واشتغل لطفي السيد مساعد نيابة ولبث في الوظيفة سنتين، ثم غادرها إلى المحاماة. لم يكن مكتبه حافلا بالزبائن ولم يكن هو في حاجة إليهم، إن أباه السيد باشا أبو علي قد كفاه مشقة السعي المادي للحصول على حاجات الحياة.
وفي يوم 13 يونيو سنة 1906 وقع حادث دنشواي، الحادث الذي اهتزت له البلاد وارتكبت فيه بريطانيا أشنع جرائم العسف والظلم والطغيان، واشترك لطفي السيد مع زملائه المحامين عن المتهمين في دراسة القضية، وقد كانت له طريقة خاصة في المرافعة.
كان المحامون يترافعون فيخطبون ويصيحون ويهتفون، أما هو فكان يتكلم كأنه يكتب، كان في مرافعته يفكر بصوت مسموع!
هذا الرجل الشجاع المفكر لا بد له من مجال، تظهر فيه آثار حريته وشجاعته وفكره.
إن الصحافة هي هذا المجال، ولكن صحف ذلك العهد كانت تتسع للألفاظ وتضيق بالمعاني، وهو رجل كله معان.
كانت تدعو إلى التحرر من احتلال بريطانيا، وإلى الولاء لسلطان تركيا، وهو رجل يريد لبلاده أن تتحرر من بريطانيا وتركيا معا، فلينشئ صحيفة جديدة إذن! وأنشأ «الجريدة» وساعده على إنشائها حزب الأمة، وبدأ الأسلوب العربي الجديد يشق طريقه إلى الأذهان. إن أسلوب لطفي السيد اليوم هو أسلوبه بالأمس؛ أسلوب المسدس، تنطلق الكلمة كالرصاصة، والرصاصة تصيب الهدف، وكان الأسلوب العربي إذ ذاك أشبه بالسيف، يدور في اليد ويلف ويهبط إلى تحت ويصعد إلى فوق، ثم لا يصيب الهدف!
نحن الآن في 1949 في منتصف القرن العشرين، فلنمض لحظات مع الرجل الذي هدم خرافات القرن الماضي، واشترك في بناء القرن الجديد! دخلت عليه في محرابه في مكتبة داره بمصر الجديدة. إن الذين يقابلهم في هذا الركن هم أعز أصدقائه وأحبابه؛ أرسطو وأفلاطون وأناتول فرانس وأبو العلاء المعري والغزالي، وأحيانا شوقي والمتنبي!
كان متعبا، لأول مرة أشعر بوطأة السنين تضغط قوامه، كانت الأيام من قبل تمشي في عظامه بخطى متئدة، ولكني أراها الآن وكأنها تثب وتعدو. عرفته دائما منتصب القامة، ولكنه في هذه المرة اضطر - لكي يسمعني - إلى أن يحني هامته ويمد رقبته قليلا إلى الأمام، ويصوب أذنه نحو فمي!
كان في دور النقاهة، وقال لي: تحدث أنت؛ فإن الكلام أصبح يرهقني، ولولا أني لا أحسن الشكوى، لشكوت من زمان طويل!
قلت: إن الجيل الجديد كله في حاجة إلى حياتك وإلى شيخوختك، إنك المثل الحي للحرية والاضطهاد، ولقد استطعت بحريتك أن تنتصر على مضطهديك! فطغى أسلوبك وانتشرت تعاليمك السامية.
صفحه نامشخص