وجاءت الثلاثينيات بعد ذلك، لتواصل مسيرة العشرينيات في توسيع رقعة الأساسين اللذين أرسيت لهما الدعائم منذ العشار الأول، وهما أساس الحرية من ناحية، وأساس التمكين للنظرة العقلية من ناحية أخرى. على أن نفهم هذا التمكين للنظرة العقلية، مكتسيا بلواء الحرية، فهما يشمل قبولنا للأشكال الثقافية الغربية، ما دمنا نحرص على تضمينها حياة عربية أو مصرية خاصة، لكننا في الثلاثينيات أخذتنا الخشية أن يكون قبولنا للقوالب الغربية عاملا على محو الشخصية الموروثة، فانتبهنا إلى إحياء التراث، وإلى الإشادة ببطولات الماضي، على نطاق واسع؛ حتى لم يعد كاتب واحد من كتابنا إلا وأخرج الكتب في هذه الإشادة أو في ذلك الإحياء.
فلما بلغت الحرب العالمية الثانية نهايتها في وسط الأربعينيات، كانت كل تلك العوامل السابقة، قد أخذت تتفاعل، فبدت في الأفق إرهاصات قوية لظهور ثقافة جديدة، تتسم بالإيجابية، وبالمحلية ، وبلمسة الحياة الواقعة، وبالغوص في أعماق النفس المصرية، وأعني بها ثقافتنا خلال الخمسينيات والستينيات، بوجه عام.
فإذا عدت بعد هذا العرض السريع لمسيرتنا الثقافية خلال ثلاثة أرباع القرن، وسألت سؤالي الذي بدأت به، وهو: على أي صورة سيكون المستقبل في حياتنا الثقافية؟ وجدت الجواب، وهو: على غرار الخطى التي خطوناها، معتمدين على ركيزتين؛ هما: مزيد مطرد من الحرية، وثقة بالعقل وبالعلم تزداد مع السنين.
واجب المثقفين
كان أبو العلاء المعري - كما قال عن نفسه - رهين محبسين؛ إذ كان رهين ظلام فرضه عليه كف البصر، كما كان في الوقت نفسه، رهين داره لا يغادرها. وكان وهو مستتر وراء ذينك المحبسين، ينعم بينه وبين نفسه بثقافة عريضة عميقة؛ فكان في مستطاعه - لو أراد - أن يقنع بذلك العالم الفسيح الآفاق، الذي يستعيض به عن رؤية البصر ومخالطة الناس، لكنه مع ذلك أحس في فؤاده قلقا لا يتركه ليستريح إلى ثقافته تلك، العريضة العميقة الفسيحة الآفاق، فكأنما كان يخاطب نفسه - في لحظة من لحظات قلقه - حين أنشد بيتيه من الشعر، اللذين يقول فيهما:
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا نزلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
لا، لم يعد أبو العلاء في تلك اللحظة راضيا بانفراد، حتى لو كان انفراده ذاك في جنة الخلد، لا انفرادا في محبسيه. وماذا تجديه سحائب الغيث مهما غزر عطاؤها، إذا لم يكن ذلك الغيث قسمة بينه وبين الناس؟! لقد أراد يونس - عليه السلام - أن ينجو بنفسه من عبء الواجب الاجتماعي الذي ألقي عليه، ففر إلى شاطئ البحر؛ حيث وجد سفينة على أهبة الإقلاع، واستقلها مع المسافرين إلى حيث لا يدري، وانقلبت السفينة بمسافريها، وكان أن ابتلعه حوت؛ فكأنما أرادت له مشيئة الله أن تذهب به العزلة التي أرادها لنفسه، إلى آخر مداها. وماذا تكون العزلة في أقصى درجاتها، إن لم تكن هي هذه الصورة الغريبة الفريدة، التي أوى بها يونس إلى جوف الحوت، لا يرى من الدنيا الخارجية أرضا ولا بحرا ولا سماء ؟! فما إن ألقى الحوت بحمله على شاطئ البحر، حتى فقه يونس معنى الرسالة التي أريد له أن يؤديها، وهي أن يعود إلى الناس ليسهم في حياتهم وفي إصلاحها.
Page inconnue