مقدمة
التجديد في الأدب الإنجليزي
جمود العصر الفكتوري
التفسير الاقتصادي للأدب الإنجليزي
الرجعيون الثائرون
بواعث التجديد
بعض الأجانب في الأدب الإنجليزي
اثنان من الرواد
المنحطون في الأدب الإنجليزي
كبلنج: شاعر الاستعمار
Page inconnue
دراسة الاقتصاد والاجتماع
برنارد شو
الدرامة الاجتماعية
فلسفة برنارد شو
من داروين إلى برجسون
ولز
دراسات ولز الاجتماعية
ولز بين الوطنية والعالمية
ه. ج. ولز
جالزورثي
Page inconnue
رجال الذهن في إنجلترا
الثائرون
لورنس: أحد الثائرين
جيمس جويس
ألدوس هكسلي
الشاعر ت. س. إليوت
الشاعر أودين
مقدمة
التجديد في الأدب الإنجليزي
جمود العصر الفكتوري
Page inconnue
التفسير الاقتصادي للأدب الإنجليزي
الرجعيون الثائرون
بواعث التجديد
بعض الأجانب في الأدب الإنجليزي
اثنان من الرواد
المنحطون في الأدب الإنجليزي
كبلنج: شاعر الاستعمار
دراسة الاقتصاد والاجتماع
برنارد شو
الدرامة الاجتماعية
Page inconnue
فلسفة برنارد شو
من داروين إلى برجسون
ولز
دراسات ولز الاجتماعية
ولز بين الوطنية والعالمية
ه. ج. ولز
جالزورثي
رجال الذهن في إنجلترا
الثائرون
لورنس: أحد الثائرين
Page inconnue
جيمس جويس
ألدوس هكسلي
الشاعر ت. س. إليوت
الشاعر أودين
الأدب الإنجليزي الحديث
الأدب الإنجليزي الحديث
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
هذا الكتاب هو عرض ونقد للأدب الإنجليزي في السنين الأربعين الماضية. وفي هذه المدة ظهر أدباء ثائرون على التقاليد في هذا الأدب ومجددون له. وقد حاولت أن أبين للقارئ العربي المغزى من هذا التجديد. وعندي أن التجديد في الأدب هذه الأيام لا يعني شيئا آخر سوى التجديد في الحياة. وهذا هو ما نفهمه من المجددين الإنجليز الذين نعرضهم في الفصول التالية؛ فإن الأدب الإنجليزي يتصل بالحياة ويتأثر بها، ويؤثر فيها، وهو ينتقد أسلوب العيش أكثر مما ينتقد أسلوب الكتابة. وهذا خلاف ما نجد من طبقة الأدباء التقليديين في مصر، حيث الاهتمام كبير بالأسلوب الكتابي، في حين ليس هناك اهتمام أصلا بأسلوب العيش؛ فإن الأدب التقليدي يعنى مثلا بأسلوب الجاحظ الكتابي فيحتذيه، ولا يعنى مثلا بأسلوب الفلاح المصري في العيش فينتقده ويطلب إصلاحه. وهو يكتب عن العرب ومجدهم وتاريخهم، ولا يكتب عن مصر ونكباتها الحاضرة، وما تعانيه من مظالم اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية؛ ولذلك فإن أدبه سلفي، هو أدب الكتب الذي يجعله يعيش وهو في عزلة عن الوسط الذي يحيط به كأنه في برج عاجي. وهو هنا يشبه أدباء القرون الوسطى في أوروبا والعالم العربي.
Page inconnue
ولكن الأدب الأوروبي الحديث، وخاصة الأدب الإنجليزي، هو أدب الحياة؛ ينتقد المعايش والغايات ويجعلهما موضوعه، سواء في القصة أو المقالة. وهو لذلك يتصل بأنواع النشاط البشري كله؛ فللأديب رأيه في العلم والصناعة، والاقتصاد، والزواج، والتعليم، والصحافة. بل من الأدباء الإنجليز، مثل «برنارد شو» من ينتقد النظريات الطبية. ومنهم من يدعو إلى الإيمان بدين جديد.
والحق أن التجديد في الأدب يشبه التجديد في الفلسفة؛ فقد كانت الفلسفة القديمة تترفع عن درس الحياة الدنيا، وترصد نفسها لدرس كنه الأشياء، والفرق بين ما نعرفه عن الشيء وماهية هذا الشيء. وكانت تبحث الغيبيات؛ أي ما قبل الوجود وما بعده. وهي في ذلك كله تبتعد عن الناس ومعايشهم. ولكن الفلسفة الجديدة تدعو إلى الكف عن البحث عن كنه الأشياء، وتقنع باستخدامها لمصلحة الإنسان. وواضح أن هذا الكف ليس أبديا، ولكنه اعتراف بالعجز عن فهم الغيبيات وإيثار لبحث الشئون البشرية التي لا تتجاوز مستطاعنا.
وكذلك الحال في الأديب، فإنه كان يعتكف بين الكتب ويترفع عن نقد المعايش وغاية الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية. وكان الأديب يدأب في الاجترار، ويعيش في برجه العاجي لا يتغذى مما حوله ولكنه يتغذى بالمؤلفات القديمة. أما الآن فإن الأديب الجديد يكاد ينظر إلى الأدب القديم نظرة «بيكون» إلى العلوم القديمة، فهو يطلب التجربة والاختبار بنفس الروح الذي طلبهما به علماء النهضة؛ وذلك لأنه يشك في قيمة المقاييس القديمة. ثم هو يستخدم أدبه، كما يستخدم الفيلسوف الجديد فلسفته، لمصلحة الإنسان، فيبحث أساليب العيش والاجتماع، ولا يكاد يبالي بأساليب الكتابة.
ومع أني عرضت لطائفة من الأدباء في مدى السنين الأربعين الماضية، وعالجت آراءهم بالشرح أو النقد أو التعليق، فإني أرى الآن أنه كان يكون أروح لي لو أني قصدت إلى واحد منهم فاقتصرت عليه بالدرس؛ وذلك لأن الإسهاب في شرح فترة قصيرة، هي حياة الأديب، يتناول من الدقائق المفيدة والتفاصيل الطريفة ما يضطر الكاتب إلى التجاوز عنه حين يعمد إلى موكب كامل من الأدباء يصف أفراده مع الإيجاز الذي قد يكون مخلا في بعض الأحيان. ولكن القارئ العربي الذي يجهل الأدب الإنجليزي يؤثر رؤية الموكب على رؤية الفرد، وعنده أن الإلمام بطبقة الأدباء المجددين خير من الإحاطة بواحد منهم. وهو على حق في هذا الرأي؛ وذلك لأن كلا منهم قد انتحى ناحية في التجديد لم ينتحها غيره، والإسهاب في شرح الأدب لواحد منهم لا يقوم مقام التلخيص للكل.
وعلى هذا الاعتبار يمكنني أن أقول إن هذا الكتاب هو في حقيقته مقالة مسهبة، أو هو المقدمة لدرس التجديد في إنجلترا. وأملي أن أوفق في القريب إلى درس واحد من هؤلاء المجددين لعله «برنارد شو»، فيكون هذا الكتاب الراهن بمثابة الفرش للصورة، يهيئ للقارئ «البيئة التاريخية» والثقافية التي تكون منها هذا الأديب العظيم.
فليقرأ القارئ إذن هذا الكتاب على اعتبار أنه مقدمة لدرس التجديد الأدبي في إنجلترا. وعليه أن يلتفت إلى التفاعل المستمر بين الأدب والمجتمع، وأن يقابل بين هذه الحال وبين ما نحن عليه في مصر وخاصة عند أدبائنا التقليديين الذين قطعوا بين الحياة الراهنة وبين ما يزاولونه من أدب قديم في الأسلوب والغاية والموضوع.
س. م. 1933
قبل أن يقدم هذا الكتاب للطبعة الثانية عدت عليه قراءة وتنقيحا وزدت فيه ثلاثة فصول هي الأخيرة من الكتاب.
س. م. 1948
التجديد في الأدب الإنجليزي
Page inconnue
إذا ذكر الإنجليزي عبارة «العصر الفكتوري» عنى بذلك نحو سبعين سنة قضتها إنجلترا في خمول يشمل الأخلاق والأدب بين سنة 1837 وسنة 1900 وهي المدة التي تولت فيها الحكم الملكة فكتوريا.
وقد كان هذا العصر عصر تجديد، بل ثورة في العلوم؛ ففيه ظهر «داروين» وقلب البيولوجيا رأسا على عقب. واستحالت نظرياته إلى مذاهب تشبه المذاهب السياسية من حيث ابتعاث الحماسة أو المقت. وفيه ظهر «هربرت سبنسر» الذي قضى حياة طويلة يدافع عن مادية صريحة. ومن الناس من يطلق عليه وصف الفيلسوف ، مع أنه أعدى أعداء الفلسفة؛ إذ هو لا يؤمن إلا بالعلم. وظهرت في هذا العصر نزعات علمية كثيرة نقلت الطب من الكهانة والسحر إلى التجربة، ونقلت التربية من حفظ اللغتين الإغريقية واللاتينية إلى درس الطبيعات والكيمياء.
وكانت المدينة الإنجليزية في هذا العصر الفكتوري تنتقل من الزراعة إلى الصناعة، ومعايش الناس تتجدد من حيث اختلاف الحرفة، ولكنها تبقى مع ذلك جامدة من حيث العادات الاجتماعية متشبثة بعادات المجتمع الزراعي البائد.
وهذا الجمود شمل الحياة الاجتماعية. وإلى الآن لا يزال الإنجليزي يستعمل لفظة هي «المسز جرندي» التي تدلنا على هذا الجمود، فإن هذه المسز أو السيدة هي ربة البيت الإنجليزية التي كانت تحتم على أعضاء منزلها الوقار والاحتشام، بل التزمت؛ فلم تكن تسمح للفتاة بالخروج وحدها أو المزاح مع الشبان أو اتخاذ الملابس المختصرة أو ارتياء الآراء الجديدة. وكان البيت الإنجليزي مدة ذلك العصر مثالا للجمود، بل الكمود، لوجود هذه السيدة المحترمة التي كانت تعتقد أنها تصون الأخلاق بتزمتها.
والأدب بطبيعته يساير الحياة الاجتماعية، فإن الأديب يكتب مقالته، أو يؤلف قصته، وهو يفرض جمهورا يسمعه، فإذا هو ارتأى رأيا، ينبو عن ذوق هذا الجمهور أو عقائده أو أخلاقه، أكنه في نفسه وكظمه وأبدى غيره مما يرضي هذا الجمهور. وقد يقال هنا إن حرية الرأي تقول بغير ذلك، ولكن يجب على القارئ أن يعرف أن الجمهور يحد من حرية الرأي مثلما تحد منها القوانين سواء؛ ولذلك كان جميع الأدباء في العصر الفكتوري يحترمون آراء «المسز جرندي» ولا يخالفونها إلا في تواضع وذلة. ولهذا السبب اتجه الأدب الإنجليزي طوال القرن التاسع عشر نحو الصياغة اللفظية دون التفكير والاقتحام، فنحن إذا قرأنا «ماكولي» المؤرخ راعنا أسلوبه المنمق وعبارته الملحنة المنغمة، ولكننا نخرج منه بلا شيء من حيث التفكير. وكذلك الحال مع «سكوت» و«ثاكري» القصصيين.
وقد يستطيع القارئ أن يذكر الشاعرين «شيلي» و«بيرون» وأن يصفهما بالثورة على التقاليد والعرف والنزوع إلى حرية الإغريق، وهذا صحيح، ولكنهما عاشا وماتا وكأنهما غريبان عن إنجلترا، تقرؤهما فئة صغيرة وتقتني مؤلفاتهما، وتدسها في زوايا الحجر حتى لا تراها عين هذه السيدة المحترمة «المسز جرندي».
واستمر الجمود شاملا للمجتمع والأدب إلى حوالي سنة 1880 حين أخذت تتراكم أسباب الثورة أو التجديد وتستمد قوتها من العلوم الجديدة، فهذه الصناعة مثلا تبعث «كارل ماركس» على تأليف كتابه في ضرورة الاشتراكية مع شروح وافية مؤلمة في فساد المجتمع. وهذا العلم الجديد «البيولوجيا» يبعث «إبسن» الشاعر النروجي على تأليف دراما تصف «سلطان» الوراثة، وكيف يرث الأبناء نقائص آبائهم في الجسم والغريزة. ثم هذه المادية الجديدة تبعث الشاعر «سونبرن» على أن يؤلف القصائد في الانتقاض على العقائد. ثم نرى دعوة إلى الجمال يدعو إليها «أوسكار وايلد» من ناحية، و«ولتر باتير» من ناحية أخرى، مع اختلاف بين الاثنين في الوثن الجميل الذي يتعبد له كل منهما؛ فإن الأول يحب باريس الحديثة ويتغنى بلياليها، ويعرف للترف المادي قيمته في الجسم الرائع، والمائدة المطهمة، والحديث البارع، ولذة اللحم. والثاني يحب أثينا القديمة، ويذكر آلهتها وفلاسفتها ويساوي بين الاثنين، ويرى في تمثال الرب أفلون نموذجا فذا للجمال الإنساني كما يرى في شبان الإغريق نماذج أخرى لجمال الآلهة.
لورد بيرون.
وكل هذا يحدث على الرغم من آراء الجمهور أو شعائره الاجتماعية، حتى إن «أوسكار وايلد» قضى سنتين في السجن لأنه عمل بما قال، ونزل بالواقع إلى ما كان يتخيله، وجعل من الأدب حياة يعيشها على نحو تلك الحياة التي كان يعيشها أبو نواس، وهي لا تختلف من أدبه، كما لا يختلف خياله وواقعه وقصيدته من معيشته.
ولكن ما نكاد نقترب من 1900 حتى نجد الانفجار، ولهذا الانفجار أسباب خارجية وأخرى داخلية. وقد ذكرنا هذه الأسباب الداخلية، وهي تنحصر في التقدم العلمي الذي عكس أشعته على الأدب، والتقدم الصناعي الذي عكس أشعته على التفكير الاجتماعي. وكانت إنجلترا طوال القرن التاسع عشر في مقدمة الأمم في العلم والصناعة. وتأثر الأدب من هاتين الناحيتين يرجع إليها وحدها.
Page inconnue
ولكن كان في أوروبا مؤثرات أخرى. ومن أغرب ما يذكر هنا أن أعظم هذه المؤثرات، وهو الأدب الروسي، لم يترك أثرا صغيرا أو كبيرا في إنجلترا. وأدباء الإنجليز جميعهم يعترفون بسمو هذا الأدب، وأنه الأدب الإنساني الرائع الذي لم يخلق مثله في العالم، ومع ذلك ليس فيهم واحد، ولا واحد، قد تأثر به. ولست أستطيع أن أعزو ذلك إلا إلى أن البيئة الإنجليزية (الاقتصادية الاجتماعية) كانت تختلف جد الاختلاف عن البيئة الروسية؛ ذلك أن المجتمع الروسي أيام القياصرة كان حافلا بالفوضى والشقاء والذل، مما كان يحمل الأديب على أحد طريقين: إما أن يثور ويلحد بالسلطة القيصرية والآلهة مثل «مكسيم جوركي»، وإما أن يستسلم للقدر، ويتعوض من البؤس المادي غبطة روحية مثل «دستوفسكي». وكلا الطريقين غريب عن الذهن الإنجليزي.
أما سائر المؤثرات فيرجع بعضها إلى «إبسن» الشاعر النروجي الذي يمكن أن يقال إنه جدد الدرامة الإنجليزية عن سبيل «برنارد شو». وقد أنكر «برنارد شو» أنه مدين لهذا الكاتب النروجي، ولكن الذي يقرأ الاثنين لا يستطيع إلا الاعتراف بأن الثاني مدين للأول في فنه وآرائه وثورته على العرف، ودعوته إلى استقلال الشخصية، ودعوة المرأة إلى الرجولة، ولا أقول الاسترجال. ويقول «برنارد شو» إنه تلميذ لأديب إنجليزي هو «صموئيل بطلر»، ولا شك في أنه صادق في ادعاء هذه التلمذة، ولكنها ليست كل شيء في تلمذته؛ فإنه مزيج من «داروين»، و«نيتشه»، و«إبسن»، و«بيرون» و«برجسون».
شيللي.
ومن المؤثرات الحديثة القوية في الأدب الإنجليزي نجد لنظرية «التحليل النفسي» والعقل الكامن أكبر الأثر، وهذا الأثر أكبر وأعظم في الشبان الجدد.
ويمكن أن نقسم الأدب الجديد، أو المجدد، إلى ثلاثة أقسام، هي ثلاثة أطوار: طور الرائدين، ثم طور المجددين، وأخيرا طور الثائرين.
وهذه التسمية نريد بها التوصل إلى فهم التجديد، ولا نريد بها التعيين؛ ففي الطور الأول نجد الرائدين وهم «سونبرن» الشاعر، وهو إنما يثور على العقائد دون العرف الاجتماعي، ثم «صموئيل بطلر» أستاذ «شو»، وهو ثائر على العرف الاجتماعي، وكلاهما يدعو إلى احترام الشخصية واستقلال الفرد استقلالا دينيا اجتماعيا. ثم تجد أنه يعاصرهما «أوسكار وايلد» و«ولتر باتير» وكلاهما يدعو إلى الجمال دون الأخلاق الشائعة مع فرق سبق أن بيناه. ثم ندخل بعد ذلك في طور المجددين، فنجد «برنارد شو» في المقدمة، لا يقنع بالانتقاض على الدين، بل هو يثور أيضا على المجتمع والعرف. وهو ليس هداما يرضى بالهدم ويسكت عنده، ولكنه يبني، فيدعو إلى الاشتراكية واستقلال الشخصية ويرسم الطرق لاستخراج «السوبرمان». وكأنه يضع مقاييسه ويقوم بعملية حسابية عن توليد خروف أبيض من نعاج سود. وهو كافر يعتقد في نفسه أنه مؤمن، ومادي يظن أنه روحي، وعالم يمارس الأدب ويعلن احتقاره له، وكاهن من كهنة البشرية الجديدة وجوهرة من جواهر الأدب الحديث.
ومن المجددين أيضا «ولز» وهو يشبه «برنارد شو» من وجوه كثيرة من حيث النظر العالمي للأدب، وإن كان هو من حيث المزاج أديبا، بينما «شو» عالم. و«ولز» الآن قوة من قوى الخير في العالم، وهو أكبر أثرا من عصبة الأمم في الدعوة إلى الإخاء. وقد رضي بالتضحية بالفن من أجل الوعظ، فإنه يعظ ويعظ ولا يفتأ يعظ ويبين للناس كيف يتوقون الحروب والأمراض، ويدلهم على وسائل الخدمة الإنسانية. وقد حاول أن يؤمن، وأخلص في المحاولة، إلا أنه فشل وعاد يدعو إلى الكفر أو الإلحاد في غلواء بقوة إيمانه الإلحادي الجديد.
ثم ندخل في طور الثائرين، وهم الشباب الجدد الذين كابدوا من الحرب ويلاتها وعرفوا منها السفالة العميقة التي يمكن أن تهوي إليها الإنسانية على الرغم من طلائها النظيف. وجميع هؤلاء الثائرين قد درسوا التحليل النفسي والعقل الكامن، ونظرية التطور، وخرجوا من هذا الدرس بجواهر تحيط بها أكوام من «الزبالة». وقد خالفوا أوضاع القصة، ورفضوا حتى عرف الكتابة بحيث إن الذي لم يتسلم مفتاحهم لا يكاد يفهم ما يكتبونه. ومفتاحهم هو الكامنة أو «العقل الكامن»، وما في داخل رءوسنا من حشرات وأفاع. ولكنهم مع ذلك يعرفون أنه إلى جنب هذه الحشرات والأفاعي طواويس زاهية وفراش جميل. ثم إلى جنب هذا وذاك نزوع غامض في النفس البشرية نحو الكمال. وأبطال هذا الطور هم «لورنس»، و«هكسلي»، و«جويس ».
والمستقبل لهؤلاء على الرغم مما فيهم من ضعف وتردد، بل من خلط واضطراب؛ لأنهم قد حطوا على حقائق النفس البشرية وكشفوها وأبانوا عنها عارية، ولم يستروا منها قبحا أو حسنا، فهم يتسابقون في ميدان جديد جرى فيه «ولز» نفسه شوطا ثم كف عنه.
وهذا كلام كله مختصر يحتاج إلى إسهاب في الشرح.
Page inconnue
جمود العصر الفكتوري
كان العصر الفكتوري - أي الفترة الواقعة بين سنة 1830 وسنة 1900 - يوهم بالجمود في الأدب باعتبار الأدب فنا من الفنون الجميلة.
وقد سبق هذا العصر شاعران كان ينتظر منهما أن يبعثا نهضة جديدة في الأدب الإنجليزي هما «شيلي» الذي مات في 1822 و«بيرون» الذي مات في 1824. ولكنهما ماتا وكأنهما لم يعيشا. وإذا كان أحد يقرؤهما هذه الأيام فذلك يرجع إلى النهضة الحديثة التي ابتدأت حوالي 1890.
بدأ «شيلي» حياته الثائرة وهو طالب بتأليف كتاب في «ضرورة الإلحاد» وطرد من الجامعة لهذا السبب. ثم رحل إلى دوبلين عاصمة أيرلندا وهناك دعا إلى استقلال أيرلندا، ومات في سن الثلاثين.
أما «بيرون» فقد رحل إلى بلاد الإغريق يؤلف القصائد في الدفاع عن حريتها. وقصائده هي أناشيد الحرية يقرؤها القارئ إلى الآن بل يتغنى بها.
ولكن «شيلي» و«بيرون» كما قلنا، ماتا دون أن يتركا لهما خلفا للعصر الفكتوري يدعو إلى الحرية. ومضى هذا العصر على طوله كأنه عصر الظلام، يقرأ فيه الناس تاريخ «ماكولي» فيعجبون بأنفسهم وإمبراطوريتهم ومجدهم وعظمة برلمانهم. وهذا الماكولي يمكن للقارئ الآن أن يعرف حقيقة واحدة عنه تكفيه للحكم عليه، فقد ذكر عن الهندي أنه لا يقبل الرقي، وكاد يقول إنه جبل من طينة أخرى غير الطينة التي جبل منها الإنجليزي. وهذا هو الرأي الاستعماري الذي ما يزال يقول به «كبلنج» الشاعر. والقارئ المصري يعرف الآن أنه ليس «كبلنج» ولا «ماكولي» الإنجليزيان جديرين بأن يحل أحدهما سيور حذاء «غاندي» أو «نهرو» الهنديين.
فإلام يعزى هذا الجمود في العصر الفكتوري؟
يعزى إلى شيئين؛ أولهما: الروح المادي الذي انتشر بين الإنجليز بتدفق الثروة عليهم ونجاحهم في الاستعمار. والثاني: الروح الديني الذي ورثه الإنجليز عن النهضة الطهرية.
ففي العصر الفكتوري ازداد استعمال الآلات في المصانع، وكادت إنجلترا تختص بالصناعات الآلية، فكانت تغزل وتنسج، وتصنع المعادن، وتصدر مصنوعاتها إلى أوروبا باختراعها الآلات البخارية والاعتماد على الفحم. وقد أثرت إثراء فاحشا، وأخذ أسطولها يفتح لها الأسواق بالاستعمار، فكانت طوال العصر الفكتوري في نهضة اقتصادية بعثت فيها الروح المادي والإكبار من شأن الترف والنجاح المالي على نحو ما نرى الآن في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم بالدور الثاني للنهضة الاقتصادية الآلية. وهذا النظر المادي وما يعقبه من نجاح مالي هما أقوى العوامل لتثبيط الحركات الأدبية.
أما العامل الثاني فهو النهضة الدينية التي فشت في إنجلترا واتخذت شكلا خاصا يقرب من النزعة الوهابية في جزيرة العرب، نعني بها تلك الحركة الطهرية «بيوريتانزم» التي تدعو إلى التقشف وكراهة الفنون والابتعاد عن الملاهي. وهذه النهضة هي التي اخترعت الملابس السود الكابية للرجال، وهي التي ما زلنا نرى أثرها حتى في رجل مجدد مثل «برنارد شو» حين يمتنع عن تناول طعام اللحم أو الخمر، وحين يميل إلى الزهد. ولا يمكن للدراما أو القصة أن تنجح أمام هذا الروح الذي لا يجيز للمؤلف أن يترخص مثلا في رواية الحب والغرام.
Page inconnue
ونشأ من هذين العاملين - أي مادية النهضة الاقتصادية، وروح التقشف الديني - نزوع في الأمة إلى لزوم العرف وكراهة البدع؛ لأن المجتمع الإنجليزي كان مستقرا متفائلا، مؤمنا بالتقدم الذي أحدثه ارتقاء الآلات الصناعية وتوسع الصناعة والاستعمار فاستقر الأدب الإنجليزي لذلك وجمد.
ولكن في أواخر القرن التاسع عشر شرع المجتمع الإنجليزي يتقلقل بالتعطل والتفاوت الفاحش بين الغنى والفقر، وشرع الأدب يتقلقل أيضا. وأصبح القصصي، كي يتجنب النقد، يعمد إلى خياله ويبتعد عن الواقع ما استطاع ذلك. وحركة التجديد التي قامت عقب العصر الفكتوري هي في لبابها ثورة على هذا الأدب الخيالي الفكتوري السخيف الذي لم يعد ينطبق على حقائق الحياة.
وقد رأينا كيف أن الروح المادي قد أتلف ذهن المؤرخ «ماكولي» فجعله ينسى إنسانيته ويحتقر الهنود. ويبعثه زهو الثروة والنجاح المالي والتوسع الإمبراطوري على أن يؤلف تاريخا للإنجليز يرفعهم فيه إلى مقام الآلهة ويزهو فيه بعظمتهم.
وإلى جانب «ماكولي» نجد رجلا آخر يغمر تاريخ الملكة فكتوريا بشخصيته، هو «كارليل» الذي مات في 1881، فإن الروح الديني أتلف ذهنه كما أتلف الروح المادي ذهن «ماكولي»، فاستحال واعظا بعد أن كان يرجى منه أن يكون أديبا، وخاصة إذا اعتبرناه وقد بدأ حياته بتأليف كتاب عن الثورة الفرنسية (1889) وكان الطراز الأعلى للأدب عنده ذلك العظيم الألماني «جوته»، فإذا كان درس الثورة الفرنسية ورجال الذهن الذين هيئوا لها، ثم التتلمذ لجوته لا يخرج للناس أديبا عظيما، فلا بد أن يكون هناك عند «كارليل» حاجز صفيق لا تستطيع بصريته أن تنفذ منه. ولنضرب لذلك مثلا مقابلة بين «جوته» و«كارليل» في موضوع معين عالجه كل منهما.
فقد عالج «جوته» موضوع الواجب، وكيف يجب أن نعمل في الدنيا فلا نترك ساعة من حياتنا حتى نملأها بعمل مفيد. ولما مات ابنه الوحيد حزن عليه ولكنه لم يجزع ولم يستسلم للكمود والهمود، بل نفض عن نفسه الحزن وهب إلى العمل. ولكن ماذا كان يقصد إليه «جوته» من الواجب وكراهة التعطل؟
كان يقصد من ذلك إلى أن تزداد شخصيته عرفانا وقوة فيزداد بذلك حرية واستمتاعا. وكان يرى في الجهل تقييدا، فكان يدرس العلوم والآداب بروح الطالب. وكان يرى في الدعة والانكفاف تضييقا لشخصيته، فكان يختبر كل شيء، ولا يبالي وهو في الثمانين أن يعشق. ولا يمنعه درسه من أن يقوم بأعمال إدارية وسياسية. وقد اندغمت ثقافته في شخصه، فكان يقبل على الدنيا ويلتذ الحياة ويستغل ما كسب من اختبارات ومعارف كي تقوى شخصيته، وكأنه يرى نفسه مركزا أو محورا للكون، فنحن يجب علينا، في رأي «جوته»، أن نكبر من شأن العمل ونقبل عليه، ونؤدي واجبنا فيه كي نستكمل به شخصيتنا ونزيد استمتاعا بالدنيا وفهما لشئونها.
ولكن «كارليل» يدعو إلى الواجب لغاية أخرى انحدرت إليه من المبادئ الطهرية التي شاعت في إنجلترا وصبغتها بالروح الديني، فهو يقول:
نحن هنا على الأرض جنود نحارب في قطر غريب، ولسنا ندري الغاية المقصودة من هذه الحرب، ولسنا في حاجة لأن ندريها، وإنما علينا أن نؤدي ما يجب تأديته. وعلينا أن نؤديه كالجنود بالطاعة والشجاعة وطرب البطولة.
والفرق واضح بين الاثنين، «جوته» سيد أديب و«كارليل» عبد واعظ. وقد تستطيع أن تفضل «كارليل» على «جوته»، وأنت بذلك تفضل النهضة الدينية الإنكارية الانكفافية على النهضة الأدبية الإقدامية الاستمتاعية، كما يمكنك أن تقول إن الوهابيين في كراهتهم للفنون والترف والاستمتاع والالتذاذ، خير من الباريسيين الذين لا يبالون ما يفعلون مما يخالف التقاليد. وأنت حر في هذا النظر، ولكن يبقى بعد ذلك أن تعترف أن في باريس فنونا جميلة وأدبا رائعا، ولكن ليس في الرياض، عاصمة نجد، شيء من ذلك.
والطهريون في إنجلترا هم وهابيو الديانة المسيحية. وقد صبغوا الأدب الإنجليزي بصبغة التقشف في العصر الفكتوري.
Page inconnue
التفسير الاقتصادي للأدب الإنجليزي
الأدب ظاهرة اجتماعية مثل سائر الظواهر الاجتماعية كالحكومة والتعليم والعادات والأخلاق والعقائد. والمجتمع ينهض في كل زمان ومكان على أساس اقتصادي؛ أي إن الطراز الذي تتبعه الأمة في إنتاجها الزراعي والصناعي يستتبع طرازا معينا آخر من الاجتماع. ولذلك يختلف المجتمع في أمة زراعية من المجتمع في أمة صناعية. ويختلف أيضا الأدب بين أمتين.
بل هناك طرز مختلفة من الإنتاج الزراعي تحدث طرزا أخرى مختلفة من النظم الاجتماعية؛ ففي مصر زراعة تقارب النظام الإقطاعي في القرون الوسطى، وقد نشأ على هذا النظام مجتمع معين نراه على أوضحه في مجلس الشيوخ. وفي دنمركا نظام زراعي تعاوني قد أحدث مجتمعا ديمقراطيا. وفي الولايات المتحدة نظام زراعي آلي، يختلف كل الاختلاف من النظامين السابقين؛ ولذلك نستطيع أن نقول إن الزارع الأمريكي مدني وليس ريفيا.
والإنسان، بمحض عمله اليومي في الإنتاج والارتزاق، تتكون له عواطف، وتنشأ له من هذه العواطف عقائد وآراء وأخلاق، ولذلك فهو يعيش وفق إنتاجه؛ أي إن مجتمعه يتخذ طرازا معينا يتفق مع طراز الإنتاج. وبكلمة أخرى، ينبني الاجتماع على الاقتصاد.
وإذن نستطيع أن نفسر العقائد والآراء والمذاهب والأخلاق والآداب تفسيرا اقتصاديا في الأمة.
فالبيئة الزراعية في مصر، بما يفشو فيها من فاقة سوداء، ومن جهل يجعل الفلاح عاجزا عن علاج هذه الفاقة، تحمل فلاحنا على الاستسلام للقدر؛ أي لليأس، وأيضا على التمسك بعقائد جامدة، وأحيانا على المغامرة بالجريمة لمعالجة فقره.
والبيئة الزراعية التعاونية في دنمركا تحدث في الفلاح أو المزارع الدنمركي عواطف الحب والرضا بالمساواة وتنتهي في القمة بحكومة ديمقراطية تخدم الشعب.
والبيئة الزراعية الآلية في الولايات المتحدة الأمريكية تجعل المزارع رجلا «صناعيا» ينظر إلى عزبته (مزرعته) كما ينظر الثري إلى مصنعه في المدينة. وعواطفه وأخلاقه وعقائده وآراؤه جميعها لا تختلف مما نجد عند ساكن المدينة.
وإذا انتقلنا من البيئة الزراعية المصرية مثلا إلى بيئة صناعية، مصرية أيضا، وجدنا اختلافا في الأخلاق والعادات والآراء والعقائد بين أفراد البيئة الأولى وبين أفراد البيئة الثانية.
ذلك لأن حرفتنا التي نرتزق بها هي جزء كبير من معيشتنا. وهي تكيف معيشتنا. وكلنا يحس وهو في الريف أن حرفة الفلاح هي معيشته، وأن معيشته هي حرفته؛ لأن بيته، مثل حقله، هو مكان إنتاجه.
Page inconnue
والأدب يتبع أيضا بيئتنا الاجتماعية التي تنبني على أسس من البيئة الاقتصادية، فحيث تكون الزراعة على الأسلوب المصري وسيلة الإنتاج، يكون الأدب محافظا بل جامدا «جمود الفلاحين» ويكره التطور. ولا يؤمن الأديب بحرية المرأة، أو بحق الشعب في الحكم الديمقراطي، أو بسائر الآراء العصرية التي ترد إلينا من بيئات اجتماعية أوروبية نهضت على أنماط أخرى من النظم الاقتصادية. ولذلك نجد في مصر أن النزعة الكلاسية تغلب على الرومانتية، فنحن نكتب بلغة كلاسية اتباعية ونحن إلى القديم في الأدب، ونكتب عن أبطاله، ونكره الابتداع؛ لأن استقرار الوسط الزراعي عندنا قد انعكس في استقرار الآراء والعقائد في الأدباء عندنا. وقد كان المجتمع العربي أيام العباسيين زراعيا أيضا، فكان الأدب تقليديا، دينيا، قرويا (من حيث الاستسلام للقدر وضيق الآفاق) ولم تظهر فيه أي نزعات رومانتية ابتداعية إلا القليل جدا.
ثم انظر إلى الأدب في أوروبا وأمريكا الآن، فإن المجتمعات التي تعيش في طرز من الإنتاج الصناعي قد استحدثت طرزا من الثقافة العلمية تلائم هذا الإنتاج. هذه الثقافة العلمية التي لا يكاد يحتاج إليها وسط زراعي. ولذلك تجترئ شعوب هاتين القارتين وتقتحم المستقبل ولا تستسلم للقدر. وقد أحدثت الأزمات الاقتصادية التي نشأت من الإنتاج الآلي للمصانع أزمات نفسية انعكس أثرها في الأدب الأوروبي الأمريكي، فكان التقلقل والدعوة إلى آراء وعقائد جديدة بشأن الحكومة، والمرأة، والعامل، والفضيلة، والرذيلة، والدين.
وعندما تنتقل الأمة من الزراعة اليدوية إلى الصناعة الآلية، كما حدث في إنجلترا في القرن التاسع عشر، أو بالأحرى في أواخره، نجد صراعا بين الأدباء التقليديين (الزراعيين) وبين الأدباء المجددين الثائرين (الصناعيين)؛ إذ يدعو الأولون إلى الاستمساك بالقديم في قواعد اللغة والتفكير، والإيمان، والعادات الاجتماعية، ويدعو الثانون إلى الابتداع والتغيير في كل شيء تقريبا. وتنتهي الغلبة بالطبع للثانين؛ لأن هؤلاء الثائرين يدعون إلى مقاييس جديدة للأخلاق، وإلى حريات جديدة للمجتمع. وكلتاهما، المقاييس والحريات، إنما دعا إليها تغير الإنتاج من الزراعة إلى الصناعة. بل من الصناعات اليدوية الصغيرة إلى الإنتاج الآلي العظيم.
وبين هذين الفريقين يقف فريق يبالغ في جموده، أو هو يفر من الواقع فيرتد إلى التاريخ القديم وكأنه يسير القهقرى نحو المستقبل. ونحن في مصر نرى كثيرا من أدبائنا قد يئسوا من مواجهة الحاضر والمستقبل ووجدوا في الحضارة العصرية ما يبعثهم على القلق ويثير فيهم المخاوف، فعمدوا إلى تاريخ العرب قبل ألف سنة يؤلفون عن أبطالهم ويدعون إلى التمثل بهم. وقد رأى الإنجليز مثل ذلك أيضا في كل من «تشسترتون» و«بيلوك» و«أرسكين» الذين دعوا إلى العودة إلى القرون الوسطى، ولكنهم بالطبع فشلوا وتغلب عليهم أولئك الأدباء الذين بصروا بالقوات الاقتصادية الجديدة التي غيرت المجتمع ودعت إلى أخلاق جديدة تلائم هذا التغير.
الرجعيون الثائرون
ساد الوسط الاجتماعي في القرن التاسع عشر في إنجلترا روح مادي يدفع بالناس إلى التكالب على جمع المال. وقد بعث هذا الروح انتشار الآلات وقيامها مقام الأيدي، فسهل بذلك جمع المال بتراكم الأرباح، وقيام المصنع الكبير الآلي مقام عشرات بل مئات المصانع الصغيرة اليدوية.
فإلى القرن التاسع عشر كانت الصناعات لا تزال في أيدي الصانعين، كل صانع يستقل بمصنعه، فهو نفسه عامل وصانع، فهناك طبقة كبيرة من العمال لا تملك سوى الأجور، وطبقة أخرى صغيرة من الممولين تملك المصانع الضخمة. وكانت الصناعات أشبه أو أقرب الأشياء إلى الفنون كما هو الحال إلى الآن في النجارة؛ فالنجار - المصري على الأقل - هو فنان كما هو صانع، يتأنق ويلتذ عمله وينشد منه جمالا ومصلحة. ولكن العامل في المصنع الآلي الكبير الذي يضم بين جدرانه نحو مائة أو ألف عامل لا يمكنه أن يمزج بين الفن والصناعة؛ لأنه يختص بجزء من العمل، كأن يقنع بصنع الكوتشوك من الأتومبيل، أو بدهنه بالطلاء، أو فرشه وتنجيد مقاعده أو نحو ذلك. فإذا قابلنا بينه وبين النجار ألفينا هذا الثاني خالقا يبتكر ويخرج من بين يديه شيئا تاما وله مادة أصلية، فما يزال به حتى يخرجه خلقا سويا قد انطبع بشخصيته، فالعامل هنا فنان يحب عمله ويلتذه وهو يرقى به. ولكن العامل في المصنع الكبير لا يصنع سوى جزء صغير من السلعة التي يقتسم صنعها العمال جميعا، فهو عامل لا أقل ولا أكثر، وهو أشبه بالآلة منه بالإنسان.
روسكين.
ولم تكن الصناعة اليدوية تؤذن بتراكم المال في أيد قليلة كما هي الحال الآن في الصناعات الآلية التي جمعت رءوس الأموال في طبقة من الممولين وجعلت جميع الصناع عمالا مأجورين.
وكان القرن التاسع عشر، أو العصر الفكتوري، في إنجلترا قرن الانتقال من الصناعات اليدوية إلى الصناعات الآلية. وهذا الانتقال نجده الآن على أشده يوشك أن يتم ويبلغ أوجه في الولايات المتحدة التي يصنع أحد مصانعها نحو عشرة آلاف أتومبيل في اليوم. وهذه الولايات المتحدة هي الرائدة الآن للعالم كله في هذا الاتجاه وفي إيجاد حضارة صناعية تمحو ما قبلها من حضارات زراعية أو يدوية.
Page inconnue
وفي كل انقلاب نجد فريقين، فريق السلفيين الآسفين المتشبثين بالماضي، ونحن نسميهم رجعيين أو جامدين إذا كنا نكرههم، وفريق الراغبين في الحال الجديدة الداعين إليها، ونحن نسميهم المجددين إذا كنا نحبهم. أما إذا كنا نكرههم، فإننا عادة نتهمهم بالإلحاد، والإباحية، والمادية، والهوس.
وهذا هو ما وقع في إنجلترا في أواخر القرن الماضي، فقد ظهر أدباء يدعون إلى النزوع إلى التجديد وآخرون يدعون إلى الاستمساك بالقديم. ونحن هنا نقصر الكلام على اثنين من عظماء الرجعية في إنجلترا هما «جون روسكين» و«وليم موريس».
وكلاهما أفاد بثورته على روح التجديد في القرن التاسع عشر؛ لأنه أوضح أضرارا كادت تخفى على الناس من حيث انتشار الروح المادي وتغلب الصناعة على الفن، وإيثار السرعة على الإتقان. وقد أخذ كل منهما في دعوة الناس إلى إيثار المصنوعات اليدوية على المصنوعات الآلية، وكراهة العلم وتقبيح النهضة الأوروبية العلمية وامتداح القرون الوسطى. وأخلص كل منهما لدعوته إخلاصا عظيما هو السبب الأساسي للفائدة التي جناها وما يزال يجنيها الناس من مؤلفاتهما بل من حياتيهما.
لما بلغ «روسكين» شبابه وجد في لندن جماعة تدعى «أخوية الداعين إلى ما قبل رفائيل» وهم جماعة من الرسامين عمدوا إلى النهضة الأوروبية فقبحوها، وطعنوا في العلم، ودعوا الفنانين إلى إيثار الروح الديني للقرون الوسطى. ولم يأتوا بطائل فتشتتوا، ولكن دعوتهم كانت بذرة لقح بها ذهن «روسكين».
وقد لا يكون بين كتاب الإنجليز من أحسن الكتابة بهذه اللغة مثل هذا الرجعي العظيم «روسكين» فقد جمع ما في اللغة من رقة وحلاوة وجمال فحواها في أسلوبه. وما تقول في رجل يصفه عدو له بالجنون (هو ماكس نورداو) ثم يعترف له بأنه يمكنه أن يصف السحاب في خمسين أو مائة صفحة يقرؤها القارئ فلا يسأمها بل يطلب المزيد.
ترك «روسكين» بلاده ورحل إلى البندقية، مدينة القرون الوسطى، وهناك ألف كتابه «أحجار البندقية» الذي يقول فيه: «إن البناء القوطي في البندقية هو ثمرة الإيمان الطاهر والفضيلة العائلية.»
وأيضا: «إن البناء الحسن هو التعبير الظاهر عن الحال السليمة للمزاج وعن الشعور الأخلاقي.»
ثم يمضي بعد ذلك في نثر رائع فخم فيشرح جميع الأعمال الفنية مدة النهضة؛ أي عقب القرون الوسطى، ويصفها بأنها ثمرة الغدر وفساد الأسرة وسقوط الأخلاق.
وهذا كله هراء بليغ، فإن البناء أبعد الأشياء عن الدلالة على الأخلاق. وهذه مباني المماليك في القاهرة، فإنها من الفخامة والجمال بحيث تناقض الحياة الإجرامية التي عاشها كثير من هؤلاء. وتاريخ البندقية التي ما تزال قصورها القديمة قائمة، هو تاريخ الدسائس الدموية، والسفالات العظيمة التي ارتكبها أصحاب هذه القصور. وإنما كره «روسكين» النهضة لأنها كانت الأصل في الروح العلمي الذي ساد أوروبا وأخذ مكان الروح الديني. وكان رجلا متدينا لا يطيق النزعات الجديدة التي تكتسح كل ما أمامها، فلم يكن في وسعه سوى السباب. وهو سباب أنيق يسمع له الناس؛ لأنه يتأنق في عبارته، ثم يغضون لهذا التأنق عن سخافاته، فلقد بلغ به السخف ذات مرة أن علل الكوارث التي تقع فيها بريطانيا بسخط الله عليها.
ولكن «روسكين» كان مخلصا في دعايته، يحض الناس على التمسك بالدين، وكراهة المصنوعات الآلية، والرجوع إلى الصناعة اليدوية، والابتعاد من الروح المادي. ورث نحو 150000 جنيه من والديه فحرمها على نفسه ولم ينفق منها مليما، ووقفها على الأعمال الخيرية وعاش قانعا بما يجنيه من قلمه. واتجه نحو الاشتراكية، أو بالأحرى الميول الاشتراكية، فأسس كليات للعمال في الجامعات، ورفع من شأن العمل حتى كان يأخذ الطلبة من أبناء الأغنياء فيؤلف منهم فرقا لتعبيد الطرق.
Page inconnue
ومهما قلنا في «روسكين» وانتقصنا من قيمة الحملة التي حملها على الروح الحديث فإننا يجب أن نعترف بأنه يحسن التفكير حين ينتقص لنا من شأن السرعة. وإننا مثلا عندما نركب القطار نستفيد سرعة فقط، بينما نحرم فوائد السفر والتفرج التي نجنيها من الجواد أو من العربة التي تجرها الجياد، فهنا شيء للتفكير. وخاصة في هذه الأيام حيث أخذت الطائرة مكان الأتومبيل والقطار، وحيث تنذرنا بالسفر في السكائك وليس على الأرض.
أما «وليم موريس» الرجعى العظيم الآخر، فإن جهاده أبقى وأثره أعظم، فإنه لقح الصناعات بالفنون. وكان هو و«روسكين» سواء في كراهة الآلات، ولكنه كان يمتاز على «روسكين» بأنه يرى الواقع ويسلم به ويقنع بإصلاحه؛ فقد كان في ذات نفسه، مثلا، يحب خط اليد ويؤثره على حروف الطبع ولكنه كان يرى آلة الطباعة شيئا واقعا لا فرار منه، فكان يقنع بأن يكتب حروفا جميلة يسبكها ويقدمها لآلات الطبع فتتحسن الطباعة. وكان يرى أن الروح المادي يطغى فيحمل البنائين على أن يبنوا المنازل من أسخف المواد ويزينونها بالبهرج من الأثاث، فصار هو نفسه يصنع الأثاث. وألف شركة لهذه الغاية لا تزال حية إلى الآن، غايتها الجمع بين الفن والصناعة، أو الجمال والتجارة. ولهذا الرجعى أثره الجميل في صناعة الآنية والسجاجيد وورق الجدران.
وحارب الروح المادي بأن صار اشتراكيا طوبويا، يؤلف بل يبيع بنفسه الكتب والرسائل الاشتراكية على قوارع الطرق. والاشتراكية الطوبوية هي اشتراكية الأماني والأحلام التي سبقت الاشتراكية العلمية الماركسية التي تنهض على وفرة الإنتاج الآلي.
والآلة مع كل ذلك منتصرة، تطغى علينا وتسوقنا بل تدفعنا دفعا عنيفا لا ينجح في وقفه مثل «روسكين» أو «موريس» اللذين قاوما تيار التطور عبثا، ولكنهما نجحا في تنبيهنا إلى وجوب العناية بالفن وتلقيح الصناعات الآلية به.
بواعث التجديد
تبعث على التجديد بواعث كثيرة، ويصيب التجديد ميادين النشاط البشري جميعها سواء أكانت ثقافية أم حضارية.
فقد يهتدي الذهن البشري إلى فكرة جديدة تكشف عن المغزى لطائفة من المعارف بحيث تجعل المعرفة الميتة ثقافة، كفكرة التطور مثلا اهتدى إليها «داروين» فكانت وما تزال نظاما انتظمت به المعارف البيولوجية، فمن هنا يعد «داروين» مجددا في البيولوجيا كما يعد «فرويد» مجددا في السيكولوجيا؛ لأنه اهتدى إلى فكرة «الكامنة» أو العقل الكامن. أو كما يعد «ولسون» مجددا في السياسة لأنه اهتدى إلى فكرة عصبة الأمم.
ويصيب التجديد الحضارة كما يصيب الثقافة، فحياتنا الحضارية في مصر قد تجددت في نصف القرن الماضي بأكثر مما تجددت ثقافتنا؛ وذلك لأننا اصطدمنا بظروف جديدة اضطرتنا إلى اتخاذ الحضارة الغربية والتسليم بها، فنحن ننتقل بالقطار والأتومبيل، دون الجمل أو الحمار. ونحن نؤسس المؤسسات في التعليم والقضاء والبريد والإدارة على غرار الأنظمة الأوروبية دون الأنظمة التي ورثناها من العرب أو من الشرق. ونحن في كل ذلك مجددون لا يكاد يوجد بيننا رجعي يقول بأفضلية الجمل على القطار، أو خطة الالتزام القديمة في جباية الضرائب على الخطة الحاضرة في فرض الضرائب.
وأعظم ما يبعث على التجديد هو تبدل الوسط، فإذا فرضنا مثلا أن جزيرة العرب قد حدث لها تبدل فجائي فانتقلت من اليبس والجفاف إلى البلل والمطر، واستحالت صحراؤها القاحلة أرضا زراعية، فإننا ننتظر من العرب عندئذ أن يقلعوا من البداوة والرحلة ويأخذوا بأساليب الزراعة والإقامة. ومن يفعل منهم ذلك يعد مجددا ومن يجمد ويلزم البداوة يعد رجعيا لا يستجيب للوسط الجديد.
فالثقافة التجديدية في مثل هذه الحال يجب أن تدعو إلى الأخذ بالزراعة وتعلم أساليبها والنزول على أخلاقها، وهجران البداوة والإقلاع عما بقي منها في المعيشة والأخلاق.
Page inconnue
وقد حدث في القرن التاسع عشر في إنجلترا ما يشبه هذا الانتقال، فإن الحضارة الزراعية أخذت تتراجع وتتقلص بينما الحضارة الصناعية كانت تأخذ في التوسع والغارة عليها. وهذه الحضارة الصناعية هي حضارة الآلات، وما تستتبع من تبدل في المعيشة والأخلاق. وهذا الانتقال كان يدق على أفهام الناس، لا عامتهم فقط، بل خاصتهم أيضا. وكان هناك قليلون يفهمونه ويدركون مغزاه ويكرهونه ويقاومونه مثل «جون روسكين» و«وليم موريس»؛ إذ إن كليهما دعا إلى ترك الآلات والرجوع بالناس إلى العصور الوسطى والقناعة بالعمل اليدوي.
وقد قلنا إن هذه الحضارة الصناعية كانت تغير على الحضارة الزراعية مدة القرن التاسع عشر. وهي ما تزال إلى الآن في هذه الغارة لما تتم لنفسها النصر، فالدعوة التجديدية القائمة الآن في إنجلترا، كما نفهمها من مؤلفات «برنارد شو» أو «ه. ج. ولز» أو كما نراها أحيانا على أبلغها في مؤلفات «برتراند روسل» تدعو إلى أن نستبدل من ثقافتنا بمثل ما استبدلنا من حضارتنا؛ لأن أحماض العلم قد أذابت العقائد القديمة وزعزعت الاستتباب النفسي الذي كان يسود في العصر الفكتوري، فيجب لذلك أن نأخذ بمنطق جديد يتفق ومبادئ الحضارة الجديدة، ولا نرسف في أغلال التقاليد وندفن عقولنا في الماضي. وهؤلاء الكتاب وكثير غيرهم قد جعلوا من أدبهم وسيلة لأن نعمد إلى معيشتنا وأخلاقنا فننفتح فيهما بما يوافق العصر الجديد عصر العلم والآلات والمادية.
ولننظر الآن في الوسط الزراعي وما يقتضيه. ثم نعود إلى الوسط الصناعي فنبحث وجوه الفرق بينهما وهي الوجوه التي أخذ أدباء إنجلترا المجددون في شرحها وحث الإنجليز على اعتمادها دون سواها.
فقد كان الناس إلى القرن التاسع عشر يعيشون على مبادئ الحضارة الزراعية، وكانت الصناعات يدوية، العامل فيها أشبه بالمالك منه بالأجير، والمدن صغيرة كأنها القرى، والانتقال بطيء لا يساعد على انتشار المصنوعات، وتراكم رءوس الأموال في بقع معينة هي المصانع الحديثة والمدن الكبيرة. ولمثل هذه الحضارة أخلاق تلازمها هي الأخلاق التي ما زلنا نراها عندنا مثلا حيث لا يجوز للمرأة أن تستقل وتعمل لحسابها الخاص، وحيث الإيمان بالقضاء والقدر على أقواه، وحيث الديمقراطية اسم بلا مسمى، وحيث نرى العقائد والتقاليد تأخذ مكان الرأي والاستنباط، والنزول على العرف مكان الاستقلال والانفراد. وحيث تحترم الرابطة العائلية وتوضع فوق كل اعتبار، وحيث للدين الحرمة الأولى في تفكير المفكرين.
كانت هذه حال إنجلترا في أوائل القرن التاسع عشر. ولكن رويدا رويدا أخذت الصناعة تطارد الزراعة، والمدن تجذب إليها السكان فيهجرون القرى والريف، والصناعات اليدوية تموت، ويحتشد العمال في المصانع الكبيرة. وأخلاقنا هي ثمرة الوسط الذي نعيش فيه، وهي تبع للأحوال الاقتصادية التي تلابسنا. ومن هنا نشأ النزاع بين الأخلاق التقليدية القديمة وبين الوسط الصناعي الجديد. ومن هنا ظهر التصادم بين المحافظين الذين كانوا يرغبون في الأخلاق القديمة، فيطلبون من المرأة أن تكون زوجة فقط، ومن الأولاد طاعة الآباء والارتباط بهم، ومن الفقراء القناعة بالفقر، ومن المفكرين النزول على العقائد الدينية والتسليم، وبين المجددين الذين كانوا يرغبون في أخلاق جديدة توافق البيئة الصناعية الجديدة. وهي أخلاق تدعو المرأة أن تكون لها شخصية مستقلة تعيش لنفسها أولا فترقى وتستمتع، ثم إذا أرادت بعد ذلك فلتكن لزوجها وأولادها وأمتها. كما تدعو العامل أن يواجه الوسط الصناعي الجديد بنظام جديد يحقق له الاشتراك في الحكم والإنتاج هو النظام الاشتراكي ، بل كما تدعو المفكرين إلى النزول على مبادئ العلم والتسليم بنظرياته دون التسليم بالعقائد الموروثة أو العرف الاجتماعي. وإذن احتاج المجددون إلى المصارحة وإظهار الجمهور البريطاني على عيوب العرف والأخلاق القديمة والدعوة للأخلاق الجديدة. وأصبح الأدب الإنجليزي اجتماعيا في نزعته، يحاول الأديب أن يبتكر عن سبيله القيم الجديدة للأخلاق كي يلائم بين البيئة الصناعية وبين معايش الناس.
هذه هي المهمة التي أخذ الأدباء الإنجليز في تأديتها للجمهور الإنجليزي، وما زالوا في سبيل التأدية إلى الآن.
بعض الأجانب في الأدب الإنجليزي
تجمع بين الأقطار الأوروبية جامعة من الحضارة والثقافة. وهي جامعة تربطها في العموميات من المزاج والنزعة، إذ هي تشترك في تراث الحضارة الرومانية والثقافة اللاتينية والإغريقية وقد كانت جميعها أيام القرون الوسطى أمة واحدة تدين بالمسيحية وتكتب باللاتينية، وإن تعدد الأمراء الحاكمون.
ولكن لكل واحد من هذه الأقطار سماته الخاصة التي تميزه من الأقطار الأخرى في حضارته وثقافته، فالنزعات السائدة الآن في الأدب الفرنسي تختلف جد الاختلاف عن النزعات السائدة في الأدب الإنجليزي. ويشتد هذا الاختلاف أحيانا حتى لنسمع من بعض المصريين الذين تثقفوا بالأدب الفرنسي أن الإنجليز لا يعرفون الأدب. وهو إنما يزعم ذلك لبعد الشقة واختلاف العطر والنكهة بين الأدبين، ولأنه يجد في أدب الإنجليز غير ما ألف وتعود في أدب الفرنسيين. وليس هذا الاختلاف غريبا إذ هو يدل على الحيوية والاستقلال عند الأمم الأوروبية المختلفة، من حيث إن كل أمة تنزع إلى مثلياتها وتتخذ طرقا خاصة دون أن تأبه لما عند غيرها من هذه المثل والطرق فتحتذيها.
ولكن التفاعل لا ينقطع مع ذلك، فإن الأفكار تتلاقى وتتصارع ويحدث منها الامتزاج أو التنافر. وقد تأثر الأدب الإنجليزي لهذا السبب بالنزعات الأدبية في أوروبا، وإن كان هو في الأرجح أقل الآداب الأوروبية تأثرا بغيره. ونحن نجد في الأدب الجديد ثلاثة رجال لهم الأثر الأكبر في التفكير عامة وفي الأدب خاصة عند الإنجليز.
Page inconnue
وأول هؤلاء هو «برجسون» الفرنسي، فإن له أثرا واضحا في تجديد الأفكار الدينية والمذاهب الداروينية، فقد استطاع أن يؤثر في العالم الأدبي، وكادت طعنته أن تكون الطعنة النجلاء التي وقف دونها المادي حائرا، إن لم نقل مهزوما. وإيمان «برنارد شو» يكاد يكون كله منقولا عن «برجسون» الذي يقول إن الحياة هي الخالقة، وإنها في صراع مستمر مع المادة، وإنها دائبة في التطور. وإذا كان هناك شيء من التجديد الديني الغيبي الآن، أو إذا كان ينتظر شيء منه في المستقبل، فإنه لن يعدو هذه الأفكار البرجسونية.
وثاني هؤلاء الأجانب هو «فرويد» النمساوي فقد انسلت نظرياته إلى الأدب الإنجليزي، وأصبح «العقل الكامن» موضوع الأدباء الجدد مثل «لورنس» و«جويس» وغيرهما. وعماد الأدب الجديد الذي أعقب الحرب الكبرى هو التحليل النفسي والعقل الكامن.
أما ثالث هؤلاء فهو «إبسن» وهو بلا شك أعمقهم أثرا في الأدب الإنجليزي بل الأدب الأوروبي، وخاصة أدب الدراما، فإن «برنارد شو» نشأ عليه وشدا منه وبنى لنفسه شهرته الأولى على طريقته. والدرامة الإنجليزية كلها تعترف لإبسن بالأثر الكبير وتخطو في سبيله، وتتخذ طريقته كلما استطاعت ذلك؛ ولذلك يحسن بنا هنا أن نلم بطرف من حياته ومؤلفاته.
كان «إبسن» كاتبا نروجيا، التحق بالتمثيل واحترف إدارة أحد المسارح، ثم رحل عن بلاده إلى ألمانيا حيث عاش سائر عمره يؤلف للمسرح النروجي، فتترجم جميع مؤلفاته إلى اللغات الحية في أوروبا، فتبعث الحياة للمسارح وتجعل الدرامة موضوع المناقشة بين الأدباء، بل بين الصحفيين والجمهور. وقد استطاع «إبسن» أن يجعل المسرح بدراماته ميدانا للأفكار والآراء، لأنه خص الدرامة بغاية لم تكن تعرفها، هي البحث الاجتماعي ونقد العادات والأخلاق والسياسة. وقد سبق أن تناول «موليير» هذه الأبحاث في فرنسا في القرن الثامن عشر، ولكن الذين خلفوه في فرنسا، بل في أوروبا، لم يستأنفوا عمله ولم يتجهوا نحو غايته فبقيت الدرامة راكدة لا تنتعش، قد انقطعت عن الحياة أو كادت، فلما جاء «إبسن» أعاد لها هذه الصلة وجعل المسرح ميدانا لنقد المعايش وبحث الأخلاق. وكانت كل دراما من دراماته «مسألة» اجتماعية تحتاج إلى الحل.
والدرامة الإبسنية هي قصة عائلية، تحتوي مشكلة وتنتهي بالرجاء أو اليأس. وغاية المؤلف في جميع دراماته أن يكون لأبطاله «شخصية»، فهم ينتحرون إذا لم يستطيعوا تحقيق هذه الشخصية أو هم يتركون لهذه الغاية أهلهم وأولادهم.
ولننظر في إحدى دراماته نظرة إلمام كي نقف منها على الغاية التي رمى إليها؛ ففي «بيت عروس» نجد زوجة تحب زوجها حبا عميقا، ويبدو لها من مسلك زوجها أنه هو أيضا يحبها. وقد دفعها هذا الحب إلى أن ترتكب جريمة التزوير كي تحصل على مبلغ من المال تقدمه لزوجها حتى يرحل عن المدينة ويستطيع التعالج في جو أوفق. وتنوسيت هذه الجريمة التي لم يكن زوجها يعرف عنها شيئا، ولكن شخصا آخر كان يعرف هذا السر المؤلم وقد استطاع أن يهدد به هذه الزوجة.
ويقف الزوج على السر فيغضب، وهو في غضبه لا يذكر سوى نفسه والعار الذي سيلحقه من فضح هذه الجريمة التي ارتكبتها زوجته. يذكر نفسه وكرامته وشرفه ولا يذكر شيئا من ذلك عن زوجته. ويريد «إبسن» أن يقول إن الزوجة هي «عروس» يلعب بها الزوج وأنها ليست رفيقته. وقد يكون في تصويره بعض المبالغة، ولكن ليس هناك شك أيضا في أنه قد وضع للمتفرجين مسألة تستحق المناقشة والحل، وهي:
هل يجب على المرأة أن تكون إنسانا أولا، أو يجب عليها قبل كل شيء أن تكون زوجة وأما؟
هذه هي المسألة التي يعمد «إبسن» إليها فيحلها، أو يوضحها، في جرأة صارخة موجعة. ومن الحوار التالي يتضح للقارئ موقف الزوجين، بل موقف الحياة العائلية بين القرنين؛ القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
وهذا الحوار يأتي عقب اكتشاف الزوج لجريمة التزوير التي ارتكبتها زوجته وغضبه لكرامته، ثم ارتياحه إلى أن ذلك الشخص الذي هددهما بالفضيحة قد أرسل خطابا يرجع فيه عن عزمه على فضح هذه الجريمة، وعودة الزوج «هلمر» إلى مصالحة زوجته. ولكن الزوجة «نورا» تترك الغرفة وتعود وقد استعدت لترك المنزل:
Page inconnue
هلمر :
ما هذا؟
نورا :
لقد مضى على زواجنا ثماني سنوات. ألا يخطر ببالك أننا نحن الاثنين، زوجا وزوجة، نتحدث لأول مرة حديثا جديا؟
هلمر :
ماذا تعنين بالحديث الجدي؟
نورا :
في هذه السنوات الثمان، بل قبل ذلك منذ تعارفنا، لم نتبادل الحديث عن موضوع جدي.
هلمر :
وهل كان من الممكن أن أخبرك كل يوم عن همومي التي لم تكوني تستطيعين مساعدتي على تحملها؟
Page inconnue
نورا :
لا أتكلم عن هموم العمل، إنما أعني أننا لم نقعد معا مرة كي نتحدث في جد ونصل إلى الأصول والأعماق.
هلمر :
ولكن يا عزيزتي نورا، ماذا كنت تفيدين من مثل هذا الحديث؟
نورا :
هذا إذن هو ما ظننت فيك؛ أنك لم تستطع قط أن تفهمني. هلمر، لقد ظلمت كثيرا، ظلمني أبي أولا، ثم ظلمتني أنت بعده.
هلمر :
ماذا تقولين؟ نحن الاثنان؟ نحن الذين أحببناك أكثر من أي إنسان؟
نورا (تهز رأسها) :
أنت لم تحبني قط. وكل ما عندك أنك يلذ لك أن تظن أنك تحبني.
Page inconnue
هلمر :
ما هذا الذي أسمعه منك يا نورا؟
نورا :
هذا هو الحق أقوله لك. لما كنت ببيتنا، عند أبي، كان يخبرني عن آرائه في الأشياء فآخذها عنه. وكنت إذا اختلفت معه أنكرت أن لي رأيا آخر خشية أن يكره مني أن يكون لي رأي. وكان يدعوني باسم «العروس» وكان يلعب معي كما كنت أنا ألعب وأنا طفلة مع عروسي. وعندما جئت كي أسكن في دارك ...
هلمر :
ما أغرب هذا التعبير الذي تعبرين به عن زواجنا!
نورا :
أعني أني أخذت من يدي أبي إلى يديك. وأنت شرعت ترتب كل شيء كما تهوى وكما يشاء ذوقك. وأخذت أنا عنك هذا الذوق، أو ادعيت أني أهوى ما تهوى، ولست أعرف أيهما فعلت، أو لعلني فعلت هذه المرة، وذاك مرة أخرى. وعندما أراجع نفسي أراني كأني قد عشت هنا كأني امرأة مسكينة لا أملك شيئا. أجل، لقد عشت أؤدي لك الحيل لأنك ترغب في ذلك. لقد جنيت أنت وأبي علي. وإليكما أنتما الاثنين أعزو هذه الحال، وهي أن حياتي هباء لا قيمة لها.
هلمر :
أي شيء أبعد عن العقل من هذا الكلام؟ ما أقل شكرانك، ألم تكوني سعيدة هنا؟
Page inconnue