خلاصة القول إذن؛ إن علم الفيزياء لا يقضي على الحرية حين يؤكد سيادة مبدأ الحتمية في الكون، ولا يدعم الحرية حين يؤكد وجود ثغرات في مبدأ الحتمية. بل إن الحرية الإنسانية تظل على ما هي عليه، سواء أكانت الحتمية أم اللاحتمية هي المبدأ السائد في الطبيعة. وهكذا يبدو أن النظريات العامة في علم الفيزياء لا تؤثر - إيجابا أو سلبا - على موقفنا من الحرية الإنسانية. ولكن هل يعني ذلك أن علم الفيزياء لا تأثير له على مشكلة الحرية؟ ألا يحتمل أن تكون لتطبيقات هذا العلم آثارها الهامة على الحرية الإنسانية؟ تلك مشكلة سنرجئ الكلام عنها مؤقتا، وسوف يتبين لنا - عندما نعود إلى معالجتها فيما بعد - أن هذا السؤال لا بد أن يجاب عنه بالإيجاب. (ب) علم النفس
لعل قدرا غير قليل مما قيل في وقت ما عن علم الفيزياء وتأثيره في مشكلة الحرية، ينطبق على علم النفس ، وكل ما في الأمر أن البحث في حالة علم النفس ينصب على السلوك الإنساني، لا على الحوادث أو الأفعال الطبيعية، فتقدم علم النفس كان يكشف دواما عن أنواع جديدة من الحتمية تؤدي - على نحو متزايد - إلى زعزعة الاعتقاد بإمكان وجود أساس للحرية الإنسانية، وهكذا أصبح هناك شعور متزايد بأن نطاق حريتنا يضيق كلما ازداد علم النفس تقدما.
والواقع أننا حين نتحدث عن علم النفس؛ فنحن إنما نستخدم هذا اللفظ بمعناه الواسع، الذي يمكن أن تندرج تحته أبحاث فسيولوجية كثيرة كان لها تأثيرها الهام في فهمنا لحقيقة السلوك البشري، فتقدم أبحاث المخ مثلا يؤدي إلى مزيد من الإيمان بالحتمية في هذا المجال، ويدفعنا إلى الاعتقاد بأن سلوكنا يرتد إلى مجموعة من «الدوائر الكهربائية» التي يمكن فهمها بالعلم البحت، فهل يمكن أن تسمى ظاهرة الفكرة - التي ترجع إلى عوامل كهذه - مظهرا من مظاهر الحرية؟ إننا «نشعر» حقا بأن فكرنا حر. ولكن ألسنا نشعر في كثير من الأحيان بأننا متمتعون بصحة كاملة، في الوقت الذي تكون فيه أجسامنا مصابة بأمراض خفية لا نشعر بها عن وعي؟
إن اتساع نطاق معرفتنا النفسية والفسيولوجية بالأفعال وردود الأفعال البشرية يقنعنا بأن تلك الأفعال التي نعتقد فيها أننا كنا نستطيع أن نسلك على نحو مخالف، أو أنه كان أمامنا بديل آخر غيرها، أضيق نطاقا مما كنا نتصور. وبعبارة أخرى؛ فهناك نسبة عكسية بين تقدم علم النفس والعلوم المرتبطة به، وبين النطاق الذي تحتله تلك الأفعال التي نسميها حرة، فهل نستطيع أن نطمئن إلى وجود ظاهرة الحرية في الوقت الذي نرى فيه مجالها وهو ينكمش باستمرار؟ ألا يحتمل أن يزداد هذا الانكماش حتى يصل إلى حد التلاشي التام؟
لقد اعتدنا من قبل أن نتصور الفارق بين الأفعال الحرة والأفعال غير الحرة على أساس أن أصل الفعل - في الحالة الأولى - موجود فينا، بينما الفعل في الحالة الثانية يرجع إلى أصل خارج عنا. ولكن تقدم علم النفس قد وضعنا في موقف جديد كل الجدة؛ إذ تبين أن كثيرا من الأفعال التي نظنها منبعثة من داخلنا آتية في الواقع من خارجنا، والمثل الصارخ على ذلك هو الشخص المنوم مغناطيسيا، الذي يأمره المنوم بأن يخلع معطفه ويفتح النافذة في ساعة معينة، فيفعل ذلك في الوقت المحدد، وينتحل أعذارا لفعله، متوهما أنه حر، بل ربما ظنه الناس جميعا حرا، إلا عندما ينبئهم الشخص الذي أمره بأنه لم يكن إلا مضطرا فيما فعل،
14
ألا يمكن إذن أن تكون أفعالنا كلها اضطرارية بهذا المعنى؟ ألا يحتمل أن تكون لها أسباب خارجية لا نعلم عنها شيئا؟ ألا يمكن أن يكون لعوامل البيئة والوراثة تأثير خفي ندركه عن وعي، يجعلنا نسلك على نحو لا نملك له دفعا، ونحاول في الوقت ذاته تبرير سلوكنا على أساس أننا أحرار؟
لا جدال في أن هذا الاحتمال قائم على الدوام. وفي أن تقدم علم النفس والعلوم السلوكية يزيده ترجيحا باستمرار. ولكن الذي نود أن ننبه إليه هو أن الألفاظ التي نصوغ بها هذه المشكلة تحتاج إلى إعادة نظر؛ فالمسألة - في جوهرها - ليست في واقع الأمر مسألة وجود عوامل قاهرة ترغمنا على أن نسلك على نحو معين، وإنما هي مسألة كشف أسباب لسلوكنا بعد أن لم نكن نعرف له سببا، وكما قلنا من قبل، فإن الاهتداء إلى المزيد من الأسباب المتحكمة في السلوك (وهو ما يقوم به علم النفس فعلا) لا يعني الاهتداء إلى المزيد من عوامل القهر، ليس من الضروري أن تكون هذه الأسباب كلها خارجية أو قهرية. بل إن تقدم علم النفس يتيح لنا أن نصنف ما نكتشفه من أسباب سلوكنا إلى فئتين: الأسباب «الداخلية» والأسباب «الخارجية»، وذلك يمكننا من أن نفرق على نحو أدق بين الأفعال الحرة والأفعال الاضطرارية.
وعلى ذلك فمن الممكن القول - نظريا: إنه إذا كانت الحرية لا تتعارض مع السببية الباطنة؛ أي كون الفعل راجعا إلى عوامل منبعثة من داخل الكائن نفسه، وإنما تتعارض فقط مع وجود أسباب خارجية تقهر الفاعل، فإن التقدم الذي يحرزه علم النفس في الكشف عن أسباب أفعالنا لا يؤدي بالضرورة إلى تضييق نطاق أفعالنا الحرة، بل يؤدي فقط إلى زيادة دقة التمييز بين ما هو حر وما هو غير حر من أفعالنا، وسيظل من حقنا أن نفترض - على المستوى العلمي - أن الفعل الإنساني يفترض الحرية بوصفها شرطا ضروريا؛ إذ إن هذا الفعل يغدو مستحيلا ما لم يتخذ وعينا موقفا محددا إزاء إمكانات متعددة للسلوك تظل متاحة لهذا الوعي. (ج) علم التاريخ
هل يؤدي التعمق في دراسة علم التاريخ إلى دعم شعور الإنسان بحريته؟ أم إلى إضعاف هذا الشعور؟
Page inconnue