Littérature ou manque de bienséance
أدب أم قلة أدب
Genres
القاهرة، أبريل 1997
صديقتان
اللمعة في النني الأسود لا زالت كما كانت منذ ثلاثين عاما، قوية مقتحمة كضوء النهار، وذراعها ارتفعت بغير إرادتها، عضلات الذراع تتقلص مترددة بين العناق الكامل أو ترك مسافة هواء، أية مسافة وإن كانت ميلليمتر، تمنع تلامس الصدر بالصدر.
صدرها لا زال كما كان منذ ثلاثين عاما، ومن فوقه الوشم كزهرة البنفسج، والنهدان الصغيران تحت الثوب الأبيض عضلاتهما مشدودة منتصبة متحفزة للعطاء بغير مقابل، وقلبها مفتوح كفتاة ساذجة وبراءة طفلة لم يلمسها رجل، ولم تحمل ولم تلد ثلاث مرات، وابنها الأكبر أصبح رجلا، وابنتها الصغرى لها طفلان.
ثلاثون عاما مضت دون أن تلتقيا، وإذا لمحتها في مكان وكادت العيون تلتقي، حركت رأسها إلى الناحية الأخرى لتبتعد العين عن العين. ولم يكن اليوم الواحد يمر دون أن تراها أو ترفع سماعة التليفون لتحكي لها ما حدث في نهارها وليلها. وفي أيام الدراسة لم تكن الساعة الواحدة تمر دون أن تلصق رأسها برأسها وتهمس بآخر خبر، أو فكرة شيطانية، أو مجرد نكتة. وتضحكان بصوت مكتوم حتى ينتفخ صدرهما بالهواء، وتوشكان على الاختناق، فيندفع الهواء المحبوس من الأنف والفم بغير إرادتهما على شكل شهقات متقطعة، فإذا بالمدرس يتوقف عن حركته الدائبة كالبندول أمام السبورة، وبإصبع نحيل كإصبع الطباشير يطردهما خارج الفصل. وفي الإجازات الصيفية لا يكون الصيف مصيفا، ولا السفر سفرا، إلا إذا جاءت معها صديقتها، والبحر والرمل والبيت والمدرسة والشارع والدنيا كلها بغير صديقتها تفقد البهجة، والحياة تبدو مملة بلا فرح، وليس بينها وبينهم كلام ولا حديث، ولا يعرفون عنها شيئا إلا نتيجة امتحان آخر العام. واستدارة جسمها وهو ينمو، والنهدان يكبران ويكبران، ليصبح صدرها بحجم صدر أمها، ومن تحت صدرها الضخم، لا يعلم أحد منهم أن عضلة صغيرة بحجم قبضة يدها تدق وتدق، إذا وقعت عيناها من خلال ثقوب النافذة على الوجه الطويل، بأنفه الحاد والشارب الكثيف الأسود. ولا يمكن أن يسري اسمه على لسانها، وأمها تتنهد في راحة وأذنها ملتصقة بباب غرفتها المغلق عليها وصديقتها، فلا يمكن أن تلتقط أذنها من ثقب الباب اسم رجل يتردد بينهما، وإنما هي كلها أسماء مؤنثة، وفي نهاية كل اسم يترهف أذنيها حتى الحرف الأخير، فإذا بالتاء المربوطة في نهاية كل اسم تجعل أمين أمينة أو نبيل نبيلة، حتى نهاية الحديث الذي لا نهاية له لآخر النهار، وآخر العام، والعام الأخير في الدراسة والامتحان النهائي، ثم التخرج. ويوم عقد القران، تنفصل التاء المربوطة فجأة عن الحرف الأخير، ويصبح الاسم مذكرا.
ذراعها لا زالت مرفوعة بغير إرادتها، وعضلات الذراع متقلصة متمردة بين التلامس الكامل أو ترك مسافة بين الصدرين. صدرها كبير ضخم متهدل تحت ثوب الحداد الأسود كصدر أمها الكبير، أرضعتها منه وإخوتها السبعة، ولم يفرغ ولم ينقص، بل كان يمتلئ أكثر. وكراهيتها لأمها تزداد، ومنذ فطمتها أمها لم يحدث أبدا أن تلامس صدرها مع صدر أمها في عناق، وإن سافرت ثم عادت، فلا يزيد العناق عن تلامس اليد باليد أو ترتفع لتحوطها دون التصاق، ولتظل دائما مسافة هواء تفصل بينها وبين أمها، وفي الهواء تسبح ذرات بلون التراب. وفي أذنيها يسري الصوت الناعم كصوت أبيها، يزحف فوق عنقه الضخم، ثم تتسلق لتمسك شاربه الكثيف، تفوح منه رائحة الدخان، ومن خدها يقرصها فتضحك، من شاربه تشده فيقهقه، كاشفا عن أسنان صفراء بالتبغ، وترفع أمها عينيها وهي تكنس الأرض على امتداد مسافة الهواء، تسبح فيها ذرات الغبار، وفوق عينيها طبقة رمادية ويهمس الأب في أذنها بصوت ناعم: «أمك تغار منك.» وبغشاء أذنيها المخاطي يلتحم الصوت، وتسري الحروف في عروقها كرات من الدم، تتحول في خلايا المخ إلى فكرة ثابتة كقطعة من الرصاص: «أمها تنافسها، وهي والمرأة غريمتان.»
ومات أبوها قبل أمها، فأيقنت أن أمها قتلته، وامتلأت عيناها بنظرة الإدانة لها دون سؤال ودون كلام. حتى النفس الأخير، وهو يخرج من صدر أمها الكبير، وذراعها ترتفع لتحوطها في العناق الأخير دون تلامس، وقبل أن ينسدل الجفن فوق العين إلى الأبد، رفعت إليها أمها عينيها بحدقتين متسعتين، وفي نظرتها المتسعة دون كلام أدركت حقيقتها المكتشفة بعد فوات الأوان، والجفن سقط فوق العين إلى الأبد، وعضلات ذراعها تستميت في الالتفات حول صدر أمها، دون مسافة هواء. لكن المسافة لم تعد هواء، وأصبح لها كثافة الحائط في غرفة أمها تلاشي طلاؤه، وظهرت قطع الطوب الواحد فوق الأخرى، ومن فوقها صورة أبيها، يرتدي فوق رأسه شيئا كبيرا بحجم رأس آخر، وفوق كل كتف انتفاخة بحجم كتف آخر. وفي كل عين من عينيه المبتسمتين في رقة وعين أخرى بغير ابتسام وبغير رقة.
ذراعها المرفوعة لا زالت تلتف حولها في محاولة يائسة للعناق، وإلغاء المسافة بين الصدرين، والصدر الآخر منتصب مشدود العضلات، وقلبها مفتوح متحفز للعطاء. لكن صدرها كبير متهدل ممتلئ بالذنب، ثقيل بثقل الأرض، وثلاثون عاما عاشتها وهي تكره أمها، والصدر الكبير الذي ورثته عنها، والكراهية امتدت من صدرها إلى كل جسمها، ولم تعد تصدق أن رجلا يمكن أن يحبها بمثل ما أحبها أبوها. وتزوجت بعد موت أبيها من رجل أخفته في صدرها العام وراء العام. وبعد القران سقطت عنه تاء التأنيث المربوطة، فوق صدره المغطى بالشعر تتكور كالجنين، وتزحف برأسها فوق عنقه لتشد شاربه وتضحك. ولم تسمعه أبدا يضحك أو حتى يبتسم، وأنجبت منه أربعة أولاد وبنتا، بغير ابتسام وبغير فرح وبغير لذة، حتى لذة الأكل راحت، ورائحة الصبح راحت، ولم يعد في أنفها إلا رائحة التراب وهي تكنس الأرض. ومن فوق الكنبة ابنتها الصغيرة تتأرجح على ركبته، ويصنع من نفسه حمارا لتركبه، وعبر شعاع الشمس المحمل بذرات الغبار تلتقي عيناها بعيونهما الأربعة، فيتوقف الضحك ويضيع الابتسام، ويطفو فوق العيون الستة لون رمادي.
منذ ليلة الزفاف وهي تكرهه، وابنها الأول كبر، وهي لا تزال تغسل ظهره بالليفة والصابون، والشعر الكثيف ينبت كالعشب فوق صدره، وكلما خرج وعاد تحوطه بذراعها، وصدرها الممتلئ الكبير يحوط صدره. وفي أذنيها يسري صوت أبيه الغليظ: لم يعد طفلا، وأصبح بغلا. ويرد الابن بصوت مكتوم: ليس بغلا إلا أنت.
وتنتصب الشعرات البيض فوق الشفة العليا، كاشفة عن أسنان متآكلة صفراء بالتبغ، وترتفع الكف الكبيرة في الهواء مترددة بين السقوط على وجه الابن أو وجه أمه. وقبل أن يزحف الشيب إلى الشعر الأسود كانت الكف تسقط على وجه الطفل، لكن الطفل أصبح رجلا، وارتفعت قامته ضعف قامة أبيه، ولم تعد الكف الكبيرة تتردد في السقوط على وجه الأم.
Page inconnue