عبر الفيلسوف الألماني «كانت» عن التعارض بين العلم والحرية أوضح تعبير حين أكد أن العقل عندما يبحث في موضوعات العالم يخضع للضرورة. وحين يتجاوز هذه الموضوعات إلى المجال الإنساني العلمي يصبح حرا؛ فالعالم الطبيعي - بكل جوانبه - خاضع لمبدأ السببية والحتمية الدقيقة، ومن هنا لم يكن ثمة مجال للحرية في أي علم من العلوم التي تبحث الطبيعة. بل إن وجهة النظر الطبيعية ذاتها - في بحث الأمور - تتعارض من حيث المبدأ مع فكرة الحرية. أما حين نخوض مجال الأخلاق والقيم الإنسانية، فلا يمكن أن تقف في وجهنا تلك القيود التي تلزمنا بها وجهة النظر الطبيعية؛ إذ إن الروح الإنسانية تمتاز بالحرية المطلقة، والإرادة قادرة على الاستقلال عن كل شروط العالم الطبيعي، وعلى أن تشرع لنفسها من القواعد ما يتفق مع حكم العقل وحده دون خضوع لأي قيد خارجي.
هذه التفرقة بين العالم الطبيعي الخاضع للضرورة، والذي تبحثه العلوم المختلفة، وبين العالم المعنوي أو الأخلاقي الذي ينفرد به الإنسان، والذي يتميز بالحرية المطلقة، تعبر عن فكرة ظلت تتردد فيما بعد على أنحاء شتى بين مفكرين كانوا يؤمنون بأن العلم - الذي يتسم مساره بالضرورة - يتعارض أساسا مع الحرية، وبأن المجال الإنساني يكون حرا حين لا يصبح موضوعا لأبحاث علمية تسودها وجهة النظر الطبيعية؛ ومن هنا فإن الكثيرين نظروا إلى العلوم الإنسانية التي تطبق مناهج قريبة الشبه بمناهج العلوم الطبيعية على أنها متعارضة بطبيعتها مع فكرة الحرية؛ فالقول بإمكان إيجاد تفسير مبني على فكرة الحتمية، لأفعالنا الذهنية والنفسية، يبدو متعارضا مع حرية الفعل الإنساني؛ إذ يكشف عن وجود مسار محدد لهذا الفعل لا يمكنه أن يحيد عنه. وحين يصبح الإنسان جزءا من الطبيعة، خاضعا لقوانين مشابهة لتلك التي تخضع لها الحوادث الطبيعية؛ أي حين يتحقق الهدف الذي يرمي إليه كل علم ببحث الإنسان مستخدما مناهج العلوم الطبيعية؛ فعندئذ يكون الإنسان - تبعا لوجهة النظر هذه - قد فقد حريته واستقلاله بفقدانه الطابع المميز له؛ ذلك لأن مشكلة الحرية لا تثار إلا منذ اللحظة التي يعد فيها الإنسان مقابلا للطبيعة ومستقلا عن قوانينها؛ ولذلك كانت هذه المشكلة تزداد حدة كلما ازداد العلم تقدما.
ففي العصر الحديث أصبحت الصورة التي يرسمها العلم للكون تتصف بالآلية، ولا تترك مجالا لقيم الإنسان ورغباته، أصبح العالم موحشا - غير مكترث - يسير في طريقه المرسوم بدقة وانضباط لا مكان فيهما لمشاعر الإنسان، وعلى حين أن العصور الوسطى كانت ترسم للعالم صورة متعاطفة مع الإنسان، فتجعله محتشدا بالملائكة والأرواح والقوى الغيبية، وتعطيه مسارا متجها إلى تحقيق غايات إنسانية، وتطبع القيم الإنسانية على الكون في مجموعه وفي كل جزء من أجزائه، فإن العصر الحديث أوجد انفصالا قاطعا بين عالم الطبيعة وعالم الإنسان، وقضى على التداخل القديم بين هذين المجالين. وكان من نتيجة ذلك أن ازدادت رغبة الإنسان في البحث عن مكان لحريته في هذا الكون الأصم، وأصبح الاهتمام بمشكلة الحرية عاما بين الفلاسفة؛ لأن التعارض أصبح واضحا وقاطعا بين الشعور الإنساني بالحرية وبين الضرورة الكونية التي تبدو غير متجاوبة مع هذا الشعور. وبعبارة أخرى: فعندما بدا للإنسان أن صورة الكون الجديدة - كما رسمها العلم الحديث - تهدد حريته، أصبحت مشكلة الحرية - لأول مرة - مشكلة أصيلة.
إن المعرفة الدقيقة بكل تفاصيل الحياة والكون - وهي المعرفة التي يستهدفها العلم الحديث ويستخدم مناهجه الدائمة التطور من أجل بلوغها - تبدو في نظر الكثيرين متعارضة مع حرية الإنسان؛ فالوصول إلى معرفة شاملة بالطبيعة وبالحياة، معناه أن كل شيء قد أصبح واضحا محدد المعالم؛ بحيث لا يعود هناك إلا طريق واحد محدد بدوره لبلوغ الخير الإنساني، عندئذ لا يكون هناك معنى لترك الحرية للناس بحيث يسلك كل منهم وفقا للقاعدة التي يمليها عليه عقله، بل يكون الأقرب إلى المعقول هو إلزام كل شخص بمراعاة الشروط الضرورية لتحقيق الخير، وهي شروط وحيدة لا بديل لها، وما يبرز هذا الإلزام أن خروج المرء عنه يعني إلحاق الضرر بنفسه وبالآخرين. وهذا يعني أن العلم الشامل - على المستوى الإنساني - لا يترك مجالا لحرية التصرف، أو للسلوك غير الملتزم باتجاه واحد محدد مقدما.
هذه المشكلة - التي أثارها تقدم العلم الحديث - تناظر مشكلة أخرى سبق أن أثارها اللاهوت عن العلم الشامل على المستوى الإلهي، فقد بدا للبعض أن شمول العلم الإلهي وإحاطته بكل شيء يتعارض مع مسئولية الإنسان عن أفعاله ؛ ومن ثم فهو يتعارض مع فكرة الثواب والعقاب، فكيف يعاقب الله إنسانا وقد كان بعلمه الشامل يعرف مقدما أنه سيرتكب الشر؟ إن الخالق يعرف منذ البداية ما سيحدث لما خلقه؛ أي إن فعل الخلق يستتبع علما شاملا، فكيف يكون المخلوق بعد ذلك مسئولا أمام من خلقه، ومن أحاطه علمه منذ البداية بكل تفاصيل سلوكه في المستقبل؟ لقد لخصت الفيلسوفة «سوزان ستيبنج» وجهة النظر هذه حين أكدت وجود تناقض شديد بين فكرة الله بوصفه خالقا وفكرة الله بوصفه قاضيا،
4
فكيف يكون خالق الشيء حكما عليه؟ كيف يشكله على نحو معين، ويعلم مقدما ما سيترتب على هذه الطريقة الخاصة في التشكيل، ثم يحاسبه على تصرفاته المترتبة على طريقة تشكليه له؟ هذا الاعتراض الخطير هو الذي دفع اللاهوتيين إلى أن يبتدعوا فكرة «حرية استواء الأطراف
Librté d’indifférence »، بوصفها تلك الحرية التي منحت للإنسان بحيث يكون أمامه في كل حالة طريقان يستطيع الاختيار بينهما؛ فالله قد شاء أن يمنح الإنسان القدرة على أن يحدد لنفسه المسلك الذي يختاره بين مسالك متعددة ممكنة؛ حتى يكون للثواب والعقاب والمسئولية أمام الله معنى.
ولا جدال في أن هذا الحل يؤدي إلى تحقيق قدر من الحرية للإنسان. ولكن على حساب شمول العلم الإلهي؛ إذ إن إتاحة ممكنات متعددة أمام السلوك الإنساني لن يكون أمرا يستتبع مسئولية أمام الله إلا إذا كان اختيار الإنسان لواحد من هذه الممكنات أمرا خارجا عن نطاق العلم الإلهي الشامل، وإلا عدنا مرة أخرى إلى التعارض بين العلم الإلهي الشامل والمسئولية أمام الله، وهكذا يكون في هذا الحل ذاته تأييد للتعارض بين شمول العلم الإلهي وبين الحرية الإنسانية، بحيث لا يمكن تأكيد هذه الحرية إلا بتضييق نسبي لنطاق العلم الإلهي.
ولعل هذه النقاط كلها كفيلة بإيضاح وجهة النظر التي تؤكد وجود تعارض أساسي بين العلم والحرية، وتذهب إلى أن ازدياد أحكام البناء العلمي يؤدي حتما إلى تضييق نطاق الحرية، وإلى أن الحرية لا تزدهر بحق إلا في ظل مذهب يرخي من قبضة الحتمية العلمية على العالم ، ويترك مجالا للاختيار بين ممكنات متعددة تستوي في أهميتها، ولا يتحتم علينا تفضيل أحدهما دون الآخرين؛ أي إن الحرية في نظر أصحاب هذا الرأي لا تقوم لها قائمة إلا بقدر ما يتخلى العالم عن فكرة الضرورة ويستعيض عنها بفكرة العرضية، أو بقدر ما يتنازل عن الحتمية لكي يؤكد أن مسار الحوادث غير محتوم وغير متحدد أو متعين منذ البداية. (2-4) التوفيق بين العلم والحرية
Page inconnue