وكتب المازني يصف الليلة التي غنى فيها عبد الوهاب، فقال:
ومن أمتع ما مر بي في هذه الحياة - التي لا أراها ممتعة، ولا أحب أن تطول أو تتكرر - ليلة قضيتها بين شراب وسماع، فأما الشراب فلعل القارئ أدرى به! وأما السماع فقل من شجي به، كما شجيت في تلك الليلة، إي والله، وما زلت إلى الساعة - كلما خلوت بنفسي - أغمض عيني وأتسمع، وأحاول أن أبتعث ذلك الصوت البديع، الذي هاجني إلى ما بي كما لم يهجني صوت سواه، وقد أعجب لما يصب في الأذن أين يذهب؟ وربما أثارني هذا العجز عن إحياء صوت أكثر من تصوره في ضمير الفؤاد، وقد أغالي في إكبار هذه الثروة الصوتية، وأتمنى لو رزقت شيئا منها بكل مالي - لو أن لي شيئا! - ثم أعود فأسخر من نفسي، وأضحك من أمنية يستخفني إلى إنشائها الطرب العارض.
ثم أسخر من سخري وأقول لنفسي في حدة: أولا يسر الإسكندر وقيصر وسليمان أن ينزلوا لمثلي عن نصف ما أحرزوا من مجد ، لو أنه وسعني أن أخول كلا منهم ليلة واحدة كهذه الليلة التي نعمت فيها!
كأني لم أكن أسمع بل أسقى من رحيق الجنان، وكأنه لم يكن غناء مصوغا من شجا القلوب، بل من شعاع العقول.
وهكذا أمتعنا عبد الوهاب بغبطته في ليلة كانت كلها سحرا، وردني بعدها بغير ذي أذن إلى كل نغمة من سواه، وغير ذي صور إلا إلى فتنة من هوى فنه وشجاه، ولولا أن يعد ذلك جحودا ولؤما لتجاوزت عن ذكر اسمه، فإنه أحلى عندي وأوقع في نفسي أن أجرد غناءه من صورته الآدمية على حسها النرجسي، وأن أتصوره أبدا هوى سابحا، وروحا هائما، وصوتا صافيا.
هذا بعض ما كتبه المازني عن عبد الوهاب.
وقد فرح شوقي بما نظمه العقاد في عبد الوهاب، وما كتبه المازني عن عبد الوهاب، واعتبر ذلك نصرا شخصيا له، فقد كان حبه لعبد الوهاب عنيفا جارفا.
وكان عبد الوهاب عاطفة في قلبه، وفكرة في رأسه، ونورا في عينيه.
ولكن بعض أصدقاء شوقي أفهموه أن كتابة المازني والعقاد عن عبد الوهاب ستجعله ينضم إليهما، وأفهموه أن بلبله الصغير قد بنى له عشا في قلب المازني وقلب العقاد، واقتنع شوقي بذلك، وإذا به يسلط بعض الصحف على العقاد والمازني؛ لتجامعهما في موضوع عبد الوهاب بالذات، فكتب المرحوم حسين شفيق المصري مقالا نقد فيه قصيدة العقاد، وقال: هل أراد العقاد أن يمدح عبد الوهاب أو أراد أن يذمه؟ إنه يقول:
قد سمعناك ليلة فعلمنا
صفحه نامشخص