فدخلت مريم فرحة مستبشرة والطالبات المنتظرات يزلقنها بأنظارهن ويغبطنها على تيسير أمرها، وإذا هي في حضرة سيدة بيضاء الشعر زرقاء العين شاحبة الوجه غليظة اليد تتكلم دون أن تحرك شفتيها. - أنت من فلسطين؟ - نعم مدام. - وكيف وصلت إلى مدير ال «كوميدي»؟
فأبرقت أسارير مريم سرورا لعلمها أن من أعطاها كتاب التعريف هو المدير بعينه. - رأيته خارجا من مكتبه فكلمته.
فقطبت السيدة ما بين عينيها وزمت شفتيها. - وما اسمك؟ - مريم، ثم ترددت ثم قالت: مريم.
فكتبت السيدة على طلحية أمامها مريم مريم ظنا منها أن اسم الفتاة الثاني مثل اسمها الأول. - وأي متى جئت باريس؟ - منذ أربعة أشهر. - ولم تظهري بعد على أحد مسارحها، ولم تتعلمي الرقص في إحدى مدارسها، فاعلمي إذن يا مدموازل أن عليك أن تبتدئ مثل سائر المبتدئات، وهن يعددن بالمئات وسأسعى في سبيلك جهدي؛ لأن مدير ال «كوميدي» أوصاني بك.
ثم أفهمت مريم شروط الوكالة وكبست زرا، فجاء الكاتب فأعطته الورقة التي كتبت عليها اسم مريم وعنوانها. - سجل هذا الاسم في السجل. ادفعي الرسم للكاتب مدموازل.
عادت مريم إلى غرفتها ذاك اليوم والسرور يجول في وجهها، ولبثت تنتظر البشرى من تلك السيدة، ولى الأسبوع يتلوه الأسبوع وكمل الشهر؛ شهر الانتظار ومريم تتجرع مر الصبر وتتمرن أثناء ذلك على الرقص، ولكن كل آت قريب، ففي صباح ذات يوم استلمت كتابا من تلك الوكالة فعمدت لساعتها إلى قبعتها تلبسها وعرجت على بياع الزهور فزينت صدرها بإضمامة من الياسمين وراحت تلبي دعوة السيدة صاحبة الشعر الأبيض والوجه الشاحب القطوب، فأعطتها بطاقة إلى صاحب قهوة في «منمرتر»! وقالت: هذا جل ما تفوز به مثلك الآن، كوني في القهوة الساعة التاسعة صباحا.
ولم تتخلف مريم، بل وصلت قبل الوقت المضروب، فلقيت هناك سربا من البنات الباليات الأثواب، الشاحبات الوجوه، الغائرات العيون، كأن الواحدة منهن عصفور بلله القطر يلبثن منتظرات، ثم جاء رجل غليظ الجثة، سمين الوجه، كث اللحية، ضيق الجبين، جاحظ العين، فأمرهن بالوقوف أمامه، فوقفن صفا وبينهن المسحاء والعجزاء والغراء والدعجاء، والدعشوقة الرسحاء، فنشأ يقلب فيهن نظره ويفحصهن فردا فردا فتدور الواحدة كالتمثال على محورها فيجسها كما يجس الغنام غنما يروم ابتياعها، إلى أن انتقى منهن ستا من لون واحد، وقد واحد، ووزن واحد! وصرف الأخريات ومريم الناصرية منهن، على أنه كلمها وهو يزلقها ببصره قائلا: أنت حاملة هذه البطاقة من السيدة؟ فأحنت مريم رأسها، فشرق الرجل بريقه وهز رأسه وكتفيه وراح يقول في نفسه: جمالها يخسف جمالهن، ولونها يجعلها وحدها محجة الأنظار، لا، لا، لا توافق.
عادت مريم إلى مكتب الوكالة كسيرة القلب، أسيرة الهم والغم، فوعدتها السيدة خيرا، وبعد أسبوعين أعطتها بطاقة أخرى إلى مدير إحدى ال «تياترات» الصغيرة، فراحت وهي تكاد تقطع الأمل تقف مع العشرات مثلها في الصف حسب العادة، فجاء المدير يفحص وينتقي، ووقف عند إحدى الطالبات يجس صدرها وأوراكها، ثم قال: ادخلي تلك الغرفة واخلعي ثيابك. فامتثلت الفتاة أمره ثم جاءت تمثل أمامه عارية، فدارت دورتين وهو يدقق النظر في تقاطيع جسمها، ثم قال: حسن، حسن، البسي ثيابك، ثم أوعز إلى واحدة أخرى أن تعمل ذات العمل، فدخلت الغرفة عجزاء وخرجت منها عارية مسحاء، فضحك المدير وقال: لا حاجة لنا اليوم بالصبيان.
ثم وقف أمام مريم يقيسها بناظريه ويزنها. - أنت من فلسطين الله! الله!
دوري يا «فلسطين»، دوري قليلا، فدارت مريم وهي منكسة الرأس. - عليك خلع ثيابك.
صفحه نامشخص