وأحسب أن هذه العوارض أشيع من أن تحصى في عداد النوادر والفلتات، فقد سمعت ما يشبهها من بعض الأصدقاء المصدقين، وقد أخبرني بعضهم بقلقه على غائب يعزه وهو لا يعرف سببا واضحا للقلق الذي يساوره حتى فاتح فيه غيره، ثم تبين أنه لم يقلق يومئذ بغير داع معقول.
إلا أن النوادر والفلتات في التلباثي هي العوارض التي تشبه قصة سارية فيما روي عن عمر بن الخطاب.
فالذين يشعرون على البعد بمثل هذه القوة والوضوح قليلون، ولكن المسألة - بعد - مسألة فرق في القوة والوضوح، وليست بفرق في أساس الشعور يماثل الفرق بين من يبصر ومن لا يبصر، وبين من يسمع ومن ليست له أذن للسمع، وبين من يحس ومن ليست له قابلية للإحساس.
فالشعور على البعد كالشعور على القرب جائزان، ووسيلة الشعور على البعد ليست بأصعب من وسيلة الشعور على القرب بالعيون والآذان، وإن كنا لا نستغرب هذه كما نستغرب تلك لطول الألفة وتكرار المشاهدة بين جميع الأحياء.
وحد التصديق عندي لهذه العوارض هو وجود الأساس الذي تعتمد عليه.
فإذا كان كل ما في الأمر أنه تكبير للحس الذي تعودناه، أو مضاعفة له وتقريب لأبعاده ومسافاته فلا مانع من صدقه، وإذا كان في الدعوى ما يحوجنا إلى فروض لا أساس لها من المشاهدات والمعقولات، فهنالك موضوع للتردد والاشتباه.
وعلى هذا أقبل دعوى التنويم المغناطيسي - مثلا - إذا ادعى النائم أنه يبصر شيئا موجودا على مسافات بعيدة، ولكني لا أقبل منه هذه الدعوى إذا تعدى ذلك بما سيكون بعد عام أو بعد شهر أو بعد يوم، وليس له وجود قائم الآن.
وكذلك أقبل دعوى الشعور البعيد، أو النظر البعيد إذا كان بمثابة السمع المضاعف أو البصر المضاعف؛ لأن امتناع ذلك يحتاج إلى مانع قاطع، ولا سبيل إلى القطع فيه؛ ولأن القول بجوازه لا يتعدى كثيرا أن نقول بجواز رؤية العيون وسماع الآذان.
وينبغي للعقل أن يتمهل في قول «لا» كما يتمهل في قول «نعم» كلما سمع بما يشككه ولا يوافق معهوده، فإن العقل ليكون خرافيا بقول «لا» في غير موضعها كما يكون خرافيا بقول: «نعم» في غير موضعها؛ وإنما هذه خرافة تثبت بالباطل، وتلك خرافة تنفى بالباطل، ولا فرق في الباطل بين نفي وإثبات.
الشعور على البعد جائز ما جازت الصلة بين الإنسان وموضوع شعوره، وقد رأينا أن هذه الصلة لا تنقطع في طريق صوت كالهمس على مسافات الألوف من الفراسخ والأميال، فقبل أن ننفي الصلة بين نفسين ينبغي أن نتمهل طويلا حتى نوقن من وجه الاستحالة والامتناع؛ ولن يكون هذا اليقين إلا ببرهان قاطع، والقول بهذا البرهان القاطع قبل أن يوجد ويتقرر هو أجرأ على العلم والعقل من التصديق بغير برهان اعتمادا على المروي والمشاع.
صفحه نامشخص