وأخيرا، فإن التضاد بين نزعة التجريد عند البنائيين والنزعة العينية عند الوجوديين يمكن تخفيفه إلى حد غير قليل إذا أدركنا أن كل طرف يحمل في ثنايا مذهبه شيئا من صفات الطرف الآخر، فلم تكن الكتابات الوجودية في كل الأحوال عينية تنبض بالحياة، كما يشيع وصفها عادة، وإنما كانت في أحيان غير قليلة تتسم بقدر كبير من الجفاف التجريدي، وأوضح مثل على ذلك كتابا سارتر: «الوجود والعدم» و«نقد العقل الجدلي»، اللذان كانا يعرضان مضمونا فكريا عينيا من خلال شكل وأسلوب لا يقل في تجريده عن كتابات ستروس.
ومن جهة أخرى ففي وسع المرء أن يجد في كتابات ستروس جانبا من اللمحات الشعرية التي تخفف - من آن لآخر - من غلواء التجريدات المتطرفة ، ويظهر ذلك بوضوح حين يتحدث عن الموسيقى ويربط بينها وبين الأسطورة؛ إذ يجد فيهما معا إيقاعات متكررة وتنويعات على ألحان (أو موضوعات) رئيسية. وفضلا عن ذلك فهما تشتركان معا في أن ما يفهمه المرء منهما خاص به إلى حد بعيد، وفي أن من يتلقى الرسالة الموسيقية أو الأسطورية - وليس مرسلها - هو الذي يتحكم في معناها، وتثير الموسيقى والأسطورة - من حيث هما أسلوبان ثقافيان - استجابات انفعالية في المخ البشري، يمكن عن طريق تحليلها فهم البناء اللاشعوري للذهن البشري، وبالفعل يكرس ستروس جزءا كبيرا من مجلداته الثلاثة الضخمة التي ألفها بعنوان «أسطوريات
Mythlogiques » للكشف عن الآليات المنطقية التي تثير تلك الاستجابات الانفعالية، ويؤكد وجود تواز بين البناء المنطقي والاستجابة الانفعالية؛ أي بين الجانب الثقافي والطبيعي في الإنسان، ويمجد ستروس الموسيقى في لغة يختفي فيها جفاف تجريداته الرياضية المألوفة، فيقول مثلا: «إن الموسيقى، هي وحدها - من بين سائر اللغات - التي تتسم بطابع متناقض هو أنها معقولة أو مفهومة. وفي الوقت ذاته غير قابلة للترجمة، وهذه السمات تجعل الموسيقى ذاتها السر الأعظم في المعرفة البشرية؛ فكل فروع المعرفة الأخرى تسير في أعقابها، وهي التي تحمل مفتاح تقدمها.»
27
والواقع أن كتاب «الأسطوريات» يحفل بأمثال هذه الارتباطات الشعرية التي يمزجها ستروس بتحليلاته الأنثروبولوجية فيخفف إلى حد بعيد من جفافها، ويثبت أن للجانب الانفعالي العيني وجودا لا يمكن تجاهله وسط الصيغ الرياضية المفرطة التجريد التي اشتهرت بها كتاباته، ولعل في هذا ما يدل على أن الشقة التي تفصل بين بنائيته وبين الوجودية يضيق أحيانا إلى حد لا يتصوره من يتأملون كلا المذهبين من خلال الصيغ التي شاع إطلاقها عليهما دون تدقيق أو تمييز. (4) ميشيل فوكو وبناء العقل الحديث
حين نشر ميشيل فوكو
M. Foucault
كتاب «الكلمات والأشياء
Les Mots et le Choses » في عام 1966م، أحدث الكتاب ضجة كبرى، ورآه البعض مبشرا بفلسفة جديدة، بينما نظر إليه آخرون على أنه أضاف بعدا جديدا إلى الحركة التي سبق أن أثمرت - في ميادين اللغويات والأنثروبولوجيا - التحليل النفسي والتفسير الماركسي. ولكن هذه الضجة الصاخبة التي كانت في واقع الأمر ضجة مؤقتة؛ إذ إن الكتاب بعد مضي عشر سنوات على نشره، لم يثبت قدرته على الصمود للزمن، وأصبح من المألوف كلما تعرض باحث لهذا الكتاب في الوقت الحالي أن تغلب لهجة الانتقاد عنده على لهجة الإعجاب. بل إن البعض يعربون عن اعتقادهم بأن الكتاب كان «موضة» مرتبطة بفترة معينة، وأنه - برغم عدم اعترافه بالتاريخ - قد أصبح اليوم ذا قيمة تاريخية فحسب؛ ومن هنا فإننا لا نعتزم الإطالة في الكلام عن فوكو وعن كتابه الرئيسي هذا؛ إذ إن الاتجاهات الأكثر ثباتا في البنائية أحق منه بالبحث المطول.
في كتاب «الكلمات والأشياء» يعرض فوكو الصور البنائية المختلفة التي أخذها العقل الأوروبي منذ عصر النهضة في القرن العشرين، وقد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن مثل هذا العرض لا بد أن يكون تاريخيا، ما دام موضوعه قد تغير طابعه على مر القرون الخمسة التي اتخذها المؤلف ميدانا لبحثه. ولكن حقيقة الأمر أن فوكو نظر إلى العقل - الذي أطلق عليه اسمه اللاتيني
Page inconnue