وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . صديقي يعيش في كون خال، وأعيش في كون آهل بالأحباب. أستغفر الله. يا لها من زيارة؛ زيارة أم علي! ماذا يفعل المسكين علوان؟ محرومون وسط سيرك من اللصوص. أحدثه عن زماني لعله. رمى ببهلوان يطلق في العطسة عشرة شعارات عقيمة. أم علي تنتهي من عملها، تغسل اليدين والوجه وترتدي معطفها السنجابي وتنظر في ساعة يدها لتعرف مستحقاتها، أسلمها النقود فتذهب قائلة: فتك بعافية يا بك. - مع السلامة يا أم علي، لا تنسي الميعاد القادم.
وتعود الوحدة، أتمشى في الشقة بعد تعذر المشي في الشارع. القرآن والأغاني. طوبى لكم يا من اخترعتم الراديو والتليفزيون. بامية ومكرونة الغداء. حبب الله إلي العبادة، وجعل قرة عيني في الطعام. أي وحدة والكون من حولي مكتظ بملايين من الأرواح؟ أحب الحياة وأرحب بالموت في حينه. كم من تلميذ قديم لي قد صار اليوم وزيرا! لا رهبانية في الإسلام، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها. كثيرا ما أحادث حفيدي المحبوب عن الماضي لعله من حيرته يخرج. أغريه بالقراءة وقليلا ما يقرأ، ويستمع إلي بدهشة من يعز التصديق عليه. دعنا من علياء سميح ومحمود المحروقي، ألم تحملك الأحداث على الإيمان بالوطن والديمقراطية؟ وما معنى الإصرار على التمسك ببطل منهزم راحل؟! كي لا تصبح الدنيا فراغا يا جدي. إني ألفت نظرك إلى أشياء غاية في الجمال. يضحك ويقول لي: ما أريد الآن إلا شقة ومهرا مناسبا.
كيف أستطيع تجنب هموم الدنيا ومعي حفيدي المحبوب؟! ما أجمل كرامات الأولياء!
علوان فواز محتشمي
علمني زمني أن أفكر، علمني أيضا أن أستهين بكل شيء، وأن أشك في كل شيء. ربما قرأت عن مشروع منعش للآمال، وسرعان ما يكشف المفسرون عن حقيقته فلا يتمخض عن أكثر من لعبة قذرة. هل تترك السفينة للغرق؟! هي عصابة مسلطة علينا لا أكثر ولا أقل؟! أين الأيام الحلوة؟ كانت توجد أيام حلوة لا شك في ذلك، ولي أنا أيضا أيام، حين كانت الشقة عامرة بالأخوات والدفء، وكانت الأعباء يسيرة. كان لأبي وأمي وجود في البيت، وكان يوجد حوار وضحك وحماس الدراسة وسطوة البطولة. إحنا الشعب، اخترناك من قلب الشعب. والحب كان باقة من الورد في قرطاس من الأمل. فقدنا زعيمنا الأول ومطربنا الأول، ويخرجنا من الهزيمة زعيم مضاد فيفسد علينا لذة النصر؛ نصر مقابل هزيمتين. اخترناك من قلب الشعب. وتجذب حبيبتي الشص من الماء فتخرج فارغة وتنغرز في إبهامي، وتترك أثرا مازال باقيا حتى اليوم. على شاطئ النيل أمام بيتنا قلت لها: إنك لا تحسنين صيد السمك، ولكنك اصطدت قلبي وأسلت دمي. من الأخوة إلى الحب حدث تغير بطيء مثل قرون أوراق الشجر التي تسبق بالظهور في أوائل الربيع، ولا ترى إلا عند التأمل. أنوثة وتورد الخدين ووشاية أعلى الفستان، باللغة حين تقول الكلمة شيئا وتشير إلى شيء آخر، وتلاشت البراءة، وحلت محلها مفاوضات وتوسلات من أجل لثمة فوق الخد أو الشفة. أطيب ثمرة في الشجرة أخلاق وعقل وجمال. يضايقني أحيانا أن تبدو أعقل مني. لا أنسى حزن نظرتها عندما اعترفت لها بعجزي عن اختيار القسم العلمي. حوار طويل لم يجر على لساننا، ولكنه يتربص بنا في زاوية ما. أسرتانا سقطتا معا في حفرة الانفتاح. شد ما يحزنني ألا تظهري في الملابس اللائقة بجمالك. أي مسئولية تثقل كاهلي. قلت لها مرة في استراحة الهرم: فلنتسل بحصر أعدائنا.
فدخلت اللعبة قائلة: غول الانفتاح واللصوص الأماثل. - هل ينفعنا قتل مليون؟
فقالت ضاحكة: قد ينفعنا قتل واحد فقط.
فقلت ضاحكا أيضا: إنك اليوم رندة المحروقي. •••
أنور علام المدير يستدعيني إلى حجرته، ويطلب إلي أن أزوره في مسكنه في الخامسة مساء لإجراء مراجعة شاملة قبل إعداد الحساب الختامي. أخبرت رندة فلم تعلق. مسكنه في عمارة نصف جديدة بالدقي تقع أمام أحد مداخل جسر 6 أكتوبر. استقبلني ببشاشة وهو مرتد بدلته وقال: لا تغرقك فخامة الشقة؛ فأختي تعيش معي، وهي أرملة غنية.
كأنما ينفي عن نفسه الشبهات. كل فرد مهدد اليوم بالشبهات. وعملنا بهمة حتى الساعة الثامنة. في أثناء ذلك دخلت الأرملة بالشاي، تعارف بيننا وقدمها قائلا: «جولستان أختي.» من النظرة الأولى شعرت بأنني أمام امرأة يقع عمرها ما بين الأربعين والخمسين، مقبولة المنظر، ممتلئة في تكوين حسن، مثيرة رغم رزانتها واحتشامها، أو ربما لرزانتها واحتشامها. لم تجلس، وقالت وهي تغادرنا: استبق الأستاذ للعشاء معنا.
صفحه نامشخص