تحتل المكانة الرئيسية بين أفكار الكتاب، فوضع له في ترجمته الألمانية عنوانا فرعيا هو «المونادولوجيا»، وجاء إردمان
Erdmann
في القرن التاسع عشر فجعل من هذا الاسم عنوانا رئيسيا للكتاب في نشرته الفرنسية لمؤلفات ليبنتس الفلسفية، ومنذ ذلك الحين اشتهر الكتاب بهذا الاسم . (3) الاتجاه العام لفلسفة ليبنتس
ينطوي تفكير ليبنتس على بعض المبادئ العامة التي لا يفهم هذا التفكير بدونها؛ ومن هنا كان لزاما علينا - قبل أن ننتقل إلى العرض التفصيلي لآراء ليبنتس في كتاب «المونادولوجيا» - أن نوضح أهم هذه المبادئ، ونحدد الاتجاه العام الذي سار فيه تفكير ليبنتس، حتى يتسنى وضع أفكاره المفصلة في إطارها الصحيح، والربط بين هذه الأفكار وبين حياة ليبنتس وشخصيته وعصره.
لقد اشتهر ليبنتس بأنه فيلسوف تلفيقي؛ أعني فيلسوفا يحرص على التوفيق بين المذاهب الأخرى وجمعها كلها في مذهبه الخاص. ولقد كان بالفعل يود أن يستوعب في مذهبه كل ما أتى به الأقدمون والمحدثون من «أفكار رائعة»، وأراد أن يأتي بمذهب يجمع بين «أفلاطون وديمقريطس وأرسطو وديكارت والمدرسيين والمحدثين، وبين اللاهوت والأخلاق والعقل؛ بحيث يأخذ أفضل ما في كل منها، ثم يتجاوزها إلى ما هو أبعد منها»؛ على أن هذه النزعة إلى الجمع بين المذاهب المختلفة ليس لها في كل الأحوال دلالة واحدة؛ فهي تكون مظهرا من مظاهر الهزل الفكري، حين يعجز المفكر عن الإتيان من عنده بشيء فيملأ الفراغ بآراء الآخرين. ولكنها قد تكون أيضا منبعثة عن ذهن ممتلئ بمعارف موسوعية شاملة، متفوق في مجالات متعددة للعلم البشري، ومن فيض هذه المعارف يتألف مذهبه العام، فهناك إذن توفيق ناشئ عن الهزال الفكري، وتوفيق ناشئ عن الامتلاء الفكري. ولقد كانت نزعة ليبنتس إلى الجمع بين المذاهب من النوع الثاني دون شك، فقد كان من الأذهان القليلة التي استطاعت أن تجمع أطرافا متناثرة من المعرفة البشرية في مركب واحد متناسق تصطبغ فيه العناصر المتفرقة بصبغة العقلية الخاصة؛ بحيث يعد مذهبه «مرآة» تنعكس عليها كل جوانب الحياة العقلية في عصره وفي العصور السابقة، وتتلون - فضلا عن ذلك - بلون مستمد من طبيعته الذهنية الخاصة.
على أن فلسفة ليبنتس لم تكن محاولة للتوفيق بين المذاهب الفلسفية المختلفة فحسب، بل لقد ذهبت إلى أبعد من ذلك، فحاولت التوفيق بين وجهة النظر الفلسفية والعلمية كلها، وبين وجهة النظر الدينية؛ ذلك لأن ليبنتس كان على وعي تام بالخطر الذي يهدد الدين من جراء الكشوف العلمية الحديثة. وهكذا حرص في فلسفته على أن يحد من تطرف الكشوف العلمية وطموحها، ويحاول تحقيق نوع من «الانسجام» بين مجالي الدين والعلم، مثلما حقق هذا الانسجام بين مملكتي الله والطبيعة، ولم يكن اهتمامه بالتوفيق بين النظرتين الآلية والغائية إلى الكون سوى تعبير عن اتجاهه إلى تخفيف التعارض بين الدين والعلم، فهو من جهة يمضي حتى النهاية في التفسير الآلي للطبيعة، ويسهم بنصيب كبير في وضع الصيغ العلمية لهذا التفسير. ولكنه من جهة أخرى يحرص على إيضاح الأفكار التي يمكن بواسطتها فهم الطابع الغرضي الحي للكون. ومن المؤكد أن ليبنتس كان من أقدر الناس على القيام بهذه المهمة؛ إذ إنه قد استوعب بعمق الثقافة التقليدية المدرسية والفلسفات القديمة. ولكنه في الوقت ذاته لم يكن منعزلا عن تيار العلم الحديث، بل كان له فيه دور كبير.
ولقد كانت وسيلته إلى هذا التوفيق ذات طابع مزدوج؛ فهو من جهة يؤكد أن الطبيعة لا تخضع للقوانين الآلية وحدها؛ لأنها ليست جوهرا ممتدا فحسب، وإنما هي ذات طبيعة روحية في أساسها، ولما كانت هذه هي الفكرة الرئيسية في كتاب «مذهب الذرات الروحية»، فإن بقية هذا البحث سيتكفل بشرح تفاصيلها؛ على أن ليبنتس لا يغفل الوجه الآخر للمشكلة، وهو التقريب بين تصور الألوهية - أي التصور الديني الرئيسي - وبين العلم، فنظرته إلى الألوهية كانت علمية إلى حد بعيد، وهو يسمي التفسير الإلهي «حسابا»، ويحمل بشدة على الفكرة القائلة إن القوانين العلمية تتوقف على المشيئة الإلهية، وأن الله كان في استطاعته تغيير هذه القوانين لو شاء، ويعبر ليبنتس عن فكرته هذه تعبيرا واضحا في قوله: «ومع ذلك ينبغي ألا نتصور أبدا ما قال به البعض من أن الحقائق الأزلية لما كانت تعتمد على الله، فإنها اعتباطية متوقفة على إرادته على نحو ما يبدو أن ديكارت قد قال به، فهذا حكم لا يصح إلا على الحقائق العارضة التي تخضع لبدء المنفعة أو اختيار الأفضل. أما الحقائق الضرورية فلا تتوقف إلا على الذهن الإلهي، وهي الموضوع الباطن لهذا الذهن.»
1 (4) الأفكار الرئيسية في كتاب: «مذهب الذرات الروحية» مع نصوص مختارة من الكتاب
2
على الرغم من الطابع التوفيقي أو التلفيقي الذي لاحظناه من قبل في فلسفة ليبنتس، فإن هذه الفلسفة كانت تتسم منذ بدايتها بوحدة تدعو إلى الإعجاب، فمنذ كتابات ليبنتس الأولى، نرى لديه بوادر واضحة لمعظم الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب الذي نعرضه الآن، الذي ألفه قبل وفاته بعامين فقط، ومن أهم هذه الأفكار التي ظلت تلازمه من البداية إلى النهاية: الاعتقاد بأن الوحدات الحقيقة التي يرتد إليها العالم ليست وحدات مادية، وأن العالم الحي لا الطبيعة غير الحية، وهو الذي يمثل الفردية بأجلى معانيها. هذا الاتجاه يظهر منذ أول بحث فلسفي كتبه ليبنتس، وهو البحث الخاص بمبدأ الفردية، الذي كتبه عام 1663م، ثم يتردد في معظم كتاباته التالية. ولقد اتجه ليبنتس في البداية إلى استخدام لفظ «النفوس» للتعبير عن هذه الوحدات الأولية غير المادية، التي يتألف منها كل ما في العالم من أشياء مركبة. وكان في هذه التسمية متأثرا - بطبيعة الحال - بتلك التجربة الاستبطانية التي نشعر فيها بأن الذات أو الأنا هي الجوهر الحقيقي لكياننا وأساس الفردية فيه؛ على أن القول بأن الطبيعة مؤلفة من نفوس، يؤدي إلى تجاهل الفوارق الأساسية في مراتب الكائنات التي يتميز بعضها بالنطق والتفكير، ويفتقر بعضها الآخر إلى كل مبدأ معقول؛ ومن هنا التمس ليبنتس لفظا آخر، وجده في كلمة «ألموناد»، وهذه الكلمة اليونانية تعني أصلا الوحدة الحسابية. ولكنها تحولت إلى معنى الوحدة المادية، أو الجزء الذي لا يتجزأ؛ على أن ليبنتس يضيف إليها معنى جديدا؛ فهي عنده وحدة حية؛ أي إنها فردية الكائن الحي في أدق وأبسط مظاهرها ، وهي موجودة وجودا فعليا. وليست مجرد وحدة فكرية كالوحدة الحسابية، وهو يعرفها بأنها «جوهر بسيط، تشتمل عليه المركبات، المقصود بلفظ بسيط أنه لا يتجزأ، وحيث لا تكون أجزاء، لا يكون الامتداد ولا الشكل ولا الانقسام ممكنا، وهذه الذرات الروحية هي الذرات الحقيقية، وهي بالاختصار عناصر الأشياء.»
Page inconnue