وقد حدث في القرن التاسع عشر في إنجلترا ما يشبه هذا الانتقال، فإن الحضارة الزراعية أخذت تتراجع وتتقلص بينما الحضارة الصناعية كانت تأخذ في التوسع والغارة عليها. وهذه الحضارة الصناعية هي حضارة الآلات، وما تستتبع من تبدل في المعيشة والأخلاق. وهذا الانتقال كان يدق على أفهام الناس، لا عامتهم فقط، بل خاصتهم أيضا. وكان هناك قليلون يفهمونه ويدركون مغزاه ويكرهونه ويقاومونه مثل «جون روسكين» و«وليم موريس»؛ إذ إن كليهما دعا إلى ترك الآلات والرجوع بالناس إلى العصور الوسطى والقناعة بالعمل اليدوي.
وقد قلنا إن هذه الحضارة الصناعية كانت تغير على الحضارة الزراعية مدة القرن التاسع عشر. وهي ما تزال إلى الآن في هذه الغارة لما تتم لنفسها النصر، فالدعوة التجديدية القائمة الآن في إنجلترا، كما نفهمها من مؤلفات «برنارد شو» أو «ه. ج. ولز» أو كما نراها أحيانا على أبلغها في مؤلفات «برتراند روسل» تدعو إلى أن نستبدل من ثقافتنا بمثل ما استبدلنا من حضارتنا؛ لأن أحماض العلم قد أذابت العقائد القديمة وزعزعت الاستتباب النفسي الذي كان يسود في العصر الفكتوري، فيجب لذلك أن نأخذ بمنطق جديد يتفق ومبادئ الحضارة الجديدة، ولا نرسف في أغلال التقاليد وندفن عقولنا في الماضي. وهؤلاء الكتاب وكثير غيرهم قد جعلوا من أدبهم وسيلة لأن نعمد إلى معيشتنا وأخلاقنا فننفتح فيهما بما يوافق العصر الجديد عصر العلم والآلات والمادية.
ولننظر الآن في الوسط الزراعي وما يقتضيه. ثم نعود إلى الوسط الصناعي فنبحث وجوه الفرق بينهما وهي الوجوه التي أخذ أدباء إنجلترا المجددون في شرحها وحث الإنجليز على اعتمادها دون سواها.
فقد كان الناس إلى القرن التاسع عشر يعيشون على مبادئ الحضارة الزراعية، وكانت الصناعات يدوية، العامل فيها أشبه بالمالك منه بالأجير، والمدن صغيرة كأنها القرى، والانتقال بطيء لا يساعد على انتشار المصنوعات، وتراكم رءوس الأموال في بقع معينة هي المصانع الحديثة والمدن الكبيرة. ولمثل هذه الحضارة أخلاق تلازمها هي الأخلاق التي ما زلنا نراها عندنا مثلا حيث لا يجوز للمرأة أن تستقل وتعمل لحسابها الخاص، وحيث الإيمان بالقضاء والقدر على أقواه، وحيث الديمقراطية اسم بلا مسمى، وحيث نرى العقائد والتقاليد تأخذ مكان الرأي والاستنباط، والنزول على العرف مكان الاستقلال والانفراد. وحيث تحترم الرابطة العائلية وتوضع فوق كل اعتبار، وحيث للدين الحرمة الأولى في تفكير المفكرين.
كانت هذه حال إنجلترا في أوائل القرن التاسع عشر. ولكن رويدا رويدا أخذت الصناعة تطارد الزراعة، والمدن تجذب إليها السكان فيهجرون القرى والريف، والصناعات اليدوية تموت، ويحتشد العمال في المصانع الكبيرة. وأخلاقنا هي ثمرة الوسط الذي نعيش فيه، وهي تبع للأحوال الاقتصادية التي تلابسنا. ومن هنا نشأ النزاع بين الأخلاق التقليدية القديمة وبين الوسط الصناعي الجديد. ومن هنا ظهر التصادم بين المحافظين الذين كانوا يرغبون في الأخلاق القديمة، فيطلبون من المرأة أن تكون زوجة فقط، ومن الأولاد طاعة الآباء والارتباط بهم، ومن الفقراء القناعة بالفقر، ومن المفكرين النزول على العقائد الدينية والتسليم، وبين المجددين الذين كانوا يرغبون في أخلاق جديدة توافق البيئة الصناعية الجديدة. وهي أخلاق تدعو المرأة أن تكون لها شخصية مستقلة تعيش لنفسها أولا فترقى وتستمتع، ثم إذا أرادت بعد ذلك فلتكن لزوجها وأولادها وأمتها. كما تدعو العامل أن يواجه الوسط الصناعي الجديد بنظام جديد يحقق له الاشتراك في الحكم والإنتاج هو النظام الاشتراكي ، بل كما تدعو المفكرين إلى النزول على مبادئ العلم والتسليم بنظرياته دون التسليم بالعقائد الموروثة أو العرف الاجتماعي. وإذن احتاج المجددون إلى المصارحة وإظهار الجمهور البريطاني على عيوب العرف والأخلاق القديمة والدعوة للأخلاق الجديدة. وأصبح الأدب الإنجليزي اجتماعيا في نزعته، يحاول الأديب أن يبتكر عن سبيله القيم الجديدة للأخلاق كي يلائم بين البيئة الصناعية وبين معايش الناس.
هذه هي المهمة التي أخذ الأدباء الإنجليز في تأديتها للجمهور الإنجليزي، وما زالوا في سبيل التأدية إلى الآن.
بعض الأجانب في الأدب الإنجليزي
تجمع بين الأقطار الأوروبية جامعة من الحضارة والثقافة. وهي جامعة تربطها في العموميات من المزاج والنزعة، إذ هي تشترك في تراث الحضارة الرومانية والثقافة اللاتينية والإغريقية وقد كانت جميعها أيام القرون الوسطى أمة واحدة تدين بالمسيحية وتكتب باللاتينية، وإن تعدد الأمراء الحاكمون.
ولكن لكل واحد من هذه الأقطار سماته الخاصة التي تميزه من الأقطار الأخرى في حضارته وثقافته، فالنزعات السائدة الآن في الأدب الفرنسي تختلف جد الاختلاف عن النزعات السائدة في الأدب الإنجليزي. ويشتد هذا الاختلاف أحيانا حتى لنسمع من بعض المصريين الذين تثقفوا بالأدب الفرنسي أن الإنجليز لا يعرفون الأدب. وهو إنما يزعم ذلك لبعد الشقة واختلاف العطر والنكهة بين الأدبين، ولأنه يجد في أدب الإنجليز غير ما ألف وتعود في أدب الفرنسيين. وليس هذا الاختلاف غريبا إذ هو يدل على الحيوية والاستقلال عند الأمم الأوروبية المختلفة، من حيث إن كل أمة تنزع إلى مثلياتها وتتخذ طرقا خاصة دون أن تأبه لما عند غيرها من هذه المثل والطرق فتحتذيها.
ولكن التفاعل لا ينقطع مع ذلك، فإن الأفكار تتلاقى وتتصارع ويحدث منها الامتزاج أو التنافر. وقد تأثر الأدب الإنجليزي لهذا السبب بالنزعات الأدبية في أوروبا، وإن كان هو في الأرجح أقل الآداب الأوروبية تأثرا بغيره. ونحن نجد في الأدب الجديد ثلاثة رجال لهم الأثر الأكبر في التفكير عامة وفي الأدب خاصة عند الإنجليز.
Page inconnue