وليس غريبا أن تنشأ هذه الدعوة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث العلم مزاج نفسي، وتطبيق عملي، ومذهب ديني، وليس من شك أن لكل هذا نقائصه، بل شروره. ولكن للحوادث حتمية تتجاوز النيات البشرية. ومن هنا الحاجة الملحة إلى مثل «ه. ج. ولز» كي يعمل للتوفيق بين المعارف فلا يجعل إحداها تتمكن منا وتوجهنا بدلا من أن نتمكن نحن منها ونوجهها. وقد أوشك أن يحدث مثل هذا من الطاقة الذرية.
عمد «ولز» إلى القصة، وهو بلا شك قصاص ماهر، ولكنه لو خير لآثر على القصة الشرح الموضوعي. وهناك قصص ألفها في الفترة الأولى من حياته الأدبية يبدو أنه التذ كتابتها وسر بما فيها من براعة فنية، ولكنه في السنين الأخيرة، أو بالأحرى منذ بداية الحرب الكبرى الأولى إلى الآن، جعل القصة وسيلة إلى نشر بحوثه الاجتماعية العلمية. ولكن يجب ألا نخطئ فنزعم أنه اختار هذا الطراز من القصة العلمية لأن الاختيار لا مكان له. ذلك أنه حين ابتدأ يكتب في العقد الأخير من القرن الماضي كان العصر والظرف، كلاهما، يتيح إلى حد ما نبوغا فرديا أو اقتحاما شخصيا، فكان هناك مجال للبطل في القصة، ينوي فيعمل، ويريد فينجح، أو على الأقل كان هذا هو الفهم العام. والأغلب أنه كان فهما مخطئا حتى في ذلك الوقت. ولكن منذ بداءة هذا القرن أخذ الوسط يتغلب على الفرد. كان وسط القوات الاقتصادية الآلية، فصارت الأعمال «تكيف» النيات وتوجه الإرادات؛ ولذلك أصبحت قصص «ولز» رسائل مسهبة في التحليل النفسي أو التضخم الاقتصادي أو الاتجاه السياسي، وانحط شأن الفرد في القصة لهذا السبب.
سألني ذات مرة أحد القارئين عن أحسن كتاب قرأته في اللغة الإنجليزية من حيث الأسلوب، فقلت له ببديهتي: كتاب داروين «أصل الأنواع». ولم أكن مازحا في هذا؛ لأني أحس أن أسلوب التفكير الذهني عند «داروين» خير ألف مرة من أسلوب العاطفة المزيفة أو الخالصة عند «أوسكار وايلد» لأن الفن الذهني خير من الفن العاطفي.
وأسلوب «ولز» الأديب العلمي هو أسلوب «داروين»، لا أسلوب «أوسكار وايلد». ولو أن «ولز» نفسه سئل عن أسلوبه من أي الطرز هو لأجاب بقهقهة عالية؛ لأنه لو استطاع أن يكتب بالعامية وأن يصل منها إلى غايته في سعة الانتشار لما أحجم.
وقد استخدم «ولز» العلم بمهارة كبيرة في القصة أكبر من المهارة التي استخدمه بها «جول فيرن» ولكنه وجد أن القصة لا تؤاتيه على إيضاح أغراضه، فتركها وعمد إلى ما وصفناه بأنه «رسالة مسهبة» في شرح الموضوعات التي يتماس فيها العالمان: المادي والاجتماعي.
ولعل أعظم ما حمله على ترك القصة أنه رأى أن إغفال البطل منها يجعلها ماسخة؛ لأن حيوية القصة بأشخاصها. وأغلب القصص يجعل مرتكز هذه الحيوية الغريزة الجنسية، فما تفتأ جميع القصص تتحرش بهذه الغريزة. والانتقال من هذا التحرش العامي إلى البحوث السياسية والاجتماعية والاقتصادية الخطيرة يحدث للقارئ صدمة لا تتفق وفن القصة. وهذه القصص الخطيرة التي عالج فيها «ولز» مشكلات المجتمع لن تعيش؛ لأن هذه المشكلات تتغير ويجد غيرها بتغير الوسط الاجتماعي الاقتصادي، لأن ما لنا من عواطف وأمان، وما يرافقهما من سلوك وتفكير، إنما هو كله ثمرة الوسط الاجتماعي الاقتصادي. ولذلك فإن القارئ لقصص «ولز» الاجتماعية بعد عشرين أو ثلاثين سنة سوف يجدها غريبة عن قلبه وعقله، في حين أن تلك القصص الأولى التي تحوي «أبطالا» سوف تقرأ في لذة مهما طال عليها الزمن، وخاصة تلك التي يعمد فيها «ولز» إلى فكاهاته التي تقارب، بل أحيانا تطابق ما خلفه «ديكنز» أحد أمراء القصة في القرن التاسع عشر.
قال «ولز» في كتابه «طوالع الإنسان» وهو كتاب يبحث فيه مشكلات البشر ومستقبلهم:
لقد استغرق كفاحي لأجل نشر المعارف المثمرة جزءا كبيرا من حياتي الوجدانية، فقد حاولت أن أجمع المعارف الراهنة كي يستطاع استغلالها في المعيشة البشرية، وكي أحمل غيري ومن هم أكفأ مني على أن يقوموا مثلي بهذا العمل، وكذلك عملت كي أجمع بين النظم غير المتناسقة من التفكير بشأن الحقائق. وهي نظم، يتجاهل كل منها الآخر، في بلادة الذهن وإضاعة الفرصة، كما أن كثيرا من التشويش الذهني في التفكير البشري يعود إليها. ذلك أن هذه الفلسفات والغيبيات المناقضة، التي لم تتناسق، تزحم الذهن البشري. وعدم تناسقها هذا يرجع إلى أن كلا منها يتجاهل الآخر وأنا لا أطيق هذه المتناقضات؛ لأني حين أعالجها أجد أنها تقلقني وتربكني. وما لذهني من ميزة خاصة أو نقص خاص إنما يرجع إلى صفة واحدة، فإذا مدحت لقيت أن عقلي يجابه المشكلات، وإذا ذممت قلت إنه لا يفطن للخفايا، فأنا لا أطيق التفاصيل المربكة أو الأكاذيب العرفية لأني أخشاها جميعا ... وأنا أطرق فكرتي كما لو كانت سندانا ...
أجل، لقد طرق «ولز» طائفة من الفكرات، ودق عليها في تكرار. ولكن، في كل مرة، كان يختار ناحية أخرى منها غير تلك التي دق عليها من قبل. ولذلك انتقل من القصة إلى المقال الاجتماعي، ثم جعل القصة تتناول بحوثا اجتماعية مختلفة. وأخيرا ترك القصة، أو كاد، إلى تأليف الكتب الضخمة في الاجتماع.
وقد نجح كل من «إبسن» و«شو» في استخدام الدرامة للبحوث الاجتماعية. واحتفظ الأول بمائة في المائة من فن الدراما، واحتفظ الثاني بأكثر من خمسين أو ستين في المائة. ولكن لا يمكن أن يقال إن «ولز» نجح في استخدام القصة حتى إلى الحد الذي بلغه «شو». والحق أن المسرح يتيح للمؤلف معالجة المشكلة الاجتماعية أكثر مما تتيحه القصة؛ لأن الأشخاص على المسرح يجسمون المشكلة بلا شرح مسهب لما تحويه من عقد ولكن مؤلف القصة يضطر إلى مثل هذا الشرح، فتنقلب القصة إلى بحث اجتماعي، كثيرا ما يتعارض مع أصول الفن فيها.
Page inconnue