16
وإننا نستطيع أن نرجع الأنساق الرئيسية التي ينظم بها الإنسان حياته الاجتماعية إلى تلك البناءات الأساسية المشتركة بين كل اللغات البشرية.
وعلى أية حال فإن وجه الخطورة في هذا الرأي هو أنه يحكم على اللغات البشرية في عمومها من خلال وجهة نظر معينة، هي السائدة في عصر معين أو في مدرسة فكرية معينة. ومن المعروف في علم اللغويات أن النماذج اللغوية تتعدد بتعدد المدارس. وقد تأثر ستروس بالنموذج الذي وضعه «جاكوبسن»، وهو نموذج تجاوزته الأبحاث التالية في علم اللغويات بمراحل، «فالآليات التي تعتمد عليها قدرة الإنسان على إضفاء معنى مركب على الكلمات البشرية وما يترتب على هذه القدرة من تكوين أنماط محددة، هي عمليات أعقد بكثير مما يوحي به النموذج المبسط من وراء نظريات جاكوبسن وستروس؛ ومن هنا فإن ما يستخلصه من بناءات مستمدة من معطيات غير كافية، ليست على الإطلاق بناءات تعبر عن صفات مشتركة بين الإنسانية كلها. بل إنها تعبر عن صفات جماعة ثقافية معينة فحسب.»
17
ولقد كان هذا الاتجاه إلى تعميم نموذج لغوي معين على كل مجالات العلوم الإنسانية، وإنكار تعدد النماذج تعدد ميادين البحث، هو الذي أدى بالنقاد إلى التحذير من خطورة التعميمات الشاملة لدى البنائيين، ولدى ستروس بوجه خاص، وبالفعل نجد في البنائية ميلا إلى اتهام كل من لا يعترف بهذا الأنموذج الواحد ويطبقه على كل مجالات العلوم الإنسانية بأنه جاهل أو مفتقر إلى الروح العلمية، مما دعا «لوفبفر
Henri Lefebvre » إلى أن يصف البنائية بأنها «مذهب إرهابي»؛ لأن المرء في نظرها إما أن يكون بنائيا متسقا يؤمن بأنموذج موحد ويطبقه تطبيقا شاملا على كل شيء، وإما أن يكون شخصا لا يفهم شيئا،
18
والأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن ستروس قد بذر في البنائية بذرة دجماطيقية أصبح من الصعب بعد ذلك التخلص منها؛ نتيجة لتسلط النموذج اللغوي عنده على جميع الميادين.
وإذا كان البعض قد انتقدوا النموذج اللغوي الذي أراد ستروس تعميمه، فإن البعض الآخر قد انتقدوا الاعتقاد الذي يكمن من وراء عملية التعميم هذه - سواء أكان أصلها لغويا أم غير لغوي - وهو الاعتقاد الراسخ لدى ستروس بأن البناءات ثابتة، لا يؤثر فيها الزمان. ولعل أحق النقاد بأن نستمع إلى وجهة نظره في هذا الصدد هو «بياجيه»، ليس فقط لأنه كان عالما ومفكرا من الطراز الأول، بل أيضا لأنه كان من أنصار البنائية، مع ذلك فقد هاجم فكرة ثبات البناءات، ورأى أنها ليست ضرورية على الإطلاق لكي يكون المذهب البنائي متسقا مع نفسه.
فمن الملاحظ أولا أن ليفي ستروس ينسب إلى البناءات ضربا من الوجود يصعب تحديد طبيعته، فهي موجودة على نحو مستقل عن ذهن العالم الذي يتوصل إليها؛ أي إنها ليست مركبا من تلك المركبات الاصطلاحية التي يتواضع عليها العلماء من أجل تيسير عملهم، دون أن يكون لها وجود حقيقي. ولكن وجودها في الوقت ذاته ليس وجودا متعاليا
Page inconnue