لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . جرس الباب يرن، أفتح الباب فتدخل أم علي، في معطف سنجابي والخمار الأبيض يحدق بوجهها القمحي الريان. - كيف حالك يا بك؟ - نحمده يا أم علي. - الشتاء لا يريد أن يرحم.
وكامرأة يوزن وقتها بالنقود، خلعت المعطف وعلقته بمشجب قائم غير بعيد من الباب ثم مضت إلى حجرة نوم فواز وهناء. تبعتها كما نبه علي. جلست على مقعد أتابعها وهي تكنس وتنفض وتنظف وتلمع وترتب؛ نشيطة خفيفة رغم امتلائها. يخافون أن تمتد يدها إلى شيء. سوء ظن لا مبرر له، وهو من رواسب الماضي. أم علي ساعتها بجنيه، وتنتقل من بيت إلى بيت كالنحلة؛ فإيرادها يزيد عن مرتباتنا جميعا مجتمعة، ولكني أرتاح إلى الانفراد بها. نزهة أسبوعية تنفخ في وجداني نغمة الحلم الغابر، الانفراد بها يتجسد في حال يضطرب لها روتين الزمن، ويواجه الأنا القديم الأنا الطارئ فيتناجيان وبينهما فاصل الزمن بلغتين غريبتين لا تفضيان إلى تفاهم، ثم يستعير القلب من مخزونه البائد خفقة خاطفة تعيش حياة مقدارها ثلاثون ثانية. وعندما تنحني لتعيد بسط الكليم أتصور أن أقرصها بحنان، مجرد تصور؛ فإنني مسيطر على زمامي تماما، وهي مطمئنة من ناحيتي تماما، كأنها رجل في النشاط والقوة وتماسك الشخصية،
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا . وأسألها متمرغا في انفرادي بها: كيف حال المعلم؟ - ربنا يلطف به. - والأولاد؟ - هاجروا، لم يبق إلا العبيط.
وتضحك ثم بدورها تسألني: ما آخر أخبار صاحب عمارتكم؟ - يئس وسكت. - من كان يصدق أن الأرض تجن مثل بني آدم؟! - الجنون أصل كل شيء يا أم علي.
ما أشد شعوري بالانفراد بك! حوالينا ولا علينا يا رب، كأيام شارع خيرت المسقوف بالشجر، وتحت مظلة من الأفكار الحرة المستوردة، فكرية ورتيبة الممرضتان وشقاوة الغجر. الحياة فصول، ولكل فصل مذاقه، وطوبى لمن أحب الدنيا بما هي دنيا الله. في زيارة لسليمان مبارك أبي رندة قال لي: أغبطك على صحتك يا محتشمي.
فقلت بثقة: الوراثة والإيمان يا عم سليمان.
فتساءل وهو ينظر نحوي بخبث: كيف أصدق أن مثلك يؤمن بالخزعبلات؟ - الله يهدي من يشاء. - كأنك في ماض ما، ما كنت ملحدا.
فقلت باسما: إيمان موروث؛ شك، إلحاد، عقلانية، لاأدرية، ثم إيمان!
فتساءل ساخرا: بوفيه مفتوح؟! - هي الحياة الكاملة. - إني فخور بثباتي، راض بالعدم، عابد للحقيقة، وقد أوصيت زينب إذا جاء الأجل ألا ينشر نعي ولا تكون جنازة ولا مأتم ولا حداد. - ما هو إلا نور يهبط فجأة فيبدد الظلمات. - المسألة أن العمر تقدم بك حتى لاح لك الموت.
حوار عقيم،
صفحه نامشخص