وقد سعت به زوجه سعيا رفيقا إلى حجرة الاستقبال، فلما بلغ باب الحجرة لم يجد أحدا، وإنما وجد هدهدا قد استقر على البيانو في هدوء واطمئنان، فلم يكد يراه حتى أغرق وأغرقت زوجه معه في ضحك متصل لم يكد يفرغ منه حتى تلا الآية الكريمة:
فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين
ثم داعب خد امرأته وقال لها في صوت حازم جازم: انتظري نبأ عظيما يبلغك اليوم أو غدا، فنظرت إليه كالحائرة المستفهمة، ولكنه قال لها في صوته الحازم الجازم: قد علمت أن الهدهد لا يكذب ولا يحب الكذب. ثم عاد إلى كتابه ولكنه لم ينظر فيه، وانتظرت هي أن ينصرف الهدهد عن البيانو، فلما انصرف أقبلت على الموسيقى، ولكنها لم تعزف، وإنما جعلت أصابعها تذهب وتجيء في غير انتظام، كان مشرد النفس أمام الكتاب، وكانت مشردة النفس أمام البيانو.
كان كل منهما بعيدا عن صاحبه ولكنهما كانا يفكران في شيء واحد، أو في أشياء مؤتلفة متقاربة، يتكون منها جزء قيم من نسيج الذكرى هذا الذي يعمر القلوب ويمتع العقول، ويضيء في النفوس حين تظلم الأحداث وتدلهم الخطوب، فقد كان للهدهد أثر عظيم الخطر في حياتهما الأولى، كان رسول البشر والغبطة والحبور إلى أبنائهما حين كانوا أطفالا لا يكادون يعقلون، كان الهدهد هو الذي يحمل إليهم ما تريد أمهم أن تمتعهم به من طرفة، وما يريد أبوهم أن يسرهم به من هدية، وكان الهدهد يستخفي بطرفه وهداياه ينثرها في حجرات البيت وغرفاته نثرا، وينشرها في أبهاء الدار ودهاليزها نشرا، وربما أخفاها إخفاء في أعشاب الحديقة وبين أشجارها ونجومها، وربما علقها في الأغصان أو تركها على حافات النوافذ.
ولم يكن يمضي يوم حتى يتصايح الأطفال في الصباح أو في المساء بأن الهدهد قد زار الدار وترك فيها شيئا، وكان الأطفال يحبون الهدهد أشد الحب، ويودون لو استطاعوا أن يؤنسوه ويحدثوه ويسمعوا منه، ولكنهم كانوا يرونه قد وقف منهم غير بعيد في هذا المكان أو ذاك من الحديقة، فإذا دعوه لم يستجب لهم كأنه لا يسمع منهم، وإذا سعوا إليه ارتفع في الجو ارتفاعا يسيرا، ثم انصرف عنهم دون أن يوئسهم من منظره، ودون أن يبخل عليهم بصوته هذا الذي لم يكن يخلو من التحدي، وكان الأطفال يسألون أمهم حينا وأباهم حينا آخر: ما بالهم لا يرون الهدهد حين يحمل إليهم طرفه وتحفه، وإنما يرونه دائما فارغا خاليا إلى نفسه، نافرا منهم منصرفا عنهم؟ فكانت أمهم تجيبهم، وكان أبوهم يجيبهم أيضا، بأن الهدهد حذر لبق ظريف يحب المداعبة، ويؤثر أن يفجأ أصدقاءه بما يترك لهم من الهدايا، وقد شب الأطفال وعقلوا واستبانوا الحقائق من أمر الهدهد، وما كان يحمل إليهم من الهدايا، ولكنهم مع ذلك خادعوا أبويهم حينا وخيلوا إليهما أنهم كانوا يصدقون ما يقصان عليهم من أمر الهدهد، ثم خادعوا أنفسهم حينا آخر وأرادوا أن يصدقوا ما كان يقص عليهم من أمر الهدهد، ثم لم يجدوا بدا من الإذعان لحكم العقل والانحراف عن قصة الهدهد، فجعلوا يتندرون بها في كثير من الحنان ساخرين من أنفسهم ومداعبين لأبويهم، ثم صرفوا إلى شئون الصبا والشباب عن شئون الطفولة، وشغلوا بالدرس والتحصيل عن هدايا الهدهد وطرفه.
كان صاحبنا يستعرض هذا كله وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى مما كتب فيه شيئا، وكانت زوجه تستعرض هذا كله وهي تجري أصابعها على البيانو دون أن تستخرج منه لحنا مستقيما، على أنها لم تلبث أن حزمت أمرها، وأقبلت على موسيقاها، فانغمست فيها انغماسا، أما هو فلم يستطع أن يحزم أمره ولا أن يعود إلى مكسيم جوركي، لأنه لم يكد يفرغ من استعراض طفولة أبنائه حتى استعرض طفولة نفسه.
فقد كانت الصلة بينه وبين الهدهد بعيدة جدا أبعد من الصلة بينه وبين زوجه وبنيه. كان يعرف الهدهد منذ طفولته الأولى، يراه فيعجب بشكله، ويسمعه فيحن إلى صوته، ويتمنى أن يتاح له هدهد يمسكه في الدار ويتخذه له رفيقا، وما زال يلح بهذا التمني على أبيه وإخوته وذوي معرفته حتى رفق به بعض أهل القرية فجاءه ذات صباح بقفص ظريف قد استقر فيه هدهد ظريف، وهو يذكر ابتهاجه بهذه التحفة وإسراعه إلى أمه راضيا مسرورا، يخرجه الرضا والسرور عن طوره، وهو يذكر كيف ابتسمت له أمه في رفق وكيف تقدمت إليه في ألا يعذب الهدهد ولا يرهقه من أمره عسرا، وكيف نهضت فأخذت منه القفص وعلقته إلى جدار من جدران الدار، ووضعت فيه إناءين صغيرين في أحدهما قليل من ماء وفي الآخر قليل من حب، وطرحت إلى جانب الجدار وسادة، وقالت لابنها وهي تمسح على رأسه: هذا مكانك من صديقك الهدهد، تستطيع أن تأوي إليه كلما أحببت أن تراه أو تسمع منه. وقد وفى الصبي لهدهده أياما طوالا فكان يسرع إليه كلما عاد من الكتاب وسط النهار وآخره فيتحدث إليه، ويسمع منه، ويطيل الحديث والاستماع.
ولكن الرجل الذي أهدى إليه الهدهد لم يحسن الفهم عنه فيما يظهر، كما أنه هو لم يحسن الفهم عن نفسه، فقد أقبل ذلك الرجل عليه في الضحى ذات يوم وأهدى إليه صقرا صغيرا لطيفا بعد أن قص من جناحيه، وفرح الصبي بصقره ذاك الجميل، وخيل إليه بل ألقي في نفسه أن هذا الصقر سيؤنس الهدهد في وحدته، وسيكون رفيقه حين يشغل هو بهذا الكتاب البغيض الذي كان يذهب إليه أول النهار ويعود منه لحظة للغداء ثم يرجع إليه مسرعا ولا يعود إلى صديقه الهدهد إلا آخر النهار. وكان الصبي يشفق على هدهده من هذه الوحدة المتصلة، فأي غرابة في أن يسعد بهذا الصديق الجديد الذي سيسلي الهدهد ما بعد عنه صاحبه، فإذا عاد لم يتحدث إلى الهدهد وحده وإنما تحدث إليه وإلى الصقر جميعا، وما هو إلا أن يدخل الصقر على الهدهد في قفصه وينصرف لبعض ما ينصرف إليه الصبية ثم يعود بعد ساعة قصيرة أو طويلة، فيرى، ويا هول ما يرى! يرى الهدهد ميتا قد نقر الصقر رأسه واستخرج ما فيه، إنه لم يكن يعرف أن الطير يعدو بعضها على بعض.
ويرى أمه حزينة تلومه وتعنف به في اللوم، وترسل إلى ذلك الفلاح الذي أهدى إليه الصقر شتما قبيحا، وقد أخذ صاحبنا وهو ينظر في كتاب مكسيم جوركي دون أن يرى ما كتب فيه شيئا يستعرض هذه الذكرى، ويستعرض حزنه على الهدهد وحبه له من بعيد بعد تلك الكارثة واقتناعه بأن الخير له وللهدهد في أن يتراءيا ويتحدثا من بعيد، ثم ينتقل من هذا الاستعراض إلى ما عرف من أمر الهدهد حين حفظ القرآن واستظهر سورة النمل وعرف قصة سليمان وملكة سبأ. كل ذلك جعل يستعرضه وهو ينظر في كتابه دون أن يرى ما فيه، وقد استقر في نفسه أن لزيارة الهدهد لداره شأنا، وأنه قد جاء بالنبأ اليقين، وأن النهار لن ينقضي حتى يبلغه أمر ذو بال. والغريب الذي تستطيع أن تصدقه أو تكذبه - فلن يغير تصديقك ولا تكذيبك من الحق شيئا - هو أن النهار لم ينقض دون أن يأتيه النبأ العظيم.
والحق أن صاحبنا قد عاد في ذلك اليوم طفلا فعلق نفسه من بعض نواحيها بالتلفون، وعلقها من بعض نواحيها الأخرى بالجرس، وعلقها من ناحية ثالثة من نواحيها بساعي البريد، وتستطيع أن تقول إنه جلس في مكتبه واجما وخصص إحدى أذنيه للتلفون وإحداهما الأخرى للجرس، ومد عينيه أمامه إلى النافذة يرقب من يمكن أن يصعد سلم الدار من الزائرين، وقد طال به ذلك وشق عليه، ثم أقبلت عليه شئون الحياة اليومية فصرفته عن هذا السخف صرفا ظاهرا، ولكن قلبه ظل بقية النهار ينتظر شيئا غامضا، وقد دعاه التلفون حين أقبل الأصيل، فلما استمع إلى ما قيل له وأجاب بكلمات قصار أسرع إلى زوجه يقبلها ويقول مستبشرا: ألم أقل لك إن الهدهد قد جاء بالنبأ اليقين؟ قالت زوجه: وما ذاك؟ قال: استقالت الوزارة ودعيت إلى الاشتراك في الحكم.
Page inconnue