وفي القاهرة لازم الشيخ سلامة حجازي، والتحق بفرقته، وغنى بين فصول المسرحيات، ولكن الجمهور انصرف عنه.
ولم ييئس سيد درويش من فنه، بل لم ييئس من صوته، كان يؤمن بأن فنه قيم، وأن صوته إذا لم يكن جميلا، فهو قادر على الأداء الصحيح، وأجرى جراحة في أنفه لاستئصال «اللحمية»، ولكن صوته ظل كما كان قبل هذه الجراحة.
اتجه إلى التنويع في الألحان، إنه لا يلحن للحناجر الجميلة، إنه يلحن للشعب، يريد من الشعب أن يغني بجميع الأصوات ومن جميع الطبقات.
وانتشرت ألحانه على ألسنة الناس ودوت في آذانهم، وهمست مشاعرهم.
واهتدى سيد درويش إلى نفسه، إنه يعبر عن مشاعره كإنسان ومشاعره كمواطن، فقد تمت ولادته بعد أن احتلت بريطانيا مصر بعشر سنوات، وكان يرى في كوم الدكة طابية محطمة، وسأل عن تاريخها وعلم أن الإنجليز ضربوها بالمدافع عندما دخلوا الإسكندرية في أثناء ثورة عرابي.
وعرف أن لبلده عدوا مقيما، وشعر بالنقمة على هذا العدو، أراد أن يعبئ الشعور ضد العدو بالكلمة، فوجد أروع الكلمات تنطلق من فم مصطفى كامل، ثم من فم سعد زغلول، أراد أن يعبر بالصوت الحلو؛ فوجد أحلى الأصوات تخرج من حناجر أخرى جميلة، فاتجه إلى تنقية موسيقاه من البطء والفضول والتكرار، وحولها من وسيلة لتزجية الفراغ والانجذاب والتطريب إلى حافز يهز المشاعر ويلهب العواطف، وهو يحدد مفهومه للألحان، ويحاول أن يضع كتابا عن الموسيقى، ويبدأ في تأليف الكتاب، وينشر منه أربعة فصول في مجلة النيل عام 1921، وفي رأيه أن الموسيقى أصوات متآلفة تحدث أنغاما بوساطة اهتزازات تنجذب لها الأفئدة كما ينجذب الحديد للمغناطيس، وكان يوقع هذه الفصول بإمضاء: «خادم الموسيقى سيد درويش.»
ظل سيد درويش موضع اهتمام مصر والعالم العربي طيلة السنوات الخمس التي سبقت وفاته، ثم أصبح مادة وموضوعا عقب وفاته، وقد سمعت عن سيرته الفنية وسيرته الشخصية قصصا كاملة من شاعرنا الخالد أحمد شوقي، وحدثني عنه عندما لحن له سيد درويش النشيد القومي: «بني مصر مكانكمو تهيا.»
وسمعت مئات القصص من بيرم التونسي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، واطلعت على ما نشرته الصحف عنه من آراء النقاد والأدباء؛ أمثال الأستاذ الكبير عباس العقاد، والدكتور حسين فوزي، والأستاذ محمد علي حماد، وقرأت كتابين عن سيد درويش؛ أحدهما للأستاذ محمد إبراهيم، والآخر للأستاذ محمد محمود دوارة، وكل ما قرأته وما سمعته لم يهزني كما هزني أن سيد درويش الذي صنع أكثر من مائتي لحن وأوبريت مات في الثلاثين من عمره!
وفي شهر سبتمبر من عام 1923 أعد سيد درويش نشيدا وطنيا، ليغنيه مع المجموعة في حفل استقبال الزعيم سعد زغلول لمناسبة عودته من الخارج، وسافر سيد درويش إلى الإسكندرية، وأقام مع شيقيقته في حي محرم بك، وفي اليوم المحدد للاحتفال وهو يوم 15 سبتمبر كانت المجموعة قد حفظت النشيد في الصباح، وانتظرت سيد درويش، ولكنه لم يحضر، ولم يعجب أحد لذلك؛ فقد كان الشيخ سيد لا يلتزم بأي موعد!
وظهر سعد زغلول في الاحتفالات وعزفت المجموعة نشيد: «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي»، ورددت الجماهير هذا النشيد بقوة وحماسة، وأبدى سعد زغلول إعجابه باللحن الشعبي العظيم، وسأل من الذي وضع هذا اللحن؟
صفحه نامشخص