واعلم أولا من أمر سائر أدمغة الحيوان أنها خلقت مائلة إلى البرد والرطوبة، وذلك بإضافة مزاج دماغ الحيوان إلى باقى أعضائه، أى حيوان كان. فلذلك قيل إن مزاج دماغ الإنسان بارد رطب. وقالوا إن الله تعالى خلق الدماغ من الحيوان باردا رطبا، لئلا يفسد بدوام حركاته، وبدوام ما يتصاعد إليه من البخار الحار. وإذا كان لمزاج دماغ كل إنسان من الناس من البرودة والرطوبة مقدار يخالف سائر مقادير أمزجة الأدمغة، فبغير شك أنه يلزم الطبيب أن يعرف مزاج دماغ شخص شخص، وكم مقدار ما لذلك الدماغ من البرودة والرطوبة، ليحفظها عليه، لأن بحفظ ذلك المزاج تتم أفعال ذلك الدماغ .
وقد بين القدماء أن من أفعال الدماغ ما يفعلها بذاته، أعنى بغير واسطة، وهى ثلاثة أفعال: أحدها التخيل وهو يتم بجزئه المقدم، والثانى التمييز وهو يتم بجزئه الأوسط، والثالث الحفظ وهو يتم بجزئه المؤخر.
ومن أفعال الدماغ ما يفعلها بتوسط العصب الثابت منه، وهذه الأفعال صنفان: أحدها أفعال الحواس، وهى خمسة: حس البصر، وحس الشم، وحس السمع، وحس الذوق، وحس اللمس. والثانى حركات الأعضاء الانتقالية. وبينوا أيضا أن هذه الأفعال والمنافع إنما تتم للدماغ بشيئين: بصحة مزاجه، وبصحة هيئته. فاختبر، أيها الطبيب، من كمال هذه الأفعال والمنافع جودة مزاج الدماغ ورداءته، وصحة هيئته وفسادها، لتقدر على صلاح نفسك أولا، ثم صلاح غيرك. واعلم أن الدماغ قد تتغير أفعاله، بحسب أشكاله، وأشكاله أبدا تتبع شكل جملة الرأس. فتفقد ذلك، ليصح لك تعرف أفعال الدماغ! وتعرف أيضا حالات الأمزجة التى للدماغ، من الشعر النابت على الرأس وفى الوجه، ومن حالات الحواس، ومن حركات الأعضاء! وضع لك، أيها الطبيب، المزاج القريب من الاعتدال أيضا ميزانا تزن به، وتقيس عليه ما خرج عن الاعتدال من الأمزجة، وما بعد عنها، وكذلك فافعل فى تعرف مزاج عضو عضو!
ومثل ذلك الرأس. فإن الشكل له القريب من الاعتدال هو أن يكون مستديرا، كأنه قد غمر من جنبتيه، فظهر له نتوء من مقدمه، ونتوء من مؤخره، وأن يكون معتدلا فى الكبر والصغر، وأن يكون الشعر النابت عليه، وفى الوجه، معتدلا فى الخشونة واللين، والتلزز والتفرق، والكثرة والقلة، يبدو فى الصغر أصهب ثم يسود ويبطئ شيبه. وأن تكون أعضاء الوجه متناسبة فى مقاديرها ووضعها. فالعينان منه معتدلتان، لا بالكبيرتين ولا بالصغيرتين، ولا بالسريعتى الحركة ولا بالبطيئتى الحركة. و〈أن يكون〉 الأنف معتدلا فى طوله وقنونه وغلظه. و〈أن تكون〉 الوجنتان معتدلتين الحمرة، ما هما كذلك، فافهم فى باقى الحواس، وبالجملة فى سائر أجزاء الوجه.
Page 23