ثمن الكتابة
أدب أم قلة أدب؟
على بحيرة مارينا
حالة فتاة من دفتر أحوال عيادتي
ماجي تفقد السلطة
البنات تعيش
عودة المكبوت
صديقتان
بيوتيفول
ليس لها مكان في الجنة
الأم السويسرية القاتلة
قصة فتحية المصرية
موت كاتب كبير
ثمن الوهم
سقوط رئيس دولة عظمى1
قصة الانتخابات في مصر1
ثمن الكتابة
أدب أم قلة أدب؟
على بحيرة مارينا
حالة فتاة من دفتر أحوال عيادتي
ماجي تفقد السلطة
البنات تعيش
عودة المكبوت
صديقتان
بيوتيفول
ليس لها مكان في الجنة
الأم السويسرية القاتلة
قصة فتحية المصرية
موت كاتب كبير
ثمن الوهم
سقوط رئيس دولة عظمى1
قصة الانتخابات في مصر1
أدب أم قلة أدب
أدب أم قلة أدب
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار ، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
أدب أم قلة أدب؟
في طفولتي كانت لي صديقة وحيدة، تقول ما لا يقوله الناس، لم يكن عقلي يلتقط كل ما تقوله، وإن أدركه جسدي بقشعريرة خفيفة لا تخلو من اللذة، يشوبها بعض الخوف أو الإحساس بالإثم، كأنما أنا المسئولة يوم الحساب عما تقوله صديقتي. لم يكن عقلي يفهم كلمات كثيرة غامضة يرددها الناس كل يوم، منها كلمة الإثم ويوم الحساب. أسمعهم يقولون إن الغامض هو المستور، أما صديقتي فكانت تقول إن الغامض هو الظاهر أمام عيوننا وآذاننا، وتقول أيضا إن الناس لن يفهموها، وإن فهموها أنكروها وتنكروا لها، من أجل إثبات براءتهم غير البريئة، كما تقول صديقتي، فهي ترى عوراتهم المستورة بورق الشجر، مثل زرقاء اليمامة، ورأت المستور مكشوفا، والناس مثل النعامة تخفي رأسها في الرمال وتظهر العورة فوق السطح.
في المدرسة قبل دخولنا الجامعة، كتبت صديقتي بعض أبيات من الشعر على قصاصة ورق، وقعت في يد الناظرة، فأصدرت قرارا بفصلها، لحسن حظها خرجت صديقتي من المدرسة، وكتبت قصيدة أخرى قالت فيها إذا اشترط أبي على أمي الإخلاص مقابل الإنفاق، فهل أشترط الإخلاص على زوجي لأني أنفق مثله؟ ما علاقة الإنفاق أو الفلوس بالإخلاص في علاقات الحب والجنس أو الزواج؟
لم تكن صديقتي تكتب الشعر أو النثر كما يكتبه الناس، كانت تكتب لنفسها، لا تنشر ما تكتبه، لا ترسله هدية لنقاد الأدب، داخل كتاب، وتقول: إن قرأ نقاد الأدب كتاباتها، فسوف يتهمونها بالفجور؛ لأنها تحاول الفصل بين الفلوس والشرف، أكاد أفهمها رغم الاضطراب والقشعريرة، فأنا لم أتزوج أستاذ في الجامعة إلا بعد أن دفع لي المقدم عشرين ألفا، والمؤخر تم تحديده في العقد خمسين ألفا، أضاعفه إلى مائة ألف في كلامي مع الناس، ويصبح المقدم أربعين ألفا، والمؤخر مائة ألف. كنت أتصور أن قيمتي تزيد بازدياد ما يدفعه الرجل لي. وقالت صديقتي إن العكس هو الصحيح، قيمة المرأة تنحدر بمقدار ما يدفعه الرجل لها. أكاد لا أفهم، وإن فهمت يشتد اضطرابي، كأنما أدرك مدى انحداري، مدى سقوطي في البئر المظلم، ليس معي إلا جسدي، أشعله بعود ثقاب لأرى الطريق أمامي، جسدي هو الشمعة الوحيدة المضيئة، في كل خطوة يكمن الخطر، يتغير شكله في كل لحظة تمر، لا يمكن أن أعيش اللحظة مرتين، أو أنزل البحر الواحد أكثر من مرة، كل شيء يتحرك، حتى الأرض تحت قدمي، فوق شاشة الكمبيوتر تبدو الذرة مثل الكرة الأرضية، تموج بالحركة اللانهائية، دائرة داخلها عدد لا نهائي من النقط، تزداد كثافتها عند المركز، حيث يكون الإلكترون وحيث لا يكون، لا يمكن التأكد من أي حقيقة مادية، فما بال الحقيقة غير المادية أو الروحانية؟
وتقول صديقتي: أغلب الناس سقطوا في البئر مثلي، أصبح الجنس أو الجسد هو المكان أو طريق السقوط، وإذا سقط الرئيس الأكبر للقوة العظمى في العالم، فهل ينجو الآخرون؟
وكتبت صديقتي قصيدة أخرى تقول فيها: رغم انكشاف جسد المرأة، فهو أكثر غموضا من المستور وراء عظام الجمجمة، أو ما يسمونه العقل أو الروح، تكشف صديقتي في كتاباتها الروحية الغامضة عن أسرار الجسد العاري ، وتقول إن الروحانيات في أغلب بلاد العالم حطمت أرواح الناس، تحت اسم «الروح» سقط الملايين من البشر قتلى، شربت الأرض دماءهم، تحت اسم الصليب المعقوف أو غير المعقوف، تحت اسم الشمس أو القمر أو الهلال، كوكب الزهرة، نجمة داوود، المطرقة والمنجل، السيف والكتاب المقدس، تحت اسم الحرب النظيفة أو غير النظيفة، تحت اسم السلام العادل أو غير العادل.
وتبتسم صديقتي في أسى وتقول: منذ اكتشاف العملة والسوق، لم يعد الشرف موجودا في الحب أو الحرب، في الشرق أو الغرب. إذا اشترى الرجل لمرءوسته في العمل أو زوجته في البيت هدية من السوق الأبيض أو الأسود، فهل يشترط الإخلاص مقابل العملة، وإذا خان الرجل زوجته رغم وجود العقد، فهل تخلص المرءوسة أو العشيقة الحرة بدون عقد؟ ألا تبيع المرأة الرجل في السوق بمثل ما اشتراها؟ أيهما يدفع أكثر يكسب الشرف! ألا تمدد العملة كل شيء حتى قرارات الحرب العظمى؟
تقول صديقتي: إنه البئر المظلم، يسقط فيه المتنافسون والمتنافسات في السوق الحرة، والحرية هنا لمن يملك العملة، الإنفاق مقابل الطاعة في البيت أو المكتب. وتكتب صديقتي تقول: ماذا يشترط الرجل العاجز عن الإنفاق؟ سؤال آخر يرد إلى الذهن، وماذا تشترط المرأة القادرة على الإنفاق؟
صديقتي بعد أن طردتها الناظرة، سافرت إلى مكان آخر هادئ تكتب فيه الشعر. اشتغلت في معبد يلجأ إليه الناس للتخفف من آثامهم، قبل الخروج يدفعون شيئا في صندوق النذور تكفيرا عن الذنب، يخرجون بأرواحهم النظيفة المغسولة من الإثم، وكتبت صديقتي قصيدة صغيرة تقول فيها: لم يكن معي قطعة واحدة من العملة أدفعها، وبقيت ذنوبي معي وروحي غير نظيفة! وقعت القصيدة بالصدفة في يد خادم المعبد الأمين، ناولها لسيده دون أن يفتحها، قرأها سيد المعبد وأصدر قراره مثل الناظرة، الفصل النهائي دون محاكمة، دافعت صديقتي عن شرفها وطالبت بمحاكمة علنية أمام الناس.
لم يسمع أحد ما تقول، كانوا جميعا داخل البئر العميق، والمحاكمات كلها سرية، حكموا عليها غيابيا بالكفر، أباحوا دمها، هربت في الليل إلى مكان آخر بعيد، وكتبت قصيدة جديدة تقول فيها : لماذا يخافون المحاكمات العلنية؟ وإذا عرف الناس المستور، هل يسقط المعبد على من فيه؟
خمسة وثلاثون عاما مرت، ثم التقيت بصديقتي صدفة، كنت أمشي في الشارع أتكئ على عكازي، أصابني التهاب في المفاصل وترهل في العضلات، لم أكن أتحرك إلا داخل البيت، أو داخل المكتب، أربعة جدران لا تدخلها الشمس، ألف رأسي خوفا من الهواء وعيون الناس، أغلق الأبواب والنوافذ حتى لا يسمع الجيران صوت زوجي. منذ اكتشفت بالصدفة أن له عشيقة وهو يزعق كي لا أرى شيئا، ضعف بصري من قلة الرؤية، ضعف سمعي من قلة الزعيق داخل البيت والضجيج في الشارع، لم يعد في إمكاني عبور الشارع دون أن يمسك يدي.
كانت صديقتي تمسك يدي وأنا أعبر الشارع، لم أعرفها، كانت تبدو شابة ممشوقة الجسم، تتحرك بسهولة، تجتاز الشارع كأنما هو بيتها، يدها حانية حول يدي، تسألني عن أحوالي، أسألها عن قصائد شعر في الدرج لا يقرؤها أحد أو واحدة إلا هي، أخفي عكازي وراء ظهري وأسألها، كيف انتشلت نفسها من البئر؟ تواصل الضحك وتقول لي: الطريق بسيط نحو الصعود من القاع، يبدأ بكلمتين اثنتين لا غير «أريد نفسي.» إن رفضني العالم فأنا أكسب نفسي، كنت أظن أنني ابنة أبي، ثم اكتشفت أني ابنة أمي، كلنا أبناء وبنات أمهاتنا، هذا العالم كله خرج من رحم المرأة، إنه مكان مقدس؛ أعني رحم المرأة، هذا الجزء من جسدي، الذي كان مبعث الخزي والعار، فأصبح المكان حيث الشرف والفخر، كان سبب السقوط، فأصبح سبب الصعود.
تركتني صديقتي واقفة فوق الرصيف، أذناي مسدودتان بأصابعي، رأسي ملفوف بالقماش السميك، كلمة «رحم» المرأة تخدش حيائي، مع أنني أقرأ كل يوم عن العشيقة السرية لأكبر رئيس دولة في عالمنا وسائله المنوي على فستانها الشهير ... ولا شيء يخدش حياء العالم إلا قصيدة شعر تقول ما لا يقوله الناس، لا ينشرها أحد، وإن تسربت إلى آذان نقاد الأدب، قالوا إنها لا تنتمي إلى الشعر أو الأدب، تجاهلوها بالصمت والإنكار، باعتبارها قلة أدب.
القاهرة ، أغسطس 1998
على بحيرة مارينا
دعتني إحدى الصديقات القديمات لزيارتها في الفيلا التي تطل على بحيرة «مارينا» على الساحل الشمالي. كانت المرة الأولى التي أذهب إلى هذا المكان الجديد، الذي يرتبط في خيال الكثيرين بالطبقة الجديدة صاحبة الملايين أو البلايين. أخذت معي المايوه لأسبح في البحيرة، وكتابا أقرأ فيه إن شعرت بالملل، فأنا أعرف صديقتي منذ الدراسة في كلية الطب، وأعرف لماذا تدعوني بكل هذا الإصرار رغم فتور العلاقة بيننا منذ الانفتاح. فجأة انقلب زوجها من الحديث عن الاشتراكية والقطاع العام إلى الحديث عن الرأسمالية والقطاع الخاص.
تذكر أن خاله الباشا مات بالذبحة الصدرية بعد أن فرض عليه جمال عبد الناصر الحراسة، والأرض التي ملكتها العائلة الكريمة أخذتها الدولة، ولم يبق إلا الشقة الكبيرة في الزمالك والعمارة في المعادي، لكن الله فتح عليه منذ أيام الانفتاح الأولى، فهو يعرف دنيا المال والاستثمار، ويسافر إلى باريس ولندن وجنيف ونيويورك، ويتكلم ثلاث لغات، ينحني حين يصافحني قائلا: «أهلا نوال هانم.» كلمة هانم تخرج من بين شفتيه الرقيقتين مع دخان السيجارة الفاخر.
كان اليوم مشرقا، الشمس تتألق فوق المياه الرقراقة تلامس الشاطئ في موجات صغيرة ناعمة ناعسة، ارتديت المايوه، وأسرعت لألقي نفسي في البحيرة كالطفلة، كنت أنجذب إلى المياه الزرقاء الصافية أكثر من التحف الفاخرة التي كدستها صديقتي في الفيلا. والشبكة الثمينة المرصعة بالفصوص المشعة التي انشبكت بها ابنتها لأحد كبار التجار أو رجال الأعمال، نطقت كلمة «الأعمال» كأنها هي إحدى المقدسات الجديدة، وأسألها: ما هي هذه الأعمال؟ فترد بكلمة إنجليزية أكثر غموضا هي «البزنس».
تمددت بالمايوه على الرمال تحت أشعة الشمس، تركتني صديقتي وراحت تشرف على أمور الفيلا ووليمة الغداء، تحلو القراءة على الشاطئ وهواء البحر واليود والأكسجين تملأ الرئتين، فتحت الكتاب وبدأت أقرأ، عيناي تتركان الصفحة وترمقان الوجوه والأجسام التي تتمشى على الرمال، بنات رشيقات بالمايوه المكشوف أعلى الفخذين، وبنات سمينات مترهلات داخل الفساتين الواسعة الطويلة، رءوسهن ملفوفة بالحجاب، يتصببن بالعرق، يرمقن البنات السابحات في المياه بحسد، يختفي الحسد تحت نظرة ازدراء أو حركة امتعاض بالشفتين الممطوطتين.
لمحت وجه فتاة تلف رأسها بإيشارب أحمر، يتدلى من أذنيها قرط ضخم يلمع تحت الشمس، بشرتها بيضاء مدهونة بالأصباغ والمساحيق، شفتاها مصبوغتان بلون أحمر قان، تتعثر في ذيل فستانها الحريري الطويل، يتأرجح جسمها المربع الممتلئ فوق كعبين عاليين ينغرزان في الرمل، إلى جوارها تمشي أمها، تكاد تشبهها إلا أنها أكبر سنا، تلف رأسها بطرحة بيضاء مثل العائدات من الحج، ابتسمت الأم حين لمحتني وقالت: إزيك يا دكتورة. تذكرت ملامحها، كنت أشتري منها الجبنة البيضاء والبسطرمة، زوجها البقال اسمه محمد، مربع سمين أبيض، يكاد يشبه زوجته، كان يرتدي جلبابا، فجأة تغير البقال محمد في أيام الانفتاح، بدأت أرفف جديدة تملأ الدكان، تتكدس عليها زجاجات المياه المعدنية المستوردة، وسڤن أب، وشويبس، واللبان الأمريكي تشوجام، وارتدى محمد بدلة وحذاء جلديا أسود، بدت عليه سمات الأفندية، اتسع دكانه واشترى قطعة الأرض المجاورة، بنى عليها عمارة عالية، في الدور الأرضي أقام معرضا كبيرا للسيارات. أصبح يأتي إلى الدكان داخل سيارة مرسيدس تحول الدكان إلى سوبر ماركت، كانت ابنته طفلة، لا بد أنها هذه الفتاة التي تمشي إلى جوار أمها، سمعتها تقول لي: شفناكي في الدش يا دكتورة مع واحد شيخ مش فكره اسمه، كان عصبي شوية، لكن ليه يا دكتورة مش لابسة الحجاب؟ مش حرام كده المايوه؟
جلست الأم وابنتها معي بضع دقائق، دار الحوار عن الحرام والحلال، ترهف الابنة أذنيها المثقلتين بالقرط الضخم، ربما تستمع لأول مرة في حياتها إلى أن المايوه ليس حراما فوق شاطئ البحر، فالمفروض أن البحر للسباحة، والسباحة رياضة ممتعة من حق النساء والرجال وليس الرجال فقط.
جاء البقال محمد، الذي أصبح برونزي اللون، يرتدي «مايوه ملون»، جسده سمين مترهل، له كرش قبيح المنظر، إلا أنه يشمخ بأنفه بكبرياء ونوع من الغطرسة، قال: «أهلا يا دكتورة» بطرف لسانه. ربما لم يعجبه أن تجلس ابنته وزوجته مع امرأة ترتدي المايوه، يتحدث إليهما بلهجة خشنة، يأمرهما بالعودة إلى الفيلا، نطق كلمة الفيلا بالفاء، رنت في أذني «الفلة » مثل سدادة الزجاجة من الفلين .
أصبحت جالسة وحدي على الرمال، لم أعد قادرة على القراءة، أريد أن أتابع هذه الطبقة الجديدة التي تتحرك أمامي على شاطئ بحيرة مارينا، تكونت في السنوات العشرين الأخيرة منذ الانفتاح، منهم من أطلق عليهم اسم «القطط السمان»، رأيتهم يمشون على الشاطئ بأجسامهم السمينة القصيرة، يشبهون القطط المستأنسة في البيوت، أردافهم متهدلة، إلا أن عيونهم تلمع كعيون القطط الجائعة، سيقانهم رفيعة مشدودة، حركتها سريعة متوترة، يدخلون بها مسرعين إلى البنك المركزي، منه ينطلقون إلى مكاتب أصحاب النفوذ، في مجالات الاستثمار أو التنمية والاستيراد والتصدير، في الغرفة التجارية، وفي الغرفة المظلمة، حيث يعدون أوراق البنكنوت، ولا يمكن لهم أن يدفعوا ضرائب، فالمفروض أنهم لا يملكون شيئا، الأموال كلها ليس لها مكان، يمكن أن تطير فوق البحار إلى جزر الباهاما، أو جزر أخرى وراء الشمس والقمر، لا يمكن لأحد أن يمسكها، إلا إذا بدأ القط السمين يلعب بديله، يتحرش بالقطط الكبار، أو يتمادى ويتجاوز الحدود المرسومة، حينئذ يعلقون الجرس في عنقه، يظهر مانشيت في الصحف بالحبر الأحمر، اضبط القط السمين قبل أن يهرب خارج البلاد، أو اضبط القطة السمينة التي هربت!
لمحت أحد الصحفيين المعروفين يتمشى الهوينا على شاطئ البحيرة، يدخن البايب، عيناه شاردتان في الأفق، إنه ضيف دائم على موائد الوزراء، يتشمم الأخبار وراء البحار، يرقب حركة القطط السمينة من الذكور والإناث، قلمه يطل من جيبه العلوي، له غطاء من ذهب، كل كلمة منه توزن بالدولار أو الدينار أو الاسترليني، يأتيه الشيك فوق مكتبه قبل أن يكتب عنوان المقال، قد يتحول القط السمين فجأة إلى بطل قومي، وقد ينقلب البطل القومي فجأة إلى قط سمين، إنها صاحبة الجلالة الصحافة!
لمحني الصحفي المشهور وقال: «أهلا يا دكتورة.» ثم ابتعد مسرعا يتطلع نحو السماء، رأيت ثلاث طائرات هليكوبتر ملونة تتسابق في الفضاء قرب الشاطئ داخلها رءوس شباب يلعبون في الجو. ربما يمتلك الواحد منهم طائرة هليكوبتر أو سيارة مائية تمشي فوق الرمل أو فوق البحر، ربما يكون ابن هذا الصحفي الشهير داخل إحدى هذه الطائرات يملكها أبوه أو صديق أبيه من كبار القطط السمينة، وكلهم يعشقون الصحافة وأضواء الإعلام، يتنافسون على الظهور أمام الرأي العام، يحركون السبحة بين أصابعهم علامة التقوى والإيمان، تفوح أنفاسهم برائحة الخمر والنساء والمخدرات.
ثم لمحتها تمشي بجسمها الطويل الممشوق داخل مايوه أسود مزين عند البطن بفص من اللؤلؤ أو الترتر، تهز جسمها برشاقة الراقصات وهي معروفة وسط راقصات البطن، يمشي إلى جوارها زوجها، يرتدي مايوها من النوع الديني المحتشم، يغطي ركبته، ربما هو سعودي أو كويتي أو من الدوحة، يملك مسجدا وعددا من العمارات أو المحلات، ربما هو في السلك الدبلوماسي أيضا، فهو يحمل في يده التليفون «المحمول»، يشتري في الصحف المساحات للإعلان عن البضائع في محلاته، سيارات أو تليفزيونات أو كومبيوترات، يشتري من جامعة كاليفورنيا درجة الدكتوراه، يشتري أيضا لنفسه حراسة خاصة بودي جارد. إن مات فجأة برصاصة مكتومة الصوت أو سم تضعه له زوجته في الشراب، يظهر نعيه في أكبر الصحف في صفحة كاملة أو نصف صفحة بالبنط العريض، ولا يمضي على موته أيام، حتى ترقص زوجته الفنانة في إحدى حفلات الزفاف بالقاعة الواسعة في فندق الخمس نجوم، ثم تتزوج في السر أحد الأمراء في بلد من بلاد الخليج.
كنت جالسة على شاطئ بحيرة مارينا، في يوم من أيام يوليو 1988، أستمتع بالفرجة على أنواع الرجال والنساء من الطبقة الجديدة، وجاءت صديقتي القديمة تدعوني إلى وليمة الغداء، مائدة طويلة رصت عليها الصحون، أطباق لا أعرف اسمها تنطقها بالفرنسية، وأطباق أعرفها مثل الفول المدمس والطعمية والعدس أبو جبة، وفخذة خروف مشوية. صديقتي تتفاخر بكل ما تملك، وأنا أفقد شهيتي. تملأ الصحن أمامي بالطعام، لم أعد آكل اللحم الضأن. ليه يا نوال؟ شرحت لها أن لحم الضأن يحتوي على كميات كبيرة من الدهن. سألتني بدهشة: «عاملة ريجيم يا نوال؟ مش معقول!»
رمقت جسمها السمين المترهل بنظرة من طرف عيني، وقالت: «خلاص عجزنا يا نوال، ومافيش متعة في حياتنا إلا الأكل.»
حين عدت إلى بيتي أحسست أن جسمي خفيف، رشيق، وضعت نفسي تحت الدش، غسلت رمال شاطئ مارينا، وصور الأجساد فوقه، وشعرت بسعادة!
القاهرة، يوليو 1998
حالة فتاة من دفتر أحوال عيادتي
منذ العام الماضي بدأت تحملق في الليل بلا نوم، وإن نامت رأت الطوفان يغرق الأرض، وسيدنا نوح يركب السفينة ويمضي بدونها، ترى نفسها في الآخرة، ماشية فوق الصراط من تحتها النار، قدماها داميتان، جسمها يتأرجح قبل أن يسقط، تفتح عينيها فتجد نفسها راقدة فوق سريرها ملفوفة بالبطاطين، غارقة في عرقها، تقرأ الفاتحة، تحمد الله أنها لم تمت بعد وأمامها فرصة للتوبة، تنهض إلى الحمام، تغتسل خمس مرات، ثم ترتدي الثوب الواسع الطويل، حول رأسها تلف القماش السميك، تقف أمام الله لتصلي، لا شيء يظهر منها إلا ثقبين صغيرين موضع العينين في القماش الأسود. بعد الصلاة تجلس في حجرها كتاب الله، تقرأ وتستغفر الله على ذنبها الكبير، ليس في حياتها إلا هذا الذنب، منذ ولدت وهي تنام على صوت أبيها يرتل القرآن. منذ الطفولة لم ير وجهها رجل غريب. طوال سنين الدراسة لم تكلم أحدا، وبعد التخرج اشتغلت في مكتب ليس فيه أحد، مخزن بالدور السفلي في متحف صغير مهجور لا يزوره أحد، تجلس إلى مكتبها وأمامها الدفتر، تسجل عدد المومياء التي تأتي للتخزين أو المخزونة من قبل، تنفض عنها التراب بفوطة صفراء، ثم تعدها وتسجل الرقم في الدفتر، تغلق الدفتر وتضعه في الدرج، ثم تفتح كتاب الله وتقرأ حتى يحين موعد الانصراف. تحمل حقيبتها وتعود إلى بيتها ماشية على قدميها. مسافة ساعة ونصف، تقطعها بخطوة متزنة محكومة، ولا شيء في جسمها يهتز من تحت الثوب الواسع السميك.
رأسها الملفوف بالقماش الأسود مطرق إلى الأرض، في الحر والبرد تمشي المسافة مرتين في الذهاب والعودة، لا تركب الأوتوبيس حتى لا يحتك بها أحد من الخلف، ولا تركب «تاكسي» وحدها مع سائق غريب. وفي البيت تغتسل من تراب الطريق، وتتوضأ وتصلي قبل أن تأكل، وبعد الأكل تنام وتحت وسادتها كتاب الله. تصحو على صوت أبيها يناديها لتعد له الطعام. بعد أن يأكل، يصلي ويدعو الله أن يحمي ابنته من الشيطان، لولا المائة والأربعين جنيه كل شهر ما جعلها تخرج من البيت، وهو رجل عجوز بلا مورد، وهي بلا زوج يعولها. لم يتقدم إليها إلا ابن أخته العاطل بلا دخل، لو أرسل الله إليها زوجا ميسور الحال لما خرجت من البيت.
في غرفتها كانت هي أيضا تركع وتصلي. لم تكن تطلب من الله أن يرسل لها زوجا، أي زوج. فكرة الزواج طردتها من رأسها منذ الطفولة، ماتت أمها تنزف بعد أن ضربها زوجها قبل النوم. الموت مكتوب، لكنها تريد الموت بطريقة أخرى غير الضرب، ليس في حياتها رجل، أي رجل. ولا تعرف شيئا عن ذلك الجنس الآخر. وإذا ما وصلها من عند الجيران صوت موسيقى أو غناء سدت أذنيها بأصابعها، وأحكمت إغلاق النوافذ والأبواب.
ثم جاء ذلك اليوم في أبريل الماضي، كانت جالسة إلى مكتبها كعادتها، انتهت من عد الموميات والتماثيل المخزونة، اكتشفت وجود تمثال لم يكن موجودا بالأمس. راجعت الدفتر والأرقام، ثم أغلقت الدفتر ووضعته في الدرج، فتحت كتاب الله، وبدأت تقرأ بلا صوت ورأسها مطرق. بينما هي تقرأ، تحركت عيناها من خلال الثقبين الصغيرين في القماش الأسود، ودارتا حول الموميات والتماثيل، ثم استقرتا على وجه ذلك التمثال. تقاطيع وجهه منحوتة بشكل عجيب، وأعجب ما فيها عيناه، تنظران نحوها بحركة في «النني» لم ترها من قبل في أي تمثال آخر. استغفرت، واستغاثت بالله من الشيطان، وأطرقت برأسها مرة أخرى لتواصل القراءة. لكن عينيها كانتا تتحركان بغير إرادة لتنظر إلى التمثال، كان صغيرا، أصغر من التماثيل الأخرى، والتراب يغطيه، كأنما أهمل في المخازن سنين. مسحت عنه التراب، ووضعته قرب النافذة، وعادت تقرأ في كتاب الله. لكن عينيها تحركتا من خلال الثقبين الصغيرين مشدودتين نحو وجهه، عيناه فيهما الحركة الغريبة، مسحوبتان إلى أعلى قليلا كعيون قدماء المصريين. أمسكته في يدها داخل القفاز الأسود، وراحت تبحث عن علامة أو حروف تكشف عن اسمه أو العصر الذي عاش فيه. لم يكن هناك شيء. عادت إلى مقعدها وراء الكتب، واستقرت عيناها فوق السطور في كتاب الله. لكن سؤالا بدأ يدور في رأسها:
ألم ير أحد من قبلها هذه الحركة في عينيه؟
لم يكن معها في المتحف إلا موظفة عجوز تقوم بأعمال الإدارة، تهبط إليها من حين إلى حين تفتش وتراجع الدفتر، تمر بعينيها على التماثيل واحدا واحدا، وقد تتوقف عند تمثال يلفت نظرها ... مرت عيناها ذلك اليوم من فوق التمثال الصغير دون أن يلفت نظرها شيء. وتحيرت، ولماذا لم تر المديرة في عينيه الحركة التي هي رأتها؟ وأصبح السؤال يشغلها كل يوم، منذ أن تدخل مكتبها وتجلس ... تتحرك عيناها وحدهما لتستقران على وجه التمثال، الحركة في عينيه ما تزال، وقد أصبحت الآن حركة خاصة بها وحدها، لا ينظر بهاتين العينين إلا لها، وهي منذ رأتها للمرة الأولى لا تكف عن النظر إليها، وإذا حركت رأسها بعيدا أو خرجت من المكتب، ظلت عيناه أمامها تطلان عليها بهذه النظرة، كأنه يعيش هذه اللحظة وليس منذ سبعة آلاف عام. ليس في نظرته غطرسة الفراعنة الآلهة، وليس فيها خضوع العبيد من الشعب. ماذا فيها؟ لم تعرف. وفي كل يوم تستولي عليها رغبة المعرفة، تزيد يوما عن يوم كالرغبة الآثمة، وأصبحت كلما جلست إلى كتبها تتلفت حولها تخشى أن تهبط المديرة فتضبطها وهي تنظر في عينيه. أكثر ما كانت تخشاه أن يصدر أمر ينقله إلى مخزن آخر. وأصبحت حين ترقد في السرير لا تنام. ماذا يحدث لو ذهبت في الصباح إلى مكتبها فلم تجده؟ كانت منذ وجدته تسير إلى مكتبها بخطوة أسرع، وما إن تفتح الباب وتدخل، حتى تتحرك عيناها من خلال الثقبين، تبحثان عن وجهه بين وجوه التماثيل الأخرى ... وما إن ترى الحركة في عينيه، حتى تنفرج شفتاها المطبقتان عن تنهيدة خافتة من تحت القماش الأسود.
ودخلت ذات يوم إلى مكتبها فلم تجده، بحثت في كل المخزن، لم يكن هناك، في كل ركن، بين أرجل التماثيل الكبيرة فوق الأرض، حيث ترقد مئات التماثيل الصغيرة، لم يكن هناك .
وعادت إلى مكتبها تجلس. لم تستطع أن تدون شيئا في الدفتر، ولم تستطع أن تقرأ سطرا في كتاب الله، رأسها مطرق وقلبها ثقيل. أين ذهب؟ مكانه بالقرب من النافذة خال، والكون كله أصبح خاليا، ولا شيء في حياتها، لا شيء. يدها من تحت القفاز الأسود باردة، وفي عروقها يكف الدم عن الحركة، ومن حولها لا ترى إلا الموت على شكل تماثيل من الحجر، وهي أيضا تموت هذه اللحظة جالسة إلى مكتبها.
ثم رفعت عينيها بحركة مندفعة كاندفاعة الهواء في الصدر قبل النفس الأخير، ورأته واقفا في مكانه مختفيا وراء ضلفة النافذة. ولم يكن للمديرة لو هبطت في تلك اللحظة أن تعرف ماذا حدث، مظهرها من الخارج كما كان، جالسة في مقعدها خلف المكتب وأمامها الدفتر، راسها مطرق ولا شيء فيها يتحرك إلا «النني» الأسود من خلال الثقبين، واندفاعة الدم الساخن في عروقها تحت الجلد.
قبل أن تنصرف ذلك اليوم، أخفته في حقيبتها معها إلى البيت، وفي الصباح أعادته إلى مكانه. لم تلحظ المديرة غيابه وعودته، وفي البيت لم يلحظ أبوها وجوده داخل الدولاب. وفي الليل بعد أن ينام أبوها تخرجه من الدولاب وتضعه أمامها، لا تكف عن النظر إلى وجهه، تنام عيناها في عينيه، في الحلم تراه واقفا والطوفان يغرق الأرض، واقف أمامها من لحم ودم، وسيدنا نوح يركب السفينة ويمضي بدونه، أيكون ابن سيدنا نوح الذي لم يركب السفينة وغرق؟ أيكون عاصيا من أتباع الشيطان وليس مؤمنا من أتباع الله!
وأهم من هذا كله، هل يمكن أن يعود حيا بعد أن مات منذ سبعة آلاف عام؟
في الصباح تفتح عينيها والسؤال يدور في رأسها، تمشي في الطريق إلى مكتبها مطرقة الرأس، تخشى أن ترفع عينيها فتراه أمامها بلحمه ودمه كما رأته في الحلم، ومن الثقبين الصغيرين في القماش الأسود بدأت عيناها تتحركان، ترتفعان ببطء وحذر، تختلس النظر إلى وجوه الناس. هل يمكن أن يكون بين البشر وجه يشبهه؟ أو عينان فيهما هذه النظرة؟
مضى شهران وهي لا تكف عن التفكير، عيناها لا تكفان عن اختلاس النظر إلى وجوه الناس في ذهابها إلى المكتب وفي عودتها إلى البيت. ستون يوما مضت وهي لا ترى بين الوجوه وجها يشبهه، لا ترى بين العيون عينين لهما نظرته.
نامت الليل مؤرقة، وفي النوم يعاودها الحلم، ترى الأرض تغرق في بحر من الطوفان، وهي واقفة في مدخل المدينة. فجأة تراه أمامها، هذه المرة لا يلحظ وجودها، ويسير بخطوات هادئة إلى الأمام، ثم يستدير وينظر إليها. في عينيه النظرة هي هي لم تتغير، المياه تغرقه من كل جانب، يظل ينظر إليها، آخر ما يختفي فيه عيناه.
في الصباح فتحت عينيها، هدير المياه ما زال في أذنيها، أصوات استغاثة تعلو عليها أصوات أمواج. في اللحظة بين اليقظة والنوم يبدو لها الحلم حقيقة، وأنها شهدت بعينها دمار مدينتها منذ سبعة آلاف عام، وأنه غرق ضمن من أغرقهم الله في الطوفان. ظلت راقدة في السرير، تأخرت عن موعدها في المكتب، ثم نهضت بجسم ثقيل. في المرآة رأت عينيها حمراوتين فيهما دموع، بطرف إصبعها أدركت أنها دموع حقيقية، وعرفت أنها تبكي على موته غريقا، وأكثر ما كان يبكيها أنه لم يكن من أتباع الله.
أدركت عن يقين أنه من أتباع الشيطان، ومع ذلك ظلت الدموع تنهمر من عينيها وهي واقفة أمام المرآة، بدا لها أنه مات هذه اللحظة فقط، ولم يمت منذ سبعة آلاف عام.
في طريقها إلى المكتب ذلك الصباح، عند تقاطع الشارع، رفعت عينيها نحو إشارة المرور، فجأة رأته يسير بين الناس ويجتاز الشارع. تعرفت عليه على الفور، الوجه هو الوجه، التقاطيع المصرية القديمة، والعينان هما العينان فيهما الحركة والنظرة، واندفع جسمها بغير إرادتها نحوه، كادت تمسكه من يده، لكنها تراجعت في آخر لحظة، وانفرجت شفتاها المطبقتان من تحت القماش الأسود قائلة: أنت؟!
كان الشارع مزدحما، والكل يجري في طريقه دون توقف، لكن الناس توقفوا وقد أذهلهم المشهد، رأوها تندفع نحوه، وهو يندفع بعيدا عنها. هي فتاة، وهو فتى يسير في الشارع، لم يكن مألوفا أن تندفع الفتاة نحو شاب لا تعرفه بهذا الشكل، وهي ليست أي فتاة، إن شيئا لا يظهر من كيانها إلا الثقبين الصغيرين في قماش أسود، وهي تندفع نحوه، وهو يبتعد عنها بخطوات سريعة. بدا لهم المشهد غريبا ومضحكا في آن واحد.
في أذنيها دوت ضحكاتهم، فانكمشت على نفسها تحت القماش السميك، ظلت منكمشة طول النهار، وهي جالسة في مكتبها أمامها الدفتر، رأسها مطرق، عيناها تتحركان وحدهما ناحية النافذة حيث يقف في مكانه ... وجهه هو وجهه، عيناه فيهما الحركة، النظرة الإنسانية أكثر إنسانية من عيون الناس في الطريق، مع أنه مات منذ سبعة آلاف عام، غرقا مع من غرقوا في الطوفان، وقد بكت على موته. وكل إنسان يموت، لكن التمثال الحجري يعيش سبعة آلاف عام، فهل الحجر أبقى من البشر؟
في رأسها يدور السؤال بغير جواب، أصبح لها صديقا من الحجر، تحس وجوده أكثر من وجود أي إنسان آخر له جسد. فلتت الكلمة من بين شفتيها المطبقتين بلا صوت «جسد»، الكلمة في حد ذاتها تبعث في جسدها رعشة، لا تعرف تماما أين تكون الرعشة. عيناها من خلال الثقبين من تحت القماش السميك تختلسان النظر إلى جسدها، في صدرها قلب ينبض، وفي رأسها عروق، يصعد الدم إليها كهواء ساخن، عقلها يدرك أن صديقها ليس إلا تمثالا من الحجر، لكنها ترى في عينيه نظرة متحركة توشك على النطق.
هل يمكن أن ينطق؟ وبأي لغة؟ العربية أم الهيروغليفية؟ أهو خيال أم حقيقة؟ وإن كان خيالا، فمن أين يأتي الخيال؟ هل يختلط الخيال في عروقها بالدم؟ في رأسها يدور السؤال مع دورة الدم، كدوامة في بحر المياه تغرقها كالطوفان، هو واقف أمامها ينظر إليها، عيناه فيهما النظرة الإنسانية، في أعماقها تدرك عن يقين أنه أكثر إنسانية من كل الناس في الكون، لا يمكن أبدا أن يكون شريرا، يمكن لها أن تقسم وهي في كامل الوعي والإدراك أنه من أتباع الله وليس من أتباع الشيطان.
كانت لا تزال في كامل الوعي والإدراك، لا يمكن لأحد إذا رآها أن يساوره الشك في كونها في كامل الوعي والإدراك. يراها أبوها كما يراها كل يوم بكامل وقارها وملابسها، تخرج إلى مكتبها وتعود في الموعد. وتراها مديرة المتحف جالسة بكامل الوعي والإدراك وأمامها الدفتر، فإذا ما انتهت من الدفتر، لم يصبح أمامها إلا كتاب الله. وفي الطريق تمشي بخطوتها المتزنة المحكومة، ورأسها مطرق بكامل الوعي والإدراك.
إلا أنها وهي سائرة ذات يوم، رفعت عينيها من خلال الثقبين فرأته يخرج من باب أحد البيوت، ويجتاز الشارع بخطوات هادئة، رغم صراخ الأبواق، رأته هو بعينه، لا يمكن لها أن تخطئه بعد كل هذه الأيام.
تسمرت قدماها في الأرض، وارتفعت يدها داخل القفاز الأسود فوق قلبها، كان واقفا وسط الشارع ومن حوله السيارات كالطوفان. تصورت أنه سيسقط ويغرق بين العجلات، لكنه لم يسقط، ظل يسير بخطواته الهادئة متجها إلى شارع النيل، واندفع جسمها يتبعه، كانت تدرك أنه خيال وليس حقيقة، لكنها تراه بعينيها، ولم يعد يهمها ما دامت تراه بعينيها أن يكون خيالا أو حقيقة. قدماها تسيران وراءه، في أذنيها تسمع وقع حذائه على الأرض، يسبقها بخطوات قليلة، يمكن لها إذا نادته أن يسمعها، لم تعرف بماذا تناديه، لم يكن له اسم، وانفرجت شفتاها المطبقتين من تحت القماش السميك عن صوت: يا أنت. رأته يستدير إليها، يواجهها وجها لوجه، أدركت أنه هو، وعيناه هما عيناه، ونظرته هي نظرته، وسمعته يقول: من أنت؟! أخرستها المفاجأة، فتسمرت في الأرض. كان يتكلم بلغة عربية، وليس هيروغليفية، وكانت تظن أنه يعرفها كما عرفته. كيف تعرفه كل هذه الأيام وهو يسألها من أنت؟! ظلت واقفة بلا حراك، تنظر إليه، ثم أطرقت إلى الأرض، أطرقت طويلا وهي تنكمش داخل نفسها من الخزي.
أبعد كل هذا يسألها من هي؟ عقلها لا يصدق، ورفعت عينيها مرة أخرى لتتأكد، لكنه كان قد استدار ومشى في طريقه، ثم اختفى بين الناس.
في اليوم التالي وهي في الطريق إلى مكتبها، ظل رأسها كما كان مطرقا، لكن عينيها تدوران كالنحلتين داخل الثقبين، تتفرسان وجوه الناس. عقلها الواعي يقول لها إنه لا يعيش اليوم بين الناس، وإنه عاش منذ سبعة آلاف عام. لكن عينيها لا تكفان عن البحث، تدرك بعقلها الواعي أنه موجود، فقد رأته، وما دام هو موجودا، فيمكن أن تراه مرة أخرى. واستولت عليها الرغبة في أن تراه بأي شكل، ولكن مصنوعا من لحم ودم، أو ليكن روحا بغير جسم، المهم أن تراه. وما الفرق أن يكون روحا أو جسما، ما دامت قادرة على رؤيته؟
وفي المكان نفسه حيث لقيته بالأمس انتظرت، وحين ظهر في الشارع اندفعت بجسمها نحوه وهي في كامل الوعي والإدراك. كان هو بوجهه وعينيه ونظرته الإنسانية، لم يتغير فيه شيء، إلا أن شاربا أسود نما فوق شفته العليا. انفرجت شفتاها المطبقتان من تحت القماش السميك عن كلمة بلا صوت: «ذكر؟» الكلمة في حد ذاتها غير قابلة للنطق. لم تنطقها في حياتها من قبل، كانت تظن أنه إنسان، مجرد إنسان بلا جنس، لكن هذا الشارب يؤكد أنه ... وظلت قدماها مسمرتين في الأرض، ويدها داخل القفاز الأسود ارتفعت وحدها وأخفت الثقبين الصغيرين في القماش السميك
حين رفعت يدها عن عينيها كان الشارع لا زال مزدحما بالناس، وهو لم يعد واقفا أمامها، هي لا تزال واقفة بكامل الوعي والوقار، وتحت إبطها حقيبتها الجلدية، ترقد في التجويف بين الذراع والصدر، يلامس طرفها من خلال القماش السميك طرف الثدي الأيسر، تحس التلامس كمس من الكهرباء، عقلها يدرك عن وعي أنها ليست إلا حقيبة من الجلد، وليس بداخلها إلا كيس النقود وتمثال صغير من الحجر، ولكن التلامس ظل يسري من ثديها الأيسر إلى صدرها كتيار الكهرباء.
عادت إلى بيتها ذلك اليوم بغير الحقيبة، ألقت بها كما هي دون أن تفتحها في خرابة كبيرة، لم تأخذ منها شيئا، حتى كيس النقود تركته، تصورت أنها لو فتحته فسوف تراه، أصبحت راقدة في سريرها، كانت تدرك بعقلها الواعي أن الحقيبة لم تعد معها، وأنه من المفروض أن يغادرها الخوف.
لكن الخوف لم يغادرها حتى الصباح، وفي اليوم التالي ظل الخوف يلازمها في الشارع والمكتب وفي البيت وفي كل مكان. كان يلازمها كانتفاضات الحمى ... وسمعها أبوها ذات ليلة تئن أنينا خافتا، وفوق جسدها رعدة كرعدة الملاريا. أخذها أبوها إلى طبيب الحميات، تناولت الدواء ثلاثين يوما، وظلت الحمى كما كانت. وفي الليل سمعها أبوها تكلم أحدا وهي راكعة تصلي. تصور أنها تخاطب الله وتطلب منه المغفرة، لكن صوتها كان يعلو والكلمات أصبحت واضحة. لم تكن تناجي الله، كانت تلعن الشيطان بكلمات غريبة لا يمكن أن تخرج من بين شفتي طاهرة، وأدرك أنها اقترفت ذنبا تخفيه في طيات نفسها لا تبوح به. وأخذها إلى رجل طاهر يتوب الناس بين يديه عن ذنوبهم. بعد التوبة ظلت معها الحمى، وفشلت الأقراص التي كتبها طبيب الحميات مرة أخرى. وحين زارتها مديرة المتحف قالت إنها ليست الملاريا، ولكنها حالة نفسية. هكذا جاءت إلي.
القاهرة، مايو 1987
ماجي تفقد السلطة
أراها تجمع أوراقها والميدالية الذهبية محفور عليها اسمها، تضعها ببطء في حقيبتها الجلدية، تغلقها بصوت خافت، يرن عاليا في الغرفة الغارقة في الصمت، تنهض من وراء مكتبها الكبير بمبنى الرئاسة في القصر، تمشي بجسم ثقيل وظهرها محني قليلا، تغلق الباب خلفها بلا صوت. تلمح زوجها جالسا في البهو الخارجي، واضعا الساق فوق الساق، لا ينزل ساقه حين يلمحها كما كان يفعل. تفرد ظهرها لتخفي الانحناءة، تشرئب بعنقها إلى أعلى كالزرافة، تشد عضلات وجهها لتنزع ابتسامة، وصوتها خافت شبه متلاش: هيا بنا يا دنيس. يميل جسمها قليلا مع رأسها، تكاد قدمها تعثر داخل الحذاء ذي الكعب العالي، فيمد ذراعه إليها لتمسك يده. تتردد يدها في الهواء لحظة، كما كانت تتردد وهي طفلة تتعلم المشي، وأمها تمد لها يدها لتمسكها. سارت إلى جواره تتأبط ذراعه، تحرك رأسها بعيدا عن عينيه، تتفادى النظرة التي كانت تراها في عيني أبيها حين كان وراء الجريدة ينظر إلى أمها، نظرة مليئة بالشفقة والأدب، خالية من الاحترام، لا يتبادل معها الحوار، ولا شيء يجمعهما إلا مائدة الطعام أو السرير في الليل، وأوقات الفراغ يقرأ الجريدة، لا يكاد يرفع عينيه إليها وهي تنحني أمامه بفنجان الشاي، واقفة فوق ساقين نفرت عروقها الزرقاء وقدمين متورمتين داخل البانتوفلي الأزرق البالي، وحول بطنها المنتفخ مريلة المطبخ، تفوح منها رائحة الكرنب. وتطرد من رأسها الصورة وتمشي إلى جواره مشدودة العضلات حتى السيارة الصفراء، سيارتهما الخاصة، وليست السيارة السوداء الكبيرة التي يرفرف عليها العلم والتاج، والحرس ذو المعاطف الحمراء والأزرار الذهبية لم يعد هناك والأيادي لم ترتفع بالتحية، والموسيقى لم تعزف. وعيناها شاردتان من خلال النافذة، تريان العالم كأنما هو عالم آخر. والكوبري لم يعد هو الكوبري، والضوء لا ينعكس على مياه النهر. وهو جالس إلى جوارها صامت، والصمت ثقيل، يشبه الصمت في البيت منذ كانت طفلة، وفي عينيه النظرة إياها. ومن تحت الشفقة والأدب لمعة ابتسامة ساخرة أو شامتة، وفي كل هزيمة لها تكاد ترى هذه النظرة ذاتها. كان يريدها منذ تزوجته صورة طبق الأصل من أمه، تطبخ الكرنب بالطريقة نفسها، وفي الساعة الخامسة تقدم له الشاي، وهو جالس الساق فوق الساق يقرأ الجريدة، أو يشهد المباراة فوق الشاشة. وفي الصباح لا مانع من ذهابها إلى مكتبها في الحزب أو الوزارة، وحصولها على شيء من الشهرة أو المال، بشرط أن يظل هو الرئيس في البيت. وإذا احتدم الخلاف حول أي شيء، يسود رأيه بصرف النظر عن أي شيء. لكنها منذ اليوم الأول للزواج حسمت أمرها وقالت: اسمع يا دنيس، لن أكون مثل أمك ولن تكون أنت مثل أبي، ولن تنظر إلي يوما من الأيام تلك النظرة المشفقة الخالية من الاحترام. ووقفت أمامه مشدودة الظهر، مشرئبة العنق، رأسها مرفوع لا ينحني. ولم يطاوعها دنيس طويلا، فهو يأكل الكرنب في الغداء بطريقة أمه من يد خادم من زنوج الجنوب، يرتدي بدلة سوداء أنيقة، وبابيون معقود حول العنق على شكل الوردة، ينحني بأدب شديد ووجهه الأسود في الأرض. ولم يعد من سبب للصراع في البيت، إلا رأسها المرفوع أكثر من اللازم، وعيناها تثبتان في عينيه أثناء النقاش، ويسود الرأي الصواب بصرف النظر عن الجنس. وحينما اشتد الصمت داخل السيارة، فتح الجريدة في حجره، ورأى صورتها أصغر مما كانت، وبضعة سطور تحت الصورة تقول الآتي: «مسكينة» ماجي؛ إن الحرمان من حنان أمها في الطفولة هو السبب وراء شخصيتها العدوانية، فلم تكن أمها ترى فيها أي أنوثة، وتنبأت لها بالفشل في حياتها. وماجي لم تكن ترى في أمها أي عقل، وتمنت لها الموت. وبعد أن ماتت أمها، أقسمت أن تكذب نبوءتها، وأن تحقق في حياتها نجاحا لم يحققه أبوها ولا أي رجل في الأسرة أو البلد.
وفي السرير تنام، يحوم شبح أمها حول رأسها، يؤكد لها الفشل، وتصحو كل يوم بإرادة أصلب من الحديد. ويوم فوزها بمقعد الحكم، وبعد كل فوز، تكرر العبارة للشبح الزائر في الليل. وحين أعلنت الحرب في فوكلاند قالت لأمها: أرأيت أنني أصدرت قرارا يعجز عن إصداره أعتى الرجال؟ وظلت أمها صامتة في الموت كما في الحياة. ومن وراء الجريدة سمعت زوجها يقول، وهو واضع الساق فوق الساق: وماذا أخذت يا ماجي من كل هذا النجاح، إلا حرمان أطفالك من أمومتك وحرماني من ...؟ وسكت لحظة، وقال لنفسه: «حرماني من أنوثتك.» ورمق التجاعيد حول فمها المزموم المدهون بقلم الروج، والثدي المتهدل المرفوع بالمشد المطاطي تحت الجاكت الرسمي الأسود، وخصرها الممتلئ باللحم رغم عذابات الريجيم. والتفتت إليه بغضب تقول: أتتكلم الآن يا دنيس مثل أمك وأمي؟ ولم يسكت كما كان يسكت، وقال بصوت مرتفع قليلا: أتظنين يا ماجي أن حياتك كانت أسعد منهما؟ حتى النساء يا ماجي اتهموك بأنك عدوة تحرير النساء، تحكمين بعقلية الرجال، وتساندين الحكومات العنصرية في جنوب أفريقيا وإسرائيل، وتتبعين رئيس أمريكا مثل ذيله. الناس يقولون إنك مريضة بعقدة «إلكترا» أو عقدة النقص، تسعين للحصول على العنصر الناقص دون جدوى. وقاطعته بحركة قوية من رأسها: أنت تردد ما يقولون؟ وقال الزوج دنيس: تعرفين يا ماجي أنني وقفت إلى جانبك في كل المعارك لأني كنت أحبك ... وصاحت بغضب: تقول «كنت»؟ أتعني أنك لم تعد تحبني يا دنيس؟ ورد الزوج بسرعة: أقسم لك يا ماجي أنني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك وأنت في الحكم. وهنا قالت ماجي: أنت تحب هزيمتي يا دنيس، ولا تحبني أنا. وكادت عيناها تلمعان، تحت دمعة سرية ابتلعتها قبل أن تظهر، لكنه لمحها بطرف عين، ومد يده فأمسك يدها، وقال: لم يبق لنا في العمر كثيرا يا ماجي، فلماذا لا نعيش؟ ... انظري يا حبيبتي إلى أشعة الشمس المنعكسة على السحب. وحركت ماجي رأسها ناحية الأفق، وكانت السيارة قد وصلت البيت.
وهي واقفة إلى جوار زوجها في الشرفة، تنهدت وهي تتأمل ألوان السماء لحظة الغروب، خرج من صدرها زفير طويل من تحت المشد المطاطي، وعينان غارقتان في ألوان الطيف. منذ الطفولة لم تر هذه الألوان في السماء، وقالت لزوجها: الطبيعة جميلة كما كانت، لكن الناس تغيرت منذ تركت الحكم، أتظن يا دنيس أنني خالفت الطبيعة حين دخلت الحزب واشتغلت بالسياسة؟! وأخرجت من حقيبتها مرآة صغيرة، تأملت وجهها: عيناها مرهقتان قليلا، شفتاها باهتتان. أخرجت إصبع الروج، ومرت به فوق شفتيها بسرعة، وقالت لزوجها: هل السياسة تفقد المرأة أنوثتها يا دنيس؟ وقال الزوج ناظرا إلى الأفق: وتفقد الرجل رجولته يا ماجي، فالسياسة لعبة قذرة، وصراع لا ينتهي على السلطة، تفقد الإنسان إنسانيته. واستدارت نحوه بكل جسمها نظرت إليه بكل عينيها الواسعتين، وقالت: وأنت يا دنيس ألا تحب السلطة؟ ألم تحاول السيطرة علي أول الزواج؟ وقال دنيس: حاولت يا ماجي وفشلت، ومن الفشل خلعت الرجولة الكاذبة وتعلمت الإنسانية. وابتسم برقة وهو ينظر في عينيها وقال: لهذا أنا مسرور يا ماجي بهزيمتك، وأرجو أن تكون درسا. ولم تسمع هذه العبارة، كانت قد أخرجت المرآة مرة أخرى، وتأملت وجهها بسرعة ثم أدخلتها، وقالت: وماذا عن أنوثتي يا دنيس التي لم تعترف بها أمي؟
واتسعت ابتسامة دنيس وقال: أنت مليئة بالأنوثة يا ماجي، أكثر أنوثة من المرحومة أمك، لكن المشكلة يا حبيبتي ليست الأنوثة أو الرجولة، المشكلة هي الإنسانية، أنت يا ماجي كنت تصدرين القوانين ضد حضانة الأطفال وضد حقوق النساء والزنوج، وترين في الشتاء أجسام الفقراء راقدة في علب الكرتون تحت أعمدة القصر الملكي، وتمرين بسيارتك دون أن يرتعش لك جفن، مع أن جفنك مفتوح مثل الفنجان، ورموشك منتصبة مثل قرون الاستشعار. لكن عينيك الجميلتين يا حبيبتي لا تريان إلا القصر والحكم والمنصة التي تقفين عليها، وفي يدك الإنجيل، تخطبين بصوت ممطوط عن عدالة المسيح، وأنه صلب من أجل الحق، وتتحدثين عن السلام بعد أن تعلني قرار الحرب في فوكولاند أو الخليج، وتضغطين على الكلمات بشفتيك الجميلتين الحمراوين بلون الدم، كأنما أكلت أحدا ولم تمسحي فمك بعد الأكل، و...
ويأتيها صوته من تحت الوسادة، وهي راقدة إلى جواره في السرير، لا يكف عن الكلام حتى منتصف الليل، كأنما في بطنه مخزون من الكلام المضغوط تحت مشد مطاطي، وتعطيه ظهرها، ووجهها ناحية الحائط تقول له: كيف اختزنت يا دنيس هذه الكراهية لي كل هذه السنين؟
ويقول دنيس وهو يغمض عينيه متظاهرا بالنوم: كنت أخاف يا ماجي من رئيسة الحكومة. وتغمض عينيها، فترى شبح أمها يحوم حول السرير، تطرده بيدها، وتمد ذراعها إلى زوجها تعانقه في الظلمة، تجهش بلا صوت فوق صدره، وهو يجهش بلا صوت فوق صدرها، أنفاسهما تهمس في يأس وأمل: ربما يا ماجي، ربما يا دنيس، نتخلص معا من الخوف.
القاهرة، نوفمبر 1990
البنات تعيش
في الصمت، والليل ثقيل يغرق مدينة القاهرة، الغائبة في النوم كالمقهورة، والظلام له كثافة السائل الأسود كالزئبق، أو القطران الذائب في الأسفلت، كانت البنت واقفة داخل ثوب أبيض (بلون ثوب الزفاف) متكئة بذراعها على حافة النيل، تنظر إلى وجهها الشاحب الطويل، فوق صفحة الماء كالمرأة السوداء، يتعرج تحت ضربات الهواء إلى ملايين التعرجان الدقيقة كالتجاعيد أو الموجات الرقيقات السابحات من الجنوب، والمدينة غارقة في السواد والصمت كالموت، إلا الدقات البطيئات تحت ضلوعها الموشكة على التلاشي، وعيناها السوداوان تتسعان داخل الماء فوق الجسد الممدود الطافي، لا يرتدي ثوبها الأبيض، يسبح في ارتخاء كامل أشبه بالراحة المطلقة، بلا رأس ولا ساقين، كتلة طويلة سوداء يغطيها العشب، يسميه أهل المدينة «ورد النيل»، وريقات سوداء بلا ورد، تشوبها خضرة موشكة على التلاشي، تتلاصق في جسد واحد، يلمع تحت الضوء كالجثة العارية، وعيناها مشدودتان إليه، الحدقتان تتسعان، تطل منهما مقلتان سوداوان تلمعان في الظلمة، وصوت جدتها يحمله تيار الهواء: «عروس النيل، يزفوها في العيد لإله الفيضان، موتها يحمي البلد من الغرق، وبعد ما بنينا الجسر.» وتدب جدتها بقدمها الكبيرة الحافية على الجسر: «الإله مات، والبنات تعيش يا بنت ابني.» ومن فوق الجسر يلوح لها وجه ابنة عمتها «زهرة» ترتدي جلبابا برتقاليا له كشكشة فوق الصدر، لم يبرز من النهدين إلا برعم صغير، تصحو قبل الفجر مع العصافير، تحمل الزلعة لتملأها من البحر (كان النيل في قريتها يسمونه البحر)، تكنس الزريبة وتجمع من تحت أقدام البهايم الروث، تعجنه على شكل أقراص كبيرة بحجم الرغيف، ترصها تحت الشمس فوق السطح (كانوا يسمونها الجلة)، وفي يوم الخبيز تلقيها مع عيدان الحطب في نار الفرن ... وتعود من الحقل عند الغروب حاملة الزكيبة فوق رأسها، تربط البهايم وتكنس الدار، وتنام بجوار الماعز فوق حصيرة من القش، تنادي الماعز باسم أختها الميتة «عزيزة»، تقول لها كل فجر: صباح الخير يا عزيزة. وتطلق ضحكتها ترن في الصبح كزقزقة عصفور. ترد عليها الماعز بمأمأة كالضحكة. وفي يوم ظلت فيه الماعز صامتة لا تمأمئ، ومكان «زهرة» فوق الحصيرة كان خاليا، والدار غارقة في الصمت، والعيون حين تنظر إليها تتعرج في نظرة غير مستقيمة، وإن نطقت اسم «زهرة» انقطع الكلام أو بدأ الهمس بعد الصمت. وغادرت القرية إلى المدينة لتدخل المدرسة، وذاب وجه «زهرة» في آلاف الوجوه والشوارع والعمارات والأنوار، والميادين الواسعة، والمدرسة، والجامعة، والمظاهرات ضد الحكم والاحتلال، والخطب من فوق المنصة، والصوت الدافئ المليء بالإيمان وحب الله والوطن، والعيون تلتقي، والأيادي تتلامس في ضوء القمر، والثقة مثل النهر تتدفق، والعطاء يصبح كاملا بلا مقابل، والحدقتان السوداوان تتسعان وتتسعان فوق كتلة العشب الميتة، يطل منها وجه «زهرة» بعد أن غاب عنها السنين، كأنما ذاب في العدم منذ كانت في التاسعة، وطفولتها تبدو بعيدة في الزمن كالدهر، منذ آلاف السنين، منذ خوفو وخفرع ومنقرع وإيزيس وأوزوريس. ويبرز وجه «زهرة» في الضوء كما كان، كأنما لم يغب عنها إلا لحظة، ترى البقعة البيضاء فوق خدها الأيمن ... ووجهها الأسمر الشاحب يتورد بالضحك، والغمازاتان تظهران فوق الخدين البارزين، والبرعمان الصغيران يهتزان تحت الكشكشة البرتقالية، والجلباب الواسع الطويل تشمره (لكنس الدار أو الزريبة)، كاشفة عن ساقين رفيعتين وقدمين صغيرتين حافيتين، يلتف حول الرسغ الأيمن خلخال ثقيل كالحديد، والحدقتان السوداوان اللامعتان تتسعان أكثر وأكثر، كأنما العقل هو الذي يتسع داخل عظام الرأس، وتمسك رأسها بيديها الاثنتين، تمسك الضوء قبل أن ينزلق في خلايا الظلمة، وتقبض على السؤال المجهول بلا جواب الذي عاش معها السنين: راحت فين زهرة؟ وتخلع حذاءها الأسود بلون ليل الزفاف، وتمد قدمها الحافية إلى الماء تشبه قدم «زهرة»، ثقيلة كالحديد بغير خلخال، وتلقي نفسها في النيل، تكاد تغرق في القاع، لولا أن اليد الكبيرة تمتد من حيث لا تدري، تشدها كأنما المياه أو الأرض تنشق عن هذه اليد، تشبه يد أمها أو أبيها أو يدا أخرى لها خمسة أصابع في المدينة، أو كأنما هي المدينة نفسها تصحو من النوم فجأة، وتمد يدها الضخمة تنقذها في اللحظة الأخيرة، سمراء ومعروقة ومشققة تشبه جدتها، وصوتها مليء بالتجاعيد، يسبح مع تيار الهواء الدافئ من الجنوب: «الإله مات، والبنات تعيش.»
القاهرة، نوفمبر 1990
عودة المكبوت
جاءت إلى عيادتي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، اسمها «أمل»، تلميذة بالثانوية. رأت عمها في السرير معها وهي طفلة في الثامنة من عمرها، كان يفعل شيئا لا تعرفه. الذكرى تفزعها، تتوقف عن الكلام، يصنع الصمت حروفا فارغة بلا كلمات. هناك أشياء مجهولة بلا اسم، لم تسمع الكلمة، إن سمعتها لا تفهمها، إن فهمتها لا تستطيع أن تنطقها بصوت مسموع. الذكرى مدفونة في اللاوعي عشر سنوات، حياتها كلها تأثرت بهذه الذكرى، وعلاقتها بالجنس الآخر، وذكرى الألم واللذة معا يذوبان في ذكرى واحدة، الحب والكره، الحنان والقسوة، الحرام والحلال، الطهارة والفجور، الاحترام والاحتقار. لا تستطيع أن تنطق كلمة «عمي الشيخ» بصوتها أو باللغة المعروفة ، لا بد أن تجد صوتا آخر غير صوتها، ولغة أخرى غير العربية تنطق بها هذه الكلمة. لم تكن تتحدث معي عن ذكرى لشيء ما، كل شيء ضاع من ذاكرتها، لا شيء تبحث عنه، وإن بحثت فهي لا تعرف ما هو. في حفل مولد النبي، رأت بالصدفة في التليفزيون رجلا يرتدي عمامة تشبه عمامة عمها، صوته مبحوح قليلا يشبه صوته، في يده سبحة يهزها بين أصابعه الهزة نفسها للسبحة بين أصابع عمها، فإذا بالذكرى كالعملاق النائم يصحو في أعماقها، لا تستطيع أن تحول بصرها عن ذلك الرجل، كان من عمر عمها، يقرأ القرآن، ويتحدث عن الله والرسول فوق الشاشة، هذه الشاشة حولتها إلى خرقة من الشاش لأكثر من عام. كانت تتبع هذا الرجل من قناة إلى قناة، ومن حديث إلى حديث، ملكها هذا الرجل، هزها بين أصابعه الغليظة الطويلة كما يهز السبحة، يتساقط جسدها بين يديه كما تتساقط الذكريات، تتغير وتتناقض ذكرياتها وهي في الثامنة تناقض ذكرياتها حين كانت في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة. كان لها أب وهي في الثامنة، أب غائب في العمل، أب لم تره إلا كيس نقود، ثم اختفى أبوها لا تعرف أين ذهب، مات أو طلق أمها أو تزوج امرأة أخرى أو فصلوه من العمل أو دخل السجن أو هاجر إلى بلد أخرى يبحث عن عمل، احتمالات واردة كلها، اختفى أبوها فجأة، ولم تفتح أمها الموضوع أبدا، وإن سمعتها تقول: راح مطرح ما راح وخلاص. تربت عليها بأناملها الحنون، تلعب بأصابعها في شعرها حتى تنام. في الليل تصحو، تراها صاحية تمسح دموعها، تسمعها تقول: ما فيش فلوس يا بنتي، لازم أشتغل حاجة، ماعنديش شهادة، أشتغل إيه، غسالة في البيوت؟ بعد سنوات رأت نفسها فتاة في الخامسة عشرة في المدرسة، ولها أستاذ يدرس لها، إنه من دمها، إنه أبوها، تحبه، يتكلمان ليس كالابنة وأبوها ولكن كصديقين، يثق فيها وتثق فيه، تختفي الذكرى عن ذلك الرجل الآخر الذي هو عمها أيضا، أو هي ليست ابنة أخيه أو ليست الطفلة التي كانت.
الذكريات تنهش بعضها البعض، الرجل الأستاذ في الحاضر يغير مكانه وشكله ويصبح الرجل في الماضي، في لحظة خاطفة ترى الرجل الذي رأته وهي طفلة في الثامنة، ثم تختفي اللحظة، ويعود الرجل الأستاذ إلى جوارها: العمامة حول الرأس هي العمامة، الأصابع الغليظة الطويلة تهز السبحة، الوجه نفسه، وإن كان لون البشرة يميل إلى السمرة قليلا. ذكرياتها تتزاحم فوق هذا الوجه، ولا تعرف الماضي من الحاضر، ولا الحقيقة من الخيال. تبدو الحقيقة فقط هي اللحظة التي تركز فيها عقلها أو عينيها على الوجه أمامها، تذكر عمها حين كان يضحك وهي في الثامنة من العمر، ضحكته تملأ الكون بالشمس، والدنيا كلها كانت تضحك وهي في الثامنة. والكل يقول عمها رجل فاضل، وأمها كانت مرحة جميلة يقولون عنها كالقمر. وفي الليل رأتها تبكي، وسمعتها تقول لعمها: ما فيش فلوس عشان أدفع مصاريف أمل. عمها جاء إلى البيت بعد اختفاء أبيها، لم تعد تسمع أمها تضحك. عمها يقهقه بصوت عال، يرمقها بنظرة غريبة، تصورت أنه يريد موتها حتى لا يدفع لها مصاريف المدرسة. في الليل سمعته يقول لأمها: المدرسة فايدتها إيه، «أمل» ممكن تشتغل. تلك الليلة سمعت صراخ أمها، وصفعات وركلات، أكانت تضربه؟ أكان يضربها؟ لم تعرف. في الصباح رأت عيني أمها وارمتين، رأسها مربوط بمنديل أسود، ولم تفتح أمها الموضوع أبدا، وإن سألتها تقول: ضل راجل ولا ضل حيطة. أصبحت هذه العبارة تتردد على لسان أمها كلما رأتها تبكي، متى إذن حدث الشيء بين الطفلة وعمها؟! أكانت الصورة من خيالها؟ أكانت هي رغبتها في عمها وهي غيرتها على أمها أو من أمها؟ لم تعرف. هي تحاول أن تمسك الخيط دون جدوى، تنزلق الصور من ذاكرتها كالزئبق، ويموت عمها في المستشفى وهي في المدرسة، تعود لتجد البيت مملوءا بالرجال والنساء من الأقارب، يتجمعون في البيت، عمرها ستة عشر عاما. بعد دفن عمها، تسمعهم في الصالة يتحدثون، أصواتهم عالية تملأ الكون، ذكرياتهم تتدفق بعد موته، بعد الموت تتحرر الذكريات الدفينة، تتغير، تتناقض، والحاضر يبدو كالحلم، والماضي يعود حقيقة، وتسمع صوتا يقول: عمك كان فاسدا. تمسك حقيبة كتبها تضرب بها رأس خالتها، يمسكها زوج خالتها ويضربها بكفه الغليظة، تضربه بقبضة يدها في بطنه، أسفل بطنه، في عضوه الذكري، يتطاير السباب من الأفواه حتى يسمعه الجيران: عمك كان فاسدا، اخرس قطع لسانك! تمسك السكين لزوج خالتها: حاقطع لسانك بالسكين! زوجته تمسكها، تحول بينها وبينه: عيب يا بنتي ده زي عمك! تنفجر كالبركان: كان يلعن عمي مطرح ما راح! تضع عمتها شقيقة عمها يدها فوق فمها: اسكتي يا بنتي، عمك كان راجل طيب، أمك هي الشريرة! تنفجر خالتها الكبيرة شقيقة أمها: أمك ست طيبة، أبوك وعمك هما الأشرار!
وتنقسم عائلتها إلى قسمين، قسم مع أمها ضد عمها، وقسم مع عمها ضد أمها، الدم ينزف من أنفها بعد ضربة الكف الغليظة، تتحسس جسمها، لا شيء ينزف إلا أنفها، جسدها سليم، لكن عقلها مريض، عائلتها مريضة. كلمة العائلة يلوكها عقلها، العائلة وهم كبير، بيت العائلة هو بيت الأوهام. هو مكان الذكريات المحطمة. يدب فيه الصمت بعد تناثر السباب، كالرماد بعد سقوط البيت إثر زلزال.
في أحلامها ترى نفسها طفلة تلعب مع الأطفال في المدرسة، ويأتي عمها داخل قفطانه الحريري الأبيض، يضحك ويأخذها معه إلى البيت، يحوطها بذراعيه، يطعمها قطعة من الحلوى الطحينية. رائحة الحلوى الطحينية تسري في جسدها، يحكي لها قصة الشاطر حسن وهي تأكل الحلاوة الطحينية، يهدهدها فوق صدره حتى تنام. في الحلم يتحول عنها إلى رجل غريب، يشبه المدرس الأستاذ، يمسك في يده شيئا صلبا مثل العصا، يضربها بين فخذيها، يدخل العصا في فتحة الشرج أو الفتحة الأخرى، لا تعرف هذي من تلك، أيكون هو المدرس، الأستاذ؟ تختلط صورة المدرس بصورة العم، يتحول العم إلى المدرس وتتحول العصا إلى ثعبان يلدغها بين فخذيها، يسقط الثعبان من السماء، ثم يتحول ليصبح من جديد، تبكي بالدموع وتطلب منه إنقاذها، تقترب منه بحذر مملوء بالخوف، تخشى إن لامسته بيدها أن يتحول إلى ثعبان مرة أخرى، يتغير الحلم، وترى نفسها جالسة في المدرسة، أمامها ورقة الأسئلة في الامتحان، لا تعرف الإجابة على أي سؤال، تبكي حتى تبلل دموعها ورقة الامتحان، يذوب الحبر الأسود ولا ترى الأسئلة، ترى التلميذات والتلاميذ يكتبون الإجابة بسرعة شديدة، والمدرسون يجرون وراءها في الحوش في يد كل منهم العصا، تتحول العصي إلى ثعابين، كما كان يحدث أمام فرعون، لا تعرف هل هو حلم أم ذكرى حقيقية في الماضي، لقد أصبح الحلم نفسه مجرد ذكرى. لولا ذلك الرجل في التليفزيون، ما إن تراه فوق الشاشة حتى يهب العملاق النائم في أعماقها، تصحو اللذة والألم معا، والفضيلة والرذيلة، تفعل بنفسها ما فعله عمها فيها، ثم تسقط من الإعياء والندم والشعور بالإثم، ويتكرر ذلك كل يوم، حتى فكرت في الانتحار، لكنها لم تعرف كيف تموت، فالموت يحتاج إلى معرفة، وإلى شيء من المال. لا تعرف نوع السم الذي يقتل بني آدم، سمعت عن سم الفئران، فهل سم الفئران يقتل البني آدم؟ ولم يكن معها ثمن السم لتشتريه من الصيدلية. وفي يوم وأنا أتمشى على كورنيش النيل رأيتها جالسة على الشط بالقرب من المياه، تحملق في قاع النهر، عيناها مشدودتان إلى الموت، لم أستطع أن أحرك رأسي بعيدا عنها، هذه الملامح رأيتها كثيرا من قبل، هاتان العينان الفانيتان المشدودتان إلى الفناء، هذه البشرة السمراء بلون طمي النيل، والوجه النحيل الشاحب الخالي من الدم. تذكرت شلبية الخادمة في بيت المرحوم جدي، ومسعودة الفتاة الريفية في عيادتي بالقرية، وسوسن في مستشفى القصر العيني القديم تراسلني من الإسكندرية من أربعين عاما، والعديد من الرسائل والحالات التي كانت تتدفق على عيادتي أو مكتبي بمجلة الصحة أو مجلة نون، أو تأتيني بالبريد أو عبر أسلاك التليفون.
استدارت الفتاة ورأتني واقفة لا أتحرك، تعرفت على ملامحي، ورأت صورتي فوق غلاف كتاب، أو تحت مقال أو قصة. اندفعت نحوي كالابنة تعثر على الأم الغائبة وقالت: الذكريات تقودني إلى شارع مظلم مسدود أو قاع النيل. قلت: ذكرياتك كنز يا أمل، خلف هذه الذكريات في أعماقك فتاة ترقبك، ليست هي التي ترغب في الانتحار الآن، ولكن فتاة أخرى عملاقة مدفونة في سراديب العقل، أكثر نضجا، أكثر أملا، هذا الأمل قادر على تحويل الماضي إلى حاضر، والحاضر إلى ماض، وتحويل الحزن القديم إلى فرح جديد. ابتسمت الفتاة وقالت: أريد أن أعيش، ولا أعرف كيف؟ سألتها: ماذا تحبين أن تكوني؟! قالت: كاتبة مثلك، أنا أحب الكتابة. وأخرجت من جيبها رسالة كتبتها للعالم قبل أن تموت، تبدأ كالآتي: أيها العالم المزدوج الوجه مثل المرحوم عمي، اذهب إلى الجحيم، فقد نزعت عنك القناع!
أصبحت أشجعها على الكتابة والقراءة، اشتريت لها الكتب، أهديتها كتبي، واصلت دراستها وتخرجت، أخذتها من يدها إلى رؤساء تحرير الصحف والمجلات. هذه الفتاة اليوم في الرابعة والثلاثين من عمرها، أصبحت صحفية معروفة، أتتبع كتاباتها وأشعر بالفرح، كمن يرى الشجرة الفارعة تنمو من بذرة صغيرة غرسها في الأرض، وأنا في المنفى خارج الوطن، أرسلت إلي بالبريد رسالة طويلة قالت فيها: يا أمي، يا صديقتي، يا أستاذتي. دموعي تجري فوق وجهي وأنا أكتب لك، أربعة أعوام مضت وأنت في المنفى، والنفي نوع من القتل. ستة عشر عاما مضت منذ التقينا، كان يمكن أن أكون جثة في قاع النيل، أمسكت يدي وسرت بي إلى الحياة، فتحت عيني على أشياء لم أعرفها، لم ينطقها أحد قبلك، أصبحت أنطقها وأكتبها وأعطيها أسماء. الذكريات الأليمة راحت، واليأس راح، أصبحت «أمل» التي كانت مختفية في سراديب العقل، أحزاني القديمة أصبحت ثروة من الذكريات، تسري فوق الورق كالذهب السائل، ألهذا أحببت ذكرياتي؟ متى تعودين لأستقبلك في المطار؟ أتمنى عودتك، فالوطن يحتاج إليك، والخطر على حياتك زال أو في طريقه إلى الزوال.
في مطار القاهرة عند عودتي لم أجد وجهها بين الوجوه، مضت الأيام والشهور دون أن تزورني أو تطلبني في التليفون. أتكون مريضة؟ سألت عنها في الجريدة الكبيرة التي تعمل بها، لم تكن مريضة، كانت مشغولة بإصدار مجلة جديدة لتحرير النساء، أصبحت نائبة رئيسة التحرير. بالصدفة رأيت العدد الأول وأنا أمشي في الشارع ، لفت نظري العنوان: تحرير المرأة في القرن الواحد والعشرين. الغلاف ملون عليه صورة راقصة معروفة تلعب أدوار الإغراء. صورة رئيس التحرير في الصفحة الأولى، الأستاذ الدكتور رائد تحرير المرأة. الافتتاحية بقلم نائبة رئيس التحرير، تقول فيها: في المدرسة الثانوية، لم أعرف شيئا عن قضية المرأة، ثم وقع في يدي بالصدفة كتاب لسيمون دي بوفوار، هذه المرأة العظيمة التي فتحت عيني على الحياة.
رغم الألم، شعرت بالفرح يغمرني، كما تفرح الأم بابنتها أو ابنها، يرضع الطفل من ثدي أمه، بعد أن يشبع يلفظ الحلمة من فمه أو يعضها. تفتح الأم فم الطفل لترى أسنانه اللبنية، تطلق زغرودة الفرح، وألم العضة في صدرها، وهكذا ظلت «أمل» الطفلة تعض أمها وتحب عمها.
في هذه الحالات قد لا يكون الشفاء كاملا، قد تحدث انتكاسة، تتكرر التجربة، ويتحول عمها إلى رئيسها في العمل، وهذا أمر شائع بين الرجال، ينجذب الواحد منهم بعد الخمسين أو الستين إلى الأطفال البنات، يعود العجوز طفلا في حاجة إلى حفيده، وتنجذب البنات الصغيرات إلى الرجال العجائز؛ لأن المكبوت من الذكريات لا بد أن يعود.
القاهرة، أبريل 1997
صديقتان
اللمعة في النني الأسود لا زالت كما كانت منذ ثلاثين عاما، قوية مقتحمة كضوء النهار، وذراعها ارتفعت بغير إرادتها، عضلات الذراع تتقلص مترددة بين العناق الكامل أو ترك مسافة هواء، أية مسافة وإن كانت ميلليمتر، تمنع تلامس الصدر بالصدر.
صدرها لا زال كما كان منذ ثلاثين عاما، ومن فوقه الوشم كزهرة البنفسج، والنهدان الصغيران تحت الثوب الأبيض عضلاتهما مشدودة منتصبة متحفزة للعطاء بغير مقابل، وقلبها مفتوح كفتاة ساذجة وبراءة طفلة لم يلمسها رجل، ولم تحمل ولم تلد ثلاث مرات، وابنها الأكبر أصبح رجلا، وابنتها الصغرى لها طفلان.
ثلاثون عاما مضت دون أن تلتقيا، وإذا لمحتها في مكان وكادت العيون تلتقي، حركت رأسها إلى الناحية الأخرى لتبتعد العين عن العين. ولم يكن اليوم الواحد يمر دون أن تراها أو ترفع سماعة التليفون لتحكي لها ما حدث في نهارها وليلها. وفي أيام الدراسة لم تكن الساعة الواحدة تمر دون أن تلصق رأسها برأسها وتهمس بآخر خبر، أو فكرة شيطانية، أو مجرد نكتة. وتضحكان بصوت مكتوم حتى ينتفخ صدرهما بالهواء، وتوشكان على الاختناق، فيندفع الهواء المحبوس من الأنف والفم بغير إرادتهما على شكل شهقات متقطعة، فإذا بالمدرس يتوقف عن حركته الدائبة كالبندول أمام السبورة، وبإصبع نحيل كإصبع الطباشير يطردهما خارج الفصل. وفي الإجازات الصيفية لا يكون الصيف مصيفا، ولا السفر سفرا، إلا إذا جاءت معها صديقتها، والبحر والرمل والبيت والمدرسة والشارع والدنيا كلها بغير صديقتها تفقد البهجة، والحياة تبدو مملة بلا فرح، وليس بينها وبينهم كلام ولا حديث، ولا يعرفون عنها شيئا إلا نتيجة امتحان آخر العام. واستدارة جسمها وهو ينمو، والنهدان يكبران ويكبران، ليصبح صدرها بحجم صدر أمها، ومن تحت صدرها الضخم، لا يعلم أحد منهم أن عضلة صغيرة بحجم قبضة يدها تدق وتدق، إذا وقعت عيناها من خلال ثقوب النافذة على الوجه الطويل، بأنفه الحاد والشارب الكثيف الأسود. ولا يمكن أن يسري اسمه على لسانها، وأمها تتنهد في راحة وأذنها ملتصقة بباب غرفتها المغلق عليها وصديقتها، فلا يمكن أن تلتقط أذنها من ثقب الباب اسم رجل يتردد بينهما، وإنما هي كلها أسماء مؤنثة، وفي نهاية كل اسم يترهف أذنيها حتى الحرف الأخير، فإذا بالتاء المربوطة في نهاية كل اسم تجعل أمين أمينة أو نبيل نبيلة، حتى نهاية الحديث الذي لا نهاية له لآخر النهار، وآخر العام، والعام الأخير في الدراسة والامتحان النهائي، ثم التخرج. ويوم عقد القران، تنفصل التاء المربوطة فجأة عن الحرف الأخير، ويصبح الاسم مذكرا.
ذراعها لا زالت مرفوعة بغير إرادتها، وعضلات الذراع متقلصة متمردة بين التلامس الكامل أو ترك مسافة بين الصدرين. صدرها كبير ضخم متهدل تحت ثوب الحداد الأسود كصدر أمها الكبير، أرضعتها منه وإخوتها السبعة، ولم يفرغ ولم ينقص، بل كان يمتلئ أكثر. وكراهيتها لأمها تزداد، ومنذ فطمتها أمها لم يحدث أبدا أن تلامس صدرها مع صدر أمها في عناق، وإن سافرت ثم عادت، فلا يزيد العناق عن تلامس اليد باليد أو ترتفع لتحوطها دون التصاق، ولتظل دائما مسافة هواء تفصل بينها وبين أمها، وفي الهواء تسبح ذرات بلون التراب. وفي أذنيها يسري الصوت الناعم كصوت أبيها، يزحف فوق عنقه الضخم، ثم تتسلق لتمسك شاربه الكثيف، تفوح منه رائحة الدخان، ومن خدها يقرصها فتضحك، من شاربه تشده فيقهقه، كاشفا عن أسنان صفراء بالتبغ، وترفع أمها عينيها وهي تكنس الأرض على امتداد مسافة الهواء، تسبح فيها ذرات الغبار، وفوق عينيها طبقة رمادية ويهمس الأب في أذنها بصوت ناعم: «أمك تغار منك.» وبغشاء أذنيها المخاطي يلتحم الصوت، وتسري الحروف في عروقها كرات من الدم، تتحول في خلايا المخ إلى فكرة ثابتة كقطعة من الرصاص: «أمها تنافسها، وهي والمرأة غريمتان.»
ومات أبوها قبل أمها، فأيقنت أن أمها قتلته، وامتلأت عيناها بنظرة الإدانة لها دون سؤال ودون كلام. حتى النفس الأخير، وهو يخرج من صدر أمها الكبير، وذراعها ترتفع لتحوطها في العناق الأخير دون تلامس، وقبل أن ينسدل الجفن فوق العين إلى الأبد، رفعت إليها أمها عينيها بحدقتين متسعتين، وفي نظرتها المتسعة دون كلام أدركت حقيقتها المكتشفة بعد فوات الأوان، والجفن سقط فوق العين إلى الأبد، وعضلات ذراعها تستميت في الالتفات حول صدر أمها، دون مسافة هواء. لكن المسافة لم تعد هواء، وأصبح لها كثافة الحائط في غرفة أمها تلاشي طلاؤه، وظهرت قطع الطوب الواحد فوق الأخرى، ومن فوقها صورة أبيها، يرتدي فوق رأسه شيئا كبيرا بحجم رأس آخر، وفوق كل كتف انتفاخة بحجم كتف آخر. وفي كل عين من عينيه المبتسمتين في رقة وعين أخرى بغير ابتسام وبغير رقة.
ذراعها المرفوعة لا زالت تلتف حولها في محاولة يائسة للعناق، وإلغاء المسافة بين الصدرين، والصدر الآخر منتصب مشدود العضلات، وقلبها مفتوح متحفز للعطاء. لكن صدرها كبير متهدل ممتلئ بالذنب، ثقيل بثقل الأرض، وثلاثون عاما عاشتها وهي تكره أمها، والصدر الكبير الذي ورثته عنها، والكراهية امتدت من صدرها إلى كل جسمها، ولم تعد تصدق أن رجلا يمكن أن يحبها بمثل ما أحبها أبوها. وتزوجت بعد موت أبيها من رجل أخفته في صدرها العام وراء العام. وبعد القران سقطت عنه تاء التأنيث المربوطة، فوق صدره المغطى بالشعر تتكور كالجنين، وتزحف برأسها فوق عنقه لتشد شاربه وتضحك. ولم تسمعه أبدا يضحك أو حتى يبتسم، وأنجبت منه أربعة أولاد وبنتا، بغير ابتسام وبغير فرح وبغير لذة، حتى لذة الأكل راحت، ورائحة الصبح راحت، ولم يعد في أنفها إلا رائحة التراب وهي تكنس الأرض. ومن فوق الكنبة ابنتها الصغيرة تتأرجح على ركبته، ويصنع من نفسه حمارا لتركبه، وعبر شعاع الشمس المحمل بذرات الغبار تلتقي عيناها بعيونهما الأربعة، فيتوقف الضحك ويضيع الابتسام، ويطفو فوق العيون الستة لون رمادي.
منذ ليلة الزفاف وهي تكرهه، وابنها الأول كبر، وهي لا تزال تغسل ظهره بالليفة والصابون، والشعر الكثيف ينبت كالعشب فوق صدره، وكلما خرج وعاد تحوطه بذراعها، وصدرها الممتلئ الكبير يحوط صدره. وفي أذنيها يسري صوت أبيه الغليظ: لم يعد طفلا، وأصبح بغلا. ويرد الابن بصوت مكتوم: ليس بغلا إلا أنت.
وتنتصب الشعرات البيض فوق الشفة العليا، كاشفة عن أسنان متآكلة صفراء بالتبغ، وترتفع الكف الكبيرة في الهواء مترددة بين السقوط على وجه الابن أو وجه أمه. وقبل أن يزحف الشيب إلى الشعر الأسود كانت الكف تسقط على وجه الطفل، لكن الطفل أصبح رجلا، وارتفعت قامته ضعف قامة أبيه، ولم تعد الكف الكبيرة تتردد في السقوط على وجه الأم.
في كل صفعة، كانت يدها ترتفع في الهواء، متقلصة العضلات مترددة بين السقوط على وجهه أو على وجه واحد من أولادها الأربعة أو البنت الصغيرة، وفي مرة لم تكن يدها تسقط إلا على وجه البنت، فهي الأصغر، وهي الأضعف، وهي فوق كل ذلك ليست إلا بنتا. وفي الليل تنام إلى جواره وكأن شيئا لم يحدث، ويمتد ذراعه نحوها ليحوطها وكأن شيئا لم يحدث، وفي الصباح تصنع له الشاي وكأن شيئا لم يحدث، ويخرج إلى عمله كالعادة ثم يعود بعد الظهر، وتخرج إلى عملها كالعادة ثم تعود قبل أن يعود ليجدها قد كنست وغسلت وطبخت.
لا زالت ذراعها تمتد لتحوط الصدرين معا، وعضلاتها تتقلص عاجزة عن إلغاء مسافة الهواء بين الصدر والصدر، والعين عاجزة عن الثبات في العين، لكن كانت اللمعة في النني الأسود لا زالت قوية مقتحمة كضوء النهار، كما كانت منذ ثلاثين عاما. وحول العينين والفم خطوط في الجلد كالتجاعيد، لكن الوجه لا زال مشدودا كالوتر، والصدر ينبض تحت ذراعها كالقلب، وسخونة كفورة الشباب تسري كالعدوى في الدم من ذراعها إلى كتفها وظهرها، وكل عضلات جسمها تنبض وتنفض عن نفسها العام وراء العام. ثلاثون عاما تنفضها لتعود كما كانت تلميذة بالفصل، والوجع المزمن في مؤخرة الرأس يخف، وثقل جسمها فوق الأرض يخف، وثقل رأسها فوق عنقها، وثقل عنقها فوق ظهرها، وثقل صدرها فوق قلبها، وكل شيء فيها يصبح أقل وزنا، حتى النهدان الكبيران الضاغطان على المعدة يصغران، وينهضان من فوق الضلوع بعضلات مشدودة، وقنوات الهواء المسدودة في القلب تتفتح، ويندفع الهواء من أنفها وفمها إلى صدرها كالشهقات المتقطعة. وذراعها لا زالت تمتد أكثر، وعضلاتها تتقلص، في محاولة يائسة لإلغاء المسافة. والفكرة الثابتة في المخ مثل كرة النحاس، وكل شيء في حياتها تغير إلا هذه الفكرة. جسمها تغير، ملامح وجهها ولون عينيها تغيرت، شكل عضلاتها وحركتها فوق الأرض، والأرض أيضا تغيرت، وخلايا المخ تحت عظام رأسها تغيرت بخلايا أخرى، إلا هذه الفكرة ظلت مثل كرة النحاس بحجم رأس الدبوس، تتحرك قليلا من مؤخرة الرأس إلى الأمام، أو من اليسار إلى اليمين، أو من اليمين إلى اليسار، لكنها تظل كما هي لا تتغير.
ذراعها لا تزال مرفوعة تحوطها، ومسافة من الهواء لا تزيد عن الملليمتر لا تزال تفصل بين الصدر والصدر، ورأسها يزحف فوق العنق النحيل، والنبض فيه يدق كقلب الأم، ويسري الدم من عنقها إلى ظهرها وعمودها الفقري، ويصعد مرة أخرى إلى رأسها، ليصطدم بكرة النحاس الصدئة، وتمتد أنفها فوق العنق تتشمم رائحة الدخان، وتكاد يدها تمتد لتشد الشارب فوق الشفة العليا، لكن أصابعها تتقلص فوق البشرة الناعمة بغير شعر، ورائحة البنفسج تملأ صدرها بغير دخان، ومن فوق ذراعها الممدودة ترى الحائط بغير طلاء، ومن فوقه وجه أبيها داخل برواز أسود، وخط عميق كالخندق على الجبهة العريضة، ومن تحت الخندق عيناه تحدقان فيها كعيني زوجها، وثلاثون عاما عاشتها معه في سرير واحد دون أن ترى عينيه، وتمر السنة وراء السنة والليل وراء النهار دون أن تنظر في وجهه، تخرج في الصباح إلى العمل كالعادة بعد أن يخرج وتعود آخر النهار قبل أن يعود، فتكنس كالعادة، وتغسل وتطبخ.
وعلى غير العادة، عادت مرة من عملها قبل موعدها، فوجدته في سريرها وذراعه حول امرأة أخرى. ظهره كان ناحيتها، فلم تر وجهه، وفي مواجهتها صدر المرأة الأخرى، النهدان الصغيران عضلاتهما مشدودة منتصبة متحفزة بغير مقابل، ووشم بشكل زهرة البنفسج فوق الصدر والقلب.
عضلات ذراعها لا تزال تتقلص، في محاولة مستميتة لإلغاء الصورة المحفورة في مؤخرة الرأس، والزمن كالسحابة السوداء فوق عصب العين، والألم كالخندق العميق في القلب، وزوجها غاب ثم مات وعاد. ومن فوقه ملاءة كحجاب المرأة، تغطيه من الرأس إلى القدم، وعيناه فوق الحائط تحدقان فيها بغير ابتسام كعيني أبيها. وعلى الجبهة العريضة خط عميق كالخندق، ولا زالت ذراعها تلتف في محاولة أخيرة للعناق، ومسافة من الهواء لا تزال بين الصدر والصدر، والهواء له كثافة الحائط، وفي الحائط شق عميق كالجرح. لكن اللمعة في النني الأسود لا زالت قوية مقتحمة كضوء النهار، وفوق صدرها الوشم كزهرة البنفسج، وقلبها مفتوح متحفز للعطاء بغير مقابل، والدم يندفع من القلب إلى الرأس، وفي اندفاعة الدم تنفصل قطعة الصدأ عن خلايا المخ، ويغسلها الدم. ومن فوق عصب العين يذوب الزمن كالغلالة، ويغسله الدمع، والصدر يحوطه الصدر بلا مسافة، والرأس يلتصق بالرأس كأيام الدراسة، وأنفاسهما مكتومة حتى ينتفخ صدراهما بالهواء وتوشكان على الاختناق، ويندفع الهواء المحبوس من فتحات الأنف والفم بغير إرادتهما على شكل شهقات متقطعة. كطفلتين تضحكان وتبكيان، وترمقها الحدقة المفتوحة في شق الحائط، فيغلب الضحك على البكاء.
القاهرة 1982
بيوتيفول
عاد إلى بيته تلك الليلة فلم يجدها في السرير . كل ليلة منذ أن اشتغل في الشركة الجديدة وهو يعود بعد أن تنام، ويخرج في الصباح قبل أن تصحو. وقد تركها ذلك الصباح نائمة كعادتها، تشغل الجزء الملاصق للحائط من السرير، متكورة تحت الملاءة على شكل ارتفاعة بيضاء.
ظل واقفا يحملق في الظلام، والسرير العريض ظل مستويا كالأرض، كأنما لم يرتفع أبدا.
سار بخطوات بطيئة نحو المرآة كعادته كلما حلت به مأساة، وأطل عليه من المرآة وجه نحيل طويل كوجه أبيه، وظهره أيضا أصبحت له انحناءة لم تكن موجودة في الصباح. لكن الصباح يبدو له كأنما مضى منذ عام أو عشرة أعوام أو عشرين وأكثر، ومنذ ذلك الزمن البعيد لم يقف أمام المرآة. وصورته الأخيرة عن نفسه أنه كان شابا، مشدود الجسم والعضلات، ورأسه مرفوع، وظهره مستقيم، وذراعاه حين يضمهما يحوطان الكون، وفي الليل يحوطها كأنها الكون.
كانت معه في الشركة نفسها في مصر القديمة، والحياة أمامهما مساحة هائلة من الضوء البرتقالي بلون الشمس، وذراعاه حين يضمها يحوطان الكون. يملك الكون ويملكها حين يحوطها، ولذة الامتلاك فوق لسانه لها طعم لاسع ووجود مادي.
لم يكن يمتلك شيئا إلا الكون وهي، وحين مات أبوه لم يرث إلا صورته داخل إطار، محفورة في رأسه ومعلقة فوق الجدار، وأبوه داخل الصورة واقفا يتسلم الوسام، مرتديا زي الحفلات، يده ممدودة بامتداد ذراعه، ورأسه محني بانحناءة ظهره.
لم يكن رأى أباه من قبل منحنيا، كان حين يقف يراه طويلا شامخا مشدود الظهر، ورأسه مرفوع. وحين كان زملاؤه في المدرسة يتباهون بأسماء آبائهم وأملاكهم، كان هو يتباهى بأن له أبا لم يعرف رأسه ولا ظهره الانحناءة لأحد.
ولم يكن زملاؤه في ذلك الزمن البعيد يتباهون بأمهاتهم، ولا يذكر الواحد منهم اسم أمه. لكنه في أعماقه كان يتباهى بأمه، فهي لم تعرف من الرجال إلا أباه، ولم تكف عن العمل والحركة إلا محمولة في النعش، وصوتها كالهمس لا يعلو، وخطوتها على الأرض لا يسمع منها إلا حفيف الثوب، وإن عطست بصوت مسموع سدت أنفها بكفها وطلبت المغفرة .
وماتت أمه كأبيه وهي واقفة ، ولم تكن تنام، وإذا نامت لا تشغل فوق السرير إلا مساحة صغيرة ملاصقة للجدار بحجم جسمها، وحين يعود أبوه تنهض، ولا تنام حتى ينام، ولم تمت أيضا حتى مات، جمعت ملابسه ووضعتها في صندوق خشبي تحت السرير، وفي قاع الصندوق وضعت بدلة الحفلات والوسام مشبوك في صدرها، وكرات النفتالين البيضاء الصغيرة من حولها.
أغمض عينيه ثم فتحهما، واكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وأنه يرتدي بدلة حفلات تشبه بدلة أبيه، ومن فوق صدره قرص يلمع كالوسام، لكن وجهه شاحب كوجه أبيه حين مات، ومن خلفه السرير العريض لا زال مستويا كالأرض، كأنما لم يرتفع أبدا، كأنما لم تنم فيه زوجته أبدا. وكانت تنام كل ليلة على جنبها الأيمن، فيصبح ظهرها له ووجهها للحائط، تتكور حول صدرها، وتضم ساقيها حول بطنها، ورأسها أيضا تغطيه، فلا يظهر منها شيء.
جسمها وهي نائمة كان يؤكد له إخلاصها الأبدي، ويملؤه بالثقة في نفسه، ويكاد يتباهى بها في أعماقه، بمثل ما يتباهى بأمه، لولا ما حدث.
أغمض عينيه وهو واقف أمام المرآة، وتلاشت من رأسه صورتها، ونسي ما حدث، لكنه عاد وتذكره، ثم نسيه، مئات المرات، آلاف المرات. يتذكر ثم ينسى، ثم يتذكر. ويراها أمامه، ليست نائمة في السرير، وإنما جالسة، ليس معه، ليس مع أخيها أو أبيها أو أي رجل من الأسرة أو الحي أو حتى البلد، وإنما مع رجل أجنبي، أجنبي تماما، ولا يعرف من العربية كلمة واحدة.
لم تكن تحب ثوبها الأحمر النايلون، وتفضل عليه الثوب القطني الأزرق بلون السماء، بنقوشه البيضاء على شكل زهرة الياسمين، وهو ثوب لم تكن ترتديه إلا له، وفي عينيها لمعة لم تعرفها عيناها إلا معه قبل الزفاف. وبعد الزفاف ظلت اللمعة في عينيها تروح وتجيء، ثم راحت. ولم يعرف كيف راحت، ولكنها منذ راحت وهو يتوجس، وشيء كالوسواس يجيء ويروح ثم يجيء. وما إن يلحظ اللمعة تعود إلى عينيها حتى يتلفت حوله، فإذا لمح نافذة مفتوحة أو نصف مفتوحة تصور أن وراءها رجلا.
كان لا يزال في الشقة الصغيرة في مصر القديمة، وبيوت الناس متلاصقة، ونوافذ الجيران تظل طول النهار مغلقة أو مفتوحة، إلا نافذة واحدة كانت تظل نصف مفتوحة أو نصف مغلقة، والشيش متآكل قديم. والوجه الذي يطل من ورائه متآكل قديم، لكنه وجه رجل، والرجل في نظره لا يقف في النافذة إلا ليطل على امرأة.
ولم تكن هي تقف في النافذة إلا يوم الإجازة، وهو يوم واحد في الأسبوع، لا تذهب فيه إلى الشركة، وكانت النافذة صغيرة زجاجها مكسور وخشبها مسدود، والجدران من حولها تمنع الشمس إلا شعاعا رفيعا يتسلل قبل الغروب، يسقط على الجدار قرب حافة النافذة، ويداها حين تمدهما يلسعها الشعاع قبل أن يختفي، وفي الشتاء يصبح الشعاع دافئا برتقاليا. وينعكس الضوء في عينيها كاللمعة، وحين يرى اللمعة في عينيها يتلفت حوله متوجسا، ولا يرى الشمس ولا الشعاع، ولا يرى إلا تلك النافذة النصف مفتوحة أو النصف مغلقة، ولا يتصور أنها تظل بهذا الشكل إلا لتسمح لصاحبها بالرؤية دون أن يراه أحد.
وكان صوته كصوت أبيه، يرتفع عاليا حين يغضب لأقل شيء، ولم يكن يغضبه منها شيء، فهي كأمه لا تكف عن العمل خارج البيت وداخل البيت، وحركتها كأمه بغير صوت، وصوتها كالهمس لا يعلو، وإذا ارتفع صوته حين يغضب تظل صامتة لا ترد. ولم يكن يغضبه سوى أن يراها واقفة في النافذة، وفي أعماقه يعرف أنها مثل أمه ولا تعرف من الرجال إلا هو، لكنه كأبيه لم يعرف الحب بغير شك، ولا يتصور امرأة تقف في النافذة فلا ترى إلا الشمس.
وضربها مرة لتغلق النافذة فأغلقتها، ودار الأسبوع وجاء يوم الإجازة ورآها تفتحها، فعاد وضربها أشد من المرة السابقة، وكان يظن أن شدة الضرب من شدة الغيرة، وشدة الغيرة من شدة الحب، وعليها أن تغتبط كأمه حين كان يضربها أبوه، لكنها لم تكن تغتبط.
ولم تغتبط حين اشترى لها الثوب النايلون اللامع، وظلت تفضل ثوبها القطني القديم، وحين انتقل إلى شقة المعادي الواسعة لم يرها مغتبطة، وحين تضاعف مرتبه وأبقاها في البيت لم تغتبط، وحين جاء عم عثمان ولم تعد تطبخ ولا تغسل ولا تمسح، لم تظهر عليها علامات الاغتباط أو الراحة.
فتح عينيه واكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وجهه نحيل طويل كوجه أبيه، وانحناءة الظهر ذاتها، وبدلة الحفلات تشبه بدلة أبيه، ومن فوق صدره قرص مستدير يلمع كالوسام، لكنه ليس معدنيا، وإنما من القطيفة الخضراء، تلمع عليها حروف بيضاء من النايلون: ترانزناشيونال.
بدت الحروف غريبة، مكتوبة بلغة أجنبية، كأنما لم يرها من قبل، وكأنما يكتشف «البادچ» لأول مرة فوق صدره، وأنه يحمل اسم الشركة التي تعمل بها، وأنه يذهب إليها كل يوم منذ عشر سنين، وأنه منذ عشر سنين لم ير نفسه في المرآة. فالوقت أصبح ضيقا، وكل دقيقة لها ثمن يسجله الكومبيوتر، ومرتبه يقبضه بالدولار، ومكتبه أصبحت له بنورة، وتليفون فوق المكتب له ذاكرة تحفظ الأرقام، والأزرار تكاد تنضغط وحدها قبل اللمس، وزجاج النافذة من النوع المستورد «الفيميه» يكشف من بالداخل، والضوء عشرات اللمبات النيون القوية.
وهي جالسة في الضوء، وثوبها النايلون الأحمر يلمع، ويتسع عند صدرها في كشكشة دقيقة كعش النمل، ويضيق عند خصرها تحت حزام عريض من القطيفة، ثم يدور حول ردفيها عدة دورات كأوراق زهرة اللوتس.
بيوتيفول!
وترن الكلمة في أذنيه بصوت الأجنبي، وكأنما يسمعها لأول مرة، ولأول مرة يكتشف معناها، ويدرك أنها تعني «جميلة»، وأن من يقولها رجل، ليس زوجها وليس أخاها ولا أباها ولا أي رجل من الأسرة أو الحي أو البلد، وإنما رجل أجنبي تماما، وجهه أحمر، وأنفه كبير مقوس، وفوق عينيه نظارات عدساتها «فيميه» يرى من خلالها كل شيء دون أن يرى عينيه أحد.
وهي جالسة أمامه ترتدي ثوبها النايلون الأحمر، يكتشف لأول مرة أنه شفاف، وأنه جالس أمامها ينظر إليها ويراها. وأخطر من الرؤية أنه يكتشف جمالها، وأخطر من الاكتشاف أنه يعبر عنه بصوت عال، وهي جالسة أمامه تسمعه لا تغضب ولا تثور ولا يظهر على وجهها الضيق، بل تظل جالسة، وتهز رأسها كأنما مغتبطة، وتقول بصوت مسموع : «سانك يوه.»
وهو جالس أمامها، يعرف أن «سان كيو» تعني شكرا، وأنها تشكره. وتظل جالسة، لا تنهض ولا تغضب، وهو يظل جالسا أمامها يغازلها، فالغزل هو أن يقول الرجل للمرأة إنها جميلة، وهي ليست أي امرأة بل هي زوجته، وهو ليس أي زوج، بل ذلك الرجل الحمش كأبيه، والذي لم يكن يسمح لأحد أن يراها من وراء شيش، فما بال أن يراها هذا الرجل الأجنبي وجها لوجه، ويصافحها يدا بيد، ويغازلها بصوت مسموع، وهو جالس أمامه لا ينهض ليضربه أو يضربها، أو على الأقل يعترض ويظهر الغضب، لكنه جالس لا ينهض ولا يعترض، ولا تظهر على وجهه علامات الضيق، وكلما التقت عيناه بعيونهما هز رأسه وابتسم.
فتح عينيه فوجد أنه لا زال واقفا أمام المرآة، وأنه لا زال يبتسم، لكن وجهه نحيل شاحب كوجه أبيه حين مات، وانحناءة الظهر كبيرة، يشد عضلات ظهره محاولا أن يخفيها، لكنها لا تختفي وتظل مرئية، وعضلات وجهه يشدها أيضا محاولا إخفاء الابتسامة، لكنها لا تختفي، ويحرك قدميه لينهض ويسير في الغرفة، لكنه لا ينهض. وهي أيضا تظل جالسة، ويتوقع منها أن تنهض وتسير في الغرفة، لكنها لا تنهض ولا تسير، وتظل جالسة تهز رأسها وتقول: «سانك يو.»
وتخترق الكلمة بصوتها المسموع أذنيه كالسهم، كالدليل المادي تستقر في رأسه، تؤكد له خيانته الأبدية، كأنما تخونه طول العمر، منذ تزوجها وقبل أن يتزوجها، منذ وجدت على ظهر الأرض، ومنذ وجدت الأرض.
جاءت خيانتها كالمفاجأة، كاللطمة الأولى، فوق وجهه، وتوقع من نفسه أن يرد عليها بلطمة أشد، وارتفعت كفه الكبيرة في الهواء ثم اهتزت قليلا في تردد، وكادت أن تسقط فوق وجهه أو وجه أبيه، لكنه عاد وتذكر خيانتها، وبكل غضبه من نفسه ومن أبيه، سقطت كفه الكبيرة فوق وجهها.
وفتح عينيه فجأة ليكتشف أنه لا زال واقفا أمام المرآة، ووجهه لا زال طويلا نحيلا كأبيه، لكنه انقسم وأصبح وجهين نحيلين طويلين، بينهما شق طولي عميق وكفه اليمنى ممدودة أمامه، ومن فوقها خيط رفيع بلون الدم.
القاهرة ، 1983
ليس لها مكان في الجنة
ببطن الكف تحسست الأرض من تحتها، ولم تجد التراب، فارتفع الجفنان من فوق العينين الضيقتين، ومدت عنقها نحو الضوء، وظهر وجهها طويلا نحيلا أسمر البشرة إلى حد السواد.
لم تر وجهها في العتمة، وليس في يدها مرآة، لكن الضوء الأبيض سقط على ظهر يدها فأصبحت بيضاء، وعيناها الضيقتان اتسعتا في دهشة وملأهما الضوء. وبدت عيناها في اتساعهما المملوء بالنور كعيون الحور.
وحركت رأسها إلى اليمين وإلى اليسار في شبه ذهول. مساحة هائلة من الأشجار المورقة فوق رأسها، وهي جالسة تحت الظل، وجدول الماء كشريط من الفضة، وعنقود حباته كاللؤلؤ، ثم ذلك الصحن الغويط المملوء بالحساء حتى الحافة.
شدت جفنيها لتفتح عينيها عن آخرهما، وظل المشهد كما كان، لم يتغير، تحسست بكفها جلبابها، فوجدته ناعما كالحرير، ومن فتحة الثوب سرت إلى أنفها رائحة المسك أو العطر الطيب.
ورأسها ثابت فوق عنقها، وعيناها أيضا ثابتتان، خشية أية حركة من الجفن، فيتغير المشهد أو يتلاشى كما كان يتلاشى.
واستطاعت رغم الثبات أن ترى بطرف عين الظل الممدود إلى ما لا نهاية، الشجر الأخضر، ومن بين جذوع الشجر البيت من الطوب الأحمر كالقصر، والسلم الرخام يقود إلى حجرة النوم.
ظلت ثابتة في مكانها لا تقوى على التصديق، ولا تقوى أيضا على التكذيب، ولا شيء يضنيها مثل تكرار الحلم، وأنها ماتت ثم صحت ووجدت نفسها في الجنة. وكان الحلم يبدو لها مستحيلا؛ لأن موتها يبدو كالمستحيل، وصحيانها بعد الموت أكثر استحالة، وذهابها إلى الجنة هو المستحيل الرابع.
ثبتت عنقها أكثر، وبزاوية عين حملقت في الضوء، لا زال المشهد هو هو لم يتغير، ولا زال البيت بالطوب الأحمر كبيت العمدة، والسلم العالي يقود إلى حجرة النوم، والحجرة غارقة في الضوء الأبيض، ونافذة تطل على الأفق البعيد، وسرير عريض تدور حول أعمدته ستائر من الحرير.
أصبح الأمر حقيقيا غير قابل للتكذيب، ولكنها لا تزال في مكانها تخشى الحركة وتخشى التصديق، فهل من المعقول أن تموت وتصحو بهذه السرعة، ثم تذهب إلى الجنة ؟
والشيء الذي لا تصدقه في كل هذا هو السرعة فقط، فالموت سهل، وكل الناس تموت، وموتها هي بالذات أسهل من موت أي أحد، فهي عاشت حياتها بين الموت والحياة، أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. وأمها حين ولدتها رقدت عليها بكل ثقلها حتى ماتت، وأبوها ضربها على رأسها بالفأس حتى ماتت، وحمى النفاس بعد كل ولادة حتى البنت الثامنة، وضربة قدم الزوج في قاع بطنها، وضربة الشمس في النافوخ تحت عظام الرأس. حياتها كانت صعبة، والموت عندها أسهل، وأسهل منه الصحيان بعد الموت، فلا أحد يموت ولا يصحو، وكل الناس تموت وتصحو، إلا الحيوان، فهو حين يموت يظل ميتا.
وذهابها إلى الجنة أيضا وارد، وإذا لم تذهب هي إلى الجنة فمن يذهب؟ وفي حياتها كلها لم تفعل شيئا واحدا يغضب الله أو الرسول، حتى أطراف شعرها الأسود المجعد، كانت تلفها بفتلة من الصوف على شكل ضفيرة، والضفيرة تلفها بمنديل الرأس الأبيض، والرأس تلفه بالطرحة السوداء، ولا شيء يظهر من تحت جلبابها إلا طرف كعبيها، وفي كل حياتها منذ ولدت حتى ماتت لم تعرف غير كلمة حاضر.
قبل الفجر حين تلكزها أمها وهي راقدة، لتحمل السباخ فوق رأسها، لا تعرف إلا حاضر. وإذا ربطها أبوها في الساقية بدل البقرة المريضة لا تقول إلا حاضر. وزوجها لم ترفع عينيها في عينه مرة واحدة، وحين يرقد فوقها وهي مريضة بالحمى لا تنطق إلا حاضر.
وفي كل حياتها أيضا لم تسرق ولم تكذب، وإذا جاعت أو ماتت من الجوع فلا يمكن أن تمد يدها إلى طعام غيرها، وإن كان هو أباها أو أخاها أو زوجها. وكانت أمها تلف الطعام لأبيها في رغيف، وتجعلها تحمله إلى الحقل فوق رأسها، وطعام زوجها أيضا، كانت تلفه أمه في رغيف. وتراودها نفسها وهي سائرة في منتصف الطريق أن تتوقف تحت ظل شجرة وتفتح الرغيف، لكنها في كل حياتها لم تتوقف مرة واحدة، وفي كل مرة تراودها نفسها تستعيذ بالله من الشيطان، حتى يبلغ بها الجوع مداه، فتقطع من جانب الطريق عود سريس أو جعضيض، تمضغه تحت أسنانها كاللبان، ثم تبتلعه مع حفنة ماء تملؤها كفها من حافة الترعة وتشرب حتى ترتوي، ثم تمسح فمها في كم جلبابها، متمتمة بصوت خافت: الحمد لله، ثلاث مرات ترددها، الحمد لله، وخمس مرات في اليوم تركع، ووجهها على الأرض، وتشكر الله، وإذا أصابتها الحمى واحتقن رأسها بالدم كالنار لم تذكر إلا الله. وأيام الصيام تصوم، وأيام العجين تعجن، وأيام الدودة تلم الدودة، وأيام العيد ترتدي الحداد وتذهب إلى القرافة.
وفي كل حياتها لم تغضب من أبيها أو أخيها أو زوجها، وإذا ضربها زوجها حتى الموت وعادت لبيت أبيها أخذها أبوها وعاد بها إلى زوجها. وإذا عادت مرة أخرى ضربها أبوها ثم أعادها، وإذا أخذها زوجها ولم يطردها، ثم ضربها وعادت إلى أمها تقول لها أمها: عودي يا زينب ولك الجنة في الآخرة.
ولم يكن خيالها حين تذكر حسنين يتسع لأكثر من إمساك اليد في اليد، والجلوس تحت الظل في الجنة، لكن أمها نهرتها، وقالت لها إن الجنة لن يكون فيها ابن جارهم حسنين ولا ابن أي جار آخر، ولا يمكن لعينها أن تقع على رجل خلاف أبيها أو أخيها. وإذا ماتت بعد الزواج ودخلت الجنة فليس هناك إلا زوجها، وإن راودتها نفسها في اليقظة أو المنام، ووقعت عينها على رجل آخر غير زوجها، ومن قبل أن تمسك يدها في يده، لن ترى الجنة بطرف عين، ولن تشم رائحتها من ألف متر.
ومنذ ذلك الحين أصبحت كلما رقدت وراحت في النوم حتى الموت، لا ترى في المنام إلا زوجها، وزوجها في الجنة لا يضربها، وكوم السباخ لم يعد فوق رأسها، ولا التراب يلسع تحت قدميها، وبيتهم الطيني الأسود أصبح من الطوب الأحمر، وداخل البيت السلم العالي، ثم السرير العريض، وزوجها جالس على السرير يمسك يدها في يده.
ولم يكن خيالها يتسع لأكثر من إمساك اليد في اليد داخل الجنة، ويدها في كل حياتها لم تصبح أبدا في يد زوجها، وثمانية أولاد وبنات أنجبتهم منه دون أن يمسك يده في يدها. وفي ليالي الصيف يرقد في الحقل، وفي الشتاء يرقد في الجرن أو فوق الفرن، وطول الليل ينام على ظهره دون أن ينقلب، وإذا انقلب نادى عليها بصوت كعواء ذئب: يا بت! وقبل أن ترد بنعم أو حاضر، يكون قد ركلها الثانية، وإذا لم تتأوه ولم تنطق جاءتها الركلة الثالثة والرابعة حتى تنطق، ولم يحدث أن أخطأت يده مرة وأمسكت يدها، أو ذراعه امتد والتف حولها.
ولم يظهر أمامها في كل حياتها اثنان يتعانقان من الإنس ولا من الجن، اللهم في برج الحمام حين تصعد، وعلى حافة الجدار يظهر الزوجان، ومنقارهما متلاصقان، أو في الزريبة حين تهبط من وراء الجدار يظهر الاثنان من البقر أو الجاموس أو حتى الكلاب، والعصا الخيزران تمسكها أمها وتظل تلسعهما وهي تلعن الحيوان.
وفي كل حياتها لم تفك الطرحة السوداء من حول رأسها، ولا المنديل الأبيض المعقود تحت الطرحة، اللهم إلا حين يموت أحد، تفك المنديل الأبيض وتشد المنديل الأسود حول رأسها، وحين مات زوجها عقدت المنديل الأسود فوق جبينها عقدتين، وظلت ترتدي الحداد ثلاثة أعوام. وجاءها رجل يطلبها للزواج بغير أطفالها، فبصقت أمها في فتحت جلبابها وأسدلت الطرحة فوق وجهها وهي تهمس: يا عيب الشوم، وهل تترك الأم أطفالها من أجل رجل؟ ومضى العام وراء العام، وجاءها رجل يطلبها للزواج بأطفالها، فشهقت الأم بأعلى صوتها: وماذا تريد المرأة من الدنيا بعد أن تصبح أما ويموت زوجها؟
وأرادت يوما أن تفك المنديل الأسود من حول رأسها وتربط منديلا أبيض، لكنها خشيت أن يظن الناس أنها نسيت زوجها. وظلت بالمنديل الأسود وملابس الحداد، حزينة على زوجها، حتى ماتت من الحزن.
ووجدت نفسها ملفوفة بالكفن الحرير داخل الصندوق، ومن وراء النعش سمعت عويل أمها حادا عاليا كالعواء في الليل، أو كصفارة القطار: ستلحقين بزوجك في الجنة يا زينب!
ثم انقطع الصوت، ولم تسمع إلا الصمت، ورائحة تراب، والأرض تحتها أصبحت ناعمة كالحرير، وقالت: لا بد أنه الكفن. ومن فوق رأسها سمعت صوتا غليظا كعراك رجلين، ولم تعرف لماذا يتعاركان، حتى سمعت أحدهما يذكر اسمها، ويقول إنها تستحق أن تذهب إلى الجنة قفزا دون المرور بعذاب القبر. لكن الرجل الثاني كان يعارض ويصر على أن تنال شيئا ولو قليلا من العذاب داخل القبر، ولا يمكن أن تصعد هكذا إلى الجنة في قفزة واحدة، وكل الناس تمر بعذاب القبر. لكن الرجل الأول ظل على رأيه، ويقول إنها لم تفعل شيئا تستحق عليه العذاب، وأنها كانت زوجة مخلصة لزوجها مائة في المائة. وعارضه الرجل الثاني قائلا إن أطراف شعرها كانت تظهر من تحت المنديل الأبيض، وأنها كانت تصبغ شعرها بالحنة الحمراء، وكعباها يظهران من تحت الجلباب حمراوين كالدم.
واعترض الرجل الأول قائلا إن أطراف شعرها لم تظهر أبدا من تحت المنديل، وأن ما رآه زميله لم يكن إلا ضفائر الصوف، وأن جلبابها كان طويلا سميكا، ومن تحته جلباب آخر أشد سمكا وأكثر طولا، ولم يكن لأحد أن يرى كعبيها الحمراوين.
لكن زميله اعترض، وأصر على أن كعبيها الحمراوين كانا يسببان الفتنة لكثير من رجال القرية.
وظل العراك بينهما طول الليل، وهي راقدة وجهها ناحية الأرض، تضغط بأنفها وفمها على الأرض، تكتم أنفاسها وتتظاهر بالموت، وقد يشتد عذابها إذا اتضح أنها لم تمت، وقد يشفع لها الموت، وأنها لم تسمع شيئا مما دار بينهما، ولا يمكن لأحد من الإنس أو الجن أن يسمع ما يدور في القبر بعد الموت، وإذا حدث وسمع، فلا بد أن يتظاهر بعدم السماع، أو بعدم إدراك ما أدركته. وأخطر ما أدركته هو أن الرجلين ليسا ملكي القبر، وليسا ملائكة من أي نوع، فلا يمكن للملاك أن تغيب عنه الحقيقة التي عرفها كل إنسان في القرية له عينان، ذلك أن كعبيها لم يكونا أبدا حمراوين مثل كعبي بنت العمدة، وكانا دائما مثل وجهها وكفيها مشققين سوداوين بلون تراب الطريق.
ثم انتهى العراك قبل الفجر دون تعذيب، وشكرت الله حين انقطع عنها الصوت، وبدأ جسمها يخف ويعلو كأنها ستطير، وظلت محلقة كأنما في السماء، ثم سقط جسمها وارتطم بأرض طرية رطبة، وشهقت: الجنة.
ورفعت رأسها بحذر شديد، فرأت المساحة الهائلة من الخضرة، والشجر أوراقه كثيفة ومن تحتها الظل.
رفعت نصفها الأعلى كله من فوق الأرض، ورأت الأشجار تمتد أمام عينيها إلى ما لا نهاية، وهواء نقي يدخل صدرها، ويطرد التراب والغبار ورائحة الروث.
بحركة خفيفة نهضت حتى انتصبت تماما فوق قدميها، واستطاعت أن ترى البيت وسط فروع الشجر مبنيا بالطوب الأحمر، وأمام عينيها كان المدخل.
دخلت مسرعة تلهث، تصعد السلم العالي وتلهث، وأمام حجرة النوم توقفت لحظة تلتقط أنفاسها، قلبها يرفع ضلوعها إلى أعلى ويدق وصدرها يعلو ويهبط.
كان الباب مغلقا، فمدت يدها بحذر شديد ودفعته، ورأت أعمدة السرير الأربعة تدور حولها الستائر الحرير، ومن تحت الأعمدة الأربعة رأت السرير العريض ومن فوقه زوجها، جالس فوق السرير كالعرش، وعن يمينه امرأة، وعن يساره امرأة ثانية، وكلاهما ترتديان ثوبا شفافا، يشف من تحته البشرة البيضاء كالشهد، وعيناهما واسعة مليئة بالنور كعيون الحور.
ولم يكن وجه زوجها ناحيتها فلم يرها، وكانت يدها لا تزال على الباب، فشدته إلى الوراء وانغلق، وعادت إلى الأرض مرة أخرى وهي تقول لنفسها: ليس في الجنة مكان لامرأة سوداء.
القاهرة، 1984
الأم السويسرية القاتلة
الوجه الملائكي الرقيق، الأنف المستقيم الدقيق، الشفتان الحساستان، والصوت الدافئ العميق، وأعمق منه العينان ذات النني اللامع والنظرة المتعددة المعاني والطبقات.
ذكرتني ملامحها بزينب المصرية، وكاترين الأمريكية، وميديا اليونانية بطلة يوربيدس، الوجه الملائكي نفسه ... كوجه طفلة في السادسة عشرة، وعمرها تجاوز العشرين بأربع أو خمس سنوات.
أمسكت يدها في يدها، يد رقيقة صغيرة ناعمة كيد طفلة، وجرح صغير كالخدش البسيط ربما من أثر الضغط على السكين، وهي تطعن ابنها الأول تسع طعنات في ظهره، وتطعن ابنها الثاني سبع طعنات في صدره، وتتسرب القوة من يدها حين تطعن نفسها، فتفرغ زجاجة الحبوب في جوفها، لكن عربة الإسعاف تنقلها إلى المستشفى، لتعيش من جديد تحت رقابة البوليس والأطباء، وقد ترسل إلى المصحة العقلية ، أو تقدم للمحاكمة كأم قاتلة .
كلمة «الأم» تتناقض في آذاننا مع كلمة «القتل»، وخاصة قتل الأم لطفلها، فالأم هي واهبة الحياة، فكيف تقتل؟
لكن القادر على وهب الحياة، قادر أيضا على أخذها، كما يقول يوربيدس.
وعيناها تشبهان عيني «ميديا» بطلة يوربيدس منذ ألف وخمسمائة عام، لكن «ميديا» نجحت في قتل نفسها بالسكين ذاتها التي قتلت بها طفليها. وعلى مسرح الأكروبول في أثينا، رأيت «ميديا» تصعد في السماء، تلمع عيناها بالانتصار، بعد أن انتقمت من زوجها الخائن.
خيانة الزوج في عهد يوربيدس كانت تسبب للزوجة غضبا شديدا، بمثل ما كانت خيانة الزوجة تسبب للزوج غضبا شديدا.
وإذا قتل الزوج الغاضب فهو لا يصبح قاتلا، وإنما شهم مدافع عن شرفه.
وإذا قتلت الزوجة الغاضبة فهي تصبح على الفور قاتلة مجرمة، وليست شهمة مدافعة عن شرفها.
فلم يكن للمرأة في عهد يوربيدس شرف تدافع عنه، لكن المرأة في ذلك العهد كانت لا تزال قادرة على الغضب إذا خانها زوجها مع امرأة أخرى.
ولم يكن سيجموند فرويد قد أخرج إلى العالم بعد نظريته المعروفة عن سيكولوجية المرأة والتي أنكرت على النساء الشعور بالغضب. وكان أرسطو ما زال يؤمن أن المرأة وعاء خال من الحياة، والرجل وحده هو مصدر الحياة.
واستطاع يوربيدس أن يسبق أرسطو في إدراك أن الأم هي مصدر الحياة، وأنها إنسانة كالرجل، وقد تغضب مثله إذا خانها، وقد تستولي عليها فكرة الدفاع عن شرفها إلى حد القتل، قتل الزوج، أو قتل نفسها وأطفالها منه.
تسلطت هذه الفكرة على «ميديا» حين هجرها زوجها إلى امرأة أخرى كانت قد منحته الحب كله وحياتها كلها، وصدمتها الخيانة، وانقلبت طاقتها على الحب والعطاء إلى طاقة للدفاع عن شرفها والانتقام لكرامتها.
ورأت أن أشد انتقام من الأب هو أن تحرمه من أطفاله، فهو الذي سيشعر بفقدانهم، أما هي فلن تشعر بشيء؛ لأن روحها ستلحق مع أطفالها إلى السماء.
ما زلت أحدق في وجهها الملائكي، ويدها الصغيرة الناعمة، وهي راقدة في سريرها بمستشفى السلام الدولي. أحاول أن أذكر نفسي أن اسمها «سابينا أنا ماريا» وليست «ميديا»، وليست كاترين، ولا هي خديجة أو زينب.
ابتسامة طفولية أضاءت وجهها كحنان الأم الطاغي، انتهت قبل أن تبدأ، وخلفت تعبيرا كالسحابة الصفراء، أو الخوف الغامض الدفين، انقشعت هي الأخرى بسرعة، وزحفت الغمامة الرمادية كشبح الغضب الخفي، لا يريد أن يكشف عن نفسه. ثم بدأ في عينها الخوف. ليس كالخوف الأول الغامض، ولكنه خوف واضح صريح، بغير سحابة ولا غمامة، امتلأت عيناها الصافيتان بكل اتساعهما الأبيض الصافي بنظرة مذعورة، لمعت في عينيها بلون أسود، وبحجم النني الكبير تشوبها زرقة داكنة.
ثم انطفأ اللمعان فجأة كما بدأ، وحومت ابتسامة شاحبة، تراجعت بسرعة، وامتلأت عيناها بالحزن الغريب، كالطبقة المعتمة تكسو بياض العين، والسواد أصبح لونه أخضر باهتا بلون الماء الراكد، وطفا فوق السطح تعبير جديد ينم عن الإحساس الدفين بالذنب، زحف طافيا فوق سطح العين بلون أخضر، كورقة الشجر الميتة، وشفتاها الرقيقتان الشاحبتان تنفرجان عن كلمة «الله».
حين رأيت كاترين الأمريكية لم يكن هذا في المستشفى، كانت في السجن، راكعة إلى جوار السرير، منكفئة بوجهها على «الإنجيل»، والسجانة من خلفها متأهبة للإمساك بذراعيها إذا تركت الكتاب المقدس لتخنق نفسها.
خديجة المصرية، رأيتها في السجن أيضا، تمسك في يدها «القرآن»، وحين ترقد تضعه تحت رأسها وتخاطب الله: يا رب أنت العالم أني لم أقتل ابني إلا حين أمرتني يا رب، وأمسكت يدي الضعيفة ومنحتني القوة من عندك.
وتحركت عيناها نحوي وهي تقول: هل هناك أم تقتل طفلها؟ أنا لم أقتله، الله هو الذي قتله، ربنا أخذه ليرحمه من الجوع.
أما زينب فقد عجزت عن قتل طفلتها، وظلت رغبة القتل تراودها، وكلما احتضنت طفلتها لترضعها شعرت كأنما قوة خفية تضغط بيدها على ابنتها.
وقد ظنت زينب أن الله يكرهها؛ لأنها لم تعد تحب زوجها، وكراهيتها امتدت من زوجها إلى أطفالها، ثم إلى نفسها.
أصبحت تكره نفسها وتظن أن الله يكرهها أيضا ...
ربما لأنها لم تكن طاهرة كما يجب، أو أن شيئا مدنسا راودها في طفولتها أو مراهقتها ، وتظل تبحث في ماضي حياتها عن خطيئة ما فعلتها في اليقظة أو المنام، ولا بد أن تجد شيئا، وإن كان مجرد حلم.
وفي عصرنا الحديث استطاع الطب النفسي أن يكتشف مرضا اسمه «الاكتئاب»، يصيب المرأة أو الرجل.
لكن نسبة الإصابة أكثر بين النساء، وتبلغ حوالي 9٪ بين النساء، و7٪ بين الرجال. ويصيب الاكتئاب جميع شعوب العالم، ويسمونه مرض العصر التكنولوجي، وله علاقة كبيرة بارتفاع قيمة الدولار وانخفاض قيمة الإنسان.
وتزيد نسبة الاكتئاب بين أطباء النفس على غيرهم من الرجال، ويعجز معظم الأطباء الرجال عن فهم الدوافع الحقيقية وراء اكتئاب النساء، فالطبيب كغيره من الرجال ما زال يتصور أن الله قد خلق المرأة لتكون خادمة للرجل، فإن غضبت ورفضت دور الخادمة هذا، فهي مريضة وتحتاج إلى علاج.
وما زال معظم الأطباء في العالم يتصورون أن الأم التي تقتل أطفالها تعاني مرضا عقليا، أو تغيرا كيمائيا في المخ، أو نقصا في هرمونات الأنوثة والأمومة، أو خللا ما عضويا أو نفسيا. وإذا اتسع أفق الطبيب ليشمل شيئا من علوم الوراثة، فقد يفكر في الكروموسومات، أو انتقال المرض عبر «الجينات» من الأب أو الأم. وإذا اتسع أفق الطبيب أكثر ليشمل شيئا من العلوم الاجتماعية، فقد يفكر في مشاكل المجتمع أو الأسرة، مثلا قسوة الأب وغلظة قلبه، أو إدمانه للخمور أو المخدرات، باعتبار أن هناك علاقة ما بين الإدمان ومرض الاكتئاب.
لكن قليلا جدا من الأطباء من يفهم حقيقة الصراع النفسي في أعماق الأم التي تقتل طفلها، ولا تزال البحوث العلمية في مجال سيكولوجية المرأة نادرة، وأغلبها يرث أفكار «فرويد» الذي كان يشكر الله كل صباح؛ لأنه لم يخلقه امرأة. والمرأة السليمة نفسيا في نظره لم تكن إلا تلك التي استطاعت أن تقتل «الأنا العليا» أو تقتل «طموحها الفكري» كخادمة للرجل، وتصلي لله شكرا.
وإذا رفضت المرأة هذا الدور، أو قبلته بضيق أو غضب، فهي مريضة نفسيا وتعالج بالحقن أو الأقراص أو الجلسات الكهربية. ويسمى هذا العلاج في الطب بالعلاج النفسي، وهو يلعب الدور الأخير في قتل البقية الباقية من «الأنا العليا » وطموح المرأة الفكري.
تصبح المرأة بعد العلاج مطيعة هادئة، مستسلمة لدور الخادمة أو الوضع الأدنى، ويقال عنها إنها «مثالية»، وفي أعماقها تشعر أنها «مقتولة» أو «ميتة».
وقد تختلف قصص هؤلاء الأمهات القاتلات في بعض التفاصيل، إلا أنهن يتفقن جميعا في ذلك الإحساس العميق أنهن مقتولات، وتقول الواحدة منهن بلغات مختلفة ولكن بنفس المعنى: في داخلي أشعر أنني ميتة، أو هناك شيء ميت في أعماقي.
وقد تختلف أسباب الاكتئاب عند هؤلاء النساء، لكنهن يتفقن في أنهن متفرغات للخدمة في البيت أو البيوت.
وقد تعمل المرأة خارج البيت، لكن عملها يندرج تحت أعمال الخدمة، ويعد امتدادا لواجباتها المنزلية ... وقد يكون الأب هو الذي أجبر ابنته على ترك الدراسة التي تحبها، أو الزوج هو الذي أجبر زوجته على ترك عملها الذي يحقق لها بعض الاستقلال أو السادة. وقد يتخذ الإجبار شكل العنف الواضح أو غير الواضح، وقد يستتر تحت ستار رقيق من الحب، أو الحماية، أو التضحية من أجل الحب، أو من أجل الأطفال.
وكم من المآسي تحدث لكثير من البنات والنساء باسم الحب، أو الحماية، أو التضحية، وتجد الواحدة منهن نفسها بين الجدر الأربعة، وقد تكتشف فجأة أو بالتدريج أن حياتها خاوية تماما كعدم الحياة. وهنا تحدث الصدمة النفسية لهؤلاء النساء، وتسمى في علم النفس بصدمة «انعدام المؤثرات في الحياة»، وهي تشبه صدمة الموت، لكن الجسد يظل على قيد الحياة.
وقد تختلف الصفات النفسية والجسمية لهؤلاء الأمهات القاتلات، إلا أنهن يتفقن في صفة تكاد تكون واحدة، وهي الرقة الشديدة، وملامح الملائكة أو القديسات. وهن بالفعل قديسات، متدينات، منتظمات في الصلاة وشكر الله على وضعهن الأدنى، وتخلو حياتهن تماما من الأخطاء، بمثل ما هي خالية من كل شيء آخر، بما فيها الرغبة الزوجية.
ويفسر بعض الأطباء هذا البرود العاطفي أو الجنسي على أنه السبب وراء الاكتئاب، مع أن هذا البرود ليس إلا نتيجة لسبب آخر؛ فالمرأة لا يمكن أن تقتل فكريا، وتظل رغبتها الجنسية صاحية وحدها هكذا . إن النشاط الجنسي في حياة المرأة جزء من النشاط الفكري، ويدركها البرود حين يتبلد فكرها، ويدركها الموت أيضا حين يموت فكرها.
ولكن كيف تنقلب هذه الرقة الملائكية لتصبح عدوانا يبلغ حد القتل؟!
إن الرقة الشديدة والعدوان الشديد وجهان لعملة واحدة. وأخطر القتلة لهم ملامح أرق من الملائكة.
والرقة هنا ليست هي الرقة الحقيقية، ولكنها الخضوع الأنثوي، والاستسلام الأبدي، والطاعة العمياء، والقدرة الدائمة على إخفاء الغضب تحت ابتسامة رقيقة.
لكن الخضوع قد لا يكون أبديا كما نتصور، وقد يحدث شيء صغير كالقشة، لكن البعير يسقط على الأرض، وتقصم القشة ظهره، كالوعاء فوق النار بدون ثقب يخرج منه البخار، وبعد قليل أو كثير نسمع صوت الانفجار.
وتعترف الأم منهم أنها قتلت طفلها؛ لأنها أحبته، ولأنها أرادت أن تحميه من الألم أو العذاب أو الموت. إنها تخشى عليه الموت، لكنها تعالجه بالموت، هذا هو التناقض الذي لا تستطيع أن تدركه هذه الأم، فهو تناقض عاش معها في اللاوعي، منذ الطفولة أو المراهقة، حين خشي عليها أبوها الموت الاجتماعي أو الأخلاقي إذا لم تتزوج بسرعة، وحكم عليها بالموت الفكري والنفسي حين أخرجها من المدرسة، وفرض عليها زوجا لا تريده.
كثير من الناس يقتلون بناتهم فكريا ونفسيا باسم الحماية الأخلاقية والاجتماعية، وباسم الحب تموت كثير من الزوجات والأمهات فكريا ونفسيا.
لكن القتل عندنا ما زال نوعا واحدا، وهو القتل الجسدي الإكلينيكي، وهو القتل الذي يحاكم عليه الإنسان. أما القتل الفكري والنفسي، فنحن لا نعرفه بعد، ولا يحاكم بسببه أحد.
إن وراء كل حالة قتل جسدي حالة قتل أخرى لا ينتبه إليها أحد، ويواصل الجاني جرائمه دون أن يكتشف البوليس أو الطبيب الشرعي. وقد ينتبه إليه أحد أطباء النفس، لكنه لا يحاكم ولا يحاسب، فنحن لا نرى إلا المرأة القاتلة، أما المرأة المقتولة فلا يراها أحد.
القاهرة، سبتمبر 1984
قصة فتحية المصرية
كنت في مكتبي جالسة، حين دخلت علي فتاة في السادسة عشرة من عمرها، واسمها «فتحية» تحمل على كتفها طفلا رضيعا، وفي يدها طفل آخر في الثالثة من العمر، يمشي بصعوبة، على وجهها كدمات حمراء وزرقاء، عيناها سوداوان متسعتان في نظره أشبه بالجنون، ترتدي جلبابا واسعا قديما، وتلف رأسها بطرحة سوداء. أخرجت من جيب جلبابها سكينا يشبه مطواة «قرن الغزال»، وقالت بصوت مرعب: سأقتل أبي وأدخل السجن، وجئت لأترك طفلي هنا في جمعية تضامن المرأة، فليس لي أحد في هذه الدنيا، وقادني بعض أهل الخير إليكم، وقالوا إنكم تدافعون عن النساء المقهورات، وأنكم دافعتم عن «رابعة» التي قتلت زوجها الذي أراد أن يطردها إلى الشارع هي وأطفالها الخمسة ليتزوج بفتاة صغيرة، وقد تطوعت محامية من عندكم للدفاع عنها، لكني عشت حياة أبشع من حياة «رابعة» التي أعلنت أنها لم تقتل زوجها إلا بعد أن قتلها ألف مرة من قبل.
أما أنا فقد صنع بي أبي ما هو أبشع من القتل، والمشكلة أن القانون أو الشرع لا يعاقب أبي، ولا يعاقب زوج رابعة، ولا يعاقب الآباء، ولا الأزواج الذين يبيعون ويشترون فينا باسم عقد الزواج الشرعي أو الطلاق الشرعي أو تعدد الزوجات الشرعي.
وقد باعني أبي منذ ست سنوات، وكنت في العاشرة من عمري، لرجل سعودي عجوز، يكبرني بستين عاما. بدأت القصة بأن جاء إلى بيتنا «عم محمود» ابن عم أبي، وقال لأبي: إن الله أرسل إليه رزقا من السماء. ماذا كان هذا الرزق؟ إنه «الشيخ علي»، وهو من أغنياء مكة المكرمة، وقد رآني هذا الشيخ الثري وأنا أحمل صفيحة الماء فوق رأسي، فأعجبه شكلي ويرغب في الزواج بي ومستعد لدفع مهر كبير قدره أربعة آلاف ريال سعودي.
رفع أبي يديه إلى السماء، ثم ركع وسجد لله شكرا على هذا الرزق الذي أرسله إليه. إن أبي فلاح فقير بلا أرض، يتاجر في زبل الحمام وروث البهائم والكسب، وحين يشتد به الفقر يعمل مزارعا بالأجرة. وقد طلق أبي أمي؛ لأنها أنجبت له أربع بنات، وكان يريد ولدا ذكرا ليساعده في التجارة، ويرعى الحمارة التي يتجول بها في القرى والعزب، وتزوج أبي امرأة أخرى أنجبت له ستة عيال، خمس بنات وولدا، وكل صباح أسمعه يلعن البنات وخلف البنات. لكن عم محمود جاءه وقال له: رزق البنات على الله يا حاج مسعود. وأخذ أختي الكبرى خديجة، لتعمل خادمة في الإسكندرية، في بيت موظف كبير متزوج وعنده أولاد، وكل شهر يقبض أبي مرتبها مائة وخمسين جنيها في الشهر.
وكف أبي عن ركوب الحمارة والتجارة، وأرسل أختي الثانية «فاطمة» لتعمل خادمة في شقة مفروشة في الزمالك يملكها رجل سعودي ثري، وكل شهر يقبض أبي مائتي ريال سعودي، وخلع أبي جلبابه الفلاحي وارتدى الجبة والقفطان، وسافر إلى الحج وعاد يرتدي عمامة بيضاء بدل الطاقية، وأصبحت الناس تناديه الحاج مسعود.
وجاء الدور علي، فأنا البنت الثالثة، وجاء عم محمود وقال لأبي: إن ابنته فتحية (وهذا هو اسمي) مسعودة لأن الله أرسل إليها زوجا، وسوف تصبح زوجة وليست خادمة بالأجرة، ومهرها أربعة آلاف ريال.
وأطلقت زوجة أبي الزغاريد، واشترت لي ثوب زفاف أبيض، فرحت به كما تفرح طفلة في العاشرة بثوب جديد. وحين رأيت الرجل الذي أصبح زوجي أصابني الفزع، إنه عجوز أكبر من أبي، يمشي على عكاز، وقد فقد ساقه اليمنى في حادث، وله ثلاث زوجات في السعودية وأربعة وعشرون ولدا وبنتا.
وقال لي أبي: الرجل لا يعيبه إلا جيبه، وقد أحل الله للرجل أربع زوجات، وليس في القرآن نص يحدد فارق السن بين الزوج والزوجة، وقد تزوج الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم
وهو في الستين من العمر من السيدة عائشة وهي في الثامنة من العمر، أي كانت تصغرني بعامين اثنين.
وتمكن عم محمود من استخراج شهادة ميلاد لي يثبت أن عمري ستة عشر عاما (وليس عشر سنوات كما كانت) وجواز سفر لي، وأعطى والدي أربعة آلاف ريال، وسافرت مع زوجي إلى مكة المكرمة.
عشت خمس سنوات أشبه بالجحيم، كان يضربني ضربا مبرحا في الفراش حتى أبكي وأصرخ من شدة الألم. لم أكن أعرف لماذا يضربني ثم يغتصبني، ثم عرفت من زوجاته السابقات أنه مريض نفسيا، ولا شيء يوقظ شهوته الميتة إلا صراخ طفلة تعذبها آلام الضرب. وكان معنا في البيت الكبير خادمة مصرية، وكنت أحسدها إذ لم تكن تتعرض للضرب مثلي، كانت تقبض كل شهر خمسمائة ريال سعودي، وكانت تسافر إلى أهلها طوال السنين الخمس. وأنجبت الولد والبنت وأصبحت أسيرة أمومتي، ولا أعرف كيف أنقذ نفسي. لكن حياتي كانت تزداد سوءا، وقسوته علي تزداد، وزوجاته الثلاثة يضربن طفلي بلا سبب، وهددت واحدة منهن بقتل ابني حتى لا يشارك أولادهن الميراث. وطلبت الطلاق من زوجي لأعود إلى مصر، لكنه رفض أن يطلقني. لقد استمر في تعذيبي وضربي واغتصابي، ولم يكن يستطيع أن يفعل ذلك مع زوجاته الثلاثة الأخريات. لم يكن أمامي إلا الهروب والعودة إلى مصر. ساعدني بعض أهل الخير من المصريين في مكة، ووضعت اسم ابني وابنتي في جواز سفري.
لكن لم أعرف أنني سأعيش جحيما آخر في بلدي وفي بيت أبي. كان أبي قد باع أختي الصغرى «حمدية» لزوج عجوز من الكويت. دخل بها في مصر، ثم سافر وتركها حاملا، ولم تعرف أهي متزوجة أم مطلقة، ووضعت طفلها الشرعي الذي حمل اسم أبيه الكويتي الغائب والمجهول العنوان.
وبدأت أختي «حمدية» تواسيني، وأنا أواسيها، وجاءت أختي خديجة الخادمة بالإسكندرية، وعرفنا أنها أصبحت أما لطفل في الثالثة من عمره بلا زواج، بعد أن اعتدى عليها رب الأسرة الأولى. وولدت طفلها، واستخرجت له شهادة ميلاد، وحصل على الجنسية المصرية. ثم اشتغلت في بيت آخر بالإسكندرية، وتعيش مع طفلها في غرفة منفردة، وتقبض كل شهر مائة وثمانين جنيها.
واكتشفت أن أختي خديجة الخادمة، أحسن حالا مني ومن أختي حمدية، وطفلها المولود سفاحا (بلا أب) يتمتع بالجنسية المصرية. أما نحن، فأطفالنا شرعيون، لكنهم أجانب، وليس لهم حق الحصول على الجنسية المصرية.
وبدأت أنا وأختي حمدية ندوخ على المكاتب لنحصل على إقامة لأطفالنا على أرض مصر، ولا نعرف ماذا نفعل في المستقبل، وهل تطرد الشرطة أطفالنا خارج مصر؟ لا نعرف شيئا عن القوانين. ننتقل من يد سمسار إلى يد سمسار آخر، ندفع رشوة لهذا الموظف، ثم يتضح لنا أنه ليس له علاقة بموضوع إقامة الأطفال الأجانب.
ثم جاءت أختي فاطمة إلينا في زيارة، وعرفنا أنها أسعد حالا منا جميعا، فهي تعمل في ثلاث شقق مفروشة، تنتقل من شقة إلى شقة، وتكسب مالا كثيرا، وعندها دراية كبيرة بمنع الحمل، ولم تحمل ولم تنجب، وادخرت في ست سنوات مائة ألف دينار، وتستعد للزواج من شاب يبادلها الحب، اسمه محمد، من أسرة طيبة، وأبوه أيضا يحمل لقب دكتور، وهي تمطر أبي بالقبلات؛ لأنه فتح لها طريق الخير والسعادة، وتصلي كل يوم لله شكرا على الرزق الذي أرسله إليها بغير حساب.
أما أنا فلا أعرف شيئا عن مستقبلي أو مستقبل طفلي، وليس معي أي مال، فقد قبض أبي مهري، وحين أطلب منه نقودا يدعي أنه لا يملك شيئا، وأن أختي فاطمة تساعده بثلاثين جنيها فقط كل شهر رغم مكاسبها الكبيرة.
وعشت الهوان والفقر في بيت أبي، لا أملك مالا ولا مستقبلا، مثل أختي فاطمة التي كسبت مالا كثيرا عن طريق البغاء، ولا يملك طفلاي الجنسية المصرية ولا حق الإقامة في بلدي؛ لأنهما أجانب (من أب سعودي)، ولا أعرف شيئا عن مستقبلهما.
فكرت في قتل طفلي ثم الانتحار، لكن أمومتي منعتني من قتلهما، وقلت لنفسي: لماذا أقتلهما وهما بريئان بلا ذنب؟!
إن المذنب هو أبي، وهو الذي يستحق القتل. لماذا لا أقتله ليموت عبرة لغيره؟! ولأدخل السجن وليحكموا علي بالإعدام، ولأموت ثم أذهب إلى الآخرة، وأقابل الله وأحكي له كل شيء، ولا بد أن الله سوف يكون معي؛ لأن الله عادل. وسوف أترك طفلي في رعايتكم؛ لأنكم تدافعون عن حقوق النساء المقهورات، وأنا قد قهرت وانسحقت كزوجة وأم مصرية بلا حقوق. إنهم يحتفلون بعيد الأم، ويتشدقون بكلام كثير عن تمجيد الأمهات، لكن الحقيقة أننا نحن الأمهات بلا حقوق، نطلق ونطرد من بيت الزوجية في أي وقت بلا إرادتنا، وأطفالنا لا يحصلون على الجنسية المصرية إلا إذا كان الأب مصريا أو مجهولا.
أنا لا يهمني الموت، ومستعدة أن أموت، لكن هل موتي يحل مشكلة طفلي؟! عرضت علي أختي فاطمة أن أعمل معها في الشقق المفروشة، وأبيع جسدي لأثرياء البترول من السعودية والكويت. لكن أليس هناك حل آخر يحفظ إنسانيتي وكرامتي؟ ثم إذا جمعت مالا كثيرا، هل يفيد هذا المال في أن يحصل طفلاي على الجنسية المصرية؟ ثم أنا الآن متزوجة، ولست امرأة حرة؛ لأن زوجي السعودي لم يطلقني، وقد يأتي في أي وقت ليردني إليه رغم إرادتي، وأعيش في بيت أبي مهددة، ولا أعرف ماذا أفعل؟ وليس لي مكان أذهب إليه. •••
هذه قصة فتحية كما حكتها بنفسها، وهي تعبر عن مأساة أكثر من مائة ألف امرأة مصرية، يعانين من هذه المشكلة ذاتها (مجلة روز اليوسف، الصادرة بالقاهرة، 30 أكتوبر 1989).
إن الفقر الناتج عن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها معظم البلاد في أفريقيا، ومنها مصر، قد أصاب النساء أكثر مما أصاب الرجال؛ فالرجل تحميه القوانين إلى حد ما، أما المرأة فإن القوانين لا تحميها، بل تعرضها للعذاب والتشرد. لا يزال قانون الأحوال الشخصية في مصر يعطي الزوج الحق المطلق في تطليق زوجته في أي وقت يشاء ويتزوج عليها أربع زوجات، ولا يزال القانون المصري يحرم الأم المصرية من إعطاء جنسيتها المصرية لطفلها. إن أطفال الأم الأجنبية يحظون بالجنسية المصرية؛ لأن أباهم مصري، أما الأم المصرية فهي محرومة من هذا الحق إذا تزوجت رجلا ليس مصريا. وليس في القانون المصري أيضا أي بنود تعاقب الآباء أو الأزواج الذين يسيئون استخدام السلطة المطلقة الممنوحة لهم في الشرع.
إن بعض المسلمين المستنيرين يرون أنه لا بد من تغيير هذه القوانين لتكون عادلة، وتعطي المرأة والأم بعض حقوقها المسلوبة، لكن هؤلاء المستنيرين أقلية للأسف الشديد، والأغلبية من الرجال (والنساء) يرون أن «الله» جعل الرجل مسيطرا على المرأة، وأن أي إصلاح للقوانين الحالية إنما هو عصيان لقانون الله. وقد تزايدت هذه النغمة بعد تصاعد التيارات الدينية السلفية المتطرفة، التي تطالب بعودة المرأة إلى الحجاب والبيت، لتكون خادمة للزوج والأطفال فحسب، وليس لها دور آخر سوى ذلك.
إنها معركة طويلة شاقة، تناضل فيها النساء في بلادنا الأفريقية، فإن هذه الحركات السلفية الدينية أصبحت تنتشر في كافة البلاد في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا. إنها حركة سياسية بالدرجة الأولى، لكنها تعمل تحت غطاء الأديان كلها (الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها).
والنساء أول ضحاياها؛ لأن النساء حتى اليوم بلا قوة سياسية تستطيع أن تقف في وجه هذه القوى السياسية الصاعدة، والتي تساندها الحكومات والأحزاب بدرجات متفاوتة، لأغراض ومصالح متباينة.
القاهرة، مارس 1990
موت كاتب كبير
جنازته ممدودة من قبل ميدان التحرير إلى حارة العبيد، رجالات البلد كلهم والنساء، من قمة الهرم إلى السفح، يصعب التمييز من القفا بين الرجل والرجل، كلها محلوقة بالموس أو الماكينة، الأعناق مشدودة داخل الربطة السوداء، الأكتاف والصدور محشوة بالقطن أو القش، الدقون ناعمة بلا شعر أو يتدلى شعرها تقربا لله. ورئيس الحزب، في الصف الأول، يتوسطه الرأس المربع «أبو الهول»، النظارة السوداء والسبحة الصفراء والزبيبة، إلى جواره نائبه، صورة بالكربون إلا القامة الأقل، والحشو الأقل في الكتفين والصدر، يتناقص الحشو من المركز إلى الأطراف، إلى الأعضاء المعينين أو المنتخبين، كلهم يأتون بالتعيين لا فرق، إلا نوع الحشو، طويل التيلة أو قصيره، نظرة العين مقلوبة إلى الداخل أو الخارج.
اللحن الجنائزي يجعل شعور رءوسهم تنتصب، أو جلدة الرأس الملساء بعد أن سقط الشعر، النعش ملفوف في العلم، جسده داخل الكفن يهتز مع اهتزازة النعش، يتنفس الصعداء داخل الصندوق مع تصاعد الروح، الراحة النهائية والامبالاة، اهتزازة النعش أو العرش كلاهما زائل مع ملذات الدنيا.
كنت أتمشى في الصف الأخير مع عمال النظافة، الرجال من القاع، أحمل ملامح أمي، قامتها الطويلة، نظرها البعيد، واسمها سأحمله يوم القيامة، بعد أن تزول الدنيا يزول معها اسم الأب، لا يبقى إلا الصحيح.
رغم المسافة البعيدة أراهم، أعرفهم، لا أحد منهم يراني أو يعرفني، قسمة عادلة، يمتلكون الشرعية والشرف، وأنا أمتلك المعرفة والرؤية. لم أرث ملامحه ولا اسمه ولا العمود، في الطفولة كنت أقرؤه مثل الشاعر المتنبي والأنبياء. في الزمن القديم كان كل شيء سهلا، يصبح الرجل نبيا دون أن يعرف القراءة أو الكتابة، الطفل المولود يصبح ملكا، والمولود يتكلم لحظة خروجه من الرحم، ويصبح نبيا. وكان هو يكتب داخل الرحم، فهو أبي غير الشرعي. يحلم وهو طفل صغير أن يكون كاتبا كبيرا، أدخله أبوه المدرسة ليتعلم الكتابة، خرج منها دون أن يتعلمها، داخل مدارس أخرى، انتقل من مدرسة إلى مدرسة، ومن حزب إلى حزب: الإخوان، البعث، ماركس والاقتصاد محرك التاريخ، من ماركس إلى الحج في بيت الله الحرام، عاد باللحية والسبحة والزبيبة، وأصبح الله محرك التاريخ، تغير العنوان بعد قليلة، كلمة «الكالشر» أصبحت مكان كلمة الله، تعني في نهاية المطاف العودة إلى المنبت، الفول النابت، كتاتيب القرية والهوية.
في الصف الأول تمشي بعض النساء، قليلات العدد، رءوسهن ملفوفة بالطرح السوداء، الحزن، الإيمان بالله، والأنوثة. امرأة واحدة رأسها عار محلوق من الخلف، شعرها مصبوغ بلون الحداد، والفستان أسود مشقوق من الجنب بطول السمانة والفخذ، الشق المشروع، يتمشى مع الموضة، رفيع كالشعرة، لا يكشف عن شيء مما يغضب الله، تسير بخطوة متزنة، رغم الكعب العالي الرفيع، تختفي وراء نظارة سوداء كبيرة، ملامحها معروفة للجميع، من حقها التنكر، لها مكانها في الصف الأول، نصيب من ميراثه، تحمل اسمه حيا وميتا.
إلى جوارها تمشي زوجته الشرعية القديمة، تلف رأسها بحجاب أسود وثوب محتشم لا يكشف ولا يشف ولا يرف، تبسمل وتحوقل وتستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، بطرف عينها ترمق الجسد الأبيض تحت الفستان الأسود، يكاد ينطق، والشق الطولي يكشف عما حرم الله، لا تريد رؤيته حيا أو ميتا، لولا أنه زوجها الشرعي القديم، أبو الأولاد والبنات، اسمه كبير، عموده طويل، يمتد في الداخل والخارج، عائلته ممدودة إلى سلالة الملك والأنبياء، جده معروف في التاريخ، عمه كان شاعر الملك بلقب وزير، خاله نائب وزير، سفير، نائب رئيس تحرير. لا تقل درجة الرجل فيهم عن أفندي أو سيد، بعضها سقط في التاريخ، بعضها لم يسقط بعد، وكلها تنم عن ارتفاع الرجل، لا تصدر إلا بالقرار أو المرسوم العالي، مع المرسوم من المال السايل وماء الوجه.
أمي إلى جواري تمشي في الصف الأخير، زوجته غير الشرعية لحسن حظها، وإلا أخذوها معهم في الصف الأول، لتتلقى العزاء، ترسم الحزن فوق وجهها رغم أنفها، تنحني قامتها الطويلة لتصافح ذوي القامة القصيرة، تقبل رأس خوفو وأبي الهول وخفرع ومنقرع، ذوي الأعمدة المقدسة، عواميد الحجر، الكلمات المسلحة بالأسمنت، يتنافسون عليها بالمناكب والأسنان، والأقلام الرصاص. المساحة محدودة ممنوحة بالعمود أو نصف العمود، أو الثلث أو الربع، بالطول أو بالعرض أو بالبنط العريض أو الرفيع أو الوسط، بدون الصورة أو بالصورة أو نصف الصورة، من الأمام أو الجنب البروفيل، بالابتسامة أو نصف الابتسامة، أو نصف تكشيرة أو تكشيرة كاملة، شرود النظرة بعيدا، لفتة خفيفة بجانب العين إلى مركز الضوء، اليد اليسرى تحت الخد الأيمن، أو اليد اليمنى تحت الخد الأيسر، لا يمكن للرجل منهم أن يمارس التفكير دون هذا «البوز». والمرأة تنتقل إليها العدوى إن حملت العمود، تظهر صورتها برأسها المكشوف، أو الملفوف بالحجاب، أو نصف الحجاب، مع نظرة مائلة ناعمة مشروعة لا توحي بالإغراء أو الفتنة.
حين وقعت الهزيمة جاء أبي لزيارة أمي، لم يكن يزورها إلا في الهزائم، تنسحب الدنيا وزيناتها من تحت قدميه، تغضب زوجته الشرعية الجديدة وتترك البيت، زوجته الشرعية القديمة غاضبة من قبل، أولاده الشرعيون تركوا الهوية و«الكالشر» وهاجروا إلى بلاد لا تعرف الله. يجد نفسه وحيدا قعيد البيت، يفتح دفاتره القديمة، يفتش عن صداقات الطفولة، علاقات حب غير شرعية سقطت من الذاكرة، وحين يأتي أناديه بلقبه مثل الغرباء، فهو أبي غير الشرعي، لا تربطني به إلا لحظة عابرة طائشة في حياته السابقة، يندم عليها إن أقبلت عليه الدنيا، وإن أدبرت يأتي إلينا يشكو ذبحة صدرية، جلطة في القلب أو المخ، تكشيرة خفيفة عابرة فوق جبين الذات العليا، رئيس المؤسسة، وإن كانت مؤسسة الدواجن، كان يجلس في مقعده منفوشا كالديك. يضع الساق فوق الساق، لا أحد يجلس هذه الجلسة إلا هو، أو نائبه في غيابه، أو نائب النائب في غياب النائب، وفي غياب هذا الأخير يمكن للرجل منهم أن يضع الساق فوق الساق دون جلطة في المخ.
كنت أرى أبي يتسلل إلى بيت أمي، أصبح عجوزا، ظهره محني. لا يذكر الرجل منهم زوجته غير الشرعية إلا بعد انحناء الظهر، زوال الفحولة الذكورة، انكسار القلب، تهشم العظام، وجفاف ماء الوجه، يأتي متسللا كأي زوج غير شرعي. وكنت أعيش مع أمي في شق مهجور وعائلة مجهولة، ليس فيها رجل واحد يحمل لقب أفندي، دخلت أمي المدرسة خلسة وخرجت منها خلسة، علمت نفسها القراءة والكتابة خلسة. عرفت الحب خلسة، والأمومة خلسة، كل شيء في حياتها انتزعته خلسة من وراء الزمان والمكان، عاشت في الشق مجهولة، وإن كتبت شيئا يظل مجهولا. وكنت مثل أمي أحب أبي خلسة، وهو حب بلا مقابل، أو الحب غير المحترم في نظر الرجال المحترمين والنساء المحترمات، لا تقع الواحدة منهن في الحب قبل أن يسجل العقد بحضور الشهود، ويدفع المقدم والمؤخر وتوقع قائمة العفش.
وكانت أمي فتاة عذراء، تحلم بالبيت والزوج والأطفال حسب شرع الله. قال لها أبي: أحبك. صدقته على الفور بحكم النقاء والطهارة. وكان أبي من أسرة عريقة، يتطلع إلى ابنة أو نائبة أو نائب نائبة، أو رجل آخر من أولاد الذوات، يفصلون بين الجسد والروح: تنجذب روحهم إلى الطبقة العليا، ينجذب جسدهم إلى الطبقة السفلى. أباح الله لهم الملذات، في الدنيا والآخرة، يعاقرون الشعر والأدب والنساء والخمر والنقد. وكان النقد غير شرعي، يسيء إلى سمعة البلد، ثم أصبح شرعيا، بشرط عدم المساس بالذات العليا، يتنافسون عليه بالمناكب، يشبعونه بقصائد المدح، يتربصون لموته لاحتلال مكانه، يتعانقون في كل لقاء، يتبادلون القبلات، يتصاهرون، يتناسلون، يتعاطون المعاصي، وكلها صغيرة لا ترقى إلى الكبائر، يمكن إزالتها بالصلاة يوما بيوم، أو بالطائرة إلى قبر الرسول على نفقة الدولة، أو الاعتكاف في قصر الجنوب أيام البرد، أو الساحل الشمالي أيام الصيف، يطلبون المغفرة، والله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به.
وكان أبي طاهر الذيل، لا يؤجل إزالة المعاصي إلى الغد، تتفوق سعادته الروحية على الإحساس بالذنب، لم تكن له تجارب في الماضي إلا مع النساء، لا شيء يلوث سمعة الرجل إلا الماضي السياسي. وكان أبي كالفتاة العذراء، بلا ماض إلا علاقاته غير الشرعية، وهي خبرات في الحياة، لا تنال من قيمة الرجل المحترم، بل ترفعه إلى مصاف الخبراء، وكبار الأدباء والشعراء، يهبط الوحي عليه من أعلى، فهو يؤمن بالذات العليا أو بالآخر في علاقته بالذات، وهو مرهف الحس والإحساس، يتجلط الدم في عروقه لأقل هزة تحت العرش، أو سحابة رقيقة تعبر وجه الذات العليا، أو وخزة من وخزات الضمير حين يصحو، أو أكلة ريفية حين يعود إلى «الكالشر» والهوية، قطعة فطير مشلتت أو ورك بطة. الممنوعات تزداد بازدياد السن والمكانة، جلطة المخ تتكرر بتكرار الكوارث أو الهزائم. ثم تنتهي النوبة، تتحول الهزيمة إلى نصر بقدرة قادر، ترتدي اسما تنكريا، تطل الهزيمة من وراء النقاب بعين واحدة أو نصف عين، وتزول الأزمة، تتسع الابتسامة في الصورة أو تضيق، حسب حجم الهزيمة أو النصر، ويصبح الكاتب الكبير مؤيدا معارضا، منتصرا مهزوما، صاحب عمود دون أن يكتب، كمن يشرب الخمر دون أن يسكر، أو يقع في الحب دون أن يحب، أو ينهزم في معركة لا يدخلها. وإن جاء النصر بلا تدخل منه، يركب الموجة كالمرأة بعمود واحد أو نصف عمود، يكتبه له الساعد الأيمن أو الأيسر، فإذا به زعيم محمول فوق الأكتاف، يتلقى الوسام في المدينة المنورة بجوار الحرمين الشريفين، وفي مدينة النور وراء البحار يقيمون له تمثالا.
بعد الدفن والصلاة نفضوا أيديهم منه، عادوا إلى حياتهم يتنازعون مكانه وعموده، وصورته انسحبت من البرواز، ظهر وجه رجل آخر، ورث المساحة بالروح أو بالدم، أو صلات الرحم، وكلها علاقات شرعية. رجالات ونساءات يتنازعون الميراث والتراث، لا يكفون عن التنقيب عن أملاكه المجهولة، أرصدة غير مرصودة، وأعمدة غير منشورة. أكثرهم تنقيبا كانت زوجته الشرعية الجديدة، كان يخفي عنها أشياء كثيرة داخل الأدراج السرية، تزداد أسرار الرجل منهم بارتفاع المكانة، حتى رأس الهرم، ويجد الواحد منهم نفسه واقفا فوق القمة على قدم واحد أو محمولا داخل النعش فوق الأعناق.
القاهرة، أغسطس 1997
ثمن الوهم
كان جالسا بجوار المروحة الكهربائية، مسندا رأسه الكبير بلا شعر إلا ذؤابة رمادية فوق كل أذن. أذناه كبيرتان مرهفتان، تهتز شعيراتهما مع هواء المروحة، بخلاف عينيه الصغيرتين بلا رموش وبلا شعرة واحدة تهتز. أصابعه ذات العظام الكبيرة في السن، تزداد ضخامة مع الضوء الخافت المنبعث من لمبة واحدة صغيرة، ترتعش بمس كهربي وسط أربع لمبات محروقات اسود قلبها بفعل الزمن. صوته فيه بحة سبعين عاما، أكلت حبال الصوت منذ تكلم وهو في المهد صبيا، وحين انتصب واقفا فوق منصة خشبية، ولا يزال يتكلم حتى هذه اللحظة الأخيرة متوهما أن العالم يسمعه، وأنها هي ضمن هذا العالم تسمعه، وكلما همت بالرد على سؤال لا يتوقف ليسمعها، يستمر في حديثه رافعا يده اليمنى في الهواء، بحركة اعتراضية كمن يوقف الهواء: أرجوك يا فتحية، لا تقاطعيني حتى أنتهي، وبعد ذلك لك مطلق الحرية في الكلام!
كلمة «مطلق» بحروفها الأربعة، وخاصة حرف الطاء والقاف، تخلق في الجو وراءها صدى فخيما، له فخامة الحرف العربي العتيق كالجواد الأصيل، حنجرة أكثر أصالة، قادرة رغم الزمن على التفخيم والتعظيم.
وهي جالسة أمامه داخل ثوب من ثياب البيت، بلا زينة ولا لون إضافي للخد الشاحب، ولا دهان فوق بشرتها يخفي العروق النافرة تحت الجلد أو التجاعيد أو البقع السوداء الزاحفة مثل النمش.
لم يعد يهمها أن يراها كما هي، ولا شيء يخجلها من سنين عمرها إلا ثلاث أسنان تخلعها في الليل، وفي الصباح تركبها فوق الفجوة الكبيرة تحت الشفة العليا، وإذا ابتسمت أو ضحكت حرصت ألا تفتح فمها كثيرا حتى لا ينكشف الخطاف الأبيض من المعدن.
وهو جالس أمامها، ولا شيء يخجله حين يفتح فكيه عن آخرهما، كاشفا عن فك أعلى لم يبق به إلا ثلاث أسنان ساقطات متهدلات، بلون داكن، فوق فك أسفل خال تماما من الأسنان. صوته لا يزال عاليا، مليئا بالثقة، فهو رجل أكبر منها بعشرة أعوام، ينظر إليهما كأنما هي بلغت نهاية العمر، ولم يعد لها دور في الحياة سوى أن تنصت إليه.
وهو لا يزال رجلا يخفق قلبه لمرأى الفتيات، ومن حقه الاستمتاع بالحياة حتى آخر رمق، وأن يزف نفسه لعروسة شابة تحميه من سوق البغايا أو جرثومة الإيدز، تغسل هدومه، تحمل همومه، وتنصت إليه في الليل الموحش الطويل، وهو يحكي عن ذكريات الشباب.
أرجوك يا فتحية لا تقاطعيني، أنا في حاجة إلى الاستمتاع، فلم يعد أمامي وقت طويل لأضيعه، بعد أن سقط القناع عن وهم حياتي! وماذا كان وهم حياتك يا محمد؟
إنها لا تعرف تماما، فهو لا يعطي الوهم اسما. وما أهمية الاسم يا فتحية بعد أن سقط القناع، وكان يمكن أن أسقط معه، لولا أنني أدركت قبل جورباتشوف بعشر سنوات أن هناك خطأ في التطبيق، وربما أيضا في النظرية. ولم لا يا فتحية، فهي نظرية من أعمال البشر، وأكثر خطئها أنها كانت ضد مسيرة التاريخ، وضد الطبيعة الموروثة منذ آلاف السنين. وهل يمكن أن يتساوى الناس كأسنان المشط، أو تلغى الفروق بين البشر؟ مثلا هذه الفروق الطبيعية التي خلقها الله لكل من المرأة والرجل، هل يمكن أن نلغيها يا فتحية؟
وهنا يلوح له شبح زوجته الميتة، عاش معها أربعين عاما دون أن يرتفع لها صوت، وماتت كما عاشت صامتة. لكن هذه العروس الشابة صوتها عال، وليت الأمر مجرد الصوت العالي يا فتحية! أتعرفين ماذا قالت لي حين عرضت عليها الزواج؟
ولا تسأله فتحية ماذا قالت العروس، فقد سمعت منه الحكاية بالأمس حين زارها بعد الغروب، وبعد أن هاجر زوجها لم يكن أحد يزورها إلا هو، فهو صديق قديم منذ الطفولة، وفي وجود زوجها كان يرمقها بطرف عين، ترى اللمعة وتدركها بحاسة الأنثى، تعرض عنه وفاء لزوجها الموجود. وبعد أن سافر زوجها دون أن يعود، وأصبحت امرأة وحيدة بلا زوج، وراحت اللمعة من عينيه، كأنما لا يشتهيها إلا وهي مملوكة لرجل غيره، يريد امتلاكها بلا رغبة فيها، برغبة أخرى ضد الذكر الآخر، يشتهي الانتصار عليه.
أتعرفين ماذا قالت لي هذه البنت يا فتحية ؟!
لا يكف عن ترديد السؤال لنفسه، ينشرح صوته المبحوح بسكين تتقطع معه حبال الصوت، لا يكف عن إيقاع الألم بنفسه، كمن ينكأ الجرح بيده في بدنه يستعذب الألم، وكلما اشتد العذاب تضاعفت عذوبته.
وهي تعرف الحكاية من أولها لآخرها، ليس بها شوق لأن تعرف أكثر، وكل ما يشغلها أنها بالأمس بعد الغروب، خرجت إلى الشارع تشم الهواء بعد انغلاق السنين في البيت، خرجت إلى الشارع تنظر إلى البشر، لكن أحدا من البشر لم ينظر إليها. تسير بخطوة تشبه خطوة عجوز كانت تراه وهي طفلة يمشي بهذه الخطوة، وحين كانت تمشي في الشارع وهي شابة، كانت ترى العيون تتجه نحوها، وتلمح، وتدرك، بحاسة الأنثى أنها مرغوبة ومطلوبة، تهتز فوق كعبها العالي بنشوة، فالعالم كله يرغبها، وهي لا ترغب إلا رجلا واحدا، هو زوجها على سنة الله ورسوله.
لكن يا محمد، هكذا قالت عيناها وهي تنصت إليه، سقط القناع عن وهم حياتي، ولم يعد أمامي وقت طويل لأضيعه، وأنت أيضا مثلي تمشي في الشارع كتلة عجوزة من اللحم، بلا قيمة يا محمد مثلي، وهكذا تساوينا في الشيخوخة بمثل ما تساوينا في الطفولة.
لم يعد محمد يطيق أن يسمع كلمة المساواة، وعيناه تردان على عينيها: نعم يا فتحية، عشت حياتي مخدوعا بهذا الوهم الذي اسمه المساواة. انظري إلى أصابعك التي خلقها الله، أهي متساوية؟ أبدا، إنها غير متساوية! المساواة يا فتحية ضد الطبيعة، ضد إرادة الله، لكن عقول الشابات اليوم أصبحت خرقاء، وتصوري هذه البنت المفعوصة تريد أن تكون متساوية معي، وأنا الذي يكبرها بأربعين عاما، وربيت أجيالا من الشباب مثلها؟ أتتصورين هذا يا فتحية؟!
كان يسأل نفسه ويجيب على نفسه بلا توقف، وسمع صوته يردد أنه ربى الشباب جيلا وراء جيل على قيم العدل والمساواة، ثم تدارك الأمر واكتشف أنه منذ لحظة كان يؤكد العكس، واسترسل في الكلام متوهما أنها لم تكتشف ما اكتشفه، فهي جالسة أمامه تهز رأسها بالإيجاب، وعلى وجهها ابتسامتها المنكسرة، تلوح له وهو راقد بعد الغروب فوق السرير وحيدا مهجورا بلا أحد، ينهض بجسد ثقيل وقلب مملوء بالرمل، ويأتي إليها يحكي، يفرغ قلبه من الرمل، لتحمل عنه العبء، كما حملته زوجته الميتة. وهي صامتة تماما ككل الزوجات الميتات، ولا شيء يؤلمه منها إلا حين تتحرك عيناها بعيدا قليلا، فيفوتها شيء من كلامه، أو هكذا يبدو إليه. - تعرفي يا فتحية البنت المفعوصة دي قالت لي إيه؟
لكنها ليست بنتا مفعوصة، وإنما شابة في الثلاثين من العمر، تخرجت في كلية الطب ولم تجد عملا إلا مضيفة جوية في شركة الخليج للطيران، وجاءها عريس من الخليج، اشترط عليها التفرغ في البيت، وفقدت عملها في الشهر الأول، ثم فقدت عريسها في الشهر الثاني، عاد هو إلى زوجته الأولى، وعادت هي إلى مساحة نصف متر في بيت أهلها، أمام الحوض في المطبخ المظلم، تلوح لها الشقة المطلة على النيل، وعريسها مفتون بها قبل العرس:
طلباتك يا ست الحسن؟
ولا يخرج صوتها من حلقها لتقول أريد شقة باسمي، أو أريد كذا من المال، أو أي طلب آخر له ملمس مادي، وقد غذاها أبوها منذ الطفولة بالروحانيات، امتلأت روحها بذلك الاحتقار النبيل للماديات، وأطرقت خجلا بحمرة العذراوات: لا شيء يا حبيبي أريده إلا أنت. ولم يكن هو يعرف قيمة امرأة بلا ثمن يدفعه من جيبه أو عقار أو أرض أو حجر كريم أو فص من الماس، وما يأتيه بلا ثمن يذهب بلا ثمن، وهكذا حين جاء العريس الثاني، قال لها أبوها المريض في الفراش: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ولا تعطي المؤمنة نفسها بلا ثمن، أو شقة من ثلاث غرف على الأقل. - بنات آخر زمن يا فتحية، وتصوري أنا أقدم لها نفسي كزوج له اسم وتاريخ، وهي لا يهمها إلا ثمن المدفوع المادي. كنت أنظر إليها كملاك طاهر محلق في سماء الحب، لكن القناع سقط كما سقط الوهم! - هل كفت البنات يا فتحية عن الحب في هذا الزمن الرديء؟! في زماننا، كنا نعيش الحب ونلقي بأنفسنا في النار من أجل العدل. أكان كل ذلك وهما؟! ألا يحتاج الإنسان يا فتحية إلى الوهم ليعيش؟!
تحاول فتحية أن ترد بلا جدوى، وماذا يمكن أن تقول، نعم يا محمد لا يمكن أن تعيش بلا وهم، وأقسى ما في مرور الزمن أنه يكشف بلا رحمة عن الوهم، والحياة بلا وهم كوجهك العجوز أمامي، كصوتك المشروخ بلا لحظة صمت، كعينك بلا لمعة، بلا لهفة، بلا شبق، بلا شهوة، بلا ارتعاشة، حين تتلامس اليد مع اليد. - تصوري يا فتحية، أنا لا أكف عن التفكير في هذه البنت مع أنها أهانتني! كل ما فعلته في حياتي لا يساوي عندها شيئا، ما دمت عاجزا عن أشتري لها شقة باسمها، أهي إهانة للرجل يا فتحية أن تشترط عليه المرأة قبل أن يدخل بها، وأن يكون هذا الشرط شقة مثلا؟! أهي تبيع نفسها لي؟ أم أنني أبيع نفسي لها لو كنت أملك ثمن الشقة؟!
صوته ينشرخ أكثر وهو يرد: لو كنت أملك ثمن الشقة ... لو ... في انشراخة صوته وهو ينطق حرف اللام والواو، تكسو عينيه سحابة حزن وانكسار، رجل بلا قيمة إلا جيبه، وجيبه فارغ من ثمن امرأة لا ترغبه إلا بعد أن يدفع الثمن، وهو يرغبها وإن اشترطت الثمن، ويرغبها أكثر كلما ارتفع الثمن الذي لا يملكه، ولا يمكن أن يملكه، وإن سرق أو باع نفسه في السوق! - تصوري يا فتحية، لأول مرة أشعر في حياتي بالإهانة.
فتحية جالسة أمامه تنظر إليه بإشفاق الأم، وهو أكبر منها بعشر سنوات، وأكبر منها في المقام، وله اسم وهي بلا اسم، وله ماض أو تاريخ يستند إليه، وهي بلا ماض وبلا تاريخ. ولا شيء تملكه إلا الوهم بأن يراها كما كان يراها وهي مملوكة لرجل آخر، وتلمع عيناه بالشبق، وتعطيه نفسها بلا شرط ولا ثمن، إلا تبادل الحب بالعدل والقسطاس على سنة الله ورسوله.
وهو جالس أمامها يحكي بصوت الابن المكلوم، يفرغ همومه في قلب الأم، يحملها فوق طاقتها العبء فوق العبء، يطهر نفسه من الأدران، يترك لها الأدران لتغسلها بلا مقابل، كالأم تعطي بلا ثمن إلا الحب.
ثم يتركها ويمضي، وهي جالسة ثقيلة القلب، تحاول عبثا أن تلقي عن نفسها العبء، أو تترك أدرانه بلا غسل، تعاف رائحة الدرن، وانحدارة رجل عجوز في نهاية العمر، يسعى بلا كلل ولا ملل إلى عروس شابة في أول العمر، لا ترى منه إلا جيبه خاليا من الثمن.
وتنهض إلى الشارع تمشي وتشم الهواء، تنظر إلى البشر. تتداخل الأشياء أمام عينيها، لا ترى الرصيف كما كانت تراه، ولا أسماء الشوارع، ولا الإعلانات أو الصور المتحركة، أهي الشيخوخة تضعف البصر، أو أنها الحياة بلا قناع وقد سقط الوهم؟
انتبهت وهي تمشي إلى لمعة في عيني رجل، شاب في عمر ابنها المهاجر ينظر إليها، تتعلق عيناها بعينيه، تهتز فوق كعبها العالي بنشوة، تتبعه بخطوها البطيء، ثم تسرع، تزداد نشاطا، يعاودها الحنين إلى العودة كما كانت، قبل أن يزول الوهم. وفي خطوها السريع تدرك أنها تسبق الزمن، وليس أمامها وقت، وأنها يمكن أن تدفع حياتها من أجل أن تعود الحياة كما كانت قبل أن يعريها الزمن.
القاهرة، مارس 1990
سقوط رئيس دولة عظمى1
جمع أوراقه الشخصية، أرصدة وصفقات غير معلنة، خطابات غرامية سرية، ميداليات وأوسمة محفور عليها اسمه وأبيه وجده نهض من وراء مكتبه البيضاوي، جسمه ثقيل على غير العادة، زوجته جالسة في البهو تنتظره، واضعة الساق فوق الساق، لم تنزل ساقها حين رأته كما كانت تفعل، يشمخ بأنفه في حركة رجولية تذكره بأبيه. - هيا بنا يا عزيزتي.
يمتد ذراعه نحوها، رعشة خفيفة في ساقيه، تتراءى له أمه وهو طفل يتعلم المشي، ويداها التي تمتد إليه قبل أن يسقط.
يحرك عينيه بعيدا عن زوجته، يتفادى نظرة أمه لأبيه حين سقط.
يمشي إلى جوارها حتى سيارتهما الخاصة، ليست السوداء المهيبة يرفرف عليها العلم، وليس هناك الحرس المهيب بالبدل الرسمية والأزرار الذهبية، ولا الأيادي المرفوعة بالتحية، ولا الموسيقى تعزف النشيد الوطني.
عيناه شاردتان من خلال النافذة، لم يعد العالم هو العالم، والكوبري لم يعد الكوبري، والأضواء لا تنعكس من السماء إلى الأرض.
زوجته جالسة إلى جواره صامتة. الصمت ثقيل، يشبه الصمت في بيت أبيه وهو طفل، وفي عينيها نظرة أمه.
في كل فشل كان يرى هذه النظرة في عينيها، طبق الأصل من نظرة أمه، كانت تنحني أمام أبيه بفنجان الشاي وهو جالس الساق فوق الساق يقرأ الجريدة، أو وهو يتابع الأخبار على الشاشة، أو مباراة الكرة، وفي الصباح لا مانع من ذهابها إلى مكتبها في المجلس الوطني أو الحزب الجمهوري أو الجمعية الخيرية، وحصولها على المال والشهرة، بشرط أن يظل هو الرئيس في الحزب والبيت والسرير.
إذا احتدم يسود رأيه لأنه الرجل كما خلقه الله، إنها إذن مشيئة الخالق سبحانه في السماوات العليا. - اسمعي يا هيلاري لن أكون أبدا مثل أبيك، ولن تكوني أبدا مثل أمي، ولن تنظري إلي في يوم من الأيام تلك النظرة.
لم تطاوعه زوجته طويلا، تتركه يشاهد البيسبول مثل أبيه، يذهب إلى عشيقاته بعد صفقاته السرية، لم يكن من سبب للصراع إلا تشبثه بذكورته الموروثة منذ العبودية، عيناه يثبتهما في عينيها لإثبات الرجولة، لكن الرأي الصائب كان يسود في النهاية بصرف النظر عن الجنس.
يشتد الصمت داخل السيارة، تفتح الزوجة جريدة الصباح، ترى صورته أصغر مما كانت، بضعة سطور تحت الصورة تقول: مسكين بيل كلينتون، رغم ضعفه أمام النساء كان عنيفا مع الأعداء واتخاذ قرارات الحرب، لكن إخلاصه للوطن يغفر له خياناته الزوجية حسب مبادئ حضارتنا الإنسانية.
كانت أمه تتنبأ له بالفشل والتعاسة مثل أبيه، وأقسم بعد موت أمه أن يكذب نبوءتها، وأن ينجح وينجح حتى يسود العالم، في السرير يحوم شبح أمه يؤكد له الفشل، يصحو كل يوم بإرادة أصلب من الحديد.
يوم فوزه بالحكم قال لأمه في النوم: خابت نبوءتك يا أمي.
وحين أعلن الحرب ودكت قنابله العراق قال لها: أصدرت يا أمي قرارا يعجز عن إصداره أعتى الرجال.
من وراء الزجاج سمع زوجته تقول وهي واضعة الساق فوق الساق: وماذا أخذت يا بيل من كل هذا النجاح السياسي إلا انتصارات جنسية سرية ؟
زم فمه المزموم من قبل وقال: تتكلمين الآن مثل أمي وقد أصبحت شكلها بالتجاعيد. ثم تسكت الزوجة كما كانت تسكت، وقالت بصوت مرتفع لم يسمعه من قبل: وأنت أصبحت شكل أبيك بالتجاعيد والسعي لدى الفتيات لاستعادة الذكورة. دب الصمت ثقيلا طويلا.
ثم عادت الزوجة إلى الحديث:
الاستبداد والعنصرية وقتل الأبرياء والخضوع لشهوة المال والجنس هي بعض التهم الموجهة إليك. قاطعها بعنف:
أنت ترددين ما يقوله أعدائي! - لا يا بيل، أنا زوجتك المخلصة، غفرت لك سقطاتك السياسية والجنسية؛ لأني كنت أحبك، لأني كنت أحبك فعلا. - كنت تحبينني! كنت! يعني أنك لا تحبينني الآن يا هيلاري؟! هذا بالضبط ما يحدث لكل الزوجات حين يمر الزوج بأزمة، منذ طفولتي عرفت أن عش الزوجية وهم كبير يطيره الهواء في أية لحظة.
قهقهت الزوجة حتى اهتز لقهقهتها الكون. - أنا التي حافظت على هذا الوهم من أجل طفلتي وليس من أجلك، لولاي لطار هذا العش لأي نزوة من نزواتك العابرة، ومع ذلك أقسم لك أنني أحبك الآن أكثر مما كنت أحبك وأنت في الحكم. - طبعا؛ لأنك تحبين هزيمتي ولا تحبينني أنا!
لمحت الدمعة من تحت اللمعة في عينه، فأمسكت يده وتطلعت إلى الأفق:
لم يبق لنا في العمر كثيرا يا بيل، فلماذا لا نعيش في سعادة؟! انظر يا حبيبي إلى أشعة الشمس المنعكسة على حمام السباحة، هيا بنا نأخذ غطسا. حرك الرئيس رأسه الساقط ناحية الأفق، وكانت السيارة قد وصلت القصر والشمس أوشكت على المغيب، وهو واقف إلى جوار زوجته في الشرفة، راح يتأمل ألوان السماء المبهرة لحظة الغروب، خرج من صدره زفير عميق طويل من تحت حزام البنطلون المشدود حول بطنه، عيناه تذوبان في ألوان الطيف، منذ طفولته لم يشهد هذه الألوان الساحرة، صمت طويلا يمتص اللحظة بجفونه نصف المغلقة وبفتحات أنفه وشفتيه نصف المفتوحة.
تنهد هامسا لنفسه: الدنيا جميلة كما كانت، لكن الناس تغيرت، إنها طبيعة العبيد!
تبسمت زوجته بسخرية: وإنها طبيعة الأسياد أيضا، فالسيد والعبد وجهان لعملة واحدة!
رشفت الزوجة من كوب الويسكي : ولماذا نلوم الطبيعة يا بيل، لماذا نعلق آثامنا على الله؟ إنها الذكورة أو الرجولة والطموح ولذة السلطة. - أليس هو الله الذي خلقني ذكرا؟ - أنت لم تولد ذكرا، ولكنك أصبحت ذكرا بالتربية والتعليم في البيت والمدرسة والحزب، أصبحت ذكرا وفقدت إنسانيتك، تمسك الإنجيل في يدك وتعلن قرار الحرب، ضاعفت عدد الفقراء في العالم وقتلت الأبرياء دون أن يرتعش لك رمش أو يطرف لك جفن، تخطب بصوت جمهوري عن عدالة المسيح، وتتحدث عن السلام ويداك مضرجة بدماء القتلى.
وهو راقد إلى جوارها في السرير يسمع صوتها من تحت الوسادة، لا تكف عن الكلام وإن سكتت ففي بطنها مخزون من الكلام المضغوط تحت المشد المطاط، يضع وسادتين فوق رأسه ويعطيها ظهره، يواجه الحائط بعينيه المفتوحتين ويهمس: كيف اختزنت يا حبيبتي كل هذه الكراهية لي كل هذه السنين؟ - كنت أخاف يا حبيبي من رئيس الدولة. - وأنا كنت أخاف يا حبيبتي من السيدة الأولى!
يجهش بلا صوت فوق صدرها، وتجهش بلا صوت فوق صدره، أنفاسهما تختلط وصوتهما يختلط. - ربما، ربما نتخلص معا من الخوف يا حبيبي. - نعم يا حبيبتي.
قصة الانتخابات في مصر1
انفصام غير معلن
قالت أمي إنها ولدتنا أنا وأختي في نفس واحد، ملأت أمي صدرها بالهواء ولفظتنا في جسد واحد نحن الاثنتين، اندفعت أختي من الثقب الضيق إلى العالم الواسع، وأنا تأخرت عنها في الخروج دقيقة واحدة أو نصف دقيقة.
أصبحت هي أختي الكبرى وأنا الصغرى، تسبقني في كل شيء، في الحياة وفي الموت، وفي الجزاء والعقاب، وفي الحب والكره وفقدان الشرف.
ورثت عن أبي الاسم والشرف، والتفكير الطويل حتى يضيع الوقت، لم أندفع مثل أختي دون تفكير من الثقب، كانت أمي هي الثقب الذي خرجنا منه، نحاول أن ننساه ونقطع الصلة به تجنبا للعار، ومن أجل السباحة في العالم الواسع حيث أبي وزملاؤه في الجماعة الموقرة.
أيام الجمعة، يرتدي أبي جلبابه الناصع البياض، ولحيته السوداء الناصعة السواد، يرفعها بكبرياء فوق صدره، ليعبر الشارع صعودا نحو الجامع، نتبعه من ثقب النافذة بنظراتنا المنخفضة ليبدو أكثر طولا، بشاربه الأسود المفتول على هيئة الصقر، سرحته له أمي بالمشط، وبرمته بأصابعها ليبدو أكثر هيبة، دهنته بالمسك، رائحته في أنفي منذ الطفولة حتى اليوم، يحافظ الدهان على تماسك الشعر في مواجهة هبات التراب، والعواصف، أو رياح الخماسين في فصل الربيع والحب.
وأنا كما كنت في طفولتي، جالسة أطل من وراء الثقب في النافذة، أتبعه بنظراتي الواهنة ليصبح أكثر قوة. وما إن يصل إلى باب الجامع حتى يركض نحوه الشحاذون، يغرقونه بالدعوات التي تصعد إلى السماء من البوابات المفتوحة، تلبي السماء طلبات أبي الكبيرة والصغيرة، مثل علاوة أول الشهر، أو زوجة جديدة في عيد الفطر.
لم تكن أمي تذهب إلى الجامع، وإن ذهبت فهي تمشي خلف أبي تحت خيمتها السوداء، لا يراها أحد من الشحاذين، وإن رآها واحد لا تمر يدها إليه، وإن مدتها وخطبت بدعوة أو نصف دعوة، فإن الوقت يكون قد فات وبوابات السماء كلها انغلقت بالقفل.
كانت أختي تشبه أمي، وتحظى بلقب الملاك، تزداد أنوثة وطاعة كل يوم، ليست مثل أختها الأخرى، تلك الأخرى ليست مثلها أبدا، مع ذلك هما متشابهتان إلى حد الإعجاز، حتى بصمة الإبهام الأيمن متشابهة، الدليل الوحيد على إثبات أن الشخص ليس هو الشخص الآخر، وخط اليد عند التوقيع بالاسم الثلاثي، اسم الأب وأبوه وجده، كان متشابها أيضا عند الأختين.
لم يكن إلا المنظار السحري قادرا على اكتشاف الأخت من أختها، وقد عجزت عين الأم وعين الأب عن التفرقة بينهما، وإن تعرى الجسد بالكامل، أو تغطى بالكامل.
بينما كانت أختي تلزم الدار طاعة للرب، كنت أنا أهرب من البيت حين يخرج أبي إلى الجامع، أو حين يذهب إلى الغرزة أو البورصة، أو يسافر إلى الحج أو العمرة، أو أيام الأعياد التي يقضيها مع زوجته الأخرى.
تعودت الهرب أثناء غياب أبي مع رجل من زملائه في الجامعة، أو شخص آخر يشعرني بالحب، وتبحث عني أمي، لا تكاد تعرفني من أختي إلا حين أغيب في الليل أو حين تفتح فمي وتشم رائحة السبرتو، أو تكشف عن أسناني الحادة المدببة، هذه الأنياب كانت تقبض على حلمة ثديها منذ الطفولة، وتقرقش الزلط، وجذور القرنبيط كالحجر تنسحق بين أسنانها في لمح البصر.
وفي ليلة جاء أبي برجل ليتزوجني أنا وأختي معا، لم يملك أبي ما يقيم به حفلتين اثنتين للزفاف، ودفع الرجل لأبي خمسين جنيها مقدم الصداق، والخمسين الأخرى يدفعها مؤخرا عند الطلاق. وعاش الرجل معنا في الغرفة فوق السرير العريض، على الطرف الآخر بجوار الحائط، حيث ترقد أختي ثم أنا ثم أمي ثم أبي، هكذا بالترتيب الدقيق، دون أن يختل النظام بسقوط الظلام، أو فوضى الأحلام في غيبوبة النوم.
منذ ذلك الحادث الأليم أصاب أختي نوع من المرض، كأنما قام أبي بإيلاج خازوق في جسدها أو في عقلها؛ لأن مظاهر المرض لم تكن بادية، سوى أن أختي كفت عن الضحك، كانت تضحك أحيانا، ربما ضحكة واحدة طوال العام، لم يخفف عنها المرض إلا اختفاء الزوج، تلاشى فجأة كما ظهر فجأة دون أن يدفع المؤخر، وحصلت أختي على جائزة الأنثى المثالية، وتم انتخابها عضوة عاملة في الجامعة، وتتويج رأسها بقطعة أكبر من القماش الأسود، وفي العيد ترتدي أختي ثوب أمي المبقع بالدم منذ ليلة الزفاف. أما أنا فكانت أمي تلبسني ثياب الولد، بهدف خداع أبي والقضاء والقدر، كأنما أنا لست أختي أو أمي أو امرأة أخرى من ذوات الثقب. وكنا «أنا وأختي» نؤدي اللعبة تحت السرير، حيث تكون هي الأم، وأنا الأب بكامل الزي واللحية والشارب.
أسمع الضحكة الوحيدة طوال العام تفلت من أمي، ومن أختي، دون خوف من الزوج أو الأب، أو المرحوم الجد وأبيه المغفور له، من السلالة الممدودة إلى السماء، وفي بطن الأرض.
تعودت أنا وأختي أن نتشابه في كل شيء، لم تنجح أختي أبدا في طمس ملامحها بمساحيق الوجه، وظلال الجفون وخطوط العينين، وفشلت أنا أيضا في معرفة وجهي من وجهها، وإن رأيتها أمامي يساورني الشك أنني أنظر إلى نفسي في المرآة.
كانت أمي تحوط السرير بستارة سميكة داكنة حماية لنا من عيون الرجال، يستقبلهم أبي في الغرفة، أفتح جفوني في الليل لأرى عيونهم من خلال الستارة ترمقني بجنون الكحول الرخيص، أو الحشيش المغشوش في السوق الحرة.
تنام أمي على طرف السرير، وأنا وأختي على الطرف الآخر بجوار الحائط، فلا يمكن لرجل منهم أن يعبر إلينا إلا فوق جسد أمي، وكانت نافذتنا الصغيرة ذات القضبان الحديدية المحاذية لأرض الشارع هدفا للتراب وكرات الطين، يقذفها الصبيان وهم يلعبون في الشارع، أو خصوم أبي في الأحزاب أو الجماعات الأخرى، المنافسين له في التقرب إلى الله وإلى السلطان.
كانوا يلقون علينا القمامة، وسيلا من الاتهامات بالفساد والرشوة والكذب، يتلقون الضربات من زملاء أبي المؤيدين له في الانتخابات، لم نكن نعرف أنا وأختي الخصوم من الأصدقاء، وكلهم زملاء أبي يتشابهون في الشكل والصوت والحركة، لا أفرق الواحد من الآخر. وفي سن الثانية عشرة من عمري، حين فض أحدهم بكارتي تحت السرير، لم أتبين ملامحه في الظلمة، بعد أن صب لي من زجاجة السبرتو كوبا، ودس في فمي قطعة من البسبوسة، شعرت به مثل خازوق يشق جسدي، وجسد أختي الراقدة معي، وكانت أمي تخرج في غياب أبي لتمسح بلاط الشقق في العمارة أول الشارع، تمر أمي على طوابقها العشرين طابقا طابقا، تمسح بلاطها وهي منكفئة على الأرض فوق ركبتها، برأسها المنكس ومؤخرتها المرفوعة في شموخ، تحميها بكفها الكبيرة من أذى مفاجئ أو خازوق غير مشهود، وتعود أمي لنا بأكياس الطعام وأقراص النعناع.
كان أبي يضربها إن عاد فجأة ولم يجدها، إن حاولنا أنا وأختي حمايتها لا ينالنا إلا الضرب، والشتيمة تنهال على أمي، والثقب الذي خرجت منه أمها وجدتها، ثم يجلس أبي بعد الضرب ويلتهم الطعام الذي جلبته أمي لنا والنعناع.
كنت أحب أبي وأكرهه حتى الموت، أتمنى أحيانا أن أموت أنا وأختي وأمي رحمة بنا، أتضرع إلى السماء أن تنزل علي خازوقا يشق جسدي حتى الموت، لا يعالجني إلا الهروب مع رجل في الليل، لا يغالبني الإحساس باللذة إلا مع الغثيان، كرهت رائحة المسك ودهانات الشارب واللحية، ولفائف التبغ مع السبرتو والبصل والثوم ، أمضغ بين أسناني الحشائش على جانب الطريق، أو أوراق النعناع الخضراء، لأطهر جوفي من الرائحة العطنة والإثم.
وأترك جسدي العاري تحت السرير يتلوى، فوق ملاءة مهترئة مبقعة بالدم، والسوائل المنوية الصفراء، تشبه القيء الناجم عن حمى الأحشاء، وكانت بعض نسمات هواء رطب تتسلل عبر القضبان وتنعشني قليلا فأفتح جفوني لأرى الخازوق المغرى بالموت منكمشا بالخزي.
إنه سحر الحب الذي أموت فيه، الذي يغني له الراديو والتليفزيون، وفرحة التلاشي الكامل حتى النهاية، لا يزعجني أن أرى نفسي أو أختي تحت جسد غريب أو قريب أو زميل لأبي، أو حتى أبي ذاته، فالنهاية واحدة، ولا شيء يختلف عن الآخر، الفرح كالحزن، والحياة كالموت.
كنت أهرب مع فتى مراهق من عمري، أو عجوز من رؤساء الجماعة، وأكتشف أن العجائز أكثر مراهقة من الصبيان الصغار، حاولت تدريبهم رغم فارق السن على الحب والرحمة والعدل دون جدوى، إنهم يحفظون هذه الكلمات، يرددونها كل وقت دون عناء، دون وعي، مع الإحساس الطاغي بالإثم، أسمع أنينهم وصراخ أرواحهم المثقلة بالذنب، حتى في أوقات الصمت أو النوم أو الراحة من الكلام بعد موسم الانتخابات.
كانت أختي أكثر طاعة مني وأقل حكمة، فهي تصدق ما يقولون من خرافات، يملئون أذنيها بما قاله الموتى من الأسلاف والجدود، بأن أرواحهم طاهرة وأجسادهم مدنسة بحكم الطبيعة وحكمة السماء، وأن خطيئة الواحد منهم لا علاقة لها به، وإنما هو الثقب المثقوب بالخازوق، أو الحمل المأكول بالذئب.
ويمشي الواحد منهم في الشارع، كاشفا وجهه دون حجاب، دون حياء، دون وخزة ضمير، بكل الكبرياء يرفع الواحد منهم وجهه المكشوف نحو السماء، وإن اندفع المولود من الثقب أصبح هو المحكوم عليه مع الأم.
وكان عقل أختي الناقص يمتلئ بالخزعبلات، بينما أنشغل أنا بالعمل النافع، فأقطع الخازوق بسكين المطبخ مثل قطعة من اللحم، أسلقها في الحلة فوق النار، وأعطي أختي لتشرب الحساء دون إدراك، وإن اعترفت لها بالحقيقة لا تصدقني، وتقول عني ناقصة العقل، وأن دمي ملوث بغدة الشيطان .
تلقيت أنا وأختي الدروس نفسها من زملاء أبي في الجماعة، لم يكن أبي يسمح لنا أن نلتقي بهم دون حجاب، مع إسدال الستارة السميكة حول السرير، وتسير أختي في موسم الانتخابات، محملة بالبركات، والمنشورات، ووعود محمولة فوق العجلات، بالإعلانات والملصقات، عن الشعب والعدالة والحرية، تترنح الكلمات وأبواق الإذاعات.
لم تكن أختي تتذمر أبدا، وإن أصبحت هي المرشحة في الانتخابات، يحملوها على العرش لتتلقى الركلات، ثم يلقون بها بعد الموسم في بئر الملذات، وأنا وأختي داخل جسدنا العاري في برد الشتاء.
أحوط ذراعي حول أختي وأهمس دون صوت: إذا نجحت في دخول الجنة فستحملين لقب الشهيدة. وتهمس أختي في أذني: حانكون شهيدتين مش شهيدة واحدة.
ونكتم الضحكة في أحشائنا مثل المراهقات في شارعنا، نراهن يمشين بجوار الجدران، وقد نمت الأعشاب الميتة فوقها والتراب، وكرات الطين الجافة، والمنشورات الممزقة والإعلانات الممسوحة بطفح المجاري، عن المرشحين والمرشحات من كل الجماعات، والأحزاب، والجبهات منهم الأحياء والأموات، يزيد عددهن عن خمسة آلاف أو عشرة أو عشرين أو أكثر، لا يمكن لنا أن نعرف أعداد المراهقات، وأنا وأختي نسير في الظلمة نطل عليهن، كانت أجسادهن غائبة في النوم، فتيات لم يبلغن العشرين عاما أو الأربعين أو الستين، أرواحهن تلازمنا في ظلام الليل، رغم أن لا أحد من سكان الشارع يتحدث عنهن، أو يذكر التاريخ شيئا عن موتهن.
وكان هناك صبي مراهق من عمرنا، هو صديقنا الوحيد، أو صديق أختي الوحيدة، يعيش مع أبيه في البيت المجاور، بعد أن ماتت أمه في حادث غير معلن. كبر الصبي منذ الطفولة معنا أنا وأختي، وكان يكسب رزقه بتوزيع المنشورات في المواسم، والإمساكيات والمسابح والأحجبة، لكن متعته الوحيدة في الحياة أن يدق على حافة نافذتنا من الخارج، تقفز أختي من فوق السرير قبلي بدقيقة أو نصف دقيقة، كانت هي الأسبق وأنا من ورائها أتبعها، يتشرب وجهها بحمرة العذرية، نزحف معه تحت السرير لنلعب اللعبة، العريس والعروسة، نتبادل الأدوار، أرتدي زي العريس وتأخذ أختي دور العروسة، وهو الصبي يتفحص الشخصيتين معا .
كانت بشرته سمراء شاحبة، تعلوها ثلاثة بثور من حب الشباب، تقول عنها أختي: علامات الحب. كانت هي العاشقة للحب العذري، وأنا الناضجة بالعقل والحكمة، أفتح أزرار ثوبي متظاهرة بالنوم أو الموت حتى تتسلل الأصابع إلى جسدي دون عناء.
كانت أصابعه نحيلة شاحبة ترتعش خوفا من عقاب السماء، وكنت أدربه على فضيلة الشجاعة، لكنه كان ينجذب إلى أختي أكثر مني، تسحره بفنون الأنوثة والتمنع، إن فتح أزرار قميصها تغلقها، تضع أمامه الصعاب، مثل جواد السباق، لا يمتعه إلا القفز على الحواجز.
تقاسمت مع أختي وحبيبها المساحة من البلاط تحت السرير، بدافع اللذة والألم، بالأمل أن يشعر بوجودي مثلها، تملؤني الكراهية لهما هما الاثنين، وأعوي في الليل مثل ذئب، لأملأ قلبهما بالرعب، وكانت أختي مدربة على الكذب، من طول السير في مواسم الانتخابات، والهتاف بأغلظ الأيمانات، والادعاء أن لا شيء يجمعها بالصبي إلا الحب العذري وتوزيع البيانات.
وفي ليلة غاب فيها أبي وأمي قررت التجسس عليهما، رفعت عنهما الغطاء لأكشف عن الحق من الباطل، ولأول مرة أشهد كيف ينتفض الجسد باللذة، كيف تتلاشى برودة البلاط وأحزان الطفولة، كيف تتحول عفونة السوائل المنوية إلى عطر، والمدنس يصبح مقدسا، وتزول من فوق وجه الأرض بقع الدم والدمع.
رأيتهما «الاثنان» معا، هو يمسح بشفتيه دموعها الهابطة من الرأس إلى القدم، وهي تسرح شعر عانته الغزير بالمسك، كما كانت تفعل أمي بشارب أبي ولحيته، بينما موسيقى كحرية تنبعث من السماء تبارك الحب، كأنما هي الصلاة يؤديها الصبي وأختي تحت السرير فوق البلاط.
ظللت قابعة في مخبئي، متكورة حول نفسي كالقنفذ، أشهد بلوغهما القمة، المرة بعد المرة، حتى أذان الفجر، وحاولت الوقوف على قدمي في النهاية دون جدوى، كانت عظامي تلين من تحتي كالعجين، وشحنات الدم العذري تلهب وجهي، مهانة الغيرة كالجنين، تملؤني بالسائل المر، المتراكم في أحشائي منذ الطفولة.
غضبت من الصبي إلى حد الكره، بدأت أثير غضبه أو غيرته علي، فأظهر الشبق لرجال كبار من زملاء أبي، إن لم يكن هناك رجل إلا أبي أحاول معه أيضا، حتى أثرت غيرة أمي وغضبها، أصبحت تصفعني على وجهي المرة بعد المرة، وإن هربت منها تصفع أختي نيابة عني.
كنت أهرب مع أي رجل يصادفني، أبتلع في جوفي جرعات السبرتو الأحمر، بهدف قتل الجنين بالسم، أو إفراغ جوفي من السائل المر، أمضغ بين أسناني قطعة حشيش، وأعض بأنيابي أي خازوق، وأحرض أختي أن تفعل مثلي، ومراهقات كثيرات من عمرنا، أحرضهن على المقاومة والظهور من تحت الحجب، أو الكشف عن وجوههن المختفية تحت المساحيق.
كانت أختي تترنح مثلي بعد أن تشرب السم، ومن حولها العذراوات يؤدين رقصة الملائكة، والمساحة ضيقة تشبه الغرفة التي نعيش فيها، لكنها مفتوحة على السماء، وأنا أرقص تحت ضوء القمر، لم أدرك أنني عارية إلا حين رأيت نفسي في المرآة، وكانت أختي إلى جواري واقفة، تكاد تلتصق بي.
رأيت لأول مرة بطنها المرتفع المملوء بالفرح والحزن، يرمقه أبي وهو راقد في السرير، يبربش بعينيه ويرمقه، يزم شفتيه ويرمقه بضيق، كأنما ينظر إلى نفسه في المرآة.
ثم انغلقت بوابات السماء المفتوحة، راحت الشمس وراح القمر وعمت الظلمة، دخلت إلى الشق الذي أنام فيه فوق السرير، في المساحة بين أختي وأمي، كانت أمي غائبة في النوم، وأختي لم تكن موجودة، بحثت عنها في كل مكان، ثم وجدتها راقدة فوق البلاط تحت السرير، عيناها مغلقتان وبطنها مفتوح بالسكين.
وضعت رأسي فوق صدرها كما أفعل كل ليلة، وبكيت دون صوت، حتى لا أوقظ أمي أو أبي، وهمست في أذنها: إذا نجحت في دخول الجنة فستحملين لقب القتيلة. وهمست أختي في أذني: حانكون قتيلتين مش قتيلة واحدة. وأدركت لأول مرة أن أختي هي أنا.
Page inconnue