وكلكم يعرف إلام تنتهي هذه المواعيد حين تتصل، وقد انتهت مواعيد صاحبينا إلى حب هائج مضطرم لم يخفف من لوعته إلا الزواج، فصوروا لأنفسكم إن كنتم في حاجة إلى أن تصوروا لها هيام العاشقين أثناء هذه الخطبة التي اتصلت وقتا غير قصير، وصوروا لأنفسكم أثر هذا الهيام في حياة الفتى وفي طلبه للعلم وإقباله على الدرس، وأثره في أسرة الفتى المصرية في قرية من قرى الريف، وأثره كذلك في نفس الفتاة وفي أسرتها المحافظة، صوروا لأنفسكم هذا كله وقدروا أن الحب الذي أثارته هذه اللطمة قد قهر هذا كله وتغلب على ما فيه من صعاب وعقاب وانتهى إلى الزواج على رغم الدرس الذي أهمل، وعلى رغم المقاومة التي جاءت من الريف المصري، والمقاومة الأخرى التي جاءت من الريف الفرنسي، وصوروا لأنفسكم كذلك أن هذه اللطمة قد أذكت الحسرة في كثير من القلوب وأشبت الغيظ في كثير من القلوب أيضا: أذكت الحسرة في قلوب فتيات كن يفكرن في هذا الشاب، وأشبت الغيظ في قلوب شباب كانوا يفكرون في هذه الفتاة، ولكن الحب سيل جارف لا يمر بشيء إلا اكتسحه اكتساحا، وريح عاصفة لا تدع شيئا أتت عليه إلا جعلته كالرميم، والحب قاهر بطبعه: قاهر للناس وقاهر للأشياء وقاهر للأحداث والخطوب أيضا، وحب هذين العاشقين قد قهر كل شيء وقهر كل إنسان، ووقف العاشقان ذات صباح أمام العمدة في مدينة مونبلييه فألقى عليهما سؤالين وسمع منهما جوابين، وتلا عليهما طرفا من أطراف القانون المدني وأعلن بعد ذلك أنهما قد أصبحا زوجين، وانتهت تلك اللطمة إلى غايتها الأولى.
ففتح للعاشقين باب من أبواب النعيم الذي لم تر مثله عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر لأحد على بال، وكأنما كانت تلك اللطمة شيئا يشبه الطرق على الباب للاستئذان في الدخول، وكأنما كان الحب هو الذي اصطنع يد الفتاة فطرق بها على قلب الفتى بابه، ولم يكن باب هذا القلب عين الفتى ولا أذنه ولا فمه، وإنما كان صفحة وجهه الذي لم يكن رائعا ولا جميلا.
وقد استمتع العاشقان بهذا النعيم ما شاء الله أن يستمتعا به، ذاقا لذائذه في فرنسا وتنقلا بها بين إيطاليا وسويسرا، وعبرا بها البحر آخر الأمر إلى مصر واستقرا بها حيث تعلمون في مدينة من المدن المصرية سعيدين موفورين لا يعرفان من الحياة إلا وجهها الباسم الصبوح، ولكن وجه الحياة ليس باسما دائما بل قد يعتريه العبوس، وليس مشرقا دائما بل قد يغشاه الظلام أحيانا، وقد يصدر عبوس الحياة وإظلامها عن الناس حين يأتون بعض الأمر ويدعون بعضه، حين يقولون فيكون ما يقولونه مصدرا للشر، وحين يسكتون فيكون سكوتهم سبيلا إلى الريب، حين يعملون فيكون عملهم مثيرا للسخط، وحين يكسلون فيكون كسلهم وسيلة إلى الاتهام.
والواقع أن حياة الزوجين أظلمت ذات يوم، لا لأن أحدهما قال شيئا أو عمل شيئا، ولكن لأن ساعة من ساعات الصفو الحلو البريء أبت أن تنقضي دون أن تعقب كدرا ومرارة وشكا.
فقد فرغ الزوجان ذات يوم لمجلس من هذه المجالس الكريمة التي يسمر فيها الأصدقاء بعد الغداء أو بعد العشاء حين يفرغون من طعام أحسن إعداده وشراب أحسن اختياره، وحين يقبلون على الحديث أحيانا وعلى الموسيقى أحيانا أخرى وعلى الرقص في أثناء ذلك، وقد أخذ الأصدقاء في تلك الليلة بحظهم من نعيم الحياة وتفرقوا، وخلا الزوجان وأخذا يتحدثان عن وليمتهما وعما دار حولها من حديث، وعما كان بعدها من سمر، وكان الزوج متحمسا في استعراض هذا كله، وكانت امرأته تسمع له في غير نشاط أو لعلها كانت تسمع له بإحدى أذنيها لا بهما جميعا، لعلها كانت ذاهلة عنه بعض الذهول، وقد نبهها رفيقا بها فلم تتنبه، وقد نبهها مرة ثانية فلم يغن عنه التنبيه شيئا، وإنما مضى هو في حديثه المتحمس، ومضت هي في استماعها الذاهل حتى رابه من أمرها شيء.
وأيسر الريب بين العاشقين لا يخلو من خطر، فقلوبهم حساسة ونفوسهم أشبه شيء بالحطب الجذل لا تكاد تمسه النار حتى يصبح حريقا مضطربا يملأ ما حوله لهبا، وكأن نفس الفتى كانت معدة لشيء من هذا، فقد كان غيران لا يطيق الشك ولا يحتمل الريب، فلم ذهول امرأته عن حديثه وإمعانها في هذا الذهول؟! ضاقت نفسه ثم اشتد ضيقها ثم ثارت ثم خرجت عن طورها وإذا هو يقول أكثر مما كان يريد، وإذا هي تظن أكثر مما كان ينبغي، وإذا ألفاظ طائشة تلتقي ثم تصطدم، وإذا يد الفتى تمتد ثم تنقبض، وإذا اللطمة التي تلقاها في مونبلييه ففتحت باب النعيم للعاشقين قد ردت إلى صاحبتها في مدينة من المدن المصرية ففتحت باب الجحيم للبائسين.
وما أحب أن أصور لكم من أمرهما أكثر من ذلك، فما أريد أن أخرج من الإشارة إلى الدلالة، ولا من التلميح إلى التصريح، وإني على ما تعرفون من إمعاني في البغض حين أبغض، لأكره أن أتمنى لأشد الناس لي عداء أن يصير إلى مثل ما صار إليه الفتى وإلى مثل ما صارت إليه الفتاة. ألا ترون أن هذا الشر كله لا يمكن أن يكون إلا من عمل الشيطان؟ وهم القوم أن يجعلوا هذا الحديث موضوعا للجدال يعللون فيه ويئولون، وينكرون منه ويعرفون، ولكن أحدهم رفع صوته حتى اضطرهم إلى الصمت وقال في سخرية لاذعة: ما أكثر ما تفتح اللطمات أبوابا للنعيم ثم تفتح بعدها أبوابا للجحيم! ألم تسمعوا أن لطمة وثبت بفلان إلى مكان رفيع، وأن لطمة أخرى قد تهبط به قطعا إلى مكان سحيق؟!
قال صاحب الحديث: أما وقد أخذتم تخوضون في حديث الأشخاص، وتلمحون إلى أحداث السياسة، فليس لي بينكم مقام، وانصرف وأصحابه يدعونه إلى أن يعود وهم يقولون: أقبل فقد آمنا بأن قصتك من عمل الشيطان.
الفأل
كان ممعنا في القراءة حين سمع صوتا عذبا يدعوه، فلما رفع رأسه رأى زوجه قائمة أمامه وقد أشرقت من وجهها كله ابتسامة حلوة فيها كثير من الخفر وفيها شيء من خوف ضئيل وشيء من العجب أيضا. قالت له في صوت يريد أن يضحك، ولكنه يقاوم الارتياع: إن في حجرة الاستقبال ضيفا ينتظرك، وهم أن يسألها عن هذا الضيف، ولكنها أخذت يده في رفق، وأنهضته فاستجاب لها مداعبا مخفيا لبعض الوجل، فلم يكن أحب إليه من أن يمضي في قراءته لتلك القصة الرائعة التي يعرض فيها مكسيم جوركي حياته أثناء الصبا.
Page inconnue