فأعجب الحاجب بلهجة الفتاة الغريبة وبحسنها وعاد بعد هنيهة يقول: إن المدير يقابلك غدا بعد الظهر.
فراحت مريم تعلل نفسها بالآمال وعادت في اليوم الثاني فقابلها المدير بمكتبه، وبعد أن حدثها في ما تحسنه وفي ما تبتغيه قال: الراقصات اللواتي نستخدمهن مدموازل يتعلمن الرقص صغيرات، يدخلن مدرسة ال «أبرا» وهن في الرابعة أو الخامسة من سنهن، فيتدرجن تدريجا إلى كمالات الفن وإلى الشهرة، إني لآسف مدموازل، آسف جدا، نهارك سعيد.
خرجت مريم من المكتب وهي تقول: ما أقسى قلوب هؤلاء الناس! لم يسألني واحد منهم أن أرقص ليعرف ما إذا كنت أحسن الرقص. ووقفت ذات يوم في رواق ال «تياتر فرنسه» حزينة يائسة تشخص بعينيها إلى تمثال الشاعر دي ميسه فخطر لها أن تطرق باب المدير، وقد كانت أحاطت علما بأهمية ال «كوميدي» وبعلو مركزها في عالم التمثيل، ففتحت أحد الأبواب تقدم رجلا وتؤخر أخرى وإذا برجل ذو إهابة وإجلال يتخلل الشيب لحيته ويبرق في عينيه نور الكرم والمعروف خارج من أحد المكاتب، فاستوقفته مريم تعتذر إليه، فرفع قبعته وسألها حاجتها، فأجابته أنها تحب أن تقابل المدير. - وما غرضك مدموازل؟ - الرقص، أحب أن أكون من الراقصات.
فعلم الشيخ أن الفتاة غريبة وعطف عليها لسذاجتها. - وهل تحسنين الرقص؟ - نعم. - وأين تعلمت؟
فاضطرب على مريم. - من أي بلاد أنت مدموازل؟ - من فلسطين.
فرفع الشيخ حاجبيه مدهوشا: وهل رقصت مرة على مسرح ما؟ - لا يا سيدي؟
فاستغرب أمرها ورثى لحالها وأشار بيده إلى باب أن ادخلي، فدخلت مريم إلى مكتب فخم حافل بالصور والتماثيل والكتب والجرائد والمجلات. - اجلسي مدموازل، واعلمي أن الطريقة التي تسلكينها لنيل رغبتك لا تجديك في هذه المدينة نفعا، فإن بين مدراء ال «تياترات» والممثلين طلاب المراكز وهدة عظيمة قد احتلها فريق من الناس يدعون وكلاء وسماسرة، ولا يمكنك أن تفوزي بشيء من أحد المدراء إلا بواسطة أحد الوكلاء، سأعطيك كلمة إلى سيدة من هؤلاء قد تنفعك وقد لا تنفعك.
وكتب الشيخ سطرين على رقعة دون أن يسأل الفتاة اسمها، وسلمها الكتاب قائلا: بن شنس مدموازل، ثم شيعها إلى الخارج ودلها كيف تصل إلى مكتب تلك السيدة ورفع قبعته مودعا، ومكررا: بن شنس مدموازل، وراح يقول في نفسه: ما أبعد أسبابك يا باريس وما أكثر أشراكك! حتى من فلسطين تجتذبينهن فريسات جمالك ومجدك وأضاليلك!
وصلت مريم إلى ذاك المكتب فإذا هو غاص بالممثلات والراقصات الطالبات عملا، وهناك يعنى بأمرهن شاب يسجل اسم كل واحدة وعنوانها في سجل ثم يسألها: في أي مسرح لعبت أو رقصت أخيرا؟ وأي نوع من الرقص رقصها؟ وماذا تطلب أجرة ... إلخ، وإذا كانت الطالبة جديدة يصف الكاتب ملامح وجهها وشكلها وقدها حتى ووزنها كأنه يكتب لها تذكرة مرور، فتدفع إذ ذاك الامرأة رسم الوكالة وتعود إلى بيتها تنتظر جوابا فيه باب مفتوح للارتزاق، وقد تنتظر شهرا بل شهرين فيجيئها جواب لا باب فيه لأمل في صدرها سجين.
أعطت مريم الشاب الكتاب فلما قرأ على الغلاف اسم ال «كوميدي فرنسه» أدخلها داخل الحاجز وقدم كرسيا فجلست، ثم دخل بالكتاب إلى غرفة أخرى وعاد يقول لها: ادخلي.
صفحه نامشخص