كانت هذه الصور وأمثالها، هي التي تراءت لي ذات صباح بارد في جوف الشتاء، وكنت عندئذ في مكتبة عامة، أستدفئ بدفئها، وأغتذي من كتبها، فأقرأ وأكتب، ما حلت لي القراءة، وما وسعتني الكتابة، لكن صوتا فاجأني من صميم نفسي، يسألني: ثم ماذا؟ إنك بكل هذه القراءة والكتابة، إنما تثقف نفسك المفردة، لكنك لا تؤدي واجب المثقفين!
ليست الثقافة الصحيحة هي التحصيل الأكاديمي للعلم، مهما بلغ مداه، بل لا بد أن يضاف إلى ذلك التحصيل عملية هاضمة، تبلور المقروء في قيم جديدة تنشر في الناس. إنه لا يكفي أن يلم المثقف بعناصر الحياة من حوله، إلماما باردا لا حياة فيه، بل لا بد له إلى جانب ذلك، أن ينفذ برؤيته الجديدة، إلى حيث تكمن المعوقات في حياة الناس، فيخرجها لهم ويلقي عليها الأضواء، ليراها كل ذي بصر، وذلك هو الالتزام الذي لا مناص للمثقفين من الاضطلاع به. إنه التزام بالحق، يرونه ثم يعلنونه.
إن أحداث الحياة كما تقع، قد يراها الجميع على حد سواء، لكن الذين يتفاوتون في رؤيته، هو امتدادات تلك الأحداث؛ فإلى أي شيء تؤدي تلك الوقائع التي تحيط بنا؟ ما هي صورة المستقبل الذي تتمخض عنه اللحظة الحاضرة؟ هذا هو نوع الأسئلة، التي قد لا يستطيع الجواب عنها إلا من أرهفت الثقافة قدرته على الإدراك، وليس هو من قبيل الإدراك بالغيب المجهول، بل هو إدراك للغائب المستتر وراء الحاضر كما تراه العين وتسمعه الأذن.
ومثل هذا التنوير، الذي يلقي الأضواء على خفايا اللحظة الحاضرة، وما عسى أن يتولد عنها، هو واجب محتوم على المثقفين، وهو الواجب التي تصدت له الفلسفة في شتى عصورها. وعندما ننادي بأن يخرج فلاسفة الجامعة من عزلتهم الفكرية، إلى حيث يشاركون في عملية التنوير، فإنما نريد لهم - بعبارة أخرى - أن يعمقوا شعور الناس بمشكلاتهم الفكرية نحو توجه خاص؛ ففي مرحلة التحول الاجتماعي التي تعبرها الأمة من وجه حضاري إلى وجه حضاري آخر، ترتج القيم، وتنبهم الرؤية ويختلط أمام الأعين طريق الصواب وطريق الخطأ؛ وعندئذ تدعو ضرورة الموقف أن يشعل المثقفون مصابيحهم التي في أيديهم، لتتحول معارفهم النظرية إلى هداية عملية.
ماذا نعني عندما نتحدث عما نسميه بثقافتنا القومية؟ إننا لا نعني بهذه العبارة إلا حاصل جمع المعارف والمهارات التي حصلها الأفراد. ولو اقتصر كل فرد على نفسه هو، فيما قد حصله، لكان هنالك أفراد مثقفون، ولكن ليس هنالك ثقافة قومية. فإذا عرفنا أن العالم الخارجي لا يشعر بالوجود الحضاري لأمة من الأمم، إلا عن طريق ثقافتها القومية، لا عن طريق الثقافات الفردية المتناثرة، أدركنا كم هو ضروري ومحتوم أن تنصهر الروافد المتفرقة لتجتمع كلها في تيار واحد. ولا يجمع تلك الروافد المتفرقة في تيار قوي عميق، إلا أن تجتمع معا على مشكلات الحياة العامة، تحللها، وتعللها، وترسم لها طريقة الحل.
الفرد المثقف الواحد في عزلته، قد يدرك ذات نفسه، لكننا إذا أردنا للأمة في مجموعها أن تدرك ذاتها، وتشعر بحقيقة نفسها، فلا يتحقق لنا ذلك إلا حين تنصب جهود المثقفين الأفراد، لتلتقي في نقطة مشتركة. ولقد قيل إن هنالك جوانب ثلاثة للأمة النابضة عروقها بدم الحياة، وهي أن تشعر بذاتها أولا، وأن تعبر عن ذاتها تلك ثانيا، وأن تشعر هذه الذات بغيرها ثالثا. وإذا كان هذا هكذا، فليس ثمة أمة شهدها التاريخ، قد حققت هذه الجوانب الثلاثة، بأوضح مما حققته منها الأمة الإسلامية في ازدهارها الحضاري؛ فقد تصورت ذاتها أجلى ما يكون التصور، ثم عبرت عن ذاتها أقوى ما يكون التعبير، ومدت آفاقها لتصل إلى حضارات الآخرين، أوسع ما يكون الامتداد. ويبقى على الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر، أن تصنع صنيع أسلافها.
تلك كانت سلسلة الخواطر في رأسي، وكيف تتابعت ذات لحظة من أواخر الستينيات، فكانت أولى ثمارها، محاولة متواضعة دعوت بها إلى ما أسميته بتجديد الفكر العربي، وموجزه أن نتجانس مع حضارة العصر في علومها وتقنياتها وكثير من نظمها، فنقبلها عن طواعية ورضى، بل نسهم في تطويرها ونمائها، وأن نتجانس - في الوقت نفسه - مع أسلافنا في الوقفة الذوقية والخلقية، ليكون لنا من هذين العنصرين، وجود في الحاضر، وانتماء في التاريخ.
موقفنا بين عصرين
لم تكن هذه اللحظة الأخيرة التي أتحدث عنه الآن، لحظة قصيرة، ما جاءت إلا لتمضي، بل هي لحظة استغرقت من حياتي الثقافية مرحلتها الأخيرة كلها، التي لبثت معي حتى اليوم، منذ عشر سنوات أو نحوها؛ فقد كنت قبل ذلك واحدا من كثرة كثيرة من المثقفين العرب، الذين فتحت عيونهم منذ الطفولة وخلال الصبا، وانتهاء بنضج الرجولة؛ فتحت عيونهم طوال أعمارهم، على فكر أوروبي، حتى سبقت إلى أوهامهم الظنون بأن أوروبا هي العالم كله، من مبتدئه إلى منتهاه، وبأن الفكر الأوروبي هو وحده الفكر الإنساني دون سواه. ولبثت هذه هي حالي أعواما بعد أعوام، كان الفكر الأوروبي محور دراستي أيام التحصيل، ثم كان مدار عملي بعد ذلك. وأما التراث العربي فلم تكن له في رأسي إلا أصداء خافتة جمعها على مر الأيام، من القراءات الخاصة المبعثرة؛ ولذلك لم تكن لعصور ذلك التراث عندي صور متكاملة؛ فقد أعلم شيئا عن الجاحظ، وشيئا عن المتنبي، وثالثا عن ابن خلدون، لكنني لا أستطيع أن أضع هذه الأجزاء المفككة في تسلسل، يبين لي عن أي جزء منها، متى كان وأين ولماذا؟
ثم سنحت لي تلك اللحظة المباركة، التي امتلأت فيها بالعزم المصمم، على أن أتدارك ما فاتني، من الإلمام بتراثنا العظيم، ما وسعني ذلك، من جهد محدود، وبقية من عمر، فأخذت أنضح مما حولي من ينابيع ذلك التراث نضحا، ينتظمه المنهج حينا فيسير على هدى، ويخبط خبط الجائع الملهوف حينا آخر، فيخطف لقمة من هنا ولقمة من هناك. وكنت في كلتا الحالتين أقرب شبها بمسافر غريب، جاء إلى مدينة لم يجس خلالها من قبل، فتقع عيناه على ما تغفل عنه أعين سكانها الأصليين؛ إذ أعين الناس كثيرا ما تغفل عن الشيء المألوف، إلى أن يجيء المسافر الغريب فيراه، ولكنني في الوقت نفسه كنت معرضا للوقوع في أخطاء لا يقع فيها من يألف المكان ومحتواه.
Page inconnue