجمال السماء وبجمال الأرض بين البحر والسماء، وأوحى إليه هذا كله فلسفة وحكمة، وأوحى إليه أدبا وفنا، وأوحى إليه أملا ورجاء. وكان تمثال الملك رمسيس الثاني قد بعد عهده بالحياة والأحياء منذ قرون طوال، لسنا ندري فيم كان يفكر وماذا كان يستوحي حين ألمت به تلك الملمة التي هدمت المعبد من حوله، وزلزلت الأرض من تحته، واضطرته إلى أن يضطجع وكان قائما، وأصابت جسمه ببعض الرضوض، ولكن من المرجح أن هذا الاضطراب العنيف قد أصابه بشيء من إغماء، ثم أخذت الأحداث تحدث، والخطوب يتبع بعضها بعضا، والتمثال ملقى في مكانه لم ينجده أحد، ولم يحاول أحد إنهاضه، وإنما ترك وشأنه، وتركت الأرض تراكم عليه ترابها شيئا فشيئا، حتى التهمته فيما تلتهم، وغيبته فيما تغيب، واستقرت من فوقه كأنه ليس تحتها، واستقر الناس من فوقها كأنما ليس تحتها شيء، فجعلوا يبنون ويهدمون، وجعلوا يزرعون ويحصدون، وجعلوا يعيشون ويموتون، وجعلوا يتصرفون في الحياة وتتصرف فيهم الحياة، كأن شيئا لم يكن في مكانهم هذا منذ قرون طوال، وذات يوم من هذا الصيف قل الماء، وبخل به المهندسون على الفلاحين، فأشرف الزرع على التلف، واشتد الضيق على أصحاب الزرع، وجعل اليأس يسعى إلى نفوسهم، وأخذت الدنيا تظلم في وجوههم، فنار الحرب مشبوبة قريبا من مصر أو بعيدا عنها، ولكن المصريين يصلونها من قرب أو من بعد، فالحياة تشتد، والأسعار ترتفع، وموارد الدولة تقل، ومطالبة الدولة بضرائبها تلح، والفلاح مضطر إلى أن يدفع الضريبة أولا، وإلى أن يطعم ماشيته ثانيا، وإلى أن يطعم زوجه وبنيه ثالثا، وإلى أن يعيش هو آخر الأمر، وكيف السبيل إلى ذلك إذا قل الماء وبخل به المهندسون لأنه قليل، أو لأن هناك أرضا ربما كانت أحق به وأولى من أرض هؤلاء الفلاحين البائسين، أو لأن هناك أرضا قد يكون إرسال الماء إليها وتوفيره عليها خليقا أن يرقى بالمهندس من درجة إلى درجة وأن يبلغه بعض ما يشتهيه من رضا فلان أو فلان؟! كيف السبيل إلى أداء الضريبة، وحماية الماشية من أن تنفق، وحماية الأهل من أن يجوعوا، وإقامة الأود، لتزرع الأرض، ويحصد الزرع، ويباع الحصاد، وتأخذ الدولة ما يرضيها، ويعود الفلاح بما يبقى له بعد ذلك على ما حوله ومن حوله بشيء من حياة؟
في هذا كله كان الفلاحون يتحدثون مصبحين وممسين، وبهذا كله كان الفلاحون يشقون مصبحين وممسين أيضا، ويخطر لبعضهم أن يحتفر بئرا لعله يظفر بشيء من هذا الماء الذي يجري به النيل العظيم، ولكنه لا يصل إلى هذه الأرض القريبة من النيل إلا في قلة وشح شديد، ويقوم بعض هؤلاء الفلاحين على مكان من الأرض يحتفرون فيه أبؤرهم هذه، وإنهم لفي ذلك تعمل فئوسهم، وتتعب أجسامهم، وتتسلى قلوبهم الحزينة بهذا التعب عما يشقون به من ألم ويأس، وإذا تمثال الملك يظهر لهم مضطجعا هادئا مبتسما مشرقا، وكأنه قد سمع غناءهم الحزين وشكاتهم المرة وحديثهم البائس، فلم يكد يتبين من هذا كله شيئا، ولكن نفسه - إن كان للتمثال نفس - قد اتجهت إلى أن تفهم عن هؤلاء القوم ما كانوا يقولون، وإلى أن تتذوق من هؤلاء القوم ما كانوا يتغنون به من غناء فيه العزاء حينا وفيه الشكوى حينا آخر، وفيه توطين النفس على اليأس والقنوط في كثير من الأحيان.
وقد صرف الناس عن بئرهم حين رأوا تمثال الملك، وشغلوا عن نفوسهم وأحزانها، وشغلوا عن الأرض وما تحمل من زرع، وانصرفوا إلى هذا التمثال يعجبون به، ويطيلون النظر فيه، ثم يحبونه ويكبرونه ويستنقذونه من هذا الطين الذي أخذه من جميع أقطاره، ويقيمونه وينقلونه إلى حيث أرادت مصلحة الآثار أن يستقر، وتتبعه جموعهم رجالا ونساء وأطفالا، حافين به يتغنون ويتصايحون، حتى إذا بلغ التمثال مكانه الذي هيئ له نظروا إليه نظرات طوالا ثم تفرقوا عنه ومضوا إلى أعمالهم. وقام التمثال في مكانه الجديد وقد أحس ما أحس، وسمع ما سمع، ورأى ما رأى، فلم يحس إلا شرا، ولم يسمع إلا شكاة، ولم ير إلا بؤسا، وإذا هو يفكر في هذا كله، وأكبر الظن أنه ذكر مصر وأهل هذه الأرض كما كان يعرفهم حين كان قائما في معبده قبل أن تزلزل به الأرض زلزالها، وأكبر الظن أنه وازن بين حال الناس في تلك الأيام البعيدة وبين حال الناس في هذه الأيام القريبة، وأكبر الظن أن نتيجة الموازنة لم تسره ولم تبعث في نفسه الرضا، وإنما ساءته وملأت قلبه حزنا وسخطا، وقد كان الناس في تلك الأيام البعيدة أشقياء بائسين، وهم الآن في هذه الأيام القريبة أشقياء بائسون، وإذن ففيم تمضي الأيام؟ وفيم تتابع القرون؟ وفيم ترقى الحضارة؟ وفيم يتكشف العلم عن المعجزات؟ وفيم تتطور النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟ ما خطب هذا كله، وما نفع هذا كله، إذا كان الناس مضطرين إلى أن يحتفظوا ببؤسهم وشقائهم قرونا وقرونا وقرونا؟
في هذا كله فكر تمثال الملك، وبهذا كله ابتأس تمثال الملك، ولهذا كله أظلم وجه التمثال بعد إشراق، وعبس بعد ابتسام.
وأكبر الظن أن الأمر لم يقف بتمثال الملك عند هذا الحد، ولن يقف به عند هذا الحد؛ فإن نفوس التماثيل - وتماثيل الملوك خاصة، وتماثيل الفراعنة بنوع أخص - أذكى من نفوس عامة الناس وخاصتهم، وأنفذ إلى حقائق الأشياء، ووسائلها إلى العلم بحقائق الأشياء كثيرة جدا متنوعة جدا، فهي تفهم عن الناس إذا تكلموا مهما تختلف لغاتهم، وهي تفهم عن الطير إذا تغنت، وهي تفهم عن حفيف الورق وهفيف الغصون، وهي تفهم عن النسيم حين يضطرب في الجو، وهي تفهم عن هذا العشب الملقى بين أيديها حين يناجي بعضه بعضا في أصوات لا تسمعها آذان الناس، ولكن تسمعها آذان التماثيل، ثم هي تفهم عن الصراصير حين تصوت، وعن الضفادع حين تنق، وعن الخفراء حين يجتمعون ليسمروا إذا تقدم الليل.
وقد فهم التمثال أشياء كثيرة من وسائله تلك، وقد أحس التمثال أن بؤس الناس وشقاءهم، أو بؤس هذه الطبقة من الناس وشقاءها لم يزالا كما كانا، لم يتغير منهما شيء، شقاء في الليل بالتفكير والعناء والحزن، وشقاء في النهار بالجد والكد والعمل المرهق المضني، والأرض مع هذا كله تنبت الزرع وتؤتي الثمرات، وتغل المال الكثير الذي يستطيع أن يسع الناس جميعا، وأن يطعمهم من جوع ويرويهم من ظمأ ويعصمهم من العاديات، فأين يذهب هذا المال؟ وفيم ينفق؟ وما بال الناس لا يزالون أشقياء بائسين؟
سمع التمثال جواب هذه الأسئلة من الخفراء حين اجتمعوا يسمرون بعد أن تقدم الليل، وحين تحدثوا عن بؤس هذه الأسرة التي باعت آخر ما كان عندها من متاع، وعن ثروة هذه الأسرة التي اشترت أرضا إلى أرض وسيارة إلى سيارات، وعن أمر هذا الفتى الذي سيق إلى المحاكمة في دجاجة سرقها، وعن أمر ذلك الفتى الذي اعترف بأنه سرق من بعض ذوي قرباه مقدارا من المال ودفنه في حقل من الحقول، وعن أرض هؤلاء الفلاحين التي يميتها العطش، وأرض أولئك الباشوات التي يكاد يفسدها الإسراف في الري، وعن أشياء أخرى كثيرة، منها ما يمكن أن يقال، ومنها ما يحسن ألا يقال.
وعيون التماثيل ترى ما لا تراه عيون الأحياء من الناس، وهي ترى على بعد الآماد واشتداد الظلمة، وقد رأى تمثال الملك ما زاده ثقة بأن البؤس والشقاء ما زالا في هذه الأيام القريبة كما كانا في تلك الأيام البعيدة، رأى أجساما قد تشققت عنها الثياب فبرزت لحر الشمس يلفحها ويحرقها تحريقا، ورأى أقداما قد تشققت حتى أفسدها التشقق، وبغضها إلى النعال والأحذية التي لا تحب إلا الأقدام المترفة الناعمة، ورأى رجالا ونساء يقبلون على ما يلقي أغنياء الناس وأوساطهم من فتات موائدهم، فيلتقطون ما يصلح أمرهم ويقيم أودهم، بعضهم يفعل ذلك مستخفيا، وبعضهم يفعل ذلك جاهرا به لا يستخفي ولا يحتاط، ورأى مصريين قد أنبتتهم كلهم أرض مصر، وأحياهم كلهم نيل مصر، وأظلتهم كلهم سماء مصر، ولكن بعضهم يسير سيرة السادة، وبعضهم يسير سيرة العبيد، بعضهم يستعلي ويستكبر، وبعضهم يتضاءل ويستكين، وكلهم - فيما يقال - أمام القانون سواء، فقد تطور النظام الاجتماعي والسياسي، وأصبح المصريون في هذه الأيام ينعمون بالحياة الديمقراطية وما تشيع في الناس من العدل. تطور النظام الاجتماعي والسياسي فيما يقال، وفيما يكتب في الصحف، وفيما يعلم للتلاميذ في المدارس، ولكن الناس ما زال منهم الشقي البائس والسعيد الناعم، وما زال منهم المتكبر المستعلي، والمتضائل المستكين.
تطور النظام، وبقيت الأشياء كما كانت منذ قرون وقرون وقرون. بهذا كله، وبأكثر من هذا كله أوحى الريف المصري، في ناحية من نواحي مصر، إلى تمثال الملك رمسيس الثاني؛ فأظلم وجهه بعد إشراق، كما أوحى البحر بأشياء أخرى إلى الأستاذ أحمد أمين، فأشرقت نفسه بعد إظلام.
أما أنا فإني أتمنى لتمثال الملك أن يوحي إليه الريف المصري يوما ما يرد وجهه إلى الإشراق والابتسام، وأتمنى لصديقي أحمد أمين أن يوحي إليه البحر والبر والسماء والأرض ما يسره ويرضيه، ويلهمه فصولا رائقة شائقة، كهذا الفصل الذي قرأته منذ أيام.
أتمنى لهما هذا، وأعود إلى ما كنت فيه من قراءة أخبار الخوارج في كتاب الكامل للمبرد، فإني أجد في أخبار الخوارج راحة للقلب ومتاعا للذوق.
1945
رحلة
كانت قصيرة جدا، ولو استطعت لأطلتها جدا، ولكن ماذا أصنع والواجبات المعقولة وغير المعقولة تكرهني على الرجوع إلى مدينة القاهرة؟ هذه التي أحبها أشد الحب حتى كأن الله لم يخلق مدينة غيرها خليقة بالحب، وأضيق بها أحيانا أشد الضيق، حتى كأن الله لم يخلق مدينة أثقل منها على النفس، وأدعى منها إلى الفرار.
كانت رحلتي قصيرة جدا، بدأت يوم الخميس، وانتهت يوم الثلاثاء، وكان أظهر منافعها أني فررت فيها من أيام العيد، فخلوت فيها لا إلى نفسي، ولكن إلى أهلي وأصدقائي، وقلما أخلو إلى أهلي وأصدقائي في القاهرة، بل قلما ألقاهم إلا على مائدة الغداء أو العشاء، بل قلما ألقاهم على هذه المائدة، وما أكثر ما أخلو إلى الغداء أو العشاء، فآخذ حظي من الطعام كارها له، متبرما به، متعجلا الانصراف عنه؛ لأن الطعام لا يحب الوحدة، ولا يألف الانفراد.
خلوت إذن في هذه الرحلة القصيرة إلى أهلي وبعض أصدقائي، واستمتعت بهذه اللذة الدقيقة الرقيقة الحلوة، التي تحول الواجبات المعقولة وغير المعقولة بيننا وبين الاستمتاع بها أيام العمل في مدينة القاهرة، فنتحرق شوقا إليها وطمعا فيها، حتى إذا ظفرنا بها كان إحساسنا لها قويا عميقا، وكان انصرافنا عنها لاذعا أليما، وكان إقبالنا على العمل بعدها فاترا مثيرا للغيظ أول الأمر، ثم قويا منتجا بعد قليل من المران.
وما عن هذه اللذة الخاصة التي أصبتها في هذه الرحلة من الخلوة إلى الأهل والأصدقاء أريد أن أتحدث في هذا المقال، فإن هذه قصة أخرى كما يقول كيبلنج، والحديث عنها يحتاج إلى شيء من الراحة وفراغ البال، لا سبيل إليه في القاهرة، بل لا سبيل إليه في مصر، وإنما السبيل إليه في قرية من قرى السڤوا أو الدوفينيه أو الكانتال، على قمة جبل من هذه الجبال التي ألفت الاعتصام بها إذا أقبل الصيف، والتي فارقتها في الصيف الماضي، وإن نفسي لتتفرق ألما، وإن قلبي ليتقطع حسرات، لأني لا أعرف هل أعود إليها، ومتى أعود إليها.
إنما أريد أن أتحدث في هذا المقال عن أشياء لا تحتاج إلى فراغ بال، ولا إلى تفكير طويل، لأنها أيسر من ذلك وأقرب منالا، وما أدري أأفرغ من هذه الأشياء في هذا الحديث، أم أضطر إلى الحديث إليها في حديث آخر، ولكني أبدأ وأجري على الله.
وأول هذه الأشياء التي أريد أن أتحدث عنها مدرسة فكرت فيها أثناء الذهاب وأثناء الإياب، وكان تفكيري فيها حلوا مرا، حلوا لأنه اضطرني إلى التفكير في صديقي أحمد أمين، فلا سبيل إلى إنشاء المدارس أو التفكير في إنشائها دون التفكير في صديقي أحمد أمين، وأكبر الظن أنه فكر في هذه المدرسة كما كنت أفكر فيها، فقد ارتحل أثناء العيد كما ارتحلت، واتخذ السيارة كما اتخذتها أداة للسفر ووسيلة إلى الانتقال، ومرا لأني لم أشعر قط بالحاجة إلى مدرسة كما شعرت بالحاجة إلى هذه المدرسة، وهي مدرسة الغضب، الغضب الناطق الذي لا يعرف الصمت ولا يرضاه، والغضب المر الذي لا يحب الأناة ولا يصبر على الانتظار، ولا يحتمل تخير الألفاظ والتأنق في العبارات، الغضب اللاذع الذي لا يحتاط ولا يتحفظ في استعمال الألفاظ القاسية الخشنة، الغضب الذي ينبغي أن يشفق منه السلطان وأن يحسب له حسابا أي حساب، الغضب الذي يقلق النواب والشيوخ أثناء النهار، ويؤرقهم أثناء الليل، ويمنع الوزراء من الراحة والدعة، ويضطرهم جميعا إلى أن يعملوا ما يستطيعون وما لا يستطيعون ليمنعوه من الظهور ومن الانفجار.
مدرسة الغضب هذه التي فكرت فيها يوم الخميس ويوم الثلاثاء أثناء سفري إلى تونة الجبل، وأثناء عودتي منها، هي التي تعلم المصريين كيف يطالبون نوابهم وشيوخهم ووزراءهم مطالبة شديدة ملحة بالتفكير في المصالح العامة التي تمس أفراد الشعب جميعا، وبإنفاق أموال الدولة في تحقيق هذه المصالح، وبإنفاق جهود الدولة في تحقيق هذه المصالح، قبل التفكير في أي شيء آخر، وقبل العناية بأي شيء آخر. إن الفرق عظيم جدا بين السفر في القطار والسفر في السيارة، فأما في أوروبا فالناس يؤثرون السفر في السيارة، لا لأنه أسرع وأحرى أن يوفر على المسافرين ألوانا من الراحة والعزلة والفراغ لأنفسهم، والوقوف متى شاءوا هم، والسفر متى شاءوا هم، لا متى شاء نظام القطار فحسب، ولكنهم يؤثرون السفر في السيارة لهذا كله، ولأنهم يجدون فيه ألوانا أخرى من المتاع لا يجدونها حين يسافرون في القطار، أما في مصر فإن اتخاذ السيارة أداة للسفر لا يوفر على المسافر لذة، وإنما يثير في نفسه ألما أي ألم، ولا يكفل له راحة، وإنما يعرضه لتعب أي تعب، أستغفر الله، بل لخطر أي خطر، أستغفر الله، بل لغضب أي غضب، وضيق أي ضيق.
إن المسافر في القطار يتخذ مكانه مطمئنا ويلقي نظره بين حين وحين على المدن والقرى والمشاهد التي يمر بها أو تمر به، فيرى ما يحب ويرى ما يكره، ولكنه لا يزيد على أن يرى ما يحب وما يكره، فأما المسافر في السيارة فإنه لا يرى فحسب، ولكنه يرى ويشقى بما يرى وينغمس فيما يرى. ماذا أقول؟ بل هو يمتزج بما يرى ولا يجد من هذا الامتزاج إلا شرا ونكرا. تمضي به السيارة في طرق منها الممهد ومنها غير الممهد، والله يعلم أن الممهد منها لشديد الحاجة إلى أن يستأنف تمهيده من جديد، فأما غير الممهد فصوره كما أحببت أو كما استطعت فلن تبلغ من تصويره شيئا، وأيسر ما يمكن أن تقوله في هذا السفر الذي تتخذ السيارة أداة له أنه بديع جدا، يعلمك كيف تذوق التراب وكيف تجد طعمه، أستغفر الله، بل كيف تجد طعومه المختلفة: طعمه حين يمر بالفم، وطعمه حين يمر بالأنف، وطعمه حين يمر بالأذن، وطعمه حين يمر بالعين، وطعمه حين يلتصق بأي جزء من أجزاء الجسم، وحين يخترق إلى أجزاء الجسم ما تحمل من ثياب مهما تكن كثيفة محكمة، ومهما تبذل من الاحتياط في اصطناعها والاتقاء بها فلن تبلغ من ذلك شيئا، إنما أنت في جو من تراب يأخذك من جميع أقطارك فيفسد عليك كل شيء، ويبغض إليك كل شيء، ويملأ قلبك ورأسك، ويطلق لسانك بهذا السؤال أو بهذه الأسئلة: لماذا ندفع الضرائب؟ وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نبذل لها كل ما تحتاج إليه من الطاعة والخضوع للنظام؟
والسفر في السيارة لا يخوض بك هذا البحر من التراب فحسب ولا يذيقك طعم التراب حيا قبل أن تذوقه بعد عمر طويل إن شاء الله فحسب، ولكنه يعلمك شيئا آخر فيه خير وفيه شر، وربما كان شره أكثر من خيره: يعلمك كيف تحمل الخطر وكيف تتعرض للخطر، يعلمك كيف ترافق الموت على أن تكون له موردا ومصدرا في وقت واحد؛ فسيارتك مصدر خطر متصل على الأحياء من الناس ومن الحيوان على اختلاف أنواعه، حين تمر بالقرى المكتظة بالناس والماشية والدواجن، وحين تمر بالطرق الضيقة المكتظة بهؤلاء جميعا، وسيارتك عرضة للخطر الذي يحمل الموت، ويمثله لك أصدق تمثيل، ويخيله لك أروع تخييل، حين تمر في هذه الطرق المتضايقة المتضائلة التي يكتنفها الموت من يمين ومن شمال، وأنت حين تسافر في السيارة حامل للموت وقابل له كما قلت آنفا، وليس الغريب أن تكثر حوادث الموت التي تلقى المسافرين في السيارات والمتعرضين للسيارات المسافرة، وإنما الغريب كل الغرابة أن تكون هذه الحوادث قليلة نادرة كما هي الآن، وإذا دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الله يرعى مصر والمصريين، ويرد عنهم الخطر ويذود عنهم المكروه، كما يدل على أن المصريين وإن لم يتعلموا، وإن لم يتثقفوا، قد أتيح لهم حظ من المهارة والبراعة وحسن الاحتياط، وليس هذا كل ما يعلمك السفر في السيارات، وإنما هو أيسره وأظهره، ولكن انظر إلى هذه القرى التي تمر بها، وإلى ما يسيطر عليها من الفقر والبؤس والقذارة وفساد الأمر كله، فستسأل نفسك كما سألت نفسي: لماذا ندفع الضرائب؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نمنحها ما ينبغي أن نمنحها من الطاعة والإذعان للنظام؟ ولن تكتفي بإلقاء هذه الأسئلة على نفسك، ولكنك ستتحرج من أن تذوق في بعض الطريق ما تحمل من طعام؛ لأنك ستستحي أن تفرغ لطعامك ولذتك ومن حولك هذا البؤس المنكر والفقر المدقع والبلاء العظيم، ومن حولك قوم يمرون بك فينظرون إليك، منهم من يبغضك ومنهم من يحسدك، ومنهم من يتمنى لو انتقل ما في يدك إلى يده، واتخذ طريقه إلى فمه لا إلى فمك، وأكثرهم يمنعه الحياء من أن يزيد على النظر والأماني والإذعان للقضاء، وقليل منهم يدفعه البؤس إلى أن يسألك فضلا مما أنعم الله به عليك أو ينتظر انصرافك عن طعامك ليحتاز بقيته راضيا فرحا.
وهذا كله في أيام العيد التي يوسع الناس فيها على أنفسهم ويوسع فيها بعضهم على بعض، فكيف بالأيام التي لا عيد فيها ولا توسعة، وإنما هو العمل المتصل والضيق المستحكم، منذ تطلع الشمس إلى أن تغرب، ومنذ يظلم الليل إلى أن ينجلي؟
والحمد لله على أن هذه الخواطر المؤذية المؤلمة التي تعترضك أثناء السفر فتنغص عليك لذته وتفسد في نفسك بهجته، ليست كل شيء، ولكن هناك ما يصرفك عنها أو يصرفها عنك، وينقلك إلى طور آخر فيه الراحة والرضا، وفيه الجذل والأمل، وفيه البهجة والنعيم. هناك استقبال مضيفيك حين تنتهي الرحلة بهذا البشر الباسم، وهذه البشاشة الطلقة، وهذا الود الذي يحط عنك الثقل ويرفه عليك من الجهد، ويرد نفسك إلى الأمن وقلبك إلى الطمأنينة، وينسيك ما احتملت من مشقة، وما تعرضت له من خطر، وما رضت نفسك عليه من عناء، وهناك الأحاديث التي تطوف بك في أرجاء الحياة الحاضرة ضاحكة مرة، حزينة مرة أخرى، متأسية مرة ثالثة، والتي تنقلك إلى الحياة الماضية معتبرة متعظة، معجبة مكبرة، راثية محزونة، بين حين وحين، والتي قد تتجاوز بك الماضي والحاضر وما يدعوان إليه من رضا وسخط ، ومن إعجاب وغضب، إلى حياة مستقبلة مجهولة، ولكنها على ذلك ترسم في الآفاق ابتسامات حلوة تثير الأمل وتبعث الرجاء.
ثم هناك هذا المكان الذي قصدت إليه من الصحراء العريضة البعيدة الآفاق، التي ملأها الهدوء حتى اكتظت به، وحتى عجزت أو كادت تعجز عن أن تشتمل شيئا آخر غيره؛ لأنها لا تستطيع أن تشتمل إلا هدوءا ينبو عنه ما يكون فيها من حركة الناس وأصواتهم واضطرابهم فيما يعرضون له من الأعمال، هدوء في الجو إلا حين تعصف العاصفة، وتتناوح الرياح، ويثور رمل الكثبان، وهدوء في هذا الرمل الساكن المستقر الذي يداعب النسيم سطحه، فلا يبلغ منه شيئا، ولا يثير منه شيئا، وإنما يمسه مسا رفيقا رقيقا، كما تجري يدك في خفة ورفق ورقة على خد صبيك الحبيب إليك، وهدوء في أعماق هذا الرمل قد مضت عليه القرون، وتصرمت من دونه الحقب، قد نسي الزمان ونسيه الزمان، لولا هذا الأستاذ الذي أرسلته الجامعة منذ أعوام ليرد إلى أعماق الصحراء ذكر الزمن، وليرد على الزمن بعض ما نسيه من الكائنات. هدوء شامل كامل، كان خليقا أن يتصل شاملا كاملا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لولا أن كلية الآداب أرسلت صديقنا سامي جبرة ومعه طائفة من الأعوان وفريق من العمال فأزعجوا هذا الهدوء، وبعثوا في هذه الصحراء حظا من حياة.
فهذه الحركة المتصلة، وهذه الرمال تنقل من مكان إلى مكان، وهذا الغناء الحلو، غناء الصعيد، يوقظ النوم الذي اتصل في أعماق الصحراء، وهذه الكهرباء تخلف الشمس إذا كان الليل، وهذه أداة الكهرباء تحدث هذا الصوت المتصل المتقطع الذي يتبع بعضه بعضا في سرعة ونشاط، والذي يثير في نفسك خواطر غريبة حين يتقدم الليل، فيسكن كل شيء، ويسكت كل شيء غيره، فإنه يظل متصلا متقطعا يتبع بعضه بعضا في سرعة ونشاط.
ثم هذه الآثار التي انحسر عنها الرمل، وانجلى عنها النسيان، واتصلت بأسباب الحياة، أو اتصلت بها أسباب الحياة، وإذا هي تتحدث إلى الناس وتسمع منهم وتعطيهم ما يريدون من العلم بالتاريخ والفن عن رضا وطواعية أحيانا، وبعد إباء وامتناع أحيانا أخرى، وقد يلح عليها السائلون بالسؤال فتستعجم ولا تجيب، والدار لو كلمتهم ذات أخبار، كما يقول الشاعر القديم.
وما أحب أن أتحدث الآن عن هذه الآثار المختلفة المتنوعة التي تعظم حتى تبلغ الروعة، والتي تدق حتى لا يكاد يبلغها الحس، وإنها على ذلك لمصدر للجمال البارع، وإنها على ذلك لنفاذة إلى أعماق النفوس.
وما أحب أن أتحدث الآن عن هذه الآثار، فلست من الحديث عنها في شيء، وإنما أسجل هذه الظاهرة الغريبة التي يجدها من يزور هذه البقعة من الصحراء، فيضطر إلى أن يعرف هذه الخصلة التي تميز مصر تمييزا ظاهرا: خصلة الوحدة الخالدة مهما تختلف الظروف، ومهما تتباعد العصور، ومهما تتباين الأطوار.
في هذه الصحراء آثار وثنية مغرقة في وثنيتها، منها الفرعوني، ومنها اليوناني، ومنها الروماني، ولكنها كلها قد طبعت بالطابع المصري، فلم تستطع أن تمتاز من مصر أو تنفرد عنها، وفي أثناء هذه الآثار المغرقة في الوثنية والقدم، يظفر الباحثون بصليب من صلبان النصارى، كيف اندس هذا الصليب في أعماق الصحراء؟ وكيف أقام في هذه الوثنية المغرقة في القدم؟ وفي أثناء هذه الآثار يظفر الباحثون بألوان من القربان أرسلها الوثنيون من المصريين القدماء إلى آلهتهم أو حملوها إلى هؤلاء الآلهة، على نحو ما يرسل المصريون المحدثون ويحملون إلى الأولياء والقديسين من الهدايا والنذور، ومهما أنس فلن أنسى هذه اللفافات الضئيلة من البردي قد لفت لفا محكما وختمت بالطين وأرسلت إلى الآلهة، تحمل إليهم من الأقطار البعيدة ما كان يضطرب في نفوس أصحابها من الأماني والآمال ومن ضروب الخوف وفنون الرجاء.
ومن حول هذه الآثار وعلى آماد غير بعيدة تنبث في الوادي قرى كثيرة يعيش فيها المسلمون والمسيحيون من المصريين، قد أقام أولئك وهؤلاء على ما ورثوا من دين وما ألفوا من عقيدة. يختلف أولئك وهؤلاء إلى مساجدهم وكنائسهم، ولكن انظر إلى هذا الأثر القائم بين آثار إخناتون، ما هذه الدماء التي جمدت حوله؟ وما هذه الدماء التي لطخ بها تلطيخا؟ إنها دماء الضحايا التي يقبل بها أولئك وهؤلاء بين حين وحين فيذبحون عند هذا الأثر، ويلطخون بدمائها هذا الأثر، ويطعمون وينعمون حول هذا الأثر، ثم ينصرفون وقد استقر في نفوسهم الأمل بل الثقة بأن حاجاتهم سترضى، وبأن دعواتهم ستجاب.
ومن حول هذه الآثار وعلى آماد غير بعيدة يقوم هذا الدير المتهدم المتخرب الذي أهملته مصلحة الآثار المصرية - أو العربية لا أدري - أشد الإهمال، وإنه لخليق بالعناية، وقد أقبل على هذا الدير الخرب راهب لم تعجبه الحياة في الأديرة العامرة، فآثر النسك وحده في أعماق الصحراء، وآوى إلى هذا الدير فأقام فيه. انظر إليه قد جلس على الأرض ومن حوله شباب من المسيحيين قد أقبلوا إليه من القرى القريبة والبعيدة، وهم يرتلون ما يرتلون من الأدعية والصلوات، وانظر إليه حين يقبل عليه الزائرون من أمثالنا، فينهض إليهم هاشا باشا، ويتلقاهم أحسن لقاء، ويبسط لهم رداءه ليجلسوا عليه، ويهم أن يقدم إليهم الشاي، وإنهم لفي ذلك وإذا حمار الراهب قد أقبل منفلتا من موقفه فدخل عليهم الدير في أناة وهدوء.
ويثير هذا كله في نفسك ذكريات الرهبانية المسيحية المصرية في أول عهد مصر بالنصرانية، فما أظن أن حياة الرهبان في ذلك العصر القديم كانت تختلف اختلافا كثيرا عن حياة هذا الراهب الحديث الذي يعيش في القرن العشرين بعد المسيح.
وتستطيع أن تخترق الصحراء في سيارتك، وأن تحتمل قفز السيارة بك بين الصخور والكثبان ساعة أو ساعتين من نهار، وإذا أنت أمام دير من الأديرة المصرية القديمة قد دفع إلى التجديد دفعا عنيفا، وتخفف من المحافظة تخففا شديدا، فجدد فيه كل شيء، ولم يكد يحتفظ من آثاره القديمة بشيء، ولم يبق فيه من القديم إلا هذه العادات والصلوات الدينية التي تقام في السحر إلى أن يشرق الصبح، والتي تقام في المساء إلى أن يظلم الليل.
في هذه الرقعة الضيقة من الصحراء تعيش مصر القديمة بوثنيتها الفرعونية واليونانية والرومانية، وتعيش مصر القرون الوسطى بإسلامها الساذج ومسيحيتها الساذجة، وتعيش مصر الحديثة ببحثها عن العلم، وتقصيها للآثار ، وأخذها بأسباب الحضارة الحديثة عن أحسن وجه وأكمله، ويشرف على هذه الصور المختلفة لمصر في عصورها المختلفة وأطوارها المتباينة روح واحد خالد لا يختلف ولا يتغير، ولا يضعف ولا يدركه الفتور، وإنما هو هو دائما يبعث فيما حوله وفيمن حوله الحياة والنشاط والأمل والثقة واليقين، وهو روح مصر الخالدة، التي بقيت، وستبقى، مهما تختلف الأحداث، ومهما تتباين الظروف.
أليس هذا كله خليقا أن ينسيك ما لقيت أثناء الرحلة إليه مما يثير الغضب والحزن ويطلق الألسنة بهذه الأسئلة: لماذا ندفع الضرائب؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نمنحها ما ينبغي لها من الطاعة والإذعان للنظام؟ بلى إنه لينسيك هذا كله، ويطلق لسانك، ويملأ نفسك بخواطر أخرى، أيسرها أن من الهين أن نحتمل المشقة، ونبذل الجهد، ونلقى ألوان العناء، لنشهد مصر المختلفة المتفقة، المتعددة الواحدة، الخالدة على كل حال.
يناير 1940
في الثقافة
كتاب إلى الآنسة مي
تحية صادقة وشكر خالص يا آنسة بعد أن قرأت كتابك الممتع الظريف الذي تفضلت به على «الوادي» وعلى «الرسالة» وعلي أيضا.
أما بعد فإني أستأذنك في سؤال أحب أن أرفعه إليك، وأود لو تتفضلين بالرد عليه: ما بالك تؤثرين المبالغة وتحبين الإسراف ولا تقنعين بالحقائق الواقعة ولا تكتفين بأن تسمي الناس بأسمائهم؟ من الذي زعم لك أن اسمي أبو العلاء، أو من الذي زعم لك أن بيني وبين هذا الرجل العظيم الفذ في حياتنا الأدبية الطويلة شبها قريبا أو بعيدا؟ أظنك لا تقفين عند ما بين أبي العلاء وبيني من الشبه الطبيعي الذي ضاق به الفيلسوف العظيم والذي قلما أقف عنده أو أفكر فيه، فهو حظ مشترك بين كثير من الناس في جميع العصور والبيئات يشقى به بعضهم ولا يكاد يكترث له بعضهم الآخر، وهو على كل حال أظهر وأيسر وأدنى إلى الابتذال من أن يقف عنده الأدباء والمفكرون، وإذن فما إسرافك وإغراقك وتسميتك إياي بهذا الاسم الذي ليس مني ولست منه في شيء؟ لقد أحب أن أشكر للذين يحسنون إلي إحسانهم، وأقدر للذين يثنون علي ثناءهم، ولكني أحب أن يكون هذا الإحسان في موضعه وأن يكون هذا الثناء ملائما لمن يساق إليه، فهل تأذنين لي في أن أكون ثقيلا فظا وغليظ الطبع خشنا كما تعودت أن أكون دائما حتى حين أتحدث إليك فلا أشكر لك هذه التسمية ولا أقبلها منك، وإنما أردها إليك مع تحية ملؤها الإكبار والإعجاب والاحترام؟
وشيء آخر أنا مضطر إلى أن أبرئ ذمتي منه قبل أن أدخل في هذه الخصومة التي أثرتها بيننا - أيتها القاسية الجائرة - في غير ما يدعو إلى خصومة أو حوار إلا حب الشر والرغبة في إيثار الحفيظة والموجدة، وفي أن يتحدث الناس بأننا نختصم أشد الخصام، وهو أني فهمت عتبك الظريف علي فيما كتبته عن محاضرتك الجميلة الرائعة التي ألقيتها في الجامعة الأمريكية منذ شهور، وما كنت أحسب أن ذاكرتك على قوتها تستطيع أن تحفظ السوء وأن تذكر الموجدة، وما كنت أحسب أن لك من القسوة هذا الحظ العنيف الذي يمنعك من أن تغفري لمن اعتذر وتشملي بالعفو من ابتغى عندك العفو، وأظنك تذكرين أني اعتذرت إليك واستغفرت من هذا الذنب في آخر ذلك المقال الذي تناولت به محاضرتك القيمة، وكنت أقدر أن الاستغفار والاعتذار سيمحوان ذلك الذنب من نفسك الكريمة محوا، فإذا هما لم يصنعا شيئا، وإذا أنت واجدة علي وناقمة مني، أفينبغي إذن أن أصدق ما يقال من أن النساء يسرع إليهن نسيان الخير ويبطئ عنهن نسيان الشر؟
لا تغضبي يا سيدتي الآنسة فهذا كلام يقوله الرجال الذين لم تهذبهم الحضارة تهذيبا صحيحا، وكنت أرفضه أشد الفرض وأنأى عنه كل النأي، ولكني لاحظت أنك لم تنسي لي هذا الذنب على كثرة ما اعتذرت منه كتابة وكلاما كلما التقينا، ولاحظت ما أنبأتني به الطير من أنك كتبت مقالا شديدا صارما تردين به علي ذلك المقال، ثم أدركك الإشفاق وأدركتني رحمة الله، فإذا أنت تمسكين المقال ولا تذيعينه، فما بالك تمنحين بعض العفو وتمنعين بعضه الآخر؟ أليس الخير في أن تمنحيه كله أو تمنعيه كله؟ أما أنا فلست أخفي عليك أني أكره أن أراك واجدة علي، ولكني لا أكره أن أراك مغضبة ثائرة تكتبين المقال الثائر الحار وترسلينه على صواعق محرقة، فإن هذه النار تعجبني وتروقني وتجد فيها نفسي أمنا وسلاما. أتذكرين أني ألححت عليك في نشر المقال فأبيت، وأني ألححت عليك في إظهاري على هذا المقال فأبيت، وإذن فما ذكرك لهذه القصة وما إشارتك إليها إلا أن تكوني محبة للشر حريصة على أن تذكريني بأن بينك وبيني ثارات، وتنبهيني - وإن لم أكن في حاجة إلى التنبيه - إلى أن نار غضبك لم تخمد بعد، وإلى أنها قادرة على أن تبلغني من حين إلى حين! هلم يا سيدتي الآنسة، أرسلي إلي أو أرسلي علي هذه النار فإني لها منتظر وإليها مشوق، هل ترين كتابك كله إلا ظلما وجورا وخلافا في غير ما يدعو إلى خلاف، وتجنيا في غير ما يدعو إلى التجني؟ ولكن لا تطمعي في أن يغضبني ظلمك أو يحفظني جورك أو يمضني تجنيك، فلست بمتحضر ولا بمثقف إن لقيت ظلمك وجورك وتجنيك بغير الشكر الصادق والتحية الخالصة والإعجاب العظيم.
لم أظلمك يا سيدتي الآنسة حين تناولت محاضرتك القيمة بشيء من النقد، وإنما أردت أن أنصفك وأن أؤيدك، وأن أبين لك كيف يفهم الرجال بمنطقهم الغليظ وعقولهم الجافة وقلوبهم الجافية هذه الخواطر الرقيقة العذبة، وهذه المعاني السامية الممتازة التي تخطر للنساء وتضطرب في نفوسهن العالية، فلا يقدرونها حق قدرها ولا يسيغونها كما ينبغي أن تساغ، وإنما يحرفونها تحريفا ويشوهونها تشويها، ثم يجادلون فيها جدالا لا غناء فيه لأنهم أضعف وأغلظ وأجفى من أن يفهموا أو يقدروا مثل هذه الخواطر والمعاني على وجهها، فماذا تنكرين علي وماذا تنقمين مني وأنا أعلن إليك أني مؤمن بكل ما تقولين، مصدق لكل ما تقررين إلا حين أحكم فيه هذا العقل الغليظ الجافي الذي لا ينبغي أن يحكم فيما يصدر عنكن أيتها السيدات؟ ولم أظلم «الرسالة» يا سيدتي الآنسة لا عامدا ولا مخطئا حين ذكرت عنايتها بموضوع الإلياذة والأودسا وتفصيلها لأوليات التمثيل والقصص التمثيلية لأني لم أنكر على «الرسالة» شيئا، وإنما أنكرت أن تكون هذه الحالة هي حال الثقافة عندنا، أنكرت أن يضطر كاتب أديب كصديقنا الزيات ومجلة ممتازة كصديقتنا الرسالة إلى الحديث في مثل هذه الأشياء التي انقضى زمن الحديث فيها عند المثقفين، والتي يتعلمها الصبية والفتيان في المدارس والبيوت لا في المجلات الأدبية العليا، وما ذنب الزيات وما ذنب «الرسالة» إذا كان الناس يجهلون الإلياذة والأودسا أو يجهلون من شئون التمثيل والقصص التمثيلي ما لا ينبغي لهم أن يجهلوا؟ وأظنك لا تكرهين أن تعيريني شيئا من قوتك الأدبية الجبارة كما يقول الناس في هذه الأيام لأرتفع بها عن الحياة اليومية، ولأسمو بها إلى المثل الأعلى، ولأنظر بها ساخطا إلى هذه الحياة الأدبية التي نحياها والتي لا تكاد تمتاز إلا بالغلو في التواضع والغرور معا، وفي الحركة العنيفة والخمود الذي لا يجدي.
وأنت تعلمين حق العلم أن الأديب الذي يستحق هذا الاسم والرجل الذي يستمتع بشيء من حياة لا يستطيع أن يرضى ولا أن يطمئن لأن الرضا آية الخمود ولأن الاطمئنان آية القصور، إنما حياة الرجل المثقف طموح كلها وسمو كلها، وسخط على ما يحيط به، واندفاع إلى ما لم يبلغ بعد، فلا تسرفي يا سيدتي الآنسة في الغضب علي والتنكر لي إن رأيتني أضيق بما نحن فيه ولا أطمئن إلى ما انتهينا إليه، ولا تلتمسي المعاذير لكتابنا وقرائنا وأصحاب الثقافة فينا من هذا الفتور الذي يغرقهم إلى أذقانهم أو إلى آذانهم، فهم ليسوا في حاجة إلى أن تلتمس لهم المعاذير، وهم خليقون إذا رأوا من مثلك هذا التشجيع وهذا الاعتذار أن يزدادوا إعجابا بأنفسهم ورضا عن خمودهم واطمئنانا إلى ما هم فيه من فتور وقصور. إن الذين يعنون بإحياء الأدب ونشر الثقافة وبعث الهمم إلى الحياة التي يملؤها النشاط الخصب لا ينبغي لهم أن يكسلوا ولا أن يرضوا عن الكسل، ولا أن يغروا به، ولا أن يقنعوا ولا أن يرضوا القناعة من غيرهم في الأدب والعلم والفن، وإنما الحق عليهم أن ينشطوا دائما وأن يدفعوا الناس إلى النشاط دائما وأن يقنعوا الناس بأنهم مهما يجدوا ويكدوا وينشطوا فهم دون ما ينبغي لهم من الجد والكد والنشاط.
إني أكره يا سيدتي الآنسة لأدبائنا أن يطيلوا النظر في المرآة، وأحب ألا ينظروا إلى أنفسهم إلا قليلا جدا، كما أكره للأدباء أن ينظروا إلى وراء إلا أن يلتمسوا ثروة من حياتنا القديمة الخصبة، فأما أن ينظروا إلى وراء ليعجبوا بما قطعوا من الآماد فإني أخاف أن يغرهم ذلك ويدفعهم إلى العجب والتيه على حين ما تزال الآماد بعيدة أمامهم وما يزال الوقت الذي يملكون أقصر جدا من أن يبلغهم الغاية، وينتهي بهم إلى المثل الأعلى.
تذكرين هذه المجلة الفرنسية التي أرادت أن تتبين عدد المحسنات للعروض من قارئاتها فلم تجد إلا خمسا في كل مائة؟ فاطلبي يا سيدتي الآنسة إلى «الرسالة» أن تحصي المحسنين والمحسنات للعروض العربي من قرائها وقارئاتها، فإن ظفرت بأكثر من خمسة في كل مائة، فأنا ظالم كل الظلم، وأنت منصفة كل الإنصاف، ولن تستطيعي أن تقولي إن العروض العربي فن حديث أو ثقافة جديدة عبرت إلينا البحر، إنما هو فن عربي خالص قديم، ومع ذلك فالمثقفون منا يجهلونه، وأدباؤنا يجهلونه، وشعراؤنا يجهلونه لا أكاد أستثني منهم إلا نفرا يحصون، وإنك لتنظرين في دواوين الشعراء فيؤذيك ما ترين من جهل كثير منهم أصول العروض وقواعد القافية، واندفاعهم إلى خلط في ذلك يؤذي السمع والذوق معا، وأظنك ترين معي أن كبار الشعراء لم يكبروا بابتكارهم للمعاني وإتقانهم للأساليب وحسن اختيارهم للفظ فحسب، وإنما كبروا أيضا بتصرفهم في الأوزان وابتكارهم لفنون الموسيقى، وقلما يوجد شاعر فذ إلا كان له عروضه الذي لم يسبق إليه؛ ذلك لأن الشعراء المجيدين لا يلتمسون الشعر على أنه وحي يهبط عليهم من السماء، وإنما يلتمسونه على أنه فن له ثقافته، وله أدواته، ثم له بعد استكمال الثقافة والأدوات نصيبه من إلهام الطبيعة الخصبة والنفس الغنية والقلب الفياض.
وتنكرين يا سيدتي الآنسة أن تلتمس الثقافة عند التعليم المنظم، فأذني لي في أن ألاحظ أن إنكارك هذا غريب؛ فالتعليم المنظم هو الذي يسيطر على تهيئة العقل لفهم الحياة والتأثر بها والاستزادة من هذا التأثر وذلك الفهم، فإذا فسد هذا التعليم وجف وأصبح صورا وصيغا تتحدث إلى الذاكرة لا إلى العقل ولا إلى القلب، لم يثر نشاطا ولم يرغب في ثقافة ولم يدع إلى استزادة من علم وفهم واستقصاء. وأنت تستطيعين أن تلاحظي ما بين الصبية الذين يختلفون إلى المدارس المصرية الخالصة والذين يختلفون إلى بعض المدارس الأجنبية في مصر، كلهم يتلقى تعليما منظما قد رسمت برنامجه دولة من الدول ووزارة من وزارات المعارف، ولكن بعضهم يحفظ ما يتلقى من هذا التعليم لا يزيد عليه ولا يستبقيه إلا ريثما ينساه، وبعضهم لا يكفيه ما يتلقى وإنما يدفعه إلى الاستزادة، فإذا هو يقرأ ويبحث ويحاول الاستكشاف، وإذا هو يثقف نفسه تثقيفا لا يظفر به الشباب الجامعيون عندنا.
لا تظني أني أغلو أو أسرف، فقد تركت لك الغلو والإسراف، إنما أنا أصور لك حقائق أشهدها كل يوم، وأستطيع أن أدلك عليها متى أحببت، وأستطيع أن أحضر أمامك صبيا في الثانية عشرة لم يتقدم في التعليم وشابا في الثامنة عشرة قد دخل الجامعة، وأن أترك لك سؤال هذين التلميذين، فسترين أن حظ الصبي من الثقافة العامة والخاصة أعظم جدا من حظ الشاب؛ لأن التعليم المنظم الذي تلقاه الصبي أخصب وأدنى إلى النفع وأقدر على إثارة النشاط من التعليم المنظم الذي تلقاه الشاب في مدارسنا المصرية الخاصة. ولقد رأيت منذ يومين اثنين كتبا يتبادلها صبيان يتعلمان في بعض المدارس الأجنبية فقرأت فيها من الشعر والنثر الفرنسيين ما أتمنى أن أقرأ مثلهما في كتب الشباب المصريين حين يكتب بعضهم إلى بعض في الصيف، وإنك لتعلمين حق العلم أن للصبية في أوروبا صحفا ومجلات يصدرها لهم الرجال والنساء، وأن هذه الصحف والمجلات ترتفع جدا عما ينشر لشبابنا وكهولنا من أمثالها في الشرق، وإنك لتعلمين أن للصبية في أوروبا كتبا يصدرها لهم الرجال والنساء، وأن هذه الكتب ترتفع عن كثير جدا مما يصدره كثير من الكتاب لشبابنا في مصر والشرق.
عللي ذلك بما شئت وأوليه كما تحبين، فإن التعليل والتأويل لا يغيران من الحقيقة الواقعة شيئا، والحقيقة الواقعة هي أن ثقافتنا ضعيفة مسرفة في الضعف، ضيقة مسرفة في الضيق، والحقيقة الواقعة أيضا هي أن الذين يحبون الرقي للشرق لا ينبغي لهم أن يرضوا بهذه الثقافة فضلا عن أن يعجبوا بها ويلتمسوا لأصحابها المعاذير.
وأراك يا سيدتي الآنسة تضيقين بعض الضيق أو كله بما ينتجه الأوروبيون من الآثار الأدبية في هذه الأيام، وتزعمين أن هذه الآثار أدنى إلى المادية وتعجل المنفعة المالية والتجارية منها إلى العناية الخالصة بالأدب والفن، وأخشى أن تكوني مسرفة في هذا إسرافك في تسميتي أبا العلاء، فعند الأوروبيين ميل ظاهر إلى المادة وتهالك بين على المنفعة، ولكن معبدي أبولون وأثينا لا يزالان مفتوحين في جميع المدن والبيئات الأوروبية الكبرى، وما زال العقل الأوروبي والقلب الأوروبي ينتجان آثارا عالية قيمة في الأدب والفن تسعد بها النفس الراقية ويحتفظ بها الإنسان على أنها متاع روحي خالد حقا.
والخير يا سيدتي الآنسة في ألا نصدق الأوروبيين إذا أظهروا الضيق بمادياتهم وثقافاتهم، فهم في ذلك بين ساخط لا يرضى بما وصلت إليه أوروبا طامح إلى المثل الأعلى مستزيد من الرقي، ورجل قد أخذه السأم فهو لا يرضى عن شيء ولا يطمئن إلى شيء، وإنما يريد أن يغير بيئته وحياته على أي نحو من التغيير. والخير أيضا ألا نطمئن إلى ما يقوله بعض الشرقيين ويكرره من أن الثقافة الأوروبية والحضارة الأوروبية والحياة الأوروبية قد فسدت فسادا لا صلاح بعده، فهذا كلام مصدره الضعف والعجز، وما زالت في أوروبا قوة خصبة غزيرة تؤهلها للبقاء الطويل وتؤهلها للسلطان وللسلطان الواسع، والأيام دول وقد ينتقل مركز الحياة القوية من الغرب إلى الشرق كما انتقل من الشرق إلى الغرب، ولكن وقت هذا الانتقال ما يزال بعيدا، فمن العجز أن نعلل أنفسنا به وأن نلهيها عن السعي والجد حتى نبلغ ما بلغه الغربيون، وحتى نحس إذا لقيناهم أو خلونا إلى أنفسنا أنهم ليسوا خيرا منا ولا أقدر على الحياة والفوز فيما تحتاج إليه من جهاد. وهل تأذنين في أن أعاتبك عتابا رقيقا وددت لو أهديه إليك في طاقة حسنة التنسيق من الورد والقرنفل حتى لا تغضبي ولا تذكري مقالي عن محاضرتك في الجامعة الأمريكية: تذكرين ما قاله رينان من أن الذين يعرفون أفلاطون لا يكادون يتجاوزون عشرة في كل جيل ثم تسألين عن الذين يعرفون هوميروس وغيره من شعراء اليونان أيزيدون عن هذا العدد؟! كثير منك هذا السؤال وأنت تترجمين شعر الممثلين من اليونان، وأنت تعلمين أن أفلاطون فيلسوف وأن الفلسفة أقل انتشارا من الشعر والأساطير، وأنت تعلمين أن رينان كان مثلك يحب الدعابة ويكلف بالغلو والإسراف، وأن هؤلاء العشرة الذين يذكرهم يستطيعون أن يبلغوا الآلاف في غير مشقة ولا جهد، وأن معرفة أفلاطون التي أرادها رينان هي معرفة المتقن المجيد الذي يحسن العلم بما يعالج من الموضوعات، فلا بأس على جيل من الأجيال إذا قل فيه المتقنون لفلسفة أفلاطون.
وبعد فهل تظنين أن للشرق كله واحدا أو اثنين بين هؤلاء العشرة الذين يحسنون العلم بفلسفة أفلاطون؟ أليس يؤلمك أن الجواب على هذا السؤال قد يكون نفيا، وأن هؤلاء العشرة قد يكونون جميعا من الأوروبيين والأميركيين؟
صدقيني يا آنسة، ليست ثقافتنا العامة مرضية ولا قريبة من المرضية، وصدقيني يا آنسة لا مصدر لضعف هذه الثقافة إلا فساد التعليم المنظم من جهة، وكسل الأدباء وأصحاب الصحف من جهة أخرى، ثم تعالي نتعاون يا آنسة على أن نصلح هذا الفساد ونرتفع بالثقافة إلى حيث نستطيع أن نلقى الغربيين فلا نستحي منهم، وأن نقرأ «الرسالة» وأشباه «الرسالة» من الصحف فلا نجد فيها فصولا موضوعها الإلياذة والأودسا وبسائط التمثيل، ثم تفضلي يا آنسة فاقبلي تحيتي الخالصة وإجلالي العظيم.
ذات القفاز الأخضر
أو قل ذات القفازين الأخضرين إن كنت لا تحب أن تجتزئ في مثل هذا الموضع بالواحد عن المثنى، بل تؤثر ثقل التثنية على خفة الإفراد؛ فالعنوان في نفسه واضح ، فما يظهر يؤدي معناه أحسن الأداء، ويكفي أن تعلم أن ذات القفاز الأخضر أو القفازين الأخضرين سيدة من أهل باريس عرضت نفسها للمصور فاتخذ لها صورة جميلة رائعة، وأبت عليه أن يعلن اسمها إلى الناس فرمزت لنفسها بهذا الوصف، وهي - فيما يفهم من هذا العنوان - صاحبة الشخصية الممتازة في القصة، وسترى أثناء هذا الحديث أنها شخصية ممتازة حقا، ولكن للقصة بطلا آخر أشد منها امتيازا وأعظم منها حظا من عناية النظارة والقراء.
وقد فهم النقاد الفرنسيون - وليس من شك في أنهم لم يخطئوا - أن شخصية هذه السيدة ليست هي الأولى ولا التي ألفت القصة من أجلها، وإنما الشخصية الأولى، الشخصية التي قصد الكاتب إلى تصويرها واتخذها مرآة لعصر من العصور، ووسيلة إلى نقد جيل من الأجيال الفرنسية كألذع ما يكون النقد، شخصية رجل، هو بطل القصة حقا، والغريب أنه فيما يظهر ليس شخصا خياليا، وإنما هو شخص قد عرفه الوجود الواقعي، وظهرت آثاره قوية جلية في حياة الفرنسيين قبيل الحرب الكبرى، ثم ظهرت في العام الماضي شخصية تشبهها من بعض الوجوه، وتحدث في الحياة الفرنسية مثل ما أحدثت من الآن، وهي شخصية ستافسكي، والرجل الذي قصد المؤلف إلى تصويره ليس فرنسيا، وإنما هو شرقي ولد في مصر من أبوين شرقيين من هؤلاء الشرقيين الذين لا تستطيع أن تعرف لهم وطنا ولا جنسا، ولا أن تضيفهم إلى جيل من أجيال الناس معروف، إنما هم يتكلمون لغات كثيرة، وينتسبون إلى أمم مختلفة، ويتخذ كل واحد منهم لنفسه آخر الأمر جنسية سياسية أوروبية يحتمي بها من قوانين مصر في هذه الأيام أو من قوانين الشرق حين كان الشرق كله خاضعا لنظام الامتيازات.
وصاحبنا الذي تدور القصة عليه والذي سماه الكاتب أشيل بروسكا قد اتخذ الجنسية الفرنسية وقاء من قوانين مصر، ثم عمل كما يعمل أمثاله في حرف مختلفة ومهن لا يبلغها الإحصاء، حتى أثرى وظفر بالغنى، فهاجر إلى فرنسا وأقام فيها، واشتغل بالصحافة، ثم بالأعمال المالية، ثم بالسياسة، ثم أدركته القصة، وهو رجل عظيم من أرفع الناس شأنا، وأوسعهم سلطانا، وأعظمهم خطرا، وأبعدهم أثرا في الحياة السياسية والمالية والصحفية بباريس. له قسط في كل مصرف، وسهم في كل عمل، وكلمة في كل قانون، ورأي في كل تدبير. يعين الوزراء ويعزلهم، ويرفع الكبراء ويخفضهم، ويغني الفقراء، ويفقر الأغنياء، ويعبث بثروة ضخمة لا تقل عن أربعمائة من الملايين.
ونحن إذا ابتدأت القصة نراه حين يرفع الستار متكاسلا يشهد امرأته الجميلة موريسيا وهي تتخذ زينتها للعشاء، وقد علمنا أن العشاء سيكون فخما هذه الليلة، فقد دعي إليه أربعون من أرقى الطبقات الباريسية، فيهم رجال السياسة والمال، ورجال الأدب والعلم، ورجال الأعمال والحرب، وصاحب الدار كسلان لا ينشط لزينته، ولا يريد أن يستقبل الحلاق الذي أقبل يهيئه لهذه الزينة، وإنما هو يأمر الخادم أن يسقيه شيئا من النبيذ وينقده شيئا من المال، ويصرفه، أما هو فيؤثر أن يكسل وأن يشهد امرأته الجميلة وهي تأخذ زينتها، وليس عليه بأس من أن يلقى ضيفه ويرأس مائدة الطعام مهمل اللحية والزي أيضا، فهو لا يحفل بهؤلاء الناس الذين دعاهم لطعامه، ولا يعنيه أن يرضوا عنه أو يسخطوا عليه، بل هو واثق بأنهم سيرضون عنه ما بقيت له ثروته وقوته، وسيزدرونه إن صفرت يده من هذه الثروة، أو انحلت عنه هذه القوة. هو يزدريهم أشد الازدراء، ويحتقرهم أعظم الاحتقار، ويتحدث عنهم أقبح الحديث، هو لا يقدر من خلق الله جميعا إلا رجلا واحدا عاش كريما شريفا، نقي اليد والقلب والضمير، فلم يلق من الناس إلا شرا. خانته امرأته، وأنكره بنوه، وألح عليه الفقر والبؤس حتى ماد معدما مريضا، وهو أبوه. وصاحبنا من أجل هذا يحتقر الناس كأنه يرد عليهم ما قدموا لهذا الرجل الكريم وكأنه ينتقم منهم له، وهو لا يرى أن الانتقام يتهيأ له إلا إذا اطرح الفضيلة والشرف اطراحا، وسعى إلى المال والجاه من كل طريق، ثم اتخذهما وسيلة إلى غاية في غير تحفظ ولا احتياط ولا حياء، وإنما الحياء خلق الضعيف، والاحتشام خلق الرجل الذي لا يريد أن ينجح .
وانظر إليه وقد قصد إلى التليفون وأخذ يتحدث إلى أحد الوزراء بنفس اللهجة التي يتحدث بها إلى خادمه، وما له لا يفعل ذلك وهو الذي رفع هذا الرجل إلى الوزارة ويستطيع أن ينزعه منها نزعا متى شاء؟! وانظر إليه والخادم يقبل عليه من حين إلى حين فينبئه بمقدم هذا العظيم أو ذاك فلا يظهر احتفالا ولا احتفاء، وإنما يقول للخادم: دعه ينتظر.
ثم انظر إليه وقد طرق الباب فأذن بالدخول فدخل عليه سكرتيره الخاص، وهمت امرأته أن تستخفي لأنها لم تكن قد تهيأت بعد للقاء الغرباء، فيأبى عليها هذا كل الإباء، لأن سكرتيره كلب لا ينبغي أن يحسب له حساب، وهو يقول ذلك جهرة في وجه سكرتيره، والرجل يحتمل منه ذلك ضيقا به مبتسما له في وقت واحد. ثم اسمع إلى السكرتير وهو ينبئ سيده بأنه قد حاول أن يشتري الصورة فلم يفلح مع أنه قد ارتفع بالثمن إلى مائة ألف من الفرنكات لأن المصور لا يريد أن يبيع هذه الصورة مهما تكن الظروف، فإذا سألت امرأته عن هذه الصورة عرفنا أنها صورة ذات القفاز الأخضر، وأن ذات القفاز الأخضر هذه باريسية حسناء، كانت صديقة لامرأته أيام الصبا، ثم فرقت بينهما الأيام، فلما نشرت هذه الصورة عرفت موريسيا صاحبتها، وبحث زوجها عن هذه المرأة حتى اهتدى إليها، وهي مدعوة للعشاء الذي يقام هذا المساء، وكان صاحب الدار يريد أن يشتري الصورة ليهديها إليها، وهو مغيظ لأنه لم يستطع شراء هذه الصورة، وهو لم يتعود قط أن يفشل عن بعض ما يريد.
ثم انظر إليه يكره سكرتيره على أن يشهد العشاء، فإذا اعتل عليه السكرتير منحه مائة ألف فرنك فرضي، ولكنه بهذا الرضا أصبح ملكا لسيده يعبث به كما يحب، وهو يفرض عليه أن يدخل في ثيابه هو، وإن كانت لا تلائم جسم هذا البائس، وأن يلبس حذاءه هو، وإن كان لا يلائم رجل هذا البائس. ثم انظر إليه وقد انتهى به العبث إلى أقصاه، فهو يريد أن يزوج خادمه من هذا السكرتير المضحك، وأن يمنح الخادم مليونا من الفرنكات إن قبلت هذا الزواج، وأظن أنك قد اتخذت لنفسك من هذا الرجل الغريب صورة واضحة هي صورة الرجل الوصولي الذي وصل إلى كل ما يريد فهو يعبث بالحياة والأحياء جميعا، على أنك لم تعرف من أمره كل شيء، فانتظر قليلا حتى تقبل ذات القفاز الأخضر وتخلو إلى صاحبتها، وتأخذ معها في الحديث، فستعلم من حديث هاتين السيدتين أن لصاحبنا هذا عادة غريبة، فهو مزواج، مطلاق، يرى المرأة فيحبها فيتزوجها، مهما تكن النتائج، يطلق امرأته إن كان متزوجا، ويحمل حبيبته على الطلاق إن كانت متزوجة، يشتري ذلك بالمال من امرأته التي يطلقها، فهو يمنحها ثلاثة ملايين، ومن الرجل الذي يريد أن يأخذ منه امرأته فهو يمنحه ما يشاء من مال ومنصب وجاه، وامرأته هذه موريسيا تحبه أشد الحب، وتخاف منه أعظم الخوف، تنتظر اليوم المحتوم الذي يعرض عليها فيه الطلاق وثلاثة ملايين.
والغريب أن ذات القفاز الأخضر لم تكد تسمع حديث صاحبتها حتى خافت أشد الخوف، فهي تعرف أن رجلا يتبعها في هذه الأيام ويريد أن يتصل بها ويتحدث إليها، وهي تحس أن هذا الرجل هو بروسكا، وهي تشفق بعد أن علمت ما علمت أن يعرض لها ولزوجها بما تعود أن يعرض به للرجال والنساء، وهي على ذلك تعاهد صديقتها على أنها ستقاوم هذا الرجل إن كان هو من تخاف، وستمتنع عليه كل الامتناع.
فإذا كان الفصل الثاني فقد كان ما خافت المرأة أن يكون، ولكن يحسن ألا نتعجل الحوادث وأن نسعى مع الكاتب في شيء من المهل والأناة كما فعل هو في قصته، فنحن حين يرفع الستار عن هذا الفصل الثاني في بيت جيتان ذات القفاز الأخضر، ونحن نرى زوجها واسمه «جي دي لارونسيري» يحاور المصور واسمه «ألمادو» حوارا غريبا حقا، قد أقبل المصور ينبئه بأنه قد أحب امرأته منذ صورها ولم يصل منها إلى شيء، ولم يرد بها مكروها، وهو يائس من حبها، وهو يلتمس عنده العزاء من هذا اليأس ، يطلب إليه مودته ليستطيع أن يزوره من حين إلى حين وأن يرى امرأته دون أن يسوءها أو يتعرض لشيء، والرجل ينكر هذا الحديث أشد الإنكار، ولكنه لا يغضب له ولا يثور؛ لأن المصور يلقيه إليه في شيء من سذاجة الفنان، بريء لا يثير غيظا ولا حفيظة، وهذه امرأته تقبل فتقر بأن المصور يحبها ويكتب إليها بهذا الحب، وبأنه يائس من حبه، وترفض ما يقترح المصور من هذه المودة الغريبة، وتقترح عليه ألا يحاول لقاءها، فيذعن ويزمع أن يعود إلى بلده في أمريكا الجنوبية، ولكنه يريد أن يهدي إلى هذه المرأة صورتها هذه التي فتن بها الناس والتي أبى أن يبيعها بمبلغ ضخم من المال، وقد انصرف ليحضر هذه الصورة، وخلا الزوجان وأخذا في حديثهما، وإذا الزوج محزون لأنه أنذر بصرفه عن العمل بعد أشهر، وهو يقترح على امرأته أن تتحدث إلى صديقتها موريسيا لعلها تحمل زوجها بروسكا على أن يسعى له في البقاء حيث هو، وامرأته تسمع منه محزونة ولا تستطيع أن تجيبه إلى ما يريد، ولكن ماذا؟ إن الجرس يدق، وهذه الخادم تدخل وقد حملت طاقة فخمة من الورد، ومعها بطاقة قد كتب عليها اسم بروسكا.
ولم يكد الزوجان يقضيان عجبهما من هذه المصادفة حتى يدق الجرس مرة أخرى، ويدخل عليهما سكرتير ذلك الرجل الغريب، وهو قد جاء يدعوهما إلى العشاء مع سيده في مطعم فخم من مطاعم باريس، فأما الزوج فسعيد بهذه الدعوة، وأما المرأة فضيقة بها، معتذرة منها، فإذا ألح عليها زوجها في قبول الدعوة طلبت إلى ذلك السكرتير أن ينصرف عنهما لحظة، ثم أنبأت زوجها بأن بروسكا يحبها، ويتبعها، ويلح عليها بالحب والاتباع، هنالك يظهر الزوج غضبا وحفيظة ويقر امرأته على الاعتذار، ولكن السكرتير يلح ويأبى أن يعود خائبا، ثم يعمد إلى التليفون فينبئ سيده باعتذار الزوجين، ويأبى سيده قبول الاعتذار، ثم ينبئ بأنه مقبل بنفسه ليقنعهما بقبول دعوته.
وغضب الزوج يزداد من حين إلى حين وامرأته تهدئه وتنصح له بالاعتدال، ولكن ماذا تسمع؟ إن الجرس يدق، وهذه امرأة تدخل وهي موريسيا قد أقبلت يائسة ذاهلة تنبئ بأن زوجها يتركها، وبأنها دعيت إلى الموثق لتسمع منه نبأ الطلاق ولتقبض منه الملايين، وهذا بروسكا نفسه قد أقبل، ولست أريد أن أطيل عليك بما يكون بينه وبين امرأته من عتاب أو خصام، ولكن انظر إليه واسمع له، إنه لا يتحفظ ولا يتحرج، وإنما ينبئ ذات القفاز الأخضر بأنه يحبها ويخطبها، وينبئ زوجها بأنه سيطلق امرأته ويترك له أن يحتكم فيما يريد من ثمن للطلاق.
والرجل مغضب محنق، يغضب ويثور ولكن هذا لا يغني عنه شيئا، فصاحبنا هادئ مطمئن واثق، وهو يخرج من جيبه وساما يقدمه إلى الزوج، وهو وسام الليجيون دونور، كان هذا الزوج يلتمسه منذ خمس سنين دون أن يبلغه، فظفر به هذا الرجل في ثلاث دقائق، والزوج يتردد في قبول الوسام شيئا ولكن شوقه إليه يغلب آخر الأمر، فيقبل الوسام ويمضي مع ذلك في الإباء لما يطلب منه، والرجل يحاوره هادئا عاقلا، فيبين له أنه كان يستطيع أن يلح على امرأته بالإغراء والترغيب والاتباع حتى يدفعها ويندفع معها في الإثم والخيانة، ولكنه لا يحب ذلك، بل يؤثر عليه الزواج الشرعي بعد الطلاق الذي يبيحه القانون، فإذا لم ينجح في هذا الحوار لجأ إلى الوعيد فبين للزوج أنه هو الذي أخرجه من عمله، وأنه يستطيع أن يرده إليه وإلى أحسن منه، وأنه يعرف مواضع ثروته كلها، وهو قادر على أن يفسد عليه كل شيء، يفسد عليه الأرض التي يملكها في مدينة كذا، والتجارة التي يستغلها في باريس، والمناجم التي يستغلها في إسبانيا، وهو آخر الأمر واثق بأنه قد هز الرجل هزا، وملأ قلبه خوفا ورعبا، وإن كان الزوج لا يزال مع ذلك يظهر إباء وامتناعا، وقد انصرف الرجل عن الزوجين وهو واثق بأنهما سيستجيبان لدعائه إلى العشاء، وقد رد امرأته إلى دارها، وعهد إلى المصور الذي رأيناه في أول الفصل أن يرافقها، ويعنى بها، ولكني لم أحدثك عن هذا المصور بعد أن ذهب ليحضر صورته، فهو قد أقبل أثناء الحديث مرتاعا جزعا لأنه لم يجد الصورة حيث تركها فقد عدا عليها اللصوص، ولا ينتهي الفصل حتى يتم الاتفاق بين الزوجين على إجابة الدعوة مصانعة لهذا الرجل المخوف، فأما المرأة فقد ذهبت تتهيأ للخروج، وأما زوجها فهو معجب بوسامه يتهيأ لاتخاذه إذا ذهب إلى العشاء.
فإذا كان الفصل الثالث، فقد استكشف الزوجان أن لهما شيئا من ثروة يجهله هذا الرجل العنيف، ولا يستطيع أن يضارهما فيه، وأن نصيبهما هذا من الثروة في بلد أجنبي بعيد هو رومانيا، فهما يهربان بحبهما وشرفهما وأمنهما من فرنسا ليستقرا في هذا البلد الغريب وقتا ما ينساهما فيه هذا الرجل، ثم إذا أتيحت لهما العودة إلى وطنهما عادا إليه آمنين، وقد فعلا.
فنحن نراهما حين يرفع الستار في فندق من فنادق رومانيا في مدينة صغيرة، ونسمعهما يتحدثان فنعرف من أمرهما ومن أمر أصحابهما عجبا، فأما هما فقد تغير شأنهما بعض الشيء، فالزوج يكاد يشك في زوجته، هو لا يتهمها بشيء، ولكنه يكاد يظن أنها قد أظهرت له من التلطف والتودد ما أطمعه فيها، وأغراه بها، وآية ذلك أنه نظر في كتاب كانت تقرأ فيه فرأى وردة جافة، أليس يمكن أن تكون هذه الوردة قد أخذت من تلك الطاقة التي أرسلت إليها في ذلك اليوم المشهود؟ وهو لا يخفي شكه هذا على زوجه، ولكن زوجه تسأله ألست قد قبلت منه الوسام الذي حمله إليك؟ ويكاد الأمر يفسد بين الزوجين لولا أنهما يتداركان عواطفهما تداركا متصلا.
وأما موريسيا فقد رافقت هذين الزوجين إلى منفاهما، ولعلها أعانتهما بشيء من المال، ورافقهما كذلك المصور، ولكنا نعلم مما نسمع وما نرى أن بين المصور وموريسيا غراما ناشئا، وليس من شك في أن كلا منهما يلهو بهذا الغرام عن حبيبه الذي هجره وقسا عليه، فموريسيا تتسلى بهذا الحب عن زوجها الظالم، والمصور يتسلى بهذا الحب عن جيتان القاسية، ولكن جيتان نفسها ما خطبها؟ وكيف تلقى انصراف عاشقها المصور عنها إلى صديقتها؟ وكيف تلقى اعتداء صديقتها على هذا العاشق الذي كان ينبغي أن يظل لها خالصا؟ هي لا تحبه من غير شك، ولكنها كانت تؤثر ألا يصرف عنها، ولا يلهى عن حبها، على أنها في حقيقة الأمر ترى هذا كله ساخرة منه، فهي مشغولة بشيء تخفيه، وستبديه الحوادث بعد حين، هذا زوجها قد انصرف عنها لبعض شأنه على أن يغيب يوما كاملا أو أكثر من يوم، وقد تركها مع صاحبتها وعاشقها الفنان الذي لا خوف منه، ولكنه لم يكد يمضي لشأنه حتى يدخل على القوم سكرتير ذلك الرجل العنيف بروسكا.
فهو إذن كان يتبع الزوجين، وهو إذن يعلم من أمرهما كل شيء، وهو لا يوجد في هذه المدينة وحده، وإنما يوجد معه سيده أيضا، فالخطر ما زال محدقا بالزوجين لولا أن السكرتير محزون ظاهر مضطرب شديد الاضطراب ينبئ بنبأ خطير، وهو أن سيده قد مات في حادث لسيارته، وأن جثته قد حفظت في بعض الفنادق، فأما موريسيا فتتلقى هذا الخبر في وجوم قليل، وسرور عميق، كأنما حطمت عنها الأغلال، وهي لم تزل زوجا لهذا الرجل، فهي وارثته إذن، وهي تتعجل أن ترى جثته، وأن تفرغ من دفنه، وأن تتولى ثروته، وأما ذات القفاز الأخضر فتظهر سرورا متكلفا، وتضمر حزنا عميقا، فهي كانت تحب هذا الرجل وتغالب هذا الحب بالكتمان، فأما وقد مات فلا بأس عليها من أن تعترف لنفسها بما كانت تخفي.
وقد ذهبت موريسيا ومعها المصور إلى حيث الجثة، وهم السكرتير أن يذهب ليهيئ نقل الجثة إلى المدينة أو إلى فرنسا، ولكنه قبل أن ينصرف ألقى إلى هذه المرأة الواجمة سوارا كان سيده قد اشتراه ليهديه إليها، ولا تكاد المرأة تخلو إلى نفسها حتى تنظر إلى هذا السوار وحتى تضعه في ذراعها محزونة آسفة، ولكن ماذا تسمع؟ إن الباب يطرق طرقا خفيفا، وإنها تنزع السوار مسرعة، وإن الباب يفتح، وإن شخصا يمثل أمامها، فإذا نظرت إليه رأت عاشقها العنيف بروسكا قائما بين يديها.
فقد كانت قصة موته مدبرة إذن ليصرف عنها الناس، وليخلو إليها، أو قل ليختطفها، فهو مصمم على ذلك، وهو واثق بأنها لن تمتنع عليه؛ لأنه يعلم أنها تحبه، وهي تستطيع أن تنكر هذا الحب، وأن تلح في هذا الإنكار، فلن يزيده إنكارها إلا ثقة بأنها تحبه وتهيم به.
وقد استحال هذا الرجل العنيف الغليظ القاسي السوقي إلى رجل مترف، رفيق رقيق شاعر حقا، فهو في هذه المرة محب لا بحسه وشهواته، بل بقلبه وعقله وعواطفه، وهو يتحدث إلى هذه المرأة أحاديث حب ترق حتى كأنها النسيم، وتعنف حتى كأنها النار المحرقة، ثم انظر إليه يغيب لحظة ويعود ومعه الصورة التي سرقت من المصور، والتي كان يريد أن يشتريها فلم يستطع، هو الذي سرقها متواطئا مع الشرطة، أو قل سرقها الشرطة له، وأي شيء أيسر من ذلك؟ إن له الأمر والنهي في باريس، ثم انظر إليه يغيب لحظة ويعود ومعه حقيبة لا يكاد يظهر ما فيها أو بعض ما فيها حتى يسحر هذه المرأة، فيها ما شاءت وما لم تشأ من الحلي، وفيها ما شاءت وما لم تشأ من الثياب، أليس قد رشا خادمها في باريس وعرف منها ذوق سيدتها وقدها، فهو يشتري لها من الحلي ويصطنع لها من الثياب ما يلائم ذوقها وقدها معا؟ والمرأة تسمع وترى وتفكر، فيسحر عقلها سحرا ويظهر حبها واضحا جليا صريحا، وهي متهيئة لتذهب معه، وقد طلب إليها أن تتخذ ثوبا بعينه وقبعة بعينها لهذا الرحيل، ففعلت، وهو يطلب إليها آخر الأمر أن تكتب كلمة لزوجها تنبئه بهذا الرحيل، فتطيع، وتكتب ويقرأ هو بعض ما تكتب، فيجن جنونه ويذهب لبه، أليس يقرأ أنها تحبه؟ وقد أتمت كتابها وتركته على المائدة ونهضت لتمضي معه ولكنها مفتونة به، مستسلمة له، وهو هائم بها، وهو يريد أن تمنحه القبلة الأولى، وهي بين ذراعيه، وهو هائم أو مجنون، لا يكاد يصدق سعادته، ولكن ماذا؟ إنها تسقط إلى الأرض! إنه ينظر! إنه يصيح ويستغيث! إن سكرتيره يدخل فإذا ذات القفاز الأخضر قد قتلت نفسها، وإذا هي قد تركت لزوجها هذه الكلمات: «أموت لأني أحب بروسكا .»
والمرأة تحمل إلى سريرها، وهذا الرجل القوي العنيف قد استلقى على كرسي منهزما لأول مرة هزيمة لا سبيل إلى تلافيها ولا إلى إصلاحها، هزمته امرأة لأنها استعانت عليه بالموت.
سن جولييت
أما القصة التي سنتحدث عنها اليوم فيسيرة حقا، توشك لسذاجتها أن تكون حديثا من أحاديث العامة في أسمارهم، أو خبرا من هذه الأخبار التي تنشرها الصحف عن سذاجة الشباب واندفاعهم بين حين وحين.
ومع ذلك ففي هذه القصة اليسيرة ما يدعو إلى التفكير، وفيها بعد هذا شيء من الظرف وخفة الروح، يجعل قراءتها حلوة وتأثيرها في النفس عميقا. وقد عاب النقاد على صاحبها أمورا ستراها أثناء الحديث، ولكن النظارة لم يعيبوا عليه شيئا؛ لأن سذاجة القصة وقوتها وجمال الحوار فيها، كل ذلك قد شغلهم عن النقد والتحليل وعن التفكير والتعليل، فالقصة تأخذ القارئ والمشاهد منذ تبتدئ أخذا يسيرا، وتخلق حوله جوا هادئا حلوا فيه ابتسام، وفيه ضحك، وفيه توقع لشر عظيم، كان خليقا أن يحزن ويخيف لولا أن كل ما حوله من الظروف ضاحك يخيل إليك بل يكاد يحملك على الجزم بأن هذا المكروه لن يكون.
فالقصة تحدث بين شابين يجدان ولكن كما يجد الشباب؛ أي يقدمان على أمور يحسانها أكثر مما يقدرانها، فهما إلى اللعب أقرب منهما إلى الجد، وأنت تحس منذ تتقدم القصة بعض الشيء أن هذا الفتى الذي لم يتجاوز التاسعة عشرة من عمره، وهذه الفتاة التي لم تتجاوز السابعة عشرة يقدمان على أمر خطير، ولكن من حولهما قوى خفية تعصمهما من الشر وتحول بينهما وبين الخطر الذي يسرعان إليه.
ونحن حين نرفع الستار في مطعم فخم من هذه المطاعم الباريسية التي أقيمت في غابة بولفي نرى الخادم يهيئ غرفة خاصة من غرف الطعام لشخصين اثنين، ونرى في هذه الغرفة ما يرى في أمثالها من هذه الأشياء التي تغري بالإثم وتدعو إليه، لا نلبث أن نرى امرأة رشيقة رائعة الجمال قد أقبلت وسألت عن رجل بعينه، فتنبأ بأنه سيأتي بعد قليل، وتدعى إلى انتظاره، فتدخل الغرفة ، ولا تكاد تنظر فيها حتى تضيق بها وحتى تثور نفسها ثورة عنيفة لأنها رأت دواعي الإثم والمغريات بالفساد، وكانت في أكبر الظن تقدر أن صاحبها قد دعاها إلى طعام بريء، فلما رأت ما رأت أبت البقاء وانصرفت عن هذه الغرفة نافرة، وتركت الخادم حيران باسما.
ثم يأتي صاحب المطعم فإذا عرف النبأ لم يحفل به، ولم يأبه له، وماذا يعنيه من هذه المرأة وصاحبها وقد تحدث إليه في التليفون فندق من أكبر الفنادق في باريس، هو فندق كلاردج، يدعوه إلى أن يهيئ غرفة خاصة للغداء، وينبئه بأن أميرا شابا أجنبيا سيبلغ مطعمه بعد قليل ومعه صاحبة له تقاربه في السن، وصاحب المطعم مغتبط بمقدم هذا الأمير، وهو يوصي الخادم بأن يعنى بهما في الخدمة، بأن يعنى بهما في ثمن الطعام أيضا، فما ينبغي أن يقل ثمن الغداء عن مئات من الفرنكات يجب أن تكون ستا وجائز أن تزيد.
وما هي إلا لحظات حتى يقبل الأمير الشاب ومعه زوجه الشابة أيضا، فإذا فتيان كأنهما صبيان فيهما سذاجة الشباب وغفلته، وفيهما جهله وغروره، وهما يتكلفان الجد ويتصنعان أخلاق من تقدمت بهم السن شيئا، وصاحب الفندق وخدمه يتملقونهما ما وسعهم التملق، وهما يقبلان منهم هذا التملق في سذاجة مؤثرة ودعابة حلوة، والخادم يعرض عليهما من ألوان الطعام أغلاها وأندرها، وهما يقبلان في غير تحفظ ولا تحرج، والساقي يعرض عليهما كذلك من أنواع النبيذ أكرمها وأقدمها وأغلاها طبعا فيقبلان كل ما يعرض عليهما، يظهران أنهما قد ألفا هذا كله وعاشا فيه، فإذا خلا كل منهما إلى صاحبه في غيبة الخادم والساقي بين لون ولون رأيناهما سعيدين مبتهجين بما يأكلان وما يشربان وما يريان، وعرفنا أنهما يشهدان هذا كله لأول مرة، ثم لا نلبث أن نتبين حقيقة أمرهما، فهما من أسرتين كانتا صديقتين ثم نجم بينهما الشر وكان بينهما العداء، وفسد الأمر بينهما لأن الدهر واتى أسرة الفتاة فمنحها الثروة والغنى، وحفظ على أسرة الفتى منزلتها المتواضعة، فنشأ بينهما ما ينشأ بين الأغنياء والفقراء من هذا الاختلاف الذي يفسد المودة ويغير الصلات، ولكنهما كانتا قد اتفقتا منذ عهد بعيد على أن يكون كل من الصبيين لصاحبه. ونشأ الصبيان يسمعان هذا الحديث في الأسرتين حتى ألفاه واطمأنا إليه، واستيقن كل واحد منهما أن حياته وقف على حياة صاحبه وأنه سيكون لصاحبه زوجا، فنشأ معهما حب قوي طبيعي ساذج لا تكلف فيه ولا عناء، بقي على قوته وصدقه حتى بعد أن فسدت الصلات بين الأسرتين.
ثم أخذت أسرة الفتاة تتحدث إليها عن الخاطبين والفتاة ترفض وتلقى في رفضها نكرا، وأخذت أسرة الفتى تتحدث إليه عن الفتيات اللاتي يستطيع أن يختار بينهن فيرفض ويلقى من رفضه نكرا، حتى انتهى الأمر بهما إلى شر ما كان يمكن أن ينتهي إليه وأصبحت حياتهما عذابا متصلا، واستيأسا من ثمرات هذا الحب الذي رافقهما طول أيام الصبا ورافقهما في أول الشباب وامتزج بهما حتى لا يستطيعان منه تخلصا ولا عنه انصرافا.
وهما قد التقيا هذا اليوم على ألا يفترقا بعده أبدا أو قل قد التقيا على ألا يعودا إلى أسرتيهما، وهما ينظمان أمرهما تنظيما لا تكلف فيه ولا مشقة، ويستقبلان حدثا عظيما يقدمان عليه في غير حزن ولا جزع، بل في سرور لا يشبهه سرور، وابتهاج لا يعدله ابتهاج، فهما قد أزمعا أن يموتا معا، وأقبلا إلى هذا المطعم يلتمسان الموت، ولكنهما يريدان أن يموتا فرحين، فهما يقدمان بين يدي الموت غداء لذيذا فيه ما تشتهي الأنفس من ألوان الطعام والشراب، وهما يحملان السم الذي سيخلصان به من الحياة.
وهما يتحدثان عن هذا كله في دعابة ومزاح واغتباط أيضا، والخادم يدخل ويخرج فيقطع عليهما الحديث، والساقي يذهب ويجيء فيقطع عليهما الحديث أيضا، ولكن الخادم معجب بهما عاطف عليهما، قد راقه شبابهما النضر، ووقع في نفسه حديثهما الحلو، وأحبهما حبا ستظهر آثاره بعد حين، وقد أزمع العاشقان أن يكتب كل منهما إلى أسرته كتابا قصيرا ينبئها فيه بموته، ويعتذر إليها منه، ويطلب إليها أن تدفنه مع صاحبه، وقد كتبا هذين الكتابين أثناء طعامهما .
وهذا طعامهما قد انتهى وقد أخذا يعدان السم، فملأ كل منهما قدحا من الماء، وهم أن يلقي فيه أقراصا مهلكة، ولكن الباب يفتح وصاحب الفندق يدخل وهو يخفي غضبا عنيفا، ويظهر سخرية لاذعة، ذلك أنه تبين أن هذا الشاب ليس أميرا وأنه لم يأت من فندق كلاردج وأنه ليس غنيا، فقد سقطت من معطفه تذكرة من تذاكر المترو ومن تذاكر الدرجة الثانية، فأقبل صاحب الفندق يستوثق من أمرهما، وما هي إلا أن يكون بينه وبينهما حوار قصير حتى يتبين عجزهما التام عن أداء الحساب، فليس مع الفتى إلا فرنك واحد، وقد كان معه خمسون من الفرنكات، ولكنه ألقاها في بعض دعابته إلى هذا الموسيقي الذي جاء يوقع لهما لحنا أثناء الطعام، وليس حسابهما يسيرا فهو يتجاوز مئات سبعا من الفرنكات، وصاحب الفندق ثائر، وهو يطلب إلى الخادم شارل أن يسوق هذين اللصين إلى دار الشرطة، وأن يسرع في ذلك ولا يتلكأ، والخادم يجاريه في ثورته ويأخذ العاشقين أخذا عنيفا ويدفعهما أمامه دفعا، حتى إذا بلغ بهما الباب قال لهما، وهو يزجرهما وينهرهما: سأسلك بكما طريق كذا لأنها خالية أو كالخالية من الناس، ويجب أن تسعيا سعيا، وإياكما أن تعدوا، فإني مريض لا أستطيع العدو، أتسمعان؟ وقد فهم العاشقان عن هذا الخادم فهما يشكرانه، وفهمنا نحن كذلك عن هذا الخادم فنحن واثقون بأنهما لن يدفعا إلى الشرطة ولن يلقيا من الخادم شرا.
ثم يرفع الستار عن الفصل الثاني، وإذا نحن في جناح من أجنحة هذا الفندق الباريسي الفخم - فندق كلاردج - نرى خادمين تهيئان الغرف لاستقبال مسافرين سيصلان بعد لحظات، وهما تتحدثان عن هذا الجناح بأنه الوحيد بين غرف الفندق كلها لم يقع فيه شر ولم يقترف فيه إثم ولم تزهق فيه نفس منذ ثلاثين عاما، فأما بقية ما في الفندق من غرفات وحجرات فلكل واحدة منها ذكر وتاريخ، في هذه قتل مسافر، وفي هذه سرقت حلي، وفي هذه قتل بعض الأغنياء نفسه، وفي هذه قبضت الشرطة على فلان من رجال المال . والخادمان تمضيان في حديثهما هذا، وإذا الباب يفتح ويدخل منه بعض خدم الفندق يحمل حقيبتين ضخمتين يدل منظرهما على أنهما قد تعودتا الأسفار البعيدة في البلاد المختلفة في القارات كلها، ولا يكاد هذا الخادم يضع الحقيبتين حتى يأتي العاشقان الشابان اللذان رأيناهما في الفصل الماضي.
وهما يزعمان أنهما من المستكشفين الذين يطوفون في الأرض، ويجوبون أقطارها ويألفون خشونة العيش ويزهدون في الترف وما يتصل به، وهما من أجل ذلك يصرفان الخدم ولا يقبلان مما يعرضون عليهما شيئا، فإذا خلا كل واحد منهما إلى صاحبه وأغلق من دونهما الباب عرفنا أنهما لم يكادا يفارقان المطعم حتى استأنفا سعيهما إلى الموت وتدبيرهما لفراق الحياة، وكان الفتى يملك ساعة ذهبية فباعها واشترى بثمنها هاتين الحقيبتين ثم أقبل بهما مع صاحبته إلى الفندق الفخم يلتمسان الموت، وهما لا يريدان أن يموتا موتا يسيرا مبتذلا، وإنما يريدان أن يموتا موتا فخما في مطعم مترف أو في فندق عظيم، وقد حيل بينهما وبين الموت في المطعم ولكنهما أصابا فيه غداء حسنا، ولن يحال بينهما وبين الموت في هذه الغرفة التي أغلق بابها من دونهما إغلاقا، وأمامهما ساعتان يجب ألا تنقضيا حتى يكونا قد قطعا الأسباب بينهما وبين الحياة والأحياء، وهما كما رأيناهما في الفصل الأول يستقبلان الحدث العظيم مبتهجين أشد الابتهاج، ولكن هذه الخلوة في هذه الغرفة الأنيقة من وراء هذا الباب المغلق تثير في نفسيهما الغريرتين شيئا من الاضطراب الغامض الذي لا يتبينانه في وضوح، ولكنهما يحسانه إحساسا قويا ويظهر أثره في حديثهما وحركاتهما وما يتبادلان من نظرات.
وهذه الفتاة قد دخلت الحمام فلم تكد تراه حتى شغفها ما فيه من جمال وزينة، وهي مشوقة إلى أن تستحم في هذا الحوض وتلف جسمها في هذا الرداء وتستمتع بهذا الترف النادر لحظة قبل أن تموت، وصاحبها لا يأبى عليها ذلك وإنما يرخص لها فيه، فقد ذهبت لتستحم، وبقي الفتى يكتب كتابا آخر لأبيه، وهي تحدثه من حمامها وهو يجيبها، ونحن لا نحس في حديثهما كله إلا صفاء ونقاء، وعفافا وطهرا واضطرابا شديدا مع ذلك، ولكنه اضطراب يجهلان مصدره كما يجهلان غايته، وهذه الفتاة قد أقبلت من الحمام ملتفة في ردائه، سعيدة راضية ناعمة البال، تداعب صاحبها وتلاعبه، ثم تعزم عليه أن يفعل كما فعلت وأن يستحم في الماء الذي استحمت فيه، والفتى يمانعها ويأبى عليها، ثم يستجيب لها ويذهب إلى الحمام ويعود بعد حين وقد التف في رداء من أردية الحمام، ولكنه يرى الفتاة واجمة ذاهلة، تريد أن تسأل عن شيء، ولكنها لا تستطيع لأنها لا تجد وسيلة إلى السؤال، وهي لا تثق بأن صاحبها سيجيبها إن سألته.
والفتى يلح عليها في أن تلقي سؤالها وقد أخذ الاضطراب يسعى فيه كما سعى فيها، ولكنه يقاوم هذا الاضطراب مقاومة حسنة، ثم يستبين الأمر، ويعرف هذا السؤال الذي لا تستطيع الفتاة أن تبين عنه، فهما عاشقان، وقد أتيح للغريزة أن تعرب عن نفسها، ثم أن تفرض نفسها على العقل والإرادة فرضا، وكانت الفتاة أسرع إلى الانهزام من الفتى، فهي تسأل وتلح في السؤال وهي تدعو وتلح في الدعاء، هادئة حينا ثائرة حينا آخر، وديعة مرة عنيفة مرة أخرى، وقد قاوم الفتى ما استطاع أن يقاوم ذاكرا طهرهما ونقاءهما وما ينبغي لهما من الاحتفاظ بهذا الطهر والنقاء، ولكن الفتاة يائسة من الحياة وهي تستقبل الموت وستلج بابه بعد لحظات، ففيم الاحتفاظ بشيء، ولم الاحتفاظ بشيء؟ وقد ضعف الفتى، وأخذت الهزيمة تدركه، ولكن طرقا خفيفا يمس الباب فيفرق بين هذين العاشقين، ثم يفتح الباب ويدخل عاملان يريدان أن يتعهدا أسلاك الكهرباء، وإذا هذه الخلوة التي قطعت على هذين العاشقين قد فرضت عليهما، فهما يدعان للعاملين هذه الغرفة ليتعهدا فيها أسلاك الكهرباء، ويخلوان في غرفة أخرى، ونرى نحن العاملين يعملان ونسمعهما يتحاوران، ثم نراهما ينصرفان بعد أن أتما عملهما.
ويظل الملعب خاليا أمامنا لحظات، ثم يقبل العاشقان، وقد تغير من أمرهما كل شيء فهما قد عرفا الحب، وهما مع ذلك يستقبلان الموت أكثر سعادة وابتهاجا مما كانا قبل حين، وهما يهيئان سمهما في قدحين وهما يخلطان الدعابة بالجد، ويخلطان الحب بالموت، وقد شربا قدحيهما واضطجعا معا على مضجع واحد، لا يجدان ألما، وإنما يحسان سعادة ونعيما ويتبادلان أحاديث تتقطع قليلا في صوت يخفت شيئا فشيئا، حتى لا يكاد يسمع، ثم يلقى بيننا وبينهما الستار، ولا ينبغي أن تحزن أيها القارئ، ولا أن يأخذك شيء من الأسى، فهذا الستار يرفع أمامك، وانظر فسترى هذين العاشقين قد أغرقا في نوم عميق، ولكن أين هما؟ إنهما في غرفة من غرف أحد المستشفيات في باريس قد وضعا في سريرين متجاورين، وأنت تراهما، فلا ترى موتا، وإنما ترى نوما عميقا، ثم انظر فهذه الممرضة قد أقبلت تسعى بين يدي الأستاذ الطبيب، وهذا الطبيب ينظر إليهما، ثم يلتمس نبضهما، ثم يدعوهما فلا يجيبان، ثم ينصرف عنهما مطمئنا مستيقنا أنه قد استنقذهما من الموت الذي ألقيا نفسيهما في أحضانه منذ ثلاثة أيام.
ولا يكاد الطبيب ينصرف عنهما حتى يتحرك الفتى قليلا ثم تتصل حركته، ثم تبلغه اليقظة شيئا، وإذا هو يتحدث إلى نفسه، وإذا هو مستوثق أنه في العالم الآخر، وقد لمست يده ريشة نجمت من الوسادة التي أسند إليها رأسه فهو يظن أنه قد أصبح ذا جناحين يطير بهما في العالم الذي لا ينتهي، وهو يلتمس أصل جناحيه فلا يجد شيئا، واليقظة تسعى إليه، ثم تهجم عليه، وإذا هو قد أفاق، وإذا هو يفتح عينيه، ويرى ما حوله، ويستيقن أنه لم يمت، وإذا هو يرى صاحبته مغرقة في النوم، وهو يدعوها، ويدعوها، ويصيح بها، ويلح عليها، ثم ماذا؟ إنها هي أيضا تتحرك ثم تستيقظ، ثم تفيق ثم ترى صاحبها، ثم تسأله أين هما، فيجيبها مازحا نحن في السماء، ثم ينتهيان إلى هذه الحقيقة التي لا يعرفان أحلوة هي أم مرة، وهي أنهما لم يموتا، وهذه الممرضة قد عادت إليهما فتراهما مستيقظين، وتبشرهما بالإفلات من الموت فلا يفرحان، ولعلهما إلى الحزن أقرب منهما إلى الفرح، فما خطب الأسرتين؟ وماذا قالتا حين انتهى إليهما النبأ؟ وماذا تريدان أن تصنعا بهما ؟ وهذه الممرضة تنبئهما بأن رجلا وامرأة يريدان أن يرياهما، والفتيان مشفقان أشد الإشفاق من هول ما سيريان وما سيسمعان.
فإذا أقبل هذان الزائران عرفنا أنهما عم الفتى وعمة الفتاة قد وكلت إليهما الأسرتان العناية بهذين الآثمين اللذين لا يستحقان من أهلهما عناية ولا حماية، وهذان الزائران يغلظان للمريضين، ثم ينبئانهما بما قرر أهلهما في أمرهما، فسيتزوجان، ولكن كل صلة بينهما وبين الأسرتين مقطوعة لا سبيل إلى وصلها، وعليهما أن يكسبا حياتهما، فأما الفتاة فستعمل في تجليد الكتب، وأما الفتى فسيعمل مع أحد المقاولين، وقد انصرف الزائران وخلا كل من العاشقين إلى صاحبه وقد أفاقا من نومهما حقا، وأفاقا من أحلامهما أيضا، فأين الحب وبهجته، وأين الموت وراحته من هذه الأحاديث التي كانا يسمعانها، أحاديث العمل والجد والكد والفقر والجهاد في سبيل الحياة؟! وأين هذا الترف الذي كانا يفكران فيه قبل أن يموتا، ويبأسان منه حين كانا يلتمسان الموت، من هذا الشظف الذي يقبلان عليه؟! وهذا الفتى الذي كان طالبا في مدرسة الفنون الجميلة يتهيأ لهندسة العمار، لن يكون مهندسا، ولن يشيد الدور والقصور والكنائس الفخمة، ولكنه سيكون عاملا عند أحد المقاولين!
هما محزونان وهما يترددان بين احتمال الحياة المرة التي تعرض عليهما والرجوع إلى الموت الحلو الذي خرجا منه، ولكن زائرا قد أقبل عنيفا غليظ الصوت، كثير اللوم، حلو النفس مع ذلك، لا يكاد العاشقان ينظران إليه حتى يعرفاه، فهو شارل خادم المطعم قرأ قصتهما في الصحف فأقبل يسأل عنهما، وهو سعيد لنجاتهما، وهو بر بهما عطوف عليهما، إنه يقرضهما ما يحتاجان إليه من مال ليستقبلا حياة هادئة وليتم الفتى درسه، إنه يحمل إليهما بعض ألوان الطعام التي أحباها في المطعم منذ أيام، إنه يطعمهما بيديه ويأخذ عليهما عهدا ألا يسعيا إلى الموت مرة أخرى.
هذه القصة كما لخصتها لك يسيرة أشبه شيء كما قلت بأحاديث العامة في أسمارها، ولكني أزعم أنك لا تستطيع أن تقرأها بالفرنسية حتى تفتن بها وتحاول أن تعيد قراءتها، فهي قد كتبت في أسلوب عذب سهل مؤثر حقا، ولكن النقاد ينكرون - كما قلت - على الكاتب أمورا، فهذا الخادم شارل قد أقبل في الفصل الثالث لينقذ الموقف ليس غير، لا تدعو القصة إلى مقدمه وإنما هو قد اخترع اختراعا، وهذه الدعابة المتصلة والمزاح المستمر قبل الموت وبعد الموت، شيء غير مألوف، وهاتان الأسرتان اللتان تنتهي القسوة بهما إلى هذا الحد لا يعرفهما الناس في الحياة المتحضرة، والقصة بعد هذا كله متأثرة بقصة شكسبير روميو وجولييت، وعنوان القصة مشتق من قصة شكسبير، فالعاشقان يختلفان وقتا ما في سن جولييت أكان خمس عشرة سنة أم كان اثنتي عشرة سنة، ولكن أخذ القصص الرائعة الخالدة وتعصيرها كما يقول بعض الكتاب مباح بشرط ألا يكون فيه إفساد لهذه القصص، ولا إخراج لها عن طورها الرائع الجميل.
وكل هذه الملاحظات في نفسها وجيهة معقولة، ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن النظارة قد وجدوا في شهود القصة راحة ومتاعا، وأن القراء يجدون في قراءتها راحة ومتاعا أيضا، فقد يكون الكاتب مقصرا في ذات الفن، ولكنه لم يقصر من غير شك في ذات النظارة ولا في ذات القراء، ومن الكتاب من يكفيه هذا المقدار من الإجادة.
مدام خمسة عشر
في عنوانها شيء من الغرابة الظاهرة، ولكنها من أروع القصص التمثيلي الفرنسي الذي ظهر في هذه الأعوام الأخيرة، ولعلها كما يقول بعض النقاد أن تكون أروع ما ظهر في هذا الفصل، بل أروع ما ظهر في هذا العام.
فيها فلسفة وتاريخ وشعر معا، وفيها مع ذلك ملاءمة رائعة بين ما ينبغي لملعب التمثيل وما ينبغي للسينما، وما أظن أن هذه القصة ستمضي دون أن تعرض على الناس في أطراف الأرض من طريق السينما، فهي كأنها أنشئت للسينما إنشاء بفضل هذه المناظر القصار المتلاحقة التي يتصل بعضها ببعض في حقيقة الأمر، ويكاد كل واحد منها يستقل عما قبله وما بعده، والتي تجمع بين ما ينبغي للتمثيل من الرزانة والهدوء، وما ينبغي للسينما من الحركة والنشاط، وقد مثلت القصة في بيت موليير كما رأيت ؛ أي في أشد الملاعب الفرنسية حرصا على المحافظة واحتياطا في التجديد، وستراها من غير شك ذات مساء في دور السينما فتعلم أن صاحبها قد وفق إلى فوز عظيم حين استطاع أن ينشئ قصة تصلح لبيت موليير وللسينما دون أن تحتاج مع ذلك إلى أن يمسها تغيير أو تبديل.
وفي القصة كما قلت تاريخ وفلسفة وشعر، ولكن يجب أن نلاحظ أن الكاتب لم يكد يأخذ من التاريخ إلا الأسماء والأشكال وبعض الأوضاع، ولم يكد يأخذ من الفلسفة إلا بحظ معتدل جدا، لا يرتفع على أوساط الناس؛ لأنه إنما يضع القصة لأوساط الناس هؤلاء، فأما الشعر فقد أخذ منه الكاتب بأعظم حظ ممكن أن يحتمله النثر والحوار.
ولننظر قبل كل شيء إلى موضوع القصة وإلى الغرض الذي توخاه الكاتب حين أنشأها، والواقع أن العنوان الذي رأيته لا يصف القصة وصفا دقيقا، ولعله أعجب الكاتب فانصرف إليه دون عناية شديدة بالتدقيق، فموضوع القصة - إن صدقنا العنوان - هو هذه السيدة التي سماها مدام خمسة عشر، ونحن نجد هذه السيدة في القصة ونجد لها شخصية قوية، ولكننا نجد كما لاحظ بعض النقاد شخصية أخرى أظهر منها وأشد قوة، وهي شخصية رجل يمكن أن نسميه مسيو خمسة عشر، وهو لويس الخامس عشر ملك فرنسا. وظاهر أو غير ظاهر لمن لم يحسنوا تاريخ هذا الملك أن السيدة التي يتحدث الكاتب عنها هي مدام دي بونبادور عشيقة الملك التي فتنته واستأثرت بقلبه ولبه، وتسلطت على قصره وملكه، واستغلت بأسه وسلطانه فأحسنت وأساءت، وأثرت في الحياة الفرنسية والسياسة الفرنسية أثناء القرن الثامن عشر أبلغ الأثر وأعمقه، وقد ظن الكاتب أنه يصور في قصته حياة هذه المرأة ذات الجمال الرائع والسحر البارع والقلب الذكي والعقل الخصب، ولكنه لم يصور من حياتها إلا شيئا يسيرا على حين صور حياة الملك تصويرا قويا واضحا شديد التأثير في النفوس، وأعطى من الملكة نفسها صورة إلا تكن بارزة كل البروز فهي صادقة كل الصدق.
وقد قلت إن الكاتب لم يأخذ من التاريخ إلا الأسماء وبعض الأوضاع والأشكال، وهو نفسه يقول ذلك في مقدمة كتبها لقصته ونشرها في الصحف الباريسية قبل أن تمثل، وهو ينبئنا بأنه لم يصور الملك كما يراه التاريخ، بل صوره كما يراه هو، أو كما يجب أن يراه، فالتاريخ يرى - أو كان يرى إلى وقت قريب - هذا الملك رجلا ضعيفا، شديد الضعف، مترفا، مسرفا في الترف، متهالكا على لذاته إلى حد يبلغ الخزي، مستسلما للنساء من خليلاته استسلاما يسقط المروءة أو يكاد يسقطها، مهينا بهذا كله لملك فرنسا العظيم، وعرشها المجيد لا حظ له من إرادة ولا من تفكير، ولا من محاولة للإرادة والتفكير، ذلك إلى ما ينكره التاريخ على هذا الرجل وعلى وزرائه من إفساد للسياسة الفرنسية الخارجية والداخلية معا، ومن تهيئة فرنسا للثورة التي نجمت فيها بعد موته بأقل من عشرين سنة.
كذلك كان التاريخ يرى هذا الملك، بل كذلك كان كثير من المعاصرين لهذا الملك يرونه ويحكمون عليه في أحاديثهم ومذكراتهم، ثم جاءت الثورة فأكثرت من التشهير به، وبالغت في التشنيع عليه، واستقرت السنة التاريخية على أن هذا الملك قد كان من شر من عرفت فرنسا من الملوك، ولكن حركة ظهرت في الأعوام الأخيرة فيها دفاع عن هذا الملك واستكشاف لشيء من الحسنات يضاف إليه، وتفسير لبعض الأعمال التي لم تفهم على وجهها، والتي لم تكن لتصدر عن ملك ضعيف شرير، وإنما هي خليقة أن تصدر عن ملك قوي خير.
وصاحب هذه القصة لم يخترع إذن هذه الشخصية الجديدة للملك الفرنسي اختراعا، وإنما ذهب في تصويرها مذهب هؤلاء المؤرخين المعاصرين الذين نهضوا يدافعون عنه، ويفسرون ما أبهم من سيرته على الناس، ولكنه على ذلك قد تجاوز الحد الذي انتهى إليه هؤلاء المؤرخون وأصبح مادحا للملك، غاليا في مدحه، يصوره كما يتمنى أن يكون لا كما كان بالفعل، وهو يعترف بذلك في غير تردد ولا تحفظ، وهو يستخدم قوته الشعرية كلها في إنشاء هذه الصورة الجذابة للملك، فيبلغ من ذلك كل ما يريد، وهو لم يقسم قصته إلى فصول ، وإنما قسمها إلى أجزاء ثلاثة، وقسم كل جزء من هذه الأجزاء إلى مناظر تتصل فيما بينها ولكنها في ظاهر الأمر منفصلة، تحتاج إلى أن يرخى الستار ويرفع فيما بينها.
فأما الجزء الأول من أجزاء القصة فيصور حياة الملك وحياة صاحبته أثناء الشباب حين أتيح لهما أن يلتقيا وبعد أن تم لهما هذا اللقاء، وحين كان الحب بينهما قويا وعنفا.
أما الجزء الثاني فيصور حياتهما بعد أن مضت على هذا الحب أعوام فضعفت حدته وفتر نشاطه، وأصبح شيئا يشبه العادة اللازمة التي لا يستطيع أحدهما أن يخلص منها، ولكنها مع ذلك ثقيلة عليهما معا.
وأما الجزء الثالث فيصور حياتهما حين تقدمت بهما السن فمات الحب وأصبحت حياة هذه المرأة في القصر حياة فرضتها العادة ليس غير، وهي في الوقت نفسه حياة تسرع بها إلى الموت ثم تنتهي بها إليه، وقد ضعف الملك، وبلغت منه الشيخوخة، شيخوخة القلب والجسم معا، فهو فيما بينه وبين نفسه فيلسوف زاهد يائس، ولكنه يتكلف اللهو والدعابة والمجون إذا خرج إلى أهل القصر؛ لأنه يرى ذلك أساسا من أسس الملك.
ونحن حين يرفع الستار عن الفصل الأول في قصر من قصور الأشراف في الريف الفرنسي نرى رجلين يتحدثان: أحدهما مسيو بواسون والآخر صديق له، ومسيو بواسون هذا رجل من الأغنياء، كان يشتغل بتجارة الدقيق فأسرف في تجارته وغلا في طلب الربح حتى انتهى بالباريسيين إلى الجوع، فعوقب أشد العقاب ونفي من باريس واضطر إلى حياة الأقاليم، وهو لم يستيئس بعد من استئناف الحياة والنشاط، بل له آمال كبرى يتحرق على تحقيقها، وهو يتأذى كلما رأى رجلا من طبقته قد ارتفع إلى طبقة الأشراف وظفر بلقب من ألقابهم. وله ابنة جميلة رائعة الجمال، فاتنة الصورة، هي أنطوانيت، اقترنت برجل من الأشراف هو مسيو دي تيول، ونحن الآن في قصرها، وإذا رأينا هذه المرأة الجميلة الشابة عرفنا أن جمالها وذكاءها ومكانة زوجها وثروته، كل ذلك قد مكنها من أن ترفع نفسها إلى مكانة اجتماعية عالية حقا، فكبار الأدباء والشعراء يختلفون إلى قصرها، وهي منهمكة فيما كان ينهمك فيه أمثالها من قراءة الشعر والاستماع له، ومن الاشتراك في التمثيل الغنائي والقصصي، وهذا فولتير يخرج من عندها في الوقت الذي يرفع فيه الستار. وزوجها يحبها أشد الحب ولكنه لا يلقى منها حبا يلائم حبه، وإنما يجد فتورا وإعراضا وانصرافا إلى اللهو واللعب والأدب، وهو يشكو من ذلك، ولكنها لا تحفل بشكاته، وإنما تأخذه بالعبث مرة وبالجد والنذير مرة أخرى، وهو مذعن مطيع لأنه محب مفتون، بل نحن نحس من هذه المرأة شيئا آخر، فهي قبل كل شيء حرة غالية في الحرية، قد أحبت حين كانت في العاشرة من عمرها فتى من أبناء الأطباء وكلفت به، ولكنه لم يحفل بهذا الحب الصبي، وهي تقص ذلك على زوجها، وتغيظه به، وهي منذ أن كانت تتنزه في الغابة فرأت موكب الصيد ورأت الملك فأحبته وسمت نفسها إليه وأطالت التفكير فيه، وتعرضت للقائه غير مرة وهي تعلم أن الملك قد لاحظها، وهي تطمع في أن ترقى حتى تبلغ حب الملك. وهذا قريب لها من الأشراف يعمل في الخدمة الخاصة للملك، وهي تتحدث إليه عن الملك، وهو يجيبها مغريا لها، ضاحكا منها، محدثا نفسه فيما يظهر بأنه قد يبلغ بتقديمها إلى الملك حظوة عنده.
ويسدل الستار على هذا المنظر، وقد تهيأت نفس هذه المرأة لحب الملك والسعي إليه، وتهيأت نفس زوجها للخضوع والإذعان، وتهيأت نفس أبيها للطمع وتحقيق المآرب مهما يكلفه ذلك من تضحية.
فإذا رفع الستار عن المنظر الثاني فنحن في قصر الملك بفرسايل، وفي غرفة من غرفات الملكة نراها تدخل على وصائفها فتحييهن وتنبئهن بأنها قد نامت هذه الليلة مع أنها لم تتعود النوم، وتفهم من حديثها أنها امرأة صالحة، رقيقة القلب، كثيرة البكاء، سيئة الحظ، قوية الدين. ونحن في غداة اليوم الذي تزوج فيه ولي العهد، والملكة تسأل عن العروسين، وهذان العروسان قد أقبلا يحييانها، وهي تقبل ابنها وتتحدث إليه حديثا رقيقا، وتركع مع وصائفها للصلاة، وهذا الملك يقبل فيشاركهن في صلاتهن ، ثم يتحدث إلى ابنه وإلى امرأته، فنفهم من الحديث أن الفتى يؤثر أمه، ويؤثر الحرب، وأن الملك يعلم منه ذلك ويألم لضعف مكانته في قلب ابنه، ثم يخلو الملك إلى الملكة فيتحدثان ويتعاتبان، فإذا الملكة تشكو هجر الملك وصده، وإذا الملك يرد عليها هي إثم هذا الهجر لأنها أسرفت في الجد، ولم تلاحظ ما كان ينبغي للشباب من نشاط ومرح، فاضطرته إلى أن يلهو ويلعب بعيدا عن غرفاتها مع أنه أحبها أشد الحب وأصدقه، ولم يبق بد من هذه الحياة الجديدة التي فرضتها عليه الظروف، فهو قد رسم لنفسه خطة في اللهو أصبحت شيئا يشبه القانون لا سبيل إلى التخلص منه، وهذا رجل من الحاشية قد أقبل يدعوهما إلى الصلاة فيخرجان، ويسدل الستار على هذا المنظر، وقد فهمنا حياة الملك الخاصة في أسرته، فهو يحب امرأته ولكنه يخونها ويسرف في الخيانة لأنها صاحبة جد ودين، ومزاج هادئ لا تواتيه فيما يحب من المرح، وهي تعلم ذلك وتذعن له محزونة محبة لزوجها، وولي العهد يحب أمه، ويكبر أباه، ويتحرق شوقا إلى الحرب.
ثم يرفع الستار عن المنظر الثالث، فإذا نحن في قصر البلدية في مدينة باريس، والمدينة تحتفل بزواج ولي العهد؛ فتقيم لذلك عيدا راقصا قد سعى إليه الباريسيون على اختلاف طبقاتهم وهم منقبون، قد اتخذوا من الأزياء ما يخفي أشخاصهم، وقد حضر ولي العهد هذا العيد وقتا ثم انصرف، ونحن نرى في هذا القصر أنطوانيت قد أقبلت ومعها أبوها، وكأنها تنتظر شخصا، بل هي تنتظر الملك، تنتظر أن تراه، ومن يدري لعله يكلمها، فقد يجوز أن يكون قريبها سعى في هذا اللقاء، وآية ذلك أنها قد أبعدت زوجها عن باريس، وأنها تحاول أن تبعد أباها، وأنها قلقة تستبطئ مقدم الملك، وقد قبل أبوها أن ينصرف عنها لحظة ليلهو وليدعها فيما هي فيه. وهؤلاء أشخاص قد أقبلوا منقبين، وهذا أحدهم قد لحظ فتاة منقبة، فهو يتقدم إليها ويطلب أن ترفع النقاب، فتأبى، فيلح، فإذا رأى وجهها أراد أن يداعبها، فتفر منه ، ويرسل أصحابه في أثرها، وقد عرفت صاحبتنا أنه الملك فتضحك منه، وما تزال به حتى تضطره إلى أن يتحدث إليها، ثم إلى أن يداعبها، ثم إلى أن يغلو في مداعبتها، وهي تتعمد دفعه عن نفسها، وهي تلطمه لطمة خفيفة، وهو يغضب لذلك، ويأمرها أن ترفع النقاب فتأبى، فيهم بأن يرفع نقابه فتلفته إلى أن ذلك لا ينبغي له في هذا المكان، فهي إذن تعرفه وهي تحبه، تعلن إليه ذلك وقد رفعت نقابها، فرآها فعرفها، وهي تتهالك وتغريه فيستجيب لها، ولكن هذا الحوار الغرامي يصور لنا أجمل تصوير ذكاء هذه المرأة ودهاءها وسلطانها على نفوس الرجال.
فإذا رفع الستار عن المنظر الرابع، فنحن في فرسايل، وقد أمر الملك النفير العام، وهو يتهيأ للحرب وقد أقبلت أنطوانيت مع قريبها، فأدخلت حجرة ضئيلة مستخفية لترى الملك قبل سفره إلى الميدان، وقد أقبل الملك فقضى معها لحظات، وتحدث معها أحاديث نفهم منها أن الحب قد انتهى بهما إلى غايته، وأن الملك مفتون بها، وأنها ليست أقل منه افتتانا به، وهما يتحدثان حديث العاشقين عما كان قبل أن يلتقيا وما سيكون بعد هذا اللقاء، ولا يفارقها الملك إلا حين يضطره النظام الدقيق إلى هذا الفراق، وقد أقبل الخادم فأنبأه بأن الناس جميعا ينتظرونه، وبأن الملكة قد أشرفت من القصر لترى سفره، ولتحييه قبل هذا السفر، فيخرج وقد وعد هذه المرأة بأن تحيته الأخيرة ستوجه إليها، فلتقف عند هذه النافذة.
ويرفع الستار عن المنظر الخامس فإذا نحن في الميدان وقد انتصرت جيوش الملك على الإنجليز، وأبلى ولي العهد بلاء حسنا، والملك سعيد بالانتصار، سعيد بحسن بلاء ابنه، ولكن أنباء الجرحى والقتلى تنتهي إليه، وإذا هو محزون، وإذا هو رجل رقيق القلب، يكره الحرب، ويرثي لأوليائه وأعدائه معا، ويسرع لمواساة الصرعى في الميدان.
وبينما هو في طريقه إلى الميدان يرفع ستار جزئي فنرى الملكة وقد انتهت إليها أنباء النصر، فهي تبشر القصر وتصلي مع وصيفاتها.
ويرفع ستار آخر فنرى أنطوانيت معذبة تنتظر رسائل الملك التي لا تصل إليها .
وعلى هذا النحو ينتهي الجزء الأول من القصة، ولا يبتدئ الجزء الثاني إلا بعد عشرة أعوام قد استنفد الحب فيها قوته وحدته، ولذته ونشاطه، وانتهى إلى هذا الهدوء الذي لا يقطع الصلة بين العاشقين ولكنه يجعل كل واحد منهما على صاحبه ثقيلا عزيزا معا، ونحن نرى أنطوانيت في حجرتها تتخذ زينتها مع الضحى، وقد أقبل أبوها يتحدث إليها طالبا هذه الحاجات التي لا تنقضي، وهي ترده عن نفسها وعن الملك، والرجل يظهر الرضى، ويمضي في الإلحاح ويستقل ما ظفر به من مال كثير وشرف عظيم، وقد أقبل الملك فحيا هذا الرجل ثم خلا إلى صاحبته فإذا هي تتلطف له، وإذا هو يثقل عليها، وإذا هما يتحاوران حوار المتخاصمين، يشتد الخصام بينهما حتى ينتهي إلى العداء، ثم يلين حتى ينتهي إلى الصفاء، وهي تطلب إليه وهو يأبى عليها، وهي تسأله عن أمور السياسة وتشير عليه فيها، أليست تنصح له بالخدمة العسكرية الإجبارية؟ أليست تنصح له بموادعة البرلمان؟ أليست تشير عليه بموادعة الفلاسفة ومقاومتهم بالحيلة؟ وقد خرج الملك من عندها بعد حوار طويل ممتع فيه إلمام بالسياسة، وفيه تصوير للحب، واليأس من هذا الحب، والإذعان لسلطانه أيضا.
وقد ذهب الملك للصيد، ونحن نراه في المنظر السابع وقد انفرد عن أتباعه وانتهى إلى قرية من القرى ووقف عند أسرة من الأسر تعرفه ويعرفها، تعرفه على أنه طبيب بيطري من أطباء القصر، وهو يتحدث إليها عن الملك، وفي الأسرة فتاة جميلة ساذجة تحبه ويحبها لولا أن السن قد تقدمت به، فهو لا يستطيع أن يتخذها لنفسه زوجة وإن كانت هي لا تكره ذلك، بل تحبه وتؤثره، وعند الأسرة فتى طبيب مثقف يحب الفلاسفة ويقرأ كتبهم، ويبغض الملك ويتحدث إليه بهذا البغض، لأنه لا يعرفه، وهو خطيب هذه الفتاة، وفي الأسرة مع ذلك أطفال يداعبون الملك ويداعبهم، وهو يصنع لهم اللعب ويفكههم بالأحاديث، وهو سعيد بالخلوة إلى هذه الأسرة والحديث مع هذه الفتاة، ولكن ماذا؟ هؤلاء قوم قد أقبلوا لا يكاد الملك يراهم حتى ينكرهم ويضيق بهم، على رأسهم أنطوانيت وجماعة من الحاشية، قد أقبلوا يطلبون الملكة، فلما انتهوا إليه وعرفوا تنكره لم يظهروه ولم يظهروا أنفسهم، وإنما زعموا أنهم جماعة من الأشراف، وطلبوا إلى الأسرة - وهي صاحبة فندق قروي - طعاما وشرابا، فأما أنطوانيت فشديدة الغيرة من هذه الفتاة، ولكن الملك قد عرف من أمر هذا الفتى الفيلسوف ما أثار غيرته أيضا، فهو ابن ذلك الطبيب الذي أحبته أنطوانيت حين كانت في العاشرة من عمرها، والملك معني بالفتاة، وأنطوانيت معنية بالفتى، والحوار بينهما شديد مختلف، والدعابة بينهما حلوة مرة، ويسأل الملك آخر الأمر عن الساعة فيجيبه بعض الحاشية جوابا يظهر منه أمره وتتبين الأسرة أنه الملك، فينصرف وقد نفى الفتى إلى خارج فرنسا، وأمر أن ترسل الفتاة إلى دير لتتعلم، ثم أن تمنح بعد ذلك مهرا يمكنها من الزواج.
ثم يبتدئ الجزء الثالث الذي يصور أصيل هذه الحياة، فنحن في غرفة الملكة وهي تلعب الورق مع بعض وصائفها، وفيهن أنطوانيت وقد تقدمت بها السن، وهي مبلة من مرض لم تبرأ منه كل البرء، والملكة ترفق بها، وتعطف عليها، وتتحدث إليها عن الملك وعن حزنه وعزلته، وتستعينها على تسلية الملك، وإخراجه من هذا الحزن، ومن هذه العزلة. ونفهم من هذا الحديث أن هاتين المرأتين قد اشتركتا في حب الملك وفي اليأس من هذا الحب، فأما الملكة فتجد العزاء في الدين، وأما الخليلة فلا تجد العزاء في شيء، وقد انصرفت الملكة مع وصائفها إلى الصلاة وتركت أنطوانيت ومعها وصيفة جميلة رشيقة شابة تعرف أن الملك يحبها ويصبو إليها، وهي مدام دي سيران.
فاقرأ هذا الحوار بين الخليلة الشيخة اليائسة والعاشقة الشابة التي يملؤها الأمل، فستجد عند الشيخة غيرة ولوعة وحبا يظهر في مظهر البغض والشماتة، وسترى عند العاشقة الشابة أملا ودعة وابتساما، ولكن الملك قد أقبل، وهمت الشيخة أن تلقاه لولا أن الضعف قد أدركها فانصرفت متثاقلة يعينها الخدم، وبقيت الوصيفة الشابة للقاء الملك الذي تهواه.
فإذا رفع الستار عن المنظر التاسع، فالخليلة الشيخة مريضة في سرير الموت، والقسيس يلقنها آخر ما ينبغي أن تقول، وهي تؤدي واجبها الديني في طاعة ظاهرة وإذعان لا غبار عليه، حتى إذا انتهت من ذلك إلى غايته وتفرق عنها الناس وخلت إلى وصيفتها عرفت أن زوجها الذي نفته منذ أعوام طوال، ثم دعته حين ألح عليها المرض قد أقبل مستجيبا لدعائها، فإذا دخل عليها كان بينها وبينه حوار من أرقى ما كتب المحدثون؛ فهذه المرأة التي أدت واجبها الديني تعلن أنها لا تؤمن بشيء، وإنما أذعنت للكنيسة إيثارا للراحة من إلحاح من حولها، وكذلك يفعل فولتير حين يؤدي واجبه الديني ليستريح من القسيس، وهي قد طلبت بأمر القسيس أن يعفو الله عن سيئاتها وأن يعفو أهل القصر عن سيئاتها، ولكنها لم تكن مخلصة في شيء من هذا، إنما العفو الذي تطلبه مخلصة هو عفو زوجها البائس الذي نفته لتمعن في اللهو والعبث مع الملك.
والزوج لا يبخل بهذا العفو، فهو يحبها الآن كما كان يحبها قبل الخطيئة، وهو يؤكد لها أن الحياة لا تنتهي بالموت وإنما تستأنف بعد ذلك، وهو يؤكد لها أنهما سيلتقيان في الدار الآخرة، وهي تنتهي إلى الإيمان بهذا اللقاء، والطمع فيه، وتستقبل الموت هادئة راضية ناعمة البال.
ثم يرفع الستار عن المنظر الأخير، فإذا الملك في غرفته تعرض عليه الأوراق فيمضيها محزونا كئيبا كاسف البال، أليست صاحبته قد ماتت؟! وها هو ذا قد فرغ من أعمال الدولة وعكف على نفسه يفكر، وهو متعب مكدود يجد البرد، وإن كان الموقد مضطرما غير بعيد منه، وخادمه يعرض عليه رسائل الحب قد كتبتها إليه غانيات القصر، فيعرض عن هذه الرسائل ويسأل عن بناته، ألم تطلب إحداهن أن تراه؟ فإذا أنبأه الخادم بأن واحدة ما لم تطلب لقاءه آذاه ذلك، فقد كان ينتظر هذا اللقاء.
وهذا باب الغرفة يفتح في غير استئذان، والخادم يريد أن يرد الطارق، ولكن الملك يدعو هذا الطارق فهي هذه الوصيفة الجميلة التي رأيناها منذ حين، قد أقبلت للقاء الملك، عرفت أنه محزون فجاءت تعزيه، وهي تنبئه بأن الملكة تصلي، فيسخر من الملكة ومن صلاتها، وهذه المرأة تحسن الحديث إليه وتصل إلى قلبه، وإذا هو يفتح لها هذا القلب، فنرى رجلا حزينا بائسا قد زهد في الحب واللذة وأنكرهما، وود لو استطاع أن يظهر لأهل القصر كما هو خيرا مؤثرا للفضيلة، ولكنه يعلم أن أهل القصر سينكرونه ويزدرونه إن رأوا ميله إلى الخير والفضيلة؛ فهو خير إذا خلا إلى نفسه، ماجن إذا ظهر للناس، وهو منكر للموت خائف منه أشد الخوف، والفتاة ترفق به، وتحسن تعزيته، وهو يرى فيها فتاة أحبها حين كان شابا وهو يضمها إليه ويقبلها موجها نظره نحو صورته حين كان شابا.
ثم يصحبها إلى الباب ويخلو إلى نفسه وإلى خادمه، ولكن صوتا يسمع من وراء النافذة، والخادم يدنو فينظر، فإذا سأله الملك لم يجب أو أجاب متحفظا، فيدنو الملك من النافذة ويفتحها ويخرج إلى الشرفة رغم المطر والريح لأنه سمع ورأى وفهم، هذه جثة أنطوانيت تخرج بها العربة من القصر في ضوء المشاعل تحت جنح الليل وتحت هذا المطر المنهمر، وقد خرج الملك إلى الشرفة فوقف وأطال الوقوف، ونظر وأطال النظر، واستمع وأطال الاستماع، ثم عاد وقد بلل وجهه الدمع ممزوجا بقطرات الغيث وهو يقول: هذا آخر ما استطعت أن أؤدي لها من واجب.
ويسدل الستار على الملك ليتلو بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله صلوات لاتينية فيها الحب والرحمة والندم والاستغفار معا.
Page inconnue