القول فى حاسة البصر وما يوافقها
أما صحة البصر، فإنها تتم بصحة العين. وذلك أن العين عضو مركب من طبقات ورطوبات، وعضل تمسكها وتحركها، وأعصاب مختلفة الصور، لأن واحدة منها مجوفة الداخل، وهى التى يرد فيها النور والقوة النفسانية التى يكون بها الحس للمبصرات، ولأن لكل جزء من أجزاء العين فعلا يخصه، ومنافع لأجلها خلق على ما هو عليه، وينبغى للطبيب أن يعنى بمعرفته، ليقدر على حفظه. فلذلك يجب أن يكون المتولى لحفظ صحة العين، وعلاج أمراضها، منفردا بذلك، شديد الحرص على تعلمه، إذ هو عضو جليل الخطر، عظيم النفع فى مصالح الجسم.
فأما أنت، أيها الطبيب الطبيعى، فيجب عليك أن تنظر فى أفعال العين، ومنافعها الظاهرة، فتحرسها من مضارها، ومؤذياتها الواردة عليها من خارج، والواصلة إليها من داخل. فإما ما يصل إليها من داخل، فأنت تمنعه بتعديل الأغذية والأشربة، والحركات، والنوم واليقظة، وبالجملة باستعمال الموافق من الأمور الطبيعية التى نحن فى وصف جملها. وأما ما يرد عليها من خارج، فأنت تقدر على تعديله لها، واستعمال الموافق لها، إذا أنت عرفت منافعها، وفعلها، وكيف يفعل فعلها.
وأنا أريك من ذلك جملا تستدل منها على كثير من جزئياتها. فأما إحكام جميعها، فلا يقدر عليه إلا من قرأ كتب الأطباء. فاقصد كتب الفاضل جالينوس فى منافع الأعضاء، وكتبه فى التشريح، لتصل إلى غرضك على التمام.
فأما ها هنا، فلا تطالبنى بذلك، فإنى لم أقصده، لكنى قصدت — كما عرفتك أولا — تنبيه العقل من أهل صناعة الطب على مقدار شرفها ونفعها، وحثهم على علمها، وخاصة — مع أن تكسبهم وتعيشهم بها ومنها — ممن لا يشتاق بما أذكره، ولا يتحرك به لقراءة كتبها، والتأدب بآدابها، فهو الخاسر نفسه ودينه جميعا.
فارجع بنا، أيها المحب للحق، إلى ما كنا فيه وافهم ما أقوله! أقول: إن القدماء قد بينوا أن إدراك حاسة البصر للمبصرات إنما يتم بنفوذ النور الباصر الواصل إلى العين فى الهواء المضئ ، حتى ينفذ ويتصل بالمبصرات، فتدركها القوة الباصرة، وتخيلها القوة المخيلة للنفس. وكيفية هذا التصوير، والقول فيه، وحكاية ما رأته القدماء فى ذلك، لا يليق بهذا الموضع ذكره، لطوله وصعوبة مرامه.
فأما ها هنا، فإنا نقول: إنه إذا كان الأمر على ما قيل، وما هو مشاهد أيضا من الهواء والضوء جميعا، هما واسطة بين الباصر والمبصر، ولا يمكن وصول صور المبصرات إلى حاسة البصر دونهما، فيجب أن تجتهد فى تعديلهما وإصلاحهما، ليصح لحاسة البصر إدراكها. والهواء، فقد يقبل الضياء، وقد يعدمه. والضياء، فقد ينفذ نفوذا مستقيما فى الهواء، وقد يتعذر نفوذه، وذلك لأن الهواء قد يغلظ، ويتكدر بما يخالطه من البخارات الرطبة واليابسة، فيعوق ذلك لنفوذ النور فيه. وكذلك أيضا يعرض لنور البصر عند كدر الهواء ألا ينفذ فيه نفوذا مستقيما، ولا يدرك المبصرات إدراكا حقيقيا.
Page 30