لقاء معهم
ثائر مهنته العلم
شاعر الثورة
الرحالة العربي الثائر
أراد الحرية للعقل واللغة والمرأة
أستاذ الشعراء يتيم
عندما غنى الشعب
مسرحيات شوقي
عالم في الذرة والموسيقى
أستاذ أجيال
صفحه نامشخص
شيخ الإسلام (ابن الباشا)
إحسان عبد القدوس
طه حسين يرميني في جنة الشوك!
الشاعر الثائر عبد الحميد الديب
الساخر بالحياة
الدموع لا تكذب!
توفيق الحكيم
ذكرى ناجي
احتجاب الصحفيين
لغة الأغاني
صفحه نامشخص
مولد ووفاة!
قسوة الحرمان في حياة أنور وجدي
الإمام المراغي وحافظ إبراهيم
الغفران
توفيق الحكيم
فن سيد درويش
شعراء الوطنية
خليل مطران
المازني الساخر
أغاني أم كلثوم وأغاني عبد الوهاب
صفحه نامشخص
من هو ولي عهد شوقي
البلبل الصغير بين شوقي وخصومه
شوقي وخصومه
يا صديق العمر تمهل
في الفن تقليد!
الكاريكاتير علمني!
دردشة مع طه حسين
الشاعر الطبيب
مدارس الأدب
حرية القافية
صفحه نامشخص
ساعات معها وأيام معه!
الفن والتعايش السلمي
التشاؤم والتفاؤل
لقاء معهم
ثائر مهنته العلم
شاعر الثورة
الرحالة العربي الثائر
أراد الحرية للعقل واللغة والمرأة
أستاذ الشعراء يتيم
عندما غنى الشعب
صفحه نامشخص
مسرحيات شوقي
عالم في الذرة والموسيقى
أستاذ أجيال
شيخ الإسلام (ابن الباشا)
إحسان عبد القدوس
طه حسين يرميني في جنة الشوك!
الشاعر الثائر عبد الحميد الديب
الساخر بالحياة
الدموع لا تكذب!
توفيق الحكيم
صفحه نامشخص
ذكرى ناجي
احتجاب الصحفيين
لغة الأغاني
مولد ووفاة!
قسوة الحرمان في حياة أنور وجدي
الإمام المراغي وحافظ إبراهيم
الغفران
توفيق الحكيم
فن سيد درويش
شعراء الوطنية
صفحه نامشخص
خليل مطران
المازني الساخر
أغاني أم كلثوم وأغاني عبد الوهاب
من هو ولي عهد شوقي
البلبل الصغير بين شوقي وخصومه
شوقي وخصومه
يا صديق العمر تمهل
في الفن تقليد!
الكاريكاتير علمني!
دردشة مع طه حسين
صفحه نامشخص
الشاعر الطبيب
مدارس الأدب
حرية القافية
ساعات معها وأيام معه!
الفن والتعايش السلمي
التشاؤم والتفاؤل
زعماء وفنانون وأدباء
زعماء وفنانون وأدباء
تأليف
كامل الشناوي
صفحه نامشخص
لقاء معهم
في هذا الكتاب شخصيات التقيت بها، وعشت معها، بينها شخصيات اتصلت بها، وانعقدت بينها وبيني أواصر صداقة ودراسة، وبينها شخصيات أخرى كان لقائي بها من خلال آرائها وأفكارها وكتبها وتاريخ حياتها.
وليس ما قدمته هنا بحثا أو تحليلا، وإنما هو انطباعات لا تخلو من البحث والتحليل، والكشف عن حقائق مجهولة، وقد أغراني ذلك بأن أكتب هذه الصفحات، وأرجو أن يجد فيه القارئ ما يغريه بأن يقرأها!
كامل الشناوي
ثائر مهنته العلم
وهوايته تقطيع رقاب الملوك
الشرق، الشرق خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه، وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه، داء انقسام أهله وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد.
جمال الدين الأفغاني
هل نحن نعيش فوق الأرض، نمشي ونقف، نتحرك ونسكن؟! أو أننا مثل الأرض نلف وندور؟!
هل الزمن مسافات وأبعاد، أعوام وأيام، ماض وحاضر ومستقبل؟! أو أنه حلقة ليس فيها بدء حتمي أو نهاية حتمية؟ فبدايتها يمكن أن تكون نهاية، ونهايتها يمكن أن تكون بداية!
صفحه نامشخص
هل يستطيع الإنسان في هذه الحلقة المفرغة - التي نسميها زمنا - أن يتمرغ ويتدحرج، فيرجع إلى الماضي ويقفز إلى المستقبل؟
لا أدري! كل ما أدريه أني تدحرجت وتمرغت بخيالي ومعلوماتي خلال حلقة الزمن، وانتقلت من مكاني في عام 1961 إلى مجلس العالم الثائر المفكر! جمال الدين الأفغاني في عام 1879، ليلة نفيه من القاهرة، وقلت له وقال لي. •••
استيقظت القاهرة صباح يوم 22 أغسطس من عام 1879، ولا حديث للناس إلا عن جمال الدين الأفغاني، الرجل الذي عاش في مصر ثمانية أعوام، ينشر أفكاره الثائرة الحادة في الدين والاجتماع والسياسة بأسلوب جديد، تنطلق منه الكلمة كالقنبلة، تدوي وتنفجر!
وقد وقف إلى جانب الشعب يحضه على الثورة ضد الإقطاع والاستعمار، ووقف إلى جانب الدين يدرأ عنه الخرافات، ويحميه من جهل المنتسبين إليه، المتحدثين باسمه، الذين ظفروا بألقاب كبار العلماء، ومشايخ الإسلام، ومنعوا العلوم الحديثة من أن تدخل الأزهر الشريف؛ فالطبيعة والكيمياء كفر، والحساب والجبر زندقة، والفلسفة إفك و«سفه»! والاجتهاد في المسائل الدينية حرام، واشتغال رجال العلم بالأمور السياسية والاجتماعية بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار!
ولكن تعاليم الأفغاني كانت تيارا قويا، سارت الأمة كلها في اتجاهه، كانت الكهرباء التي مست العقول والمشاعر فأيقظتها وأثارتها. وشنت الدوائر الرسمية على الأفغاني حربا شعواء، واستعانت عليه بعلماء الدين فاتهموه في عقيدته، وكانوا يسمونه «ضلال الدين الأفغاني»، ويحذرون الطلبة من الاتصال به أو الاستمتاع إلى آرائه.
وكان خطر الأفغاني أضخم من أن يقاومه جهل الخديو، وضعف الحكومة، وسذاجة أرباب العمائم واللحى في تلك الأيام!
وأدركت تلك الدوائر أنه لا جدوى من التغلب على الأفغاني بالتشويش والمهاترة وإطلاق الألسنة في شرفه وعقيدته، الشيء الوحيد الذي يقهر الأفغاني هو اختفاؤه حيا أو ميتا!
وانطلقت الإشاعات في هذا اليوم تؤكد أن الخديو توفيق سيقتل الأفغاني، أو يسجنه، أو ينفيه.
واتجه أبناء القاهرة إلى الحي الحسيني؛ حيث الأزهر الذي كان قلعة تحصن فيها أعداء الشيخ المفكر الثائر، وحيث خان الخليلي الذي اتخذ الشيخ من بيوته سكنا يجتمع فيه بتلاميذه وأنصاره.
اتجهت جماهير الشعب إلى هناك لتلقي آخر نظرة على الرجل الذي علمهم كيف ينظرون، واقتحمت على الشيخ مجلسه؛ كان حوله الوجيه سليم الحجازي، وعبد السلام المويلحي، وإبراهيم المويلحي، والأديب عبد الله نديم، وشبان كثيرون عرفت منهم الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وإبراهيم اللقاني، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحاق، ويعقوب صنوع!
صفحه نامشخص
وكان الشيخ ينفث دخان سيجارته بحدة وشغف، ولا تكاد السيجارة تنتهي حتى يكون تابعه «أبو تراب» قد لف سيجارة أخرى وقدمها إليه، وعلى مائدة الشيخ عدد كبير من أباريق الشاي، وكان يصب لضيوفه الشاي في الأقداح بنفسه، وهو يصغي لكل كلمة، ويجيب عن كل سؤال، والضجيج يملأ المقهى؛ ضجيج الباعة الجائلين ونداء الصبيان بالطلبات: «قهوة»، «نارجيلة»، «جوزة»، «شاي أحمر»، «شاي أخضر»، «شاي كشري» ... وقرقعة الطاولة، والمجاذيب الذين يصيحون: يا حي! ويهتفون بالصلاة على النبي! وزعيق الزبائن وهم خليط من المعممين، والمطربشين، ولابسي الجلابيب بلا جاكتات، وبينهم الشامي، والمغربي، والسوداني، والمصري، والحجازي، واليمني، والتركي، والعراقي، والإيراني، وفيهم أهل التقوى وأهل الفجور، والمسابح تتشابه في يد التقي ويد الفاجر! وبينهم شواذ يدخنون الحشيش في النارجيلة، ويجالسون الغلمان!
وبرغم هذا الجو كان مجلس الشيخ مهيبا يحترمه كل من يراه، حتى الضجة كانت تحتشم إذا ما اقتربت من مجلس الشيخ، فتسمع صوته عميقا، صافيا، هادرا، وهو يتحدث عن مشكلات العلم والدين والاجتماع والسياسة، بصراحة وتدفق، كانت كلماته واضحة كلون الشاي، متدفقة كإبريق الشاي، وكانت إشارات يديه معبرة، تكاد تسمع فيها رنين الكلمة! وهنا، أدركت لماذا وصفوا جمال الدين الأفغاني بأنه كان يصب الشاي بيد، وينثر الحكمة باليد الأخرى!
وكان علي مظهر شابا وديعا، يبدو من قسمات وجهه أن في عروقه المصرية دما تركيا، عيناه زرقاوان، وبشرته بيضاء، وقد امتد على فمه شارب جميل؛ حذاؤه اللامع، وطربوشه الملتوي المكتوي، المائل إلى اليمين فوق رأسه، وملابسه الأنيقة، تدل على أنه من أصحاب الثراء الذين لم يمارسوا العرق!
وكان يتابع حديث الشيخ برهبة وإرهاب، يصغي بأذنيه، يصغي بعينيه، يصغي بأطراف رأسه، لم يشترك في الأحاديث التي دارت بكلمة أو إشارة أو همهمة.
وكان طيلة الجلسة يطوق صدره بكلتا يديه، كأنما يخشى أن يسقط من صدره شيء وعاه من الشيخ وهو يتحدث!
واستأذن الشيخ في الانصراف إلى مسجد الحسين، وقال إنه عائد بعد ساعة.
ومشى الشيخ ومن ورائه محمد عبده، وعبد الله النديم، وسليم الحجازي، وعبد السلام المويلحي، وإبراهيم المويلحي، وتابعه الخاص أبو تراب.
ووقف كل من في المقهى إجلالا للشيخ، بعضهم اتجه إليه وصافحه وقبل يده، أو حاول أن يقبلها، وبعضهم وقف مكانه وفي يده مسبحة أو فم نارجيلة، وكان أبو تراب خلال ذلك يبتسم للناس في نشوة، مؤكدا لهم بغمزات عينيه وتحريك أصابعه أن الشيخ سيعود بعدما يؤدي الصلاة.
وانتهزت هذه الفرصة، وخلوت بعلي مظهر وسألته لماذا لم يفتح فمه بكلمة عندما كان جالسا مع الشيخ؟! فقال: خشيت أن تفوتني منه فكرة أو تعبير أو تكشيرة أو ابتسامة؛ إن مولانا الأفغاني يعطينا الحكمة في كل حركاته وسكناته!
قلت له: ولماذا لم تصحبه إلى المسجد؟
صفحه نامشخص
فقال: اعتقدت أن عنده ما يريد أن يخص به الذين دعاهم للذهاب معه. - ومن هؤلاء الذين معه؟
قال: عبد السلام المويلحي وجيه كبير، وإبراهيم المويلحي أعظم كتاب هذا العصر.
قلت: ومن يكون عبد الله النديم؟
قال: هذا مفكر عصامي علم نفسه بنفسه، وتطور من «أدباتي» إلى أديب كبير ينظم الشعر والزجل، ويخطب وله تأثير شديد في تغيير أفكار الجماهير، ولا أحد يضارعه في الكتابة باللغة العامية، إلا يعقوب بن صنوع «أبو نضارة»، وهو يهودي.
قلت: النديم يهودي؟!
قال: النديم مسلم، اليهودي هو أبو نضارة يعقوب بن صنوع.
قلت: وما علاقة الأفغاني المسلم بهذا اليهودي؟
قال: إن مولانا يؤمن بتضافر العقليات الشرقية، سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو يهودية، للتحرر من الاستعمار الأوروبي، وطغيان الملوك على اختلاف أسمائهم؛ سلطان أو خديو أو شاه!
ثم مد يده مشيرا إلى أحد الشبان، وقال: أتعرف من هذا؟
قلت: رأيته في مجلس الشيخ.
صفحه نامشخص
قال: هذا شاب لبناني مسيحي اسمه أديب إسحاق، عرف مولانا مواهبه فأدناه منه، وعاونه على إصدار جريدة في القاهرة اسمها «مصر»، وكان السيد جمال الدين الأفغاني يشرف على سياستها، ويكتب فيها مقالات يوقعها باسم مستعار، هو «مظهر بن وضاح»، ثم أرسله إلى الإسكندرية حيث أنشأ جريدة يومية هي «التجارة»، وأغلقهما رياض باشا ناظر النظار!
قلت: وأبو نضارة هذا، هل هو صحفي؟
قال: إن يعقوب بن صنوع شاعر، وكاتب، وزجال، وابن نكتة، ويتقن عدة لغات، ويعرف التشخيص، ويفكر أفكارا هزلية، أما أبو نضارة فهو اسم المجلة التي عاونه مولانا على إصدارها في عهد الخديو إسماعيل، وكان مولانا يرى وجوب إنشاء مجلة تكتب للفلاحين بلغتهم، وقلنا له: وما الفائدة من ذلك ما دام الفلاح لا يعرف القراءة بلغته الفصحى؟
فقال: إن الفلاح يسمع ما في الجريدة، فإذا سمع لغة فصيحة لم يفهم بسهولة، وإذا سمع لغته الدارجة فهمها بسرعة، والأمة في حاجة إلى أن تفهم بسرعة!
قلت: ومن يكون سليم الحجازي؟
فقال: سليم باشا الحجازي رجل معروف، عندما زارنا الأفغاني لأول مرة كان الخديو إسماعيل قد نكب البلاد بالديون التي أخذها من الدول الأوروبية، وبلغ مجموعها 95 مليون جنيه أنفقها على نزواته ومظاهر أبهته، وتدخلت الدول الدائنة في شئوننا عقب وصول بعثة «كيف» إلى مصر عام 1875، وأنشئت مصلحة للرقابة على مالية مصر، وكانت هذه الرقابة تحكمنا وتتحكم فينا، وتستولي على أقواتنا، وتوجه سياستنا واقتصادياتنا.
وثار السيد جمال الدين الأفغاني على الحال التي آلت إليها مصر، وكان يقول: إني لأعجب منك أيها الفلاح، تشق الأرض بفأسك باحثا عن رزقك، لماذا لا تشق بهذه الفأس صدور ظالميك؟!
وكان مولانا يحض على الخلاص من إسماعيل، ويصف حكمه بأنه هوان للشعب، وقهر، وظلم، وسخرة، وجسر يعبر فوقه الغزاة من المستعمرين، ليلووا رقابنا، ويحنوا ظهورنا، ويستنزفوا منا الدم والعرق والكرامة.
وأخذ سليم الحجازي يستمع إلى السيد الأفغاني في تأثر واستجابة، وبغتة وقف منتفضا وهو يقول: كفى يا مولانا، فإنك إذا لم تسكت فسوف أذهب الآن وأقتل الخديو إسماعيل.
قال الأفغاني: وما الذي يمنعك من قتله؟
صفحه نامشخص
قال سليم باشا: أخشى على ابني فؤاد، أخشى أن يثأروا منه.
فقال الأفغاني: إذا كان هذا هو المانع، فاقتل ابنك فؤاد، ثم اقتل الخديو إسماعيل! - وهل كان الأفغاني يكره إسماعيل إلى هذا الحد؟
قال علي مظهر: كان يكره الملوك إلى أقصى حد؛ لأنه يحب الشعب والحق والعدل.
وها هو ذا مولانا قد عاد ومعه تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده، فاجتهد أن تخلو بالشيخ عبده وتسأله: كيف ذهب ليقتل بنفسه الخديو إسماعيل؟ - الشيخ عبده يقتل؟!
قال: اسأله وسوف يجيبك!
وساد أرجاء المقهى جو من الاهتمام.
وقف الجالسون، وأغلقت علب النرد (الطاولة)، وارتفعت أصوات الكراسي والجرائد وهي تبعد عن الزبائن لتتيح لهم فرصة استقبال جمال الدين وتحيته بلمسات الأيدي، أو بنظرات العيون.
وأقبل الشيخ يحف به محمد عبده، وأبو تراب، والعلم، والجلال، والمهابة، وهو يحاول أن يتوارى فلا يستطيع؛ وقار يريد أن يخف! وتواضع أشد سطوة من الكبرياء!
كان الذكاء والسحر والتمرد تشع من عينيه الواسعتين، ويعلو العينين حاجبان أشبه بخنجرين من شعر ناعم كثيف، يفصل بينهما أنف أشم، وعلى جانبي الوجه خدان بارزان، وقد غطى الشعر أذنيه، ووقف شاربه مؤدبا عند فمه، فبدت شفتاه المليئتان واضحتين تنطلق منهما الكلمة، والضحكة، والآهة الساخرة، والآهة الثائرة، ولم أر ذقنه، فقد اختبأ في لحية مستديرة جميلة!
الجبهة عريضة ، والرأس كبير، ولون البشرة قمحي، أما قوامه فقد حار بين الطول والقصر، والنحول والبدانة، ليس طويلا ولا قصيرا، لس ناحلا ولا بدينا، ولكنه على الحياد!
صفحه نامشخص
واتجه الشيخ إلى بيته القريب من المقهى، وبقي تلاميذه في انتظار عودته.
واقتربت من الشيخ محمد عبده، وسألته عما تردده القاهرة من إشاعات عن الإمام الأفغاني، فقال: كل شيء جائز! - هل يعتقلونه؟ هل يقتلونه؟ هل ينفونه؟
فقال محمد عبده: ربما، فهذا كله يحتمل أن يكون، ولكن الذي يستحيل أن يكون هو أن يعتقلوا أفكار جمال الدين، أو يقتلوا مبادئه، أو ينفوا تعاليمه. - وهل اقترف الأفغاني جريمة؟
وقال محمد عبده: المجرمون يريدون أن يعاقبوا الأفغاني على الجرائم التي اقترفوها هم. - لماذا إذن يحاربه كبار العلماء؟
وهنا قفز شخص لم أعرفه، وقال: لأنهم ليسوا كبارا، وليسوا بعلماء!
وسألت الشيخ محمد عبده: هل أستطيع أن أظفر بتوجيه بضعة أسئلة إلى السيد جمال الدين الأفغاني في مكان آخر غير هذا المقهى؟
وقال الشيخ محمد عبده: إنه لم يتعود الجلوس هنا إلا منذ أيام قليلة، فهو يعقد اجتماعاته في بيته، ومقهاه المختار هو قهوة البوستة بالعتبة الخضراء. •••
وفي هذه اللحظة وصل السيد جمال الدين الأفغاني، وجلس بين تلاميذه وأصدقائه، ودنوت منه وسألته في غباء: من أنت؟
فضحك وقال: أنا جمال الدين الحسني الأفغاني. - ما هو تاريخ مولدك؟
قال: في عام 1254 هجرية/1838 بالتاريخ الميلادي. - هل تنحدر من سلالة فارسية؟
صفحه نامشخص
قال: لقد تمت ولادتي في الأفغان، وأسرتي عربية مسلمة تنتمي إلى الحسن بن علي بن أبي طالب. - وما هو سر اهتمامك ببلاد أخرى غير الأفغان؟
قال: لقد نظرت إلى الشرق وأهله، واستوقفتني الأفغان، وهي أول أرض مس جسمي ترابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي، فإيران بحكم الجيران والروابط، فجزيرة العرب من حجاز ويمن ونجد، والعراق، والشام، والأندلس.
الشرق، الشرق، وقد خصصت جهاز دماغي لتشخيص دائه وتحري دوائه، فوجدت أقتل أدوائه داء انقسام أهله، وتشتت آرائهم واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، فعملت على توحيد كلمتهم، وتنبيههم للخطر المحدق بهم. - هل مارست السياسة في بلد آخر غير مصر؟
قال: مارستها في بلدي، ووصلت فيها إلى مركز رسمي يماثل منصب الوزير، ولكن المناصب وسيلة وليست غاية، وقد حاولت أن أنقذ الأفغان من تدخل الدول الأجنبية، فلما لم أستطع توجهت إلى فارس، وهناك اختلفت مع الشاه؛ لأنه يريد أن يقيم عرشه على جماجم الشعب، كما هو الحال هنا وفي كل بلد يحكمه ملك. - ألا يمكن أن يكون الملك عادلا؟
قال: يمكن أن يكون عادلا إذا أصبح تاجه بلا رأس، أو أصبح رأسه بلا تاج! - كم سنة أقمت في مصر؟
قال: أكثر من ثماني سنوات، وكنت قد زرتها قبل ذلك، وأقمت فيها شهرين، ثم عدت إليها في أول المحرم عام 1288 (مارس 1871)، وظللت فيها إلى اليوم؛ يوم 23 أغسطس من عام 1879. - وما الذي جذبك إلى مصر؟
قال: ما جذبني إلى غيرها من بلاد تعاني شعوبها الظلم والعبودية، مثل: فارس، والهند، والحجاز، وتركيا ... وقد حاولت في تلك البلاد أن أغرس شجرة الإصلاح الديني والتحرر الاجتماعي والسياسي، ولكني لم أجد التربة والجو لنمو هذه الشجرة إلا هنا، في مصر. - وهل نمت الشجرة؟
قال: ستنمو حتما. - ما هو الإصلاح الديني الذي تنشده؟
قال: إعادة الصداقة بين العلم والدين، ولكي نصلح الدين يجب أن نعود إلى الأصل وهو القرآن والصحيح من الأحاديث، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه، وأن نفتح باب الاجتهاد، وأن نقضي على التفرقة بين أهل السنة وأهل الشيعة؛ فهذه التفرقة أحدثتها مطامع الملوك.
إن الأديان الثلاثة أساسها واحد، وقد وسع شقة الخلاف بينها تجارة رؤساء الأديان بها. - أظن أن هؤلاء التجار هم الذين يرمونك بالإلحاد.
صفحه نامشخص
قال: والجهلاء والحكام طغاة، والدول الأوروبية الطامعة في غفلة الشرق، إنني شديد الإيمان بديني، أومن بعقلي، وليس للعقل نهاية، وأومن بمشاعري إيمان تصوف، ينتهي بي إلى وحدة الوجود. - هل تنادي بحرية الرأي حتى «في المناقشات الدينية»؟
قال: هذا طبيعي، وفي بلادكم شبلي شميل يدعو إلى مذهب داروين، ويعبر عن آرائه الملحدة، وإني أحمل على هذه الآراء وأستهجنها، ولكني أقدر صبره على البحث وشجاعته في الجهر بما يعتقده، ولو كان فيه تحد لعقائد الناس. - هل يسمح الإسلام باعتناق المذاهب الاجتماعية المدنية، كالاشتراكية مثلا؟
قال: الاشتراكية كانت في الإسلام ملتقية مع الدين ملتصقة به، وباعثها حب الخير، أما الاشتراكية في الغرب فقد بعث عليها جور الحكام. - هل ترى المساواة بين الرجل والمرأة؟
قال: المرأة في تكوينها العقلي تساوي الرجل، والتفاوت بينهما إنما جاء من إطلاق سراح الرجل وتقييد المرأة بالبيت، ولكل وظيفته، وليس ثمة ما يمنع من أن تعمل المرأة خارج البيت، إذا اضطرتها الظروف إلى ذلك، ولا مانع من السفور، إذا لم يتخذ مطية للفجور. - لماذا لم تتزوج؟
قال: إن الزواج يتم به بقاء النوع واستكمال حكمة العمران، ويخطئ من يظن مع أبي العلاء المعري أنه جناية، أما أنا فإن معرفتي بما تتطلبه الحكمة الزوجية من معاني العدل، وعجزي عن القيام به؛ دفعاني إلى أن أتقي عدم العدل ببقائي عزبا. - ما هو الحكم المثالي للشعب؟
قال: أن يحكم نفسه بنفسه، ولن يأتي ذلك إلا إذا تعلم وعرف حقوقه وواجباته وحرياته، ومارسها وحرص عليها، وهذا هو سر الصراع القائم بيني وبين الحكام. - أليس الخديو توفيق صديقك؟
قال: كان كذلك قبل أن يتولى منصب الخديو؛ كان وليا للعهد، وكنت ألتقي به في المحفل الماسوني، ووجدت من تعلقه بي ما دفعني إلى أن أشرح له المبادئ السليمة، وقد اقتنع بها وأبدى حرصه عليها، ولكنه لم يكد يتولى منصب الخديو حتى أخذ يتنكر لهذه المبادئ، واستدعاني إليه وقال لي: إن أكثر الشعب خامل جاهل، لا يصلح لأن يلقى عليه ما تقوله من الدروس والأقوال المهيجة.
وقد نصحته بالاعتماد على الشعب إذا أراد تثبيت حكمه، وخرجت من عنده لأستأنف الدعوة للمبادئ الإصلاحية بين الناس. - هل خدعك رياض باشا؟
فضحك في سخرية! - هل خدعك محمود سامي البارودي؟
فأطرق برأسه في حزن وقال: لقد هالني موقفه؛ فقد كان أشرف من عرفت من المسلمين. - ولماذا اختلفت مع المحفل الماسوني؟
صفحه نامشخص
قال: لقد رأيت أن أنضم إلى المحفل الماسوني الاسكوتلاندي ؛ لأنه يضم طائفة من المصريين والأجانب، وظننت أني أستطيع أن أنقل أفكاري إليهم، ولكن ظني خاب.
ثم قال: أول ما شاقني في «بناية الأحرار» عنوان كبير خطير، هو: «حرية، مساواة، إخاء»، وأن غرضها منفعة الإنسان، والسعي وراء دك صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق. وقد كنت أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة عجيبة، ولكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكن أن يدخل بين أعمدة المحافل الماسونية.
واستطرد يقول: إذا لم تتدخل الماسونية في سياسة الكون وفيها كل بان حر، وإذا كانت آلات البناء التي في يدها لا تستعمل لهدم القديم وتشييد معالم حرية صحيحة، وإخاء، ومساواة؛ فلا حملت أيدي الأحرار مطرقة، ولا قامت لبنايتهم قائمة! •••
وكانت الساعة قد أشرفت على الثانية صباحا، ورأيت أن أريح الشيخ مني، على أن يسمح لي بأن أتعبه مرة أخرى، فدعاني إلى مقابلته في داره غدا.
ولم أكد أخرج من المقهى حتى وجدت حي الحسين كله ساهرا بمقاهيه ودكاكينه، بالعربات المضاءة بالفوانيس تحمل الفاكهة والحلوى وشراب العرقسوس والخروب والتمر هندي، والليمون والشاي والقهوة ... بالدراويش يروحون ويجيئون، وفي أيديهم مجامر البخور، بصفوف كبيرة من الحمير والعربات الكارو، فهذه هي الوسائل الوحيدة لنقل الناس من مكان إلى مكان.
وضاع من رأسي كل أثر للإشعاعات، التي ملأت الأسماع عن التنكيل بجمال الدين.
وذهبت إلى بيتي وحاولت أن أنام، ولكن صوت الشيخ وصورته وأفكاره كانت تغريني بالسهر، كنت أحس أن سهري عليها أحلى من النوم! •••
وفي الصباح استيقظت مذعورا على أصوات غريبة تنطلق في الشارع، من الناس الذين يهرولون في غير قصد ولا هدى من الأبواب والنوافذ، من البيوت والدكاكين والمقاهي، كل الأصوات تصيح: أين جمال الدين الأفغاني؟ اعتقلوه؟ نفوه؟ قتلوه؟
واتجهت إلى الحي الحسيني، وكان الطريق المؤدي إلى الحي، والناس الذين امتلأ بهم الحي؛ أشبه بخلية نحل تطن بأسئلة ليس لها جواب!
وسهرت مع الناس في المقهى إلى اليوم التالي، وإلى اليوم الثالث؛ وفي هذا اليوم، بدأ بعض أصدقاء جمال الدين الأفغاني يظهرون في المقهى، ويتحدثون عن قرار الحكومة بطرد جمال الدين الأفغاني من مصر، لقد طردوا جسده ولم يطردوا أفكاره؛ لقد طردوا شخصه ولم يطردوا شخصيته؛ فما زال الشيخ جالسا، لا في مكانه من المقهى أو البيت، ولكن في كل مكان، وما زال اسمه يدوي اليوم وغدا، وسيظل كذلك أبدا.
صفحه نامشخص
وأقبل الشيخ محمد عبده وحاصره الناس يسألونه: ماذا جرى؟
وأخذ محمد عبده يروي ما كان من طرد أستاذه، وذكر أن الحكومة قبضت على السيد جمال الدين الأفغاني صباح ذلك اليوم المشئوم؛ يوم 5 أغسطس، وقاده جنودها بالقوة إلى محطة سكة الحديد، وأركبوه بالعنف القطار الذاهب إلى السويس، ولقيه قنصل إيران وبعض المصريين الأحرار، فعرضوا عليه مائة دينار ولكنه لم يقبلها.
قال لهم: أنتم أحوج إلى هذا المال.
وقال له أحدهم: أنت في حاجة إلى المال أكثر منا.
فقال: الليث لا يعدم فريسته أينما ذهب!
ومضى محمد عبده فقال: إن الانزعاج بنفي جمال الدين الأفغاني كان عاما، ولكن الخديو أبدى سروره بما فعل، وتحدث في محضر جماعته من المشايخ على مائدة الإفطار في رمضان، فأظهر الطرب للخديو من كان لا يعرف لنفسه قيمة في العلم والفضل في مجلس جمال الدين الأفغاني.
وقد حتمت الحكومة على الصحف نشر الأمر الصادر بنفي جمال الدين، بما في هذا البيان من تقريع شديد وتجريح جارح للرجل، فنشره البعض ورفضت إحدى الجرائد نشره؛ فصدرت التعليمات بتعطيلها!
واستطرد محمد عبده يقول: إن هذه الشدة لم تزد الأفكار إلا حدة، ولا الألسن إلا جرأة، ولا الإحساس بضرورة الإصلاح إلا نموا وظهورا، ولم تكن الحكومة كريمة في معاملة الأفغاني؛ فرمته بالزندقة، وسمته «ضلال الدين» الأفغاني الأفاق! وقالت في البيان الذي أصدرته إنها: أبعدت ذلك الشخص المفسد من الديار المصرية، بأمر ديوان الداخلية، لإزالة هذا الفساد من البلاد؛ عبرة للمعتبرين، ولمن يتجاسر على مثل هذا من المفسدين البادي من أفعالهم الظاهرة أنهم لا خلاق لهم في الدنيا والآخرة!
هكذا كانت عقلية الحكام، وهكذا كان أسلوبهم؛ كلمات تافهة مسجعة.
وكان من أثر الهزة التي أحدثها جمال الدين الأفغاني في مصر، أنه حرر العقول من الجهل والأوهام، ووجهها إلى التفكير والتأمل، وفتح فيها نوافذ تطل على الحضارة الإنسانية والثقافة العالمية، وأقنعها بضرورة التعرف على مصدر قوة أوروبا الطامعة في الشرق، والعمل على أن نكون أقوياء لنواجه القوة بالقوة، ولم يقف عند هذا، بل أثر في أسلوب الكتابة، فكان ينادي بأننا لسنا في حاجة إلى الكلمات اللغوية، ولكننا في حاجة إلى الكلمة التي «تنقر حبة القلب».
صفحه نامشخص