تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
صفحه نامشخص
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
صفحه نامشخص
الفصل العشرون
تقديم
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
صفحه نامشخص
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
صفحه نامشخص
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الوعاء المرمري
الوعاء المرمري
تأليف
محمد فريد أبو حديد
قصة جهاد بطل وأمه، من حياة سيف بن ذي يزن بطل اليمن.
تقديم
أكتب هذه القصة تذكارا لقطعة عزيزة من حياتي، وأهديها إلى هزة الشباب الكبرى في عام 1919.
كانت ليلة من ليالي فبراير سنة 1919 قبل أن تتفجر الثورة الكبرى، التي كانت كامنة في النفوس تنتظر الشرارة التي تشعل لهيبها، وكان القمر التام يغمر المنزه المنعزل الذي جلسنا فيه في حدائق القبة، وكانت إذ ذاك في عالمها الشعري الوديع قبل أن ينزل بها العمران إلى زحمة الحياة العابسة، وهبت النسمات الدفيئة علينا في ظلال الأشجار المبعثرة في المنزه كأنها تبشرنا بقرب مقدم ليالي الربيع. وكان الناس يجلسون حولنا أزواجا أزواجا يتلفتون في حذر من العيون الفاحصة، وهم يتناجون في همسات خافتة تحت أنوار مصابيح تتهامس كذلك بأشعتها الضئيلة. كان ذلك قبل أن يطلع على فتيان مصر وفتياتها برق المدنية الحديثة، وقبل أن تزول عنهم الغلالة الرقيقة التي كانوا يتسترون بها إذا أرادوا أن يختلسوا ساعة لقاء.
صفحه نامشخص
ومرت بنا الساعات سريعة ونحن في حديثنا لا نلتفت إلى شيء مما حولنا، وكان صوتنا يعلو أحيانا في حماستنا، فنتلفت خشية أن نعكر الصفاء على الأزواج القريبة من مجلسنا، فما لهؤلاء السعداء الذين كانوا يتبادلون أماني الحياة المزدهرة، ويتعاطون خفقات القلوب الخالية التي هزها الربيع المقبل ، ما لهؤلاء وما نحن فيه من أحاديث ملتهبة حانقة تنبعث من الثورة الثائرة في أعماق قلوبنا. كنا جمعا من الشباب لا يعدو أكبرنا سن الخامسة والعشرين، ولكنا كنا قد قفزنا عبر الشباب، فلم نكد نلم بشيء من عبثاته السعيدة، ولم ندرك عند ذلك مبلغ إسرافنا في ساعاته، وما أسرع طيرانها! كنا لا نحسن من شبابنا إلا تلك الدفعات العنيفة التي لا تحمل شيئا من روائح الشباب العطرة. وكانت الحرب العالمية الأولى قد هدأت في ميادينها فجأة كما تهدأ العاصفة العاتية فجأة، ولكن الحطام الذي تخلف عنها كان ما يزال ماثلا في كل الأركان، يثير رعبها ومخاوفها وقلقها، كأنها ما تزال تتوثب لغضبة أخرى؛ فلم يكن في نفوسنا شيء غير سؤال واحد نردده في أحاديثنا: «ماذا يكون من أمرنا في مصر بعد أن هدأت العاصفة؟» كنا لا ندري ما يكون حالنا غدا وهذه الركام المخيفة تغطي وجه الأرض من حطام الحرب، أقد انتهت الحرب الكبرى التي ثارت من أجل الحرية كما قيل، كي نصبح نحن فنجد أنه قد حيل بيننا وبين الحرية التي ما زلنا ننشدها؟ كانت الأحداث والأحوال كلها تنم عن نية مستورة في شد القيود والأغلال في أيدينا وأعناقنا، فهل كانت الحياة تستحق أن نحياها إذا كان المقدور لنا أن نصبح للأجنبي عبيدا؟ وبدت لنا الحياة المقبلة طويلة هزيلة شاحبة شوهاء، حتى إن الموت نفسه كان في أعيننا أهون من تأملها. وكان ولسن رئيس الولايات المتحدة قد أعلن شروطه الأربعة عشر؛ فتنفسنا ارتياحا وحسبناه نبيا، وحسبنا أن تلك الشروط تصبح الأساس المتين لعالم جديد نستطيع أن نحيا فيه مع أمانينا، وكنا نحفظ ألفاظها حرفا حرفا، ونردد عباراتها بقلوب واجفة مترددة بين الأمل والخوف. وسألنا أنفسنا مرة بعد مرة: أحقا يقوم عالم جديد على مثل هذه المعاني العليا؟ كان كل حرف منها يفتح أمامنا بابا من الأمل، كأنه قد أنزل على الرئيس وحيا من السماء يقصدنا. ولكن الواقع الذي شهدناه بعد ذلك ولمحنا اتجاهه كان في كل يوم يكذب آمالنا ويزيد مخاوفنا وضوحا، فما السبيل إلى الخلاص من المخاطر البشعة التي تهدد حياتنا ونحن من أمة تحس وجودها؟ كنا نحس وجودنا في الحاضر كما نحس وجودنا القديم، ولكنا كنا لا نرى المخاوف تزداد في كل يوم إلا تجسما.
فتساءلنا: ماذا نستطيع أن نصنع إذا أردنا الجهاد وهذه الجيوش المنتصرة تملأ رحاب القاهرة والإسكندرية وسائر العواصم تباهي بقوتها وتزهي بنصرها؟ كانت تروح وتغدو في كل مكان بسلاحها الضخم وكتائبها الكثيفة تعلن للملأ أنها هناك، فما نلقى منها إذا اصطدمنا يوما بها؟ أهو الموت؟ إذن فلتكن هبة هوجاء لا نبالي فيها ما يكون؛ إذ لم يبق أمامنا إلا الاختيار بين العبودية وبين الموت. وتأملنا ذلك الاصطدام الرهيب الذي كان لا بد لنا منه، وثبت في روعنا أن الموت قد أصبح أمنية نحلم بها ونتطلع إليها ونبتسم إذا بلغناها. وهل أحب من الموت إذا كانت الحياة لا تدخر لنا إلا أن نعيش فيها عبيدا نطعم ونكسى ونكد تحت أقدام سادتنا؟ إذن فهو الحنق، وهو الغضب، وهو الثورة التي لا تفكر في عاقبة. وإن بطن الأرض خير من ظهرها إذا كان ظل الحرية لا يرف عليها.
هذا ما كان يضطرب في نفوسنا، وهذا ما جعلنا في سن الخامسة والعشرين نقفز عبر الشباب ولا نتنسم شيئا من نسائمه.
وكانت ليلة الربيع الأول الساحرة وشعاع القمر الذي ينفذ من خلال الغصون الممتدة في أرجاء المنزه والسكون الشامل ومنظر الأزواج السعيدة المتهامسة، كان كل ذلك يزيد نفوسنا ثورة وعنفا، فهل كانت الحياة الذليلة التي نستقبلها جديرة بأن تبتسم لها الطبيعة مثل هذه الابتسامة أو تخفق فيها القلوب مثل هذه الخفقات العاطفة؟ بل هي حياة لا يليق بها إلا أن تتجهم لها السماء وتمطر الأرض حمما، وأن تتحجر لها القلوب، فلا تمتلئ إلا بالحقد والبغض والقسوة. وتنبهنا بعد حين إلى ما حولنا، يدفعنا شيء يشبه الغيرة أن نرى السعداء على خطوات منا لا يبالون شيئا مما يضطرم في قلوبنا، ولكنا لم نجد حولنا إلا مقاعد خالية، وقد أطفأ الخدم أكثر المصابيح التي تتدلى من الأغصان، وجاء صاحب المنزه يحوم حولنا كأنه يذكرنا بأن هذه الجلسة قد امتدت بنا إلى أكثر من حقها، وكان وجهه ينم عن شعور غامض، ولكنه واضح ناطق، شعور الذي يرى صقرا يحوم فوق سرب من الحمائم الوديعة.
ونظر بعضنا إلى بعض في صمت، ثم هم واحد منا قائما، فقمنا وراءه على تفاهم صامت، ونحن نحس شيئا من الخيبة. إن المجلس لم يمتد بنا حتى نبلغ ما نشاء من أحاديثنا، ولم يبلغ بعد ما يشفي غليل صدورنا. وسرنا في الطريق الساكنة المتعرجة التي كانت عند ذلك تصل بين منزه الحدائق وبين العمران في (غمرة). ومضينا في حديثنا ونحن نسير على مهل في ظلال أشجار اللبخ، وأغصانها تتعانق من جانبي الطريق فوقنا كأنها نفق يخترق الفضاء المضيء.
وبلغنا ميدان الحسينية قبل منتصف الليل، وكان النسيم ما يزال يهب وديعا والبدر الباهر يتوسط السماء الصافية، والأنوار الساطعة تنبعث من الحوانيت والمنتديات الشعبية التي تحف بالميدان، ولاحت لنا حلقة حافلة في منتدى كان قائما عند مدخل الطريق الضيق المؤدي إلى المدينة. وكان في وسط الحلقة شاعر ينشد على ربابته ويقص على الجمع الخاشع قصته. وكان في رنين إنشاده من بعيد ما يوائم نبضات قلوبنا المضطربة، فقال واحد منا: «ما ترون في مشاركة هؤلاء؟» فما هو إلا أن قال ذلك حتى اتجهنا إلى المنتدى في موافقة صامتة.
وكان الشاعر شيخا لا أذكر أن عيني وقعت على مثل صورته، كان أشبه بخيال أو بصورة في إحدى اللوحات الفنية التي يخلد بها مبدعوها. كان نحيفا معروق الوجه، له لحية خفيفة وخطها الشيب، ولكن عينيه الكليلتين كانتا تبصان بنور لامع يخالطه سيال وديع يشعر بشجن دفين. وكان يلبس عمامة بيضاء ذات عذبة تضطرب على كتفه إذا تحمس في إنشاده. ومضى في إنشاده بصوت متهدج تنم نبراته عن حركة نفسه وحرارة وجدانه. وكانت ربابته تصاحب إنشاده بلحن عميق يملأ جو المنتدى بأصدائه، وهو يعلو حينا ويخفت حينا، ويرق في مواضع ويعنف في أخرى مسرعا أو مبطئا، مبتهجا أو حزينا، والجمع من حوله ينصت في لهفة. كان ينشد كأنه يحدث نفسه بحلم يراه خلال سنة من النوم، أو يناجي أطيافا تظهر له من عالم مستور يهتف له بأسرار الإنسانية التي ما زالت منذ القدم تملأ قلوب البشر أملا، وتجعل لحياتهم مقصدا. ولمحت عليه عند أول مقدمنا شيئا من التردد يكاد يكون ضيقا وكراهة، فمن هؤلاء الأغراب الذين يأتون إلى مجلسه في مثل تلك الساعة من الليل يقتحمون الجمع الخاشع الذي حوله في شيء من الزهو، كأنهم يتنازلون بالذهاب إلى هناك للاستماع إليه؟ وهل تقع قصته في نفوسهم موقعها في نفوس الجمع الساذج الذي اعتاد الاستماع إليه؟ أجاءوا للمتعة أم جاءوا للسخرية؟ ولكن الجمع تحرك في دهشة وفسح لنا مجلسه عندما رآنا نقبل عليه. ولاحت على الوجوه بسمات عاطفة كأنها اغتبطت أن ترانا نقبل على المتعة التي تتمتع بها. كانت تلك الوجوه تشعرنا نحن كذلك بشيء جديد يشبه أن يكون وحيا. أليس هؤلاء قومنا الذين نستند إليهم إذا عصفت العاصفة يوما؟ فتبسمنا في بساطة وجهرنا بالتحية، وكان الرد عاليا بنبرات مؤنسة. أليس هؤلاء هم إخواننا الذين يطلع عليهم الغد كما يطلع علينا؟ أهي العبودية معا أم هي الحرية معا؟ ولم يخل قلبي من الألم عندما نظرت إلى وجوههم الباسمة، ألسنا مقصرين نحن الذين يدعون أنفسهم بالمثقفين في أن نتقرب إلى هؤلاء وأن نتعرف إلى هؤلاء؟ كانوا ينظرون إلينا نظرة المضيف إلى الضيف. لم نكن منهم وإن أدخل مقدمنا الأنس إلى قلوبهم. ولعل ذهابنا إلى منتداهم قد زاد فيهم الرضى عن أنفسهم وعن المتعة التي يختصون بها وحدهم، فنحن (الأفندية) نذهب للجلوس بين الجمع الحاشد الذي يزحم الطريق، ونسعى لمشاركتهم في شرب القهوة والخشاف وتدخين النارجيل المكركرة.
وبعد أن هدأت حركة اللقاء الأولى مضى الشاعر في إنشاده مرة أخرى وقد لانت نظرته وذهب أكثر تردده، وإن كان بين حين وحين يرفع بصره إلينا في نظرة سريعة؛ ليلمح ما كان يبدو على وجوهنا من الرضى أو السخرية .
منذ تلك الليلة صرنا من قصاد ذلك المنتدى البلدي، نذهب إليه معا إذا اجتمعنا، أو وحدانا إذا لم ندبر اجتماعا، حتى أصبح لنا بعد قليل ملتقى مختارا. ولم نلبث أن صرنا أصدقاء الجميع، وعرفنا الأفراد شخصا شخصا، وعرفنا من هناك بأسمائنا. وكانوا يحتفظون لنا بمجالسنا، فإن غبنا ليلة أو ليالي أو تأخر حضورنا سألونا أين كنا؟ وكان لهذه الصداقة الجديدة أثرها العظيم عندما شبت الثورة الكبرى في مارس من ذلك العام، كنا نجتمع هناك كل ليلة في المنتدى ندبر مع أصحابنا خطط الجهاد في سبيل الحرية. وكان لهذه الصداقة أثرها في تهدئة الخواطر عندما كادت الفتنة تقع بين أهل الحي وبين النزلاء من طوائف اليهود والأرمن. ألا ما أجلها من ذكرى! إن هذا الشعب جدير بأن يكون أكرم مما هو، وأقوى مما هو، وأسعد مما هو.
وهذه القصة التي أكتبها اليوم بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على تلك الأيام البعيدة ما هي سوى تحية، أؤديها لذكرى اللحظات المجيدة التي كنا نجاهد فيها بأنفسنا ونسخو فيها بأرواحنا، لا نسأل أحدا عليها أجرا ولا شكرا. وهي بعد ذلك تحية لهؤلاء الأصدقاء الذين كنا نجلس إليهم في ليالي النشوة الثائرة ثم فرقت الأيام بيننا. ثم هي تحية للشاعر الذي ما زالت صورته ماثلة في الذكرى، وإن كان اليوم يثوي في مضجعه الأبدي، لا يذكر أحد أن أناشيده القوية الوثابة كانت تحرك قلوب طلاب الحرية نحو عزمات الغد الطالع من ضمير الغيب. وهذه القصة هي بعض الأصداء الباقية في القلب من تلك الأناشيد البارعة التي كانت القلوب تتجاوب لها، عندما كانت تضطرب وتأمل وتخلص وتصادق في غير تحفظ، عندما كان الأفق البعيد يبدو جميلا صريحا، تفيض عليه أنوار ساحرة، عندما كانت الأيدي تسخو بقليلها والقلب يجود بكثيره، عندما كانت الصور والمعاني أثمن وأكثر قوة من الحقائق والمادة.
صفحه نامشخص
وبدأ الشاعر ليلة من الليالي ينشد قصة سيف بن ذي يزن عندما طلبنا ذلك إليه، لنملأ نفوسنا بصورة من ذكرى المجاهد العربي القديم، فأودع الشيخ النحيل إنشاده كل حرارة قلبه المشتعل، وكان يترجم في أنغامه وألفاظه ما في قلوبنا من نبضات حية. كان يعرض الصور علينا ويسوق الحوادث في بيانه كأنها قطع من الحياة التي تضطرب فينا، وكان يتحدث على ألسنة الأشخاص كأنها نفوس جاءت معنا لتشاركنا، وكان يلقي علينا أسجاعه في أمواج من النغم تتلاحق وتتداخل مطربة مشجية، فيها تقاذف الحياة بالأحياء، وفيها طعوم الآلام المرة والآمال العذبة، وفيها نشوة الحب وجراح المعارك. وقال في أول إنشاده: «هل الحياة إلا صور متجددة تتجسد في جيل بعد جيل في شخوص شتى، وإن كانت حقيقتها واحدة؟»
وكان في إنشاده يشخص ببصره فوق رءوس الجمع، كأنه لا يرى أمامه شيئا سوى الصور التي يراها وحده سابحة في عالم غير منظور. وكنا نستمع إليه في صمت ونكاد نعلق أنفاسنا في صدورنا. ولو استطعت أن أعيد كلماته ولفتاته، وأن أثبت قصته كما قالها حرفا حرفا وإشارة إشارة، لما استطعت أن أبين أصداء إيقاعه ولا حركات الأفئدة التي كانت تصغي إليه. وأنى للألفاظ أن تحمل فوق طاقتها أو أن تبعث من المشاعر ما لا تستطيعه بطبيعتها؟ وهل الألفاظ سوى أداة صنعتها الإنسانية من مادتها وأبدعتها من فطرتها؟ ما كان لألفاظنا المحدودة أن تسمو إلى غير أفقها ولا أن تصور ما يدق عن بيانها. ليست هذه الألفاظ سوى أستار نسجها الإنسان بيديه لكي يسدلها على مكنون ضميره؛ لترمز إلى ما وراءها إذا عجز اللسان عن الإفضاء بمعناه. وما كان لها أن تصور رؤى شاعر يسبح وحده في عالمه إلا كما تدل الرموز الغامضة على الأقداس الخفية. فحسبي إذن أن أردد هنا ما وعته ذاكرتي من تلك الأناشيد التي كانت دماؤنا تتدفق مع أصدائها، وأن أقنع بما يتهيأ لي من لفظي وبياني مع الاعتراف بالقصور، وشتان بين الصادح والحاكي، وبين الأصيل والدخيل.
وكان أول نشيده يشبه أن يكون اعتذارا، وإن كان يخفي في ثناياه أقوى معاني الاعتداد بكبرياء نفس طليقة. قال: «أيها السادة الكرام، إليكم قصة صاغها الزمان من أحداثه وأنشدتها الليالي في نغمها الصامت، قد طالما صاحب الزمان الأحياء كما يصاحبنا اليوم، وطالما عابث الناس كما يعابثنا في الأصباح والأماسي.
وهو يدور بالبشر في حركته الأبدية، لا يفرق بين قديم وحديث، ولا يميز بين قوم وقوم. له حكمته الصارمة، لا يحابي ولا يعادي فيها، ولا يعرف الأشخاص ولا الأمم ولا العقائد ولا ألوان الشعوب. وهو لا يعبأ بما كانت الحياة تكسوهم به من مظاهر تعارف الناس عليها فيما بينهم، من ملوك وسوقة، وعظماء وصغار، وعلية وسفلة، بل يناديهم جميعا بأسمائهم مجردة ويعرفهم بحقائقهم مكشوفة. يصف الجميع بأوصافهم الصادقة، ولكنه لا يتهم ولا يمدح، هو هادئ هدوء الأبدية، عادل عدل الأزلية، صارم نافذ، ولكنه لا يعرف رحمة ولا قسوة. وهو يضم الذين عاشرهم بالأمس إلى أولئك الذي مضى بهم من قرون، يودعهم جميعا في رحبة واحدة؛ لأنهم أخذوا فرصتهم في الحياة ومضوا عنها، ولا سبيل لأحد منهم إلى معاودة الكرة فيما كان.
هو يعاشر هذه البشرية ويشهد حركتها ويعرف دخائلها وكوامن أسرارها، ويرى كل جيل وهو يستقبل الحياة، ثم يراه وهو يودعها، ولا يمل أن يستعيد المنظر المعاد مرة بعد أخرى. كل فرد يستقبل حياته جديدة ويحس حرارتها، ويذوق منها سعادتها أو شقاوتها. يحمله الشباب حينا في فلكه المذهب، وينساق به حينا مع تياره الدافق، ويحسب أنه يجرب ما لم يجرب أحد من قبله، ويدرك ما لا يدركه أحد غيره، يذوق الحب فيحسب أن أحلامه الساحرة لم تخطر قط على قلب، وأن الأودية الغامضة ذات الألوان الزرقاء الرفيقة لم تكشف أستارها لأحد قبل أن تتكشف تحت عينيه المسحورتين. وهو يقارف حالات الحياة من سلام واضطراب، وسعد وشقاء، وخوف وأمن، فيظن أنه أول من ذاق حلو الحياة ومرها. ولكن الزمان يرمقه باسما وينادي بصوت خفي قائلا: «هكذا كانوا دائما.»
وما نحن أيها السادة في حياتنا سوى بعض مشاهد هذا الزمان القديم الجديد، نحس ما أحس من كانوا قبلنا، ونجرب على الأرض في مغامرتنا مثل ما جربوا، فلسنا سوى قصص معادة فيما نشهد من مباهج الحياة أو مآسيها. فإذا سمعتم أيها السادة قصتي فطربتم أو جزعتم، ووثبت هممكم أو خشعت، فإنما هي هزات قلوب بشرية ترى صورتها في مرآة، فاستمعوا أيها السادة إلى أنشودتي، فهي قصة كل منكم؛ لأنها لمحة من المغامرة الإنسانية الكبرى، مغامرتها القديمة الجديدة في حياتها على الأرض منذ خلق الله الإنسان. والبشر يتلاقون ويتفرقون، وقد ينقطع ما بينهم أبد الدهر، فلا يذكر أحدهم الآخر إلا أن تسنح ذكرى عابرة عقيم في لحظة من اللحظات، ثم تمضي كما يومض البرق ويخلف وراءه الظلام، وقد تتعقد الأمور وتتلاقى خطوط سير البشر، فتصبح للناس قصة يتناقلها بعضهم من بعض ويستوحون منها الحكمة.
وهذه القصص التي تخلفها الأجيال وراءها هي أثمن ما فيها؛ لأنها تراث الإنسانية الأكبر، فيها صور خالدة من حالات النفس التي أبدع الله نشأتها. وهذه الصور قد تختلف في ملامحها وفي ألوانها، وقد تتعدد بيئاتها وتتباين أزياؤها وطرائق تفكيرها، قد تكون في الجبل، أو السهل، وفي الغابة أو الصحراء أو في المدينة المزدحمة، وقد تتجلى في معابد الأوثان أو مساجد الوحدانية، ولكنها في جوهرها واحدة خالدة.
استمعوا أيها السادة إلى قصتي وإلى أنغام ربابتي، لا، بل إنني وأنا أنشد لكم أستمع إليها معكم. ولقد سرت في أنحاء المدينة كل حياتي، وعرفت أركانها، وغشيت نواديها، وسمعت منشديها، فأنا أعلم أين تقع قصتي، وأيان يبلغ إنشادي. أعرف أن الآخرين قد يكونون أعلى صوتا، وقد تكون حلقاتهم أكثر من حلقتي عددا، ولكني لست أبالي ما يقولون عن أنفسهم ولا ما يقول الناس عنهم، فإني أعرف أنهم محجوبون عن عالمي الذي أستمد منه صوري وأستوحيه ألحاني. ولست أكذبكم في قولي أنني أكثركم طربا وأشدكم نشوة في هذه الساعات التي أنشد لكم فيها، ففيها أحس وجودي وأتمتع بحريتي وأبلغ حقيقة إنسانيتي. وكلما أخذتني النشوة وجدت أنني أسمو إلى آفاق علا، يحيط بي فيها السلام وترف من حولي السعادة. وعند ذاك يتضاءل في قلبي كل ما يحسبه الناس في الحياة عظيما، ويضعف عندي كل ما كنت أظنه قويا من إغرائها ومن فتنتها، فلا المجد يستهويني ولا الغنى يغريني، ولا شيء من مادة الأرض تثقل وجودي. فأنا هناك في عالم ليس فيه إلا صور شفافة تسبح سبح الأرواح في دعة واطمئنان ورضى وسعادة، وقد تجردت من أستارها وجهرت بحقيقتها. فأنا أعرفها وهي تعرفني، وآنس إليها وتأنس إلي، لا تخفى عني خافية من ضمائرها ولا أسر عنها سرا من ضميري. نتعبد جميعا في محرابنا العلوي بعيدين عن الغرور والرياء، فما دمت هناك مع تلك الأرواح أجدني ساميا فوق صغائر الأماني وتوافه الشجون، التي تلعب بألباب البشر وتسخر من عقولهم كما يسخر السراب من عقل السارب الظمآن إذ يهيم على وجهه في الصحراء.
هنالك أستطيع أن ألمح معنى الجمال الصادق والحب الصافي، وأن أخلو إلى الحقيقة خاشعا عابدا مخلصا، لا ترهبني عنها خشية ولا تطمعني عندها مثوبة؛ لأنها هي الأفق الأجدر بأن يكون غاية الغايات. قد أجد الجمال في الزهرة الضئيلة بين رمال الصحراء، كما أجده في الراعية الفقيرة في أسمالها البالية، كما أجده في العذراء الطاهرة التي تمد يدها إلى جريح تواسيه. وإذا كانت جنة عدن هي جزاء الصالحين على ما قدموا من الصالحات، فإن أعلى طبقاتها تنتظر الذين كانوا يقدمون الحسنة ولا يطمعون في الثواب. فالحسنة في ذاتها جمال، وفي جمالها وحده جزاؤها. الحب جميل، والرحمة جميلة، والإيثار والصدق والجود كلها جميلة، تذوق النفوس الصادقة جمالها وتتملى بلذتها، ولا تبغي من ورائها ثوابا.
هناك أيها السادة في هذا العالم المستور أجد جزائي وثوابي، لا أبالي شيئا مما يتطاحن عليه الناس من الأدعياء. فأنا حر سعيد ما دمت أنشد وأستمع إلى نغم ربابتي، فإذا أمسكت صحوت من أحلامي وهربت مني صوري وعدت إلى عالم الأحياء، أعيش منهم قريبا وإن كنت بينهم غريبا. سأنشد لكم وأنشد ليلة بعد ليلة، ولكم أن ترضوا إذا أرضاكم ما يصدر عني، ولكم أن تنكروا كما شئتم إن بدا لكم من ذلك ما لا يروقكم. لكم أن تصفقوا استحسانا، أو تظهروا استهجانكم بغير مداراة! فهذا حق لكم. أما أنا فما أقصد إلا أن أظهر ما عندي مما يهتز له فؤادي، وما أودعته ثمرة حياتي، وأسلت فيه عصارة روحي، فإذا وقع عندكم موقعه عندي زادت بذلك سعادتي، وإلا فلست أسألكم شيئا إلا أن تشعروا في قلوبكم الرحمة، فالرحمة أعظم ما يعطي إنسان وأثمن ما ينال إنسان.»
صفحه نامشخص
الفصل الأول
قال الراوي:
أطلت خيلاء من نافذة مخدعها في أول الصباح، وكانت الشمس ترسل أول أشعتها تتدسس بها بين جذوع الأشجار، وخلال أوراق الغصون، وعلى رءوس الربى الخضر المحيطة بقصر غمدان. وكانت رءوس جبلي نقم وعيبان ما تزال متسترة وراء غلالة رقيقة من الضباب، ترمق الشمس من وراء نقابها الشفاف، كأنها حسناء منعمة تطل من ثنايا أستار قصرها الشامخ لتجتلي طلعة ملك في موكبه. وكان في الجو عطر لطيف لا تشبهه عطور الزهر، يسري في الكون خفيا لا يدركه الحس، ولكنه يملأ النفس بهجة، ويشيع فيها شجوا هادئا.
وكانت الآفاق تبدو في النور الخافت وسنى ساكنة، وإن كانت تنبض بمثل نبضات الأمواج الهادئة في البحيرة الصافية، وتتردد منها أغنية صامتة لا تقع في الأسماع، ولكنها تبلغ أبعد أغوار القلب. أو هكذا أحست خيلاء وهي تفتح نافذتها المرمرية في مخدعها، وتطل على مروج صنعاء الفسيحة الباسمة. وأخذت تملأ صدرها من النسيم الفاتر الذي يحمل رسالة الخريف الوديع من البساتين المزدهرة الممتدة حول القصر. أهو الخريف؟ أهو الخريف الذي تذبل فيه أوراق الأشجار وتصفر وترف متساقطة مع هبات الهواء؟ أم هو الربيع قد عاد أدراجه مترددا متشبثا بحقل صنعاء اليانع، لا يريد أن يتخلى عن بساتينه ومروجه؟ وأجالت خيلاء بصرها في المنظر الممتد تحت عينيها، وكانت الأحاديث الصامتة تتردد في سرها منسابة في رفق كما ينساب ماء الجدول الصافي في ظلال الخمائل. ورأت هنالك تلك الشجرة الضخمة التي تبسط أغصانها على ممشى البستان، وذلك الطريق الملتوي الذي يخرج من بين الشجيرات كأنه يتفلت منها مداعبا. ما كان أبهج الألوان في ذلك الصباح، كأنما هي باقية على ما كانت عليه في أصائل الربيع ، عندما كانت الأزهار تتفتح ضاحكة متبرجة، لا تداري مرحها ولا تتواضع في المباهاة بحسنها. وهنالك الركن الظليل الذي تعرش فوقه أعواد الياسمين، وتلك الربوة التي تتسلق عليها الأعواد المدادة وتلف خيوطها الدقيقة على ما يعترض سبيلها من فروع النبات، حتى تتوكأ إلى القمة وتدلي بعناقيد زهرها الأحمر، كالعروس إذا جليت ليلة الزفاف. لقد مضى حين طويل منذ تلك الأماسي السعيدة التي كانت خيلاء تمرح فيها هناك مع سيف. ولقد شهدت هذه الأركان الظليلة كل مشاهد السعادة التي مرت بها في حياتها. هناك كانت تلعب مع سيف في أيام الصبا، وهما يسابقان ظلهما ويتفننان في صياغة العقود من الأزهار، ويتسلقان الربوة ليطلعا من فوقها على أعشاش العصافير في أعالي الشجر، ويرقبا يوما بعد يوم هل خرجت أفراخها من بيضها؟ وهل كسا الزغب أجسادها الحمراء المرتعشة؟ وهل استطاعت أن تهز أجنحتها وتطير جافلة وراء أبويها إلى أعالي الغصون، ثم تقف هناك تنظر إليهما وهي لاهثة كأنها تعابثهما. وسألت خيلاء نفسها: أما زال سيف في صنعاء ولم تره منذ أسبوع؟ أيكون في غمدان وهي تترقب كل يوم أن تلمحه في بعض مماشي البستان أو في جانب من البهو، فلا يلوح لها ولا يسعى إلى لقائها؟ لشد ما تغير سيف في تلك الأسابيع الأخيرة. كانت كلما رأته توقعت أن يقبل عليها باسما في خجل يعتذر إليها من انقطاعه عنها، ويحدثها عما عاقه عن لقائها من صيد أو نزهة، ولكنه كان ينظر إليها مرتبكا مضطربا، ثم يستأذن فيمضي سريعا كأنه يهرب من لقائها. أهو سيف الذي نشأ معها وأنس إليها وكان لا يستطيع أن يذوق طعاما ولا أن يطيب له سمر إلا معها؟ أهو سيف الذي جعلها ترى في الربيع ما لم تره عين، وتسمع من أناشيد الحياة ما لم تسمعه أذن؟ أهو سيف؟
أكان يحيي فيها تلك السعادة لكي يذيقها من بعد مرارة الوحشة وقلق الخوف والشك؟ وما الذي اعتراه فجعله يغيب عن القصر أياما قد تمتد إلى أسابيع، فإذا ما عاد من غيبته الطويلة لم يسرع إلى تلك المسارح التي كانا يمرحان فيها معا، ولم يسع إليها معتذرا يداري ذنبه في ابتسامته الوديعة؟ وما ذلك الذي ينزوي به في مخدعه فلا يكاد يبرحه، حتى إذا لقيها عفوا في ساعة لم يزد على تحية قصيرة يعقبها صمت، ثم يمضي عنها كأنه يجمجم في نفسه حديثا خفيا؟ كانت خيلاء إذا رأته وتلاقت نظراتهما بعثت إليه عتابا لا يمكن أن يخفى عليه. كانت نظراتها تكاد تصيح به حانقة، ومع ذلك فقد كان يغضي مسرعا ثم يغلق نفسه دونها. وسألت نفسها: أيكون في موكب اليوم؟ أيذهب إلى الكنيسة في موكب أبيه الملك؟ أم يتخلف عنه كما تخلف من قبل مرارا؟ وذكرت يوم ذهبت في أول موكب إلى الكنيسة العظمى يوم افتتحها الملك أبرهة مع رسول قيصر، كان يوما لا تنساه، كأنه علم في حياتها.
وكان سيف في ذلك اليوم يركب مهره الأبيض الذي أهداه إليه أبوه ويسير وراء هودجها، تراه كلما نظرت من ثنايا الستور الحريرية، وهو ينظر نحوها باسما. ثم جلس في الكنيسة إلى جنبها، وكان يرتل معها بألفاظ رومية، وكلما أخطأ في لفظ وقف حتى يتبع صوتها، وكاد يضحكها إذ كان يبدل كلمات الترتيل بأخرى من عنده عربية لا تتسق مع الصلاة. أيذهب سيف في موكب اليوم؟
وارتدت خيلاء من النافذة وعلى قلبها سحابة، فذهبت إلى ركن مخدعها نحو تمثال فضي بارع الصناعة ليسوع الطفل في مهده، وأمه العذراء إلى جنبه، تمد كفيها نحوه في عطف، وترنو إليه في حنان وخشوع. وكان ذلك التمثال هدية أهداها إليها الملك الطيب أبرهة إظهارا لإعجابه بتقواها وحماستها لديانة المسيح. وكانت العذراء حاميتها، تلجأ إليها في سعادتها كما تلجأ إليها في قلقها واضطرابها، وكان المسيح سيدها وملاذها، تتجه إليه ليزيد قلبها حبا وسلاما. ونظرت إلى الصورة بقلب متلهف وهي تكاد تسمع منها أصداء المحبة والرحمة التي كانت تنبعث من الأم الطاهرة البتول إذ تناغي وليدها.
وجثت في صمت وضمت كفيها وأمالت رأسها تصلي، وقلبها يسبح شجيا يمتزج فيه القلق والأمل، وكانت صلاتها الصامتة حارة تتجه فيها إلى منبع الحب الفياض؛ ليزيد قلبها حبا. وأحست بعد قليل أن السلام يغمرها، فقامت كأنها ألقت عن صدرها ما فيه من هم وملأته أملا. وذهبت خفيفة إلى خزانة الملابس لتختار الثوب الذي تلبسه لموكب اليوم، فسوف تذهب مرة أخرى إلى الكنيسة العظمى التي جعلها أبرهة آية من آيات الإبداع؛ ليظهر فيها ديانة المسيح على الوثنية البلهاء. وحانت منها نظرة إلى المرآة المعلقة على جدار المخدع، فتعلقت بالصورة التي بدت لعينيها، ولمست بأطراف بنانها جانب شعرها الأسود الغزير، وتبسمت عندما تذكرت سؤال سيف لها عن ذلك الخال الأسود الذي يتوسط خدها. أحقا سميت خيلاء من أجل تلك النقطة السوداء التي كان سيف يحدثها عنها كلما لقيها؟ كان يقول لها إن ذلك الخال الأسود بقية من جلدها القديم أيام كانت من قوم أبرهة. وكانت هي تفاخره بأنها عربية مثل الملكة ريحانة. وصرفت بصرها عن المرأة في شيء من التردد، وقد أحست بما يشبه الخجل من شعور الغرور الذي خامرها.
واختارت ثوبا حريريا أبيض تزينه خيوط من الذهب والفضة، وقطع من الجواهر المؤتلقة في مواضع أزراره. وكان الثوب من صنع القسطنطينية العظمى، وهو من هدايا قيصر إلى صديقه أبرهة اعترافا بفضله في خدمة المسيح. ولطالما حدثها سيف عن أمنيته في زيارة عاصمة قيصر، تلك العاصمة الكبرى التي تبعث مثل هذا الثوب الرائع، وما يكون أروعها من رحلة لو تحققت، فذهبت مع سيف يريان معا من عجائب الأرض ما لا يخطر على قلبها. وحملت الثوب إلى النافذة فرفعته بين يديها ليستقبل من ورائها نور الصباح متلألئا، ولكن الشمس لم تشرق بعد. ألا ما أبطأ الشمس في طلوعها من وراء الأفق! ألا يكون سيف قد خرج إلى البستان ليملأ صدره من نسيم هذا الصباح؟ وعادت تسأل نفسها: أيذهب اليوم إلى الكنيسة ويجلس بجانبها؟ وعادت إليها صورته يوم ذهبا إلى هناك معا وجلس إلى جانبها، وكانت أصوات الترتيل ترن بين الجدران جليلة عميقة كأنها تسبيح الملائكة. أيجلس إلى يسارها كما جلس من قبل ويهمس في أذنها همسات خافتة في أثناء الصلاة؟ كان يحدثها مرحا عما سمع عن القسطنطينية وعن قصر خليفة المسيح فيها، وكان متدفق الهمسات ظريف الفكاهة، حتى إنه لم يصمت في أثناء الصلاة. كان الكهنة يرتلون صلوات لا يفهم منها حرفا، والناس من ورائهم ينشدون جماعة. وكانت هي تحفظ ذلك الترتيل كما تحفظ أغنية عذبة، وهمس سيف عندما تعثر في ترتيله الرومي قائلا: ألا يفهم الله الصلاة إلا بالرومية؟ عفا الله عنه فإنها سوف توصيه إذا رأته ألا يعود إلى مثلها. ولكن أيحضر موكب اليوم؟ أم يتسلل من مخدعه كما تسلل في أيام أخرى، فيغيب أياما يقضيها حيث لا تدري؟
وأتمت زينتها في احتفال وعناية، وتلك الأحاديث تتردد في ضميرها، ثم عادت إلى النافذة تقلب بصرها في الأفق، وكانت الشمس قد زحفت بطيئة في طرف القبة اللازوردية، وأخذت تمسح بأشعتها على خصل الأغصان الخضر. ودبت الحركة في جوانب القصر فاترة، كأنها تتمطى في أول يقظتها.
صفحه نامشخص
ولكن الموكب لن يبدأ حتى يستقبل الملك وفود القبائل والمدائن الذين أتوا إليه من أودية اليمن البعيدة؛ ليؤدوا له تحيتهم قبل أن يخرج من صنعاء إلى الحرب التي عقد النية عليها. سيذهب أبرهة كما قال إلى مكة بعد يوم واحد، وسيهدم كعبتها حتى يزيل من الأرض رجس الوثنية، ويجعل العرب جميعا يحجون إلى كنيسته البديعة، وودت لو كان أبرهة عربيا. كان رجلا رحيما طيب القلب، لا يدع فرصة إلا انتهزها ليبدي لها جانبا من رحمته، ولو كان عربيا لما أحست شيئا يشوب إعجابها به ورضاءها عنه. فما تلك الكعبة التي لا تزيد على ركام من الحجارة تحيط بها تماثيل شوهاء لآلهة زائفة؟ أين تلك الكعبة من القليس التي بناها أمهر صناع القسطنطينية ومهندسوها لكي يمجد فيها اسم المسيح؟ ولكن متى يبدأ الموكب والشمس ما تزال تدب بطيئة في السماء؟
ونزلت إلى البستان لتجول فيه جولة حتى تحين ساعة الموكب، وتمنت لو لقيها سيف هناك، كانت خطاها مترددة كأنها كانت تخشى أن يراها أحد في مثل هذه الساعة من الصباح خارجة من مخدعها، وقد يحسب أنها ذاهبة إلى هناك لعلها تراه. وذهبت إلى المجلس الساكن تحت ظلال أشجار الجوز، وكانت المقاعد المرمرية تباري أشعة الشمس الوردية التي كانت تطل من بين الأغصان والجذوع. هناك كانت آخر مرة لقيها سيف وحدثها. وعاد صوته يرن في أذنيها وهو يصف لها مهره الأبيض الذي أهداه إليه أبوه، وكيف كان يسبق الوحش في غير مشقة. ألم يكن عجيبا أن يكون سيف من ولد أبرهة؟ كان يشبه ريحانة، الملكة العربية في نظرة عينيه وفي دقة حاجبيه وفي صورة شفتيه. كانت تتأمل هاتين الشفتين المملوءتين بالحياة كأنهما هما اللتان تتحدثان، وكان في صوته غنة تشبه ... ماذا تشبه؟ ولم تجد كذلك وصفا يصدق على نبرات صوته عندما كان يتحدث إليها. ولكنه كان على كل حال لا يحمل شيئا من شبه أبرهة، فأين هو وأين مسروق أخوه الذي ولدته ريحانة؟ كأن الملكة الحسناء أودعت في ولدها الأول كل حياتها وكل فنون طبيعتها الصافية. كان مسروق يشبه أباه في لونه وفي قصر قامته، وهو مستدير الملامح والأعضاء، له نظرة تشبه نظرة البقرة، فأين هو من سيف الذي يطلع مثل غصن السرو في دقة عوده وطول قامته؟ وأين هو من سماحة وجهه ومن نظرته التي تذكرها بلمعة النجم في الليلة الصافية؟ وأما بكسوم بن أبرهة الأكبر فما أشبهه بأبيه في وجهه وهامته، وإن كان في ضخامة قامته يتطوح كالنخلة الباسقة. وكان شعاع عينيه العابستين أشبه بلمعان السيف الصقيل، فيهما بريق يبعث البرد إلى فقرات الظهر، وأما صوته فكان مثل رنين النحاس، جافا كأنه كتلة من مادة. لا شك أن أمه الحبشية كانت تستطيع أن تروض الفهود التي تحوم في الغابات في طلب فريستها. ثم بسباسة ابنة أبرهة، أتكون ابنة ريحانة حقا؟ كانت لا تحمل منها شبها إلا أن يكون شعرها الطويل الفاحم. ووقع في نفس خيلاء ما يشبه أن يكون غيرة، وتنفست نفسا عميقا فيه شيء من الحسرة. وخطر لها عند ذلك سؤال كان يخطر لها بين حين وحين، فيضيق به صدرها ويشرد منها النوم حتى تقوم إلى جانب تمثال العذراء، فتجثو عنده تصلي وتدعو حتى تنقشع عنها وساوسها. من هي؟ وما علاقتها بكل هؤلاء الذين تعيش بينهم في غمدان؟ بل ماذا أتى بها إلى ذلك القصر؟ وهي لا تعرف صلتها بأحد ممن فيه؟ وماذا عسى تقول بسباسة عنها إذا خلت إلى نفسها؟ أما تقول في سرها: «من هذه الفتاة العربية التي تعيش معنا؟»
وما عسى ريحانة الوديعة تقول عنها فيما بينها وبين ضميرها؟ بل ماذا يقول سيف عنها؟ وأرادت أن تصرف عن ذهنها ذلك السؤال الذي أوشك أن يملأ قلبها قلقا ويفسد عليها بهجة منظر الصباح، وكبحت نفسها في شيء من العنف كأنها تؤنبها على الاسترسال مع هذا الوسواس الذي يخطر لها آنا بعد آخر، فما الذي يعنيها من كل تلك الأسئلة وهي ترى مكانها في غمدان عزيزا كريما؟ لقد نشأت فيه منذ طفولتها لا تعرف شيئا من هذه الصلة ولا تسأل عن شيء، بل إنها كانت تعرف دائما أن هذا القصر هو موطنها الذي لم تعرف غيره. لم يسألها أحد ممن فيه عن نفسها، ولم تسأل هي أحدا عن شيء من نفسها. لم تعرف شيئا سوى أنها عربية مثل ريحانة، فهكذا قالت الملكة النبيلة لها كأنها تفخر بها، وماذا ينفعها أن تعرف أمرا لا يزيدها شيئا ولا ينقصها؟ ماذا يجديها لو عرفت اسما قيل لها إنه اسم أبيها، واسما آخر قيل له إنه اسم أمها؟ بل ماذا يجديها لو عرفت كل نسبتها وأنها تتصل بملوك حمير القدامى؟ بل ما لها تذهب إلى كل هذا وقد تكون معرفة ذلك النسب باعثة لها على البؤس والشعور بالمذلة؟ ماذا يكون لو عرفت أن أباها كان أحد المساكين من الأعراب العراة الذين يظهرون لها في طريق المواكب أحيانا؟ بل ماذا لو عرفت أنها لم تكن سوى طفلة بائسة وجدوها ذات يوم ملقاة عند باب القصر، فتحركت شفقة الملكة عليها فضمتها إلى جناحها؟ وكانت في أثناء سبحها في الخيال تنظر إلى الأغصان تتأملها كيف تتداخل وكيف تتعانق، وإلى أشكال أوراقها وصور ثمارها. كان بعضها منسرحا لينا غضا، وبعضها معقدا جافا، وبعضها يمتد بظله الوارف، وبعضها يسمو بجذعه الفارع. حتى الأشجار لا يشبه بعضها بعضا، وحتى الغصون لا تتساوى في هيئتها وإن كانت فروع شجرة واحدة، فهل تزيد الشجرة أو تنقص شيئا إذا هي لم تعرف من غرسها؟ أين كانت ثمرتها الأولى التي خلقت بذرتها؟ ألم يكن لها أصل ونسب كسائر الخلق؟ لا شك أنها انحدرت من بذرة شجرة أو من فرع غصن كما انحدرت بسباسة وكما انحدرت ريحانة نفسها، فلم تفسد الصباح بالاسترسال في هذا الوسواس العقيم الذي لا يستطيع أن يعقب شيئا سوى الاضطراب؟ ولمع لها شخص يقبل من بعيد يلوح شبحه خفيا من خلال جذوع الشجر، فانتفضت وصرفت وجهها عنه حتى لا يحسب أنها كانت تترقب حضوره، إنه هو! ومرت لحظات طويلة، ثم اقترب الشخص حتى ظهر لها من خلال جذوع الشجر، ولكنه لم يكن سوى أحد خدم البستان يبكر إلى عمله ليجمع ما تساقط من الأوراق الصفراء في ساعات الليل، ويقطع الأعواد الجافة الناشزة من الفروع المتدلية. وسبحت في حديث مع نفسها مرة أخرى: «إنه عربي من هؤلاء التعساء الذين يعملون في قصر غمدان منذ الصباح الباكر إلى المساء، في جمع الأقذار أو مسح الأوضار وخدمة الدواب، فإذا ما فرطوا في شيء أو استراحوا لحظة أهوى الحراس الأحباش على ظهورهم بالسياط. وإذا كانت سياط الأحباش تلهب ظهورهم بين حين وآخر فإن هناك سياطا أخرى تلهب أرواحهم في كل لحظة، لا تدع لهم سلاما في ليل ولا نهار، ولا تعفيهم من العذاب حتى في خلواتهم؛ سياط الجوع والخوف. هي سياط لا نراها بأعيننا، ولكن الأشقياء يحسونها إحساسا أقوى من الرؤية وأشد من اللمس، ويتضاعف عليهم العذاب أن يحسوا به في أنفسهم ويروه فيمن يحيون، ينظرون إلى أبنائهم وبناتهم وهم أطفال أو صبية يتضورون من الجوع ويسيرون عراة وينامون على صفعات حانقة، يوقعونها هم أنفسهم عندما تضيق صدورهم من اليأس.»
وانتفضت خيلاء تريد أن تبعد عن ذهنها تلك الأفكار المزعجة، وقلبت بصرها لعلها تقع على سيف كأنها تلتمس النجاة، إنها عندما تحدثه تحس أن الحياة أقل تعاسة، وأن الأمل أقرب مما يخيل إليها في وحدتها، ولكن السؤال عاد إليها في لجاجة وعنت: «من كان أبي؟ ومن كانت أمي؟ أم ولدت هكذا بغير أبوين كما تنبت حشائش البر؟» وتذكرت يوم كان سيف معها تحت هذه الشجرة نفسها، فرأى أحد الحراس الأحباش يلهب بسوطه ذي الأطراف الرصاصية ظهر رجل مثل هذا المسكين، عندما كان يترنح بين الأشجار ليلتقط الأوراق الذاوية، وأسرع سيف إلى الحبشي فنزع منه السوط وأهوى به عليه. ولم يكن عجيبا أن يغضب سيف لمثل هذه القسوة، ولكن غضبته ملأت قلبها إعجابا وشكرا ... وحبا أيضا، إن كان هناك ما يمكن أن يزيد قلبها حبا له. ماذا يكون لو كانت هي ابنة لأحد هؤلاء الأشقياء؟ أتكون هكذا ذليلة هزيلة كالكلاب الضالة؟ أهما الجوع والخوف اللذان يولدان الذل في نفوسهم؟ أم هي نفوسهم الذليلة التي تجعلهم يسقطون في مهاوي الجوع والخوف؟ أما يستطيعون أن يهبوا للدفاع عن أنفسهم إذا ألهبت ظهورهم السياط؟ أيخشون الموت؟ وأي موت أشد مما هم فيه من البلاء؟
ورفعت يدها إلى عينها عندما أحست عليها غشاوة من الدمع، فمسحتها وقامت تسير في ظل الممشى لعل الحركة تذهب عنها هذه الهواجس المفزعة.
ولما اقتربت من العربي النحيل مدت إليه يدها بقطعة من الذهب، وعجبت عندما فزع كأنه يهرب منها، فدعته في رفق حتى أنس وعاد إليها مترددا، وأخذ الدينار ينظر إليه نظرة غريبة، ثم أسرع عنها بغير أن ينطق بحرف. المسكين! إنه يشبه كلبا طالما تعود أن يضرب بالعصا، فلا يأمن اليد التي تمتد إليه بقطعة من الطعام.
وسارت بين أحواض الزهر اليانعة وفي نفسها شيء من التوزع، وكان الندى ما يزال يخضل الأوراق ويزيد ألوان الزهر نضرة وبهاء، ولكن أسمال العربي البائس كانت ترف دونها. «إنها إهانة للإنسانية أن تهب الطبيعة هذه المباهج إلى جنب المقاذر التي يهوي الإنسان إليها!» هكذا كانت خيلاء تحدث نفسها في حنق. وكانت السحب البيضاء تتسابق في السماء مقبلة من الجنوب، وترددت أصوات الطير وهي تتواثب وتتداعى فوق الغصون، واستمرت خيلاء في تفكيرها: «هذه الطيور لا تعرف سادة وليس فيها أغنياء وفقراء، وقد تتطاحن فيما بينها، وقد يقتل الصقر عصفورا، ولكنها لا تتخذ عبيدا.» وعادت إلى القصر مسرعة إلى مخدعها وقلبها يخفق؛ خوف أن تقع عليها عين أحد، أو أن يراها سيف عائدة من البستان في تلك الساعة. أكانت هناك تنتظره؟ وكان شعورها بالخيبة يزداد مع كل خطوة حتى صار أشبه بالحزن. ولما صارت وحدها استندت بذراعها على جانب النافذة وتقاطرت دموعها. وكانت الشمس قد علت في السماء وأخذت الحركة تدب في فناء القصر، ولكنها لم تلمح صورة سيف هناك.
الفصل الثاني
قال الراوي:
قضى سيف ليلته ساهدا وهو مستلق على أريكته في المخدع والنوم لا يواتيه مع أفكاره المضطربة التي كان يسبح فيها. كان يحس كأن عقله رحى تدور فارغة، يعلو ضجيجها ويأخذه منها الدوار حتى يكاد يذهل. ومع ذلك كان يتنبه أحيانا فيسأل نفسه فيم يفكر؟ فلا يجد في فكره شيئا. ولم تكن تلك الليلة أول عهده بتلك الرحى الفارغة؛ فقد كان منذ شهور يتحدث إلى نفسه مثل تلك الأحاديث المضطربة الجوفاء، لا تفارقه ضجتها إذا سار وإذا جلس وإذا أكل وإذا خرج إلى نزهة. كان لا يعبأ بشيء مما يرى ولا بشيء مما يسمع، كأن العالم كله قد انطوى في داخله في تلافيف ضبابة. ولكنه إذا وجد نفسه في صحبة إنسان هربت تلك الأحاديث فلم تنطلق من لسانه؛ لأنها لم تكن أحاديث ناطقة مؤنسة، بل هي أقرب إلى أخيلة متصادمة تشبه الرياح في زوبعة. حتى خيلاء، حتى خيلاء كان لا يجد معها حديثا إذا لقيها، حتى إذا ما خلا إلى نفسه بعد ذلك تدفقت أقواله إلى خيالها. وهم مرارا أن يشكو ما به إلى أمه ريحانة، ولكنه لم يجرؤ على ذلك لأن تلك الأحاديث كانت في تلافيفها الغامضة تتصل بها. وماذا يقول لها؟ أيسألها عن خواطره المبهمة الشوهاء التي تكاد تتهمها؟ أم يسألها عن معنى تلك الأحلام التي كانت تعتاده بين ليلة وأخرى وهي تكشف عن ضعفه أو سخفه؟ وهم مرارا كذلك أن يشكو إلى صديقه الشيخ الطيب أبي عاصم، ولكنه لم يجرؤ، فما كان أحراه إذا سمع شكواه أن يظن به الخبل أو يحسب به مسا من الجن. ومع ذلك فإنه لا يكاد يرى ذلك الشيخ بعد أن كانت دروسه أشهى ساعات حياته، يقضيها في صحبة خيلاء، فيستمعان إلى ما عنده من علم وحكمة، ويهيمان معا في عالمهما. فمنذ اعتراه ذلك التغير الذي اعتراه منذ أشهر، انقطع عن ساعات الدرس لكي يشقى وحده مع هواجسه. ومع ذلك فقد غادر أبو عاصم القصر كله وذهب إلى داره البعيدة في حقل صنعاء، وصار لا يلم بالقصر إلا في فترات متباعدة. وبدت له الحياة خالية موحشة، كأنها لعنة منبوذ خلى الناس جميعا بينه وبين نفسه، حتى هؤلاء الرفاق الذين كان يخرج معهم إلى الصيد أو النزهة في الأودية اليانعة ضاق صدره بهم وبأحاديثهم وكبريائهم. كانوا من أبناء القواد الأحباش، ولا يترددون أن يتحدثوا تحت سمعه في سخرية عن سادة اليمن من القدامى، كأنهم لا يعبئون بأن أمه عربية؛ ريحانة ابنة ذي جدن. وكانت كبرياؤهم تبعث الحنق إلى صدره كلما أهانوا العرب المساكين الذين يجاهدون في الحقول أو في مراعي السفوح المعشبة، فكان يباعدهم ويتملص من صحبتهم بمعاذير مختلقة أحيانا، ويؤثر تلك العزلة التي يصاحب فيها وساوسه. وأراد مرارا أن يجادل نفسه ليحملها على أن تنظر كما ينظر هؤلاء الرفاق، وتلهو كما يلهون، وتعبث كما يعبثون، ولكنه كان لا يلبث أن يمتلئ منهم حنقا، بل كان أحيانا يثور بهم ويعنف عليهم. كان دائما يحس أنه موزع غير متماسك، كأنه خلق من طينتين، لا يدري أينبغي له أن يكون حبشيا مثل أبيه أبرهة؟ أم عربيا مثل أمه ريحانة؟ ولكنه كان لا يغضب لشيء حبشي، ولو كان له الاختيار لما اختار سوى جده ذي جدن.
صفحه نامشخص
وتنبه إلى نفسه بين خواطره تلك، وكان الليل قد مضى نصفه، والقمر يغمر الفضاء ويطل شعاعه من نافذته المرمرية. فقام ينظر إلى البستان، وكان الفضاء الساكن لا يشوبه حديث حانق، والقمر يسبح في السماء وأحواض الزهر تحلم في أشعته، وتثاءب سيف وأحس في جفونه ثقلا، ولكنه استمر في أحاديثه الصامتة، وخيل إليه أن ينزل إلى البستان وفي نفسه أمل غامض أن يرى هناك أحدا يذهب عنه الوحشة، أو أن تكون خيلاء في ظل إحدى الخمائل وحدها، فيذهب إليها معتذرا عن طول احتباسه عنها، ويقول لها بعض ما يقول في خلوته لها، وتمنى لو تجرأ يوما أن يفضي إليها بما في سره؛ فهي بغير شك أحرى أن تستجيب له ولا تظن به السخف أو الخبل.
وتثاءب مرة أخرى وكانت جفونه تفيض نعاسا، فذهب إلى فراشه وأغمض عينيه. وكان نومه ثقيلا مضطربا، يهب منه مستيقظا بين حين وحين، فيجد رأسه غائما وصدره منقبضا، ويحاول أن يجمع الصور التي أزعجت نومه، فلا يجد إلا أثرا غامضا لا معالم فيه، كأنه كان يبحث عن شيء يتفلت منه فلا يدركه، أو يسعى نحو غاية فلا تلبث أن تختفي عنه، ويسأل نفسه عنها فلا يعرف ماذا كان يبغي.
وهب آخر الأمر من فراشه على إثر صيحة في أعقاب منظر لم يستطع النوم بعده، وإن كان منظرا مألوفا عاوده مرة بعد مرة، وكان في كل مرة يشرد النوم عنه، فيعصيه من بعد ولا يعود إليه. رأى كأنه عاد طفلا في سن الخامسة، يلعب في بستان القصر مع رفاق صغار، وكان المنظر واضحا بكل دقائقه، حتى لقد تذكر فيه أشياء لا تسترعي نظره وهو كبير، كانت هناك شجرة ضخمة من شجر الجوز فيها فجوة تتسع لطفل أن يختبئ فيها، فكانوا يتخذونها مخبأ في لعبهم لكي يفاجئ أحدهم الآخر إذا مر قريبا منه ليفزعه، وكان هناك بيت مظلم في آخر البستان، له نوافذ قريبة من الأرض تعترضها قضبان من الحديد. فكانوا يتسلقون قضبانها لكي يطلوا منها إلى الظلام الذي وراءها، ثم يقفزون سراعا ويصرخون ضاحكين. وكانت هنا دقائق أخرى كثيرة غابت عن ذاكرته، فأعادها إليه الحلم واضحة المعالم كأنه يراها في ساعته. وكانت خيلاء إحدى رفاقه تجري وراءه حينا ويجري وراءها حينا آخر، فإذا أدركها أو أدركته ضجت منهما ضحكة عالية.
وكان أخوه الأصغر مسروق يتبعهما مترجرجا في جريه كما يحاول طفل في الثالثة أن يلحق بإخوته، وكانت معهم خادم سوداء تضاحكهم بأفانين من ألعابها، فتارة تقلد لهم أصوات الدواجن، فتصيح كالديكة، أو تقأقئ كالدجاجة، أو تعوي كالكلب، وتموء كالهر، وتارة تقلد لهم أصوات السباع، فتصيح مثل الذئب أو ابن آوى، أو تزأر كالأسد، وهم يتضاحكون في زياط أو يتماسكون في رعب، ثم ينفجرون في ضحكة واحدة ويصفقون مرحين. فإذا ما أرادوا تقليد صيحاتها اختار كل منهم ما يحلو له، فكانت خيلاء تقلد الحمامة أو اليمامة، وسيف يزأر كالأسد أو يعوي كالذئب، ويحاول أن يخيف رفاقه كما تخيفهم الجارية. فإذا ما شاركتهم الخادم في الصياح والضحك ورأتهم بلغوا الغاية من ألاعيبهم، اختارت من فنونها صنفا آخر تطرفهم بجدته ليعود نشاطهم كما كان، فقلبت لهم جفونها وغيرت صوتها كأنها تحولت إلى جنية، فيهرعون هاربين منها وهي تعدو في آثارهم صائحة «امسك»، وهم يحاولون الانفلات منها، وكان سيف الطفل يحس قدميه ثقيلتين عند ذلك، ويخيل إليه أن الجارية قد انقلبت حقا جنية تريد أن تجره إلى بطن الأرض معها. ثم عدلت الجارية إلى حيلة أخرى، فكشرت عن أنيابها قائلة إنها قد انقلبت إلى ساحرة غولة تأكل الأطفال، وتحملق بعينيها الحمراوين وتقول في صوت مخيف: «هممم»، فيصرخون ويبكون، حتى تعيد جفونها ثم تضحك مقهقهة فيضحكون وراءها من بين دموعهم، وأخذت الجارية تعدو بهم، وأمسكت بيده مرة في أثناء ذلك واندفعت بسرعة وهو لا يستطيع أن يجاريها، فتعثر ويده معلقة بيدها، وجرته على الأرض حتى خدشت ركبتيه ثم وقفت ضاحكة، وكاد يبكي ولكنه تماسك على مضض ولم يبك، وقال في نفسه: «ألست رجلا؟» وذهب إلى أخيه مسروق فأخذ بيده وجرى به كما جرت الجارية حتى تعثر مسروق، ووقع وخدشت ركبته وصاح يبكي، فجاءت الجارية تصرخ، وجعلت تمسح الرمال عن ركبة الطفل الدامية وهي تصيح بسيف مؤنبة. ثم تبدل المنظر فجأة كما يحدث في الأحلام، فإذا هو في براح من أرض خالية كالصحراء، وإذا شبح ضخم يهجم عليه عابسا، فوقف في مكانه مسمرا لا يستطيع حراكا، وأحس رجليه ثقيلتين في الرمال، وجعلت عيناه تطرفان في خوف، ثم أخذ الشبح الأسود بكتفيه وهزهما هزا عنيفا، وقال في نفسه: «لن أبكي، فإني رجل»، وأخذ الشبح يبرطم بألفاظ سريعة حانقة بلسان غير مبين. ثم رأى نفسه مرفوعا في الهواء ينظر في عينين واسعتين عابستين لهما جفنان ثقيلان متورمان، وبدا الوجه مثل الفحمة من وراء عينين كالجمرتين، وسمع صوتا أجش يصيح به: «من أنت؟ وابن من أنت؟ أتضرب ابن أبرهة؟ ابن من أنت؟» وأراد سيف الطفل أن يقول: «لم أضربه» ولكن لسانه احتبس وقال في نفسه: «ألست أنا ابن أبرهة؟ من أبي إذن؟» وتحول المنظر فجأة مرة أخرى، فإذا هو في البراح وحده وقلبه يخفق رعبا، ولكنه لم يبك وقال في نفسه: «ألست رجلا؟» ونظر حوله يبحث عن رفاقه وعن الجارية، فرآهم من بعيد يختفون عن عينيه وراء شيء أسود مظلم، فصرخ ينادي ويبكي ولم يستطع أن يمسك نفسه، مع أنه كان يقول في سره: «كيف أبكي وأنا رجل؟» ولم يسمع جوابا لصراخه، وخيل إليه أن الشبح الأسود يطل له من بعيد يسد الأفق، وكأنه يتربص به ليمسك به مرة أخرى، وحاول أن يجري إلى الجانب الآخر هربا منه، ولكن رجليه لم تسعفاه كأنهما مسمرتان في الرمال، وأحس وقع أقدام ثقيلة تتبعه، فدق قلبه دقا عنيفا وصرخ في ذعر، فهب من نومه يلهث والعرق يقطر من جسمه.
كان حلما فظيعا، ولكنه لم يكن جديدا، كان ذلك الحلم يعاوده بين حين وآخر في أعقاب لياليه المسهدة، وقضى ساعة يحاول أن يهدئ نفسه بالسخرية والتماس العلل لاضطرابه، فلعل الطعام هو الذي ثقل على قلبه، أو لعلها الوساوس التي شغل بها ذهنه هي التي خلقت له تلك المناظر المزعجة، أو لعله عارض من برد أو تعب، أو هي زيارة روح خبيثة ألمت به في سبحها بالليل. وانطلقت أفكاره هائجة فذهبت تهيم في البعيد والقريب في سرعة مجهدة، حتى ضاق بحجرته ولم يجد بدا من أن يخرج إلى الفضاء لعله يجد في الحركة وانطلاق الجو ما يذهب بالضيق الذي اعتراه. وخرج يتسلل من الحجرة إلى الممر الذي وراءها ثم إلى البهو، وكانت الشموع ما تزال ترقص فيه عند حوافي حواملها.
ومر بحجرة أمه الملكة ريحانة، إنها بغير شك ما تزال في سريرها لا تدري شيئا عن ضيقه ولا عن وساوسه. ولو علمت بأنه يتسلل من حجرته لقامت إليه ملهوفة وأخذته بين ذراعيها. هكذا قال في نفسه وهو يسير على أطراف أصابعه عند بابها. لم تتلهف عليه هذه الأم هكذا كما لا تتلهف على أحد من إخوته؟ كان أحيانا يكاد ينفر من رحمتها التي تخيل إليه أنها تحسبه ما زال طفلا، ومع هذا فما أشد ما يحسه من الحب نحوها! هي عنده تعدل الحياة أو تكاد تعدلها. ولكن خيلاء هناك كذلك في حجرتها المقابلة لحجرة الملكة ريحانة، وهي بلا شك راقدة في فراشها ولعلها تحلم أحلاما أخرى، إنه لم يرها منذ أيام طويلة، وقد كان يود لو رآها، أما ينفتح بابها فجأة وتطل منه هامسة له: «إلى أين يا سيف؟» هكذا همست له مرة وهو يخرج في الصباح الباكر منذ أسبوع، فذهب إليها وأخذ يدها الممدودة ووقف صامتا، وحاول أن يتكلم فلم يجد إلا أن قال لها: «عمت صباحا يا خيلاء. لم تبكرين هكذا؟» وكانت نظرتها عجيبة عندما قال لها: «سأنزل إلى البستان، فإني أحس صداعا»، ثم سار عنها مسرعا. فماذا يقول لها لو رآها تطل في تلك الساعة من باب مخدعها؟ أيقول لها: «سأنزل إلى البستان، فإني أحس ضيقا؟» ومضى يسير على أطراف أصابعه، وكان البهو صامتا ساكنا فيه رهبة. كم شهد هذا القصر من قصص عجيبة ، ولا عجب أن تلم به بعض الأرواح الخبيثة، وكم حدثه عنها الشيخ أبو عاصم أثناء الدرس الذي كان يلقيه إليه مع خيلاء، كان يحدثهما عن الملوك الذين أقاموا في غمدان، وعن الأحداث التي اضطربت بها هذه الأبهاء الفسيحة. أهكذا كان الناس أبدا لا يعرفون سلاما؟ كانوا دائما يتنازعون ويتصارعون، كأن الحياة لا تحتمل الرضى أبدا. أما كانوا يعرفون حبا؟ وأحس حيرة شديدة عندما تمثلت له صورة أمه وصورة خيلاء جنبا إلى جنب، أيهما كان أقرب إلى قلبه؟ كان في هذه الأيام الأخيرة يحس شيئا يشبه الرغبة في التهرب من أمه. أيتهرب منها وهو يحبها ذلك الحب العميق؟ ولكنها هي كذلك كانت مع شدة لهفتها عليه يعتريها شيء كالاضطراب، وتطرق مرتبكة كأنها تود لو هربت منه. كانت عيناها دائما تبعثان فيه الطمأنينة، وكان كلما ذهب إليها بحث عنهما يلتمس منهما نظرة، ولكنها كانت تدير عنه عينيها، فإذا ملأه الشعور بالخيبة استأذن منصرفا، فكأنها كانت ترتاح لذلك، وتقوم إليه لتضمه إلى صدرها في شفق، ثم تدعه يذهب بغير أن تتلاقى عيناهما. أليست القلوب تتحدث كما قال أبو عاصم يوما في درسه؟ لا شك في أنها تتحدث، فإنه يسمع أمه تتحدث صامتة، كما أنه كان بغير شك يسمع خيلاء تتحدث صامتة.
وبلغ سيف في سيره جناح أبيه، وهجم عليه شعور عجيب يشبه الحسرة أو الندم، أو هو شيء آخر أقرب إلى اتهام النفس. أكان يحب ذلك الأب؟ وإلا فما ذلك الحاجز الذي كان يجده قائما بينهما؟ لا يذكر يوما أنه اندفع إلى ذراعيه كما كان يفعل أخوه مسروق وأخته بسباسة، وكان يقول لنفسه وهو طفل: «كيف أندفع بين ذراعيه كأنني طفل؟» وكان يسخر في سره منهما عندما كانا يتنافسان على حضن أبيه ويتنازعان قبلته، ويسأل نفسه: أهو طفل مثلهما؟
كان دائما يذهب إليه مترددا يمسك نفسه كأن شيئا خفيا يقف دونه. وأحس سيف هواء صباح الخريف يملأ صدره عندما خرج إلى البستان، وكان القمر ما يزال يغمر الفضاء بضوئه الحائل. كان منذ ساعة قصيرة يرى نفسه في الحلم طفلا في هذا البستان، والجارية السمراء تجره من ذراعه، ثم هاتان العينان، كانتا تظهران له من وراء الضوء الخافت كأنهما قطعتان من الجمر. واعتراه خجل من أنه ما يزال يتذكر هذه المخاوف الصغيرة كأنها حقائق. وبلغ مربط الخيل، ورأى مهره الأبيض يرهف أذنيه لمقدمه. أهي حاسة أخرى غير حواس البشر يستطيع المهر أن يدرك بها قدوم صاحبه قبل أن يراه؟ كان الفرس يتنفس في هزة كأنه طفل يتهاتف نحو ظئره ويهز رأسه في فرحة ظاهرة. وخرج به سيف من باب البستان الخلفي الذي يفضي إلى خارج المدينة، وكان الليل ما يزال ساكنا، لا تقطعه إلا تحية حارس الباب إذ قال له: «لم يطلع الفجر بعد يا سيدي»، وكان شيخا عربيا عرفه سيف في القصر منذ كان طفلا. وكان يؤثر أن يخرج من عنده كلما أراد الخروج، وقد طالما رآه الشيخ يذهب مبكرا إلى الصيد، ولكن صوته في تلك المرة كان لا يخلو من دهشة. وأضاف ضاحكا: «لم تتحرك الطيور بعد.» فقال سيف - وقد داخله شيء من الارتياح: «وماذا يزعجها قبل الصباح يا أبا بردة؟» وكان ذلك هو الاسم الذي اعتاد سيف أن يناديه به منذ صباه؛ لأنه كان يضع على كتفيه بردة من وبر الإبل لا تفارقه ليلا ولا نهارا ولا في صيف أو شتاء. وهز الرجل رأسه في عطف وهو ينظر في أثره ويغلق الباب خلفه. وسار المهر خفيفا نشيطا، فوجد سيف في حركته بعض الأنس، وكان النسيم يرف من قبل الشمال فيمسح على وجهه رفيقا. تذكر يوم أهدى أبوه هذا المهر إليه، وكان ذلك عندما أتم بناء الكنيسة، وذهب في موكبه ليصلي بها أول صلاة مع رسول قيصر. وتذكر في تلك اللحظة أمرا غاب عنه في مضطرب أفكاره، فإن أبرهة سيخرج في ذلك اليوم في موكبه إلى الكنيسة العظمى ليؤدي بها الصلاة قبل خروجه إلى حرب قريش. وقد كان سيف يود لو ذهب معه إلى تلك الحرب، بل لقد طلب ذلك إليه كما ينبغي لشاب فارس مثله يريد أن يجول جولة في الحياة كما يجول الرجال. ولكن أبرهة تبسم له قائلا: «لن ترضى أمك يا سيف.» وكانت نظرته غريبة وابتسامته جوفاء. فلم أجابه بأن أمه هي التي لا ترضى؟ أكان يسخر منه؟ وهل كان يقول ذلك لمسروق لو سأله الخروج معه؟ وعجب سيف من نفسه كيف لم يذكر ذلك الموكب إلا في تلك اللحظة بعد أن بعد عن القصر وضرب في الليلة المقمرة. حقا، إن القلوب لا تتحدث فحسب بل تتصرف وتسيطر، لم يكن في قرارة نفسه راضيا عن الخروج في الموكب مع أبيه، وكان يتمنى لو وجد سببا يمنعه منه، ولكن لم يخطر بباله أن يخرج عامدا من القصر لكي يمتنع عن الذهاب مع أبيه قصدا. أيكون قلبه قد أنساه وجعله يخرج هكذا من القصر قبل الصباح كأنها خطة مدبرة؟ واتجه المهر في الطريق الذاهب نحو وادي ضهر، فقد كان سيف كلما ركبه يذهب به إلى هناك. وقال سيف - وهو يمسح عرقه: «إنك خير من كثير من البشر يا سرحان»، كان يعرفه كما يعرف الصديق صديقه، فهو يأنف أن يأكل من مذوده إذا لم يكن نظيفا، ويأبى أن يشرب الماء إذا لم يكن صافيا، ولا يرتاح في مربطه إذا لم يتعهده سائسه بالخدمة، وهو لا يحتاج إلى مهماز ولا تلويح بسوط، وينفر ثائرا إذا أساء أحد إليه. لم يكن ليرضى أن يعامله أحد كما يعامل خدم القصر من العرب الذين كانوا يضربون بالسياط ويوجه إليهم أقذع السباب، ولا يرضى أن يعيش كما يعيش هؤلاء المساكين الذين يضربون خيامهم في شعاب الجبال، يقنعون بأتفه الطعام وأرذل الملبس. ومر في طريقه بخيمة رثة في ظل صخرة، وكان الفجر ينبثق من أفق الشرق كأن الكون يفتح عينيه من سنة نوم. وإلى ناحية الخيمة رأى أشباحا سوداء مقبلة، فتأملها حتى اقترب منها، فإذا هي امرأة عجفاء تحمل حزمة من الحطب، ومن ورائها أربعة أطفال لا يزيد أكبرهم على سن العاشرة، يحمل كل منهم حزمة، ولا يكاد صغارهم يستقلون بحملهم. هؤلاء كذلك يخرجون في الصباح الباكر، كأن الأحلام المفزعة تزعجهم من مراقدهم، وكانوا جميعا في أسمال بالية لا تغطي من أجسامهم النحيلة إلا قطعا. ووقف الأطفال يتطلعون إليه في فضول بوجوههم السمراء التي يعلوها الصدأ. ولكن المرأة لم تلتفت إليه، وصاحت بهم في حنق، فأسرعوا وراءها وهم يتلفتون إليه من وراء. ومدت المرأة يدها إلى كبرى الصبية عندما أدركتها، فخبطتها في عنف وصاحت بها تنطق بألفاظ لم يفهم سيف منها سوى أنها حانقة، وصاحت الصبية تبكي. هؤلاء كذلك قد خرجوا قبل أن يتحرك الطير، ولكنهم لا يغنون ولا يمرحون. كان سيف يرى في كل مكان أمثال هذه المرأة وأطفالها، ولم يسمع منهم جميعا سوى الحنق، ولم يشهد سوى العري والعنف. وعادت إليه ذكرى يوم خرج إلى النزهة مع بعض أصحابه من أبناء القواد الأحباش وأعيان صنعاء، وكانوا يحملون طعاما خفيفا، فنزلوا في شعب أشجر معشب يستظلون عند الظهيرة، وكان على مقربة منهم نجع فيه خيام رثة مثل خيمة تلك المرأة. وجاء إليهم سرب من أطفال يشبهون أطفالها في عظامهم الناتئة وثيابهم المخرقة التي لا لون لها إلا أن يكون التراب لونا. ووقف الأطفال يرقبون الجمع المرح كما تقف الكلاب الجائعة تترقب فضلة من العظام، على مقربة من وليمة تفوح رائحة طعامها. وأخذ أصحاب سيف يعبثون بالأطفال فيلقون إليهم قطعا من فتات الخبز ويتضاحكون كلما رأوهم يتزاحمون عليها. وكانوا في تزاحمهم عليها يعفرونها في الرمال، فمن استطاع منهم أن يفوز بقطعة منها أسرع بها ودسها في فمه، ولا يبالي أن ينفض التراب عنها. وتذكر سيف كيف أحس عند ذلك بما يشبه الحنق، وكانت ضحكات أصحابه ترن في سمعه قاسية مزعجة. إنها فكاهة للمترفين ومعركة حياة للمعذبين. وقام يحمل ما استطاع حمله من الطعام، فمد به يديه إلى الأطفال وأمرهم أن يذهبوا به ليأكلوه بعيدا في هدوء. ولم يدر لم كان في قوله غليظا جافيا، مع أنه كان يرحمهم في قلبه. وضج أصحابه بضحكات عالية عندما رأوا الأطفال يصيحون به صياحا يشبه السخرية وهم يخطفون الطعام ويسرعون به، كأنهم يخشون أن يستعيده من أيديهم، وجعل الفتيان يتبادلون فكاهات قارصة وهو يمسك نفسه من الغضب. ووقع في قلبه في ذلك اليوم أن هؤلاء المساكين الذين ذهب الفقر بإنسانيتهم أقرب إليه من رفقائه أصحاب الكبرياء. وتمثلت له أمه ريحانة العربية تبتسم له شاكرة، وخطر له في تلك اللحظة خاطر جديد، وعجب لنفسه كيف لم يخطر له من قبل أن هؤلاء المساكين قوم أمه الحبيبة ريحانة. وكان سيف قد بلغ في سيره منتصف الطريق، حيث كان جبل ينور الذي ينطوي على كهف يسكنه الجن. وظهرت أشعة الشمس الأولى تضرب في السماء بمثل حراب دامية؛ فأحس رهبة شديدة، وهمز مهره فانطلق يعدو به، وأحس شيئا من الارتياح للحركة السريعة. ولكن هواجسه لم تفارقه، فسأل نفسه: «ماذا كان يفعل لو كانت ريحانة ولدته لأحد أبناء قومها من حمير، أو لرجل من بني خثعم أو الأزد أو السكاسك؟ كيف كان ينظر إليه هؤلاء الشبان الساخرون أبناء قواد الحبشة؟ وذهب بفكره إلى أحاديث الشيخ أبي عاصم؛ إذ كان يقص عليه وعلى خيلاء أخبار جده ذي جدن، وأطرافا من سير ملوكهم وآدابهم وعقائدهم. أكانوا يسيرون عند ذلك عراة هكذا؟ جياعا ينتظرون أن تلقى إليهم فضلات الطعام؟ وهل كان فيهم دائما أمثال أولئك الرفاق من أبناء القادة الذين يتضاحكون سخرية من بؤس المساكين؟»
وصعدت الشمس بموكبها في السماء، وألقت أشعتها على حواشي السحب فصبغتها بالعصفر والقرمز، وعادت إليه صورة أبيه أبرهة الذي سيخرج في موكبه إلى الكنيسة العظمى؛ ليصلي ويدعو المسيح لينصره. أيسأل عنه إذا افتقده ولم يجده؟ أم هو لا يفتقده ولا يحس غيبته كما فعل من قبل مرارا؟ كان أبوه أبرهة إذا اتجه إليه في حضرته يبسم له عاطفا ويكرمه رحيما، ولكنه لم يتجه إليه يوما بعتاب على غيابه عن مشهد من المشاهد، ولم يقل له يوما: «ما كان ينبغي لك أن تغيب اليوم يا ولدي»، لم يذهب إلى الكنيسة في يوم عيد الميلاد السابق؛ لأن خيلاء كانت مريضة ببرد، فآثر أن يبقى إلى جانب سريرها، وفي يوم الفصح لم يذهب لتهنئة أبيه؛ لأن حلمه المزعج زاره في تلك الليلة فأفسدها عليه، ولم ينم إلا قبيل الصباح، ففاتته ساعة التهنئة بالعيد، ولكن أبرهة لم يغضب في إحدى المرتين ولم يتجه إليه بلوم، بل بعث إليه يوم الفصح بهديته مع أمه. وعادت إليه كلمات الشبح الأسود إذ قال له في الحلم: «من أنت؟ وابن من أنت؟ أتضرب ابن أبرهة؟» ألم يكن أبرهة أباه؟ وتمنى لو تجرأ أن يذهب إلى أمه ليلقي عليها السؤال الذي صار ينمو في طي نفسه كما تنمو الشياطين إذا تصورت في صور الحيوان، وكاد الشك الذي أثاره الحلم المتكرر يصير يقينا، وهاجمه السؤال مرة أخرى في لجاجة: «أأنا ابن أبرهة؟ ألا يكون ذلك الحلم من وحي الغيب جاء ليطلعني على حقيقة خفية؟» بل لقد بعدت به الدفعة عن مداها، وسأل في ثورة قائلا: «أأنا ابن ريحانة؟» ولكنه ما كاد يفطن إلى سؤاله حتى ارتد في فزع، كأن هوة عميقة تفغر له فاها في الطريق على حين فجأة، أو كأنه رأى عدوا يتربص له لينتزع منه كنزا ثمينا، وقال في غيظ: «بل هي أمي، ولا يمكن إلا أن تكون أمي. إنني أعرف ذلك كلما نظرت إليها أو سمعت صوتها، وكلما نظرت إلى صورتي في المرآة أو تأملت أعماق نفسي. إنها بلا شك أمي، ولن يداخلني في أمرها شك أبدا.» وبلغ به السير إلى قصر جده ذي جدن على قمة التل المشرف على وادي ضهر، ولم يحس مرور الزمن كأن لم تمض ساعتان، وكانت الشمس تعلو في السماء مقدار رمحين.
وكان القصر العابس مقفرا، ليس فيه إلا صبيح الحارس وبعض الخدم من الأعراب، وحجراته الواسعة الحجرية الباردة، ولكنه كان أرفق به من غمدان؛ لأنه لا يضطره إلى التسلل والتخفي. كان هناك يستطيع أن يخلو إلى نفسه ويمضي مع أحاديثه، بغير أن يتعمد الاعتزال أو يضطر إلى الاعتذار باختلاق الأكاذيب، ولكنه عندما أقبل الليل كاد يختنق من الوحشة؛ فخرج إلى الوادي، وكان القمر يغمره بضوئه الرفيق، ويجعل مناظره أشبه بمناظر الخيال. وكانت تمر به أوقات يفيق فيها إلى حسه فيفزع، ويتمنى لو كان إلى جانبه أحد يحدثه ويسمعه صوته، خيلاء أو أبو عاصم أو ريحانة، فإن هذه الحياة التي يحياها في الخيال توشك أن تقطع صلته بالأشياء والأحياء جميعا، وتجعل كل حركته لا تزيد على سلسلة من الهذيان المحموم. ومع ذلك فقد أمضى أكثر وقته في ذلك الوادي مدة إقامته في قصر جده، يهيم مع خياله فلا يعود إلا قبيل الصباح، عندما تثقل جفونه، ولكنه إذا عاد إليه استأنف في نومه سلسلة الهذيان في الأحلام.
صفحه نامشخص
الفصل الثالث
قال الراوي:
كان القصر قد استعاد رونقه بعد أن أصلحه أبرهة من آثار الحرب الطاحنة التي كانت بينه وبين أعدائه، وأصبحت أبهاؤه - كما كانت على عهد ملوك تبع - أعجوبة من أعاجيب الفن البديع.
كان البصر يمتد في إيوانه بين صفين من العمد المرمرية الرشيقة، تحف بهما من الجانبين عقود أنيقة مدت من بينها الطنافس الوثيرة من نسيج فارس والهند وأرمينية، وتتخللها تماثيل بارعة الصنع من نحاس أو مرمر، وآنية من فضة أو حجر شفاف، عليها نقوش افتن في تصويرها صناع القسطنطينية والإسكندرية. وكانت في أركان الإيوان أربعة أسود نحاسية سمراء، إذا دخل الهواء في أجوافها سمع لها صوت يشبه الزئير، كأنها عائدة عند الفجر إلى دحالها بعد أن امتلأت من صيدها في الليل.
ولما تقدم النهار توافدت على الأبواب جموع من الذين جاءوا فوجا بعد فوج، يسرعون من فجاج اليمن ليظهروا الولاء لأبرهة الملك المنصور، قبل أن يخرج في جيشه العظيم إلى حرب قريش.
ووقفت الجموع في حلقات يتهامس بعضها مع بعض، وعيونهم تلوح بين حين وحين إلى ردهة الإيوان تترقب قدوم الملك. وكانوا جميعا في زينة مختارة وملابس زاهية وسلاح محلى بالذهب والفضة، فكأن ألوان الزهر اجتمعت هناك من أحمرها وأصفرها وأزرقها، وما بين ذلك من ظلال شتى. كان فيهم زعماء القبائل من حمير أصحاب الملك القديم، ومن أشراف خثعم سادة فرسان الصحراء، وشيوخ همدان شجعان العرب، وفيهم من مهرة والسكاسك وكندة الذي عادوا إلى بلادهم بعد أن خلعتهم قبائل الشمال عن عروش نجد. وكان بينهم عدد كبير من وجوه المدائن الكبرى وصنعاء ونجران وزبيد وصعدة وعدن وغيرها، قد احتشدوا جميعا بدعوة من الملك ليستوثق من ولائهم قبل خروجه إلى مغامرته الجديدة التي ستمد ملكه على أرض العرب جميعا.
ودخل شيخ بدوي يتوكأ على عصاه ويطأ بنعليه الغليظتين طنافس البهو في بطء، ناظرا إلى الجمع الكثيف في هدوء، كأنه جاء يسوق إبله العطشى إلى مورد الماء. وكانت ملابسه الخشنة ووجهه المجعد تبدو مثل صرخة في وجه الجمع الحافل الأنيق، فكان أينما خطا تتجه إليه الأعين في اهتمام ودهشة. كان في هيئته محاربا قديما من بقية عهد منقرض. وحيا الشيخ أقرب الناس إليه تحية خافتة تضمر لونا من الاعتداد بالنفس. وكان يقف بين خطواته البطيئة يقلب بصره في الوجوه، كأنه يبحث عن وجه يعرفه. وكان يرى ما أمامه كأنه يلوح من وراء ضباب، ويستمع إلى الهمهمة الغامضة التي تتردد في البهو كأنها منبعثة من عالم بعيد. وكانت الأعمدة المرمرية تبرق جديدة، والأروقة المزخرفة تطل هادئة جليلة، والمصابيح تتدلى من عناقيدها النحاسية الفخمة كما كان يراها منذ عهد، عندما كان يدخل على ذي نواس آخر الملوك، ومع ذلك فقد كان البهو يبدو في نظره الكليل أجنبيا. وعادت إليه صورة ذي نواس يوم جمع شيوخ القبائل ليستنجد بهم على الأحباش الذين جاءوا لغزو بلادهم، وكان يبسط لهم يديه راجيا أن يتناسوا أحقادهم وعداواتهم، ويقفوا وراءه صفا واحدا ليحاربوا عدوهم ويدفعوه عن أرضهم. وتذكر ضجة الشيوخ وهم يتبادلون التهم ويتقاذفون بالصيحات الحانقة ثم ينصرفون فرادى؛ لكي يلقاهم الأحباش أشتاتا ويقهروهم واحدا بعد واحد.
ثم عادت إليه صور المعركة الطاحنة التي شهدها، وصورة ذي نواس وهو يولي منهزما عند شاطئ البحر، ويخوض الماء بفرسه حتى يغرق فيه لكيلا يقع أسيرا في يد عدوه المنتصر. أهؤلاء الذين يجتمعون في البهو الكبير من قومه؟ كان لا يعرف فيهم وجها واحدا. أجاء من واديه البعيد ليقف في هذه الصفوف حتى يحضر أبرهة؟ وأحس في صدره قبضة من الحزن ووخزة من الذلة. هذا ما تنبأ به ذو نواس عندما كان يتضرع إلى شيوخ القبائل ويسألهم أن يقفوا من ورائه، كأنه كان ينطق بلسان الغيب. قال لهم عند ذلك واليأس يغالب الحنق في صوته: «سوف تقفون أنتم أو من يبقى منكم بين يدي العدو، تحنون له رءوسكم خشوعا كما يحني العبد رأسه لسيده»، وهذا هو ذو نفر شيخ حمير، وبقية ذلك الجيل المنقرض تحكم عليه الأقدار أن يبقى حتى يحقق نبوءة الملك اليائس. هذا هو يقبل من أرضه البعيدة لكي يحني رأسه إلى أبرهة، وهؤلاء الذين لا يعرف منهم أحدا قد جاءوا جميعا لكي يجتمعوا وراء أبرهة ويحاربوا من أجله، كما لم يجتمعوا وراء ذي نواس وكما لم يحاربوا من أجل أنفسهم. وحجبت بصره الكليل غلالة من دمعة مترددة، فلم ير من أمامه إلا أشباحا مختلطة مضطربة، وسمع منها صوتا يناديه: مرحبا يا أبا الهيثم.
وعجب أن يعرفه أحد في ذلك الجمع، وكان يحسب أن الذين عرفوه قد ذهبوا ولم يبق منهم أحد يشاركه أسفه. ومد بصره فرأى رجلا طوالا يمد إليه يده.
وكان كهلا متين البناء أنيق الملبس، وخط الشيب لحيته، ولكن لمعات عينيه ونضرة وجهه أكسبته مظهر الشباب، وكان في منطقته خنجر له مقبض فضي يلمع بقطع من الجوهر، وكان صوته عميقا في شيء من الغلظ عندما قال للشيخ: أما تعرف نفيل بن حبيب؟
صفحه نامشخص
فقال الرجل في صوت خافت: لا تعتب على بصري يا أبا حبيب، فما حسبت أن ألقاك هنا، ما حسبت أن ألقى هنا أحدا يعرفني.
وأخذه نفيل فابتعد به إلى ناحية بين عمودين متقاربين من أعمدة البهو الأنيق، وقال وهو ينظر حوله: طال عهدك بالناس منذ فارقتهم يا أبا الهيثم.
فقال الشيخ: لم تطأ قدماي صنعاء منذ فارقتها.
وسكت حينا ثم أضاف: كنت أظن أبا عاصم هنا.
فقال نفيل: الشيخ صفوان بن قيس ؟
وقلب بصره الحديد في الجمع لحظة ثم قال: لا أظنه هنا.
فقال أبو الهيثم: كأنني أرى الناس من خلال ضبابة، وجوه لا أميز منها أحدا. هكذا نجتمع مرة أخرى يا نفيل.
وكان بعض الوافدين قد جاء فوقف قريبا منهما.
فقال نفيل: تعال يا أبا الهيثم إلى هناك، تعال يا ذا نفر.
وأخذ الشيخ من ذراعه إلى ركن أبعد من الزحمة، وأضاف قائلا: أعرف أنك ما تزال تذكر أيامك الأولى، ولا آمن أن يسمعك أحد هؤلاء.
صفحه نامشخص
فقال الشيخ في حزن يتردد فيه الغضب: لم يبق لي ما أخشى عليه يا نفيل؟ أما تعرف أين أبو عاصم؟
فأجاب نفيل: ما هي سوى كلمات سمعتها، يقولون هو غاضب من أبرهة، أو أبرهة غاضب عليه. ولكن من هذا؟
والتفت فجأة إلى باب الإيوان وقال في دفعة: هذا أبو عاصم.
وذهب نحوه مسرعا حتى أتى به إلى الشيخ، فتلقاه فاتحا ذراعيه قائلا: كاد نفيل يؤيسني من لقائك.
ومضت بعد التحية لحظة طويلة قبل أن يقول الشيخ أبو عاصم: وماذا أتى بك إلى هنا يا ذا نفر؟
فقال الشيخ باسما: أتت بي راحلتي.
ونظر في وجهه لحظة أخرى ثم قال: وحق مناة لولا نفيل ما عرفتك يا أبا عاصم، أكنت تحسب أن نتلاقى يوما ها هنا؟ كيف حالك منذ تفارقنا؟
وسمع نفيل صوتا يناديه من بين جماعة أقبلت جديدة، فذهب إليها وترك الشيخين وحدهما.
وقال أبو عاصم في هدوء: الشمس تشرق فلا أكاد أراها، وتغرب فلا أكاد أفتقد نورها. وآكل إذا حضر الطعام، ولا أحس عطشا عندما أرفع الماء إلى فمي، لا أذكر شيئا من أيام حياتي كأنني أعيش في هباء، لا أذكر إلا الماضي البعيد كأنه لم يمض إلا منذ ساعة. - ألا تذكر آخر يوم تلاقينا؟
فقال ذو نفر: أكانت حقا عشرين عاما؟ ما أسرع ما تمضي السنوات يا أبا عاصم ونحن لا نكاد نحس مرورها.
صفحه نامشخص
فقال أبو عاصم: ألسنا نحس مرورها حقا؟
فقال ذو نفر: بلى، إنها على الأقل تذكرنا بمرورها إذا رأى أحدنا وجه صاحبه.
فقال الشيخ: نعم، نحس التغير الذي نراه على وجوهنا، ونحسه في ضعف حواسنا وأبداننا. كل شيء يزول، حتى الجبال الراسية، والبشر يذبلون كما تذبل النخيل المعمرة. وجوههم تتجعد كما تتجعد الثمرة الجافة، ويتحول سوادهم إلى بياض وبياضهم إلى سواد. كل ذلك لا يزيد على حقيقة صغيرة، وهي أننا من الفانين.
فقال ذو نفر: أهناك حقيقة أكبر؟
فقال صفوان: نعم يا أبا الهيثم، فإننا نتغير في أعماقنا تغيرا آخر يدق عن إدراكنا، حتى نقف عمدا لكي نتبينه بعقولنا لا بحواسنا. وقد نألفه وهو يدب فينا دبيب الفناء في أعضائنا، فلا نعرفه حتى يبدو لنا فجأة أو نطلع عليه فجأة كما أفعل اليوم.
وتلفت ذو نفر حوله قائلا: لا يبدو القصر كما عهدته، ولا الناس كما عرفتهم، أو هكذا هم في عيني.
فقال صفوان: لا يملك أحدنا إلا أن ينظر بعينيه، ولكن ليس هذا ما أقصد. هناك تغير آخر لا يتصل بما نرى، هناك تغير آخر يشمل العالم كله مستقلا عن أشخاصنا، وهو يجرفنا معه رضينا أو كرهنا. أنحن اليوم نفكر كما كنا نفكر، ونحكم على الأمور كما كنا نحكم؟ هل يزن الناس شئون الحياة بالمعايير التي كنا نزنها بها؟ أما زالت مثلنا باقية كما عرفناها، نقيس بها الفضائل والرذائل ونميز بها الخير من الشر؟
فقال ذو نفر: أنا رجل قضيت حياتي في البادية، ولا أستطيع أن أعرف من الأمور إلا ما يقع في خاطري. عرفتك يا أبا عاصم تطلب العلم وتقرأ الكتاب، ولست أعرف سوى إبلي وخيلي. ولكني مع ذلك أعرف أننا نتغير، نتغير في داخلنا كما نتغير في خارجنا، فإذا عركنا الدهر وامتحنتنا تجاربه تعلمنا منه أن نكون أكثر حكمة.
فقال صفوان: أو أكثر تفاهة. قد تعلمنا التجارب أن نكون أكثر تهورا أو أكثر جبنا، وقد تزيدنا بذلا أو تحملنا على مزيد من الحرص، وقد تجعلنا نقدس الحق، كما قد تجعلنا نخذله ابتغاء الراحة. قد تجعلنا الأيام أكثر حكمة، كما قد تميل بنا إلى الإسفاف والتعسف.
فقال ذو نفر: إنها طبائعنا. الحنظل يزداد مرارة إذا نضج، والشوك يزداد حدة وشدة، ولكن الثمرة الطيبة تحلو.
صفحه نامشخص
فقال صفوان: لست أدري كيف أبين لك ما أعنيه بقولي، فإني أحسه في نفسي غامضا لا أستطيع أن أجد له لفظا، أو لعلي أكون أصدق إذا قلت إن هذا الذي أحسه وأحاول أن أصفه لم يثر في نفسي إلا منذ لحظات، عندما وقع نظري على هذا الجمع يا ذا نفر. هؤلاء جميعا جاءوا لتحية أبرهة. مررت من باب القصر إلى هنا بين جموع لم أر مثلها يجتمع لملك من بيت تبع، فوا أسفا على ما سمعت في هذه الخطوات! لقد دفعني الفضول إلى أن أبطئ في سيري لأتسمع ما يقولون، فوا أسفا، لقد طرأ على الناس تبدل شامل جرفهم جميعا، حتى لقد سألت نفسي: ألم أنجرف معهم؟ كل ما سمعت منهم ثقيل على أذني، كريه إلى قلبي، وسرت أتسلل من بينهم مثل غريب في مدينة لا يعرف لسانها. كنت في شبابي أكره أشياء كثيرة في أهل جيلي، ولكني لا أستطيع أن أصف لك ما وقع في نفسي عندما سمعت هذه الأحاديث.
وأحسست في قلبي وحشة شديدة تشبه وحشة الطريد الذي يجد نفسه وحده في فلاة، هو تبدل جرف الجيل كله إلى حيث لا ندري.
فقال ذو نفر: أصداء بعيدة يا صديقي، ما عرفت أنك رضيت عن الناس قط.
فقال صفوان: لست أراجعك في قولك يا أبا الهيثم، عرفت نفسي ولم تخف عني عيوبي. كنت كما تقول لا أرضى عن كثير مما أرى، ولا يرضى كثير من الناس عني. كنت أرى قومي يتطاحنون على الصغائر ويتنافسون على التوافه ولا ينظرون إلا إلى ما تحت أقدامهم، ولكني كنت أعرف الذين لا أرضى عنهم وأعرف ماذا أنكر منهم. كنت أخالفهم أو يخالفونني، ولكنا كنا نختلف ومقاييسنا واحدة نقيس بها الأمور. وأما اليوم فقد رأيت الناس ينظرون إلى الأمور نظرة أخرى، ولهم مقاييس مبتدعة يقيسون بها قيم الأشياء، بل لقد وقع في روعي أنهم أصبحوا يخفون ما في قرارة نفوسهم ويتبعون طريقا رسمت لهم، لا يجرءون أن يتحولوا عنها. إنهم لا ينطقون بما في نفوسهم، بل يتحاورون في أقوال لقنت لهم. أظنني لم أزدك بإيضاحي إلا غموضا وإبهاما.
فتبسم ذو نفر قائلا: ألا نكون نحن الذين وقف الزمان بهم وهو يعدو بهؤلاء جامحا؟
فقال صفوان هادئا: قد يكون ذلك يا أبا الهيثم، إنك ما زلت أنفذ مني بصيرة وأفسح صدرا. أنت تستلهم الحقائق من كون أوسع من عالمي وأكثر صراحة.
وقال - كأنه يحدث نفسه: «وقف الزمان بنا وهو يعدو بهؤلاء.»
فقال ذو نفر مبادرا: عفوا يا أبا الهيثم، فإني لم أقف يوما لأفكر في مثل هذا الذي تقوله لي، وكأنني أحيانا أدرك طرفا مما تصفه لي، حقا إن الناس يستحسنون اليوم غير ما كنا نستحسن، وينكرون غير ما كنا ننكر، هم يرضون ويسخطون، أو يقبلون وينصرفون، ويحرمون أو يبيحون غير ما كانوا يفعلون من قبل. وقد صدقت في قولك إن ذلك التغير يجرفنا جميعا، وإلا فلم جئنا إلى هنا؟
وكان في صوته رنين الحزن. ثم مضى قائلا: سمعت إنك غاضب يا أبا عاصم.
فقال صفوان: لم أغضب على أحد بمقدار غضبي على نفسي. لم أغضب من أبرهة؛ لأنني عرفته هكذا منذ رأيته، يبذل كل شيء ويلين في القول حتى يطمئن، ثم لا يبالي بعد ذلك شيئا، فإذا احتاج إليك مرة أخرى تملق كبرياءك حتى ينال منك ما يريد. أما نحن، أما أنا، فإني أذللت نفسي ورضيت أن أحضر مجالسه، وأن أسمع من حوله يتحدثون عمن أعرفهم وأحمل لهم أطيب الذكرى، ويصفونهم بما أنكر ويقلبون الحقائق، فإذا النبل على لسانهم دناءة، وإذا الكرم لؤم. ثم رضيت آخر الأمر أن أجيء اليوم من داري البعيدة لأنحني لأبرهة مع الذين جاءوا للانحناء.
صفحه نامشخص
فقال ذو نفر في مرارة: ونذهب إلى القليس.
فقال أبو عاصم: نعم، سنذهب لنصلي من أجل انتصاره على قريش، كما لم نصل من أجل انتصار ذي نواس. سنذهب إلى القليس.
وأقبل نفيل فقال في مرح: نعم، إلى القليس لنرى بدعة الفن الخالص، قطعة من المرمر والذهب يكاد من يراها يقول ما هو بناء البشر.
فقال ذو نفر: لن أذهب يا أبا عاصم.
فقال نفيل هامسا: لا تعل صوتك هكذا يا أبا الهيثم.
فالتفت الشيخ إلى نفيل في شيء من الغضب وقال: أعرفت المسيح يا نفيل.
فقال نفيل: لست أبالي أين أذهب، فإني أنظر إلى من أصلي معه، وكان في صوته سخرية، ثم مضى قائلا: لست أبالي أن أذهب إلى القليس أو إلى بيت مناة ما دمت في صحبة ملك.
ثم همس ضاحكا: إنها تجارة يا أبا الهيثم، هم يتجرون مع من يشتري منهم، وأنا أتجر مع من يشتري مني. هذا هو أبرهة يقبل والجموع تتحرك.
واهتزت الصفوف المتراصة تتدافع عندما ظهر أبرهة في حلقة حراسة، وكان يسير بجسمه الضخم القصير كأنه يتدحرج، وجلس على العرش في صدر الإيوان، فخشعت الأصوات وشخصت إليه الأبصار.
وهمس نفيل قائلا: لقد تعلم أن يكون ملكا.
صفحه نامشخص
وبدأ الناس يتقدمون إليه، ودبت الحركة في البهو وتعالت همهمة الأصوات، فقال ذو نفر ساخرا: إنها تجارة حقا.
فقال نفيل: لست أبالي يا أبا الهيثم سخريتك، فقد طالما تجادلنا في أيام الشباب، وكنت تضيق بي وتشتد في لومي. كنت لا تحب سخريتي ممن يعبدون الصنم الأصم ويمسحون جباههم بأقدامه، ولكنني اليوم لا أسخر من شيء، بل أقول ما تعلمت من الأيام صريحا: كل يعبد إلهه، كل يخلق إلهه.
فقال ذو نفر في حنق: إله تخلقه أنت؟
فقال نفيل باسما: لا تغضب يا صديقي، فلست أقصد أن أثيرك. كل منا يصور لنفسه إلهه كما يشتهي، كل منا يقصد من إلهه شيئا ويتعبد له من أجله، فإذا لم يجد عنده ما أراد خلق له إلها سواه. انظر إلى أعماق نفسك وقل لي صادقا: هل تراني أقول غير الحقيقة؟
فقال ذو نفر في حنق: أتسمع يا أبا عاصم؟
فنظر نفيل إليه باسما وقال: سيروا، فالصفوف تتقدم.
ولم ينتظر جوابا، بل سار حتى دخل بين الناس يرفع رأسه فوقهم متطلعا نحو صدر الإيوان، ولا ينظر من يدفع في سبيله.
ووقف ذو نفر إلى جنب صاحبه في سكون واضعا كفيه فوق عصاه الطويلة، متكئا عليهما بجبهته حينا، ثم رفع رأسه وتنفس طويلا وقال: هلم نسر وراء الجميع يا أبا عاصم.
وتقدما حتى بلغا أطراف الجمع، وبلغت آذانهما أصوات الوفود وهي تلقي تحيتها، وكان صوت أبرهة يجيب عليها بكلمات قصيرة وضحكته العالية ترن بين الجدران، كأنها صيحة أحد السباع في ليلة ساكنة.
وتخلخلت الصفوف فظهر أبرهة والحراس وقوف من حوله، نحاف الأجسام، طوال القامة، حفاة الأقدام، عراة الرءوس، لهم شعور شعثاء تزينها حلي من ريش الطيور الملونة. وكانت نظراتهم تلمع عابسة مثل أسنة الحراب الطويلة التي في أيديهم. وكان القواد يلبسون جلود فهود تتدلى من أكتافهم إلى ركبهم، ونعالا من جلود الوعول، وأساور من الفضة في معاصمهم وسواعدهم. وكان أبرهة في حلة حمراء موشاة بالذهب، وعلى رأسه تاج تزينه الجواهر، وفي وسط جبهته ياقوتة حمراء تأتلق، ووجهه الضخم يتردد بين السماحة إذا تبسم وبين القسوة الصارمة إذا تجهم. فإذا انبسط وجهه وانفرجت أساريره ظهر عليه أثر جرح غائر يعترضه من أعلى عينه اليسرى إلى جانب خده الأيمن، يعلن للأبصار أنه أبرهة المقاتل الذي يقف في وجوه المعارك ويتلقى ضربات السيوف.
صفحه نامشخص
وسارت بقية الصفوف بين يديه لا يكاد يستوقف منها أحدا إلا ريثما يرد على تحيته بكلمة، قد تكون ضاحكة وقد تكون عابثة ساخرة، ولكن وجهه في كل أحواله ينطق قائلا: «إنني أجيب على ألفاظ بمثلها.» وكان ذو نفر لا يخفي تململه كلما سمع أقوال الوفود، ويميل على صاحبه هامسا: «لشد ما تغير الناس حقا.» وتقدم شيخ من أهل صنعاء يلقي أمام الملك قصيدة من الشعر، يظهر فيها مودة أهل المدينة وعرفانهم لما شملهم به أبرهة من العدل بعد طول عهد المظالم، ومن الرحمة بعد أن كادت القسوة تقضي عليهم.
فقال ذو نفر في دفعة: أتسمع ما يقول هذا؟
فأخذ الشيخ بذراعه وتقدم إلى الأمام صامتا، وكان الإيوان قد خلا إلا منهما، فأقبلا على أبرهة فصاح قائلا: كنت أفحص الوجوه عنك يا أبا الهيثم. جئت تقدم رجلا وتؤخر أخرى؟
فقال ذو نفر مبادرا: أبيت اللعن أيها الملك.
فضحك أبرهة ضحكته المزغردة وقال: لم تنس بعد تحيتك القديمة يا أبا الهيثم؟
وكانت عيناه تلمعان لمعة غريبة عندما اتجه نحو أبي عاصم قائلا: أحسنت يا أبا عاصم إذ جئت مع الشيخ، فقد بلغني أنك غاضب علينا.
وكان ذلك اللقاء مفاجأة للرجلين، وقال ذو نفر في دفعة: لم أتعلم بعد تحية خيرا منها أيها الملك.
فقال أبرهة ساخرا: أبعث إليك من يعلمك غيرها؟
وأحس أبو عاصم في نفسه حرجا شديدا، ولكن الألفاظ غابت عنه فلم يدر كيف يقول، واعتدل في وقفته يتكئ بكفيه على عصاه مواجها لأبرهة، وقال هادئا: هيهات أيها الملك، فإني كما ترى شيخ كبير.
فقال أبرهة في حدة: لا يستعصي أحد على التعلم أيها الشيخ، بل قل إنك ما زلت تتعلق بأذيال الماضي وتخيل إلى نفسك أوهاما تملأ بها شدقيك إذا خلوت إلى من تسميهم قومك. أتحسب أن أقوالك لا تبلغ سمعي؟ ألست تقول لقومك إنكم كنتم الملوك؟
صفحه نامشخص
فقال ذو نفر: ما تعودت أن أنطق إلا لكي يسمع عني. سلني أيها الملك أجبك صريحا؛ فهذا أجدر أن تسمع ما أقول صحيحا. وهل أملك أن أنزع نفسي من ذلك الماضي؟ وهل بقي لي من الغد ما أعلل به نفسي؟
فقال أبرهة في غضب: ما ذلك الماضي الذي ما تزال به مفتونا؟ أتخشى على شبان حمير أن ينسوا أنهم كانوا من قبل ملوكا؟ أنا وحدي الذي أنزع نفسي من الماضي وأنسى عداوتي وحقدي وكراهتي. أنا وحدي الذي أتسامح وأغضي عيني على القذى. أتسمع ما يقول يا صفوان بن قيس؟
فقال الشيخ صفوان: عفوا أيها الملك، فقد عرفنا حلمك وحكمتك، وما جاء ذو نفر إلا مظهرا للولاء.
فقال أبرهة في دفعة سريعة: أتنطق عن الشيخ؟ أما تدعه يتحدث عن نفسه وتقنع بأن تتحدث عن نفسك؟ إنك أنت كذلك لا تستطيع أن تنزع نفسك من ذلك الماضي، وتقول مثله إنك من حمير أصحاب الملك. أليس هذا ما تقوله صباح مساء في دروس الصبية؟
ووقعت الكلمة على الشيخ كأنها وخزة؛ دروس الصبية؟ أما يزيد في نظر أبرهة على هذا؟ وسكت أبرهة لحظة قصيرة ثم استأنف قوله، وكان صوته أهدأ وفيه رنين أسى: كنت أحسب أنني أكسب بالحلم أصدقاء وأمحو أثر العداوة الأولى. كنت أحسب أنني إذا قربت الذين حاربوني اقتربوا مني، وإذا أسوت جراحهم وحقنت دماءهم قضوا سائر حياتهم يعرفون الدين الذي لي في أعناقهم، ولكني وجدت آخر الأمر أنني أنا وحدي الذي نسيت العداوة.
فرفع صفوان رأسه وقال: لست أنسى أيها الملك أنك أسوت جراحي عندما حملت من المعركة، ولست أنكر أنك رحمتني وحقنت دمي حين لم أنتظر منك العفو. كنت أعرف أنني عدو، ولا أحزن لو لقيت مصير العدو المنهزم، ولكن هذا ما كان منك وقد مضى عليه حين طويل، لقيت في أثنائه من برك ما جعلني أحس ثقل ديني. وقد حاولت أن أرد لك بعض ديني بأن أكون معلما للصبية كما قلت، وحسبت أنك تقدر ذلك وتجد فيه دليلا على شكري، فإذا كنت لا تحب إلا أن تتقاضى دينك دما فهلم أيها الملك، فلست به ضنينا.
فقال أبرهة في نغمة اعتذار: لم أقصد كل هذا يا أبا عاصم، ولكني أخشى الفتنة. لم أعبأ بهذه الأقوال التي كانت تبلغني عنك، فإنما هي علالات خيال لا تنال مني شيئا. ولكني اليوم مقبل على قتال.
والتفت إلى ذي نفر قائلا: سأذهب إلى حرب قريش، فماذا أعددت للسير معي؟
فأطرق ذو نفر حينا ثم قال: سأجمع قومي إليها الملك كما ينبغي لي.
فقال أبرهة في دفعة: كلمة داهية! لم أنس بعد كلماتك التي تشبه سجع الكهان يا ذا نفر، ولكنا سنتحدث في هذا إذا عدنا من الصلاة. لا تتخلفا عن مجلسي وكونا قريبين مني لنتم حديثنا.
صفحه نامشخص
ورفع يده فانصرف الشيخان وفي قلب كل منهما زوبعة، حتى صارا في الفناء فوقفا حينا في صمت وجها لوجه، ثم قال ذو نفر: ماذا قلت يا أبا عاصم، وماذا قال لي؟
فقال صفوان: فلنشرب الكأس حتى الثمالة، فلنشربها لأننا عصرناها بأيدينا.
فقال ذو نفر: وحق مناة ما حسبت الطريق تنتهي بي هنا، سأجمع قومي كما قلت حقا، وسيعلم أنها كلمة داهية.
فقال صفوان: أما علمتك التجربة؟
فقال ذو نفر: قد تجعلنا التجربة أكثر تهورا. أليس هذا ما قلت؟
وسار يتوكأ على عصاه حتى غاب بين الجموع الزاخرة التي كانت تملأ الفناء، ووقف أبو عاصم وحده مترددا، يحس كأن قدميه لا تقويان على الحركة، وأحس كأن العيون تشخص إليه ساخرة وتتساءل إلى أين يمضي. سيذهب ذو نفر إلى بنيه وحفدته وبني أعمامه وبني إخوته ليقفوا معا، سيقول لأبرهة هؤلاء قومي، وأما هو فأين يتجه؟ إلى داره المحطمة في حقل صنعاء؟ وغمره شعور من العجز والذلة مع العرق البارد الذي دب على أعضائه، وتمنى لو كانت جراحه التي أصابته في المعركة القديمة قد نزفت دمه ولم يعش بعدها يوما.
ليت أبرهة قضى على حياته كما قضى على إخوته وبني عمومته الذين استماتوا في الدفاع إلى جنبه. أهكذا جرفه التيار معه فلم يفطن إلى الغمرة التي قذفه إليها، إلا بعد أن أوغل فيها وصار لا يستطيع انفلاتا؟ أهكذا يقتلع أبرهة ريشه واحدة بعد واحدة، حتى إذا اطمأن أنه يعجز عن الطير يركله بقدمه مطمئنا؟ أما من أمل؟ أما من غاية؟ أما من نهاية؟ وتنبه على صوت نفيل، فنظر إلى وجهه وكأنه لم يره منذ ساعة، كانت عيناه محمرتين تقدحان غضبا، وكان وجهه المحتقن يشع ثورة. وقال الشيخ في فتور: نفيل؟
فقال نفيل في صوت أجش: نعم أنا، فسمني كما شئت. تعال بنا نعتزل عن هؤلاء. أعرفت كيف لقيني أبرهة؟ أسمعت ضحكته وهو يقول لي: «أما تعرف لك سيدا؟» ثم قال لي: «امسح لحيتك أمامي كما كنت تمسحها في نادي قومك، وأعد ما قلت على ملأ منهم.» نعم سوف أمسح لحيتي أمامه وأقول لست أعرف سيدا.
وسار يحدث الشيخ في صوت مختنق يعيد عليه ما قاله أبرهة عندما تقدم إليه ليؤدي تحيته. وكان الشيخ يستمع إليه وتزيد نفسه كآبة، فهذا الرجل يثب على بقايا المعركة ويأخذهم واحدا بعد واحد. ومروا في سيرهم بحلقة صاخبة يمتزج الجد فيها بالفكاهة، وكان فيها جمع مختلط من الحبشة ومن وجوه صنعاء وأشراف القبائل يتحدثون ثلاثا أو رباعا.
فقال نفيل في مرارة: أليس هذا قيس بن خزاعي وهذا حناطة الحميري؟ كانا منذ قليل يلعقان قدميه وها هما ذان يأخذان أجرهما. أما عرفت أنه وعد ابن خزاعي بملك مكة؟
صفحه نامشخص