القول فى وصف محمود
الأهوية للأصحاء والمرضى والمحمود من الأهوية للدماغ خاصة على طريق المثال
الهواء جسم خفيف، وجوهر لطيف، فلذلك يرد إلى الجسم من مسامه، ومن سائر منافذه، باختيار الإنسان، وبغير اختياره. ولذلك صار ما تغير منه تغييرا غير موافق للأبدان أسرع ضررا، لأجل صعوبة الاحتراز منه. ومثال ذلك ما يظهر من صلاح الدماغ، وسائر الحواس، عند صفائه ونقائه واعتداله، وما يعرض من تكدرها عند تكدره وفساده، وكذلك يعرض لسائر الجسم.
وأحمد الأهوية الموافقة فى مزاجها ما صفا ونقى، ولم يكتسب روائح تفسده، بل ما عدلته وأصلحته الروائح الطيبة الموافقة، إذ كان الهواء لا رائحة له فى ذاته. وأيضا فإن الهواء، وإن كانت حركة الطبيعة له هى واحدة، وهى الترقى إلى العلو لخفة جسمه، فإن له حركات عرضية يتغير بها مزاجه، ويغير بها الأبدان، كالذى يعرض له عند تحريك الرياح له. فإن الريح الشمالية تغير مزاج الهواء إلى البرودة واليبس، والجنوبية إلى الحرارة والرطوبة. وأما الشرقية والغربية، فتعدلان مزاجه. ويكون تغيير هذه الرياح له أقوى إذا كانت المساكن مقابلتها، ووضع البلدان فى جهاتها، وخاصة التى هى مقابلة طرفى المحرر، والتى هى مقابلة جهتى الاعتدالين. فأما ما يهب من الرياح، وماهو من البلدان والمساكن فيما بين ذلك، فأمزجتها تختلف بالأكثر والأقل. فافهم ذلك، إن كنت ممن يحب العناية البالغة بحفظ الصحة، ومعالجة الأمراض!
واعلم أن المعتدل من هذه الرياح، والمتحرك منها حركة معتدلة، يصفى الهواء وينقيه من البخارات التى تعلو من الأجسام الأرضية، الرطبة منها واليابسة. ولذلك صار ما اعتدلت حركته من الهواء، وتوسط بين الحر والبرد، والرطوبة واليبس، ونقى جوهره، هو أصلح الأهوية للجسم الصحيح. ومثال ذلك ما يرى الدماغ عليه من جودة أعماله، وقوة أفعاله، وصفاء حواسه، عند اعتدال الهواء. ولهذه العلة صار هواء الفصلين المعتدلين هو أحمد الأهوية التى تصل إلى الدماغ وإلى سائر أعضاء البدن، أعنى هواء الربيع، وبعده هواء الخريف. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يجب أن تجتهد فى تعديل هواء الفصلين الآخرين، أعنى الصيف والشتاء. وكذلك ينبغى أن تعدل كل هواء تجده خارجا عن الاعتدال، لتحفظ الاعتدال بالمعتدل، لأن الشبه يحفظ شبهه، كما قدمنا بذلك القول، والضد أيضا يشفى ضده، كما قال الجليل بقراط.
Page 25