52

فقال سيف: لا يحملك الغضب يا سيدي على أن تعيدني خائبا. ماذا أقول لك؟ أأقول لك أيها الخال العزيز؟

وتحرك الشيخ في مجلسه وأدار وجهه قليلا.

ومضى سيف قائلا: قد عرفتك كما عرفت نفسي، وإن كنت لا أبلغ أعماق حكمتك، وكنت أستمع إلى أقوالك أحيانا في ضجر عندما كنت تتحدث عن قوم أمي الذين حاربوا أبي، وكنت إذا قلت لي إنني أشبه جدي كنت أحس كأنك تريد أن تحط مني، ولكني كنت عند ذلك لاهيا، يحملني الجهل والغرور على تياره لا على طبيعتي. وإني أحس في نفسي شيئا جديدا، أحس كأنني كنت نائما ثم استيقظت، فأنا أنظر اليوم إلى الناس كما أراهم، ولست أكذبك أن بؤس الأشقياء يحرك من نفسي أكثر مما تحرك الكبرياء، أحس في قلبي أحاديث كثيرة، وأتلفت أحيانا أريد أن أجد أذنا تسمعني. وهناك خيلاء تستجيب لي، ونهيم معا في أودية الفكر على غير هدى، فهل لك أن تكون هادينا؟ ألا تجد سوقا لحكمتك إلا أن تكون سوقا عامة مزدحمة تلتمس لها الرواج فيها؟ لا تنزل إليها الحكيم بالحكمة إلى سنة الأسواق كما يفعل باعة الخبز واللحم أو الخمر أو العطور. لا تؤاخذني إذا كان قولي عنيفا فإني أود أن تسمع حجتي.

وأطرق الشيخ في صمت، وذهب به خياله إلى بعيد عندما قال له أبو مرة: «أوصيك بولدي.» أيقول الفتى إنه يحس في نفسه شيئا جديدا؟

ونظر إلى وجهه وإلى جبهته العالية وعينيه السوداوين العميقتين وتعبير ملامحه النبيلة، وخطر له سؤال وهو يعلق به عينيه: أما آن الأوان بعد؟

ولم يملك أن قال: سأعود معك إلى صنعاء يا ولدي، وإن كلفني ذلك ما بقي من أيامي.

وكان الليل يلف صنعاء عندما دخل الراكبان من بابها الضخم، وكانت الأنوار الباهرة تلمع من نوافذ القصر ومن وراء قبته المرمرية العالية. وذهب سيف إلى أمه بعد أن أنزل الشيخ في غرفة بمنزل الضيوف ليحمل إليها بشرى عودة ابن عمها.

الفصل الثامن

قال الراوي:

مضى الخريف والشتاء ولم يعد أبرهة مع جيشه العظيم إلى صنعاء، ولم يبعث خبرا بنصره على قريش، ثم أقبل الربيع في موكبه الحافل يختال بين البساتين ومروج الأرباض وفي الرحبة الفسيحة بين جبلي نقم وعيبان، وتزينت الأرض تتبرج في زخرفها، والسماء تبدي صفاء ديباجتها لا تشوبها إلا سحب رقيقة تكلل الربى المزدهرة. وكان النسيم يهب دفيئا يفوح بعطر الليمون والنارنج، والحياة الجديدة تردد أغنية مرحة كأن لم يكن في صنعاء خوف ولا كآبة، وكأن لم يكن ملك الأرض غائبا في تيه لا يدري عنه أحد شيئا. وجلست ريحانة في شرفة القصر تسرح بصرها في الأفق، وخيل إليها أن الطبيعة الضاحكة تتحدى هموم الإنسان وغروره ومطامعه. لم لم يبعث أبرهة رسولا كل تلك الشهور الطويلة؟ ألم تكن رحلة خريف؟ أم هو في شغل من تدبير ملكه الجديد بعد أن هدم الكعبة ودانت له قريش؟ وهل نسي أن يجعل لسيف شطرا من ذلك الملك الجديد؟ أو بدا له أن يقيم على الحجاز ملكا من أتباعه الذين كانوا يتبعونه كالكلاب الجائعة تنتظر أن يقذف إليها بفضلة من المجد؟ وكان فناء القصر يضطرب منذ الصباح الباكر بحركة الجنود؛ لأن يكسوم أعد لذلك اليوم موكبا عظيما يسير فيه إلى الكنيسة الكبرى للصلاة من أجل انتصار أبيه. وسمعت ريحانة تصايح الأحباش برطانتهم التي كانت لا تفهم منها حرفا، وخيمت على قلبها سحابة. ماذا تحس في أعماقها التي لا تستطيع أن تخفي عنها حقيقتها؟ أكانت تلك التي تخفيها هناك أمنية أم خوفا؟ أيكون أهل مكة حقا قد غرروا بأبرهة وتركوه حتى تنفد مئونته وتخور قوى جنوده من الحر والجوع والجهد، ثم هبطوا عليه من رءوس الجبال فجأة فحطموا جيشه؟ لم يبعث أبرهة رسولا منذ خرج، ولكن الأنباء كانت تتطاير في الظلام مثل خفافيش الليل، تذيع في الناس أن أبرهة قد هزم هزيمة طاحنة. أتحزن لتلك الكارثة لو كانت حقيقة؟ ماذا كان على أبرهة لو قنع بملك اليمن واقتطع لولدها قطعة منه ليعوض عليه ما أصابه في جده وأبيه وقومه؟ ولكن يكسوم يعد الموكب ليستنقذ الانتصار بالصلوات.

صفحه نامشخص